المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام


الصفحات : [1] 2

admin
12-25-2010, 12:22 PM
السلام عليكم
يسرني ان اضع بين ايديكم هذا الكتاب الثري والذي اعتمد عليه كثير من المؤرخين في تأريخيهم للكثير من الكتب وهو بمثابة هديه علميه قيمه وعنوان تواصل بيني وبينكم
استغرق الوقت والجهد الكثير حتى قمت بنقله لكم آملا ان تعم فائدته وان يكون كتاب يومي يمكن قراءة صفحه واحده باليوم الواحد كفيله باضافة الكثير من المعلومات التاريخيه الهامه والاهم في هذا الكتاب ان قبيلة حارث بن كعب ذكرت كثيرا في صفحاته كما ذكرت الكثير ايضا من القبائل المعروفه الاصيله التي عاصرت الازمان الى حتى زماننا هذا .


الكتاب استغرق نقله اكثر من اسبوع وعدد صفحاته مايقارب الـ 6000 صفحه

شكرا لكم وعلى بركة الله اترككم تستمتعون بالقراءه

المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام — د. جواد علي
الجزء الأول – الفصول 1-40

مقدمة…2
الفصل الأول تحديد لفظة العرب…3
الفصل الثاني الجاهلية و مصادر التاريخ الجاهلي…8
الفصل الثالث إهمال التأريخ الجاهلي و إعادة تدوينه…22
الفصل الرابع جزيرة العرب…30
الفصل الخامس طبيعة جزيرة العرب وثرواتها وسكانها…39
الفصل السادس صلات الحرب بالساميين…47
الفصل السابع طبيعة العقلية العربية…55
الفصل الثامن طبقات العرب…63
الفصل التاسع العرب العاربة والعرب المستعربة…75
الفصل العاشر أثر التوراة…86
الفصل الحادي عشر أنساب العرب…97
الفصل الثاني عشر طبقات القبائل…107
الفصل الثالث عشر تأريخ الجزيرة القديم…111
الفصل الرابع عشر العرب في الهلال الخصيب…120
الفصل الخامس عشر صلة العرب بالكلدانيين و الفرس…127
الفصل السادس عشر العرب والعبرانيون…132
الفصل السابع عشر العرب و اليونان…138
الفصل الثامن عشر العرب و الرومان…145
الفصل التاسع عشر الدولة المعينية…153
الفصل العشرون مملكة حضرموت…165
الفصل الثاني و العشرون مملكتا ديدان و لحيان…189
الفصل الثالث و العشرون السبئيون…193
الفصل الرابع والعشرون ملوك سبأ…205
الفصل الخامس والعشرون همدان…213
الفصل ا لسادس والعشرون أسر وقبائل…221
الفصل ا لسابع والعشرون ملوك سبأ وذو ريدان…226
الفصل الثامن والعشرون سبأ وذو ريدان…239
الفصل التاسع والعشرون ممالك وإمارات صغيرة…245
الفصل الثلاثون الحميريون…247
الفصل الحادي و الثلاثون سبأ و ذو ريدان و حضرموت و يمنت…251
الفصل الثاني والثلاثون إمارات عربية شمالية…267
الفصل الثالث و الثلاثون ساسانيون و بيزنطيون…272
الفصل الرابع والثلاثون مملكة النبط…280
الفصل الخامس والثلاثون مملكة تدمر…293
الفصل السادس والثلاثون الصفويون…307
الفصل السابع والثلاثون مملكة الحيرة…310

(1/1)


--------------------------------------------------------------------------------

الفصل الثامن والثلاثون عمرو بن هند…324
الفصل التاسع والثلاثون مملكة كنده.…339
الفصل الاربعون مملكة الغساسنة…354

مقدمة
هذا كتاب في تاريخ العرب قبل الإسلام، وهو في الواقع كتاب جديد، يختلف عن كتابي السابق الذي ظهرت منه ثمانية أجزاء. يختلف عنه في إنشائه، وفي تبويبه وترتيبه، وفي كثير من مادته أيضا، فقد ضمنته مادة جديدة،خلا منها الكتاب السابق، تهيأت لي من قراءاتي لكتابات جاهلية عثر عليها بعد نشر ما نشرت منه، ومن صور كتابات أو ترجماتها أو نصوصها لم تكن قد نشرت من قبل، ومن مراجعاتي لموارد نادرة لم يسبق للحظ إن سعد بالظفر بها أو الوقوف عليها، ومن كتب ظهرت حديثا بعد نشر هذه الأجزاء، فرأيت إضافتها كلها إلى معارفي السابقة التي جسدتها في ذلك الكتاب.
وقد رأى أستاذي العالم الفاضل السيد محمد بهجت الأثري تسميته: "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام"، لما فيه من تفصيل لم يرد في الكتاب السابق، فوجدت في اقتراحه رأيا صائبا.ينطبق كل الانطباق على ما جاء فيه، فسميته بما سماه به، مقسما إليه شكري الجزيل على هذا التوجيه الجميل.
وكتاباي هذان، هما عمل فرد عليه جمع المادة بنفسه، والسهر في تحريرها وتحبيرها،وعليه الإنفاق من ماله الخاص على شراء موارد غير متيسرة في بلاده، أو ليس في استطاعته مراجعتها بسبب القيود المفروضة على إعارة الكتب،أو لاعتبارات أخرى، ثم عليه البحث عن ناشر يوافق على نشر الكتاب، ثم عليه تصحيح المسودات بنفسه بعد نجاحه في الحصول على ناشر، إلى غير فلك من أمور تسلبه راحته وتستبد به وتضنيه. ولولا الولع الذي يتحكم في المؤلفين في هذه البلاد، لما أقدم إنسان على تأليف كتاب.

(1/2)

admin
12-25-2010, 12:24 PM
وإن عملا تم بهذا الأسلوب وبهذه الطريقة، لا يمكن إن يرضي المؤلف أو يسعده، لأنه عمل يعتقد إنه مها انفق فيه من جهد وطاقة واجتهاد، فلن يكون عل الشكل الذي يتوخاه أو يريده، والصورة التي رسمها في فكره وتصورها له. ولولا طمع المؤلف في كرم القراء بتبرعهم في تقويم عوجه وإصلاح أغلاطه و إرشاده إلى خير السبل المؤدية إلى التقويم والإصلاح، و لولا اعتقاده إن في التردد أو الإحجام سلبية لا تنفع، بل إن فيها ضررا، وان كتابا يؤلف و ينشر عد ما يجمع من عيوب ونقائص خير من لا شيء، أقول:لولا هذه الاعتبارات لما تجرأت، فأخرجت كتابا وعددتني مؤلفا من المؤلفين.
وأنا إذ أقول هذا القول و أثبته، لا أريد إن أكون مرائيا لابسا ثوب التواضع لأتظاهر به على شاكلة كثير من المرائين. و إنما أقول ذلك حقا وصدقا، فأنا رجل اعتقد إن الإنسان مهما حاول إن يتعلم،فأنه يبقى إلى خاتمة حياته جاهلا، كل ما يصل إليه من العلم هو نقطة من بحر لا ساحل له. ثم إني ما زلت أشعر أني طالب علم، كلما ضننت انتهيت من موضوع، و فرحت بانتهائي منه، أدرك بعد قليل إن هنالك علما كثيرا فاتني، و موارد جمة لم أتمكن من الظفر بها، فأتذكر الحكمة القديمة "العجلة من الشيطان".

(1/3)


--------------------------------------------------------------------------------

و قد رأيت في هذا الكتاب شأني في الكتاب السابق، ألا أنصب نفسي حاكما تكون وظيفته إصدار أحكام قاطعة، و إبداء آراء في حوادث تاريخية مضى زمن طويل عليها، بل أكتفي بوصف الحادث و تحليله كما يبدو لي. و قد لا تعجب طريقتي هذه كثيرا من القراء، و عذري أني لا أكتب لإرضاء الناس، و لا أدون لشراء العواطف، و إنما أكتب ما أعتقده و أراه بحسب علمي و تحقيقي، و الرأي عندي إن التاريخ تحليل و وصف لما وقع و يقع، و على المؤرخ إن يجهد نفسه كل الإجهاد للإحاطة به، بالتفتيش عد كل ما ورد عنه، و مناقشة تمحيص و نقد عميقين، ثم تدوين ما يتوصل إليه بجده و اجتهاده تدوينا صادقا على نحو ما ظهر و ما شعر به، متجنبا إبداء الأحكام و الآراء الشخصية القاطعة على قدر الاستطاعة.
لقد قلت في مقدمة الجزء الأول من كتابي السابق: "و الكتاب بحث، أردت جهد طاقتي إن يكون تفصيليا، و قد يعاب علي ذلك، و عذري في هذا التفصيل أنني أريد تمهيد الجادة لمن يأتي بعدي فيرغب في التأليف في هذا الموضوع، وأنني أكتب للمتتبعين والمتخصصين، ومن حق هؤلاء المطالبة بالمزيد . وقد فعلت في هذا الكتاب ما فعلته في الأجزاء الثمانية من الكتاب السابق من تقصي كل ما يرد عن موضوع من الموضوعات في الكتابات وفي الموارد الأخرى ، وتسجيله وتدوينه ، ليقدم للقارئ أشمل بحث وأجمع مادة في موضوع يطلبه ، لأن غايتي من هذا الكتاب أن يكون "موسوعة" في الجاهلية والجاهليين ، لا أدع شيئا عنها أو عنهم إلا ذكرته في محله ، ليكون تحت متناول يد القارئ . فكتابي هذا وذاك هما للمتخصصين وللباحثين الذين يطمعون في الوقوف على حياة الجاهلية بصورة تفصيلية ، ولم يكتب للذين يريدون الإلمام بأشياء مجملة عن تلك الحياة.

(1/4)


--------------------------------------------------------------------------------

والكتاب لذلك سيخرج في أجزاء ، لا أستطيع تحديد عددها ألان ، ولكني أقول بكل تأكيد إنها ستزيد على العشرة ، وأنها ستتناول كل نواحي الحياة عند ا لجاهليين: من سياسية ، و اجتماعية ، ودينية ، وعلمية ، وأدبية ، وفنية ، و تشريعية .
لقد أشار علي بعض الأصدقاء أن أدخل في العرب كل الساميين ، وأن أتحدث عنهم في كتابي هذا كما أتحدث عن العرب ، لأن وطن الساميين الأول هو جزيرة العرب ، ومنه هاجروا إلى الأماكن المعروفة التي استقروا فيها ، فهم في ذلك مثل القبائل العربية التي تركت بلاد العرب ، واستقرت في العراق وفي بادية الشام وبلاد الشام ، لا يختلفون عنهم في شيء . ثم قالوا: فإذا كنت قد تحدثت عن تلك القبائل المهاجرة على أنها قبائل عربية، فلم تسكت عن أولئك السامين ، ولم تجعلهم من العرب? و جوابي أن القبائل العربية المهاجرة هي قبائل معروفة الأصل وقد نصت الكتابات والموارد الأخرى على عروبتها. ، ونسبت نفسها إلى جزيرة العرب، ولهجاتها لهجات عربية ، لا ريب في ذلك ولا نزاع ، و ثقافتها عربية . أما الشعوب السامية ، فليس بين العلماء، كما سترى، اتفاق على وطنها الأول، وليس بينها شعب واحد نسب نفسه إلى العرب ، وليس في الموارد التاريخية الواصلة إلينا مورد واحد يشير إلى أنها عربية؛ ولهجاتها وان اشتركت كلها في أمور، فإنها تختلف أيضا في أمور كثيرة، هي أكثر من مواطن الاشتراك والالتقاء. ففرق كبير إذن بين هذه الشعوب وبين القبائل العربية من حيث العروبة. ثم إن العروبة في نظري ليس بها حاجة إلى ضم هذه الشعوب اليها، لاثبات إنها ذات أصل تؤول اليه، فقد أعطى الله تلك الشعوب تاريخا ثم محاه عنهم، وأعطى العرب تاريخا أينع في القديم واستمر حتى لليوم،ثم إن لهم من الحضارة الإسلامية ما يغنيهم عن التفتيش عن مجد غيرهم وعن تركاتهم، لإضافتها إليهم. فليس في العرب مركب نقص حتى نضيف إليهم من لم يثبت انهم منهم، لمجرد أنهم كانوا أصحاب

(1/5)

admin
12-25-2010, 12:25 PM
حضارة وثقافة، وأن جماعة من العلماء ترى أنهم كانوا من جزيرة العرب. والرأي عندي أن العرب لو نبشوا تربة اليمن و بقية الترب لما احتاجوا إلى دعوة من يدعو إلى هذا الترقيع. فأنا من أجل هذا لا أستطيع أن أضم أحدا من هؤلاء إلى الأسرة العربية بالمعنى الاصطلاحي المعروف المفهوم، من لفظة العرب عندنا ، إلا إذا توافرت الأدلة ، وثبت بالنص أنهم من العرب حقا، وأنهم كانوا في جزيرة العرب حقا.
نعم، لقد قلت إن مصطلح الشعوب العربية هو أصدق اصطلاح يمكن إطلاقه على تلك الشعوب ، وإن الزمان قد حان لاستبدال .مصطلح "عربي" و "عريية" ب "سامي" و "سامية" ، وقلت أشياء أخرى شرحتها في الجزء الثاني من الكتاب السابق في تعليل ترجيح هذه التسمية. ولكنى لم أقصد ولن أقصد أن تلك الشعوب هي قبائل عربية مثل الشعوب والقبائل العربية المعروفة. فالسامية وحدة ثقافية، اصطلح عليها اصطلاحا، و العروبة وحدة ثقافية وجنسية وروابط دموية وتأريخية، و بين المفهومين فرق كبير.
إن مما يثير الأسف والله في النفوس ان نرى الغربيين يعنون بتأريخ الجاهلية و يجدون في البحث عنه والكشف عن حلقاته وتركاته في باطن الأرض، ونشره بلغاتهم، ولا نرى حكوماتنا العربية ولا سيما حكومات جزيرة العرب، إلا منصرفة عنه، لا تعنى بالآثار العناية اللازمة لها، ولا تسأل الخبراء رسميا وباسمها البحث عن العاديات والتنقيب في الخرائب الجاهلية لاستخراج ما فيها من كنوز،وجمعها في دار للمحافظة عليها ولاطلاع الناس عليها . وقد يكون عذر هذه الحكومات إن الناس هناك ينظرون إلى التماثيل نظرتهم إلى الأصنام والأوثان، والى استخراج الآثار والتنقيب عن العاديات نظرتهم إلى بعث الوثنية و إحياء معالم الشرك، وهي من أجل هذا تخشى الرأي العام، وإني على كل حال أرجو إن تزول هذه الأحوال في المستقبل القريب، وأن يدرك عرب الجزيرة أهمية الآثار في الكشف عن تاريخ هذه الأمة العربية القديم.

(1/6)


--------------------------------------------------------------------------------

كذلك أرجو إن تنتبه حكومات جزيرة العرب لأهمية موضوع التخصص بتأريخ العرب القديم، وان تكلف شبانها دراسة علم الآثار ودراسة لهجات العرب قبل الإسلام والأقلام العربية الجاهلية، ليقوموا هم أنفسهم بالبحث والتنقيب في مواطن العاديات المنبثة في مواطن كثيرة من الجزيرة.
ورجاء آخر أتمنى على جامعة الدول العربية والدول العربية إن يحققوه، وهو إرسال بعثات من المتخصصين بالآثار وباللهجات والأقلام العربية القديمة إلى مواطن الآثار في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية والمواضع الأخرى من جزيرة العرب للتنقيب عن الآثار، والكشف عن تأريخ الجزيرة المطمور تحت الأتربة والرمال، ونشره نشرا علميا، بدلا من إن يكون اعتمادنا في ذلك على الغربيين. أفلا يكون من العار علينا إن نكون عالة عليهم في كل أمر، حتى في الكشف عن تاريخنا القديم! وأضيف إلى هذا الرجاء رجاء آخر هو إن تقوم أيضا بتدوين معجم في اللهجات العربية الجاهلية، تستخرجه من الكتابات التي عثر عليها، وبتأليف كتب في نحوها وصرفها، وترجمة الكتب، الأمهات التي وضعها المؤلفون الأجانب في تاريخ الجاهلية، ترجمة دقيقة تنأى عن المسخ الذي وقع في ترجمة بعض تلك المؤلفات فأشاع الغلظ ونشر التخريف.

(1/7)


--------------------------------------------------------------------------------

لقد راجعت بعض المستشرقين الباحثين في تاريخ العرب القديم، وسالت بعض من ساح في جزيرة العرب في هذه الأيام، وبعض الشركات العاملة فيها، في آخر ما توصلوا إليه من بحوث، وعثروا عليه من عاديات، فوجدت منهم كل معونة، وأرسلوا وما برحوا يرسلون أجوبتهم إلي بكل ترحاب ولطف، وكتبت إلى بعض حكومات جزيرة العرب والى بعض المسؤولين من أصحاب المكانة فيها والنفوذ مرارا، أسألها وأسألهم عن العاديات وعن الآثار التي عثر عليها حديثا في بلادهم، فلم أسمع من الاثنين جوابا، وإني إذ أكتب هذه الملاحظة المرة المؤسفة، إنما أرمي بها إلى التنبيه ولفت أنظار أولي الأمر أصحاب الحكم والسلطان. فمن واجب المسؤول إجابة الرسائل، ولا سيما إن القضية قضية تخص البلاد المذكورة بالذات والعرب عموما، وقبيح إن ينبري الغريب، فيساعد طالب بحث عن تأريخ أمته واخوته، ويستنكف المسؤولون من أبناء هذه الأمة عن تنفيذ طلب لا يكلفهم شيئا، وهو خطير يتعلق بتأريخ هذه الأمة قبل الإسلام و إذاعته أولا، وهو واجب من واجباتهم التي نصبوا من أجلها ثانيا.
لقد تمكن الباحثون في التاريخ الجاهلي، من سياح وعلماء، من الارتقاء بتاريخ الجاهلية بمئات من السنين قبل الميلاد ، وذلك على وجه صحيح لا مجال للشك فيه، خ أن بحوثهم هذه لم تنزل سوى أمتار في باطن الآثار وفي أماكن محدودة معينة. وسوف يرتفع مدى هذا التأريخ إلى مئات أخرى، وربما يتجاوز الألفي سنة أو أكثر قبل الميلاد إذا أتيحت الفرص للعلماء في الحفر في مواضع، الآثار حفرا علميا بالمعنى الحديث المفهوم من "الحفر" . وأنا لا أستبعد بلوغ هذا التاريخ الجاهلي في يوم من الأيام التأريخ الذي وصل إليه العلماء في مصر وفي العراق، أو في أماكن أخرى عرفت بقدم تاريخها، بل لا أستبعد أيضا أن يتقدم هذا التأريخ تأريخ بعض الأماكن المذكورة .

(1/8)


--------------------------------------------------------------------------------

وبعد هذا ، لا بد لي هنا من الاعتراف بفضل رجل، له على هذا الكتاب وعلى الكتاب الأول يد ومنة، وله كذلك عد مؤلفهما فضل سابق، يسبق زمن تأليف كتابيه بأمد طويل ، هو فضل الإرشاد والتوجيه والتعليم. وأريد به الاستاذ العلامة الفاضل السيد محمد بهجت الأثري ، العضو العامل في مجمع اللغة العربية بالقاهرة وعضو المجمع العلمي العربي بدمشق، وعضو المجلس الأعلى الاستشاري للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. فقد كان لي ولأمثالي من الدارسين والباحثين ولا يزال مرشدا وموجها ومشوقا لدراسة التراث العربي والتراث الإسلامي والتأليف في ذلك، مذ كنت تلميذه في الإعدادية المركزية ببغداد أتلقى عنه في جملة من كانوا يتلقون سنه الأدب العربي، فكان يشوقنا بأسلوبه الجذاب ، وبتأثيره القوي المعروف، إلى التوسع في دراسة الأدب العربي وتاريخ الأمة العربية، وهو ما برح يحثني على الإسراع في إتمام هذا الكتاب و إخراجه للناس، قارئا مسوداته، ومبديا آراءه و إرشاداته وملاحظاته المهمة ،التي أفادتني ،والحق أقول، كثيرا. وهما فضلان لن ينساهما تلميذ يقدر الفضل لأستاذ كريم يفني نفسه في تربية الأجيال ونشر الأدب والعلم.

(1/9)


--------------------------------------------------------------------------------

وبعد، فهذا الكتاب هو جمعي وترتبي، فأنا المسؤول عنه وحدي، وليس لأحد محاسبة غيري عله، اجتهدت ألا اضمنه إلا الحق والصواب من العلم على قدر طاقتي واجتهادي، فإن أكن قد وفقت فيما قصدت اليه وأردته، فذلك حسبي و كفى، لا أريد عليه حمدا ولا شكرا، لأني قمت بواجب، وعملت عن شوق ورغبة وولع قديم بهذا الموضوع يرجع إلى أيام دراستي الأولى، فليس لي فضل ولا منة، وإن كان فيه حسنا فهو للعلماء الذين اعتمدت عليهم وأخذت منهم، وليس لي فيه غير الجمع والتأليف. وإن أخفقت فيه فذلك مبلغ علمي واجتهادي، أديته بعد تعب،لا أملك أكبر منه، وبغيتي حسن التوجيه والإرشاد وتقويم الأود، وتصحيح الأغلاظ، فالنقد العلمي الحق إنشاء وبناء، والمدح والإطراء في نظري ابعاد لطالي العلم من أمثالي عن العمل والتقدم،وسبب يؤدي إلى الخيلاء والضلال، وفوق كل ذي علم عليم.
جواد علي
الفصل الأول
تحديد لفظة العرب
نطلق لفظة "العرب" اليوم على سكان بلاد واسعة، يكتبون ويؤلفون وينشرون ويخاطبون بالإذاعة و "التلفزيون" بلغة واحدة، نقول لها لغة العرب أو لغة الضاد أو لغة القرآن الكريم. وإن تكلموا وتفاهموا وتعاملوا فيما بينهم وفي حياتهم اليومية أدوا ذلك بلهجات محلية متبابنة، ذلك لأن تلك اللهجات إذا أرجعت رجعت إلى أصل واحد هو اللسان العربي المذكور، وإلى ألسنة قبائل عربية قديمة، وإلى ألفاظ أعجمية دخلت تلك اللهجات بعوامل عديدة لا يدخل البحث في بيان أسبابها في نطاق هذا البحث.

admin
12-25-2010, 12:26 PM
و نحن إذ نطلق لفظة "عرب" و "العرب" على سكان البلاد العربية، فإنما نطلقها إطلاقا عاما على البدو وعلى الحضر، لا نفرق بين طائفة من الطائفتين، ولا بين بلد وبلد. نطلقها بمعنى جنسية وقومية وعلم على رس له خصائص وسمات وعلامات وتفكر يربط الحاضرين بالماضين كما يربط الماضي بالحاضر. و اللفظة بهذا المعنى وبهذا الشكل، مصطلح يرجع إلى ما قبل الإسلام،ولكنه لا يرتقي تاريخيا إلى ما قبل الميلاد، بل لا يرتقي عن الإسلام إلى عهد جدا بعيد. فأنت إذا رجعت إلى القرآن الكريم، والى حديث رسول الله، وجدت للفظة مدلولا يختلف عن مدلولها في النصوص الجاهلية التي عثر عليها حتى الآن، أو في التوراة والإنجيل والتلمود وبقية كتب اليهود والنصارى وما بقي من مؤلفات يونانية ولاتينية تعود إلى ما قبل الإسلام. فهي في هذه أعراب أهل وبر، أي طائفة خاصة من العرب. أما في القرآن الكريم و في الحديث النبوي، وفي الشعر المعاصر للرسول، فإنها علم على الطائفتين واسم للسان الذي نزل به القرآن الكريم، لسان أهل الحضر ولسان أهل الوبر على حد سواء. )ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر. لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين(، )ولو جعلناه، قرآنا أعجميا لقالوا: لولا فصلت آياته أعجمي وعربي. قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد(.

(1/11)


--------------------------------------------------------------------------------

وإذا ما سألتني عن معنى لفظة "عرب" عند علماء العربية، فإني أقول لك: إن لعلماء العربية آراء في المعنى، تجدها مسطورة في كتب اللغة وفي المعجمات. ولكنها كلها من نوع البحوث المألوفة المبنية على أقوال وآراء لا تعتمد على نصوص جاهلية ولا على دراسات عميقة مقارنة، وضعت على الحدس والتخمين، وبعد حيرة شديدة في إيجاد تعليل مقبول فقالوا ما قالوه مما هو مذكور في الموارد اللغوية المعروفة، وفي طليعتها المعجمات وكتب الأدب. وكل آرائهم في تفسير اللفظة وفي محاولة أيجاد أصلها ومعانيها، هو إسلامي، دون في الإسلام.
وترى علماء العربية حيارى في تعيين أول من نطق بالعربية، فبينما يذهبون إلى إن "يعرب" كان أول من أعرب في لسانه وتكلم بهذا اللسان العربي، ثم يقولون: ولذلك عرف هذا اللسان باللسان العربي، تراهم يجعلون العربية لسان أهل الجنة ولسان آدم، أي انهم يرجعون عهده إلى مبدأ الخليقة، وقد كانت الخليقة قبل خلق "يعرب" بالطبع بزمان طويل. ثم تراهم يقولون: أول من تكلم بالعربية ونسي لسان أبيه إسماعيل. ألهم إسماعيل هذا اللسان،العربي إلهاما. وكان أول من فتق لسانه بالعربية المبينة، وهو ابن أربع عشرة سنة. و إسماعيل هو جد العرب المستعربة على حد قولهم.
والقائلون إن "يعرب" هو أول من أعرب في لسانه، وانه أول من نطق بالعربية، وان العربية إنما سميت به، فأخذت من اسمه، إنما هم القحطانيون. وهم يأتون بمختلف الروايات والأقوال لإثبات أن القحطانيين هم أول العرب، وأن لسانهم هو لسان العرب الأول، ومنهم تعلم العدنانيون العربية، ويأتون بشاهد من شعر "حسان بن ثابت" على إثبات ذلك، يقولون: إنه قاله، وان قوله هذا هو برهان على إن منشأ اللغة العربية هو من اليمن. يقولون إنه قال: تعلمتم من منطق الشيخ يعرب أبينا، فصرتم معربين ذوي نفر
و كنتم قديما ما بكم غير عجمة كلام، و كنتم كالبهائم في القفر

(1/12)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم يكن يخطر ببال هؤلاء إن سكان اليمن قبل الإسلام كانوا ينطقون بلهجات تختلف عن لهجة القرآن الكريم، وأن من سيأتى بعدهم سيكتشف سر "المسند"، ويتمكن بذلك من قراءة نصوصه والتعرف على لغته، وأن عربيته هي عربية تختلف عن هذه العربية التي ندون بها، حتى ذهب الأمر بعلماء العربية في الإسلام بالطبع إلى إخراج الحميرية واللهجات العربية الجنوبية الأخرى من العربية، وقصر العربية على العربية التي نزل بها القرآن الكريم، وعلى ما تفرع منها من لهجات كما سأتحدث عن ذلك فيما بعد. وهو رأي يمثل رأي العدنانيين خصوم القحطانيين.
والقائلون إن يعرب هو جد العربية وموجدها، عاجزون عن التوفيق بن رأيهم هذا ورأيهم في إن العربية قديمة قدم العالم، وأنها لغة آدم في الجنة، ثم هم عاجزون أيضا عن بيان كيف كان لسان أجداد "يعرب"، وكيف اهتدى "يعرب" إلى استنباطه لهذه اللغة العربية، وكيف تمكن من إيجاده وحده لها من غير مؤازر ولا معين? إلى غير ذلك من أسئلة لم يكن يفطن لها أهل الأخبار في ذلك الزمن. وللإخباريين بعد كلام في هذا الموضوع طويل، الأشهر منه القولان المذكوران، ووفق البعض بينهما بأن قالوا: إن "يعرب" أول من نطق بمنطق العربية، و إسماعيل هو أول من نطق بالعربية الخالصة الحجازية التي أنزل عليها القرآن.

(1/13)


--------------------------------------------------------------------------------

أما المستشرقون وعلماء التوراة المحدثون، فقد تتبعوا تأريخ الكلمة، وتتبعوا معناها في اللغات السامية،وبحثوا عنها في الكتابات الجاهلية وفي كتابات الآشوريين والبابليين واليونان والرومان والعبرانيين وغيرهم، فوجدوا إن أقدم نص وردت فيه لفظة "عرب" هو نص آشوري من أيام الملك "شلمنصر الثالث" "الثاني?" ملك آشور. وقد تبين لهم إن لفظة "عرب" لم تكن تعني عند الآشوريين ما تعنيه عندنا من معنى، بل كانوا يقصدون بها بداوة وإمارة "مشيخة" كانا تحكم في البادية المتاخمة للحدود الآشورية، كان حكمها يتوسع ويتقلص في البادية تبعا للظروف السياسية ولقوة شخصية الأمير، وكان يحكمها أمير يلقب نفسه بلقب "ملك" يقال له "جنديبو" أي "جندب" وكانت صلاته سيئة بالآشوريين. ولما كانت الكتابة الآشورية لا تحرك المقاطع، صعب على العلماء ضبط الكلمة، فاختلفوا في كيفية المنطق بها، فقرئت: "Aribi" و "Arubu" و "Aribu" و "Arub" و "Arai" و "Urbi" و "Arbi" إلى غير ذلك من قراءات. والظاهر إن صيغة "Urabi" كانا من الصيغ القليلة الاستعمال، ويغلب على الظن إنها استعملت في زمن متأخر، وأنها كانت بمعنى "أعراب" على نحو ما يقصد من كلمي "عربي" و "أعربي" في لهجة أهل العراق لهذا العهد. وهي تقابل كلمة "عرب" التي هي من الكلمات المتأخرة كذلك على رأي بعض المستشرقين. وعلى كل حال فإن الآشوريين كانوا يقصدون بكلمة "عربي" على اختلاف أشكالها بداوة ومشيخة كانت تحكم في أيامهم البادية تمييزا لها عن قبائل أخرى كانت مستقرة في تخوم البادية.

(1/14)


--------------------------------------------------------------------------------

و وردت في الكتابات البابلية جملة "ماتواربي" "Matu A-Ra-bi" ، "Matu Arabaai" و معنى "ماتو" "متو" أرض، فيكون المعنى "أرض عربي" ، أي "أرض العرب" ، أو "بلاد العرب" ، أو "العربية" ، أو " بلاد الأعراب" بتعبير اصدق و أصح. إذ قصد بها البادية، و كانت تحفل بالأعراب. و جاءت في كتابة "بهستون" "بيستون" "Behistun" لدارا الكبير "داريوس" لفظة "ارباية" "عرباية" "Arabaya" و ذلك في النص الفارسي المكتوب باللغة "الأخمينية" ، و لفظة "Arpaya" "M Ar payah" في النص المكتوب بلهجة أهل السوس "Susian" "Susiana" و هي اللهجة العيلامية لغة عيلام.
ومراد البابليين أو الآشوريين أو الفرس من "العربية" أو "بلاد العرب"، البادية التي في غرب نهر الفرات الممتدة إلى تخوم بلاد الشام.
وقد ذكرت "العربية" بعد آشور وبابل وقبل مصر في نص "دارا" المذكور، فحمل ذلك بعض العلماء على إدخال طور سيناء في جملة هذه الأرضين. وقد عاشت قبائل عربية عديدة في منطقة سيناء قبل الميلاد.
و بهذا المعنى أي معنى البداوة والأعرابية والجفاف والقفر، وردت اللفظة في العبرانية وفي لغات سامية أخرى. ويدل ذلك عذ أن لفظة "عرب" في تلك اللغات المتقاربة هو البداوة وحياة البادية، أي بمعنى "أعراب". وإذا راجعنا المواضع التي وردت فيها كلمة "عربي" و "عرب" في التوراة، نجدها بهذا المعنى تماما. ففي كل المواضع التي وردت فيها في سفر "أشعياء" "Isaiah" مثلا نرى أنها استعملت بمعنى بداوة و أعرابية، كالذي جاء فيه: "ولا يخيم هناك أعرابي" و "وحي من جهة بلاد العرب في الوعر في بلاد العرب تبيتين يا قوافل الددانيين" . فقصد بلفظة "عرب" في هذه الآية الأخيرة البادية موطن العزلة والوحشة والخطر، ولم يقصد بها قومية وعلية لمجلس معين بالمعنى المعروف المفهوم.

admin
12-25-2010, 12:27 PM
ولم يقصد بجملة "بلاد العرب" في الآية المذكورة والتي هي ترجمة "مسا ه -عراب" " Massa ha-Arab"، المعنى المفهوم من "بلاد العرب" في الزمن الحاضر أو في صدر الإسلام، وإنما المراد بها للبادية، التي بين بلاد الشام والعراق وهي موطن الأعراب.
وبهذا المعنى أيضا وردت في "أرميا"، ففي الاية "وكل ملوك العرب" الواردة في الإصحاح الخامس والعشرين، تعني لفظة "العرب" "الأعرابي"، أي "عرب البادية". والمراد من "وكل ملوك العرب" و " كل رؤساء العرب" و "مشايخهم"، رؤساء قبائل ومشايخ، لا ملوك مدن وحكومات. وأما الآية: "في الطرقات جلست لهم كأعرابي في البرية"، فإنها واضحة، وهي من الآيات الواردة في "أرميا". والمراد بها أعرابي من البادية،لا حضري من أهل الحاضرة. فالمفهوم اذن من لفظة "عرب" في اصحاحات "أرميا" إنما هو البداوة والبادية والأعرابية ليس غير.
ومما يؤيد هذا الرأي ورود "ها عرابة ha'Arabah " في العبر انية، ويراد: بها ما يقال له: "وادي العربة"، أي الوادي الممتد من البحر الميت أو من بحر الجليل إلى خليج العقبة. وتعتي لفظة "برابة" في العبرانية الجفاف وحافة الصحراء وأرض محروقة، أي معاني ذات صلة بالبداوة والبادية. وقد أقامت في هذا الوادي قبائل بدوية شملتها لفظة "عرب". وفي تقارب لفظة "عرب" و "عرابة"، وتقارب معناهما، دلالة على الأصل المشترك للفظتين. ويعد وادي "العربة" وكذلك "طور سيناء" في بلاد العرب. و قصد ب "العربية" برية سورية في "رسالة القديس بولس إلى أهل غلاطة".

(1/16)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عرف علماء العربية هذه الصلة بين كلمة "عرب" و "عرابة" أو "عربة"، فقالوا: "إنهم سموا عربا باسم بلدهم العربات. وقال إسحاق بن الفرج: عربة باحة العرب، وباحة دار أبي الفصاحة إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام". وقالوا:"وأقامت قريش بعربة فتنخت بها، و أنتشر سائر العرب في جزيرتها، فنسبوا كلهم إلى عربة، لأن أباهم اسماعيل، صلى الله عليه وسلم، نشأ وربى أولاده فيها فكثروا. فلما لم تحتملهم البلاد، انتشروا، وأقامت قريش بها. وقد ذهب بعضهم إلى أن عربة من تهامة، وهذا لا يخفي على كل حال وجود الصلة بين الكلمتين.
ورواية هؤلاء العلماء مأخوذة من التوارة، أخذوها من أهل الكتاب، ولا سيما من اليهود، وذلك باتصال المسلمين بهم: واستفسارهم منهم عن أمور عديدة: وردت في التوراة، ولا سيما في الأمور التي وردت مجملا في القرآن الكريم والأمور التي تخص تأريخ العرب وصلاتهم بأهل الكتاب.
ويرى بعض علماء التوراة أن كلمة "عرب" إنما شاعت وانتشرت عند العبرانيين بعد ضعف "الاشماعيليين" "الاسماعيليين" وتدهورهم وتغلب الأعراب عليهم حتى صارت اللفظة مرادفة ضدهم لكلمة "اشماعيليين". ثم تغلبت عليهم، فضارت تشملهم، مع أن "الاشماعيليين" كانوا أعرابا كذلك، أي قبائل بدوية تتنقل من مكان إلى مكان، طلبا للمرعى ولماء. وكانا تسكن أيضا في المناطق التي سكنها الأعراب، أي أهل البادية. ويرى أولئك العلماء إن كلمة "عرب" لفظة متأخرة، اقتبسها العبرانيون من الآشوريين والبابليين، بدليل ورودها في النصوص الآشورية والبابلية، وهي نصوص يعود عهدها إلى ما قبل التوراة. ولشيوعها بعد لفظة "اشماعيليين"، ولأدائها المعنى ذاته المراد من اللفظة، ربط بينها وبين لفظة "اشماعيليين" ، وصارت نسبا، فصير جد هؤلاء العرب "إشماعيل"، وعدوا من أبناء إسماعيل.

(1/17)


--------------------------------------------------------------------------------

هذا ما يخص التوراة، أما "التلمود"، فقد قصدت بلفظة "عرب" و "عربيم" "Arbim" "عربئيم" "Arbi'im" الأعراب كذلك، أي المعنى نفسه الذي ورد في الأسفار القديمة، وجعلت لفظة "عربي" مرادفة لكلمة "إسماعيلي" في بعض المواضع.
وقبل أن أنتقل من البحث في مدلول لفظة "عرب" ضد العبرانين إلى البحث في مدلولها عند اليونان، أود أن أشر إلى أن العبرانيين كانوا إذا تحدثوا عن أهل المدر، أي الحضر ذكروهم بأسمائهم. وفي سلاسل النسب الواردة في التوراة، أمثلة كثيرة لهذا النوع، سوف أتحدث عنها.
وأول من ذكر العرب من اليونان هو "أسكيلوس، أسخيلوس" "أشيلس" "أخيلوس" "Aeschylus""، "525 - 456 قبل الميلاد" من أهل الأخبار منهم، ذكرهم في كلامه على جيش "أحشويرش" "Xeres"، وقال: انه كان في جيشه ضابط عربي من الرؤساء مشهور. ثم تلاه "هيرودوتس" شيخ المؤرخين "نحو 484 - 425 قبل الميلاد"، فتحدث في مواضيع من ناريخه عن العرب حديثا يظهر منه انه كان على شيء من العلم بهم. وقد أطلق لفظة "Arabae" على بلاد العرب، البادية وجزيرة العرب و الأرضين الواقعة إلى الشرق من نهر النيل. فادخل "طور سيناء" وما بعدها إلى ضفاف النيل في بلاد العرب.
فلفظة "العربية" "Arabea" ضد اليونان والرومان، هي في معنى "بلاد العرب". وقد سملت جزيرة العرب وبادية الشام. وسكانها هم عرب على اختلاف لغاتهم ولهجاتهم، على سبل التغليب، لاعتقادهم إن البداوة كانت هي الغالبة على هذه الأرضين، فأطلقوها من ثم على الأرضين المذكورة.

