المسافر
01-07-2012, 04:58 PM
وَيْس القَرَنيّ هو أويس بن عامر بن جزء بن مالك القرني، من بني قَرَن بن ردمان بن ناجية بن مراد، أحد سادة التابعين، مخضرم. أدرك زمن النبي ولم يره.
استشهد رضوان الله عليه في معركة صفين في سنة 37 هـ الموافقة لعام 658 م. وهو مدفون عليه رضوان الله بمحافظة الرقة في سورية. أويس القَرْنيّ! ... مِن خير الزّهّاد! ... وُلد في مدينة (قَرْن) إحدى مدن اليمن، ولذلك لقَّب بالقرنيّ. وقيل : إن سبب لقبه بالقرنيّ، عائد إلى قومه القُدامى (بني قَرَن). ومهما يكن من أمرٍ، فأويس أحد النّسّاك والعبّاد المقدَّمين، ومن سادات التابعين. دخل الإسلام مع غيره من النّاس الذين دخلوا دين الله أفواجاً. وكانت رعاية الإبل مهنَته ... وهكذا كان يُمضي أيّامه في القفار، خلف الإبل، ينتجع الكلأ والمرعى. وكان يعيش مع والدته التي كان يكرمها غاية الإكرام، ويحترمها احتراماً عجيباً، فلم يفارقها في آخر أيّامها، إلا للضّرورة القصوى. ولعلّ انصرافه إلى القيام بواجبه تجاهها، كان الحائلَ بينه وبين لقاء النبيّ . وعندما استأذنها في السّفر للقاء النبيّ صلى الله عليه وسلّم والسّلام عليه، أذنت له، ولكن بشرطٍ هو العودة المباشرة، سواءً وجد الرسولَ أم لم يجده. وهكذا كان!. فقد تجهّز أويَس للسّفر لِلُقْيا الرّسول والسّلامِ عليه، وقصَدَه في منزله، ولمّا لم يجده عاد أدراجه، دون التَّمَكن من مشاهدته. وعندما عاد النبىّ إلى منزله، قال لأهل بيته بأنه يجد في البيت نوراً غريباً لا عهد له به، فمَن قَدِم في غيابه؟! ويُقال له : أوُيس القَرنيّ!. فيعرفون أنّه نور أُويسٍ بقيَ في المنزل بعد انصرافه منه. كانت حياة أويسٍ رضي الله عنه مثالاً للبساطة، والزّهد في الدنيا، والانصراف عن متاعها. وكان ذلك في زمنٍ انهال فيه النّعيم على العرب والمسلمين انهيالاً. فخضعت لهم الدّنيا، ودانت لهم الأقطار، فتنعّموا بأطايب العيش وملذّات النّعيم!. إنّه الزّهد والبساطة والتقشّف، مقابلَ التّنعّم والجاه العريض والسّلطان!. وأقسم مرّةً بأنّه لا يملك من حطام الدّنيا غير هذا الثّوب المرقّع الرّثّ الخشن، الذي يرتديه. وعندما كان يأخذ بالكلام واعظاً، كان ينبعث كلامه كالنّهر الرَّقراق الصَّافي، بعفويَّةٍ وإيمان، فيدخُلُ قلوبَ سامعيه بلا استئذان، فتخشع قلوبهم وجوارحهم، وتفيض عيونهم بالدّمع، وقد أخذ منهم التّأثّر بما يسمعون، فسيطر عليهم الخشوع، فيسمو بهم أُويس إلى عالمٍ روحانّيٍ تغمره الشفّافيّة والصّفاء!. لم يكن أويس صحابياً؛ لأنّه لم يلتقِ كما علمنا بالرّسول ولم يصاحبه، ولكنّه كان تابعياً، بل على رأس التّابعين. والتّابعيّ، يلي الصحابيّ، إنّه الذي أدرك الصّحابة الكرام وأخذ عنهم. وأويس القرني كان من أفضل الزّهاد التابعين، بشهادة الجميع. كيف لا،.. وقد قال النبىّ : « خيرُ التّابعين أُوَيس ». كما قال في كرامته عند الله : « أبشِروا برجلٍ من أمتي يقال له أُويس القرني .. فإنّه يشفع لمِثْل ربيعةَ ومُضر!». والتفت الرسول إلى عمر بن الخطّاب الذي كان حاضراً يِستمع، وقال له : « إن أدركتَه فأقرِئْه مني السّلام! ». وعملاً بهذه الوصيّة الشّريفة، طلب عمر بن الخطّاب أويساً القرنّي في الكوفة فما وجده.. ثم عاد وطلبه في موسم الحج، إذ وقف عمر بين جموع الحجيج صارخاً بأعلى صوته : ـ يا آل نجدٍ، قوموا !.. فنهضوا.. فسألهم : هل بينكم أحد من قَرْن ؟ فأجابوا : نعم. فأرسل إليهم عمر وسأَلهم عن أويس، فقالوا له : ـ إنه إنسان مجنون، يهوى العيش في القفر والأماكن الموحشة، يبكي عندما يضحك النّاس ويضحك عندما يبكون. فقال لهم : وَدَدتُ لو رأيته. فأجابوه قائلين : إنه في الصحراء با لقرب من مرعى إبلِنا. فينهش عمر بن الخطّاب بصُحبة علّيٍ رضي الله عنهما، يطلبان أويساً.. فوجدا بعد حين رجلاً يصلّي وقد لفَحَت وجهه أشعة الشّمس فصار شديد السُّمرة، ليس بالطّويل ولا القصير، كثّ الشّعر. وقيل لهما : إنه أُويس. وانتظراه حتّى انتهى من صلاته. فأقبلا عليه مسلّمين عليه.. وعرّفهما بنفسه، وأراهما علامةً في جنبه الأيسر، بقعةً بيضاء كالدرهم، وثانيةً في راحة يده، بقعةً تُشبه البرص. أقرآه سلام رسول الله . وعاد حجيج (قَرْن) إلى بلدهم في اليمن، وقد عرفوا من أمر أويسٍ الكثير الذي كانوا يجهلون!. لقد كان أويس بينهم شخصاً مغموراً، بل موضوعاً للسّخرية منه. إنه مجنون!.. أمّا الآن، فلا .. إنّه من أولياء الله الصّالحين. فيُقدّرونه، ويحترمونه ويرى أويسٌ منهم ذلك، فيهرب إلى الكوفة. ونعود أدراجنا بضع سطورٍ خلت، لِنُمعِن النّظر والتأمّل في شخصيّة أويس، كما يراه أهل بلدته، وانطلاقاً من وصفهم له فَتَراه : إنساناً منسلخاً عن النّاس، لا يشاركهم حياتَهمُ الدّنيا، وقد جُنّ في الله حبّاً، وذاب إليه شوقاً. فهام على وجهه في الآفاق، وفي الأرض القَفْر، حيث لا بَشَرٌ ولا عمران، وبالتّالي، فلا حرص ولا أطماع!.. ويَعجب أويس من هؤلاء النّاس، قِصارِ النّظر، ضعيفي الإيمان : فهولاء جماعةٌ منهم يبكون، وقد فقدوا عزيزاً لهم وحبيباً، ويقول أويس في نفسه : تُرى، ألَمْ يَسمع هؤلاء بقوله تعالى : إنّ إلى ربَّكَ الرّجُعى. وبقوله : كُلُّ نَفْسٍ ذائقةُ المَوْت. فيضحك من جهلهم. وهؤلاء جماعة ثانية ركنوا إلى الدّنيا وغرورِها، فخَدَعهم باطلها، وأصبحوا أسرى شِراككِها وحبائلها، فضَحِكوا كثيراً، ناسين أو متناسين أنّهم في دارِ غرورٍ وزوال، نعيمُها مُنغَّض وزائل، وصَفْوُها مَحال. فيبكي لهم، وعليهم، ويشفق عليهم ممّا يجدون!.. يذكر الرُّواة لقاءً تمَّ بين أُويسٍ القرني وهَرم بن حيَّان من الطبقة الأولى من زهَّاد عصره والملفت للنَّظر، أنَّ الله تبارك وتعالى لم يَقضِ بهذا اللقاء إلاّ بعد جهودٍ مُضْنيةٍ قام بها هرم بن حيّان. يقولون، بأنّ هرم بن حيّان قصد مدينة قرنٍ باليمن للقاء أويسٍ. ولمّا وصل وَجَده قد غادرها واشتدّ الأسى بهرم بن حيّان، حتّى كاد صدره ينفجر، ووَجَد مرارةً