لا تستورد ما مضى.. ولا تصدّر لحظة غادرتها

[سيف بير جابر]

توقفتَ بعد مشوار طويل على الرصيف.. وقد ترى أنه نهاية الطريق.. وقد تسميه آخر المطاف.. توقفت ليس متعمداً لأنك أنهكت.. أو استنفد منك التعب كل قدراتك.. أو لم يعد لك خيار هذه اللحظة سوى التوقف.. وبهدوء وبتأن أكثر من طبيعتك.. المعتادة..!

لم تجد نفسك كما حاولت إيهامها في هذا المكان لأن الوصول إليه كان حتمياً، وكان لابد أن يكون.. ولم تستطع في البداية الايمان الأكيد بالوصول وعدم القدرة على الالتفاف مرة أخرى للعودة إلى نفس الطريق القديم الذي سلكته طوال هذه المدة من العمر الممتد..

هل ما يجري هو الكابوس فعلاً؟ أم أنه تناقضاته؟ هل هذا الوصول على هذه الخطوط سيكون مؤقتاً؟ أم أنه تحديد إقامة لم يتم سؤالك فيها؟ ولم ترغب في الزمان وبالتالي فُرض عليك المكان الحالي أن تتوقف فيه؟

وصلتَ إلى نهاية الطريق هكذا تُسمى، أو هكذا تُقال.. البعض يسميها نهاية المطاف.. فليكن.. لكنها في المحصلة هي النهاية التي لا خيار لك فيها.. هي النهاية التي لا لبس في وجودها.. أو تفاصيلها.. أو مكوّناتها..

وأنت تحاول أن تتعامل معها على هذا الأساس.. تحاول بجد، وبجهد أن لا تخلق أزمة مع الزمن الذي دفعك إلى هنا.. وتكتفي بأزمة المكان التي ستحاول إدارتها.. مهما كانت الظروف متوترة، وقلقة.. وقاسية.. وسلبية.

وأنت تختبر خط النهاية الذي تعسكر فيه الآن تكتشف أن الطريق الطويل.. قد استلب منك أشياء كثيرة.. كثيرة جداً.. عليك إن كنت متسامحاً مع الطريق.. ومع نفسك.. ومع الآخرين أن تتجاهلها.. لتستطيع الإقامة الجادة والطبيعية في المكان.

وإن كنت عاجزاً عن تحقيق هذا التسامح فستخلق الوقت الذي ستعتقد اللحظة أنه يتكاثر أمامك لتعداد مساوئ الطريق وتفنيدها.. وكتابتها.. وتسجيل أسماء من أطفأوا الشمس في الطريق.. ومن غيبّوا البوصلة ليفتحوا لك مساحات المتاهة.. ومن مارسوا الإقصاء.. والإسكات.. ومن أصروا على الهيمنة وعلى مصادرة الأحلام.. وقطع الأشجار.. وزرع الخوف ليعبر الآخرون عليه..

إن كنت عاجزاً عن التجاوز فسوف تتوقف معتقداً أنك تستخلص العبر وما أكثرها في زمن مدين لنا بصور أشبه بتداول الغياب! ستفتح الملفات وستقرأ وأنت تعتقد أنك أسير المكان الثابت.. وأن هذه اللحظة هي مسرح المراجعة والعودة إلى الدفاتر القديمة.. العودة إلى الطريق والوقوف على خطوط آلامه، أغلب الظن أنك في حالة البقاء في المسار القديم سوف تستمتع بقائمة الحساب، وسوف تصر أن ما سوف يأتي لا قيمة له دون هذه القائمة.. ستعتقد أنك اللحظة مصدر للحساب والمراجعة.. ولست بحاجة إلى استيراد لغتها.

وأنت تصارع بهدوء كما تعتقد وتسجل تلك المخاطر.. وتلك الطعنات وتسترجع كل تلك الوجوه التي تحولت وغابت.. والملامح التي لم تحمل سوى تفاصيل انزلاقها.. تشعر أن كل ذلك يزيد من ألم الداخل.. تشعر أن عليك أن تجمع هذه الأوراق وتتخلص منها.. ربما لأن مهلة قراءاتها قد انتهت.. تشعر أن لا مصلحة لك في إثارة غبار طريق غادرْته.. ولا يمكن أن تعيد اختراع تفاصيل تلك التفاصيل.. لكن لا بأس هل بالإمكان العودة إلى منتصف الطريق؟

هل يمكن أن يمنحك الطريق نفسه كل الضمانات لتعود إلى منتصفه، ويعاود استقبالك بجبروته وعجرفته وقهره وكأنك الهارب من نقطة النهاية الحتمية والحقيقة الوحيدة.. إلى نقطة سبق وأن تداعى زمنها؟أم أن هناك حلولاً تعويضية أخرى من الممكن أن نتعامل معها؟ حلولاً ليست إنقاذية فقط.. ولكنها تحمل آمال حياة أخرى وطريق آخر ليس به ممر لتصفية الحسابات.. وليس به ممر سيدفعك إلى الإبحار إلى الطريق القديم.. أو ينطلق بك إلى ما أنت به الآن من تحديد إقامة.

هو طريق واحد وقد يكون آخر.. إن أحرقت ملفاتك كلها ستنطلق وكأنك تستقبل ضوء الشمس.. وتعانق النهار.. وتهتدي بهدوء الليل بعد مغادرة إحساس يصعب أن يكون هناك طريق آخر..

هو طريق الحياة.. طريق المستقبل.. الذي لا مصلحة لديه في أن تكون ممراته هاوية ومنغلقة!!