(1/18)


--------------------------------------------------------------------------------

وتدل المعلومات الواردة في كتب اليونان و اللاتين المؤلفة بعد "هيرودوتس" على تحسن وتقدم في معارفهم عن بلاد العرب، وعلى أن حدودها قد توسعت في مداركهم فشملت البادية وجزيرة العرب وطور سيناء في أغلب الأحيان،فصارت لفظة "Arabae" عندهم علما على الأرضين المأهولة بالعرب والتي تتغلب عليها الطبيعة الصحراوية، و صارت كلمة "عربي" عندهم علما لشخص المقيم في تلك الأرضين، من بدو ومن حضر، إلا أن فكرتهم عن حضر بلاد العرب لم تكن ترتفع عن فكرتهم عن البدوي، بمعنى انهم كانوا يتصورون أن العرب هم أعراب..
ووردت في جغرافية "سترابون" كلمة "أرمبي" "Erembi"، ومعناها اللغوي الدخول في الأرض أو السكنى في حفر الأرض وكهوفها، وقد أشار إلى غموض هذه الكلمة وما يقصد بها، أيقصد بها أهل "طرغلوديته" "Troglodytea" أي "سكان الكهوف" أم العرب? ولكنه ذكر أن هناك من كان يريد بها العرب، وإنها كانت تعني هذا المعنى عند بعضهم في الأيام المتقدمة، ومن الجائز أن تكون تحريفا لكلمة "Arabi" فأصبحت بهذا الشكل.
أما الإرميون، فلم يختلفوا عن الآشوريين والبابليين في مفهوم "بلاد العرب"، أي ما يسمى ب "بادية الشام" وبادية السماوة. وهي البادية الواسعة الممتدة من نهر الفرات إلى تخوم الشام. وقد أطلقوا على القسم الشرقي من هذه البادية، وهو القسم الخاضع لنفوذ الفرس، امم "بيت عرباية" "Beth 'Arb'aya" "باعرابية" و "Ba 'Arabaya" ،ومعناها "أرض العرب". وقد استعملت هذه التسمية في المؤلفات اليونانية المتأخرة. و في هذا الاستعمال أيضا معنى الأعرابية و السكنى في البادية.

(1/19)


--------------------------------------------------------------------------------

و وردت لفظة "عرب" في عدد كبير من كتابات "الحضر". و وردت مثلا في النص الذي و سم ب "79" حيث جاء في السطرين التاسع و العاشر "وبجندا دعرب" ، "و بجنود العرب". و في السطر الرابع عشر: "و بحطر و عرب" ، أي "و بالحضر و بالعرب". و وردت في النص: "193": "ملكادي عرب" ، أي "ملك العرب" و في النص "194" و في نصوص أخرى. و قد وردت اللفظة في كل هذه النصوص بمعنى "أعراب" ، و لم ترد علما على قوم و جنس، أي بالمعنى المفهوم من اللفظة في الوقت الحاضر.
هذا و ليست لدينا كتابات جاهلية من النوع الذي يقول له المستشرقون "كتابات عربية شمالية" ، فيها أسم "العرب"، غير نص واحد، هو النص الذي يعود إلى "ارء القيس بن عمرو". و قد ورد فيه: "مر القيس بر عمرو، ملك العربكله، ذو استرالتج و ملك الأسدين و نزروا و ملوكهم و هرب مذحجو...". و لو و رد لفظة "العرب" في النص الذي يعود عهده إلى سنة "328 م" شأن كبير "غير أننا لا نستطيع إن نقول: إن لفظة "العرب" هنا، يراد بها العرب بدوا و حضرا، أي يراد بها العلم على قومية، بل يظهر من النص بوضوح و جلاء انه قصد "الأعراب"، أي القبائل التي كانت تقطن البادية في تلك الأيام.

(1/20)

admin
12-25-2010, 12:28 PM
أما النصوص العربية الجنوبية، فقد وردت فيها لفظة "اعرب" بمعنى "أعراب" و لم يقصد بها قومية، أي علم لهذا الجنس المعروف، الذي يشمل كل سكان بلاد العرب من بدو و من حضر، فورد: "و اعرب ملك حضرموت" أي "و أعراب ملك حضرموت"، و ورد: " واعر ملك سبا" ، أي "و أعراب ملك سبأ". و كالذي ورد في نص "أبرهة"، نائب ملك الحبشة على اليمن. ففي كل هذه المواضع و مواضع أخرى، وردت بمعنى أعراب. أما أهل المدن و المتحضرون، فكانوا يعرفون بمدنهم أو بقبائلهم، و كانت مستقرة في الغالب. و لهذا قيل "سبأ" و "همدان" و "حمير" و قبائل أخرى، بمعنى إنها قبائل مستقرة متحضرة، تمتاز عن القبائل المتنقلة المسماة "اعرب" في النصوص العربية الجنوبية، مما يدل على أن لفظة "عرب" و "العرب" لم تكن تؤدي معنى الجنس والقومية وذلك في الكتابات العربية الجنوبية المدونة والواصلة إلينا إلى قبيل الإسلام بقليل "449 م" "542م". والرأي عندي إن العرب الجنوبيين لم يفههوا هذا المعنى من اللفظة الا بعد دخولهم في الإسلام، ووقوفهم على القرآن الكريم، وتكلمهم باللغة التي نزل بها، وذلك بفضل الإسلام بالطبع. وقد وردت لفظ "عرب" في النصوص علما لأشخاص.
وقد عرف البدو، أي سكان البادية، بالأعراب في عربية القرآن الكريم. وقد ذكروا في مواضع من كتاب الله: وقد نعتوا فيه بعوت سيئة، تدل على أثر خلق البادية فيهم. وقد ذكر بعض العلماء ان الأعراب بادية العرب، وانهم سكان البادية.

(1/21)


--------------------------------------------------------------------------------

والنص الوحيد الوحيد الذي وردت فيه لفظة "العرب" علما على العرب جميعا من حضر وأعراب، ونعت فيه لسانهم باللسان العربي، هو القرآن الكريم. وقد ذهب "د. ه. ملر" إلى أن القرآن الكريم هو الذي خصص الكلمة وجعلها علما لقومية تشمل كل العرب. وهو يشك في صحة ورود كلمة "عرب" علما لقومية في الشعر الجاهلي،كالذي ورد في شعر لامرئ القيس، وفي الأخبار المدونة في كتب الأدب على ألسنة بعض الجاهليين. ورأي "ملر" هذا، رأي ضعيف لا يستند إلى دليل، إذ كيف تعقل مخاطبة القرآن قوما بهذا المعنى لو لم يكن لهم علم سابق به? وفي الآيات دلالة واضحة لي أن القوم كان لهم إدراك لهذا المعنى قبل الإسلام، وانهم كانوا ينعتون لسانهم باللسان العربي، وانهم كانوا يقولون للألسنة الأخرى ألسنة أعجمية: )أ أعجمي وعربي? قل: هو للذين آمنوا هدى وشفاء(. )وكذلك أنزلناه حكما عربيا(. )وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا(. )لسان الذي يلحدون إليه أعجمي، وهذا لسان عربي مبين(. ففي هذه الآيات وآيات أخرى غيرها دلالة على أن الجاهليين كانوا يطلقون على لسانهم لسانا عربيا، وفي ذلك دليل على وجود الحس بالقومية قبيل الإسلام.
ونحن لا نزال. نميز الأعراب عن الحضر، ونعتدهم طبقة خاصة تختلف عن الحضر، فنطلق عليهم لفظة: "عرب" في معنى بدو وأعراب، أي بالمعنى الأصلي القديم، ونرى ان عشيرة "الرولة" وعشائر أخرى تقسم سكان الجزيرة إلى قسمين: حضر و "عرب". وتقصد بالعرب أصحاب الخيام أي المتنقلين. وتقسم العرب، أي البدو إلى "عرب القبيلة"، و "عرب الضاحية"، و هم العرب المقيمون على حافات البوادي والأرياف، أي في معنى "عرب الضاحية" و "عرب الضواحي" في اصطلاح القدامى.

(1/22)


--------------------------------------------------------------------------------

ثم تقسم الحضر وتسميهم أيضا ب "أهل الطين" إلى "قارين"، و الواحد "قروني"،وهم المستقرون الذين لهم أماكن ثابتة ينزلونها ابدأ، وإلى "راعية" والمفرد راع، وهم أصحاب أغنام وشبه حضر، ويقال لهم "شواية" و "شيان" و "شاوية" و "رحم الديرة" بحسب لغات القبائل.
وأشبه مصطلح من المصطلحات القديمة بمصطلح "شواية" و "شاوية"، هو "الأرحاء"، وهي القبائل التي لا تنتجع ولا تبرح مكانها، إلا أن ينتجع بعضها في البرحاء وعام الجدب.
وخلاصة ما تقدم إن لفظة "ع رب"، "عرب"، هي بمعنى التبدي و الأعرابية في كل اللغات السامية، ولم تكن نفهم إلا بهذا المعنى في أقدم النصوص التاريخية التي وصلت إلينا، وهي النصوص الآشورية. وقد عنت بها البدو عامة، مهما كان سيدهم أو رئيسهم. وبهذا المعنى استعملت عند غيرهم. ولما توسعت مدارك الأعاجم وزاد اتصالهم واحتكاكهم بالعرب وبجزيرة العرب، توسعوا في استعمال اللفظة، حتى صارت تشمل أكثر العرب على اعتبار انهم أهل بادية وان حياتهم حياة أعراب. ومن هنا غلبت عليهم وعلى بلادهم، فصارت علمية عند أولئك ألأعاجم على بلاد العرب وعلى سكانها، وأطلق لذلك كتبة اللاتين واليونان على بلاد العرب لفظة "Arabae" "Arabia" أي "العربية" بمعنى بلاد العرب.

(1/23)


--------------------------------------------------------------------------------

لقد أوقعنا هذا الاستعمال في جهل بأحوال كثير من الشعوب والقبائل،ذكرت بأسمائها دون أن يشار إلى جنسها. فحرنا في أمرها، ولم نتمكن من إدخالها في جملة العرب، لأن الموارد التي نملكها اليوم لم تنص على أصلها. فلم تكن من عادتها، ولم يكن في مصطلح ذلك اليوم كما قلت اطلاق لفظة "عرب" إلا على الأعراب عامة، وذلك عند جهل اسم القبيلة، وكانت تلك القبيلة بادية غير مستقرة،وقد رأينا إن العرب أنفسهم لم يكونوا يسمون أنفسهم قبل الميلاد، إلا بأسمائهم، ولولا وجودهم في جزيرة العرب ولولا عثورنا على كتابات أو موارد أشارت اليهم، لكان حالهم حال من ذكرنا، أي لما تمكنا من إدخالهم في العرب. ونحن لا نستطيع أن نفعل شيئا تجاه القبائل المذكورة، وليس لنا إلا الانتظار، فلعل الزمن يبعث نصا يكشف عن حقيقة بعض تلك القبائل.
هذا ويلاحظ أن عددا من القبائل العربية الضاربة في الشمال والساكنة في العراق وفي بلاد الشام، تأثرت بلغة بني إرم، فكتبت بها، كما فعل غيرهم من الناس الساكنين في هذه اللأرضين، مع انهم لم يكونوا من بني إرم. ولهذا حسبوا على بني إرم، مع أن أصلهم من جنس آخر. وفي ضمن هؤلاء قبائل عربية عديدة، ضاع أصلها، لأنها تثقفت بثقافة بني إرم، فظن لذلك إنها منهم.

(1/24)


--------------------------------------------------------------------------------

الآن وقد انتهيت من تحديد معنى "عرب" وتطورها إلى قبيل الإسلام، أرى لزاما علي أن أتحدث عن ألفاظ أخرى استعملت بمعنى "عرب" في عهد من العهود، وعند بعض، الشعوب. فقد استعمل اليونان كلمة "Saraceni" و "Saracenes"، واستعملها اللاتين على هذه الصورة "Saracenus"، وذلك في معنى "العرب" وأطلقوها على قبائل عربية كانت تقيم في بادية الشام وفي طور سيناء، وفي الصحراء المتصلة بأدوم. وقد توسع مدلولها بعد الميلاد، ولا سيما في القرن الرابع والخامس والسادس، فأطلقت على العرب عامة، حتى أن كتبة الكنيسة ومؤرخي هذا.العصر قلما استعملوا كلمة "عرب" في كتبهم، مستعيضين عنها بكلمة "Saraceni". وأقدم من ذكرها هو "ديوسقوريدس "Dioscurides of Anazabos" الذي عاش في القرن الأول للميلاد. وشاع استعمالها في القرون الوسطى حيث أطلقها النصارى على جميع العرب، و أحيانا على جميع المسلمين. و نجد الناس يستعملونها في الانكليزية في موضع "عرب" حتى اليوم.
و قد أطلق بعض المؤرخين من أمثال "يوسبيوس" "أويسبيوس" "Eusebius" و "هيرونيموس" "Hieronymus" هذه اللفظة على "الاشماعيلين" الذين كانوا يعيشون في البراري في "قادش" في برية "فاران"، أو مدين حيث جبل "حوريب". و قد عرفت أيضا ب "الهاجرين" "Hagerene" ثم دعيت ب "Saracenes".

(1/25)


--------------------------------------------------------------------------------

و لم يتحدث أحد من الكنيسة اليونان و الرومان و السريان عن أصل لفظة "Saraceni" "Sarakenoi". و لم يلتفت العلماء إلى البحث في أصل التسمية إلا بعد النهضة العلمية الاخيرة، و لذلك اختلفت آراؤهم في التعليل، فزعم بعضهم انه مركب من "سارة" زوج إبراهيم، ولفظ آخر ربما هو "قين"، فيكون المعنى "**** سارة". وقال آخرون: أنه مشتق من "سرق"، فيكون المواد من كلمة "Saraceni" "سراكين" "السراقين" أو "السارقين" إشارة إلى غزوهم وكثرة سطوهم. أو من "Saraka" بمعنى "Sherk" -أي "شرق"، ويراد بذلك الأرض التي تقع إلى شرق النبط. وقال "ونكلر" أنه من لفظة "شرقو"، وتعني "سكان الصحراء" أو "أولاد الصحراء". استنتج رأيه هذا من ورود اللفظة في نص من ايام "سرجون". ويرى آخرون انه تصحيف "شرقيين"، أو "شارق" على تحو ما يفههلى من كلمة "قدموني" "Qadmoni" في التوراة، بمعنى شرقي، أو أبناء الشرق "Bene Kedem"" "Bene Qedhem". وكانت تطلق خاصة على القبائل التي رجع النسابون العبرانيون نسبها إلى "قطورة".
وقد مال إلى هذا الرأي الأخير اكثر من بحث في هذه التسمية من المستشرقين، فعندهم ان "سرسين" أو "سركين" أو "Sarakenoi" من "شرق"، وان "Bene Kedem" و "Qadmooni" العبرانيتين هما ترجمتان للفظة "Saraceni". ولهذا يرجحون هذا الرأي ويأخذون به.
والقائلون ان "سارقين" من أصل لفظتين "سارة"، زوج إبراهيم، ومن "قين" بمعنى "عبد" وان المعنى هو "**** سارة"، متأثرون برواية التوراة عن سارة وبالشروح الواردة عنها. وليست لأصحاب هذا الرأي أية أدلة أخرى غير هذا التشابه اللفظي الذي نلاحظه بين "سرسين" وبين "سارقين"، وهو من قبيل المصادفة والتلاعب بالألفاظ ولا شك، وغير هذه القصة الواردة في التوراة: قصة "سارة" التي لا علاقة لها بالسرسين.

(1/26)

admin
12-25-2010, 12:30 PM
هذا وما زال أهل العراق يطلقون لفظة "شروك" و "شروكية" على جماعة من العرب هم من سكان "لواء العمارة" والأهوار في الغالب، وينظرون اليهم نظرة خاصة، ولا شك عندي ان لهذه التسمية علاقة بتلث الت!سمية القديمة. ويستعمل اهل العراق في الوقت الحاضر لفظة اخرى، هي "الشرجية"، أي "الشرقية"، ويقصدون بها جهة المشرق. وتقابل لفظة "بني قديم" في العبرانية،وهي من بقايا المصطلحات العراقية القديمة التي تعبر عن مصطلح "شركوني" و "بني قديم".
هذا وقد عرف العرب ان الروم يسمونهم "ساراقينوس"، فقد ذكر "المسعودي" ان الروم إلى هذا الوقت "أي إلى وقته" تسمي العرب "ساراقينوس". وذكر خبرا طريفا عن ملك الروم "نقفور" المعاصر ل "هارون الرشيد". فقد زعم انه "أنكر على الروم تسميتهم العرب ساراقينوس. تفسير ذلك **** ساره، طعنا منهم على هاجر وابنها إسماعيل، وانها كانت امة لسارة، وقال: تسميتهم **** سارة، كذب.
وقد كانت منازل "القدمونيين"، "هقدمني"، "هاقدموني" "Kadmonites"، في المناطق الشرقية لفلسطين، أي في بادية الشام. ولما كان "قيدما" "kedemeh" هو أحد أبناء إسماعيل في اصطلاح "التوراة"، فيكون أبناء "قيدما" من العرب الاسماعيليين. وقد ذكر في موضع من التوراة انهم كانوا. يقطنون المناطق الشرقية لفلسطين قرب "البحر الميت" المعروف في العبرانية ب "هايم هقدموني"، أي "البحر القدموني" "البحر الشرقي". وقد كان "القدمونيون"، أي "بنو قديم" أعرابا يقطنون في بادية الشام. وأشباه أعراب، أي رعاة وأشباه حضريين، واللفظة لا تعني قبيلة واحدة معينة، أي علمية، ولا تعني قبائل معنية، وإنما هي لفظة عامة أطلقت على الساكنين في الأماكن الشرقية بالنسبة إلى العبرانيين.

(1/27)


--------------------------------------------------------------------------------

ونجد في الكتب اليونانية لفظة لها علاقة بطائفة من العرب،هي "Senitae"، وقد أطلقت خاصة على أعراب بادية الشام. وقصد بها الأعراب سكان الخيام، أي "أهل الوبر" في اصطلاح العرب. وقد ذهب بعض العلماء إلى أنها من "الخيمة" التي هي منزل الأعرابي، لأن الخيمة هي "Skene" "skynai" في اليونانية. فالمعنى إذن "سكان الخيام".
وقد ذكر "سترابون" إن ال "Scenitae" كانوا نازلين سلى حدود "سورية" الشرقية، كما ذكر إن منهم من كان ينزل شمال "العربية السعيدة" وهم سكان خيام. وقد فرق "سترابون" بينهم وبين البدو تفريقا ظاهرا، وميزهم عن غيرهم من الأعراب بسكناهم في الخيام. وقال عنهم في موضع آخر: انهم يمثلون بصورة عامة "بدو" العراق. وانهم يعتنون بتربية الإبل. وقد ذكرهم أيضا في أثناء كلامه على ساحل "Maranitae" فقال: انه مأهول بالفلاحين وبال "Sceniae" وأراد بهم الأعراب الذين لا يسكنون إلا الخيام ويعيشون على تربية الإبل، وقد ذكر انهم كانوا قبائل و مشيخات.
وقد ذكرهم "بلينيوس" كذلك، فدعاهم ب "Scenitae". وقد كانوا يقيمون في البادية. وقد حاربهم "سبتيموس سفيروس"، وسأتحدث عن ذلك فيما بعد، كما أشار غيره إليهم. والظاهر إن لفظة "Nomas" "Nomadas" التي تعتي "البدو" لا تؤدي معنى "Scenitae" أي سكان الخيام. إذ فرق الكتبة اليونان في مؤلفاتهم بين اللفظتين. وأغلب ظني إن المراد بسكان الخيام الأعراب المستقرون بعض الاستقرار، آي الذين عاشوا في مضارب عيشة شبه مستقرة: لهم خيامهم وإبلهم وحيواناتهم على مقربة من الريف والحضارة. أما ال"نومادس" "Nomades" "Nomadas" فقد كانوا قبائل رحلا يعشيون في البوادي لا يستقرون في مكان واحد، متى وجدوا فرصة اغتنموها فأغاروا على من بجدونهم أمامهم، للعيش على ما يقع في أيديهم. ولذلك كانت ظروف ضعف الحكومات أو انشغالها بالحروب من أحسن الفرص المناسبة لهم. ومن هنا فرق الكتبة اليونان وغيرهم بين الجماعتين.

(1/28)


--------------------------------------------------------------------------------

إننا لا نستطيع إن تحدد الزمان الذي ظهر فيه مصطلح "سكينيته" بين اليونان واللاتين. وقد يكون ترجمة للفظة أخذوها من الفرس أو الآشوريين أو غيرهم من الشعوب. ومصطلح "أهل الوبر"، هو مصطلح يقابل جملة "سكان الخيام" في نظري. أما مصطلح "أهل بادية" أو "أعراب بادية" أو "سكان البوادي"، فانه تعبير يقابل "Nomadas" عند اليونان.
وعرف العرب عند الفرس وعند بني إرم بتسمية أخرى، هي: "Tayo" و "Taiy". أما علماء عهد التلمود من العبرانيين، فأطلقوا عليهم لفظة "ط ي ي ع ا" "طيعا" و "طيايا" "طياية"2 وأصل الكلمتين واحد على ما يظهر، أخذ من لفظة "طيء" اسم القبيلة العربية الشهرة على رأي أكثر العلماء. وكانت تنزل في البادية في الأرضين المتاخمة لحدود امبراطورية الفرس، وكانت من أقوى القبائل العربية في تلك الأيام، ولهذا صار اسمها مرادفا لفظة. "العرب" "عرب". وقد ذكر "برديصان" أسم "Tayae" "Tayoye" مع "Sarakoye".
وقد شاعت هذه التسمية قرب الميلاد، و انتشرت في القرون الأولى للميلاد، كما يتبين ذلك من الموارد السريانية والموارد اليهودية.
واستعملت النصوص "الفهلوية" "Pahlawi " " لفظة "تاجك" "Tadgik" "Tachik" "Tashik" في مقابل "عرب"، كما استعملت الفارسية لفظة "تازي" بهذا المعنى أيضا. واستعمل الأرمن كلمة "تجك" "Tashi" في معنى عرب ومسملين، واستعمل الصينيون لفظة "تشي" "Tashi" لهذه التسمية. وقد عرف سكان آسية الوسطى الذين دخلوا في الإسلام بهذه التسمية، كما أطلق الأتراك على الإيرانيين لفظة "تجك"، من تلك التسمية، حتى صارت لفظة "تجك" تعني "الإيراني" في اللغة التركية.

(1/29)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرى بعض العلماء إن "تاجك" و "تجك" و "تازك"، هي من الأصل المتقدم. من أصل لفظة "طيء"3 ولكلمة "تازي" في الفارسية معنى "صحراوي"، من "تاز" "taz"، بمعنى الأرض المقفرة الخالية،ولذلك نسب بعض الباحثين كلمة "تازي" إلى هذا المعنى، فقالوا إنها أطلقت على العرب لما اشتهر عنهم أنهم صحراويون.
وقد زعم "حمزة الأصفهاني" إن الفرس أطلقوا على العرب لفظة "تاجيان"، نسبة إلى "تاج بن فروان بن سيامك بن مشى بن كيومرث"، وهو جد العرب.
وبعض هذه التسميات المذكورة، لا يزال حيا مستعملا"، ولكنه لم يبلغ مبلغ لفظة "عرب" و "العرب" في الشهرة و الانتشار. فقد صارت لفظة "عرب"، علما على قومية وجنس معلوم، له موطن معلوم، وله لسان خاص به يميزه عن سائر الألسنة ، من بعد الميلاد حتى اليوم. وقد وسع الإسلام رقعة بلاد العرب، كما وسع مجال اللغة العربية، حتى صارت بفضله لغة عالمية خالدة ذات رسالة كبيرة، غمرت بفضل الإسلام بعض اللغات مثل الفارسية والتركية والأردية ولغات أخرى، فزودتها بمادة غزيرة من الألفاظ، دخلت حتى صارت جزءا من تلك اللغات، يظن الجاهل إنها منها لاستعماله لها، ولكنها في الواقع من أصل عربي.

(1/30)


--------------------------------------------------------------------------------

ورب سائل يقول:لقد كان للعرب قبل الإسلام لغات، مثل المعينية والسبئية و الحمرية والصفوية والثمودية واللحيانية وأمثالها، اختلفت عن عربية القرآن الكريم اختلاقا كبيرا، حتى إن أحدنا إذا قرأ نصا مدونا بلغة من تلك اللغات عجز عن فهمه، وظن إذا لم يكن له علم بلغات العرب الجاهليين أنه لغة من لغات البرابرة أو الأعاجم، فإذا سيكون موقفنا من أصحاب هذه اللغات، أنعدهم عربا? والجواب إن هؤلاء، وإن اختلفت لغتهم عن لغتنا وباينت ألسنتهم ألست فإنهم عرب لحما ودما، ولدوا ونشأوا في بلاد العرب، لم يرسوا إليها من الخارج، ولم يكونوا طارئين عليها من أمة غريبة. فهم إذن عرب مثل غيرهم، و لغات العرب هي لغات عربية، وإن اختلفت وتباينت، وما اللغة التي نزل القرآن الكريم إلا لغة واحدة من تلك اللغات، ميزت من غيرها، واكتسبت شرف التقدم والتصدر بفضل الإسلام، وبفضل نزول الكتاب بها، فص "اللغة العربية الفصحى" ولغة العرب أجمعين.
وحكمنا هذا ينطبق على النبط أيضا وعلى من كان على شاكلتهم، عدهم علماء النسب والتاريخ واللغة والأخبار من غير العرب، وأبعدوهم العرب والعربية،فقد كان أولئك وهؤلاء عربا أيضا، مثل عرب اليمن المذكورين ومثل ثمود والصفويين واللحيانيين، لهم لهجاتهم الخاصة ؛ وإن تأثروا بالإرمية وكتبوا بها، فقد تكلم اليهود بالإرمية ونسي كثير منهم العبرانية، ولكن نسيا أولئك اليهود العبرانية، لم يخرجهم مع ذلك عن العبرانيين.

(1/31)

admin
12-25-2010, 12:31 PM
وسترد في بحثنا عن تاريخ الجاهلية أسماء قبائل عربية كثيرة عديدة لا عهد للإسلاميين بها، ولا علم لهم عنها، ذكروا في التوراة وفى كتب اليهود الأخرى وفي الموارد اللاتيننة واليوناينة والكتابات الجاهلية. وإذا جاز لأحد الشك في أصل بعض القبائل المذكورة في كتب اليهود أو في مؤلفات الكتبة "الكلاسيكيين" على اعتبار أفها أخطأت في إدخالها في جماعة العرب، فإن هذا الجواز يسقط حتما بالنسبة إلى القبائل المذكورة في الكتابات الجاهلية، وبالنسبة إلى القبائل الني دونت تلك الكتابات. فهي كتابات عربية، وإن اختلفت عن عربيتنا وباينت لغتها لغتنا، لأنها لهجة قوم عاشوا في بلاد العرب ونبتوا فيها، وقد كان لسانهم هذا اللسان العربي المكتوب.
فسبيلنا في هذا الكتاب إذن، هو البحث في كل العرب: العرب الذين تعارف العلماء الإسلاميون على اعتبارهم عربا، فمنحوهم شهادة العروبة، بحسب طريقتهم في تقسيمهم إلى طبقات، وفي وضعهم في أشجار نسب ومخططات؛ والعرب المجهولين الذين لم يمنحوا هذه الشهادة بل حرموا منها، ونص على إخراجهم من العرب كالنبط على ما ذكرت، والعرب المجهولين كل الجهل الذين لم يكن للمسلمين علم ما بهم، ولم يكن لهم علم حتى بأسمائهم. سنتحدث عن هؤلاء جميعا، عند اعتبار أنهم عرب، جهلهم العرب، لأنم عاشوا قبل الإسلام،أو لأنهم عاشوا في بقاع معزولة نائية، فلم يصل خبرهم إلى الإسلاميين، فلما شرع المسلمون في التدوين، لم يعرفوا عنهم شيئا، فأهملوا، ونسوا مع كثير غيرهم من المنسيين.

(1/32)


--------------------------------------------------------------------------------

سئل أحد علماء العربية عن لسان حمير، فقال: ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا . ولكن علماء العربية لم يتنصلوا من عروبة حمير، ولا من عروبة غيرهم ممن كان يتكلم بلسان آخر مخالف للساننا، بل عدوهم من صميم العرب ومن لبها، ونحن هنا لا نستطيع إن ننكر على الأقوام العربية المنسية عروبتها، لمجرد اختلاف لسانها عن لساننا، ووصول كتابات منها مكتوبة بلغة لا نفهمها. فلغتها هي لغة عربية، ما في ذلك شك ولا شبهة، وإن اختلفت عن لسان يعرب أو أي جد آخر يزعم أهل الأخبار أنه كان أول من أعرب في لسهانه، فتكلم بهذه العربية التي أخذت تسميتها من ذلك الإعراب.
وبعد إن عرفنا معنى لفظة العرب والألفاظ المرادفة لها، أقول إن بلاد العرب أو "العربية"، هي البوادي والفلوات الني أطلق الآشوريون ومن جاء بعدهم على أهلها لفظة "الأعراب"، وعلى باديتهم "Arabeae" و "Arabae" وما شاكل ذلك. وهي جزيرة العرب وامتدادها الذي يكون بادية الشام حتى نهايتها عند اقتراب الفرات من أرض بلاد الشام، فالفرات هو حدها الشرقي. أما حدها الغربي، فارض الحضر في بلاد الشام. وتدخل في العربية بادية فلسطين و "طور سيناء" إلى شواطئ النيل. وقد أطلق بعض الكتاب اليونان على الأرضين الواقعة شرق ال "Araxe"، أي الخابور اسم "Arabia" كما أدخل "هيرودوتس" أرض طور سيناء إلى شواطئ نهر النيل في "العربية" "Arabia"أي بلاد العرب.
أما الآن، وقد عرفنا لفظة عرب، و كيف تحددت، وتطورت، أرى لزاما علينا الدخول في صلب موضوعنا وهو تاريخ العرب، مبتدئين بمقدمة عن الجاهية وعن المواود التي استقينا منها أخبارها،. ثم بمقدمات عن جزيرة العرب وعن صبيعتها وعن الساميين وعقليتهم وعن العقلية العربية، تليها بحوث في أنساب العرب، ثم ندخل بعد ذلك في التاريخ السياسي للعرب، ثم بقية أقسام تاريخ العرب من حضارة ومدنية ودينية واجتماعية ولغوية.

(1/33)


--------------------------------------------------------------------------------

ولما كان الإسلام أعظم حادث نجم على الإطلاق في تاريخ العرب، أخرجهم من بلادهم إلى بلاد أخرى واسعة فسيحة، وميزهم أمة تؤثر تأثيرا خطيرا في حياة الناس.. صار ظهوره نهاية لدور ومبدأ لتاريخ دور، ونهاية أيام عرفت ب "الجاهلية"، وبداية عهد عرف ب "الإسلام" ما زال قائما مستمرا، وسيستمر إلى ما شاء الله، به أرخ تاريخ العرب، فما وقع قبل الإسلام،عرف بتاريخ العرب قبل الإسلام، وما وقع بعده قيل له: تاريخ العرب بعد الإسلام.
وسيكون بحثنا هنا، أعني في هذه الأجزاء المتتالية في القسم الأول من تاريخ العرب، وهو قسم تاريخ العرب قبل الإسلام، أما القسم الثاني، وهو تاريخ العرب في الإسلام، فستأتي أجزاؤه بالتتالي أبضا بعد الانتهاء من هنا للقسم.
وبعد هذه المقدمة، فلنطو صفحات هذأ الفصل، ولننتقل إلى فصل جديد، هو الفصل الثاني من هذه الفصول، فصل: الجاهلية ومصادر التاريخ الجاهلي.
الفصل الثاني
الجاهلية و مصادر التاريخ الجاهلي
اعتاد الناس إن يسموا تاريخ العرب قبل الإسلام "التاريخ الجاهلي"، أو "تأريخ الجاهلية"، وان يذهبوا إلى إن العرب كانت تغلب عليهم البداوة، وانهم كانوا قد تخلفوا عمن حولهم في الحضارة، فعاش أكثرهم عيشة قبائل رحل، في جهل وغفلة، لم تكن لهم صلات بالعالم الخارجي، ولم يكن للعللم الخارجي اتصال بهم، أميون، عبدة أصنام، ليس لهم تاريخ حافل، لذلك عرفت تلك الحقبة التي سبقت الإسلام عندهم ب "الجاهلية".

(1/34)


--------------------------------------------------------------------------------

و "الجاهلية" اصطلاح مستحدث، ظهر بظهور الإسلام، وقد أطلق على حال قبل الإسلام تمييزا وتفريقا لها عن الحالة التي صار عليها العرب بظهور الرسالة، على النحو الذي محدث عندتا وعند غيرنا من الأمم من إطلاق تسميات جديدة للعهود القائمة، والكيانات الموجودة بعد ظهور أحداث تزلزلها وتتمكن منها، وذلك لتمييزها وتفريقها عن العهود التي قد تسميها أيضا بتسميات جديدة. وفي التسميات التي تطلق على العهود السابقة، ما يدل ضمنا على شيء من الازدراء والاستهجان للأوضاع السابقة في غالب الأحيان.
وقد سبق للنصارى إن أطلقوا على العصور التي سبقت المسيح والنصرانية "الجاهلية"، أي "أيام الجاهلية"، أو "زمان الجاهلية"، استهجانا لأمر تلك الأيام، وازدراء بجهل أصحابها لحالة الوثنية التي كانوا عليها، ولجهالة الناس إذ ذاك وارتكابهم الخطايا التي أبعدتهم، في نظر النصرانية، عن العلم، وعن ملكوت الله. "وقد أغش الله عن أزمنة هذا الجهل فيبشر الآن جميع الناس في كل مكان إلى إن يتوبوا".
وقد وردت لفظة "الجاهلية"، في القرآن الكريم،وردت في السور المدنية، دون السور المكية، فدل ذلك على إن ظهورها كان بعد هجرة الرسول إلى المدينة، وان إطلاقها بهذا المعنى كان بعد المجرة، وأن المسلمين استعملوها منذ هذا العهد فما بعده.

(1/35)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد فهم جمهور من الناس إن الجاهلية من الجهل الذي هو ضد العلم أو عدم اتباع العلم،ومن الجهل بالقراءة والكتابة، ولهذا ترجمت اللفظة في الإنكليزية ب "The Time of Ignorance"، وفي ا لألمانية ب "Zeit der Unwissenheit" وفهمها آخرون أنها من الجهل بالله وبرسوله وبشرائع الدين وباتباع الوثنية والتعبد لغير الله، وذهب آخرون إلى أنها من المفاخرة بالأنساب والتباهي بالأحساب والكبر والتجبر وغر ذلك من الخلال التي كانت من أبرز صفات الجاهلين. ويرى المستشرق "كولدتزهير" "Goldziher" إن المقصود الأول من الكلمة "السفه" الذي هو ضد الحلم، والأنفة والخفة والغضب وما إلى ذلك من معان، وهي أمور كانت جد واضحة في حياة الجاهليين، ويقابلها الإسلام، الذي هو مصطلح مستحدث أيضا ظهر بظهور الإسلام، وعمادة الخضوع لله والانقياد له ونبذ التفاخر بالأحساب والأنساب والكبر وما إلى ذلك من صفات نهى عنها القرآن الكريم والحديث.
وقد وردت الكلمة في القرآن الكريم في مواضع منه ،منها آية سورة الفرقان: )وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا: سلاما( ، وآية سورة البقرة: )قالوا أتخذنا هزوا? قال: أعوذ بالله إن أكون من الجاهلين( ، وآية سورة الأعراف: )خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين(، وآية هود: )أني أعظك إن تكون من الجاهلين(. وفي كل هذه المواضع ما ينم على أخلاق الجاهلية. وقد ورد في الحديث: )إذا كان أحدكم صائما، فلا يرفث ولا يجهل(، وورد أيضا: "إنك امرؤ فيك جاهلية" وبهذا المعنى تقريبا وردت الكلمة في قول عمرو بن كلثوم: ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
أي: لا يسفه أحد علينا، فنسفه عليهم فوق سفههم، أي نجازيهم جزاء يربي عليه.
واستعمال هذا اللفظ بهذا المعنى كثير.

(1/36)


--------------------------------------------------------------------------------

وجاء في سورة المائدة: "أفحكم الجاهلية يبغون ومن احسن من الله حكما لقوم يوقنون" أي أحكام الملة الجاهلية وما كانوا عليه من الضلال والجور في الأحكام والتفريق بين الناس في المنزلة والمعاملة.
وأطلقوا على "الجاهلية الجهلاء"، والجهلاء صفة للأولى يراد بها التوكيد، وتعني "الجاهلية القديمة". وكانوا إذا عابوا شيئا واستبشعوه، قالوا: "كان ذلك في الجاهلية الجهلاء". و "الجاهلية الجهلاء" هي الوثنية التي حاربها الإسلام. وقد أنب القرآن المشركين على حميتهم الوثنية،فقال: )إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية(.
والرأي عندي إن الجاهلية من السفه والحمق والأنفة والخفة والغضب وعدم الانقياد لحكم وشريعة و إرادة إلهية وما إلى ذلك من حالات انتقصها الإسلام. فهي في معنى "اذهب يا جاهل" نقولها في العراق لمن يتسفه ويتحمق وينطق بكلام لا يليق صدوره من رجل، فلا يبالي أدبا ولا يراعي عرفا، و "رجل جاهل" نطلقه على من لا يهتم بمجتمع ودين، ولا يتورع من النطق بأفحش الكلام. ولا يشترط بالطبع أن يكون ذلك الرجل جاهلا أميا، أي ليس له علم، وليس بقارئ كاتب.
وقد اختلف المفسرون في المراد من الجاهلية الأولى في قوله تعالى: )وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى(، فقيل: "الجاهلية الأولى التي ولد فيها إبراهيم، والجاهلية الأخرى التي. ولد فيها محمد". وقيل "الجاهلية الأولى بين عيسى ومحمد"، وقد أدى اختلافهم في مفهوم هذه الآية إلى تصور وجود جاهليتين جاهلية قديمة، وجاهلية أخرى هي التي كانت عند ولادة الرسول.

(1/37)

admin
12-25-2010, 12:32 PM
واختلف العلماء في تحديد بدأ الجاهلية، أو العصر الجاهلي، فذهب بعضهم إلى أن الجاهلية كانت، فيما بين نوح وإدريس. وذهب آخرون إلى أنها كانت بين آدم ونوح، أو إنها بين موسى وعيسى، أو الفترة التي كانت ما بين عيسى ومحمد. وأما منتهاها، فظهور الرسول ونزول الوحي عند الأكثرين، أو فتح مكة عند جماعة. وذهب ابن خالويه إلى أن هذه اللفظة أطلقت في الإسلام على الزمن الذي كان قبل البعثة.
والذي يفهم خاصة من كتب الحديث إن أصحاب الرسول كانوا يعنون به "الجاهلية" الزمان الذي عاشوا فيه قبل الإسلام، وقبل نزول الوحي، فكانوا بسألون الرسول عن أحكامها، وعن موقفهم منها بعد إسلامهم، وعن العهود التي قطعوها على أنفسهم في ذلك العهد، وقد اقر الرسول بعضها، ونهى عن بعض آخر، وذلك يدل على أن هذا المعنى كان قد تخصص منذ ذلك الحين، وأصبح للفظة "الجاهلية" مدلول خاص في عهد الرسول.