طعمُها كالعلقم!.. لقد أمضى أسابيعَ طوالاً مهاجراً، من أجل هذا اللقاء.. ورجع هرم إلى مَكَّة يطلبه فيها، فلعل أُوَيساً يجاور حَرَم الله.. وفي مكَّة، قيل له : إنّ أويساً قد يمّم وجهَه شَطْرَ الكوفة. ويبلع هرم ريقه، فلا يستطيع، لقد جفّ حَلْقُه، وملّ من كثرة السّفر، فقعد يستريح. ولا تطول استراحة هرمٍ. وها هو يستعدّ للسّفر إلى الكوفة، فلن يَثنيه عن عزمه مانع، أو يحول دون تنفيذ رغبته حائل!.. ويصل الرّجل الكوفة بعد مَشقّات، يطلب أويساً فيها. إنّه ضالّته المنشودة، فلا يجده، وكأنّ الأرض قد انشقّت وابتلعته، وظلّ هذا الحال مدّةً، وهو في أشدّ العذاب. وأخيراً، يغادر هرم الكوفة إلى البصرة، فلعلّ وعسى .. وفي الطريق، يشاهد هرم رجلاً يتوضّأ على شاطئ الفرات، ثمّ أخذ يمشّط لحيته. فلمّا اقترب هرم منه، حيّاه، فردّ عليه الرّجل : ـ وعليك السلام، ورحمة الله وبركاته، يا هرم بن حيّان!.. ويصيح هرم : وكيف عَرَفَت بأنني هرم؟!.. فيجيبه : إن روحي هيَ التي عرفت روحك، فالأرواح جُنْد مجنَّدة. ما تعارف منها ائتلف، وما تنافر منها اختلف كما يقول النبي . ويعرف هرم بأنّه وقع على ضالّته المنشودة، وقد لقيَ صاحبَه بعد عناءٍ شديدٍ، وصبرٍ طويل.. فيُلقي بنفسه عليه مسلّماً، وكأنّه قد وقع على كنزٍ ثمين!. ويطلب هرم من صاحبه أن يَعِظه. فيبادر أويس : والله، إنّ خير الكلام وأصدقه وأحكَمَه، هو كلام الله. ثمّ تلا ( من سورة الدّخان ) : بِسمِ الله الرحمنِ الرحيمِ. وَمَا خَلَقنَا السَّماواتِ والأرضَ وَمَا بينَهُمَا لاَعِبين * مَا خَلَقنَاهُمَا إلاَّ بِالحَقِّ ولكِنَّ أكثَرَهُم لاَ َيَعلَمُون * إنَّ يَومَ الفَصلِ مِيقَاتُهُم أجمَعِين َ* يَومَ لاَ يُغنِي مَولىً عَن مولىً شيئاً وَلاَ هُم يُنصَرونَ * إلاَّ مَن رَحِمَ اللهُ إنّهُ هُوَ العزيزُ الرّحيم . ثمّ شهق أويس شهقةً، قال عنها هرم : لقد خِلتُ واللهِ أنّ فيها نَفْسَه ( أي : حَسِبتُ أنّه مات ). وأفاق بعد قليل، وأجال عينَيه في هرم، وأخذ ينصحه ويعظه : « إنّ موعظةً، تنطق بها هذه الآيات الشّريفة، لَجديرٌ بالنّاس أن يتركوا من أجلها الدّنيا وما فيها ».. ويذكر أويسٌ رسولَ الله ، وهو أشرف الخلق أجمعين، وقد التحق بعالم الملكوت الأعلى، ومن قَبلِه خليلُ الله إبراهيم عليه السلام، وقبلَهما أبو البشر آدم عليه السلام. فالدّنيا ممرّ لا مقرّ، ودارُ زوالٍ وفناء، إلى دار خُلْدٍ وبقاء، فلا كوكونَ إليها، ولا وثوق بها، ولا اغترار! ... ويوصيه باتّباع الجماعة.. فيدُ الله مع الجماعة، ثمّ يردف متابعاً : « إجعل الموتَ نُصْبَ عينَيك، ولا تنظُرنّ إلى صِغَر المعصية، بل إلى عظمةِ مَن عصيتَه! ». وهكذا كان أويس القرنيّ مثالاً فريداً للزهد والقناعة، في زمنٍ قلّ فيه الزّاهدون، وكثر فيه الطّامعون. ومناضلاً سلبياً، يفعل دون تبجّح، بل دون كلام، فمَن طلب الله هان عليه النّاس جميعاً، إنّه مثال قائم بذاته! ... فتذككَّروا يا أُولي الأباب!