(1/38)


--------------------------------------------------------------------------------

وأطلق بعض العلماء على الذين عاشوا بين الميلاد ورسالة الرسول "أهل الفترة" وهم في نظرهم جماعة من أهل التوحيد ممن يقر بالبعث، ذكروا منهم:"حنظلة ابن صفوان" نبي "أصحاب الرس" وأصحاب الأخدود، وخالد بن سنان العبسي، و "وثاب السني" وأسعد أبا كرب الحميري، وقس بن ساعدة الإيادي وأمية بن أبي الصلت، وورقة بن نوفل، وعداس مولى عتبة بن أبي ربيعة، وأبا قيس صربة بن آبي أنس من الأنصار، وأبا عامر الأوسي، وعبد الله بن جحش وآخرين. فهم إذن طبقة خاصة من الجاهليين، ميزوا عن غيرهم بهذه السمة، لأنهم لم يكونوا على ملة أهل الجاهلية من عبادة الأصنام والأوثان. فلفظة "الجاهلية" إذن نعت اسلامي، من نوع النعوت التي تطلق في العهود السابقة على حركة ما أو انقلاب. أطلقه المسلمون على ذلك العهد، كما نطلق اليوم نعوت وأسماء على العهود الماضية التي يثور الناس عليها، من مثل مصطلح "العهد المباد" الذي أطلق في العراق على العهد الملكي منذ ثورة 4 1 تموز 1958، ومثل المصطلحات الأخرى الشائعة في الأقطار العربية الأخرى، والتي أطلقت على العهود السابقة للثورات والانقلابات.
موارد التاريخ الجاهل
تاريخ الجاهلية هو أضعف قسم كتبه المؤرخون العرب في تاريخ العرب، يعوزه التحقيق والتدقيق والغربلة. وأكر ما ذكروه على انه تاريخ هذه الحقبة، هو أساطير، وقصص شعبي، وأخبار أخذت عن أهل الكتاب ولا سيما اليهود، وأشياء وضعها الوضاعون في الإسلام، لمآرب اقتضتها العواطف والمؤثرات الخاصة.
وقد تداول العلماء وغير أصحاب العلم هذه الأخبار على إنها تاريخ الجاهلية حتى القرن التاسع عشر. فلما انتهت إلى المستشرقين، شكوا في أكثرها، فتناولوها بالنقد. استنادا إلى طرق البحث الحديثة التي دخلت على العلوم النظرية،وتفتحت بذلك آفاق واسعة في عالم التاريخ الجاهلي لم تكن معروفة،ووضعوا الأسس للجادات التي توصل عشاق التاريخ إلى البحث في تاريخ جزيرة العرب.

(1/39)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان أهم عمل رائع قام به المستشرقون هو البحث عن الكتابات العربية التي دونها العرب قبل الإسلام، وتعليم الناس قراءتها بعد أن جهلوها مدة تنيف على ألف عام. وقد فتحت هذه النصوص باب تاريخ الجاهلية، ومن هذا الباب يجب أن نصل إلى التاريخ الجاهلي الصحيح.
لقد كلف البحث عن هذه الكتابات العلماء والسياح، ثمنا غاليا كلفهم حياتهم في بعض الأحيان، ولم يكن من السهل تجول هؤلاء الأوروبيون بأزياء مختلفة في أماكن تغلب عليها الطبيعة الصحراوية للحصول على معلومات عن الخرائب والعاديات والحصول على ما يمكن الحصول عليه من نقوش وكتابات.
والتاريخ الجاهلي مع ذلك في أول مرحلة من مراحله وفي الدرجات الأولى من سلم طويل متعب. ولا ينتظر التقدم أكثر من ذلك،إلا إذا سهل للعلماء التجوال في بلاد العرب، لدراستها من جميع الوجوه، و للبحث عن العاديات، ويسرت لهم سبل البحث، ووضعت أمامهم كل المساعدات الممكنة التي تأخذ بأيدهم إلى الكشف عن مواطن ذلك التاريخ والبحث عن مدافن كنوز الآثار تحت الأتربة واستخراجها وحل رموزها،لجعلها تنطق بأحوالها في تلك الأيام. وتلك مسؤولية لن تفهم إلا إذا فهم العرب وعلى رأسهم الحاكمون منهم أن من واجبهم المحافظة على تأريخ العرب القديم بصيانة مواطن الآثار ومنع الاعتداء عليها، بإنزال أشد العقوبات بمن يحطم تمثالا، لاعتقاده بأنه صنم، أو بهدم أثرا للاستفادة من حجره، أو ما شابه ذلك من هدم وتخريب.
لم يطمئن المستشرقون إلى هذا المروي في الكتب العربية عن التاريخ الجاهلي ولم يكتفوا به، بل رجعوا إلى مصادر وموارد ساعدتهم في تدوين هذا الذي نعرفه عن تاريخ الجاهلية، وهو شيء قليل في الواقع، ولكنه مع ذلك خير من هذا القديم المتعارف وأقرب منه إلى التأريخ، وقد تجمعت مادته من هذه الموارد: 1- النقوش والكتابات.
2- التوراة والتلمود والكتب العبرانية الأخرى.
3- الكتب اليونانية واللاتينية والسريانية ونحوها.

(1/40)


--------------------------------------------------------------------------------

4- المصادر العربية الإسلامية.
1 - للنقوش وللكتابات
تعد النقوش والكتابات في طليعة المصادر التي تكون التاريخ الجاهلي، وهي وثائق ذات شان، لأنها الشاهد الناطق الحي الوحيد الباقي من تلك الأيام، وأريد أن أقسمها إلى قسمين: نقوش وكتابات غير عربية تطرقت إلى ذكر العرب كبعض النصوص الآشورية أو البابلية، ونصوص وكتابات عربية كتبت بلهجات مختلفة، منها ما عثر عليه في العربية الجنوبية، ويدخل ضمنها تلك التي وجدت في مصر أو في بعض جزر اليونان أو في الحبشة، وهي من كتابات المعينين والسبئين، ومنها ما عثر عليه في مواضع أخرى من جزيرة العرب، مثل أعالي الحجاز وبلاد الشام والعربية السعودية والكويت ومواضع أخرى، كل ما عثر أو سيعثر عليه من نصوص في جزيرة العرب مدونا بلهجة من اللهجات الني تعارف علماء العرب أو المستشرقون على اعتدادها من لغات العرب.
وأغلب الكتابات الجاهلية التي عثر عليها هي و للأسف في أمور شخصية، ولذلك انحصرت فوائدها في نواح معينة، في مثل الدراسات اللغوية، وأقلها النصوص التي تتعرض لحالة العرب للسياسية، أو الأحوال الاجتماعية أو العلمية أو الدينية أو النواحي الثقافية والحضارية الأخرى، ولهذا بقيت معارفنا في هذه النواحي ضحلة غير عميقة. كل أملنا هو في المستقبل، فلعله سيكون سخيا كريما، فيمدنا بفيض من مدونات لها صلة وعلاقة بهذه الأبواب، وينقذنا بذلك من هذا الجهل الفاضح الذي نحن فيه، بتاريخ. العرب قبل الإسلام.

(1/41)


--------------------------------------------------------------------------------

بل حتى النصوص العربية الجنوبية التي عثر عليها حتى الآن، هي في أمور شخصية في الغالب، من مثل إنشاء بيت، أو بناء معبد، أو يناء سور، أو شفاء من مرض، ولكنها أفادتنا، مع ذلك، فائدة كبيرة في تدوين تاريخ العرب الجنوبيين، فقد أمدتنا بأسماء عدد من الملوك، ولولاها لما عرفنا عنهم شيئا. ونظرا إلى ما نجده في بعض النصوص من إشارات إلى حروب، ومن صلات بين ملوك الدول العربية الجنوبية، ونظرا إلى كون بعض الكتابات أوامر ملكية وقوانين في تنظيم الضرائب وتعيين حقوق الغرباء وفي أمور عامة أخرى لها علاقة بصلة الحكومات بشعوبها، و نظرا إلى ما عرفناه من ميل إلى الحضارة و الاستقرار و العمل و البناء، وفي حكوماتهم من تنظيم و تنسيق في الأعمال، فأننا نأمل الحصول في المستقبل على وثائق، تعطينا مادة جيدة عن تاريخ العرب % الجنوبيين و عن صلاتهم ببقية العرب أو العالم الخارجي، لأن جماعة تتهم هذا الاهتمام بالأمور المذكورة، لا يمكن إن تكون في غفلة عن اهمية تدوين التاريخ.
و تختلف الكتابات العربية الجنوبية طولا و قصرا تبعا للمناسبات و طبيعة الموضوع، وتتشابه في المضمون وفي إنشائها، الغالب، لأنها كتبت في أغراض شخصية متماثلة. ومن النصوص الطولية المهمة، نص رقمه العلماء برقم: "c.i.h. 1450" وقد كتب لمناسبة الحرب التي نشبت بين قبائل حاشد و قبائل حمير في مدينة "ناعط"، ونص رقمه "c..i.h 4334"، وقد أمر بتدوينه الملك "شعر أوتر بن علهان نهفان" "شعر أوتر بن علهن نهفن" ، "80-50ق.م"، ونص "أبرهة" نائب ملك الحبشة على اليمن "عزلي"، وهو يحوي كتابة مهمة تتألف من "136" سطرا، يرتقي تاريخها إلى سنة 658 الحميرية أو 543 م وقد كتب بحميرية رديئة ركيكة، ونص يرتقي تاريخه إلى سنة 554 م.

(1/42)


--------------------------------------------------------------------------------

أما الكتابات المكتوبة باللهجات التي يطلق عليها المستشرقون اللهجات العربية الشمالية، فقليلة. ويراد بهذه اللهجات القريبة من عربية القرآن الكريم. وأما الكتابات التي وجد إنها مكتوبة بالثمودية أو اللحيانية أو الصفوية، فإنها عديدة، وهي قصيرة، وفي أمور شخصية، و قد أفادتنا في استخراج أسماء بعض الأصنام وبعض المواضع وفي الحصول على أسماء بعض القبائل وأمثال ذلك.
??تاريخ الكتابات
والكتابات المؤرخة قليلة. هذا أمر يؤسف عليه، إذ يكون المؤرخ في حيرة من أمره في ضبط الزمن الذي دون فيه النص، ولم نتمكن حتى الآن كل من الوقوف على تقويم ثابت كان يستعمله العرب قبل الإسلام، مدة طويلة في جزيرة العرب. والذي تبين لنا حتى الآن هو أنهم استعملوا جملة طرق في تأريخهم للحوادث، وتثبيت زمانها، فأرخوا بحكم الملوك، فكانوا يشيرون إلى الحادث بأنه حدث في أيام الملك فلان، أو في السنة كذا في حكم الملك فلان. وأرخوا كذلك بأيام الرؤساء وسادات القبائل وأرباب الأسر وهي طريقة عرفت عند المعينين والسبئين والقتبانيين وعند غيرهم في مختلف أنحاء جزيرة العرب.
والكتابات المؤرخة بهذه الطريقة، وان كانت أحسن حالا من الكتابات المهملة التي لم يؤرخها أصحابها بتاريخ، إلا أننا قلما نستفيد منها فائدة تذكر، إذ كيف يستطيع مؤرخ أن يعرف زمانها بالضبط، وهو لا يعرف شيئا عن حياة الملك الذي أرخت به الكتابة أو حكمه، أو زمانه، أو زمان الرجال الذين أرخ بهم? لقد فات أصحاب هذه الكتابات أن شهرة الإنسان لا تدوم، وأن الملك فلانا، أو رب الأسرة فلانا، أو الزعيم فلانا ربما لا يعرف بعد أجيال، وقد يصبح نسيا منسيا، لذلك لا يجدي التأريخ به شيئا، وذاكرة الإنسان لا تعي إلا الحوادث الجسام. لهذا السبب لم نستفد من كثير من هذه الكتابات المؤرخة على وفق هذه الطريقة، وأملنا الوحيد هو أن يأتي يوم قد نستفيد فيه منها في تدوين التاريخ.

(1/43)

admin
12-25-2010, 12:33 PM
وترد التواريخ في الكتابات العربية الجنوبية، ولا سيما الكتابات القتبانية، على هذه الصورة: "ورخس ذو سحر خرف ...."، أو "ورخس ذو تمنع خرف ..."، أي: "وأرخ في شهر سحر من سنة...." و "أرخ في شهر تمنع من سنة....". ويلاحظ إن "ورخ" و "توريخ"، مثل "أرخ" و "تاريخا"، هما قريبتان من استعمال تميم، إذ هي تقول: "ورخت الكتاب توريخا" أي: "أرخت الكتاب تأريخا". وأما حرف "السين" اللاحق بكلمة "ورخ"، فانه أداة التنكير. ويلي التاريخ أسم الشهر، مثل شهر "ذو تمنع" و "ذو سحر" وغير ذلك. وقد تجمعت لدينا أسماء عدد من الشهور في اللهجات العربية الجنوبية المختلفة تحتاج إلى دراسة لمعرفة ترتيبها بالنسبة إلى الموسم والسنة. ثم تلي الشهور في العادة كلمة "خرف" أي "خريف"، وهي في العربية الجنوبية، السنة أو العام أو الحول. وعندئذ يذكر اسم الملك أو الرجل الذي أرخ به، فيقال: "خرف شهر يكل" أي سنة "شهريكول"، وهو ملك من ملوك قتبان. وهكذا بالنسبة إلى الملوك أو غيرهم.
نرى من ذلك إن التاريخ بأعوام الرجال كان يتضمن شهورا. غير إننا لا نستطيع أن نجزم بان هذه للشهور كانت ثابتة لا تتغير بتغير الرجال، أو إنها كانت تتبدل بتبدل الرجال. والرأي الغالب هو إنها وضعت في وضع يلائم المواسم وأوقات الزراعة. ويظهر انهم كانوا يستعملون أحيانا مع هذا التقويم تقويما آخر هو التقويم الحكومي، وكان يستند إلى السنين المالية،أي سني جمع الضرائب. وتختلف أسماء شهور هذا التقويم عن أسماء شهور التقاويم التي تؤرخ بالرجال.
ويظهر أن العرب الجنوبيين كانوا يستعملون التقويم الشمسي في الزراعة، كما كانوا يستعملون التقويم القمري والتقويم النجمي أي التقويم الذي يقوم على رصد النجوم.

(1/44)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد اتخذ الحميريون منذ سنة "115 ق. م" تقويما ثابتا يؤرخون به، وهي السنة التي قامت فيها الدولة الحميرية -على رأي بعض. العلماء- فأخذ الحميريون يؤرخون بهذا الحادث، و اعتدوه مبدأ لتقويمهم. وقد درسه المستشرقون، فوجدوه يقابل السنة المذكورة قبل الميلاد.والكتابات المؤرخة بموجب هذه الطريقة، لها فائدة كبيرة جدا في تثبيت التاريخ.
وقد ذهب بعض الباحثين حديثا إلى أن مبدأ تاريخ حمير يقابل السنة "109 ق.م" أي بعد ست سنوات تقريبا من التقدير المذكور، وهو التقدير المتعارف عليه. والفرق بين التقديرين غير كبير.
ومن النصوص المؤرخة، نص تأريخه سنة385 من سني التقويم الحميري. وإذا ذهبنا مذهب الغالبية التي تجعل بداية هذا التقويم سنة "115 ق. م"، عرفنا أن تاريخ هذا النص هو سنة 27 م تقريبا، وصاحبه هو الملك "يسر يهنعم" "ياسر يهنعم" "ياسر ينعم" ملك سبأ وذو ريدان و ابنه "شمر يهرعش". وللملك "ياسر يهنعم" نص آخر يعود تاريخه إلى سنة 374 من سني التقويم الحميري، % أي سنة "295 م".:و لشمير يهرعش" كتابة أمر بتدوينها سنة 396 للتقويم الحميري، أي سنة 281 م. وقد ورد اسمه في نصوص أخرى، وقد لقب نفسه بلقب "ماك سبا وذو ريدان"، ولفب نفسه في مكان أخر بلقب "ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنت"، مما يدل على أنه كان قد وسع ملكه، وأخضع الأرضين المذكورة لحكمه، وهي نصوص متأخرة بالنسبة إلى النصوص الأخرى.

(1/45)


--------------------------------------------------------------------------------

ولما أراد الملك "شرحبيل يعفر بن أبي كرب أسد" "ملك سبا وذو ريدان وحضرموت ويمنت و أعرابها في الجبال والسواحل" بناء السد، أمر بنقش تاريخ البناء على جداره. وقد عثر عليه، وإذا به يقول: إن العمل كان في سنة 564-565 الحميرية، وهذا يوافق عامي 449-450 من الأعوام الميلادية. وبعد ثماني سنوات من هذا التأريخ، أي في عام 457-458 من التأريخ الميلادي "572 - 573حميري"، وضع عبد كلال نصا تاريخيا يذكر فيه أسم "الرحمن"، ولهذين النصين أهمية عظيمة جدا من الناحية الدينة. يذكر النص الأول "إله السماوات والأرضين"، ويذكر الثاني "الرحمن". وتظهر من هذه الإشارة فكرة التوحيد على لسان ملوك اليمن وزعمائها.
وقد عر على نصين آخرين ورد فيهما اسم الملك "شرحب آل يكف" و "شرحبيل يكيف". تأريخ أحدهما عام 582الحمري "467 م"، وتأريخ النص الثاني هو سنة585 الحميرية، الموافقة لسنة 475 م.
ومن النصوص الآثارية المهمة، نص حصن غراب. وهذا النص أمر بكتابته "السميفع أشوى" "السميفع أشوع" وأولاده، تخليدا لذكرى انتصار الأحباش على اليمانيين في عام 525م "سنة 640 الحميرية". ويليه النص الذي أمر أبرهة حاكم اليمن في عهد الأحباش بوضعه على جدران سد مأرب لما قام بترميم السد و إصلاحه في عام 657 الحميري، الموافق لعام 542م.

(1/46)


--------------------------------------------------------------------------------

وآخر ما نبده من نصوص مؤرخة، نص وضع في عام 669 لتقويم حمير "يوافق عام 554م". ولم يعثر المنقبون بعد هذا النص على نص آخر يحمل تاريخا. نعم، عثروا على نصوص كثيرة تشابه في مضمونها وعباراتها، وألفاظها النصوص التي أقيمت في الفترة بن 439 م وسنة 554م، وهذا يبعث على احتمال كون هذه النصوص مكررة، وأنها من هذا العهد الذي بحثنا عنه آنفا. هذا، وإن مما يلاحظ على الكتابات العربية الجنوبية أن التي ترجع منها إلى العهود القديمة من تاريخ جنوب بلاد العرب، قليلة. وكذلك الكتابات التي ترجع إلى العصور الحميرية المتأخرة،أي القريبة المتصلة بالإسلام. ولذلك أصبحت أكثر الكتابات التي عثر عليها حتى الآن من العهود الوسطى المحصورة بن أقسم عهد من عهود تأريخ اليمن وبين أقرب عهود اليمن إلى تاريخ الإسلام. وأكثرها خلو من التأريخ غير عدد منها يرد فيه لسماء ملوك وملكات أرخت بأيامهم. لكننا لا نستطيع تعيين تأريخ مضبوط لزمانهم، لعم وجود سلسلة لمن حكم أرض اليمن، ولعدم وجود جداول بمدد حكمهم،ولفقدان الإشارة إلى من كان يعاصرهم من الملوك والأجانب.
وقد كان ما قدمناه يتعلق بالكتابات العربية الجنوبية المؤرخة. أما الكتابات العربية الشمالية المؤرخة، فهي معدودة، وهي لا تعطينا هذا السبب فكرة علمية عن تاريخ الكتابات في الأقسام الشمالية والوسطى من بلاد العرب. وقد أرخ شاهد قبر "امرئ القبس" في يوم 7 بكسلول من سنة 223 "328 م". وهذه السنة هي من سني تقويم بصرى Bostra، وكان أهل الشام وحوران وما يليهما، يؤرخون بهذا التقويم في ذلك العهد، ويبدأ بدخول بصرى في حوزة الروم سنة105 م.

(1/47)


--------------------------------------------------------------------------------

وعثر على كتابة في خرائب "زيد" بين قنسرين ونهر الفرات جنوب شرقي حلب، كتبت بثلاث لغات: اليونانية والسريانية والعربية، يرجع تأريخها إلى سنة "823 للتقويم السلوقي"، الموافقة لسنة 512م. والمهم عندنا، هو النص العربي، ولا سيما قلمه العربي. أما من حيث مادته اللغوية، فان أكثر ما ورد فيه أسماء الرجال الذين سعوا في بناء الكنيسة التي وضعت فيها الكتابة.
وأرخت كتابة "حران" اليونانية بسنة أربع مئة وثلاث وستين من الأندقطية الأول، وهي تقابل سنة 568م، والأندقطية، هي دائرة ثماني سنين عند الروماينين، وكانت تستعمل في تصحيح تقويم السنة. أما النص العربي، فقد أرخ "بسنه 463 بعد مفسد خيبر بعم" "عام". ورأى الأستاذ "ليتمن" أن عبارة "بعد مفسد خيبر بعم"،تشير إلى غزوة قام بها أحد أمراء غسان لخيبر. وفي استعمال هذه الجملة التي لم ترد في النص اليوناني، دلالة على أن العرب الشماليين كانوا يستعملون التواريخ المحلية، كما كانوا يؤرخون بالحوادث الشهيرة التي تقع بينهم.
أما الكتابات الصفوية والثمودية واللحيانية، فإن من بينها كتابات مؤرخة، إلا ان توريخها لم يفدنا شيئا أيضا. فقد أرخت على هذا الشكل: "يوم نز هذا المكان" أو "سنة جاء الروم". ومثل هذه الحوادث مبهمة، لا يمكن أن يستفاد منها في ضبط حادث ما.

(1/48)


--------------------------------------------------------------------------------

هذا وقد أشار "المسعودي" إلى طرق للجاهليين في توريخ الحوادث، تنفي مع ما عثر عليه في الكتابات الجاهلية المؤرخة، فقال: "وكانت العرب قبل ظهور الإسلام تؤرخ بتواريخ كثيرة، أما حمير وكهلان ابنا سبأ بن يشجب يعرب بن قحطان بأرض اليمن، فإنهم كانوا يؤرخون بملوكهم السالفة من التبابعة وغيرهم"، ثم ذكر أنهم أرخوا أيضا بما كان يقع لديهم من أحدا جسيمة في نظرهم، مثل "نار صوان"، وهي نار كانت تظهر ببعض الحرار من أقاصي بلاد اليمن، ومثل الحروب التي وقعت بين القبائل والأيام الشهيرة وقد أورد جريدة بتواريخ القبائل إلى ظهور الإسلام. وذكر "الطبري" أن العرب "لم يكونوا يؤرخون بشيء من قبل ذلك، غير أن قريشا كانوا -فيما ذكر- يؤرخون قبل الإسلام بعام الفيل، وكان سائر العرب يؤرخون بأيامهم المذكورة، كتأريخهم بيوم جبلة وبالكلاب الأول والكلاب الثاني".
وقد ذكر المسعودي أن قدوم أصحاب الفيل مكة، كان يوم الأحد لسبع عشرة ليلة خلت من المحرم سنة ثمانمائة واثنتين -وثمانين سنة للاسكندر، وست عشرة سنة ومئتين من تاريخ العرب الذي أوله حجة العدد "حجة الغدر"، ولسنة أربعين من ملك كسرى أنوشروان. ولم يشر المسعودي إلى العرب الذين أرخوا بالتقويم المذكور، غير أننا نستطيع أن نقول إن "المسعودي" قصد بهم أهل مكة، لأن حملة "أبرهة" كانت قد وجهت إلى مدينتهم، وأن الحملة المذكورة كانت حادثا تاريخيا بالنسبة إليهم، ولذلك أرخوا بوقت وقوعها.
ويرى كثير من المستشرقين والمشتغلين بالتقاويم وبتحويل السنين وبتثبيتها، وفقا لها، أن عام الفيل يصادف سنة "570" أو "571" للميلاد، وذلك يمكن اتخاذ هذا العام مبدءا نؤرخ به على وجه التقريب الحوادث التي وقعت في مكة أو في بقية الحجاز والتي أرخت بالعام المذكور.
2 - للتوراة وللتلمود والتفاسير والشروح العبرانية

(1/49)

admin
12-25-2010, 12:35 PM
وقد جاء ذكر العرب في مواضع من أسفار التوراة تشرح علاقات العبرانيين بالعرب. والتوراة مجموعة أسفار، كتبها جماعه من الأنبياء في أوقات مختلفة، كتبوا أكثرها في فلسطين. وأما ما تبقى منها، مثل حزقيال والمزامير، فقد كتب في وادي الفرات أيام السبي، وأقدم أسفار التوراة هو سفر "عاموس" "Amos"، ويظن أنه كتب حوالي سنة 750 ق. م.
وأما آخر ما كتب منها، فهو سفر " دانيال" "Danial" والإصحاحان الرابع والخامس من سفر " المزامير". وقد كتب هذه في القرن الثاني قبل المسيح.
فما ذكر في التوراة عن العرب يرجع تاريخه إذن إلى ما بين سنة 750 والقرن الثاني قبل المسيح.
وقد وردت في التلمود " Talmud" إشارات إلى العرب كذلك. وهناك نوعان من التلمود الفلسطيني أو التلمود الأورشليمي "Yeruschalmi" كما يسميه العبرانيون اختصارا، والتلمود البابلي نسبة إلى "بابل" بالعراق، ويعرف عندهم بأسم "بابلي" انتصارا.
أما التلمود الفلسطيني، فقد وضع، كما يفهم من اسمه في فلسطين. وقد تعاونت على تحبير. المدارس اليهودية "Academies" في الكنائس " الكنيس". وقد كانت هذه مراكز الحركة العلمية عند اليهود في فلسطين، وأعظمها هو مركز "طبرية" "Tiberies" وفي هذا المحل وضع الحبر "رابي بوحان" "Rabbi Jochanan" التلمود الأورشليمي في أقدم صورة من صوره في أواخر القرن الثالث الميلادي وتلاه بعد ذلك الأحبار الذين جاؤوا بعد " يوحنان"،وهم الذين رضعوا شروحا وتفاسير عدة تكون منها هذا التلمود الذي اتخذ هيأته النهائية في القرن الرابع الميلادي.

(1/50)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما التلمود البابلي، فقد بدأ بكتابته -على ما يظهر- الحبر " آشي" "Rabbi Ashi" المتوفي عام 435 م، وأكمله الأحبار من بعده، واشتغلوا به حتى اكتسب صيغته النهائية في أوائل القرن السادس للميلاد. ولكل تلمود من التلمودين طابع خاص به، هو طابع البلد الذي وضع فيه، ولذلك يغلب على التلمود الفلسطبني طابع التمسك بالرواية والحديث. وأما التلمود البابلي، فيظهر عليه الطابع العراقي الحر وفيه عمق في التفكير، وتوسع في الأحكام والمحاكمات، وغنى في المادة. وهذه الصفات غير موجودة في التلمود الفلسطيني.
وبهذا يكمل التلمود أحكام التوراة، وتفيدنا إشاراته من هذه الناحية في تدوين تاريخ العرب. أما الفترة بين الزمن الذي انتهي فيه من كتابة التوراة والزمن الذي بدأ فيه بكتابة التلمود، فيمكن أن يستعان في تدوين تاريخها بعض الاستعانة بالأخبار التي ذكرها بعض الكتاب، ومنهم المؤرخ اليهودي " يوسف فلافيوس" " جوسفوس فلافيوس" "Josephus Flavius"، الذي عاش بين سنة 37 و 100 للمسيح تقريبا. وله كتاب باللغة اليونانية في تاريخ عاديات اليهود "Joudaike Archaioligia" تنتهي حوادثه بسنة 66 للميلاد، وكتاب أخر في تاريخ حروب اليهود "Peri tou Joudiaou Poemou" من استيلاء " انطيوخس افيفانوس" "Antiochus Epiphanos" على القدس سنة 170 قبل الميلاد إلى الاستيلاء طيها مرة ثانية في عهد "طيطس" "Titus" سنة 70 بعد الميلاد، وكان شاهد عيان لهذه الحادثة. وقد نال تقدير "فسبازيان" "Vespasian" و " طيطس" وأنعم عليه بالتمتع بحقوق المواطن الروماني.

(1/51)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي كتبه معلومات ثمينة عن العرب، وأخبار مفصلة عن العرب الأنباط، لا نجدها في كتاب ما أخر قديم. وكان الأنباط في أيامه يقطنون في منطقة واسعة تمتد من نهر الفرات، فتتاخم بلاد الشام، ثم تنزل حتى تتصل بالبحر الأحمر. وقد عاصرهم هذا المؤرخ، غير أنه لم يهتم بهم إلا من ناحية علاقة الأنباط العبرانيين، ولم تكن بلاد العرب عنده إلا مملكة الأنباط.
هذا وان للشروح والتفاسير المدونة على التوراة والتلمود قديما وحديثا، وكذلك للمصطلحات العبرانية القديمة على اختلاف أصنافها أهمية كبيرة في تفهم تاريخ الجاهية، وفي شرح المصطلحات الغامضة التي ترد في النصوص العربية التي تعود إلى ما قبل الإسلام، لأنها نفسها و بتسمياتها ترد عند العبرانيين في المعاني التي وضعها الجاهليون لها. وقد استفدت كثيرا من الكتب المؤلفة عن التوراة مثل المعجمات في تفهم أحوال الجاهلية، وفي زيادة معارفي بها، ولهذا أرى أن من اللازم لمن يريد دراسة أحوال الجاهية، التوغل في دراسة تلك الموارد وجميع أحوال العبرانيين قبل الإسلام.
3-الكتب للكلاسيكية

(1/52)


--------------------------------------------------------------------------------

وأتصد بالكتب " الكلاسيكية" الكتب اليونانية واللاتينية المؤلفة قبل الإسلام. ولهذه الكتب -على ما فيها من خطأ- أهمية كبيرة، لأنها وردت فيها أخبار تاريخية وجغرافية كبيرة الخطورة، ووردت فيها أسماء قبائل عربية كثيرة لولاها لم نعرف عنها شيئا: وقد استقى مؤلفوها وأصحابها معارفهم من الرجال الذين اشتركوا في الحملات التي أرسلها اليونان أو الرومان إلى بلاد العرب،ومن السياح الذين اختلطوا بقبائل بلاد العرب أو أقاموا مدة بين ظهرانيهم، ولا سيما في بلاد الأنباط، من التجار وأصحاب السفن الذين كانوا بتوغلون في البحار وفي بلاد العرب للمتاجرة. وتعد الإسكندرية من أهم المراكز التي كانت تعنى عناية خاصة بجمع الأخبار عن بلاد العرب وعادات سكانها وما ينتج فيها لتقدمها إلى من يرغب فيها من تجار البحر المتوسط. وقد استقى كثير من الكتاب "الكلاسيكيين" معارفهم عن بلاد العرب من هذه المصادر التجارية العالمية.
وتتحدث الكتب الكلاسيكية جازمة عن وجود علاقات قديمة كانت بين سواحل بلاد العرب وبلاد اليونان والرومان، وتتجاوز بعض هذه الكتب هذه الحدود فتتحدث عن نظرية قديمة كانت شائعة بين اليونان، وهي وجود أصل دموي مشترك بين بعض القبائل العربية واليونان. وتفصح هذه النظرية، على ما يبدو منها من سذاجة، عن العلاقات العريقة في القدم التي كانت تربط سكان البحر المتوسط الشماليين بسكان الجزيرة العربية.
ومن أقدم من ذكر العرب من اليونانيين "أخيلس" "Aescylus" "525 -456 ق. م"، و " هيرودتس" " 480-425 ق. م" وقد زار مصر، وتتبع شؤون الشرق وأخباره بالمشاهدة والسماع، ودون ما. سمعه، ووصف ما شاهده في كتاب تاريخي. وهو أول أوربي ألف كتابا بأسلوب منمق مبوب في التاريخ ووصل مؤلفه ألينا، وقد لقبه " شيشرون" "Cicero" الشهير بلقب "أبي التاريخ".

(1/53)


--------------------------------------------------------------------------------

تناول " هيرودتس" تاريخ الصراع بين اليونان والفرس، وان شئت فسمه "النزاع الأوروبي الأسيوي"، فألف عن تاريخه. والظاهر أنه لم يتمكن من إتمامه، ففيه فصول وضعت بعد وفاته. وهو أول كاتب يوناني اتخذ من الماضي موضوعا للحاضر ومادة لمناقشة، بعد أن كان البحث في أخبار الأيام السالفة مقصورا على ذكر الأساطير والقصص الشعبية و الدينية. وهو مع حرصه على النقد والمحاكمة، لم يتمكن أن يكون بنجوة من الأفكار الساذجة التي كانت تغلب على ذلك العالم الابتدائي في ذلك العهد، فحشر في كتابه قصصا ساذجا وحكايات لا يصدقها العقل، متأثرا بعقلية زمانه في التصديق بأمثال هذه الأمور. ومنهم "ثيوفراستوس" "Theophrastus"، "حوالي371-287 ق. م"، مؤلف كتاب "Historia Plantarum" وكتاب "De Causis Plantarum". وفي خلال حديثه عن النبات تطرق إلى ذكر البقاع العربية الني كانت تنمو بها مختلف الأشجار،ولا سيما المناطق الجنوبية التي كانت تصدر التمر واللبان والبخور والأفاويه. و " ايراتو ستينس" "Eratostenes" " 276 -194ق. م". وقد استفاد الكتاب اليونانيون الذين جاؤوا من بعده من كتاباته،ونجد في مواضع مختلفة من جغرافية "سترابون أقوالا معزوة إليه".
و نضيف الى من تقموا "ديدورس الصقلي" "Diodorus Sicus" "40 ق.م.". وقد ألف بالغة اليونانية تاريخا عاما سماه "المكتبة التاريخية" "Bibliothke Historrike" ، تناول تاريخ العالم من عصر الأساطير حتى فتح "يوليوس قيصر" لأقليم "الغال". وهو في أربعين جزءا، لم يبق منها سوى خمسة عشر جزءا، تبحث في الحقبة المهمة التي تبتدئ بسنة 480ق.م. و تنتهي بسنة 323 ق.م.
ويعوز هذا المؤرخ النقد، لأنه جمع في كتابه كل ما وجده في الكتب القديمة من أخبار ولم يمحصها، وقد امتلأ كتابه بالأساطير، والعالم مع ذلك مدين له إلى حد كبير بمعرفة أخبار الماضين، ولا سيما الأساطير الدينية القديمة.

(1/54)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن المؤلفين الكلاسيكيين، "سترابون" "سترابو" "strado" "strabon" "64ق.م-19م" وهو رحالة كتب كتابا مهما باللغة اليونانية في سبعة عشر جزءا سماه "جغرافيا" "Geographica". وقد وصف فيه الأحوال الجغرافية الطبيعية لمقاطعات الإمبراطورية الرومانية الرئيسية، وتاريخها، وحالات، سكانها، وغريب عاداتهم وعقائدهم. وللكتاب شأن كيير، إذ اشتمل على كثير من الأخبار التي لا تتيسر في كتاب آخر. وقد اعتمد فيه على ما ذكره الكتاب السابقون.
وقد أفرد "سترابون" في جغرافيته فصلا خاصا من الكتاب السادس عشر ببلاد العرب، ذكر فيه مدائن العرب وقبائلهم في عهده، ووصف أحوالهم التجارية والاجتماعية والاقتصادية،وحملة "أوليوس غالوس" "أوليوس كالوس" "Aelius Gallus" المعروفة لفتح بلاد العرب وما كان من اخفاقه. ولاخبار هذه الحماة التي دونتها "سترابون" في جغرافيته، أهمية خاصة، إذ جاءت بمعلومات عن نواحي من تأريخ العرب نجهلها، وقد شارك هو نفسه في الحملة، وقد كان صديقا لقائدها، فوصفه وصف شاهد عيان. وقد استهل وصف الحملة بهذه العبارة: " لقد علمتنا الحملة التي قام بها الرومان على بلاد العرب بقيادة أوليوس غالوس في أيامنا هذه أشياء كثيرة عن تلك البلاد.
وممن تحدث عن العرب " بلينيوس" " بليني الأقدم" "Pliny the Elder" "Galus plinius Secundus" المتوفي سنة 79 م، رمن كتبه المهمة كتابه "التاريخ الطبيعي" "Naturalius Historia" في سبعة وثلاثين قسما، وقد نقل في كتابه عن تقسمه، ولا سيما معلوماته عن بلاد العرب والشرق وجمع ما أمكنه جمعه، غير أنه أتى في أماكن متعددة من كتابه بأخبار لم يرد لها ذكر من كتب المؤرخين الآخرين.

(1/55)


--------------------------------------------------------------------------------

وهناك مؤلف يوناني مجهول، وضع كتابا سماه "الطواف حول بحر الأريتريا" "Periplus Maris Erythraei" "The Periplus of the Erythraean Sea" أتمه في نهاية القرن الأول للمسيح في رأي بعض العلماء، أو بعد ذلك في حوالي النصف الأول من القرن الثالث للميلاد في رأي بعض آخر، وقد وصف فيه تطوافه في البحر الأحمر وسواحل البلاد العربية الجنوبية. والظاهر أنه كان عالما بأحوال الهند وشواطئ أفريقية الشرقية، ولعله كان تاجرا من التجار الذين كانوا يطرفون في هذه الأنحاء للاتجار، ولم يعن إلا. بأحوال السواحل. أما الأقسام الداخلية من جزيرة العرب، فيظهر أنه لم يكن ملما بها إلماما كافيا. وقد ذهب "البرايت" إلى أن الكتاب المذكور قد ألف في حوالي السنة "80" بعد الميلاد. وذهب آخرون إلى أن مؤلفه قد ألفه في حوالي السنة "225" أو "215" بعد الميلاد.
وهناك طائفة من الكتاب الذين تركوا لنا آثارا وردت فيها إشارات إلى العرب والبلاد العربية، مثل "أبولودورس" "Apollodorus" "المتوفي سنة 140 بعد المسيح". و " بطلميوس" "Claudius Ptolemas" الذي عاش في الإسكندرية في القرن الثاني للمسيح. وهو صاحب مؤلفات في الرياضيات منها " كتاب المجسطي" المعروف في اللغة ا.لعربية. وله كتاب مهم في الجغرافية سماه "Geographike Hyphegesis"، ويعرف باسم "جغرافية بطلميوس". ولهنا الكتاب شهرة واسعة، وقد درس في أكثر مدارس العالم إلى ما بعد انتهاء القرون الوسطى. جمع فيه بطلميوس ما عرفه العلماء اليونان وما سمعه هو بنفسه ومما شاهده هو بعينه، وقسم الأقاليم بحسب درجات الطول والعرض. وقد تكلم في كتابه على مدن البلاد العربية وقبائلها وأحوالها، وزين الكتاب بالخارطات التي تصور وجهة نظر العلم إلى العالم في ذلك العهد.

(1/56)

admin
12-25-2010, 12:36 PM
وبرى بعض الباحثين أن ما ذكره "بطلميوس" عن حضرموت يشير إلى أن المنبع الذي أخذ منه كان يعلم شيئا عنها، وانه كان قد أقام مدة في "شبوة" العاصمة. ويرون أن ذلك المنبع قد يكون تاجرا روميا، أو أحد المبعوثين الرومان في تلك المدينة، لأن وصف "بطلميوس" للأودية والأماكن الحضرمية يشر إلى وجود معرفة بالأماكن عند صاحبه. أما ما ذكره "بطلميوس" عن أرضق "سبا" و السبئيين، فانه لا يدل،على حد قول المذكورين،على علم بالأماكن، و إجادة لأسمائها، وأن الذي أخذ منه "بطلميوس" لم يكن قد شاهدها.
ومن الذين أوردوا شيئا عن أحوال بلاد العرب "أريان" "Arrian" "Flavius Arrianus" "95 -175م"، وقد ألف كتبا عديدة. منها كتابه "Anabasis of Alexader the Great" في خمسة عشر قسما، وصف في سبعة منها حملات الإسكندر الكبير، وفي الثمانية الأخرى وصف الهند وأحوال الهنود ورحلة القائد "Nearchus" "نيرخس" "أميرال الإسكندر في الخليج العربي". ومنهم " هيروديان" "Herodianus" " 165 - 250 ق. م."، وهو مؤرخ سرياني ألف في اليونانية كتابا في تاريخ قياصرة الروم من وفاة القيصر "ماركوس أوريليوس" إلى سنة 238 م.
الموارد للنصرانية
وللمواد النصرانية أهمية كبيرة في تدوين تاريخ انتشار النصرانية في بلاد العرب وتاريخ القبائل العربية، وعلاقات العرب باليونان والفرس، وقد كتب أغلبها باليونانية والسريانية. ولها في نظري قيمة تاريخية مهمة لأنها عند عرضها للحوادث تربطها بتاريخ ثابت معين، مثل المجامع الكنيسية، أو تواريخ القديسين، والحروب وأوقاتها في الغالب مضبوطة مثبتة.

(1/57)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن أشهر هذه الموارد مؤلفات المؤرخ الشهر "أويسبيوس" المعروف ب "أويسبيوس القيصري" "Eusebius of Caesarea" " 263 - 340 م" " 265 - 340 م" وب "أبي التاريخ الكنائسي" "fater of Ecclesiastical History" و ب "هيرودتس النصارى". وكان على اتصال بكبار رجال الحكومة وبرؤساء الكنيسة، فاستطاع بذلك أن يقف على كثير من أسرار الدولة وأن يراجع المخطوطات والوثائق الثمينة التي كانت تحويها خزائن الحكومة وخزائن كتب الرؤساء والأغنياء.
وكان قد ألف كتابا في التاريخ باللغة اليونانية،عرف ب "The Chronicon"، حوى بالإضافة إلى التاريخ العام تقاويم وجداول بالحوادث التي حدثت في أيامه.
وقد أفاد هذا الكتاب فائدة كبيرة في معرفة تاريخ اليونان والرومان حتى سنة325 م، ولم يبق من أصله غير قطع صغيرة. غير أن له ترجمة باللاتينية عملها "جيروم" "Jerome"، وأخرى باللغة الأرمنية ، وقد سد "جوزيف سكالكر" "Joseph Scaliger" النقص الذي طرأ على النسخة الأصلية، باستفادته من هاتين الترجمتين.
ولهذا الأسقف كتب مهمة أخرى، في مقدمتها كتاب " التاريخ الكنائسي" "Ecclesiasticla History"، وهو في عشرة كتب، يبدأ بأيام المسيح، وينتهي بوفاة الإمبراطور "Licinius" سنة 324 م. وقد استقى كتابه هذا من مصادر قديمة، فاورد فيه امورا انفرد بها. ومن مؤلفاته: كتاب "شهداء فلسطين" "The martyrs of Palastin" تحدث فيه عن تعذيبهم واستشهادهم في أيام "Dioclentian" و "Maximin" " 303 - 310 م"، وكتاب "سيرة قسطنطين" "The Life of Constantine"، وكتاب في فلسفة اليونان وديانتهما.

(1/58)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن مؤرخي الكنيسة: "Athanasius" حوالي 296-371 م" و "Gelasius" "حوالي 0 32 -394 م" أسقف قيصرية، وله تتمة لتاريخ "Eusebius". و "روفينوس تيرانيوس" "Rufinus Tyranius" المتوفى سنة 410 م، وصاحب كتاب "Historiae Ecclesiasticla". وقد ضمنه أقساما من تاريخ "أويسبيوس" و "ايروينوس" "Irenaeus" "444م"، وكان اسقفا على "صور" "Tyre" ، و قد كتب مؤلفا عن مجمع "أفسوس" للنظر في النزاع مع النساطرة، و كان يميل اليهم. و المؤرخ "سقراط" "Socrates"، و هو من الفقهاء في الكنيسة، و قد اعتمد في تواريخه على كتب قبله من المؤرخين، وقد وردت في ثناياها أخبار عن بلاد العرب. و المؤرخ "سوزومينوس" "Sozomenos" "400-443" و له كتاب في التاريخ الكنائسي، و "ثيودوريت" "Theodoret" المتوفي حوالي سنة 457 للميلاد. و " "زوسيموس" "Zosimus"، وهو مؤرخ يوناني ألف في تاريخ الامبراطورية الرومانية - اليونانية ، فأشار إلى العرب و علاقاتهم بها. و "شمعون الأرشامسي" "Simeon of Beit Arsam"، و هو صاحب "رسائل الشهداء الحميريين" التي تبحث في تعذيب ذي نواس للنصارى في نجران، و قد جمع أخبارهم "على ما يديعيه" من بلاط ملك الحيرة أيام أوفده إليه امبراطور الروم في مهمة رسمية. و "بروكوبيوس" "Procopius" من رجال القرن الساسد للميلاد، و كان أمين سر القائد "بليزاريوس" "Belisarius" أعظم قواد "يوسطاوس"، و قد رافقه عدة سنين في بلاد فارس و شمال افريقية و جزيرة صقلية. و من مؤلفاته نؤلف في تاريخ زمانه، لا سيما حروب يوسطنيانوس"، وكتاب "De Bllo Persico"، وقد وردت فيه أخبار ذات بال بالنسبة لبلاد العرب.

(1/59)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن هؤلاء "زكريا" "Zacharias"، المتوفى حوالي سنة 568 م. "ويحنا ملالا" "John Malalas" المتوفي سنة 578م. و "ميننذر" "Menander Protector" المتوفي حوالي سنة 582م. و "يوحنا الأفسي" "Johan of Ephesus" وقد ولد في حوالي سنة 505م، وتوفي سنة585 م تقريبا، وله مؤلفات عديدة منها كتابه: "التاريخ الكنائسي" "Ecclesiastica Historia"، وهو في ثلاثة أقسام يبتدئ بأيام "يوليوس قيصر" وينتهي بسنة585م. وكتاب "تأريخ القديسين الشرقيين"، وقد فرغ من تأليفه سنة 569م. ومن هؤلاء "اسطيفان الييزنطي" "Stephanus Byzantinus" المتوفي سنة 600 م. و "ايواكريوس" "Evagrius" المعروف ب "Scholasticus" أي "المدرسي" المتوفي سنة 600م. وهو صاحب كتاب "التأريخ الكنائسي" "Historiae Ecclesiasticae" في ستة أقسام. يبتدي بذكر "المجمع الأفسوسي" المنعقد عام 431م وينتهي بسنة 593م. وهو من الكتب المهمة، لأن مؤلفه لم يكتب عن هوى، شأن أكثر مؤرخي الكنيسة. وقد استعان بالنصوص الأصلية وبالكتب المؤلفة سابقا.
ومن هؤلاء أيضا "ثيوفليكت" "Theophylactus Simocatta" المتوفي سنة 640م و "ثيوفانس" "Theophanes the Confessor" المتوفي سنة 811م. و "ايليا النصيبي" "Elijah )Elis( of Nisibis"، "وميخائيل السوري".
وفي قائمة المخطوطات السريانية في المتحف البريطاني أسماء مخطوطات تأريخية في ودينية أخرى ذات فائدة كبيرة في هذا الباب. وفي مجموعة الكتابات اليونانية واللاتينية وفى المجموعات التي تبحث في أعمال القديسين وفي انتشار النصرانية، إشارات مهمة إلى بلاد العرب. وهناك كتاب نشره المستشرق " كارل مولر Carl Muller" لمؤلف مجهول اسمه "Glaucus" يبحث في "آثار بلاد العرب".

(1/60)


--------------------------------------------------------------------------------

وهناك طائفة من المؤرخين النصارى من روم وسريان عاشوا في أيام الدواة الأموية والدولة العباسية، ألفوا في التأريخ العام وفي تواريخ النصرانية إلى أيامهم، فتحدثوا لذلك عن العرب في الجاهلية وفى الإسلام. ومؤلفات هؤلاء مفيدة من ناحية ورود معارف فيها لا ترد في المؤلفات الإسلامية عن الجاهلية والإسلام تفيد في سد الثغر في التأريخ الجاهلي وفي الوقوف على النصرانية بين العرب وعلى صلات الروم والفرس بالعرب.
وأكثر الموارد المذكورة هي، ويا للأسف، مخطوطة، ليس من المتيسر الاستفادة منها، أو مطبوعة ولكنها نادة، لأنها طبعت منذ عشرات من السنين فصارت نسخها محدودة معدودة لا توجد الا في عدد قليل من المكتبات. ثم أنها في اليونانية او اللاتينية أو السريانية، أي في لغاتها الأصلية، وهذا صعب على من لا يتقن هذه اللغات الاستفادة منها، ولهذه الأمور ولأمثالها، لم يستفد منها الراغبون في البحث في التاريخ الجاهلي حتى المستشرقون منهم استفادة واسعة، فحرمنا الوقوف على أمور كثيرة من أخبار الجاهلية كان في الامكان الوقوف عليا لو تيسرت لنا هذه الكنوز.
الموارد العربية الإسلامية
وأعني بها الموارد التي دونت في الإسلام وقد جمعت مادتها عن الجاهلية من الأفواه، خلا ما يتعلق منها بأخبار صلات الفرس بالعرب وبأخبار آل نصر وآل غسان وبأخبار اليمن المتأخرة، فقد أخذت من موارد مرتبة يظهر انها كانت مكتوبة كما سأتحدث عن ذلك.

(1/61)


--------------------------------------------------------------------------------

والموارد المذكورة كثيرة، منها مصنفات في التاريخ، ومنها مصنفات في الأدب بنوعيه: من نثر ونظم، ومنها كتب في البلدان والرحلات والجغرافيا وفي موضوعات أخرى عديدة، هي وإن كانت في أمور لا تعد من صميم التاريخ، إلا أنها مورد من الموارد التي يجب الاستعانة بها في تدوين تاريخ الجاهلية، لأنها تتضمن مادة غزيرة تتعلق بتاريخ الجاهلية القريبة من الإسلام والمتصلة به، لا نجد لها ذكرا في كتب التاريخ، فلا بد لمؤرخ الجاهلية من الأخذ منها لاتمام التاريخ.
الحق، إننا إذا أردنا البحث عن مورد يصور لنا أحوال الحياة الجاهلية، ويتحدث لنا عن تفكير أهل الحجاز عند ظهور الإسلام، فلا بد لنا من الرجوع إلى القرآن الكريم ولا بد من تقديمه على سائر المراجع الإسلامية، وهو فوقها بالطبع. ولا أريد أن أدخله فيها، لأنه كتاب مقدس، لم ينزل كتابا في التاريخ أو اللغة أو ما شاكل ذلك، ولكنه نزل كتابا عربيا، لغته هي اللغة العربية التي كان يتكلم بها أهل الحجاز، وقد خاطب قوما نتحدث عنهم في هذا الكتاب، فوصف حالتهم، وتفكيرهم وعقائدهم، ونصحهم وذكرهم بالأمم والشعوب العربية الخالية، وطلب منهم ترك ما هم عليه، وتطرق إلى ذكر تجاراتهم، وسياساتهم وغير ذلك. وقد مثلهم أناس كانت لهم صلات بالعالم الخارجي، واطلاع على أحوال من كان حولهم. وفيه تفنيد لكثير من الآراء المغلوطة التي نجدها في المصادر العربية الإسلامية. فهو مرآة صافية للعصر الجاهلي، وهو كتاب صدق لا سبيل إلى الشك في صحة نصه.

(1/62)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي القرآن الكريم ذكر ليعض أصنام أهل الحجاز، وذكر لجدلهم مع الرسول في الإسلام وفي الحياة وفي المثل الجاهلية. وفيه تعرض لنواح من الحياة الاقتصادية والسياسية عندهم، وذكر تجارتهم مع العلم الخارجي، ووقوفهم على تيارا السياسة العالمية، وانقسام الدول إلى معسكرين، وفيه أمور أخرى تخص الجاهلية وردت فيه على قدر ما كان لها من علاقة بمعارضة قريش للقرآن والإسلام. و كل ما ورد فيه دليل على أن صورة الإخباريين التي رسموها للجاهلية، لم تكن صورة صحيحة متقنة، وأن ما زعموه من عزلة جزيرة العرب، وجهل العرب وهمجيتهم في الجاهلية الجهلاء، كان زعما لا يؤيده القرآن الكريم الذي خالف كثيرا مما ذهبوا إليه.
والتفسير، مصدر آخر من المصادر المساعدة لمعرفة تاريخ العرب قبل الإسلام وفي كتب التفسير ثروة تأريخية قيمة تفيد المؤرخ في تدوين هذا التاريخ، تشر ما جاء مقتضبا في كتاب الله، وتبسط ما كان عالقا بأذهان الناس عن الأ التي سبقت الإسلام، وتحكي ما سمعوه وما وعوه عن القبائل العربية البائدة ورد لها ذكر مقتضب في السور،وما ورد عندهم من أحكام وآراء ومعتقدات.
ولكن كتب التفاسير -ويا للأسف - غير مفهرسة ولا مطبوعة طبعا حديثا، وهي في أجزاء ضخمة عديدة في الغالب، ولهذا صعب على الباحثين الرجوع أليها لاستخراج ما يحتاج إليه من مادة عن التأريخ الجاهلي، حتى إن المستشرقين المعروفين بصبرهم وبجلدهم وبعدم مبالاتهم بالتعب، لم يأخذوا من معين الا قليلا، مع أن فيها مادة غنية عن نواح كثيرة من أمور الجاهلية المتصلة بالإسلام.

(1/63)


--------------------------------------------------------------------------------

كتب الحديث وشروحها، هي أيضا مورد غني من الموارد التي لا بد منها لتدوين أخبار الجاهلية المتصلة بالإسلام، إذ نجد فيها أمورا تتحدث عن نواح عديدة من أحوال الجاهلية لا نجدها في مورد آخر. فلا مندوحة من الرجوع اليها والأخذ منها في تدوين تاريخ الجاهلية. ولكن أكثر من بحث في التأريخ الجاهلي لم يغرف من هذا المنهل الغزير، بسبب عدم انتباههم لأهميته في تدوين تأريخ عرب الحجاز عند ظهور الإسلام، فعلينا نحن اليوم واجب الأخذ منه لنزيد علمنا بتأريخ هذه الجاهلية المتصلة بالإسلام.
والشعر الجاهلي، مورد آخر من الموارد التي تساعدنا في الوقوف على تأريخ الجاهلية والاطلاع على أحوالها، وقديما قيل فيه إنه "ديوان العرب". " عن عكرمة. قال: ما سمعت ابن عباس فسر آية من كتاب الله، عز وجل.إلا نزع فيها بيتا من الشعر، وكان يقول: إذا أعياكم تفسر آية من كتاب الله، فاطلبوه في الشعر، فإنه ديوان العرب، وبه حفظت الأنساب، وعرفت المآثر ومنه تعلمت اللغة، وهو حجة فيما أشكل من غريب كتاب الله وغريب حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وحديث صحابته والتابعين". "وعن ابن سيرين. قال: قال عمر بن الخطاب: كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه". وقال الجمحي فيه، أي في الشعر الجاهلي: "وكان لسعر في الجاهلية ديوان علمهم، ومنتهى حكمهم، به يأخذون، وإليه يصيرون."

(1/64)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد جمع السعر الجاهلي في الإسلام، جمعه رواة حاذقون، تخصصوا برواية شعر العرب. قال "محمد بن سلام الجمحي": "وكان أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها، حماد الرواية، وكان غير موثوق به. كان ينحل شعر الرجل غيره، ويزيد في الأشعار". واشتهر بجمعه أيضا "أبو عمرو بن العلاء" المتوفى سنة "154" للهجرة، وخلف بن حيان أبو محرز الأحمر، وأبو ****ه، والأصمعي، والمفضل بن محمد الضبي الكوفي صاحب المفضليات، هي ثمان وعشرون قصيدة، قد تزيد وقد تنقص وتتقدم وتتأخر القصائد وتتأخر بحسب الرواية.
وأبو عمرو اسحاق بن مرار الشيباني المتوفى سنة 206 للهجرة، قيل: إنه جمع أشعار العرب، فكانت نيفا وثمانين قبيلة. وأبو عبد الله محمد بن زياد الأعرابي المتوفى سنة 231 للهجرة، وأبو محمد جناد بن واصل الكوفي، وخلاد بن يزيد الباهلي، وغيرهم ممن تفرغوا له، وصرفوا جل وقتهم في جمعه وحفظه وروايته.

(1/65)


--------------------------------------------------------------------------------

"قال ابن عوف عن ابن سيرين. قال: عمر بن الخطاب: كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه، فجاء الإسلام، فتشاغلت عنه العرب وتشاغلوا بالجهاد، وغزوا فارس والروم، ولهيت عن الشعر وروايته. فلما كثر الإسلام، وجاءت الفتوح، واطمأنت العرب بالأمصار، راجعوا رواية الشعر فلم يئلوا إلى ديوان مدون ولا كتاب مكتوب، فألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك، وذهب عنهم أكثره". وورد عن "أبي عمرو بن العلاء" انه قال: "ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافرا لجاءكم علم وشعر كثير". ولا جدال بين العلماء حتى اليوم في موضوع ذهاب أكثر الشعر الجاهلي، وفي أن الباقي الذي وصل الينا مدونا في الكتب، هو قليل من كثر. وقد علوا سيب اندثار أكثره وذهابه بسبب عدم تدوين الجاهليين له، واكتفائهم برواية حفظا، فضاع بتقادم الزمان وبموت الرواة، وبانطماس أثره من الذاكرة، وبانشغال الناس بأمور أخرى روايته، ولا سيما رواية القديم منه الذي لم يعد يؤثر في العواطف تأثير الجديد منه الذي قيل قبيل الإسلام.
نعم جاء في الأخبار أنه "قد كان عند النعمان بن المنذر منه ديوان فيه أشعار الفحول وما مدح به هو وأهل بيته، فصار ذلك إلى بني مروان أو ما صار منه". وورد عن "حماد الراوية" أنه ذكر أن النعمان ملك الحيرة أمر فنسخت له أشعار العرب في الطنوج، وهي الكراريس، فكتبت له ثم دفنها في قصره الأبيض. فلما كان المختار بن أبي ****، قيل له: إن تحت القصر كنزأ، فاحتفره، فأخرج تلك الأشعار.

(1/66)

admin
12-25-2010, 12:42 PM
وفي كتب الأدب ثروة تأريخية قيمة، مبثوثة في صفحاتها، لا تجد لها مثيلا ولا مكانا في كثير من الأحايين في كتب أهل التأريخ عن التاريخ الجاهلي، حتى اني لأستطع أن أقول إن ما أورده رجال الأدب عنه هو أضعاف أضعاف ما رواه المؤرخون عن ذلك التاريخ، وأن ما جاءت به كتب الأدب عن ملوك الحيرة وعن الغساسنة وعن ملوك كندة وعن أخبار القبائل العربية، هو أكثر بكثير مما جاءت به كتب التأريخ، بل هو أحسن منها عرضا وصفاء، وأكثر منها دقة " ويدل عرضه بأسلوبه الأدبي المعروف على أنه مستمد من موار عربية خالصة، وقد أخذ من أفواه شهود عيان، شهدوا ما تحدثوا عنه. وقد أفادنا كثيرا في تدوين تأريخ الجاهلية الملاصقة للإسلام، ولشأنه هذا أود أن ألفت أنظار من يريد تدوين تاريخ هذه الحقبة إليه، وأن يرعاه بالرعاية والعناية وبالنقد، وسيصل عندئذ على رأي لا يستطيع العثور عليه في كتب أهل التاريخ.
وقد صارت كتب المؤرخين المسلمين لذلك ضعيفة جدا في باب تأريخ العرب قبل الإسلام، ومادتها عن الجاهلية هزيلة جد قليلة بالقياس إلى ما نجده في كتب التفسير والحديث والفقه والأدب وشروح دواوين الشعراء الجاهليين والمخضرمين والموارد الأخرى. والغريب أن تلك الكتب اكتفت في الغالب بإيراد جريدة لأسم ملوك الحرة أو الغساسنة أو كندة أو حمير، مع ذكر بعض ما وقع لهم بعض الأحيان، على حين تجد كتب الأدب تتبسط في الحديث عنهم، وتتحدث عن حوادث وأمور لا نجد لها ذكرا في كتب المؤرخين، بل نجد فيها أسم ملوك لم تعرفها كتب التاريخ، مما صيرها في نظري أكثر فائدة وأعظم نفعا لتأريخ الجاهلية من كتب المؤرخين.
المؤرخون المسلمون

(1/70)


--------------------------------------------------------------------------------

لا نتمكن من الاطمئنان إلى هذه الأخبار والروايات المدونة في الموارد الإسلام عن الجاهلية،الا إذا وقفنا بها إلى حدود القرن السادس للميلاد أو القرن الخامس على أكثر تقدير. أما ما روي على أنه فوق ذلك،فإننا لا نتمكن من الاطمئنان إليه، لأنه لم يرد به سند مدون، ولم يؤخذ من نص مكتوب، وانما أخذه أفواه الرجال، ولا يؤتمن على مثل هذا النوع من الرواية، لأننا حتى إذا سلمنا إن رواة تلك الأخيار كانوا منزهين عن الميول والعواطف، وانهم كان صدوقين في كل ما رووا، وكانوا أصحاب ملكة حسنة ذات قدرة في النقد و التميز بن الصحيح والفاسد،فإننا لا نتمكن إن نسلم أن أن في استطاعة الذاكرة أن تحافظ على صفاء الرواية وان تروي القصة وما فيها من كلام وحديث بالنص والحرف حقبة طويلة. لذا وجب علينا الحذر في الاعتماد على هذه الموارد وتمحيص هذا المدون الوارد، وان تكاثر واشتهر وتواتر،فقد كان من عادة رواة الأخبار رواية الخبر الواحد دون الإشارة إلى منبعه، و يتداول في الكتب، فيظهر وكأنه من النوع المتواتر في حين انه من الأخبار الآحاد في الأصل.
ولا ادري كيف يمكن الاطمئنان إلى نص قصة طويلة فيها كلام وحوار او قصيدة طويلة زعم إن التبع فلانا نظمها، في حين أننا نعلم أن الذاكرة لا يمكن أن تحفظ نصا بالحرف الواحد إذا لم يكن مدونا مكتوبا، ولهذا جوز أهل الحديث رواية حديث الرسول بالمعنى، إذا تعذرت روايته بالنص. ولا أعتقد إن عناية العرب المسلمين بحديث رسول الله كانت أقل من عنايتهم برواية ما جرى مثلا بن النعمان بن المنذر وبين كسرى من كلام، أو من رواية ذلك الكلام المنمق والحديث الطويل العذب، الذي جرى بين وفد النعمان الذي اختاره من خيرة ألسنة القبائل المعروفة بالكلام، وبين كسرى المذكور.

(1/71)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن هذا القبيل نصوص المفاخرات والمنافرات، فإن مجال لعب العاطفة فيها واسع رجيما. وكذلك كل الأخبار والروايات النابعة عن الخصومات والمنافسات بن القبائل أو الأشخاص، فإن الوضع والافتعال فيها شائع كثير، ولا مجال للكلام عليه في هذا الموضع، لأنه يخرجنا من حدود التأريخ الجاهلي، إلى موضوع آخر، هو نقد الروايات والأخبار والرواة. وهو خارج عن هذا الموضوع.
لقد تحدث أهل الأخبار عن عاد وثمود وطسم وجديس وجرهم غيرهم من الأمم البائدة، وتكلموا على المباني "العادية" وعن جن سليمان وأسلحة سليمان، ورووا شعرا ونثرا نسبوه إلى الأمم المذكورة والى التبابعة، بل نسبوا شعرا إلى آدم، زعموا أنه قاله حين حزن على ولده وأسف على فقده، نسبوا شعرا إلى "إبليس، قالوا انه نظمه في الرد على شعر "آدم" المذكور، وأنه اسمعه "آدم" بصوته دون أن يراه. ورووا أشياء أخرى كثيرة من هذا القبيل.

(1/72)


--------------------------------------------------------------------------------

ولكن هل يمكن الاطمئنان إلى قصص كهذا يرجع أهل الأخبار زمانه إلى مئات من السنين قبل الإسلام، والى أكثر من ذلك ونحن نعلم، بتجاربنا معهم، أن ذاكرتهم اختلفت في أمور وقعت قبيل الإسلام، واضطربت في تذكر حوادث حدثت في السنين الأولى من الإسلام. كيف يمكننا الاطمئنان إلى ما ذكروه عن التبابعة وعن أناس زعموا أنهم عاشوا دهرا طويلا قبل الإسلام: ونحن نعلم من كتابات المسند ومن المؤلفات اليونانية والسريانية، أنهم لم يكونوا على ما ذكروه عنهم، وأنهم عاشوا في أيام لم نبعد بعدا كبيرا عن الإسلام، وأنهم كانوا يكتبون بالمسند وبلسان يختلف عن هذا اللسان الذي نزل به القران ثم خذ ما ذكروه عن حملة "أبرهة" على مكة وعن أبرهة نفسه، وعن "أبي رغال"، وعن حادث نجران وذي نواس، وعن خراب سد مأرب، وعن أمثال ذلك من حوادث وأشخاص سيرد الكلام عليها في أجزاء هذا الكتاب، تجد أن ما ذكروه عنها وعنهم يتحدث بجلاء وبكل وضوح عن جهل بالواقع وعن عم فهم لما وقع، وعن عدم أدراك للزمان والمكان، وعن عدم معرفة بالأشخاص. فرفعوا تواريخ بعض تلك الحوادث إلى مئات من السنين، وخلطوا في بعض منها، وفي كل ذلك دلالة على أن ما حفظته الذاكرة، لم يكن نفي خالصا من الشوائب، وأن الذاكرة لا يمكن أن تحافظ على ما تحفظه أمدا طويلا وأن آفات النسيان وتلاعب الزمان بالحفظ لا بد أن يغير سن طبائع المحفوظ.
والاخباريون إذ رووا ذلك ودونوه، لم يكونوا أول من وضع وصنع وافتعل وجاء بالقصص والأساطير على أنها باب من أبواب التاريخ، فقد فعل فعلهم اليونان والرومان والعبرانيون وسائر الشعوب الأخر، يوم أرادوا تدوين تواريخ العصور التي سبقت عندهم عصور الكتابة والتدوين، إذ لم يجسوا أمامهم غير هذا النوع من الروايات الشفوية البدائية التي عبث بصفائها الزمان كلما طال أجله إلى زمن التدوين، فدونوه ورووه، إلى أن وصل الينا على النحو المكتوب.

(1/73)


--------------------------------------------------------------------------------

وللسبب المذكور نرى في الأخبار الواردة عن ملوك الحيرة، أو عن صلات الفرس بالعرب أخبارا قريبة إلى منطق التاريخ والى الواقع يمكن أن نأخذ بها وأن تستعين بها في تدوين تاريخ الحيرة وتاريخ الساسانيين مع العرب. ويعود سبب ذلك إلى رجوع الرواة إلى موارد مدونة، أو إلى شهود عيان أدركوا أنفسهم الحوادث، وكلها من الحوادث القريبة من الإسلام والتي وقع بعضها في أيام الرسول. أما حوادث آل نصر، أو أخبار الفرس مع العرب البعيدة، فلا تجد فيها هذا الصفاء والنقاء، بل نجد فيها قترة وغرة، لنقلها بالسماع والمشافهة وتقادم العهد على السماع. وهكذا صار تاريخ الحيرة المروي في التواريخ غيوما تتخللها فجوات متبعثرة تنبعث منها أشعة الشمس.
نعم جاء أن أهل الحيرة كانوا يعشون بتدوين أخبارهم وأنساب ملوكهم وأعمار من ملك منهم، وكانوا يضعون ذلك في بيع الحيرة. وورد إن النعمان ملك الحيرة أمر فنسخت له اشعار العرب في الطنوج، وهي الكراريس، فكتبت له ثم دفنها في قصره الأبيض. فلما كان المختار بن أبي ****ة، قيل له: إن تحت القصر كنزا، فاحتفره فأخرج تلك الأشعار. وذكر ابن سلام الجمحي انه "كان عند النعمان بن المنذر ديوان فيه أشعار الفحول وما مدح به هو وأهل بيته، فصار ذلك إلى بني مروان، أو ما صار منه".

(1/74)


--------------------------------------------------------------------------------

ولكنني على الرغم من ورود هذه الأخبار لا أستطيع أن اقف منها الآن موقفا إيجابيا،إذ لم اسمع إن أحدا من رواة الشعر ذكر انه رجع إلى تلك الطنوج والدواوين فاخذ منهما، أو أن بني مروان عرضوها على أحد. ولو كانا تلك الدواوين موجودة، لم يسكت عنها رواة الشعر الجاهلي وطلابه الذين كانوا يبحثون عنه في كل مكان. ثم إن الأخباريين يذكرون إن "الوليد بن يزيد بن عبد الملك"، كان يرسل إلى "حماد" رسلا ليأتوا إليه بما يريد الوقوف عليه من الشعر الجاهلي، وأنه "جمع ديوان العرب وأشعارها وأخبارها وأنسابها ولغاتها الوليد بن يزيد بن عبد الملك ورد الديوان إلى قاد وجناد"، وأنه أحضره إلى الشام، واستنشد أشعار "بلي" وأشعارا أخرى ه، ولو كان لدى"بني مروان" ديوان "النعمان بن المنذر" الذي جمع فيه اشعار الفحول وما مدح به هو وأهل بيته، لما احتاج "الوليد" إلى أن يسأل حمادأ وجنادا ليرسل إليه ديوان العرب وهو ديوان لا ندري اليوم من أمره شيئا، ولم يذكر "ابن النديم" صاحب الخبر، ما علاقة الرجلين المذكورين بذلك الديوان. هل كانا اشتركا مما في جمعه،أو أن كل واحد منهما قد جمع بنفسه الأشعار في ديوان، فأرسل الوليد اليهما بطلب منهما ما جمعاه، ليجمعه مع ما عنده في ديوان.

(1/75)


--------------------------------------------------------------------------------

ثم إننا لم نسمع أحدا يقول:"كنت أستخرج أخبار العرب وأنساب آل نصر ابن ربيعة، ومبالغ أعمار من عمل منهم، لآل كسرى، وتاريخ سنيهم مزن بيع الحيرة، وفيها ملكهم وأمورهم كلها"، غير الراوية "هشام بن محمد الكلبي". فلم وقف "ابن الكلبي" وحده على تلك الكنوز، ولم يلجأ غيره إلى بيع الحيرة، ليأخذ منها أخبار نصر ? ألم يسلم بوجودها -أحد غيره ? ثم لم اختلفت روايات "ابن الكلبي" وتناقصت في أمور من تأريخ الحيرة، ما كان من الواجب وقوع اختلاف فيها،و لم لجأ أيضا إلى رواية القصص والأساطير عن منشأ "الحيرة"، وعن "عمرو بن عدي"، وعن جذيمة، وعن "قصر الحورنق" وعن غير ذللك، ليقصها على أنها تأريخ آل نصر. أيعد هذا دليلا على أخذه من موارد قديمة مكتوبة مدونة ? نعم، من الجائز أن يكون قد اخذ من صحف كانت قد دونت أسماء آل نصر المتأخرين، وبعض الأخبار المتعلقة بهم، أما أنه أخذ أخبارهم كاملة مدونة من كتاب أو من كتب تأريخ بالمعنى المفهوم من الكتاب، فذلك ما أشك فيه، لأن الذي ينقل أخباره من كتاب في التاريخ لا يروي تاريخ تلك الأسرة وتاريخ عربها على الشكل الذي رواه.

(1/76)

admin
12-25-2010, 12:43 PM
قال "الطبري": "وكان أمر آل نصر بن ربيعة ومن كان من ولاة ملوك الفرس وعمالهم على ثغر العرب الذين هم ببادية العراق عند أهل الحيرة، متعالما، مثبتا عندهم في كنائسهم وأسفارهم"، وتدل هذه الملاحظة التي تؤيد رواية "ابن الكلبي" المتقدمة- ولعل "الطبري" أخذها من رواية لابن الكلبي، دون أن يشير إليه، - على وجود أسفار في تواريخ أهل الحيرة، إلا أني أعود فأقول إن أكثر المروي عنهم، لا يدل على أنه منقول من موارد مدونة، لما فيه من اضطراب وتناقض، ولغلبة طابع الروايات الشفوية عليه. والأخبار الوحيدة التي يمكن أن تكون منقولة من موارد مدونة، هي الأخبار المتأخرة التي تعود إلى أواخر أيام الحيرة، الأيام المقاربة للإسلام إلى زمن فتح المسلمين لها. ثم إن لقربها من زمن التدوين علافة بوضوح هذه الأخبار المتأخرة وبدرجة صفائها.
ولا تعني هذه الملاحظات إننا ننكر وجود مدونات عند أهل الحيرة في التاريخ أو في الشعر أو في أي موضوع آخر، ولا أعتقد أن في استطاعة أحد نكران وجود التأليف عندهم. فقد ورد في التواريخ الكنائسية أسماء رجال من أهل الحيرة ساهموا في المجالس الكنائسية التي انعقدت للنظر في أمور الكنيسة ومشكلاتها، ومنهم من برز وألف في موضوعات دينية وتارخية، كما ورد في أخبار أهل الأخبار أن أهل الحرة كانوا يتداولون قصص رستم واسفنديار وملوك فارس، وأن "النصر بن الحارث" الذي كان يعارض الرسول، تعلم منهم، وكان يحد"ث أهل مكة بأخبارهم معارضا رسول الله، ويقول: آينا أحسن حديثا? أنا أم محمد?

(1/77)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا بد أن يكون معين القصص الذي تعلمه "النضر بن الحارث هو في هذا المعين المدون في كتب الفرس. و قد كانت للفرس كتب في سير ملوكهم وآدابهم ترجم بعضها في الإسلام، مثل كتاب "سير العجم"، أو "كتاب خداي نامه"، أو كتاب "سير الملوك" أو "سبر ملوك العجم"، ترجمة "عبد الله بن المقفع" و "كتاب التاج" للمترجم نفسه، وكتب أخرى لم تترجم كانت شائعة عند الفرس معروفة، يحافظون عليها ويتداولونها" منها استمد المؤرخون العرب الإسلاميون أخبار الفرس ومن حكم منهم من ملوك.
ولقد قال "كولد تزهير" و "بروكلمن" بوجود أثر فارسي في ظهور علم التأريخ عند المسلمين. أما أثر الموارد الفارسية في مادة الفصول المدونة عن الفرس وعن ملوك الحيرة، فواضح ظاهر، ولا يمكن لأحد الشك فيه، و أما أثرها فيما عدا ذلك، ولا سيما في كيفية عرض التاريخ وفي أسلوب تدوينه وتبويبه، فدعوى أراها غير صحيحة، لأن طريقة الابتداء بالزمان ثم ابتداء الخلق وعدد أيام الخلق وخلق آدم ثم التحدث عن الأنبياء بحسب تسلسل رسالاتهم وهي الطريقة التي سار عليها من دون في التأريخ العام من المسلمين مثلا، فعل "الطبري" في تأريخه، طريقة لا يمكن أن تكون فارسية، لأن الفرس مجوس، والمجوس لا يعتقدون بهؤلاء الرسل والأنبياء. والصحيح، إنها طريقة المؤرخين الذين جاؤوا بعد الميلاد، فهم الذين رو جوا الأسلوب المذكور تدوين التاريخ. ويمكن إدراك ذلك من المقابلة بين الأسلوبين: الأسلوب المذكور في تدوين التأريخ وفي كيفية تبويبه وتصنيفه وأسلوب الكتب التاريخية المدونة اليونانية وفي السريانية إلى زمن تدوين التأريخ عند المسلمين.

(1/78)


--------------------------------------------------------------------------------

والرأي عندي أن علمنا بأسلوب التأريخ عند الفرس: كيفية عرضه وطرقه وتبويبه علم نزر، لأن ما وصل إلينا من كتبهم معدود محدود، وما ورد فيه سير ملوكهم وأيامهم وما نجده مترجما ومنشورا في المؤلفات العربية، هو مم نوع القصص الذي يغلب عليه الطابع الأدبي، فيه أدب السلوك ومواعظ الحكم وأقوال في الحكمة، وحتى القسم المتصل منه بالتأريخ قد وضع بأسلوب عاطفي أدبي. ومن هنا ابتعد عن أسلوب المؤرخين اليونان واللاتين، وعن أسلوب المؤرخين الذين ظهروا بعد الميلاد. وقد يكون لاختلاف الذوق دخل في اختلاف الأسلوبين. ومهما يكن من أمر فأنا لا أريد أن أكون متسرعا عجولا في إصدار حكم على فن التأريخ عند الفرس، فابغض الأشياء إلي التسرع في إصدار الأحكام في التاريخ، ومن الحكمة وجوب التريث و الانتظار، فلعل الأيام تتحفنا بتواريخ فارسية، ترينا أن للفرس رأيا أصيلا في التأريخ، وأن لهم طريقة المؤرخين في تدوين تأريخ العالم وتأريخ بلادهم وفي تدوين سير الملوك والأشخاص، وأنهم كانوا قد عينوا مراسلين يلازمون جيوشهم لتدوين أخبار الحروب، كما فعل الروم، ولكن بعقلية مستقلة لم تتأثر بطريقة اليونان واللاتين.

(1/79)


--------------------------------------------------------------------------------

ويكاد يكون أكر ما دون عن "الغساسنة" في المؤلفات العربية الإسلامية مأخوذا من الروايات الواردة عن ملوك الحيرة وعرب الحيرة، أنداد الغساسنة، ولذلك لم تكن في جانبهم، وتكاد تلك الأخبار ترجع في الغالب إلى شخص واحد، تخصص بأخبار الحيرة وملوك الفرس، هو هشام بن محمد بن السائب الكلبي، وهو الذي روى هذه الأخبار اعتمادا على بحوثه الخاصة، وعلى البحوث و الدراسات التي قام بها والده من قبله. ويجب أن نجعل لهذه الملاحظات الاعتبار الأول في تدوين تاريخ الغساسنة. وقد وردت أخبارهم في الطبري مع أخبار ملوك الحيرة والفرس لهذا السبب. و أما في سائر الأصول التاريخية الأخرى، فهي مقتضبة، وشد اكتفى بعض المؤرخين بإيراد جريدة بأسماء الملوك، وهو عمل ينبئك بقلة بضاعة القوم في تاريخ عرب الشام. وعلى كل حال، فإننا نجد في كتب الأدب وفي دواوين الشعر عونا لنا في تدوين، تاريخ غسان، قد يسد بعض الفراغ في تاريخ هذه الإمارة، وان كان ذلك كد لا يكفي، بل لابد من الاستعانة بأصول أعجمية من يونانية وسريانية، ففيها مواد عن نواح مجهولة من هذا التاريخ، كما أنها تصحح شيئا مما ورد في الموارد العربية مهن أغلاط. ولقد تأثرت روايات "ابن الكلي" بطابع التعصب لأهل الحيرة على الغساسنة، لاعتماده على روايات أهل الحيرة وعلى أهل الكوفة في سرد تاريخ الغساسنة،وقد كان ملوك الحيرة أندادا لملوك الغساسنة، ولهذا تتعارض رواياته وروايات من استقى من هذا المورد مع روايات علماء اللغة والأدب والشعر الني وردت استطرادا عن أهل الحيرة أو الغساسنة، وذلك في أثناء شرحهم لفخمة أو بيت شعر أو قصيدة أو ديوانا أو حياة شاعر كانت له علاقة بالحيرة أو بالغساسنة، أو عن قصة من القصص، وما شاكل ذلك. ومرجع أولئك الروايات العربية الخالصة، وقد استمدت من رجال كانوا شاهدي عيان،أو رووا ما سمعوه من أفواه الناس، ويمكن إدراك اتجاهها وميولها بوضوح، ولهذا تجب الموازنة بين

(1/80)


--------------------------------------------------------------------------------

الروايتين.
أما روايات أهل "يثرب" أي "المدينة"، فهي في مصلحة الغساسنة في الأكثر، وقد كانوا على اتصال دائم بهم.ولهم تجارات معهم، وكان شعراؤهم يفتخرون بانتسابهم هم وآل غسان إلى أصل واحد و دوحة واحدة هي الأزد. وهذا يستحسن التفكر في هذا الأمر بالنسبة إلى روايات أهل المدينة، ولا سيما أخبار حسان بن ثابت الأنصاري عن أل غسان.
ومما يؤسف عليه أن المؤرخين المسلمين لم يغرفوا من المناهل اليونانية واللاتينية والسريانية لتدوين أخبارهم عن تأريخ العرب قبل الإسلام، لا قبل الميلاد ولا بعده، مع أنها أضبط وأدق من الأصول الفارسية، ومن الروايات التي تعتمد على المشافهة بالطبع.وقد كان من عادة اليونان إلحاق عدد من المخبرين والمسجلين الرسميين بالحملات لتسجيل أخبارها، كما حوت الموارد السريانية بصورة خاض والموارد اليونانية المؤلفة بعد الميلاد أمورا كثيرة فيما يخص انتشار النصرانية بين العرب، وفيما يخص المجامع الكنائسية التي حضرها أساقفة من العرب، وكذلك الآراء والمذاهب النصرانية التي ظهرت بين نصارى العرب.