( أي : ذوي العقول ). ولكنّ أويساً رضي الله عنه، توّج هذه المواقف الفرديّة، والمجاهدات الذاتيّة، بموقفٍ إيجابي رائعٍ حاسمٍ وقد بان له الحقّ كالشّمس السّاطعة لا تَخفى على ذي عينَين!.. فما أن اندلعت موقعة صفّين، حتّى أسرع أويس إلى نصرة عليّ وأتْباعه، لا بقلبه ولسانه فحسب، بل بيده أيضاً، وبكلّ ما آتاه الله من قوّة. ولنتأمّل هذا الموقفَ البطولي الشجاع، يرويه أحد أصحاب أمير المؤمنين عليّ المقرّبين : عن الأصبغ بن نباتة، قال : « كنّا مع عليّ بصفّين، فبايعه تسعةٌ وتسعون رجلاً. ثمّ قال : إين تمام المائة ؟ لقد عَهِد إليّ رسولُ الله ، أن يبايعني في هذا اليوم مائةُ رجل إذ جاء رجل عليه قِباء صوفٍ ( يشبه المعطف )، متقلّداً بسيفين، فقال : ـ أُبسط يدَك أبايعْك. فقال الامام عليٌّ : علامَ تُبايعني ؟ فقال على بذلِ مهجتي دونك ! فبايعه. وكرّ أويس القرني على الجند الأعداء، يضرب فيهم بالسّيفين .. وقد تحوّل ذلك الزَّاهد، البسيط في حياته، إلى أسَدٍ هصورٍ يُحامي عن عرينه !.. وما زال يقاتل، رضوان الله عليه، حتى خرّ صريعاً شهيداً. وهكذا توّج حياته الشّريفه بتاج السّعادة والشّهادة !.. وحمله أصحابه، والدماء تنزف من أربعين جرحاً، بجسمه. وتقدّم عليّ رضي الله عنه فصلى عليه، ولَحَده بيده، وترحّم عليه وقد خَنَقته العبرة. وهكذا التحق سيد التّابعين، وأمير الزّهاد، وقدوة العُبّاد، أويس القرني، برَكْب الجهاد حتّى الشهادة وَفَضَّل اللهُ المُجَاهِدِينَ عَلَى القَاعِدينَ أَجْرَاً عظِيماً .
منقول من موسوعة ويكبيديا .
استشهد رضوان الله عليه في معركة صفين في سنة 37 هـ الموافقة لعام 658 م. وهو مدفون عليه رضوان الله بمحافظة الرقة في سورية. أويس القَرْنيّ! ... مِن خير الزّهّاد! ... وُلد في مدينة (قَرْن) إحدى مدن اليمن، ولذلك لقَّب بالقرنيّ. وقيل : إن سبب لقبه بالقرنيّ، عائد إلى قومه القُدامى (بني قَرَن). ومهما يكن من أمرٍ، فأويس أحد النّسّاك والعبّاد المقدَّمين، ومن سادات التابعين. دخل الإسلام مع غيره من النّاس الذين دخلوا دين الله أفواجاً. وكانت رعاية الإبل مهنَته ... وهكذا كان يُمضي أيّامه في القفار، خلف الإبل، ينتجع الكلأ والمرعى. وكان يعيش مع والدته التي كان يكرمها غاية الإكرام، ويحترمها احتراماً عجيباً، فلم يفارقها في آخر أيّامها، إلا للضّرورة القصوى. ولعلّ انصرافه إلى القيام بواجبه تجاهها، كان الحائلَ بينه وبين لقاء النبيّ . وعندما استأذنها في السّفر للقاء النبيّ صلى الله عليه وسلّم والسّلام عليه، أذنت له، ولكن بشرطٍ هو العودة المباشرة، سواءً وجد الرسولَ أم لم يجده. وهكذا كان!. فقد تجهّز أويَس للسّفر لِلُقْيا الرّسول والسّلامِ عليه، وقصَدَه في منزله، ولمّا لم يجده عاد أدراجه، دون التَّمَكن من مشاهدته. وعندما عاد النبىّ إلى منزله، قال لأهل بيته بأنه يجد في البيت نوراً غريباً لا عهد له به، فمَن قَدِم في غيابه؟! ويُقال له : أوُيس القَرنيّ!. فيعرفون أنّه نور أُويسٍ بقيَ في المنزل بعد انصرافه منه. كانت حياة أويسٍ رضي الله عنه مثالاً للبساطة، والزّهد في الدنيا، والانصراف عن متاعها. وكان ذلك في زمنٍ انهال فيه النّعيم على العرب والمسلمين انهيالاً. فخضعت لهم الدّنيا، ودانت لهم الأقطار، فتنعّموا بأطايب العيش وملذّات النّعيم!. إنّه الزّهد والبساطة والتقشّف، مقابلَ التّنعّم والجاه العريض والسّلطان!. وأقسم مرّةً بأنّه لا يملك من حطام الدّنيا غير هذا الثّوب المرقّع الرّثّ الخشن، الذي يرتديه. وعندما كان يأخذ بالكلام واعظاً، كان ينبعث كلامه كالنّهر الرَّقراق الصَّافي، بعفويَّةٍ وإيمان، فيدخُلُ قلوبَ سامعيه بلا استئذان، فتخشع قلوبهم وجوارحهم، وتفيض عيونهم بالدّمع، وقد أخذ منهم التّأثّر بما يسمعون، فسيطر عليهم الخشوع، فيسمو بهم أُويس إلى عالمٍ روحانّيٍ تغمره الشفّافيّة والصّفاء!. لم يكن أويس صحابياً؛ لأنّه لم يلتقِ كما علمنا بالرّسول ولم يصاحبه، ولكنّه كان تابعياً، بل على رأس التّابعين. والتّابعيّ، يلي الصحابيّ، إنّه الذي أدرك الصّحابة الكرام وأخذ عنهم. وأويس القرني كان من أفضل الزّهاد التابعين، بشهادة الجميع. كيف لا،.. وقد قال النبىّ : « خيرُ التّابعين أُوَيس ». كما قال في كرامته عند الله : « أبشِروا برجلٍ من أمتي يقال له أُويس القرني .. فإنّه يشفع لمِثْل ربيعةَ ومُضر!». والتفت الرسول إلى عمر بن الخطّاب الذي كان حاضراً يِستمع، وقال له : « إن أدركتَه فأقرِئْه مني السّلام! ». وعملاً بهذه الوصيّة الشّريفة، طلب عمر بن الخطّاب أويساً القرنّي في الكوفة فما وجده.. ثم عاد وطلبه في موسم الحج، إذ وقف عمر بين جموع الحجيج صارخاً بأعلى صوته : ـ يا آل نجدٍ، قوموا !.. فنهضوا.. فسألهم : هل بينكم أحد من قَرْن ؟ فأجابوا : نعم. فأرسل إليهم عمر وسأَلهم عن أويس، فقالوا له : ـ إنه إنسان مجنون، يهوى العيش في القفر والأماكن الموحشة، يبكي عندما يضحك النّاس ويضحك عندما يبكون. فقال لهم : وَدَدتُ لو رأيته. فأجابوه قائلين : إنه في الصحراء با لقرب من مرعى إبلِنا. فينهش عمر بن الخطّاب بصُحبة علّيٍ رضي الله عنهما، يطلبان أويساً.. فوجدا بعد حين رجلاً يصلّي وقد لفَحَت وجهه أشعة الشّمس فصار شديد السُّمرة، ليس بالطّويل ولا القصير، كثّ الشّعر. وقيل لهما : إنه أُويس. وانتظراه حتّى انتهى من صلاته. فأقبلا عليه مسلّمين عليه.. وعرّفهما بنفسه، وأراهما علامةً في جنبه الأيسر، بقعةً بيضاء كالدرهم، وثانيةً في راحة يده، بقعةً تُشبه البرص. أقرآه سلام رسول الله . وعاد حجيج (قَرْن) إلى بلدهم في اليمن، وقد عرفوا من أمر أويسٍ الكثير الذي كانوا يجهلون!. لقد كان أويس بينهم شخصاً مغموراً، بل موضوعاً للسّخرية منه. إنه مجنون!.. أمّا الآن، فلا .. إنّه من أولياء الله الصّالحين. فيُقدّرونه، ويحترمونه ويرى أويسٌ منهم ذلك، فيهرب إلى الكوفة. ونعود أدراجنا بضع سطورٍ خلت، لِنُمعِن