(1/81)


--------------------------------------------------------------------------------

نعم لقد وقف المؤرخون على تواريخ عامة وخاصة مدونة بالرومية والسريانية كانت عند جماعة من المشتغلين بالتأريخ من أهل الكتاب. وقد فسروها، أو فسروا بعضها لهم، ولا سيما ما يتعلق منها بموضوعات لها صلة بالقرآن الكريم مثل كيفية الخلق والزمان والمكان وقصص الرسل والأنبياء والملوك، نجد طابعه ومادتها وأسلوبها في هذا المدون عن قبل الإسلام، والذي صار مقدمة لتاريخ الإسلام، عرج المشتغلون في التأريخ العام على وضعها قبل تاريخ الرسالة. وقد استفاد من بعضها بعض المؤرخين، مثل المسعودي وحمزة الأصفهاني وآخرين، في تدوين تاريخ ملوك الروم، وقد صارت طريقتهم كما قلت سابقا أنموذجا للمؤرخين ساروا عليه في عرض التأريخ وفي تدوينه، غير أن هذا النقل لم يكن ويا للأسف قد تجاوز هذا الحد، فكان ضيق المجال محدود المساحة، وقد كان من الواجب عليهم الاستعانة بتلك الموارد في علاقات العرب بالروم وفي موضوع النصرانية في بلاد العرب على الأقل،وهي موارد فيها مادة مفيدة في هذا الباب.

(1/82)


--------------------------------------------------------------------------------

وأود أن أشير إلى الخدمة التي أداها علماء الأخبار برجوعهم إلى الشيب والى حفظة أخبار القبائل من مختلف القبائل لجمع أخبار القبائل وأيامها وحوادثها قبل الإسلام. وقد وضعت في ذلك جملة مؤلفات ضاع أكرها ويا للأسف، ولم يبق منها إلا الاسم،ولكننا في مع ذلك مادة غنية واسعة منها في كتب الأدب، أستطيع أن أقول إنها أوسع وأنفع بكثير من هذه المواد المدونة المجموعة في كتب التأريخ. وهذا شيء غريب، إذ المأمول أن تكون كتب التأريخ أوسع مادة منها في هذا الباب، وأن تأخذ لب ما ورد فيها مما يخص التأريخ تضيفه إلى ما تجمع عندها من مادة. والظاهر إن المؤرخين، ولا سيما المتزمتين منهم المتقيدين بالتاريخ على أنه حوادث - مضبوطة مقرونة بوقت و بمكان وبعيدة عن أسلوب الأيام والقصص، رأوا أن ذلك المروي عن أخبار القبائل والأنساب وحوادث الشعراء هو ذو طابع أدبي أو طابع خاص لا علاقة له بالحكومات والملوك، فلم يأخذوا به، وتركوه، لأنه خارج حدود موضوع التاريخ كما فهموه. وهو فهم خاطئ لمفهوم التأريخ ولمفهوم الموارد التي بحب أن يستعان بها لتدوينه. فأضاعوا بذلك مادة غزيرة لم يدركوا أهميتها وفائدتها أن ذاك. و إهمالهم لتلك الموارد هو من جملة مواطن الضعف التي نجدها عند أولئك المؤرخين.أما نحن، فقد وجدنا فيه ثروة تزيد كثيرا على الثروة الواردة في مؤلفات المؤرخين. وإهمال المؤرخين لتلك الموارد هو من أسباب الضعف التي نبدها في فهمهم للمنابع التي يجب أن يستعان بها في تدوين التأريخ.

(1/83

admin
12-25-2010, 12:44 PM
وإذا كان القدامى قد أخطأوا في فهم معنى التاريخ، ووقعوا من ثم في خطأ بالنسبة إلى الموارد التي يجب أن يرجع إليها في تدوين تأريخ الجاهلية، فعلينا يقع في الزمن الحاضر وعلى القادمين من بعدنا بصورة خاصة واجب مراجعة الموارد الأخرى من كتب في التفسير وفي الحديث وفي الفقه وفي الأدب وغير ذلك، لاستخراج ما فيها من مادة عن الجاهلية، لأنها كما قلت أغزر مادة وأقرب إلى المنطق في بعض الأحيان في فهم الحوادث من كتب المؤرخين.
والغريب أن المستشرقين الذين عرفوا بجدهم وبرصهم على الإحاطة بكل ما يرد عن حادث، أهملوا مع ذلك شأن الموارد المذكورة، ولم يأخذوا منها إلا في القليل. ولو راجعوها، لكان ما جاؤوا به عن الجاهلية أضعاف أضعاف ما جاؤوا به وكتبوه، ولكانت بحوثهم أدق وأعمق مما هي عليه الآن.
وفي طليعة من اشتغل برواية أخبار ما قبل الإسلام: **** بن شرية،ووهب ابن منبه، ومحمد بن السائب الكلي، وابنه أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلي، وآخرون. وبعض هؤلاء مثل **** بن شرية وكعب الأحبار ووهب ابن منبه، قصاص أساطير، ورواة خرافات، وسمر مستمد من أساطير يهود، وأولئك وأمثالهم هم منبع الإسرائيليات في الإسلام.

(1/84)


--------------------------------------------------------------------------------

فأما **** بن شرية، فقد كان من أهل صنعاء "في رواية" أو من سكان الرقة "في رواية أخرى". وكان معروفا عند الناس بالقصص والأخبار، فطلبه معاوية، فصار يحدثه بأخبار الماضين. ومن الكتب المنسوبة إليه: كتاب الأمثال، وكتاب الملوك وأخبار الماضين، وقد طبع في ذيل "كتاب التيجان في ملوك حمير" المطبوع بحيدراباد دكن بالهند بعنوان "أخبار **** بن شرية الجرهمي في أخبار اليمن وأشعارها وأنسابها" وقد وضع الكتاب على الطريقة التي تروى بها الأسمار وأيام العرب، وفيه أشعار كثيرة وضعت على لسان عاد وثمود ولقمان وطسم وجديس والتبابعة، وفيه قصص إسرائيلي وشعبي يمثل في جملته السذاجة وضعف ملكة النقد، وبساطة القص والقصة، ومبلغ علم الناس في ذلك الوقت بأخبار الأوائل.
وقد حصل "كتاب الملوك وأخبار الماضين" على شهرة بعيدة، وطلب في كل مكان، وكثرت نسخه، ومع هذه الكثرة اختلفت نسخه، حتى صعب العثور على نسختن متشابهتين منه. وقد نقل الهمداني "المتوفى سنة 334 للهجرة" بعض الأخبار المنسوبة إلى ****. ولما نقله، أهمية كبيرة في تثبيت مؤلفات ****، إذ يمكن مقابلته بما نشر، ومطابقته بما طبع، فيمكن عندئذ معرفة ما إذا كان هناك اتفاق أو اختلاف. ويمكن عندئذ تعيين هوية المطبوع.
والطابع الظاهر على أخبار ****، هو طابع السمر والقصص والأساطير المتأثرة بالإسرائيليات. وأما الشعر الكثير الذي روي على أنه من نظم التبابعة وغيرهم، وفيه قصائد طويلة، فلا ندري أمن نضمه أم من نظم أشخاص آخرين قالوها على لسان من زعموا أنهم نظموها، أو إنها أضيفت فيما بعد إلى الكتاب ونسبت روايتها إلى ****? وعلى كل فإنها تستحق توجيه عناية الباحثين إلى البحث عن زمن ظهورها وأثرها في عقلية أهل ذلك الزمن.

(1/85)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما "وهب بن منيه"، فقد كان من أهل "ذمار"،وكان قاصا أخباريا، من الأبناء، ويقال انه كان من أصل يهودي، واليه ترجع أكثر الإسرائيليات المنتشرة في المؤلفات العربية. وقد زعم أنه كان ينقل من التوراة ومن كتب بني إسرائيل، وانه كان يقول: "قرأت من كتب الله تعالى اثنين وسيعين كتابا"، وانه كان يتقن اليونانية والسريانية والحمرية، ويحسن قراءة الكتابات القديمة الصعبة التي لا يقدر أحد على قراءتها. قال المسعودي: "وجد في حائط المسجد لوح من حجارة، فيه كتابة باليونانية، فعرض على جماعة من أهل الكتاب فلم يقدروا على قراءته، فوجه به إلى وهب بن منبه، فقال: هذا مكتوب في أيام سليمان بن داوود، عليهما السلام، فقراه، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. يا ابن آدم، لو عاينت ما بقي من يسير أجلك: لزهدت فيما بقي من طول أملك، وقصرت عن رغبتك وحيلك، و إنما تلقي قدمك ندمك إذا زلت بك قدمك، وأسلمك أهلك، وانصرف عنك الحبيب، وودعك القريب، ثم صرت تدعى فلا تجيب، فلا أنت إلى أهلك عائد، ولا في عملك زائد، فاغتم الحياة قبل الموت، والقوة قبل الفوت، وقبل أن يؤخذ منك بالكظم، ويحال بين ك وبين العمل. وكتب في زمن سليمان بن داوود".

(1/86)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي كتاب "التيجان في ملوك حمير" رواية ابن هشام نماذج لقراءته، وهي على هذا النسق الذي يدل على سخي يته بعقول سامعيه إن كان ما نسب إليه حقا، وأنه قرأه عليهم صدقا، ومن يسري? فلعله كان لا يعرف حروف اليونانية، ولا يمجز بينها وبين الأبجديات الأخرى. ثم هل يعجز أهل دمشق عن قراءة نص يوناني أو سرياني او عبراني وقد كان فيها في ايام وهب ين منبه علماء فطاحل حذقة بهذه اللغات هم نفر من أهل الكتاب? والذي يهمنا من أمر "وهب بن منبه" أخباره عن الجاهلية. ولوهب أخبار عن اليمن والأقوام العربية البائدة، ونجد روايته عن نصارى نجران وتعذيب "ذي نواس" إباهم، وقصة الراهب "فيميون" مطابقة للروايات النصرانية ولما جاء في كتاب "شمعون الأرشامي" عن هذا الحادث. والظاهر أنه كان قد أخذها من المؤلفات النصرانية أو من أشخاص كانوا قد سمعوا يما ورد عن حادث "نجران" من أخبار. وقد ذكر أن وهبا كان يستعين بالكتب، وأن أخاه "همام بن منبه بن كامل بن في شيخ اليماني" أبا عقبة الصنعاني الأبناوي، كان يشتري الكتب لأخيه. ولعله استقى أخباره عن بعض الأمور المتعلقة بالنصرانية مثل مولد وحياة المسيح من تلك الموارد، أو من اتصاله بالنصارى. أما ما ذكره عن التبابعة والعرب البائدة، فإنه قصص. وأما علمه بأخبار العرب الآخرين، فيكاد يكون صفرا، فلا نجد في رواياته شيئا يعد تاريخا لعرب الحيرة او الغساسنة أو عرب في. فهو في هذا الباب مثل "**** بن شرية" من طبقة القصاص. لم يصل إلى مستوى أهل الأخبار، ولعله وجد نفسه ضعيفا في التأريخ وفي أخبار العرب، فمال إلى شيء آخر لا يدانيه فيه أصد، وهو مرغوب فيه مطلوب، وهو القصص الإسرائيلي، وما يتعلق بأقوام ماضين، ذ كروا في القرآن الكريم، وكانت بالمسلمين الأولين حاجة إلى من يتحدث لهم عن ذلك القصص وأولئك الأقوام.

(1/87)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن الكتب المنسوبة إلى وهب "كتاب الملوك المتوجة من حمير وأخبارهم وقصصهم وقبورهم وأشعارهم"، وقد تناول أخبار التبابعة. والظاهر أن "كتاب التيجان في ملوك حمير" الذي طيع في الهند، رواية ابن هشام أبي محمد عبد الملك بن هشام ين أيوب الحمري "المتوفى سنة 213 أو 218 ه" قد استند إليه، بعد أن أضاف إليه أخبارا أخذها من مؤلفات محمد بن السائب الكلبي وأبي مخنف لوط ين يحيى و زياد بن عبد الله بن الطفل العامري أبي محمد الكوفي المعروف بالبكائي رواية ابن إسحاق.وهو خليط من الإسرائيليات والقصص اليماني ومن مواد أخرى قد تكون من وضعه، أو من صنعة آخرين، صنعوها قبله، فأخذها من السنة الناس، مثل تلك القصائد والأشعار الكثيرة المنسوبة إلى التبابعة وغيرهم. وقد أورد في الكتاب أسماء أخذت من التوراة ذكرها بنصه كما تلفظ بالعبرانية، مما يبعث على الظن أنها أخذت من مورد يهودي. وأما سائر الأخبار الواردة في الكتاب، فالغالب عليها السذاجة، إذ لا نجد فيها عمقا ولا مادة تأريخية غزيرة كالمادة التي نجدها في مؤلفات ابن الكلبي، وفي مؤلفات الهمداني الذي عاش بعده.
و أود أن ألفت أنظار العلماء إلى أهمية روايات "وهب بن منبه" وأخبار بالنسبة إلى من يريد الوقوف على الدراسات التوراتية والتلمودية في ذلك العهد ففيها فقرات كثيرة زعم "وهب" أو آخرون قالوا ذلك على لسانه، أنم قراءات أي ترجمات أخذت من التوراة ومن كتب الله الأخرى. وإذا ثبت بع مقابلتها بنصوص التوراة والتلمود والمشنا وغيرها من كتب اليهود، إنها من تلك. الكتب حقا، و إنها ترجمات صحهحة، فنكون قد حصلنا بذلك على نماذج قديم لمواضع من تلك الكتب قد تفيدنا في إرشادنا إلى ترجمات أقدم منها، كما تعين في الوقوف على النواحي الثقافية للعرب في ذلك العهد.

(1/88)


--------------------------------------------------------------------------------

ولأبي المنذر هشام بن محمد بن السائب الحلبي المتوفى سنة 204 أو 206 ه فضل كبير على دراسات تاريخ العرب قبل الإسلام، فاغلب معارفنا عن هذا العهد تعود إليه. وقد سلك مسلكا جعله في طليعة الباحثين في الدراسات الاثارية عند المسلمن، برجوعه إلى الأصول، واعتماده على المراجع التاربخية، متبعا سبيلا تختلف عن سبيل أهل اللغة في البحث، وهو - بطريقته هذه - قريب من طريقة المؤرخين في تدوين التأريخ.
ولكنه لم يخل مع ذلك من مواطن الضعف التي تكون عادة في الأخباربين، مثل سرعة التصديق، ورواية الخبر على علاته دون نقد أو تمحيص. وقد اتهم بالوضع والكذب. ولذلك نجنب جماعة من العلماء الرواية عنه، وقالوا عن بعض أسانيده أنها سلسلة الكذب. وذهب "بر كلمن" إلى أن ما اتهم عليه ابن الكلبي لم يكن كله صحيحا، وأن البحوث العلمية التي قام بها المستشرقون دلتهم على أن الحق كان في جانبه في كثر من المواضع التي اتهم عليها.
وأنا لا أريد أن أبرئه من الوضع أو من تهمة أخذه كل ما يقال له، ولا سيما إذا كان القائل من أهل الكتاب، دون مناقشة ولا إبداء رأي. فقي المنسوب إليه شيء كثير من الإسرائيليات والقصص الممسوخ الذي يدل على جهل قائله أو استخفافه بعقل السامع وعلمه، مثل اختراع سلاسل من النسب زعم أنها واردة في التوراة، أو عند أهل النسب، مع إن الوضع فيها بين واضح،وهي غير واردة في التوراة ولا في التلمود. ولعل حرصه على الظهور بمظهر العالم المحيط بكل شيء من أخبار الماضين، هو الذي حمله على الوضع، وقد وضع غيره من أقرائه شعرا ونثرا، وصنع قصصا، ليتفوق بذلك على أقرانه وخصومه،وليظهر بمظهر العالم الذي لا يفوته شيء من العلم.

(1/89)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عالج بعض الباحثين زعم "ابن الكلبي" أنه كان يستخرج أخبار العرب وأنساب آل نصر ومبالغ أعمار من عمل منهم، وتاريخ سنيهم من بيع الحيرة فرأى أن كتابات أهل الحرة كانت بالكتابة النبطية وبالأرقام النبطية، كما أثبت ذلك نص "النمارة" أيضا، وأن "ابن الكلي" لم يكن يحسن قراءة النبطية ولم يفهمها، وعندما حاول قراءتها لم يتمكن من ذلك فوقع في أوهام، وجا بأمثلة على ذلك تتعلق بما ذكره "ابن الكلي" من مدد حكم أولئك الملوك فوجد أنه لم يميز مثلا بين الرقم "20" والرقم "100 " وذلك لتشابه شكل الرقم الأول مع !شكل الرقم الثاني في النبطية، فقرأ العشرين مئة، فزاد سني حكم الملوك. ومن هنا أخطأ في ضبط مدد حكم -ملوك الحيرة، ولا سيما بالنسبة للقدامى منهم، لأن الكتابات النبطية المتقدمة لم تكن مثل الكتابات النبطية المتأخرة في قربها من الأبجدية العربية القديمة.
هذا ولم يبحث موضوع أخذ "ابن الكلبي" من بيع الحرة حنى ألان برأ عليا مركزا. وهو موضوع أرى أنه جدير بالدراسة والعناية. وحري بان يقارن ما ذكره "ابن الكلبي" بما جاء في الموارد النصرانية عن " آل نصر"،لنرى مقدار الصحة من الخطأ في فهم "ابن الكلبي" لتلك الموارد الني ذكر أنه قرأها وانه استعان بها في جمع تأريخ عرب العراق قبل الإسلام.
ولم يبق من القائمة الطويلة التي ضمنها "ابن النديم" مؤلفات ابن الكلبي غير قليل. وهي في المآثر والبيوتات و المنافرات والمؤودات وأخبار الأوائل وفيما قارب الإسلام من أمر الجاهلية، وفي أخبار الشعوب وأيام العرب، والأخبار والأسماء والأنساب.

(1/90)

admin
12-25-2010, 12:48 PM
وهناك بعض الشبه بين بحوث أبي عيي حدة "المتوفى بسنة عشر ومائعتين" الذي كان له علم بالجاهلية،ومصنفات وبحوث في القبائل والأنساب، وبين ابن الكلبي في اتجاهه ومناحيه. ولكنه دونه في أخباره عن الجاهلية، ومؤلفاته في أمور الجاهلية لا تعد شيئا بالنسبة إلى ما ينسب إلى ابن الكلبي من مؤلفات، كما إن أخباره ورواياته عنها قليلة بالنسبة إلى أخبار ابن الكلبي ورواياته.
وهناك عدد آخر من العلماء، كالأصمعي، و "الشرقي بن القطامي"، وسائر من اشتغل بالأنساب واللغة والأدب، كان لهم فضل كبير في جمع أخبار الجاهلية المتصلة بالإسلام، وقد تولدت من شروحهم و أماليهم وكتبهم ثروة تاريخية قيمة لم ترد في كتب التاريخ. ولكن عرض أسمائهم هنا وذكر بحوثهم ومؤلفاتهم يضطرنا إلى كتابة فصول طويلة عن جهودهم وأتعابهم وعن ضعف رواياتهم أو قوتها، وذلك يخرجنا عن حدود كتابنا، ولهذا اكتفي هنا بما كتبت وذكرت، على أن أتعرض لأراء الباقين في المواضع التي ترد فيها، فأشير إلى صاحبها والى روايته عن الحادث. ولتهن لا بد لي من التحدث عن عالمين من علماء اليمن، ألفا في تاريخ اليمن القديم، وجاء بمعلومات ساعدتنا كثيرا في توسيع معارفنا بالأماكن الأثرية هناك،إذ أشارا إلى أسماء أبنية ومواضع، وشخصا أمكنة، ووصفا عاديات رأياها، فأفادنا بذلك فائدة كبيرة.
أما أحدهما، فهو الهمداني، أبو محمد الحسن بن احمد بن يعقوب بن يوسف المتوفى سنة 334ه. أو بعد ذلك كما ذهب إلى ذلك الحوالي. وأما الآخر، فهو "نشوان بن سعيد الحميري"، المتوفى سنة 573ه.

(1/91)


--------------------------------------------------------------------------------

لقد بذل الهمداني مجهودا يقدر في تأليف كتبه وفي اختيار موضوعاته،وسلك في بحوثه سبيلا حسنا بذهابه بنفسه إلى الأماكن الأثارية وبوصفه لها في كتبه، فأعطانا بذلك صورا لكثير من العاديات التي ذهب أثرها واختفى رممها، لمجل طمست حنى أسماء بعضها. و بمحاولته قراءة المسند وترجمته إلى عربيتنا، للوقوف على معناها ومضمونها، يكون قد استحق التقدير والثناء، لأن عمله هذا يدل على ادراكه لأهمية الكتابات في استنباط التواريخ. على أننا يجب أن نذكر أيضا أن الهمداني لم يكن أول من عمد إلى هذه الطريقة، طريقة قراءة الكتابات لاستنباط التواريخ منها، فقد سبقه غيره في هذه القراءات، وكانوا،مثله يبغون الوقوف على ما جاء فيها، ومعرفة تواريخها. ولخد أشار "الهمداني" نفسه إليهم وذكرهم بأسمائهم، مثل "أحمد بن الأغر الشهابي من كندة" و "محمد ابن أحمد الأوساني" و "مسلمة بن يوسف بن مسلمة الحيواني" وغيرهم. فهم مثله يستحقون الثناء والتقدير أيضا، وهم بطريقتهم هذه في جمع مادة التأريخ يكونون على شاكلة الآثاريين المحدثين في إدراك أهمية الدراسات الآثار والكتابات بالنسبة إلى اكتشاف تواريخ العاديات، وهم بطريقتهم هذه يكونون قد فاقوا غيرهم من المؤرخين العرب في الأمكنة الأخرى بهذه الطريقة، فقلما نبد مؤرخين في الأماكن الأخرى لجأوا إلى دراسة الآثار ودراسة الكتابات ووصف الأمكنة الاثارية لاستنباط التواريخ مها كما يفعل الاثاريون في الزمن الحاضر.

(1/92)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد أثنى الهمداني بصورة خاصة على أستاذ له أخذ منه، فوسمه بأنه "شيخ حمير، وناسبها، وعلامتها، وحامل سفرها، ووارث ما ادخرته ملوك حمير خزائنها من مكنون علمها، وقارئ مساندها، والمحيط بلغاتها" وسماه "أبا نصر محمد بن عبد الله اليهري". وقال انه كان مرجعه فيما كان يشكل عليه من أخبار أهل اليمن، والمنبع الذي غرف منه علمه بأحوال الماضين، إلى أن قال: "وكان بحاثة، قد لقي رجلا وقرأ زبر حمير القديمة ومساندها الدهرية، فربما نقل الاسم على لفظ القدمان من حمير، وكانت أسماء فيها ثقل،فخفضها العرب، وأبدلت فيها الحروف الذلقية، وسمع بها الناس مخففة مبدلة. فإذا سمعوا منها الاسم الموفر، خال الجاهل انه غير ذلك الاسم، وهو هو. فما أخذته عنه، ما أثبته هنا في كتابي هذا من أنساب بني الهميسع بن حمير وعدة الأذواء وبعض ما يتبع ذلك من أمثال حمير وحكمها، إلا ما أخذته عن رجال حمير وكهلان من سجل خولان القديم بصعدة، ومن علماء صنعاء وصعدة ونجران و الجوف وخيوان وما أخبرني به الآباء والأسلاف".

(1/93)


--------------------------------------------------------------------------------

ولملاحظة "الهمداني" على الأسماء اليمانية القديمة، وثقلها على ألسنة الناس في أيامه وقبل أيامه، شأن كبير، إذ ترينا أن لسان أسهل اليمن كان قد تغير وتبدل، وأن ذلك التغير قد تناول حتى الأسماء،. فصارت الأسماء القديمة ثقيلة على أسماعهم، غليظة الوقع عليهم، فخففوها أو بدلوها، وللواقع أننا نشعر من المساند المتأخرة التي وصلت إلينا وقد دونت في عهود لا تعد كثيرا عن الإسلام، ومن الموارد الإسلامية أن الأسماء اليمانية المدونة في كتابات المسند التي يرجع عهدها إلى ما قبل الميلاد، هي أسماء أخذت تقل في كتابات المسند المدونة بعد الميلاد إلى قبيل الإسلام، وأن أسماء أخرى جديدة أخف على السمع حلت محل الأسماء المبهمة القديمة. وفي هذا التطور، دلالة على حدوث تغير في عقلية أهل اليمن بعد الميلاد، وعلى حصول تقارب بين لغتهم ولغة أهل الحجاز وبقية العرب الذين يسميهم المستشرقون "العرب الشماليين".

(1/94)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد حملني قول الهمداني إنه اخذ اخبار رجال حمير و كهلان من "سجل خولان القديم بصعدة"، على مراجعة متن الجزء الأول من الإكليل للوقوف على الأماكن التي اعتمد فيها على هذا السجل، لأتمكن بها من تكوين رأي عنه، ومن الحصول على فكرة عما جاء فيه. وقد وجدته يصول في موضع منه: "وقرأت في السجل الأول: أولد قحطان بن هود أربعة وعشرين رجلا، وهم: يعرب، والشلف الكبرى، ويشجب، وأزال وهو الذي بنى صنعاء، ويكلي الكبرى، بكسر الياء، وخولان: خولان رداع التي في القفاعة، والحارث وغوثا، والمرتاد، وجرهما، وجديسا، والمتمنع، والملتمس، والمتغشمر، وعبادا، وذا هوزن، ويمنا، وبه سميت اليمن. والقطامي، ونباتة، وحضرموت، فدخلت فيها حضرموت الصغرى، وسماكا، وظالما، وخبارا، والمشفتر". ووجدته يقول في موضع آخر: "وأصحاب السجل يقولون مثل قول بعض الناس فيما بين عدنان وإسماعيل، و وجدته يقول: "وفي سجل خولان وحمير بصعدة: أولد مهرة الآمري، والدين، ونادغم،وبيدع..." ويقول في "باب نسب خولان بن عمرو"، "فهذه ألان بطونها على ما روى رجال خولان وحمير بصعدة. وقد سكنت بها عشرين سنة، فأطلت على أخبار خولان وأنسابها، ورجالها كما أطلت على بطن راحتي، وقرأت بها سجل محمد ابن أبان الخنفري المتوارث من الجاهلية، فمن أخبارهم ما دخل في هذا الكتاب، ومنها ما دخل في كتاب الأيام". وقال في موضع: "وقال بعض وضعة السجل ونساب الهميسع". ويتبين من هذه الملاحظات أن السجل المشار إليه هو مجموعة أجزاء، وضعها جملة أشخاص،كل جزء سجل قائم بذاته في الأنساب، وهو متفاوت الأزمنة، ويشمل القبائل والناس. وقد جمعت جمعا، على طريقة رواة النسب في روايه الأنساب. ولا استبعد أن يكون السجل قد وضع في صدر الإسلام، حينما شرع في أيام "عمر" بتسجيل النسب في ديوان. فدونت عندئذ أنساب القبائل، ورجع في ذلك إلى ما كان متعارفا عليه من النسب في الجاهلية الملاصقة للإسلام وفي صدر الإسلام،

(1/95)


--------------------------------------------------------------------------------

ثم أكمل على مرور الأيام. ولذلك تعددت الأيدي في كتابته، وصار على شكل فصول في انساب القبائل، كل سجل في نسب قبيلة وما يتفرع منها. والطابع البارز عليه هو الطابع اليماني المحلي المتأثر بالروايات التوراتية عن "اليقطانيين"، الذين صيروا قحطانيين بتأثير روايات أهل اليمن من أهل الكتاب وعلى رأسهم كعب الأحبار ووهب بن منبه، وريما من أناس آخرين سبقوهم، ومن الروايات اليمانية المحلية التي تعارف عليها أهل اليمن في أنساب قبائلهم آنئذ. ولهذا تجد الطابع اليماني المحلي بارزا في مؤلفات أهل اليمن التي نقل منها الهمداني وأمثاله، ولا نجدها على هذا النحو في مؤلفات النسابين الشماليين الذين ينسبون أنفسهم إلى اليمن مثل "ابن الكلي" وسرابه، لأنهم كانوا بعيدين عن اليمن، فعلمهم بالروايات الجمانية، ولا سيما روايات أهل حمير وصعدة وخولان وصنعاء وغيرهم من النسابين المحليين، لذلك، قليل.
وقد أورد الهمداني في الجزء الثاني من كتابه "الإكليل " جملة تدل على أن "السجل القديم " الذي يشير إليه في كتابه، كان سجل نسابة عرف ب "ابن أيان"، إذ يقول: "قال الهمداني: قال علماء الصعيدين و أصحاب السجل القديم: سجل ابن أبان". و لعل "ابن أبان" كان قد وضعه و جمعه في أبواب، جاء جمع النسابين فأضافوا عليه فصولا جديدة في الانساب، وعرف الكتاب كله و بجميع فصوله ب "السجل". وقد كان أصحاب السجل من أهل صعدة، لما ذكره الهمداني من قوله: "عن الصعيدين عن أصحاب السجل".

(1/96)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان "الهمداني"، قد نص في الجزء الأول من "الإكليل" على أن ذلك السجل، هو سجل "محمد بن أبان الحنفري"، وذلك في أثناء حديثه على بطون "صعدة"، إذ قال: "فهذه الآن بطونها على ما روى رجال خولان و حمير بصعدة. وقد سكنت بها سنة، فأطلعت على أخبار خولان و أنسابها و رجالها، كما أطلعت على بطن راحتي، و قرأت بها سجل محمد بن أبان الحنفري المتوارث من الجاهلية، فمن أخبارهم ما دخل في الكتاب، ومنها دخل في كتاب الأيام". و يفهم من هذا النص، أن السجل المذكور هو سجل "محمد بن أبان" وكان يحفظه، وقد ورثه من الجاهلية.
ويظهر من إشارات "الهمداني" اليه، انه قصد بهذا السجل "السجل القديم"، و أما السجلات الأخرى، فقد كانت من وضع علماء آخرين من علماء النسب كانوا بمدينة صعدة، وقد جمعوا أنساب خولان وحمير وقبائل أخرى، و أضافوها على شكل مشجرات نسب إلى ذلك الديوان فصار مجموعة سجلات. واهذا كان ينبه "الهمداني" إلى الموارد يستقي منها من غير ذلك السجل، كالذي ذكره من "انساب بني الهميسع بن حمير"، إذ قال: "إلا ما أخذته عن رجال حمير وكهلان من سجل خولان القدم بصعدة وعن علماء صنعاء وصعدة وتجران والجوف وخيوان وما أخرني به الآباء والأسلاف".

(1/97)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما ما يذكره "الهمداني" من أن أصل السجل القديم وأساسه جاهلي، فأمر لا أريد أن أبت فيه الآن. لا أريد أن أنفيه، ولا أريد أن أثبته أيضا. بل أقف منه موقف المحايد الحذر، لأني لا أجد في المنقول منه في كتاب "الإكليل" ما يشير إلى جاهلية وأصل جاهلي، فالمشجرات المذكورة هي من هذا النوع المألوف الذي نراه في كتب الأنساب المؤلفة في الإسلام، وبعضه متأثر بروايات التوراة، ولهذا فأنا لا أستطيع أن أرجع إلى ما قبل الإسلام، ولا أستطيع أن أتبحر فيه وفي أصله ما دمت لا أملك "السجل" نفسه، لا القديم منه ولا الجديد، أو نصوصا طويلة أخذت منه، حتى يسهل علي الحكم من قراءتي لما ورد ومن دراسته على أصل ذلك الكتاب وصحة نسبته إلى الجاهلية.
وأما "الخنفري"، صاحب السجل، فهو: "محمد بن أبان بن ميمون ابن حريز الخنفري". ولد في ولاية معاوية بن أبي سفبان في سنة خمسين، وتوفي في سنة خمس وتسعين ومائة، ودفن في رأس "حدبة صعدة". هذا ما رواه "الهمداني" عنه. وذكر "الهمداني" انه عاش "125" سنة، ولو أخذنا بهذا الرقم الذي ذكره "الهمداني"، فيجب أن تكون سنة وفاته "175"، لا "195" للهجرة. ولذلك، فيجب أن يكون في تأريخ المولد أو الوفاة وربما في مدة عمر "الخنفري" خطأ. واني أشلك في طول ما ذكره عن عمره.
وكان لغير أهل صعدة كتب في الأنساب أيضا، دونوا فيها أنسابهم، كما كان هنالك نسابون حفظوا أنساب قبائلهم أشار "الهمداني" إليهم في مواضع من كتابه. وهم من غير أصحاب السحل. وكان بعض منهم قد قابل بين ما دونه عن القبائل وبن ما دون في السجل عنها، كما كان أهل السجل يعرضون ما دونوه عن القبائل على نسابيها لبيان رأيهم فيها. قال الهمداني "بطون الصدف، عن الصعدين من أصحاب السجل،مقروء على بعض نسابة الصدف".

(1/98)

admin
12-25-2010, 12:50 PM
وتجد في الجزء الثامن من الإكليل مواضع ذكر فيها الهمداني "أبا نصر" أيضا. وقد راجعتها وراجعت الأماكن التي أشير فيها إليه في الجزء الأول، فتبين لي أن علم "أبي نصر" بتأريخ اليمن القديم هو على هذا الوجه: إحاطة بأنساب القبائل اليمانية على النحو الني كان شائعا ومتعارفا في أيامه ومسجلا في سجلات الأنساب في تلك الأيام، ورواية للأساطير التي راجت عن التبايعة، وأخذ من موارد توراتية ظهرت في اليمن من وجود اليهود فيها قبل الإسلام. أما علمه بالمساند ومدى وقوفه عليها، فأنا أعتقد أن علمه بها لا يختلف عن علم غيره من أهل اليمن: وقوف على الحروف، وتمكن من قراءة اتكلمات، واحاطة عامة بالمسند. أما فهم النصوص واستنباط معانيها بوجه صحيح دقيق، فأرى أنه لم يكن ذا قدرة في ذلك، وهو عندي في هذا الباب مثل غيره من قراء الخط الحم!ري. ودليلي على ذلك أن القراءات المنسوبة إليهم هي قراءات لا يمكن أن تكون قراءات لنصوص جاهلية، وإن تضمنت بعض أسماء يمانية قديمة، لسبب بسيط،هو أن أساليبها ومعانيها ونسقها لا تتفق أبدا مع الأساليب والمعاني المألوفة في الكتابات الجاهلية،فقراءات أبي نصر وأمثاله قراءات بعيدة جدا عن النصوص المعهودة، هي قراءات إسلامية فيها زهد وتصوف وتوحيد وحض على الابتعاد عن الدنيا. أما نصوص المسند التي عثر عليها حتى الآن، فإنها نصوص وثنية لا تعرف هذه المعاني، وأسلوبها في الكتابة لا يتفق مع ذلك الأسلوب. وهي في أمور أخرى شخصية أو حكومية لا جميلة لها يمثل هذه الآراء والمعتقدات.

(1/99)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد أورد "الهمداني" نصا قال إن قراءة من قراءة "أبي نصر" فيه نسب "عابر". هذا نصه: "قال أبو نصر: الناس يغلطون في عابر، وهو هود بن أيمن بن حلجم يب بضم بن عوضين بن شداد بن عاد بن عوص بن إرم بن عوص بن عابر بن شالخ. وذكر أنه وجد هذا النسب في بعض مساند حمير في صفاح الحجارة". وقارئ هذا النص الذي هو مزيج من رواية توراتية ومن إضافة غربية، يخرج من قراءته، برأي واحد هو أن "أبا خصر"، كان لا يتوقف عن نسبة أمور من عنده إلى المساند، فيحملها ما لا يعقل إن تحمله أبدا. فلو كان النص حميريا صحيحا مأخوذا من التوراة، لكان النسب على نحو ما ورد في التوراة، ولو كان صاحبه وثنيا لا يدين بدين سماوي، فإنه لا يعقل أن يخلط فيه هذا الخلط.
ولكنني لا أريد هنا أن اكتفي بتقديم التقدير إلى الهمداني والى الباقين من علماء اليمن الذين سبقوه أو جاؤوا من بعده والثناء على طريقتهم المذكورة، بل لا بد لي من التحدث عن درجة علم هؤلاء العلماء بالمسند، وبقراءة الكتابات وبعلمهم بمعانيها،أي علمهم بقواعد وأصول اللهجات التي كتبت بها مثل اللهجة المعينية أو السبئية أو القتبانية أو الحضرمية وغيرها من بقية اللهجات، وذلك ليكون كلامنا كلاما علميا صادرا عن درس ونقد وفهم بعلم أولئك العلماء بتأريخ اليمن القديم.

(1/100)


--------------------------------------------------------------------------------

ولن يكون مثل هذا الحكم ممكنا إلا بالرجوع إلى مؤلفات "الهمداني" وغيره من علماء اليمن لدراستها دراسة نقد عميقة. ومقابلة ما ورد فيها من قراءات للنصوص مع قراءات العلماء المحدثين المتخصصين بالعربيات الجنوبية لتلك النصوص إن كانت أصولها أو صورها موجودة محفوظة، وعندئذ يمكن الحكم حكما علميا سليما على مقدار علم أولئك العلماء بلغات اليمن القديمة و بتأريخها المندرس. ولكننا ويا للأسف لا نملك كل أجزاء كتاب "الإكليل" ولا كل مؤلفات الهمداني أوغيره من علماء اليمن، فالجزء التاسع من الإكليل مثلا وهو جزء خصص بأمثال حمير وبحكمها باللسان الحميري وبحروف المسند،هو جزء ما زال مختفيا، فلم نر وجهه، وهو كما يظهر من وصف محتوياته مهم بالنسبة إلينا، وقد يكون دليلا ومرشدا لنا في إصدار حكم على علم الهمداني بلغة حمير. ولكن ماذا نصنع ونفعل، وقد حرمنا رؤية هذا الجزء، وليس في مقدورنا نشره وبعثه، فهل نسكت ونجلس انتظارا للمستقبل، عسى أن يبعث إلى عالم الوجود? هذا، وقد طبع الجزء الثامن من الإكليل وكذلك الجزء العاشر منه، فاستفاد منهما المولعون بتأريخ اليمن القديم وبتأريخ بقية أجزاء العربية الجنوبية، وطبع الجزء الأول من هذا الكتاب حديثا برواية "محمد بن نشوان بن سعيد الحمري"، وقد ذكر أنه اختصر شيئا في مواضع الاختلاف وفي النسب مما ليس له شأن في نظره دون أن يؤثر على الكتاب.
وطبع الجزء الثاني من الإكليل أيضا، أخرجه ناشر الجزء الأول: "محمد ابن علي الأكوع الحوالي " من عهد غير بعيد، وليس لنا الآن إلا أن نرجو نشر الأجزاء الباقية من هذا الكتاب، ليكون في وسعنا الحكم على ما جاء فيه من أخبار عن أهل اليمن الجاهليين.

(1/101)


--------------------------------------------------------------------------------

إن أقصى ما نستطيع في الزمن الحاضر فعله وعمله لتكوين رأي تقريبي تخميني من علم الهمداني وعلم بقية علماء اليمن بلهجات أهل اليمن القديمة وبتأريخهم القديم، هو إن نرجع إلى المتيسر المطبوع من مؤلفاتهم، لدراسته دراسة نقد علمية عميقة، لاستخراج هذا الرأي منها. وهو وإن كان أقل من الضائع بكثير، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله، والموجود خير من المعدوم، وفي استطاعته تقديم هذا الرأي التخميني التقريبي. فلنبحث إذن في هذا المطبوع لنرى ما جاء فيه. أما بخصوص الخط المسند، فقد ذكر "الهمداني" إن جماعة من العلماء في أيامه كانت تقرأ المسند،غير أن أولئك العلماء كانوا يختلفون فيما بينهم في القراءة، وكان سبب ذلك - على رأيه - اختلاف صور الحروف، "لأنه ربما كان للحرف أربع صور وخمس، ويكون للذي يقرأ لا يعرف إلا صورة واحدة". وقد عرف "الهمداني" أن كتاب المسند كانوا يفصلون بين كل كلمة وكلمة في السطر بخط قائم، وذكر أنهم كانوا يقرأون كل سطر بخط. غير أنه لم يذكر عدد الحروف. وصرح أنهم "كانوا يطرحون الألف إذا كانت بوسط الحرف، مثل ألف همدان وألف رئام، فيكتبون رئم وهمدن، ويثبتون ضمة آخر الحرف وواو عليهمو". وهي ملاحظات. تدل على إحاطة عامة بالمسند، سوى ما ذكره من انه ربما كان للحرف أربع صور وخمس، ويظهر أنه وغيره قد توصلوا إلى هذا الرأي من اختلاف أيدي الكتاب في رسم الحروف ونقرها على الحجر، كالذي حدث عندنا من تباين الخطوط باختلاف خطوط كتبته، فأدى تباين الخط هذا إلى اختلافهم في القراءة، وإلى ذهابهم إلى هذا الرأي، أو أنهم اختلفوا فيها من جراء تشابه بعض الحروف مثل حرف الهاء والحاء، فان هذين الحرفين متشابهان في الشكل، فكلاهما على هيئة كأس يرتكز على رجل، والفرق بينهما، هو في وجود خط عمودي في وسط الكأس هو امتداد لرجل الكأس، وذلك في حرف "الحاء"، أما الهاء، فلا يوجد فيه هذا الخط الذي يقسم باطن الكأس إلى نصفين. ويشبه حرف

(1/102)


--------------------------------------------------------------------------------

"الخاء" حرف "الهاء" في رسم رأس الكأس، ولكنه يختلف عنه في القاعدة، إذ ترتكز هذا الرأس على قاعدة ليست خطا مستقيما، بل على قاعدة تشبه كرسي الجلوس ذي الظهر. ومثل التشابه بين حرفي الصاد والسين، فكلاهما على هيئة كأس وضعت وضعا مقلوبا، بحيث صارت القاعدة التي ترتكز الكأس عليها إلى أعلى. أما الرأس، وهو باطن الكأس، فقد وضع في اتجاه الأرض. ولكن قاعدة "الصاد" هي على هيئة رقم خمسة في عربيتنا، اي على هيئة دائرة أو كرة بينما قاعدة حرف السين هي خط مستقيم،أما باطن كأس حرف "الصاد"، ففيه خط يقسمه إلى قسمين وذلك في الغالب، وقد يهمل هذا الخط المقسم، أما حرف السين، فلا يوجد فيه هذا الخط.
وجاء "نشوان بن سعيد الحميري" بملاحظات عن "المسند" هي الملاحظات التي أوردها "الهمداني" عنه فقال: المسند: خط حمير، وهو موجود كثيرا في الحجارة والقصور، وهذه صورته على حروف المعجم... وله صور كثيرة، إلا أن هذه الصورة أصحها. واعلم أنهم يفصلون بين كل كلمتين بصفر، لئلا يخلط الكلام. وصورة الصفر عندهم كصورة الألف في العربي.. وما قلته عن تعدد صور الحرف قبل قليل، ينطبق على ملاحظة "نشوان" أيضا. ويظهر أن قوما من أهل اليمن بقوا أمدا في الإسلام وهم يتوارثون هذا الخط ويكتبون به. فقد جاء في بعض الموارد: "والمسند خط حمير، مخالف لخطنا هذا: كانوا يكتبونه أيام ملكهم فيما بينهم. قال أبو حاتم: هو في أيديهم إلى اليوم باليمن"، إلا أنه لم يتمكن من الوقوف أمام الخط العربي الشمالي الذي دون به القرآن الكريم، فغلب على أمره، وتضاءل عدد الكتاب به حتى صار صفرا.

(1/103)


--------------------------------------------------------------------------------

ومما يؤسف عليه كثيرا أننا لا نملك النسخ الأصلية التي كتبها أولئك العلماء بخط أيديهم، حتى نرى رسمهم لحروف المسند. فإن الصور المرسومة في المخطوطات الموجودة وفي النسخ المطبوعة، ليست من خط المؤلفين، بل من خط النساخ، فلا أستبعد وقوع المسح في صور حروف المسند في أثناء النقل، ولا سيما إذا تعددت أيدي النساخ بنسخ أحدهم عن ناسخ آخر. وهكذا. فليس للنساخ علم بالمسند، ولذا لا أستبعد وقوعهم في الخطأ. ومن هنا فإن من غير الممكن إصدار رأي في مقدار إتقان الهمداني وبقية العلماء لرسم حروف الخط المسند. وقد أشار "الدكتور كرنكو" إلى هذه الحقيقة، إذ ذكر أن صور الحروف الحمرية في "الإكليل تختلف باختلاف النسخ اختلافا كبيرا، فقد صور كل ناسخ تلك الحروف على رغبته وعلى قدرته على محاكاة النقوش، ومن هنا تباينت وتعددت، فأضاعت علينا الصور الأصلية التي رسمها الهمداني لتلك الحروف. أما رأينا في علم علماء اليمن بفهم المسند، فيمكن تكوينه بدراسة النصوص الواردة في مؤلفاتهم وبدراسة معرباتها ومقابلتها بالنصوص الأصلية المنقورة على الحجارة إن كانت تلك النصوص الأصلية لا تزال موجودة باقية، أو بمراجعة النصوص المدونة و مقابلتها بمعرباتها لترى درجة قرب التعريب أو بعده من الأصل. وعندئذ نستطيع إبداء حكم على مقدار فهم القوم لكتابات المسند. أما في حالة اكتفاء المؤلف بإيراد التعريب فقط أي معنى النص لا متنه، فليس أمامنا من سبيل غير وجوب مراجعة المعربات ودراستها من جميع الوجوه، لترى مقدار انطباق أساليبها على الأساليب المألوفة في كتابات المسند، وعندئذ نتمكن من تكوين رأي في هذا الذي ورد في المؤلفات على أنه ترجمات، ونتمكن بذلك من الحكم بمقدار قرب تلك الترجمات والقراءات من المسند أو بعدها منه.

(1/104)


--------------------------------------------------------------------------------

وخلاصة ما توصلت اليه من دراستي الإجمالية للأجزاء المطبوعة من مؤلفات "الهمداني" أن الهمداني، وإن كان يحسن قراءة حروف المسند، ويعرف القواعد المتعلقة بالخط الحميري، الا انه لم يكن ملما بألسنة المسند. ولم يتمكن من ترجمة النصةص التي نقلها ترجمة صحيحة، ولم يعرف على ما يتبين منها كذلك ما ورد فيها وما قصد منها، فجعل "تالبا"، و هو اسم إله من آلهة اليمن المشهورة، و معبود قبيلة "همدان" الرئيس، اسم رجل من رجال الآسرة المالكة لهمدان. وجعل "ريما"، وهو اسم مكان من الامكنة المشورة، وكان به معبد معروف للإله "تالب"، ابنا من أبناء "نهفان"، ومن أبناء "تالب". ولم يبخل الهمداني عليه، فوهب له أما قال لها: "ترعة بنت بازل بن شرحبيل بن سار بن أبي شرح يحضب بن الصوار".
و أورد "الهمداني" نصا ذكر إن "أحمد بن أبي الأغر الشهابي"، وحده ب "ناعط"، فقرأه، فإذا هو: "علهان و نهفان ابنا بتع بن همدان، لهم الملك قديما كان". وقد عد "علهان نهفان" رجلين هما "علهان" و "نهفان"، مع إن "علهان نهفان(، هو رجل واحد، وهو ملك من ملوك سبأ و سيأتي ذكره. وقد والده "يريم بن أوسلت رفشان" من اقبيلة "همدان". كلمة "نهفان" لقب له. أما اسمه فهو "علهان". و كان له شقيق اسمه "برج يهركب"، كما ذلك في كتابة عثر هليها في "ريام"، فلم يكن والده أذن رجلا اسمه "بتع بن همدان" كما جاء في القراءة.
وأما "بتع"، فقيلة من قبائل همدان، وأما جملة: " لهم الملك قديما كان"، فهي لا ريب من قول الشهابي، وليست بعبارة حميرية. وليس التعبير - وان فرضنا أنها ترجمة للأصل - من التعابير المستعملة في الحميرية، التي ترد في الكتابات. ولما كنا لا نعرف المتن الأصلي للنص، يصعب علينا الحكم عليه أكان قريبا من هذا المعنى أو كان شيئا آخر، عرف منه الشهابي بضع كلمات ثم فسره بهذا التفسير.

(1/105)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر على كل حال أن قراء المسند "وقد قلت إنهم كانوا يحسنون في أيام الهمداني قراءة حروف المسند" لم يكونوا عك اطلاع بقواعد الحميرية، ولا باللسان الحميري، أو الألسنة العربية الجنوبية الأخرى. خذ مثلا على ذلك: "بن" وهي حرف جر عند العرب الجنوبيين، وتعني "من" و "عن" بلغتنا قد أوقعتهم هذه الكلمة في مشكلات خطيرة.فقد تصور القوم عند قراءتهم لها، أفها تعني أبدا "ابنا" على نحو ما يفهم من هذه الكلمة في لغتنا. وفسروها بهذا التفسير. ففسروا "بن بتع" أو "بن همدان" وما شابه ذلك "ابن بتع" أو "ابن همدان"، و المقصود من الجملتين هو "من بتع" و "من همدان"، وبذلك تغير المعنى تماما، ومن هنا وقع القوم - على ما أعتقد - في أغلاط حين حسبوا أسماء القبائل و أسماء الأماكن الواردة قبل "بن" وبعده، أسماء أشخاص وأعيان،وأدخلوها في مشجرات الأنساب. فاقتصار علمهم على الأبجدية وجهلهم باللغة، أوقعهم في مشكلات كثيرة، وسبب ظهور هذا الخلط.
وجاء الهمداني بنصوص أخر ذكر أنبا كانت مكتوبة بالحميرية تمثل النص الذي زعم أن مسلمة بن يوسف بن مسلمة الخيواني قرأه على حجر في مسجد خيوان، وهذا نصه: "شرح ما، وأخوه ما، وبنوه ما، قيول شهران بنو هجر، هم معتة بدار القلعة". وأمثال ذلك من النصوص. ولا اعتقد أنك ستقول: إن هذا نص حميري، ولا يسع أمرءا له إلمام بالحميرية أن يوافق على وجود مثل هذه العائلة عائلة ما، أو يسلم بأن هذه قراءة صحيحة لنص حميري. بل لا بد من وجود أخطاء في القراءة وفي التفسير. ولا أريد أن أتجاوز على رجل مشى إلى ربه، فلعله كان يحسن قراءة بعض الحروف والكلمات، ويتصور أنه أحسن قراءة النص كله وفهمه، فجاء بهذه العبارة. وعلى كل، إن كل الذي جاء في النصوص التي وقفت عليها في كتب الهمداني لا ممكن إن يعطي غير هذا الانطباع، ولعلنا سنغير رأينا في المستقبل إذا تهيأت لنا نصوص من شأنها أن تغيره.

(1/106)

admin
12-25-2010, 12:50 PM
ويأتي "الهمداني" أحيانا بأبيات شعر زاعما إنها من المسند. ففي أثناء كلامه مثلا على قصر "شحرار" قال: "وفي بعض مساند هذا البنيان بحرف المسند: شحرار قصر العلا المنيف أسسه تبع ينوف
يسكنه القيل ذي معاهر تخر قدامه اللأنوف"
أما نحن، فلم نعثر حتى اليوم على أية كتابة بالمسند، ورد فيها شعر، لا بيت واحد ولا أكثر من بيت. وأما متن البيتين المذكورين، فليس حميريا ولا سبئيا ولا معينيا وليس هو بأية لهجة يمانية أخرى قديمة، و إنما هو بعربيتنا هذه، أي بالعربية التي نزل بها القرآن الكريم، نظمه من نظمه من المحدثين بهذه اللغة البعيدة عن لغات أهل اليمن.
أما الباب الذي عقده في الجزء الثامن بعنوان: "باب القبوريات"، فقد استمد مادته من روايات وأحبار "هشام بن محمد بن السائب الكلي"، و "ابن لهيعة" و "موهبة بن الدعام" من همدان و "أبي نصر" و "وهب بن منبه" و "كعب الأحبار" و "عبد الله بن سلام". وقد أورد فيه نصوصا زعم إنها ترجمات لنصوص المسند، عثر عليها في القبور عند الأجداث. وأورد بعضها شعرا، زعم انه مما وجد في تلك القبور، كالذي ذكره عند حديثه عن قبر "مرشد بن شداد"، وعن قبرين جاهليين عثر عليهما ب "الجند" وقد نص على إن الشعر المذكور كان مكتوبا بالمسند وقد دونه.وهو وكل الأشعار الأخرى ومنها المراثي منظوم بعربية القرآن. وأما النثر، فإنه بهذه العربية أيضا، وهو في الزهاد والموعظة والندم والحث على ترك الدنيا، فكأن أصحاب القبور، من الوعاظ المتصوفين إلزهاد، ماتوا ليعظوا الأحياء من خلال القبور، ولم يكونوا من الجاهليين من عبدة الأصنام والأوثان.
وهو قسم بارد سخيف، يدل على ضعف أحلام رواته، وعلى ضعف ملكة النقد عند "الهمداني" وعلى نزوله إلى مستوى القصاص والسمار والإخباريين الذين يروون الأخبار ويثبتونها وإن كانت مخالفة للعقل. إذ انه لا يختلف عنهم هنا بأي شيء كان.

(1/107)


--------------------------------------------------------------------------------

ومجمل رأيي في "الهمداني" أنه قد أفادنا ولا شك بوصفة للعاديات التي رآها بنصه على ذكر أسمائها، وأفادنا أيضا في إيراده ألفاظا يمانية كانت مستعملة في أيامه استعمال الجاهليين لها: وقد وردت في نصوص المسند، فترجمها علماء العربيات الجنوبية ترجمة غير صحيحة، فمن الممكن تصحيحها الآن على ضوء استعمالها في مؤلفات الهمداني وفي مؤلفات غيره من علماء اليمن. أما من حيث علمه بتأريخ اليمن القديم، فإنه وإن. عرف بعض الأسماء إلا أنه خلط فيها في الغالب، فجعل اسم الرجل الواحد اسمين، وصير الأماكن إباء وأجدادا، وجعل أسماء القبائل أسماء رجال، ثم هو لا يختلف عن غيره في جهله بتأريخ اليمن القديم، فملأ الفراغ بإيراده الأساطير والخرافات والمبالغات. وأما علمه بالمسند فقد ذكرت أنه ربما قرأ الكلمات، ولكنه لم يكن يفقه المعاني، ولم يكن ملما بقواعد اللهجات اليمانية القديمة، وقد حاولت العثور على ترجمة واحدة تشير إلى أنها ترجمة صحيحة لنص من نصوص المسند، فلم أتمكن من ذلك ويا للأسف.
وعلم "الهمداني" بجغرافية اليمن والعربية الجنوبية، يفوق كثيرا علمه بتاريخ هذه الأرضين القديم، فقد خبر أكثرها بنفسه وسافر فيها، فاكتسب علمه بالتجربة. أما علمه بجغرافية الأقسام الشمالية من جزيرة العرب، فإنه دون هذا العلم.

(1/108)


--------------------------------------------------------------------------------

وأفادت "القصيدة الحمرية"، لصاحبها "نشوان بن سعيد الحميري" فائدة لا بأس بها في تدوين تأريخ اليمن. وهذا المؤلف معجم شاه "شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم"، ضمنه ألفاظا خاصة بعرب الجنوب. ولنطبق ما قلته في الهمداني على نشوان أيضا. فإذا قرأت كتبه، تشعر أنه لم يكن يفهم النصوص الحميرية ولا غيرها، وإن كان بحسن قراءة المسند. وما ذكره في كتابه "شمس العلوم" - وإن دل - على حرص على جمع المعلومات، وعلى تتبع يحمد عليه للبحث عن تأريخ اليمن ولغاتها القديمة - يدل على أنه لم يكن يفهم نصوص المسند، وليس له علم بتاريخها وبتواريخ أصحابها، وأنه لا يمتاز بشيء عن الهمداني أو سائر علماء اليمن الذين كانوا يدعون العلم بأخبار الماضيين، وأكر الذي ذكوه في كتابه على أنه من اللهجات الحميرية والعربية الجنوبية هو من مفردات معجمات اللغة، ومن لهجات العربية الفصحى خلا ذلك الذي كان يستعمله أهل اليمن، وهو قليل إذا قيس إلى سواه، وقد فسر معانيه على نحو ما كان يقصده الناس في أيامه. ومع هذا، فهذا النوع من الكلمات هو الذي نطمع فيه، لأنه من بقايا اللهجات البائدة، ويفيدنا فائدة عظيمة في فهم معاني النصوص وفي قراءتها وشرحها وتفسرها، ولعله لم يكثر منا، لأنها كانت من كلام العوام فأشفق على نفسه من البحث في لغة العوام.
ولم يزد "نشوان" في شروحه لأسماء الأعيان والأجذام والقبائل والعمائر والأمكنة على ما أورده الهمداني أو سائر. علماء التاريخ وأهل الأنساب، فعد أسماء القبائل مثل همدان، أسماء أشخاص لهم انساب واولاد وأقرباء، واخطأ في الأغلاط نفسها التي وقع فيها الهمداني "فذكر جملا مسجوعة على إنها من وصايا التبابعة، وعبارات متكلفة على انها قراءات لنصوص حميرية مكتوبة بالمسند.

(1/109)


--------------------------------------------------------------------------------

ومحمد بن نشوان بن سعيد الحميري نفسه هو ممن اعتمد على علم الهمداني، كما نص على ذلك في فاتحة الجزء الأول من الإكليل. فهذا الجزء الذي طبع حديثا هو برواية محمد بن نشوان، رواه لمن سأله أن يوضح شيئا من أنساب حمير وأخبارها وما حفظ من سيرها وآثارها، فما كان منه إلا أن أخذ الإكليل فكتب له، لم يغير فيه سوى ما قاله: "غير أني اختصرت شيئا ذكره في النسب، ليس هو من جملته بمحتسب. بل هو مما ذكره من الاختلاف في التأريخ و نحوه، من غير أن أنسب الكدر إلى صفوه". وفي مقدمته لهذا الجزء ثناء عاطر على الهمداني، وتقدير كبير لعمه في أخبار اليمن.
هذا هو كل ما أريد أن أقوله هنا عن مصادر التاريخ الجاهلي، وهو قليل من كثير، ولكن التوسع في هذا الموضوع يخرجنا حتما عن حدود بحثنا المرسوم، ويخرجنا إلى التحدث في شيء آخر لا علاقة له بالجاهلية، و إنما يعود إلى البحث في التأريخ، وفي نقده ودروبه عند المؤرخين. على أني أراني قد توسعت مع ذلك في هذا الباب، وذلك للحاجة التي رأيتها في ضرورة توضيح بعض الأمور الخاصة بتلك الموارد.
الفصل الثالث
إهمال التأريخ الجاهلي و إعادة تدوينه
من الأمور التي تثير الأسف، تهاون المؤرخين في تدوين التأريخ الجاهلي، ولا سيما القسم القديم منه، الذي يبعد عن الإسلام قرنا فاكثر، فإن هذا القسم منه ضعيف هزيل، لا يصح أن نسميه تأريخا، بعيد في طبعه وفي مادته عن طبع التواريخ ومادتها.

(1/110)


--------------------------------------------------------------------------------

لقد وفق المؤرخون العرب في كتابة تأريخ الإسلام توفيقا كبيرا، من حيث العناية بجمع الروايات والأخبار واستقصائها، وفي رغبتهم في التمحيص. أما التأريخ الجاهلي، فلم يظهروا مقدرة في تدوبنه، بل قصروا فيه تقصيرا ظاهرا. فاقتصر علمهم فيه على الأمور القريبة من الإسلام، على أنهم حتى في هذه الحقبة لم يجيدوا فيها إجادة كافيه، ولم يظهروا فيها براعة ومهارة، ولم يطرقوا كل الأبواب أو الموضوعات التي تخص الجاهلية. فتركوا لنا فجوات و ثغرا لم نتمكن من سدها وردمها حتى الآن، ولا سيما في تأريخ جزيرة العرب، حيث تجد فراغا واسعا، وهو أمر يدعو إلى التساؤل عن الأسباب التي دعت إلى حدوثه: هل كان الإسلام قد تعمد طمس أخبار الجاهلية? أو أن العرب عند ظهور الإسلام لم تكن لديهم كتب مدونة في تأريخهم ولا علم بأحوال أسلافهم، وكانت الأسباب قد تقطعت بينهم وبين من تقدمهم فلم يكن لديهم ما يقولونه عن ماضيهم غير هذا الذي وعوه فتحدثوا به إلى الإسلاميين، فوجد سبيله إلى الكتب? أو أن العرب لم يكونوا يميلون إلى تدوين تواريخهم، فلم يكونوا مثل الروم أو الفرس يجمعون أخبارهم وأخبار من تقدم منهم وسلف، فلما كان الإسلام، وجاء زمن التدوين، لم يجد أهل الأخبار أمامهم في شيئا غير هذا الذي رووه وذكروه، وكان من بقايا ما ترسب في ذاكرة المعمرين من أخبار.

(1/111)


--------------------------------------------------------------------------------

لقد عزا بعض الباحثين هذا التقصير إلى الإسلام، فزعم إن رغبة الإسلام كانت قد اتجهت إلى استئصال كل ما يمت إلى أيام الوثنية في الجزيرة العربية بصلة، مستدلا بحديث: "الإسلام يهدم ما قبله"، فدعا ذلك إلى تثبيط همم العلماء عن متابعة الدراسات المتصلة بالجاهلية، والى محو أثار كل شيء تفرع عن النظام القديم، لم يميزوا بين ما يتعلق منه بالوثنية والأنصاب والأصنام،وبين ما يتعلق بالحالة العامة كالثقافة والأدب والتأريخ. فعلوا ذلك كما فعل النصارى في أوروبة في أوائل القرن السادس للميلاد، فكان من نتائجه ذهاب أخبار الجاهلية، ونسيانها، وابتدأ التأريخ لدى المسلمين بعام الفيل. ولهذا "كان المؤرخون أو الأخباريون، الذين يترتب عليهم تدوين أخبار الماضي وحفظ مفاخره، من الذين ينظر اليهم شزرا في المجتمع الإسلامي، وخاصة في العهد الإسلامي الأول. أما مؤرخو العرب العظام، فلم ينبغوا إلا بعد تلك الفترة، وحتى هؤلاء فإنهم صرفوا عنايتهم إلى التأريخ الإسلامي، ولم يدققوا فيما يخص الجاهلية. وبالإضافة إلى ما سبق، أصبح لكلمة مؤرخ "اخباري" معنى سيئ بل أصبحت صفة تفيد نوعا من الازدراء. وقد ألصقت هذه الصفة بابن الكلبي، كما ألصقت بكل عالم تجرا على البحث في تاريخ العرب قبل عام الفيل. لكن لم يهاجم أحد من المؤرخين بعنف كما هوجم ابن الكلبي. والراجح أن السبب في نجللك هو انصرافه لدراسة الأشياء التي قرر الإسلام طمسها، أعني بذلك الديانات والطقوس الوثنية في بلاد العرب".

(1/112)


--------------------------------------------------------------------------------

ثم سبب آخر، هو أن الإسلام ثورة على مجتمع قائم ثابت، وعلى مثل تمسك بها أهل الجاهلية، وعلى قوم كانوا قد تسلطوا وتحكموا وتجروا بحكم العرف والعادات، وككل ثورة تقع وكما يقع حتى الآن، وسم الإسلام الجاهلية، بكل منقصة ومثلبة، وحاول طمس كل أثر لها وكل ما كان فيها، حتى ظهرت تلك الأيام على الصورة التي انتهت إلينا عن "الجاهلية" وكان الناس فيها جهلة لم يكن عندهم شيء من علم في هذه الحياة يومئذ، وكأن عهدهم في هذا العالم لم يبدأ إلا ببدء الإسلام.
وجاءوا بدليل آخر في إثبات أن الإسلام كان له دخل في طمس معالم تأريخ الجاهلية، إذ ذكروا أن الخليفة، "عمر" سال بعض الناس "أن يرووا بعض التجارب الجاهلية، أو ينشدوا بعض الأشعار الجاهلية، فكان جوابهم: لقد جب الله ذلك بالإسلام، فلم الرجوع". فوجدوا في امتناعهم عن رواية الشعر الجاهلي أو أخبار الجاهلية، دلالة على كره الإسلام لرواية تأريخ الجاهلية وانتهاء ذلك إلى طمس معالم ذلك التأريخ.
أما حديث "الإسلام يهدم ما قبله"، فهو حديث لا علاقة له البتة بتأريخ الجاهلية ولا بهدم الجاهلية، وقد استل من حديث طويل ورد في صحيح مسلم في "باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج"، وبعد "باب هل يؤاخذ بأعمال الجاهلية"، وقد ورد جوابا عن أسئلة الصحابة عن أعمال منافية للإسلام ارتكبوها في الجاهلية، هل يغفرها الله لهم، أو تكتب عليهم سيئات يحاسبون عليها ? فقالوا: "يا رسول الله، انؤاخذ بما عملنا في الجاهلية ?". وقد ورد في صحيح مسلم بعد هذا الباب باب آخر بهذا المعنى، هو "باب بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده".

(1/113)


--------------------------------------------------------------------------------

ولإعطاء رأي صحيح عن هذا الحديث، أنقل إلى القارئ نصه كما جاء في صحيح مسه لم قال: "حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن ابن شماسة المهري، قال: حضرنا عمرو بن العاص، وهو في سياقة الموت يبكي طويلا، وحول وجهه إلى الجدار، فجل ابنه يقول: يا أبتاه أما بشرك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بكذا ? قال: فأقبل بوجهه، فقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. إني قد كنت على أطباق ثلاث، لقد رأيتني وما أحد أشد بغضا لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، مني، ولا أحب إلي أن أكون قد استمكنت منه فقتلته، فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار، فلما جعل الله الإسلام في قلبي، أتيت النبي، صلى الله عليه وسلم، فقلت: أبسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمين. قال: فقبضت يدي، قال مالك يا عمرو ? قال: قلت أردت أن اشرط. قال: تشترط بماذا ? قلت: أن يغفر لي. قال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله? وما كان أحد أحب إلي من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملا عني منه إجلالا له. ولو مت على تلك الحال، لرجوت أن أكون من أهل الجنة، ثم ولينا أشياء ما أدري من حالي فيها، فإذا أنا مت، فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني، فشنوا علي التراب شنا ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها، حتى أستأنس بكم، وانظر ماذا أراجع به رسل ربي.

(1/114)

admin
12-25-2010, 12:51 PM
وبعل، فأية علاقة إذن بين هذا الحديث وبين الحث على تهديم الجاهلية وإهمال التأريخ الجاهلي يا ترى? وأما اتخاذهم نهي بعض الصحابة ع! رواية الشعر الجاهلي أو أخبار الأيام دليلا على كره الإسلام لأحياء ذكرى الجاهلية،ومحاولته طمس معالمها وتأريخها، وحكمهم من ثم عليه بمساهمته في طمس تأريخ الجاهلية واطفائه له، فإنه دليل بارد ليس في محله، فإن الذين نهوا عن رواية الشعر الجاهلي أو رواية الأيام، أو امتنعوا هم أنفسهم عن روايتهما، لم ينهوا ولم يمتنعوا عن روايتهما مطلقا، أي عن رواية جميع أنواع الشعر الجاهلي أو أخبار كل الأيام التي وقعت في الجاهلية، بل نهوا أو امتنعوا عن رواية بعض أبواب الشعر، وبعض أخبار تلك الأيام، لما كان يحدثه هذا النوع من الشعر أو يوقعه هذا الباب من رواية الأخبار من شر في النفوس ومن فق قد تجدد تلك العصبيات الخبيثة التي حاربها الإسلام، لتمزيقها الشمل، وتفريقها الصفوف. "ومن ثم نهى الفاروق، رضي الله عنه، الناس بديأ أن ينشدوا شيئا من مناقضة الأنصار ومشركي قريش، وقال: في ذلك شتم الحي بالميت، وتجديد الضغائن، وقد هدم الله أمر الجاهلية بما جاء من الإسلام. ومر عمر بحسان يوما، وهو ينشد الشعر في مسجد رسول الله، فأخذ بأذنه، و قال: أرغاء كرغاء البعير? فقال حسان: دعنا عنك يا عمر، فو الله لتعلم أني كنت أنشد في هذا المسجد من خير منك، فقال عمر: صدقت، وانطلق". ولم يأخذ عمر على حسان رواية ذلك الشعر في مسجد رسول الله إلا لأنه كان من ذلك الشعر المثير للنفوس المهيج للعواطف، وإنشاده في نظره يعيد الناس إلى ما كانوا عليه من قتال قبل الإسلام. فلمصلحة العامة نهى بعض الصحابة عنه. ومع ذلك، تساهل عمر مع حسان، وتركه ينشد شعره، بعد أن حاجه حسان بما رأيت.

(1/115)


--------------------------------------------------------------------------------

وهناك رواية أخرى تشرح لنا الأسباب التي حملت عمر على النهي عن رواية بعض الشعر الجاهلي، وهي انه "قدم المدينة، في خلافة الفاروق، عبد الله بن الزبعري وضرار بن الخطاب - وكانا شاعري قريش في الشرك - فنزلا على أبي احمد بن جحش، وقالا له: تحب أن ترسل إلى حسان بن ثابت حنى يأتيك فتنشده وينشدنا مما قلنا له وقال لنا، فأرسل إليه، فجاءه. فقال له: يا أبا الوليد: هذان اخواك ابن الزبعري وضرار قد جاءا أن يسمعاك وتسمعهما ما قالوا لك وقلت لهما. فقال ابن الزبعري وضرار: نعم يا أبا الوليد، إن شعرك كان يحتمل في الإسلام ولا يحتمل شعرنا، وقد أحببنا أن نسمعك وتسمعنا. فقال حسان: أفتبدآن، أم أبدأ? قالا: نبدأ نحن، قال: ابتدئا. فأنشداه حتى فار فصار كالمرجل غضبا، ثم استويا على راحلتيهما يريدان مكة، فخرج حسان حتى دخل على عمر، فقص عليه قصتهما وقصته. فقال له عمر: لن يذهبا عنك بشيء إن شاء الله، وأرسل من يردهما، وقال له عمر: لو لم تدركهما إلا بمكة، فأرددهما علي... فلما كان بالروحاء، قال ضرار لصاحبه: با ابن الزبعري، أنا أعرف عمر وذبه عن الإسلام وأهله، وأعرف حسان وقلة صبره على ما فعلنا به، وكأني به قد جاء وشكا إليه ما فعلنا، فأرسل في آثارنا، وقال لرسوله: إن لم تلحقهما إلا بمكة، فارددهما علي... فأربح بنا ترك العناء، وأقم بنا مكاننا، فإن كان الذي ظننت فالرجوع من الروحاء أسهل منه من أبعد منها، وان أخطأ ظني، فذلك الذي تحب. فقال ابن الزبعري: نعم ما رأيت. فأقاما بالروحاء، فما كان إلا كمر الطائر حتى وافاهما رسول عمر، فردهما إليه. فدعا لهما بحسان وعمر في جماعة من أصحاب رسول الله. فقال لحسان: أنشدهما مما قلت لهما فانشدهما، حتى فرغ مما قال لهما، فوقف. فقال له عمر: أفرغت? قال: نعم. فقال له: أنشداك في الخلا، و أنشدتهما في الملأ... وقال لهما عمر: إن شئتما فأقيما، وان شئتما فانصرفا. وقال لمن حضره: أني كنت نهيتكم أن

(1/116)


--------------------------------------------------------------------------------

تذكروا مما كان بين المسلمين والمشركين شيئا، دفعا للتضاغن عنكم وبث القبيح فيما بينكم، فاما إذ ابوا، فاكتبوه، واحتفظوا به. قال الراوي: فدونوا ذلك عندهم. قال: ولقد أدركته والله وان الأنصار لتجدده عندها إذا خافت بلاه 00".
بل كان الرسول كما رأينا في خبر "حسان"، وكما ذكر في أخبار أخرى يجلس وأصحابه يتناشدون الأشعار، ويتذاكرون أشياء من أمور الجاهلية، وهو يسمع ويساهم معهم في الحديث، وينشدهم شيئا مما حفظه. ولم ينه عن رواية شعر ما إلا ما كان فيه فحش، أو إساءة أو إثارة فتنة، أما ما شابه ذللك، لما كان يحدثه ذلك الشعر من أثر سيئ في النفوس. لقد تمثل بشعر "أمية بن أبي الصلت " مع أنه كان من خصومه اللد، وسمع الناس ينشدون شعره، ولم يكره منه إلا ما كان منه في تحريض قريش بعد وقعة "بدر" على المسلمين ورثائه من قتل منهم.
وقد كان "أبو بكر"، وهو الخليفة الأول، من حفظة الشعر الجاهلي، الراوين له، المتشهدين به. وكان "عمر" من العالمين بذلك الشعر الحافظين له البصرين به. وكذلك كان شأن كثير من الصحابة.لم يذكر أحد أنهم تحرجوا من روايته و انشاده، وانهم تهيبوا منه، إلا ما ذكرته من إحجامهم عن رواية بعض منه، وهو قليل جدا، لأسباب ذكرتها، وقد رووه مع ذلك و دونوه.

(1/117)


--------------------------------------------------------------------------------

لقد حرم الإسلام أشياء من الجاهلية، واقر أشياء أخرى نص عليها في الكتاب والسنة، ولم يرد أنه حرم أقلام الجاهلية أو الشعر الجاهلي أو النثر الجاهلي أو أي أدب أو علم جاهلي، ولم يصل إلى علمنا أنه أمر بهدم المباني الجاهلية وطمس معالمها، حتى محجات الأصنام بقيت على حالها، خلا الأصنام والأوثان وما يتعلق بها من أمور مما كان من صميم الوثنية أو كانت له علاقة بإعادتها إلى الذهن مثل التصوير. ولم نسمع أنه أمر بإتلاف كتابات الجاهلية، أو أنه نهى عن قراءتها والاستفادة منها، أو انه منع استعمال اللهجات الأخرى، التي كان يستعملها الجاهليون، أو إن علماء الإسلام منعوا رواية أخبار الجاهلية، بل الذي نسمعه ونراه إن "ابن عباس" كان يستشهد بالشعر الجاهلي في تفسير القرآن، وبقية الصحابة يروونه ويحفظونه، وان خلفاء بني أمية كانوا يدفعون الهدايا والجوائز لمن يروي لهم الشعر الجاهلي، ونرى أنهم كانوا يقضون لياليهم برواية أخبار الجاهلية وحالتهم فيها،وما وقع لهم في تلك الأيام من نادر وطريف، وقد سجل ما بقي منه في الذهن في كتب الأخبار والأدب، يوم شرع الناس في التدوين.

(1/118)


--------------------------------------------------------------------------------

و أما أنهم كانوا ينظرون إلى "الأخباري" نظرة. سيئة، فيها شيء من ازدراء وعدم التقدير، فما كان ذلك لروايته أخبار الجاهلية واشتغاله بجمع تاريخها والتحدث عنها، وما كانوا يريدون بلفظة "أخباري" راوي أخبار الجاهلية وحدها في أي يوم من أيام التاريخ الإسلامي، وإنما كان ذلك لإغراب الإخباريين في رواية الأخبار ومبالغتهم فيها مبالغة تجافي العقل، وسردهم الإسرائيليات والنصرانيات والشعبيات وغير، ذلك من القصص المدونة في الكتب،وكذب بعضهم كذبا يخالف أبسط قواعد المنطق،وما رمي "ابن الكلبي" بالكذب أو نظر إليه نظرة ازدراء لكونه من رواة أخبار الجاهلية بل وثق في هذه الناحية وأخذ عنه دون رد أو اعتراض، كما يتبين ذلك من اعتماد العلماء عليه في هذا الباب و إشارتهم إليه، وإنما ضعف في. أمور أخرى هي أمور إسلامية لا علاقة لها بالجاهلية ولا صلة لها بها البتة، مدونة في كتب التفسير والحديث.
ولو كان الإسلام قد حث على طمس أخبار الجاهلية أو إطفاء ذكر الأصنام والأوثان، لما كان في وسع "ابن الكلبي" ولا غيره التحدث عنها والإشارة اليها، ولما أخذ العلماء عنه ورووا كتبه وتوارثوا كتاب "الأصنام"، بل القرآن نفسه حجة في رد هذا الزعم، ففيه ذكر لرؤوس أصنام العرب، وفيه مفصل حياة أهل الجاهلية ومثلهم وما كانوا يقومون به، ولو شرا وباطلا، وروت كتب التفسير وكتب الحديث والسير والأخبار أوصاف بعض أصنام العرب وهيأتها وشكل محجاتها وأوقات الحج، كما ذكرت ما اقر الإسلام من أمور كانت قائمة في الجاهلية وما حرم منها، ولو كان الإسلام قد تعمد طمس الجاهلية والقضاء على معالمها، لتحرج القرآن وتهرج المسلمون من الإشارة إليها ومن إحياء أسمائها وبعثها في ذاكرة الناشئين في الإسلام.

(1/119)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد تحدث "ابن النديم" في كتابه "الفهرست"، في المقالة الثالثة التي خصصها "في أخبار الأخباريين والنسابين وأصحاب الأحداث"، عن "ابن الكلبي" وعن أبيه، كما تحدث عن غيره من مشاهير العلماء من أمثال "عوانة ابن الحكم" و "ابن اسحق" صاحب السرة، و "أبي مخنف" و "الواقدي" و "الهيثم بن عدي" و "أبي البختري" و "المدائني" و "محمد بن حبيب" وغيرهم ممن ألف في أمور وقعا قبل الإسلام في أمور وأحداث إسلامية محضة، وقد ضعف بعضهم، مع أنهم لم يؤلفوا في أمور تخص الجاهلية ولا في أحداث وقعت قبل عام الفيل أو قبل الإسلام. وأطلقت عليهم لفظة "أخباري" أو "وكان اخباريا"، مع أنهم لم يكتبوا إلا في أخبار قريبة من الإسلام أو في أحداث إسلامية بحتة، فلفظة "أخباري" إذن لم تكن قد علمت بالشخص الذي تخصص برواية أخبار الجاهلية الواقعة قبل عام الفيل فقط، بل قصد بها هؤلاء وكل من اشتغل برواية الأخبار مهما كانت صفتها وعادتها وطبيعتها، روى تاريخ ما قبل الفيل أو ما بعد الفيل إلى الإسلام، أو أخبار الإسلام.