النّظر والتأمّل في شخصيّة أويس، كما يراه أهل بلدته، وانطلاقاً من وصفهم له فَتَراه : إنساناً منسلخاً عن النّاس، لا يشاركهم حياتَهمُ الدّنيا، وقد جُنّ في الله حبّاً، وذاب إليه شوقاً. فهام على وجهه في الآفاق، وفي الأرض القَفْر، حيث لا بَشَرٌ ولا عمران، وبالتّالي، فلا حرص ولا أطماع!.. ويَعجب أويس من هؤلاء النّاس، قِصارِ النّظر، ضعيفي الإيمان : فهولاء جماعةٌ منهم يبكون، وقد فقدوا عزيزاً لهم وحبيباً، ويقول أويس في نفسه : تُرى، ألَمْ يَسمع هؤلاء بقوله تعالى : إنّ إلى ربَّكَ الرّجُعى. وبقوله : كُلُّ نَفْسٍ ذائقةُ المَوْت. فيضحك من جهلهم. وهؤلاء جماعة ثانية ركنوا إلى الدّنيا وغرورِها، فخَدَعهم باطلها، وأصبحوا أسرى شِراككِها وحبائلها، فضَحِكوا كثيراً، ناسين أو متناسين أنّهم في دارِ غرورٍ وزوال، نعيمُها مُنغَّض وزائل، وصَفْوُها مَحال. فيبكي لهم، وعليهم، ويشفق عليهم ممّا يجدون!.. يذكر الرُّواة لقاءً تمَّ بين أُويسٍ القرني وهَرم بن حيَّان من الطبقة الأولى من زهَّاد عصره والملفت للنَّظر، أنَّ الله تبارك وتعالى لم يَقضِ بهذا اللقاء إلاّ بعد جهودٍ مُضْنيةٍ قام بها هرم بن حيّان. يقولون، بأنّ هرم بن حيّان قصد مدينة قرنٍ باليمن للقاء أويسٍ. ولمّا وصل وَجَده قد غادرها واشتدّ الأسى بهرم بن حيّان، حتّى كاد صدره ينفجر، ووَجَد مرارةً طعمُها كالعلقم!.. لقد أمضى أسابيعَ طوالاً مهاجراً، من أجل هذا اللقاء.. ورجع هرم إلى مَكَّة يطلبه فيها، فلعل أُوَيساً يجاور حَرَم الله.. وفي مكَّة، قيل له : إنّ أويساً قد يمّم وجهَه شَطْرَ الكوفة. ويبلع هرم ريقه، فلا يستطيع، لقد جفّ حَلْقُه، وملّ من كثرة السّفر، فقعد يستريح. ولا تطول استراحة هرمٍ. وها هو يستعدّ للسّفر إلى الكوفة، فلن يَثنيه عن عزمه مانع، أو يحول دون تنفيذ رغبته حائل!.. ويصل الرّجل الكوفة بعد مَشقّات، يطلب أويساً فيها. إنّه ضالّته المنشودة، فلا يجده، وكأنّ الأرض قد انشقّت وابتلعته، وظلّ هذا الحال مدّةً، وهو في أشدّ العذاب. وأخيراً، يغادر هرم الكوفة إلى البصرة، فلعلّ وعسى .. وفي الطريق، يشاهد هرم رجلاً يتوضّأ على شاطئ الفرات، ثمّ أخذ يمشّط لحيته. فلمّا اقترب هرم منه، حيّاه، فردّ عليه الرّجل : ـ وعليك السلام، ورحمة الله وبركاته، يا هرم بن حيّان!.. ويصيح هرم : وكيف عَرَفَت بأنني هرم؟!.. فيجيبه : إن روحي هيَ التي عرفت روحك، فالأرواح جُنْد مجنَّدة. ما تعارف منها ائتلف، وما تنافر منها اختلف كما يقول النبي . ويعرف هرم بأنّه وقع على ضالّته المنشودة، وقد لقيَ صاحبَه بعد عناءٍ شديدٍ، وصبرٍ طويل.. فيُلقي بنفسه عليه مسلّماً، وكأنّه قد وقع على كنزٍ ثمين!. ويطلب هرم من صاحبه أن يَعِظه. فيبادر أويس : والله، إنّ خير الكلام وأصدقه وأحكَمَه، هو كلام الله. ثمّ تلا ( من سورة الدّخان ) : بِسمِ الله الرحمنِ الرحيمِ. وَمَا خَلَقنَا السَّماواتِ والأرضَ وَمَا بينَهُمَا لاَعِبين * مَا