(1/120)


--------------------------------------------------------------------------------

والأخباري في عرف ذلك اليوم وقبل إن ينتشر التأليف وتتصنف المعارف، هو من يروي الأخبار، تمييزا له عن الآخرين الذين اشتغلوا بالنسب، فعرف أحدهم ب "النسابة"، وقيل عن أحدهم "أحد النسابين" أو "وكان ناسبا"، أو بالتفسير أو برواية الشعر وما شاكل ذلك من معارف. فهو مؤرخ ذلك الزمن إذن، وهذا نرى لفظة "أخبار" بمعنى تاريخ، ورد في "الفهرست" في أثناء الحديث عن عبـيد بن شرية الجرهمي ومعاوية: فسأله "أي معاوية عن الأخبار المتقدمة وملوك العرب والعجم"، وورد عن "ابن دأب" وكان "عالما بأخبار العرب وأشعارها" وذكر عن "عوانة بن الحكم" انه كان "راوية للأخبار عالما بالشعر والنسب". وورد عن "أبي اليقظان النسابة" أنه كان "عالما بالأخبار والأنساب والمآثر والمثالب". وورد مثل ذلك عن أشخاص آخرين هم في أوائل من اشتغل بالتاريخ عند المسلمين، يخرجنا ذكرهم هنا عن حدود هذا الموضوع.

(1/121)

admin
12-25-2010, 12:54 PM
ويظهر من دراسة "الفهرست" لابن النديم والمؤلفات الأخرى إن العرب في صدر الإسلام لم يكونوا يطلقون لفظة "المؤرخ" على من يشتغل بالتاريخ، ذلك لأن التاريخ نفسه في ذلك العهد لم يكن قد تطور وبلغ الشكل الذي بلغه في أواخر أيام الأمويين وفي الدولة العباسية. بل كانوا يطلقون على المؤرخ "الأخباري" كما ذكرت، لاشتغاله بالأخبار كائنة ما كانت أخبار ما قبل الإسلام أو أخبار الإسلام، وكانوا يطلقون على الموضوع نفسه "الأخبار". ولهذا نرى إن أكثرية المشتغلين بها، أطلقوا على كتبهم: "الأخبار المتقدمة" و "أخبار الماضين" و "أخبار النبي" و "أخبار العرب" و "كتاب السر في الأخبار والأحداث" وأمثال ذلك، ولم يقولوا: "تاريخ المتقدمة" أو "تاريخ الماضين" أو "تاريخ العرب" أو "تاريخ الرسول"، ويستعملون لفظة "سير ة" و "السير" في سير الأشخاص، ولا سيما "سير الرسول". و أما لفظة "تاريخ"، فقد استعملت في عنونة بعض الكتب المؤلفة في التاريخ، فقد كان ل "عوانة بن الحكم" المتوفى سنة "147ه" كتاب اسمه "كتاب التاريخ" كما كان له كتاب اسمه "كتاب سيرة معاوية وبني أمية". وكان للهيثم بن عدي المتوفى سنة "207ه" كتاب يدعى "كتاب تاريخ العجم وبني أمية" و "كتاب تاريخ الأشراف"، و "كتاب التاريخ على السنين"، وكانت للمدائني المتوفى سنة "225" للهجرة كتاب عنوانه: "تاريخ أعمار الخلفاء" وآخر اسمه "كتاب تاريخ الخلفاء" وثالث اسمه "أخبار الخلفاء الكبر"، لا أستبعد إن يكون هو هذا الكتاب.

(1/122)


--------------------------------------------------------------------------------

إلا إن هذا الإطلاق لم يكن واسعا كثير الاستعمال، وفي استطاعتنا ذكر هذه الكتب وعدها، وما دامت الحال على هذا المنوال، فليس من المعقول إطلاق لفظة "مؤرخ" و "المؤرخ" و "تاريخ" بصورة واسعة في هذا العهد، وفي جملة العهد الذي عاش فيه "ابن الكلبي"، ما دام العرف فيه إطلاق لفظة "أخبار" بمعنى "تاريخ"، و إنما طغت لفظة "تاريخ" و "مؤرخ" في الأيام التي تلت هذا العهد، ولا سيما أواخر القرن الثالث للهجرة فما بعده.
هذا من حيث استعمال لفظة "أخباري". و أما من حيث إهمال التاريخ الجاهلي وصلة الإسلام به، فقد ذكرت أنه لا علاقة للحديث المذكور بهم الجاهلية أو بإهمال تاريخها،وإنما الإهمال هو إهمال قديم، يعود إلى زمان طويل قبل الإسلام، فعادة قلع المباني القديمة لاستخدام أنقاضها في مبان جديدة، والاعتداء على الأطلال والآثار والقبور في بحثا عن الذهب والأحجار الكريمة والأشياء النفيسة الأخرى، هي عادة قديمة جدأ، ربما رافقت الإنسان منذ يوم وجوده. وهي عادة لا تزال معروفة في كثير من بلدان الشرق الأوسط حتى اليوم، بالرغم من وجود قوانين تحرم هذا الاعتداء وتمنع هذا التطاول. وقد كان من نتائجها تلف كثر من الآثار، وذهاب معالمها، فصارت نسيا منسيا. فتكبدت الآثار الجاهلية من أهل. الجاهلية، أي في الأيام السابقة للإسلام مثل ما تكبدته وتتكبده الآثار الجاهلية والإسلامية معا في أيام الإسلاميين حتى اليوم.
و أما موضوع إهمال الآثار وعم توجيه عناية الحكومات نحوها، لرعايتها وللمحافظة عليها من التعرض للسقوط والتلف والأضرار ونحو ذلك، فإنه موضوع لم يدرك الناس أهميته إلا أخيرا، ولم تشعر الحكومات بأنه واجب مهم من واجباتها إلا حديثا، ولذلك لا نستطيع إن نوجه اللوم إلى القدامى لإهمالهم الآثار ولعدم اعتنائهم بالمحافظة عليها.

(1/123)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان من آثار هذا الجهل بأهمية الآثار إن أزيلت معالم ابنية وقصور،وحطمت تماثيل وكتابات،لغرض استعمالها في البناء، وقد كان على مقربة من "سدوس"، أبنية قديمة يظن أنها من آثار حمير وأبنية التبابعة،وأن من جملتها شاخص كالمنارة، وعليها كتابات.كثيرة منحوتة في الحجر ومنقوشة في جدرانها، فهدمها أهل سدوس، لاختلاف بعض السياح من الإفرنج إليها ملاحظة التداخل معهم. ومثل ذلك.حدث في اليمن وفي مواضع أخرى من أمكنة الآثار.
وقد هدمت قرى ومسن في الجاهلية وفي الإسلام من أجل استعمال أنقاضها في بناء أبنية جديدة. ذكر "الهمداني" حصن "ذي مرمر"، وهو من المواضع الجاهلية المهمة، وكذاك "شبام سخيم" "يسخم"، وبقيا معروفين زمنا طويلا بعده، ثم جاء أحد الأتراك واسمه "حسن باشا" فهدم حصن "ذي مرمر" لينشئ في أسفله مدينة جديدة، أخذ معظم مواد بنائها من "شبام سخيم". وذكر إن حكومة اليمن قامت بعد سنة "1945 م" ببناء ثكنة لجنودها في المنطقة الشرقية من اليمن في "مأرب" على نمط الثكنة التي بناها الأتراك في صنعاء، فهدموا أبنية جاهلية كانت لا تزال ظاهرة قائمة، واستعملوا الحجارة الضخمة التي كانت مترامية على سطح الأرض، وأزالوا بعض الجدر والأسوار وحيطان البيوت عند بناء تلك الثكنة، فطمسوا بذلك بعض معالم تاريخ اليمن للقديم، وأساءوا بجهلهم هذا إلى قيم الآثار إساءة لا تقدر في نظر عشاق التاريخ والباحثين في تاريخ العرب قبل الإسلام.

(1/124)


--------------------------------------------------------------------------------

ويضاف إلى ما تقم عامل آخر، هدم الآثار عليها بالجملة، وأعني به الحروب. وسوف نرى حروبا متوالية اكتسحت جميع مناطق العربية الجنوبية، وأتت على مدنها، إذ استعمل القادة سياسة حرق المدن والمواقع والمزارع، وقتل السكان بالجملة فأدى ذلك إلى اندثار الآثار وتشريد الناس وهربهم إلى البوادي وتحول الأرضين الخصبة إلى أرضين جرد، حتى ضاعت بذلك معالم الحضارة القديمة، فخسرنا من جراء ذلك علما كثيرا، و أسفاه. وهناك تقصير آخر لا يمكن إن ينسب إلى الإسلاميين، بل يجب عزوه إلى الجاهليين فالظاهر من رجوع الصحابة إلى ذاكرتهم والى ذاكرة الشيبة الذين أدركوا الجاهلية في تذكر أيامها وما كانوا عليه قبل الإسلام، ومن جلب "معاوية بن أبي سفيان" المولع بسماع الأخبار ل "**** بن شرية" ليقص عليه "الأخبار المتقدمة وملوك العرب والعجم وسبب تبليل الألسنة، وأمر افتراق الناس في البلاد"، ومن رجوع أهل الأخبار إلى الأعراب لأخذ أخبار قبائلهم وأيامهم وأنسابهم وشعرهم وغير ذلك، إن غالبية أهل الجاهلية لم تكن لهم كتب مدونة في تأريخهم، ولم تكن عندهم عادة تدوين الحوادث وتسجيل ما يقع لهم في كتب وسجلات، بل كانوا يتذاكرون أيامهم و أحداثهم وما يقع لهم، ويحفظون المهم من أمورهم مثل الشعر حفظا. ولما كانت الذاكرة محدودة الطاقة، لا تستطيع إن تحل كل ما تحمل، ضاع الكثير من الأخبار، بتباعد الزمن، وبوفاة شهود الحوادث، ولم يبق بتوالي الأيام غير القليل منها. ومن هنا كان تعليل علماء العربية ضياع أكثر الشعر الجاهلي، فقالوا: "كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه، فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب،وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم، ولهت عن الشعر وروايته. فلما كثر الإسلام، وجاءت الفتوح واطمأن العرب بالأمصار، راجعوا رواية الشعر، فلم يئلوا إلى ديوان مدون، ولا كتاب مكتوب، وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا اقل ذلك، وذهب عنهم

(1/125)


--------------------------------------------------------------------------------

كثير". و إذا كان هذا ما وقع للشعر مع مكانته عندهم وسهولة بقائه في الذاكرة بالقياس إلى النثر، وتعصب القبائل لشعر شعرائها، فهل في استطاعتنا استثناء الأخبار، من هذا الذي يحدث للشعر?
بل ما لمنا وللجاهلية، ولنراجع تأريخ الإسلام نفسه، خذ تاريخ آباء الرسول وطفولة الرسول إلى يوم مبعثه، بل هي بعد مبعثه، ثم خذ سير الصحابة وما وقع في صدر الإسلام من أحداث، تر إن ما ورد من سيرة آباء الرسول وسيرة الرسول إلى الهجرة، مقتضبا بعض الاقتضاب، وأن ما ذكر هو من الأمور التي نحفظها الذاكرة عادة، وما فيما عدا ذلك مما وقع للرسول، فغير موجود، وترى اقتضابا مخلا في سيرة الصحابة،واضطرابا في تواريخ الحوادث، واختلافا بين الصحابة في ذلك. أما سبب ذلك فهو عدم تعود الناس إذ ذاك تسجيل أخبار الحوادث وما يقع لهم، وعدم وجود مسجلين مع السرايا والغزوات والفتوح يكون واجبهم تسجيل أخبارها وتدوين وقائعها، حتى ما سجل من أمر ديوان الجند والأنساب وأمثال ذلك، لم يكن في نسخ عديدة، فضاع أكثره، ولم يصل إلى الأخبارين لذلك يوم شرعوا في التدوين. وإذا كان هذا حال أخبار الإسلام، وهي أمور على جانب خطير من الأهمية بالقياس إلى المسلمين، فهل يعقل بقاء أخبار الجاهلية كاملة إلى زمن شروع الناس في التدوين في الإسلام، وقد ضاعت قبل الإسلام بزمان ? لقد قلت فيما سلف إن الهمداني وغيره ممن عنوا بأخبار اليمن، لم يعرفوا من تاريخ اليمن القديم إلا القليل، ولم يعرفوا من أخبار دول اليمن القديمة شيئا، ولم يحفظوا من أسماء ملوكها إلا بعض الأسماء، وقد حرف حتى هذا البعض، أما معارفهم من معبودات أهل اليمن القديمة، فصفر، فلسنا نجد في كتبهم إشارة ما إلى عبادة "عشتر" ولا إلى عبادة "أنبى" و "ذات صنم" و "نكرح" و "سين" و "حوكم" "حكم" و "هوبس" ولا إلى بقبة المعبودات. نعم، أشار "الهمداني" إلى اسم إله من آلهة "همدان" هو "تالب"، وكانت محبته في "ريم" "ريام"،

(1/126)


--------------------------------------------------------------------------------

يقصدها الناس في ذلك الزمن للزيارة والتبرك، ولكنه لم يعرف أنه كان إلها، بل ظن أنه ملك من ملوك همدان، فدعاه باسم "تالب"، وزعم أنه ابن "شهران". وجعل "المقه"، وهو إله سبأ العظيم، المقدم عندهم على جميع الأصنام، اسم بناء من أبنية جن سليمان. وقد بني على ما زعمه بأمر سليمان. وتحدث عن "رئام" فقال: "أما رئام، فإنه بيت كان متنسك، تنسك عنده ويحج إليه. وهو في راس جبل أقوى من بلد همدان"، ونسبه إلى "رئام بن نهفان بن تبع بن زيد بن عمرو بن همدان". وقد ذكره "ابن اسحاق" و "ابن الكلبي" و "السهيلي" و "ياقوت الحموي" وغيرهم أيضا وفي كل الذي ذكروه دلالة على إن ما رووه لم يكن عن مصدر مدون، وإنما هو روي عن أفواه الرجال. وأن تلك الأفواه قد نسيت كثيرا من الأصل، فحاولت سد الثغر بالقصص المذكور.
بل خذ ما ذكره رجال هم أقسم من "ابن الكلي" ومن "الهمداني" في الزمان، وألصق منهما عهدا بالجاهلية مثل "ابن عباس" و "**** بن شرية" وغيرهما، تر إن ما ذكراه عنها لا يدل على أنهما أخذا أخبارهما من مورد مكتوب ومن كتب كانت موجودة، ولا أعتقد إن "معاوية بن أبي سفيان"، وهو نفسه، من أدرك الجاهلية، كانت به حاجة إلى "****" وأمثال "****" من قوال الأساطير، وإلى الاستماع إلى أخبارهم، لو كان عنده شخص مدون عن أمر الجاهلية، ثم إنه لو كانت عند "ابن عباس" و "****" وطلاب الشعر الجاهلي والأخبار مدونات، لما لجأوا إلى الذاكرة والى الرواة والأعراب يلتمسون منهم الأخبار والأشعار وأمور القبائل!

(1/127)


--------------------------------------------------------------------------------

إن جهل أهل الأخبار بأصنام أهل اليمن القديمة التي ترد أسماؤها في كتابات المسند، وذكرهم أسماء أصنام جديدة زعموا أنها كانت معبودة، عند أهل اليمن لم يرد لها ذكر في كتابات المسند، أشار "ابن الكلبي" وغيره إلى بعضها، و إشاراتهم إلى دخول اليهودية والنصرانية إلى اليمن، والى تهود "تبع" وهو في "يثرب" في طريقه إلى اليمن، وأخذه حبرين من أحبار يهود معه، وأمره بتهدم معبد "رئام"، بناء على إشارة الحبرين، ثم ظهور جمل و ألفاظ في كتابات المسند تدل على التوحيد وعلى وقوع تغير وتطور في ديانات أهل اليمن، مثل عبادة "الرحمن" وعبادة "ذو سموي"، أي "ذو السماء" أو "صاحب السماء": إن كل هذه الأمور وأمثالها، هي دلائل على حدوث تغير وتطور في عقليات أهل اليمن، أثرت في معتقداتهم فجعلتهم ينسون آلهتهم القديمة،بل يتنكرون لها، ويبتعدون بذلك عن ثقافتهم الوثنية القديمة، ومثل هذا التطور والتغير لا بد إن يؤدي طبعا إلى نسيان الماضي والى الالتهاء عنه بالتطور الجديد. وقد وقع هذا قبل الإسلام بزمان.
كان لدخول اليهودية والنصرانية في اليمن وفي أنحاء أخرى من جزيرة العرب، دخل من غير شك في إعراض القوم عن ديانتهم الوثنية وعن ثقافتهم وآدابهم. أما اليهود فقد سعوا بعد دخولهم في اليمن لتهويد ملوك اليمن و أقيالها ونشر اليهودية فيها للهيمنة على هذه الأرضين، وأخذوا ينشرون قواعد دينهم وأمور شريعتهم بينهم، ويشيعون قصص التوراة، وأعاجيب سليمان وجن سليمان، وتمكنوا من إقناع بعض سكان اليمن بالتهود، على نحو ما سنراه فيما بعد.

(1/128)


--------------------------------------------------------------------------------

ووجدت النصرانية سبيلها إلى اليمن كذلك من البحر والبر، وسعت كاليهودية لتثبيت أقدامها هناك وفي سائر أنحاء جزيرة العرب، ووجدت من سمع دعوتها هنا وهناك، فتنصرت قبائل، وشايعتها بعض المقاطعات والمدن، وتعرضت الوثنية للنقد من رجال الديانتين،واقتبس من دخل في اليهودية الثقافة اليهودية،ومن دخل في النصرانية الثقافة النصرانية، واعرض عن ثقافته القديمة، وفي جملتها الخط المسند، خط الوثنية والوثنين، وصار عدد قرائه يتضاءل بمرور الأيام. ومن يدري? فلعل رجال الدين الجدد، صاروا يعلمون الناس الكتابة بقلمهم الذي كانوا يكتبون به، وهو قلم أسهل في الكتابة من المسند، وخاصة على الورق والجلود والقراطيس. وقد يكون هذا سببا من جملة أسباب تضاؤل عدد الكتابات المدونة في المسند، في حقبة سأتحدث عنها فيما بعد.
وآية ذلك عثور المنقبين والسياح في مواضع من نجد وفي العروض، وهي مواضع بعيدة عن اليمن، على كتابات سبئية يعود تاريخ بعضها إلى ما قبل الميلاد وتاريخ بعضها إلى ما بعده، ثم اختفاء آثار كتابات المسند من هذه المواضع في العهود المتأخرة من الجاهلية القريبة من الإسلام، مما يبعث على الظن إن أهل الجزيرة كانوا قد استبدلوا بذلك القلم قبيل الإسلام قلما جديدا مشتقا من الأقلام الإرمية الشمالية، وذلك بانتشاره بينهم على أيدي المبشرين وبالاتجار مع عرب العراق، ولا سيما سكان الحيرة والأنبار، وهو القلم الذي كان يكتب به أهل مكة وأهل يثرب عند ظهور الإسلام. وبذلك شارك هذا القلم الجديد في موت القلم المسند واختفائه من هذه المواضع،وبموته انقطعت صلات القوم بالثقافة العربية الجنوبية، ثقافة القلم المسند.

(1/129)

admin
12-25-2010, 12:55 PM
ولا أستبعد إن يكون من بين رجال الدين من الديانتين أناس كانوا على قدر العلم والفهم بأمور التوراة والإنجيل وبالقصص الإسرائيلي والنصراني وعلى شيء من الإلمام بالتاريخ. فقد كان من،بينهم أناس هم من أصل رومي أو سرياني أو عبراني، فليس من المستبعد إن يكون لهم حظ من العلم بالأمور المذكورة أخذوه من كتبهم المكتوبة بلغاتهم ومن دراساتهم لأمور الدين. ومثل هؤلاء لا بد إن يستشهدوا في مواعظهم في "مدراثهم" أو "كنائسهم" في الأماكن التي نزلوا بها من جزيرة العرب، بشيء من قصص التوراة والكتب اليهودية والأناجيل. ودليل ذلك إن معظم القصص الواردة عن الرسل والأنبياء وعن انتشار اليهودية والنصرانية في جزيرة العرب، مصدره أناس من أهل الكتاب، هم من أهل يثرب، أي من يهود المدينة، ومن أهل اليمن، وهو قصص على دلالته على جهل فاضح بأمور اليهودية أو النصرانية، يدل عموما على أنه أخذ من أصل يرجع إلى أهل الكتاب، وقد غطي بقصص وأساطير ساذجة. وهو على بساطته وسذاتجه يصلح إن صحت نسبته إلى من نسب إليهم، إن يكون موضوعا لدراسة مهمة، هي دراسة مقدار علم يهود جزيرة العرب ونصاراها في الجاهلية بأمور دينهم ومقدار جهلهم بأحكام اليهودية أو النصرانية في تلك الأرضين.

(1/130)


--------------------------------------------------------------------------------

ونحن لا نجد في بقية جزيرة العرب توينا للتاريخ، لعدم وجود حكومات منظمة كبيرة فيها، ولسيادة النظام القبلي في أكثر أنحائها، وإنما نجد فيها رواة يروون أخبار قبيلتهم وأمورها وعلاقاتها بالقبائل الأخرى،وحوادثها وأيامها، ورواة تخصصوا برواية الأنساب، لما للنسب من أهمية في المجتمع القبلي، ونجد جماعات تحفظ الشعر وما شاكل ذلك من أمور تخص القبيلة والنظام القبلي، وكل ذلك رواية، أي مشافهة، لا كتابة. ومثل هذا النوع من التوريخ الشفوي معرض كما قلت سابقا لآفات عديدة، أهمها تحكم العواطف القبلية على الرواة وتعرض الخبر للنسيان كلما تقدم العهد به في الذاكرة، وكلما ابتعد به الزمن، إذ تقل حماسة الناس له،ويضعف تأثيره في العواطف، وتفتر عندئذ همم الرواة عن حفظه وبذلك يتعرض للموت والاندثار، ومن هنا اندثرت وضاعت أخبار الجاهلية البعيدة عن الإسلام. أما الجاهلية القريبة من الإسلام، فقد بقي منها ما يشبه ذكريات الطفولة، خلا الأمور التي عاصرت ظهوره، فقد أدركها الصحابة، فكان في إمكانهم تذكرها وروايتها، وانتقلت منهم إلى من جاء بعدهم حتى وصلت إلى المدونين.
ما ذكرته هو أهم أسباب إهمال التاريخ الجاهلي، فجاء ذلك التاريخ لذلك ناقصا حتى على نحو ما نقرأه في المؤلفات العربية القديمة. أما تدوينه مجددا، و إعادة كتابته وتنظيمه وتنسيقه وسد الفجوات الواسعة فيه، فقد تم على هذا النحو:
تدوين التاريخ الجاهلي

(1/131)


--------------------------------------------------------------------------------

للمستشرقين مجهود يقدر في تدوين التاريخ الجاهلي وفي كتابته بأسلوب حديث، يعتمد على المقابلات والمطابقات ونقد الروايات والاستفادة من الموارد العربية والأعجمية. وقد أفادوا مما جاء عن العرب في التوراة وفي التلمود وفي الكتب اليهودية، كما أفادوا مما جاء عن جزيرة العرب وسكانها في الكتابات الاشورية والبايلية ومن الموارد "الكلاسيكية" والمؤلفات النصرانية سريانية ويونانية ولاتينية، فأضافوا كل ما تمكنوا الحصول عليه في هذا الباب إلى ما ورد في الموارد الإسلامية عن الجاهليين، فصححوا وقوموا، وسدوا بهذه المواد بعض الثلم في التاريخ الجاهلي.
وعملهم في بعث الكتابات الجاهلية ونشرها، مشكور مقدر، فقد أعادوا إلى الخط الذي كتبت به الحياة، وجعلوه مقروءا معروفا، وترجموا كثيرا من هذه النصوص إلى لغاتهم، وهي وثائق من الدرجة الأولى، وعملوا على نشر النصوص بالمسند وبالحروف اللاتينية أو العبرانية أو العربية في بعض الأحيان، وعلى استخلاص ما جاء فيها من أمور متنوعة عن التاريخ العربي قبل الإسلام.
وقد أمكننا بفضل هذا المجهود المضني الحصول على أخبار دول وأقوام عربية لم يرد لها ذكر في الموارد الإسلامية،لأن أخبار تلك الدول و أولئك.الأقوام كانت قد انقطعت وطمست قبل الإسلام، فلم تبلغ آهل الأخبار.
وقد ساعدهم في شرح الكتابات الجاهلية وتفسيرها علم بلغات عديدة، مثل اللغة العبرانية والسريانية والبابلية، فإن في هذه اللغات ألفاظا ترد في تلك الكتابات بحكم تقاربها واشتراكها في هذه الثقافة المتقاربة التي نسميها "الرابطة السامية"، كما إن فيها أفكارا وآراء ترد عد المتكلمين بهذه اللغات، ولهذا صار في الإمكان فهم ما ورد في الكتابات الجاهلية بالاستعانة بتلك الأفكار والآراء.

(1/132)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد كان للسياح الذين جابوا مواضع متعددة من جزيرة العرب، ولا سيما المنطقة الغربية والجنوبية منها، فضل كبير في بعث الحياة في الكتابات الجاهلية. فقد اخذ أولئك السياح بعض كتابات، كما أخذوا صور بعض آخر، وبفضل تعاونهم مع العلماء المبحرين باللغات الشرقية أمكن حل رموزها وبعث الحياة فيها بعد موت طويل.
وقد كانت أسفار أولئك السياح مغامرات ومجازفات،إذ تعرضت حياة أكثرهم للخطر، بسبب عدم استقرار الأمن إذ ذاك، وبسبب سوء الأوضاع الصحية، ولعدم وجود أماكن مريحة، تناسب حياتهم التي تعودوها، إلا أنهم لم يبالوا ذلك ولم يحفلوا به، وتحايلوا بمختلف الحيل للتغلب على تلك الصعوبات ولكسب ود رؤساء القبائل والحكام لتسهيل مهمتهم.وقد قضى نفر منهم نحبه في أسفاره هذه. وقد كانت اكثر أسفار هؤلاء الرواد أسفارا فردية قام بها أفراد من العلماء ومن الضباط والمغامرين. والأسفار الفردية، مهما كانت، لا تأتي بالنتائج التي تنجم عن دراسات البعثات المتخصصة بمختلف الشؤون، لذلك نتطلع إلى اليوم الذي تتمكن فيه البعثات العلمية الكبيرة من اختراق آفاق بلاد العرب،وتقديم نتائج بحوثها إلى العلماء لتدوين تاريخ مرتب لجزيرة العرب قبل الإسلام، ولا سيما إلى البعثات العلمية العصرية التي تتألف من متخصصين من الناطقين بلغة هذه البلاد، لأن هؤلاء أقدر من غيرهم على فهم اللهجات القديمة ومحتوياتها وروح ذلك التاريخ.
ونستطيع إن نعد السائح الدانماركي "كارستن نيبور Carsten Niebuhr الذي قام في سنة 1761 للميلاد برحلة إلى جزيرة العرب، أول رائد من رواد الغرب ظهر في القرون الحديثة، وصف بلاد العرب، ولفت أنظار العلماء إلى المسند والرقم العربية. وقد أثارت رحلته هذه همم العلماء والسياح، فرحل من بعده عدد منهم لا يتسع المقام لذكرهم جميعا رحلات إلى مختلف أنحاء جزيرة العرب عادت على التاريخ العربي بفوائد جزيلة.

(1/133)


--------------------------------------------------------------------------------

فزار الدكتور "سيتزن" Dr. Seetezen جنوبي بلاد العرب، ويمكن من نقشر صور نصوص عربية جنوبية أرسلها إلى أوروبة عام 1810 م ومنه النصوص على قصرها وغلطها، أفادت في تدوين تاريخ العرب قبل الإسلام إفادة غير مباشرة لأنها لفتت أنظار المستشرقين إليها والى دراسة التاريخ العربي القديم، حتى آل الأمر إلى حل رموز تلك الكتابة ومعرفة حروفها.
وتمكن الرحالة السويسري "ليدويلك بركهارد" Johann Ludwig Burckhard من القيام برحلة إلى الحجاز، فتزيا بزي مسلم اسمه "إبراهيم بن عبد الله" يريد الحج وزيارة مسجد الرسول وقبره. وقد صحب الحجاج في حجهم، ووصف موسم الحج وصفا دقيقا، وكتب عن مكة والمدينة كتابة علمية. وقد زار آثار الأنباط وعاصمتهم "البتراء".
وتمكن ضابط إنكليزي يدعى James R. Wellsted من زيارة الأنحاء الجنوبية من جزيرة العرب، ومن الظفر بصور نصوص عربية قديمة قصيرة، ومن استنساخ كتابة حصن "غراب" التي يرجع تاريخها إلى سنة "640" من تاريخ أهل اليمن، وتوافق سنة 525 للميلاد. وبفضل هذا الضابط عرف المستشرقون هذا النص.
وأضاف الرحالة "هوتن" T.G Hutton عددا آخر من الكتابات الجاهلية سنة 1835 إلى ما كان قد عرف سابقا. وجاء "كروتنون" C ruthenden سنة 1838 م بنقوش أخرى جديدة. وكذلك "الدكتور مكل" Dr. Mackell الذي عاد بخمسة نصوص سبئية، فتوسعت بذلك دوائر البحث قليلا، وتمكن العلماء بفضل هذه النقوش من حل رموز المسند.
وقد قام الصيدلي الفرنسي "توماس يوسف أرنو" " "Thomas Joseph Arnaud" برحلة إلى اليمن، كانت موفقة جدا، إذ تمكن بفضل علمه بالعقاقير، من اكتساب صداقة المشايخ والزعماء. وبهذه الصداقة استطاع إن يتجول في بعض أنحاء اليمن ومدنها، ولم يكن ذلك أمرا ميسورا للغرباء، فزار الجوف و وقف على خرائب "مأرب"، ومكث في مدينة "صنعاء"، أمدا، وزار "صرواح" المدينة الأثرية القديمة، واستنسخ ستة وخمسين نصا كتابيا قديما.

(1/134)


--------------------------------------------------------------------------------

وكتب التوفيق لسائح أوروبي آخر، هو الضابط الإنكليزي "Coghlan"، فحصل في سنة 1860 م على عشرين لوحا برنزيا سليما عز عليها في أنقاض مدينة "عمران". وقد أرشدت هذه الألواح المعدنية المستشرقين إلى ناحية مهمة من نواحي الفن العربي القديم.
وتوصل العلماء، بعد جهود، إلى حل رموز هذه الكتابة العربية، فعرفوا منها - وكان أغلبها قصيرا - إنها تبحث في موضوعات متشابهة، وأنها مؤلفة من حروف أطلقوا عليها اسم "الكتابة الحميرية" أو "الحروف الحميرية". وكان الرأي السائد بادئ بدء إنها كذلك، حتى تبين لهم إن هذه النصوص والنصوص التي جيء بها أخيرا لم تكن جميعها نصوصا حميرية، بل كان بعضها من النصوص المعين به، وبعضها كتابات سبئية ترجع إلى عهد دولة سبا، وبعضها بلهجات أخرى، نختلف عن الحميرية بعض الاختلاف. وهذه الكتابة،هي الكتابة المسماة ب "خط المسند" و ب "القلم المسند" و ب "المسند" في الموارد العربية.

(1/135)


--------------------------------------------------------------------------------

عالج بعض العلماء،ممن أولعوا بدراسة النقوش، تلك النصوص، وأعملوا رأيهم فيها حتى تمكن بعضهم من التوصل إلى حل رموز بعضها، مثل العابر "وليم كسنيوس" "Wilhelm Gisenuis" و العالم "رودكر" "E. Rodiger" والعالم "هاينرش ايوالد" "Heinrich Ewald" والعالم "فريسنل" "F. Fresenal" الذي نشر النصوص التي جاء بها، وعددها خمسة وخمسون نصا بحروف عربية وحميرية، في الجريدة الآسيوية "Journal Asiarique" سنة1845 م، إلا إن نشره لم يكن متقنا اتقانا تاما .وجاء القسيس "أرنست أوسيندر" "Ernest Osiander" فأتم ما كان قد بدئ به. ولم يتمكن العلماء الذين عالجوا مشكلة الكتابة العربية الجنوبية من معرفة الحروف كلها، ولذلك لم يستطيعوا قراءة أكثر النصوص التي جيء بها إلى أوروبة وفهم معناها، كما إن النصوص المقروءة لم تكن مضبوطة ضبطا تاما، فاستطاع هذا العالم بجهوده العظيمة قراءة كل النصوص التي جاء بها السياح والعلماء، وتعيين أشكال الحروف، ووضع أسس متينة لدراسة عرفت بعد ذلك باسم "الدراسة العربية الجنوبية" وقد استعان العلماء على فهم هذه الكتابات بالدراسات اللغوية السامية مثل العبرانية، وباللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم، وباللهجات اليمانية و بالمعلومات الجغرافية المدونة في الكتب العربية، وبأسماء الملوك والأشخاص الذين وردت أسماؤهم في المؤلفات العربية.
وترسم المستشرق "ليفي" "M. A. Levy" أثر "اوسيندر" وتتبع أسلوبه في البحث، وحاول استخراج مادة تاريخية من هذه النصوص التي ترجمت وعرفت. وقد يمكن من نشر ما تركه "أسين در" من نصوص عاجلته المنية قبل إن يوفق لإخراجها إلى الناس، فتمكن "ليفي" من تنسيقها وتهذيبها، وطبعها وعرضها على العلماء.

(1/136)

admin
12-25-2010, 09:04 PM
وفاق "يوسف هاليفي" "Joseph Halevy"، وهو يهودي فرنسي، كل من تقدمه بكثرة ما جاء به إلى أوروبة من نقوش، وبسعة علمه في تاريخ اليمن، وبدراسة الكتابات العربية الجنوبية. دخل هذا الفرنسي اليمن في هيئة يهودي متسول من أهل القدس، ليتجنب بذلك ما يتعرض له الغرباء وأهل البلاد المسلمون على السواء من أخطار رجال القبائل وقطاع الطرق الذين لا يمسون أهل الذمة بسوء.
وقد استطاع، بهذه الطريقة، التطواف في أرجاء اليمن، حتى بلغ أعاليها مثل "نجران"، وأعالي الجوف وهي المنطقة التي كان فيها "المعينيون". ووصل في تطوافه إلى حدود "مأرب" عاصمة سبا والى "صرواح"، وهو بهذا أول أوروبي زار "نجران". ولما عاد إلى أوروبة، أحضر معه "686" نقشا جمعها من مواضع مختلفة من اليمن.
وفي سنة 1872 - 1874 م نشر هذا العالم في الجريدة الآسيوية "Journal Asiarique" ما كتبه في وصف رحلته إلى بلاد اليمن، وقد ضمن كتاباته وصفا للاماكن التي حل بها والطرق التي اجتازها، وترجمة ل "686" نصا، وهي النصوص التي كان قد جاء بها أو استنسخها من أصولها، ونشر بحثا علميا وانتقادا قيما للأبحاث اللغوية والتراجم والنصوص التي سبق إن نشرها العلماء من قبله.
وكان ممن ذهب إلى اليمن شاب نمساوي اسمه "سيكفريد لنكر" "Siegfrid Langer"، وقد استطاع تصوير بعض النقوش واستنساخ قسم من الكتابات في عام 1882 م. غير إن القدر عاجله إذ قتل هناك، ففقد البحث في تاريخ اليمن بوفاته عضوا نشيطا. غير إن نمساويا آخر عوض عن خسارة ذلك الشاب، وهو العالم "ادورد كلاسر" "Eduard Glaser". وقد قام بأربع رحلات إلى اليمن، ورجع بعدد كبير من النصوص والنقوش وبمادة غزيرة من المعلومات.

(1/137)


--------------------------------------------------------------------------------

بدأ الرحلة الأولى "في اكتوبر من سنة 1882م"، وختمها في شهر آذار "مارس" من سنة 1884 م، وكانت الحالة السياسية في ذلك الزمن مضطربة، والأوضاع غير مساعدة، والفوضى عامة في بلاد اليمن، ولم يكن للحكومة على القبائل من سلطان. ومع ذلك تمكن من الحصول على "255" نقشا رجع بها إلى أوروبة. أما الرحلة الثانية، فكانت في نيسان سنة 1885 م ودامت حتى فبراير سنة 1886، وقد زار في أثنائها المناطق الجنوبية الشرقية والمنطقة الجنوبية الممتدة من جنوب "صنعاء" حتى مدينة "عدن". وقد تمكن من جمع معلومات مهمة عن طبغرافية البلاد و أماكنها الاثرية، و عاد بنصوص معينة مهمة دخلت في ممتلكات المتحف البريطاني.
وقام بالرحلة الثالثة في سنة 1887م، و مكث في اليمن إلى سنة 1888م، و كانت رحلته هذه جدا، إذ حصل على اثار و نقوش كتابية كانت على جانب عظيم من الأهمية، منها اربعمئة نص أخذها من مدينة "مأرب" عاصمة "سبأ"، و من هذه النصوص نصان عن تصدع سد مأرب يبرجع عهدهماالى زمن قريب من ميلاد الرسول، و نصوص أخرى من مدينة "صرواح" يرجع عهدها إلى العصر السبئي، و هي ذات أهمية كبيرة في تدوين تأريخ بلاد العرب الجنوبية.

(1/138)


--------------------------------------------------------------------------------

وكانت رحلته الرابعة، وهي الأخيرة، في سنة 1892م، و كانت موفقة جدا كذلك. اق يع فيها أسلوبا جديدا في الحصول على صور النصوص، إذ استعان بالأعراب الذين فرقهم في مختلف الجهات التي لم يسبقه أحد من الأوروبيين إلى زيارتها،بعد إن علمهم مختلف الطرق في الحصول على تلك النصوص بطريق الورق الذي يتأثر بالضوء وبطريقة القوالب الجبسية وبطرق أخرى. وقد تمكن بهذا الأسلوب الجديد من الظفر بصور مضبوطة بعض الضبط للكتابات القديمة التي لم يكن بوسعه الذهاب إلى أماكنها واستنساخها بنفسه،وبها أيضا تمكن من تصحيح أغلاط الصور التي أخذها "هاليفي" عن النقوش الأصلية، ومن الحصول على، زهاء مئة نص قتباني أخذها من منطقة خرائب "مأرب".وفي متحف "فينا" قسم من الأحجار المكتوبة التي كان هذا العالم قد جلبها معه في المرة الأخيرة إلى أوروبا.
وقد زار المستشرق "جورج أغسطس والين George Augustus Wallin" سنة 1845 م نجدا ودون رحلته إليها. وزار الحجاز المستشرق الهولندي الشهير "سنوك هرغونيه Snouk Hurgtonje"، فكتب في أحوال مكة ووصف الحياة في الحجاز وموسم الحج. وكان قد ذهب إليه سنة 1885 -1886 م وهو من العلماء المدققين.
وقد زار الحجاز "السير ريشارد برتن" "Sir Richard Burton" متنكرا بزي مسلم سمى نفسه "عبد الله" زار الحرمين وكتب وصف رحلته هذه.