خَلَقنَاهُمَا إلاَّ بِالحَقِّ ولكِنَّ أكثَرَهُم لاَ َيَعلَمُون * إنَّ يَومَ الفَصلِ مِيقَاتُهُم أجمَعِين َ* يَومَ لاَ يُغنِي مَولىً عَن مولىً شيئاً وَلاَ هُم يُنصَرونَ * إلاَّ مَن رَحِمَ اللهُ إنّهُ هُوَ العزيزُ الرّحيم . ثمّ شهق أويس شهقةً، قال عنها هرم : لقد خِلتُ واللهِ أنّ فيها نَفْسَه ( أي : حَسِبتُ أنّه مات ). وأفاق بعد قليل، وأجال عينَيه في هرم، وأخذ ينصحه ويعظه : « إنّ موعظةً، تنطق بها هذه الآيات الشّريفة، لَجديرٌ بالنّاس أن يتركوا من أجلها الدّنيا وما فيها ».. ويذكر أويسٌ رسولَ الله ، وهو أشرف الخلق أجمعين، وقد التحق بعالم الملكوت الأعلى، ومن قَبلِه خليلُ الله إبراهيم عليه السلام، وقبلَهما أبو البشر آدم عليه السلام. فالدّنيا ممرّ لا مقرّ، ودارُ زوالٍ وفناء، إلى دار خُلْدٍ وبقاء، فلا كوكونَ إليها، ولا وثوق بها، ولا اغترار! ... ويوصيه باتّباع الجماعة.. فيدُ الله مع الجماعة، ثمّ يردف متابعاً : « إجعل الموتَ نُصْبَ عينَيك، ولا تنظُرنّ إلى صِغَر المعصية، بل إلى عظمةِ مَن عصيتَه! ». وهكذا كان أويس القرنيّ مثالاً فريداً للزهد والقناعة، في زمنٍ قلّ فيه الزّاهدون، وكثر فيه الطّامعون. ومناضلاً سلبياً، يفعل دون تبجّح، بل دون كلام، فمَن طلب الله هان عليه النّاس جميعاً، إنّه مثال قائم بذاته! ... فتذككَّروا يا أُولي الأباب!( أي : ذوي العقول ). ولكنّ أويساً رضي الله عنه، توّج هذه المواقف الفرديّة، والمجاهدات الذاتيّة، بموقفٍ إيجابي رائعٍ حاسمٍ وقد بان له الحقّ كالشّمس السّاطعة لا تَخفى على ذي عينَين!.. فما أن اندلعت موقعة صفّين، حتّى أسرع أويس إلى نصرة عليّ وأتْباعه، لا بقلبه ولسانه فحسب، بل بيده أيضاً، وبكلّ ما آتاه الله من قوّة. ولنتأمّل هذا الموقفَ البطولي الشجاع، يرويه أحد أصحاب أمير المؤمنين عليّ المقرّبين : عن الأصبغ بن نباتة، قال : « كنّا مع عليّ بصفّين، فبايعه تسعةٌ وتسعون رجلاً. ثمّ قال : إين تمام المائة ؟ لقد عَهِد إليّ رسولُ الله ، أن يبايعني في هذا اليوم مائةُ رجل إذ جاء رجل عليه قِباء صوفٍ ( يشبه المعطف )، متقلّداً بسيفين، فقال : ـ أُبسط يدَك أبايعْك. فقال الامام عليٌّ : علامَ تُبايعني ؟ فقال على بذلِ مهجتي دونك ! فبايعه. وكرّ أويس القرني على الجند الأعداء، يضرب فيهم بالسّيفين .. وقد تحوّل ذلك الزَّاهد، البسيط في حياته، إلى أسَدٍ هصورٍ يُحامي عن عرينه !.. وما زال يقاتل، رضوان الله عليه، حتى خرّ صريعاً شهيداً. وهكذا توّج حياته الشّريفه بتاج السّعادة والشّهادة !.. وحمله أصحابه، والدماء تنزف من أربعين جرحاً، بجسمه. وتقدّم عليّ رضي الله عنه فصلى عليه، ولَحَده بيده، وترحّم عليه وقد خَنَقته العبرة. وهكذا التحق سيد التّابعين، وأمير الزّهاد، وقدوة العُبّاد، أويس القرني، برَكْب الجهاد حتّى الشهادة وَفَضَّل اللهُ المُجَاهِدِينَ عَلَى القَاعِدينَ أَجْرَاً عظِيماً .
منقول من موسوعة ويكبيديا .