(1/139)


--------------------------------------------------------------------------------

وتوغلت "حنة بلنت" "Anne Blunet" سنة 1879م في شمال بلاد العرب حتى بلغت أرض نجد، و كانت مولعة بدراسة أحوال الخيول العربية. واخرق الرحالة الإنكليزي "تشارلس دوتي" "Charils M. Doughty" الصحارى العربية وشمال بلاد العرب، ووضع كتابا مهما وصف فيه أسفاره في بلاد العرب الصحراوية. وقد اهتم خاصة بدراسة النواحي "الجيولوجية" والجغرافية للبلاد العربية، ودون ملاحظته عن الظواهر الجوية وتغيرات الجو ولم يغفل عن دراسة طبائع البدو وحياتهم الاجتماعية وطرق تفكيرهم وعقائدهم. وقد طبع كتابه، في سنة 1888، وترجم إلى بعض اللغات الأوروبية لأهميته.
ويعد هذا الرحالة من المتعصبين على الإسلام، وقد يكون لهذا التعصب سبب، فقد لاقى من الأعراب وأهل المتن شيئا كثيرا أثر في نفسه، فصار يتحامل على المسلمين ويقسو في حكمه على الرسول، إلا أنه لم يتمكن مع ذلك من الغض من قيمة المبادئ الأخلاقية التي يتحلى بها. ومما لاحظه على البدو، عدم اهتمامهم بعبادتهم كالصلوات الخمس والصوم، كما لاحظ من جهة أخرى إن الخوف من وجود إله يكاد يكون أعمق آثرا في نفوس هؤلاء من الحضر. ولا حظ أيضا إن جذور الوثنية القديمة لا تزال راسخة حتى الآن في نفوس الأعراب وأكثر سكان القرى والمدن، وقد اظهر هذا الرحالة ميلا عظيما لدراسة حياة البدو وطرق معيشتهم، وهو يتشوق إلى الصحراء ويحن إليها حنين البدو، ويتجلى ذلك العطف في رحلته التي تعد من روائع الأدب الإنكليزي.
ورحل "ثيودور بنت "Theodor Benet" وزوجته إلى البحرين وجنوب الجزيرة العربية فزارا الأماكن الأثرية، وتحدثا عن بعض الخرائب الجاهلية والكتابات. وكانت زيارتهما للبحرين سنة 1889 م. أما زيارتهما لمسقط و عمان و حضرموت، فكانت في هذه السنة ثم سنين بعدها.

(1/140)


--------------------------------------------------------------------------------

و تزيا الرحالة الالماني "هايرنش فون مالتزن" "Heinrich von Malzen" بزي حاج مغربي، وكان قد زار المغرب و تعلم لهجة سكانه، و ذهب إلى الحجاز و تظاهر انه منهم، و بعد عودته من الحج وضع رحلته.
ومن الجوابين العلماء "يوليوس أويتنك Julius Euting"، وقد اهتم خاصة بدراسة أحوال البدو، وكتب في الوهابين والحركة الوهابية.
ومنهم الرحالة الجيكوسلوفاكي الأصل "ألويس موسل" "Alois Musil"، زار "العربية الحجرية" وكتب عدة كتب في وصف شمال الحجاز وبادية الشام ومنطقة الفرات الأوسط وتدمر وفي، ووضع في نهاية كل كتاب من في فصولا علمية قيمة فيها تحقيق تاريخي جليل. وثمة جوابون آخرون لا بد من ذكرهم مثل "جوسن" "Antonine Jaussen" و "برونوف" "R.E. Brunnow" و "تشارلس هوبر" "Charles Huber"5و "وبرترام توماس" الشاب الإنكليزي المستشرق الذي استطاع في شباط سنة 1929 م إن يخترق لأول مرة "الربع الخالي" فكشف بذلك بقعة من أكبر البقاع المجهولة في بلاد العرب. ويضارعه في مخاطراته هذه "فلبي" الذي أسلم فأطلق على نفسه "الحاج عبد الله فلبي". وقد ألف هذا الإنجليزي المستعرب عدة كتب بالإنكليزية وصف فيها أسفاره في بلاد العرب، وقد تهيأ له من الفرص ما لم يتهيأ لأوروبي آخر، إذ كان من الملازمين للملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود والمقربين إليه. وقد مكث الرحالة الألماني "راتجن" "C.. Rathjens" بضع سنين في اليمن وكتب عنها، وجلب معه عدة كتابات يمانية قديمة إلى ألمانيا وضعت في "متحف الشعوب" في مدينة "هامبرغ".

(1/141)


--------------------------------------------------------------------------------

وقامت بعثة أمريكية عرفت ب "المؤسسة الأمريكية لدراسة الإنسان" "The American Foundation for Study of Man " برئاسة وندل فيلبس" "Wendell Phillips"، وضمت بعض العلماء الواقفين على تاريخ اليمن القدم مثل "البرايت" "Dr. W. F. Albright" أستاذ الآثار في جامعة "جون هوبكنس" بالولايات المتحدة، وآخرين في مختلف الموضوعات وذلك ما بين سنتي 1950 - 1952 م بأعمال الحفر في منطقة "عدن" واليمن. وبالرغم من النهاية المحزنة التي انتهت أعمال البعثة إليها، فقد تمكنت من الحصول على نتائج حسنة جديدة لم تكن معروفة عن تاريخ مملكة قتبان وسبأ، وعادت ببعض الآثار.
وكانت في جملة ما درسته هذه البعثة نظم الري في مملكة "قتبان". ودراسة موضع "هجر بن حميد"، حيث عثرت على فخار ومواد أخرى يعود عهدها، كما يرى خبراء البعثة إلى ألفي سنة. ودراسة أخرى لمدينة "تمنه" عاصمة "قتبان" ولمعبدها الشهير ولبقايا مقبرتها، وعثرت على كتابات جديدة، وقدرت سقوط تلك العاصمة وخرابها بسنة "25" قبل الميلاد.
وقامت هذه البعثة في سنة "1952 " و "1953" للميلاد بأعمال الحفر في "ظفار" بعمان. ثم عادت فنقبت في هذه المنطقة في ابتداء سنة "1960"م، حيث كشفت عن بعض الخفايا من تاريخ هذه المنطقة التابعة لسلطنة عمان.
وقامت في سنة "1962"م بعثة أمريكة من المستشرقين الأميركيان، لا علاقة لها بالبعثة المتقدمة بزيارة مواضع من المملكة العربية السعودية، فزارت "سكاكة" "سككه" والجوف وتيماء ومدائن صالح والعلا وتبوك، وظفرت بنماذج من فخار قديم، ونقلت صورا لكتابات ثمودية ونبطية، أهمها الكتابات التي وجدها في قمة "جبل غنيم" الذي يقع على مسافة ثمانية أميال من جنوب "تيماء".

(1/142)

admin
12-25-2010, 09:05 PM
وهي، كما تقول البعثة، من أقدم الكتابات التي عثر عليها حتى ألان في العربية الشمالية. وكان "فلبي" قد استنسخها بيده، وتبين بعد مقارنة ما استنسخه فلبي بالصور "الفوتوغرافية" التي أخذنها البعثة إن في نقل "فلبي" أوهاما عديدة. وفي جملة ما عثرت عليه البعثة صور نحتت على أحجار تمثل آلهة عربية قديمة. وهناك طائفة أخرى من المستشرقين خدمت التاريخ العربي قبل الإسلام خدمة جليلة مهمة، هي طائفة أساتذة الجامعات وأصحاب التتبع والبحوث، استفادت من بحوث السياح ومن الموارد المذكورة التي تحدثت عنها عن مصادر التاريخ الجاهلي، ثم غربلتها ونقدتها وألفت منها مادة جديدة لتاريخ الجاهلية، ومن هؤلاء المستشرق: "بركر" "Berger" مؤلف كتاب "جزيرة العرب قبل محمد في الآثار" "L'Arabie Avant Mahoet d'apers les Inscription"، والمستشرق "كوسان دي برسفال" العلامة الفرنسي صاحب كتاب "تاريخ العرب قبل الإسلام" "Essai sur l'Historia des Arabes Avant l'Islamisme" وهو من الكتب المفيدة. وقد جاء صاحبه بنتائج مهمة وبآراء صائبة في بعض الموضوعات، غير إن الكتاب أصبح قديما، وفيه نواقص كثيرة، وهو لا يتفق اليوم مع أساليب البحث الحديثة. وقد اعتمد مؤلفه على المصادر العربية ولاسيما كتاب "الأغاني" وعلى مصادر أخرى كانت معروفة في ذلك الوقت، غير أنه لم يتمكن من الوصول إلى مصادر كثيرة أخرى مهمة، لأنها لم تكن في متناول يده في ذلك العهد.
وللمستشرق الإيطالي "كيتاني" "L. Ceatani" بحث جيد في تاريخ العرب قبل الإسلام، جعله مقدمة لتاريخ الإسلام. وهو على جهده في محاولة التعمق في فهم تاريخ الجاهلية والإسلام، لا يخلو من هفوات ومن تغلب العاطفة عليه، ولا سيما في القسم الخاص بتاريخ الإسلام.

(1/143)


--------------------------------------------------------------------------------

وممن كتب في حياة العرب قبل الإسلام المستشرق "أوليري Delacy O'Leary"، صاحب كتاب "البلاد العربية قبل محمد". وقد تحدث فيه عن صلات العرب بالمصريين فالآشوريين إلى زمن ظهور الإسلام، وهو لا يخلو أيضا من هفوات. وقد صار قديما. والمستشرق "تشارلس فورستر" "Charles Forster"، وله كتاب مفيد "وان أصبح قديما جدا" في تاريخ بلاد العرب القديمة وجغرافيتها ويستند في أكثر أبحاثه كأغلب معاصريه إلى نظريات التوراة.
وقد كتب المستشرق الألماني "أوتو ويبر" "Otto Weber" رسالة صغيرة في حالة العرب قبل الإسلام. - وقد كتب المستشرقون الذين عنوا بالسيرة النبوية وبالتاريخ الإسلامي عامة فصولا تمهيدية في حالة العرب قبل الإسلام، تعرضوا فيها لمختلف النواحي التاريخية، وهي مفيدة للاطلاع على أحوال الجاهلية.
وهناك من كتب في موضوع خاص من التاريخ الجاهلي كالمستشرق "رينه دوسو"، فقد وضع كتابا في "العرب في الشام قبل الإسلام". والمستشرق الألماني "ثيودور نولدكه"، وله كتاب في "تاريخ الفرس والعرب في عهد الساسانيين"، وكتاب آخر في "أمراء غسان".
وللمستشرق "روتشتاين" "Rothstein" كتاب "تاريخ أسرة اللخميين في الحيرة"، وهو من الكتب المهمة التي جمعت شيئا كثيرا من أخبار هذه الأسرة. وقد استعان مؤلفه بالمصادر العربية والسريانية واليونانية، ولا يخلو على كل حال من الضعف في بعض مواضعه.

(1/144)


--------------------------------------------------------------------------------

ويضاف إلى كل ذلك ما كتبه بعض المستشرقين في الحالة الدينية عند العرب قبل الإسلام، وأهمها كتاب "بركمن" "Bergmann" في اديان العرب في الجاهلية، و الفصل الذي كتبه المستشرق "أرنست أسيندر" "Ernust Osiander" في ديانة العرب قبل الإسلام، في مجلة الجمعية الآسيوية الألمانية. وقد بحث هذا المستشرق في ديانة العرب قبل الإسلام بحثا عميقا، وهو أول مستشرق درس هذا الموضوع بعد "بوكوك" "Pococke" الذي كان اقدم من درس الوثنية عند العرب دراسة تفصيلية مستقلة في كتابه المطبوع سنة 1649 للميلاد. وقد تطرق "أسيندر" لعبادة.النجوم عند العرب وعبادة الأصنام والأماكن المقدسة في جنوبي بلاد العرب وعبادة الأصنام في الحجاز ونجد، وتوصل إلى إن العرب عبدوا النجوم في بادئ الأمر، ثم تطورت الفكرة الدينية عندهم، وبالرغم من ذلك ظلت عقدة عبادة النجوم راسخة في أدمغتهم.
وجاء المستشرق "لودولف كريل" "Ludolf Krehl"، فأحيا هذه الدراسة مرة ثانية بكتابه "بحث عن ديانة العرب قبل الإسلام"، وطرق موضوعات لم يتمكن من سبقه من البحث فيها. وقد ذهب إلى إن للعرب القدماء كانوا من الموحدين في الأصل. غير أنهم تركوا التوحيد بعدئذ، وعمدوا إلى عبادة النجوم والأصنام فالأحجار والأشجار، وبذلك انحطت الحالة الدينية عندهم، وفي القرن السادس تأثروا. بالديانة اليهودية والنصرانية في الأماكن التي حدث فيها اتصال بهاتين الديانتين.
وأهم ما ألف في الوثنية عند العرب قبل الإسلام، كتاب المستشرق الألماني "ولهوزن" الذي سماه: "بقايا الوثنية العربية". وقد بحث في نواح مختلفة من نواحي الحياة الدينية عند عرب الجاهلية وفي الأصنام، فجمع ما لم يتمكن من جمعه في هذا الباب أحد من المستشرقين قبله، واتبع أسلوب المقابلة والنقد في البحث.

(1/145)


--------------------------------------------------------------------------------

هذا ولا بد من الإشارة إلى مجهود عدد من العلماء تخصصوا بالعربيات وعالجوا نواحي عديدة من دراسات الجاهلية، ومنهم "فرتز هومل" "Fritz Hommel" صاحب المؤلفات والبحوث الكثيرة، والدراسات القيمة في تاريخ اليمن والعرب الجنوبيين، وفي ترجمة الكتابات المعينية والسبئية والحضرموتية والقتبانية والحميرية، وفي الدراسات اللغوية. وهو في مقدمة من وضع أسس الدراسات العربية الجنوبية ومهد الجادة لمن جاء بعده من المستشرقين. و "رودوكناكس" "Nikolaus Rhodokanakis"، وهو صاحب جملة مؤلفات في شرح وحل النصوص العربية الجنوبية، و "دتلف نيلسن" "Detlef Nielsen" الدانماركي من الباحثين في الكتابات العربية الجنوبية وفي الحضارة العربية، والتاريخ العربي قبل الإسلام.
كذاك خصص "مورديمن" "J. H. Mordtmann" و "داؤو هاندش ميلر" "D.H. Mueller"، و "ميتوخ" "Eugen Mittwoch"، و "فون فزمن" "von Wissmann"، و "بيستن" "C.F.L. Beeston"، و "كونتي روسيني" "C. Conti Rossini"، و "فنت" "F.V. Winnett"، و "ركمنس" "C. RYckmanns"، و "كر وهمن" "A. Grohmann"، و "ملاكر" "K. Mlaker"، و "أغناطيوس كويدي" "وهربرت كريمه" "Herbert Grimme"، "أنوليتمن" و "البرايت"، وغيرهم قسطا من بحوثهم في العربيات الجنوبية، فساعدوا بذلك على تقديم مادة غنية للمؤرخين والباحثين، وعلى تحسين معارفنا في اللهجات العربية الجنوبية وقواعدها وفي تاريخ الجاهلية.

(1/146)


--------------------------------------------------------------------------------

هذا، ولا بد لي أيضا من الإشارة إلى جهود مستشرقين محدثين قصروا عملهم على البحوث العربية الجنوبية، وصرفوا وقتهم في دراستها، وألفوا وكتبوا فيها، ونشروا بحوثهم في المجلات، ونشروا نشرا جديدا نصوصا سبق إن نشرت، وبعثوا الحياة في نصوص لم تكن معروفة فعرفت. ومن هؤلاء: "فون وزمن" "H. von Wissmann". و "ريكمنس" "J. Ryckmans"، وهو صاحب بحوث وتحقيقات في نشر الكتابات والتعليق عليها وعلى أيام الملوك. و"البرايت" "W.F. Albright" العالم الآثاري الأمريكي الذي ذكرته قبل قليل. و "الأب جامة" "A. Jamme" الذي رافق البعثةة الأمريكية لدراسة الانسان، والخبير بقراءة النصوص وبتعين زمان كتابتها، وناشر جملة كتابات عثرت عليها البعثة المذكورة. و "مارية هوفنر" "M. Honer" و "بيرين" "J. Pirenne" و "بيستن" "A.F.L. Beeston" وغيرهم، ممن جاؤوا ببحوث جديدة وما زالوا يبحثون في التأريخ الجاهلي.
هذا، وسوف يكون لدراسة علماء الآثار للآثار التي عثر وسيعثر عليها من ناحية علم الآثار، وكذلك، تطور الخطوط ومقارنة الكتابات بعض مما ببعض المعرفة زمانها وتحايل الآثار ودراستها بالمختبرات وبطرق "الفحص الكاربوني" و مما شاكل ذلك من طرق تعد اليوم حديثة، شأن كبير في الكشف عن التاريخ الجاهلي، وتقريبه من الواقع، وتضييق شقق الخلاف التي نراها بين العلماء في عمر الدول وفي حكم الملوك وأمثال ذلك من أمور هي اليوم في موضع اهتمام الباحثين في تاريخ الجاهلية.

(1/147)


--------------------------------------------------------------------------------

هذا وأود إن أشير هنا إلى أمر يتعلق بالكتابات الجاهلية، هو إن غالبية من عالجها وترجمها اعتمد في الغالب على العبرانية وعلى السريانية في الترجمة، و لهذا لم يوفقوا في ترجمهم توفيقا كبيرا، واعقد إن دراسة اللهجات العربية لقبائل اليمن وبقية العربية الجنوبية وجمع معاني مفرداتها، تفيد كثيرا في تفسير كتابات المسند وشرحها مثلا، لأن كثيرا من هذه المفردات ما زال مستعمل" استعمال القدماء له. ولكن مثل هذه الدراسات لم تتم بشكل علمي منظم منسق حتى الآن ويا للآسف. ورجائي إن يأتي يوم يقوم فيه المتخصصون من العرب بدراسة تلك اللهجات وتثبيتها بصورة علمية ووضع معجمات بألفاظها، فإن في هذا العمل خدمة كبيرة للتراث العربي القديم.
وقد قام المستشرقون بنصيبهم في كتابة تاريخ الجاهلية، فهم يستحقون على عملهم هذا كل شكر وثناء، مهما وقع في دراستهم من قوة وضعف، وغرض ونية، فهم قد قاموا بعمل، وقد أفادونا في عملهم هذا ولو بعض الفائدة، فعلينا إلا ننكر فضل الناس، وإذا كان هناك شيء من خطا أو نية سيئة، فعلينا يقع واجب تصحيحه وبيان مواطن سوء النية، فهم غرباء، ونحن حملة هذا التاريخ وأصحابه. وعلينا وحدنا يقع واجب تدوينه وانتزاعه من باطن الأرض، والبحث في كل زاوية ومكان لإيجاد مورد جديد نضيفه إلى الموارد الموجودة. وعلى الحكومات العربية واجب إتمام العمل، وتيسير الوسائل التي توصل الباحثين إلى الأماكن التي يقصدها العلماء وحمايتهم ورعايتهم، وواجب إعداد طائفة من المنقبين العرب للقيام بهذه المهمة والإنفاق عليهم بسخاء، وإنشاء متاحف تحفظ فيها العاديات، ومنع، الناس من التجاوز والتطاول على الأماكن الآثارية، ومن أحق بالمحافظة على تراث البلاد من أبنائها?.
الفصل الرابع
جزيرة العرب

(1/148)


--------------------------------------------------------------------------------

ليس بين أشباه الجزر شبه جزيرة تنيف على شبه جزيرة العرب في المساحة، فهي أكبر شبه جزيرة في العالم. ويطلق العلماء العرب عليها تجوزا اسم "جزيرة العرب". تحيط بها. المياه من أطرافها الثلاثة، ومع ذلك لم. يستطع الجو البحري إن يخفف من حدة الحرارة فيها، ويتغلب على جفافها، والأبخرة المتصاعدة من البحر لا تتمكن إن تصل إلى أواسط بلاد العرب، لإنزال رحمتها عليها. فإن الرياح السمائم، وهي ذات الحر الشديد النافذ في المسام، تتلقى الرطوبة التي تنبعث من البحر بوجه كالح عبوس، ومقاومة تسلبها قوتها، وتنتزع الرطوبة منها، وتمنعها في الغالب من الوصول إلى أواسط الجزيرة.
يحد جزيرة العرب من الشرق الخليج العربي المعروف عند اليونان باسم "الخليج الفارسي" "Sinus Percus"، وما زال يعرف بهذه التسمية المأخوذة عن اليونانية في المؤلفات المعاصرة. أما قدماء أهل العراق، فقد عرف عندهم ب "البحر الجنوبي" و "البحر الأسفل" و "البحر التحتاني" "Lower sea"، وب "البحر الذي تشرق منه الشمس" و "بحر الشروق" "Sea fo the Risig Sun" وبي "البحر المر" و "البحر المالح" و "نار مرتو" "Nar Marrtu" في الآشورية.
ويحدها من الجنوب المحيط الهندي، وقد أطلق بعض الكتبة اليونان واللاتين على القسم المتصل منه بسواحل جزيرة العرب الجنوبية والملاصق لسواحل إفريقية الشرقية المقابلة لهذه السواحل اسم "البحر الأريتري" "Mare Erytheaum". أما "بطلميوس" فقد أطلق على الماء المحصور بين عمان وحضرموت اسم "خليج سخاليته" "Sinus Sachalites"، وأطلق على القسم الغربي الباقي اسم "بحر ربرم" "Mare Rubrum" "Rubri Maris"، أي البحر الأحمر. وقد قصد الاغريق واللاتين ب "Mare Rubri" في الغالب البحر الأحمر الحالي والبحر العربي والخليج العربي، بل حتى المحيط الهندي، فهم يتوسعون في هذا الإطلاق كثيرا.

(1/149)

admin
12-25-2010, 09:06 PM
أما حدها الغربي، فهو البحر الأحمر كما يسمى في الخارطات الحديثة المعروف باسم "الخليج العربي" "Sinus Arabicus" في الخارطات اليونانية واللاتينية، و ب "بحر القلزم" في الكتب العربية. أما العبرانيون، فقد أطلقوا عليه. "ه - يم" "هايم" "اليم"، ومعناه اللغوي: "البحر" من "يم" "يام" بمعنى "بحر" و "ها" أداة التعريف التي هي في مقام "ال" في العبرانية،وذلك بصورة عامة، و "يام سوف Yam Suph" بصورة خاصة، وب "سوف" و "سوفة" أحيانا. وقد فسر "البيضاوي" لفظة "اليم"، الواردة في القرآن الكريم بهذا البحر، أي البحر الأحمر. وقد أريد ب "Mare Rubrum" البحر الأحمر أيضا.
و شكل البحر الأحمر، شكل يلفت النظر، يظهر و كأنه خسط منظم ممتد من الشمال نحو الجنوب على هيأة ثعبان منتصب ذي قرنين. أما باقي جسمه، فإنه البحر العربي. أما هذا الثعبان، فقد كان أرضا في الأصل، خسفت على هذه الصورة في الزمن للثالث من الأزمنة الجيولوجية، فابتعدت بذلك بلاد العرب عن أفريقية، إلا من ناحية الشمال، حتى لا تكون هناك قطيعة تامة، وارتفعت بذلك السواحل الغربية، نتيجة انخساف الأرض، فسالت إلى الأرض المنخسفة مياه البحر العربي، ولو تم الخسف، وامتد إلى "طور سيناء" فشطرها، لما كانت هناك حاجة إلى قيام الإنسان فما بعد بإتمام العمل الذي لم تكمله الطبيعة، وهو إيصال البحر الأحمر إلى البحر الأبيض بقناة السويس.

(1/150)


--------------------------------------------------------------------------------

وهناك من يرى إن البحر الأحمر كان بحيرة في الأصل، وكانت إفريقية والعربية الجنوبية قطعة واحدة عند جنوب هذه البحيرة، أي عند ما يسمى ب "مضيق باب المندب" في الزمن الحاضر، ولكن خسفا وقع، أدى إلى انفصال إفريقية عن العربية الجنوبية الغربية، فاتصل المحيط الهندي بالبحيرة، وتكون البحر الأحمر. وقد كان الناس قبل وقوع هذا الانفصال يتنقلون برا وكأن إفريقية وجزيرة العرب قطعة أرض احدة، ومن هنا كانت الهجرات. أما خليج العقبة، فقد عرف ب "خليج أيلة" و ب "خليج الأيلانيين"، "Sinus Aelanties" "Sinus Aelanticus" في الكتب الكلاسيكية، نسبة إلى مدينة "أيلة" المسماة "ايلات" "Elath" و "ايلوت" "Eloth" عند العبرانيين. وهي مدينة مهمة من مدن "أدوم" "الأدوميين". و أما "خليج السويس" فقد عرف ب "Sinus Heroopolites" " Sinus Heroopoliticus " عند اليونان واللاتين.
ويحصن مناطق و اسعة من ساحل جزيرة العرب على البحر الأحمر صخور مرجانية تفتك بالسفن التي تتجاسر فتتقرب منها، في تلك المواضع لتحمي الساحل من وصول الأجانب إليه. و لكنها أضرت سكانه من ناحية أخرى، إذ جعلت الملاحة صعبة في هذه الأماكن، فقلت بذلك الاستفادة من الاتجار بالبحر، و قللت أيضا من عدد الموانئ الصالحة لرسو السفن على هذا الساحل. و هناك جزر متفرقة تقابل الساحل، أكثرها مهجور، و بعضها قليل السكان، و معظمهم خليط من دم إفريقي أسود ومن عرب، عاشوا في الجاهلية وفي الإسلام على التعرض للسفن بالغزو وعلى الصيد.

(1/151)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرى بعض الباحثين إن البحر الأحمر لم يكن وحده نتيجة خسف أصاب بلاد العرب، ففصلها عن إفريقية إلا من جهة "طور سيناء"، بل إن سواحل بلاد العرب الأخرى، أي السواحل الجنوبية والسواحل الشرقية، تعرضت هي أيضا لهزات عديدة، فخسفت في مواضع عديدة مثل "عدن"،حيث تكون خليج عدن، ومثل الخليج العربي، وكانت هذه الهزات والتصدعات استجابة لتصدع واهتزازات حدثت في الشمال على مقربة من حدود بلاد الشام، فامتدت إلى وادي الأردن والبحر الميت فوادي عربة إلى خليج العقبة. وهكذا تعرضت جزيرة العرب في عصور سحيقة في القدم قبل الميلاد لهزات و تحركات أرضية، حتى جعلتها على الشكل الذي نراه عليه ألان.

(1/152)


--------------------------------------------------------------------------------

وحدها الشمالي خط وهمي يمتد في اصطلاح العلماء العرب من خليج العقبة حتى مصب شط العرب في الخليج العربي، فيكون النفوذ الشمالي من الحدود التي تفصل الهلال الخصيب عن جزيرة العرب. أما من الناحية "الجيولوجية"، فإن باطن الهلال وحدة لا يستطيع فصلها عن تربة الجزيرة، وجزء لا يختلف من حيث طبيعته الصحراوية و خواصه عن سائر أنحاء بلاد العرب. وأما من الناحية التاريخية، فإن هذا الخط الوهمي المتصور، هو وهم وخطأ، فقد سكن العرب في شمال هذا الخط قبل الميلاد بمئات السنين. سكنوا في العراق من ضفة نهر الفرات الغربية، و امتدوا في البادية حتى بلغوا أطراف الشام. وسكنوا في فلسطين طور سيناء، حتى بلغوا ضفاف النيل الشرقية. وهي أرضون أدخلها الكتبة القدامى من يونان ولاتين وعبرانيين وسريان في جملة مساكن العرب ودعوها ب "العربية" وب "بلاد العرب"، لأن اغلب سكانها كانوا من العرب، حتى ذهب بعض علماء "التوراة"، إلى إن "بلاد العرب" في التوراة هي مواطن "الإسماعيليين Ishmaelite" و "القطوريين Ksturaean"، أي البوادي التي نزلت بها القبائل المنتسبة إلى "اسماعيل" و "قطورة". وهي قبائل بدوبة، كانت على اتصال بالعبرانيين. وهي بواد تقع شمال جزيرة العرب وفي الأقسام الشمالية منها.
أما "أريي"، أي "العربية" في النصوص الآشورية، و "ماتو أريبي" "Matu-A-re-bi"، أي "أرض العرب" و "بلاد العرب" في النصوص البابلية، و "اربايا "Arabaya" "Arpaya" في النصوص الفارسية، و"بيث عرباية" "Brth Arabaya" في الإرمية، فإنها كلها تعني البادية الواسعة التي تفصل العراق عن بلاد الشام. أما حدودها الجنوبية، فلم تحددها النصوص المذكورة. ولكننا نستطيع إن نقول إن امتدادها كان يتوقف على مبلغ علم تلك لشعوب بالعرب، وعلى المدى الذي وصل إليه تعاملهم في بلاد العرب.

(1/153)


--------------------------------------------------------------------------------

فبلاد العرب أو "ارض العرب" "مت أربي" "Mat Arabi" "Mat Aribi" "، هي بادية الشام أيضا، وهي كل الأرضين التي تحدها جبال "الأمانوس" "Amanus" في الشمال، أي الأرضين التي تقع في جنوبها كل شبه جزيرة سيناء عند "بلينيوس" "P linius". فهن اذن أوسع جدا مما تصوره علماء الجغرافيا المسلمون لجزيرة العرب.
وإذا نظرنا نظرة عامة إلى خارطة جزيرة العرب، نرى أنها أرضون مرتفعة في الغرب، تسيطر على السواحل الضيقة، وتكون سلاسل من المرتفعات متصلا بعضها ببعض، تمتد من بلاد الشام إلى اليمن، ويقال لهذه المرتفعات جبال "السراة". وهي توازي ساحل البحر الأحمر، وتقترب منه في مواضع عديدة. ويبلغ متوسط ارتفاعها زهاء خمسة آلاف قدم. أما أقصى ارتفاع لها، فيبلغ زهاء 12,326 قدما، وهو في اليمن.
و أما الأرضون المحصورة بين هذه السلسلة وساحل البحر، فإنها ضيقة، تسيطر عليها هذه المرتفعات، وتنحدر إليها انحدارا شديدا قصيرا. وسواحلها المهيمنة على البحر، صخرية في اغلب الأحيان، يصعب رسو السفن فيها. وطالما تحطمت عليها السفن المنكوبة، فتكون طعاما للبحر، وللأعراب الساكنين على السواحل، فيكون من ينجو بنفسه من أصحاب تلك السفن وما يتبقى من حطامها ملكا لأولئك الساكنين بحسب عرف أهل ذلك الزمان وعاداتهم.

(1/154)


--------------------------------------------------------------------------------

أما الانحدار إلى البحر العربي والخليج العربي، فانه يكون تدريجيا وطويلا ولذلك تكون الأقسام الغربية من جزيرة العرب أعلى من الأقسام الشرقية. وتتألف الأرضون الوسطى من هضبة تدعى "نجدا"، يبلغ متوسط ارتفاعها زهاء2500 قدم. ويمتد في الأقسام الجنوبية من الجزيرة سلاسل من الجبال،يتفاوت ارتفاعها، تسيطر على المنخفضات الساحلية، وعلى ما يليها من أرضين من جهة البر، وتتصل هذه بسلسلة جبال اليمن، وتكثر فيها الأودية التي تفصل بين السلاسل، وتأخذ مختلف الاتجاهات من الشمال الشرقي أو من الشمال الغربي إلى سواحل البحر، حيث تمثل اتجاهات المياه والسيول. ويكون أعلى ارتفاع لسلسلة الجبال الجنوبية في أقصى الجنوب الشرقي من الجزيرة، أي في عمان، حيث يبلغ ارتفاع الجبل الأخضر زهاء عشرة آلاف قدم.
وتتكون أغلب الأرضين في جزيرة العرب من بواد وسهول، تغلبت عليها الطبيعة الصحراوية، لكن قسما كبيرا منها يمكن إصلاحه إذا ما تعهدته يد الإنسان، واستخدمت في إصلاحه الوسائل العلمية الحديثة. و أما الأرضون الصالحة للزراعة، فإنها تزرع فعلا لوجود المياه فيها. أما الأرضون التي تعد اليوم من المجموعة الصحراوية، فهي:
ا - الحرار، أو الأرضون البركانية
وقد تكونت بفعل البراكين،ويشاهد منها نوعان:نوع يتألف من فجوات البراكين نفسها،ونوع تكون من حممها "اللابة" Lava التي كانت تقذفها، فتسبل إلى الأطراف ثم تبرد وتتفتت بفعل التقلبات الجوية، فتكون ركاما من الحجارة البركانية يغطي الأرض بطبقات، قد تكون سميكة، وقد تكون رقيقة، تتبعثر فيظهر من خلال فجواتها وجه الأرض الأصلية.
وفي مثل هذه الأرضين يصعب السير، لانتشار الحجارة ذات الرؤوس الحادة فيها، وتقل الاستفادة منها، فتتحول شيئا فشيئا إلى مناطق صحراوية، والسائر اليوم في منطقة "اللجاة" في جنوب شرقي دمشق، يلاحظ الطريق الذي سلكته الحمم المقذوفة.

(1/155)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد وصف العلماء العرب الحرار،. فقالوا: الحرة أرض ذات حجارة سود نخرة، كأنها أحرقت بالنار، ويكون ما تحتها أرضا غليظة، من قاع ليس بأسود، وانما سودها كثة حجارتها، وتدانيها. وتكون الحرة مستديرة، فإذا فيها شيء مستطيل ليس بواسع، فذلك الكراع، واللابة واللوبة ما اشتد سواده وغلظ وانقاد على وجه الأرض. فيظهر من هذا إن "الحرار" هي أفواه البراكين، ولذلك تكون مستديرة. و أما اللابة أو اللوبة، فإنها المناطق التي غطتها هم البراكين، وسالت فوقها، ثم جفت. و أما الكواع، فإنها أعناق الحرار.
وتكثر الحرار في الأقسام الغربية من جزيرة العرب،وتمتد حتى تتصل بالحرار التي في بلاد للشام، في منطقة حوران، ولا سيما في الصفاة، وتوجد في المناطق الوسطى، وفي المناطق الشرقية الجنوبية من نجد حيث تتجه في الشرق، وفي المناطق الجنوبية والجنوبية الغربية، حيث تلاحظ الحجارة البركانية على مقربة من باب المندب وعند عدن. وقد ذكر علماء للعرب أسماء عدد منها، كما أضاف إليها السياح أسماء عدد آخر ضروا عليها في مناطق ثانية.
وقد وردت في الشعر الجاهلي إشارات إليها. وكانت إحدى الحرار، وهي "حرة النار" في عهد الخليفة عمر لا تزال ثائرة تخرج النار منها. وقد ذكر إن سحب الدخان كانت تخرج في عهد الخليفة عثمان من بعض الجبال القريبة من المدينة. وهذا يدل على إن فعل البراكين في جزيرة العرب، لم يكن قد انقطع انقطاعا تاما، وان باطن الأرض، كان ما زال قلقا، لم يهدأ.

(1/156)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان آخر حدث بركاني في الحجاز في سنة 654 للهجرة "1256 م"، إذ ثارت إحدى الحرات في شرقي المدينة، واستمر هيجانها بضعة أسابيع، وقد وصل ماسال من حممها إلى مسافة بضعة كيلومترات فقط من المدينة التي كان نجاتها من الأعاجيب. وكان أواخر القرن الثاني عشر والقرن الثالث عشر الميلاديين عهد زلازل وثوران براكين في مناطق آسية الغربية. ومنذ القرن الثالث عشر الميلادي، لم يبق أثر لفعل البراكين في مختلف أنحاء بلاد العرب.
وقد تركت الأصوات المزعجة، و "الصيحات" المرعبة، والنيران التي كانت ترى من مسافات بعيدة، وسحب الدخان التي كانت ترتفع من أجواف الأرض، و "البريق" الذي كان يظهر من الحرار، مثل حرة "القوس" التي قيل إنها كانت ترى كأنها حريق مشتعل، و "حرة لبن" التي كان يخرج منها ما يشبه البرق، ويسمع منها أصوات كأنها صياح، هذه كلها تركت صورا مرعبة في نفوس الجاهليين، تتجلى في القصص المروية عنها، وفي عقائدهم بتلك النيران.
ولعل قوة نيران "حرة ضروان" وشدة قذفها للحمم وارتفاع لهيبها، هي التي دفعت أهل اليمن إلى التعبد لها والتحاكم إليها، فقد كانوا يذهبون إليها ليتحاكموا عندها فيما يحدث عندهم من خلاف، والرأي عندهم إن النار تخرج فتأكل الظالم وتنصف المظلوم. وقد كانت حرة نشطة عاشت أمدا طويلا كما يظهر من وصف "الهمداني" وغيرها لها، وصلت حممها إلى مسافات بعيدة عن الحرة.

(1/157)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد تسببت أكثر هذه الحرار في هلاك كثير ممن كان يسكن في جوارها وفي هجرة الناس من الأرضين التي ظهرت بها، فتحولت إلى مناطق خاوية خالية. وقد وجد السياح أرضين شاسعة واسعة أصيبت بالحرار، وتأثرت بفعل "اللابة" التي سالت عليها. وللناس الحق كل الحق في إرجاع أسباب هلاك أصحابها إلى العذاب الذي نزل بهم بانفجار الأرض وبخروج النيران منها تلتهم الساكنين عندها. وقد جهلوا إن هذه النيران المتقدة الصاعدة والروائح الكريهة المنبعثة عنها، هي من فعل العوامل الأرضية الداخلية التي تعمل سرا في بطن الأرض.
وكثرة الحرار في جزيرة العرب، وانتشارها في مواضع متعددة منها، دليل على إن باطنها كان قد تعرض لامتحانات عسيرة قاسية، ولتقلبات كثيرة ولضغط شديد في المناطق الشمالية والغربية والجنوبية،وقد ظهر أثر ذلك الضغط في وجهها فبان اليوم وكأنه حب الجدري، يتحدث عن ذلك المرض القديم.
وقد اشتهرت بعض مناطق الحرار بالخصب والنماء وبكثرة المياه فيها، ولاسيما حرار الحجاز التي استغلت استغلالا جيدا، ومنها "خيبر"، التي ميزت على سائر القرى، فقيل عها إنها "خير قرى عربية"، غير إن ظهور العيون فيها بكثرة، جعلها موطنا من مواطن الحمى، اشتهر أمرها في الحجاز حتى قيل: "حمى خيبر". واستفاد الجاهليون من الحرار باستخراج الأحجار منها، كأحجار الرحى والمعادن، فكانت موطنا من مواطن التعدين القديمة فيها.
ويدرس علماء طبقات الأرض بعناية بالغة توزيع الحرار في جزيرة العرب، وتقصي أنواع الحجارة التي يكثر وجودها مثل الحجارة الكلسية والغرانيتية والرملية وتوزعها، والينابيع الحارة في الأحساء، لما في هذه الدراسات من أهمية بالنسبة إلى اكتشاف الموارد الطبيعية، والثروات الكامنة في الأرض.

(1/158)

admin
12-25-2010, 09:09 PM
ويظن إن فعل البراكين كان له أثر خطير في العصور ال "ايوسينية" "Eocene" ، إذ ثارت براكين عديدة في جزيرة العرب وفي الحبشة وفي السواحل الإفريقية المقابلة لجزيرة العرب. وقد أثرت هذه البراكين بالطبع في شكل الأرضين التي ثارت فيها وفي شكل الأرضين القريبة منها، وقد ظهرت براكين فعالة نشيطة في العصور "البليوسينية" "Pliocene" أيضا، أثرت نحللك في شكل سطح الأرض، بأن أحدثت فيها تضاريس، لا تزال آثارها تشاهد حتى الآن ه.
وفي جزيرة العرب عيون وينابيع، تخرج منها مياه حارة. ففي عسير وفي الحجاز وفي اليمن وفي حضرموت وعمان والأحساء والهفوف وفي مواضع اخرى غيرها، مواضع تخرج منها مياه حارة كبريتية في الأكثر، يستشفي بمياهها للناس بالاستحمام. واستثمارها على هذه الصورة وبهذه الكثرة يلفت النظر، وهي من آثار التقلبات الجوفية التي حدثت في جزيرة العرب منذ القدم.
2 -الدهناء
وهي مساحات من الأرضين تعلوها رمال حمر في الغالب، تمتد من النفود في الشمال إلى حضرموت ومهرة في الجنوب، واليمن في الغرب، وعمان في الشرق. وفيها سلاسل من التلال الرملية ذات ارتفاعات مختلفة، تنتقل في الغالب مع الرياح، وتغطي مساحات واسعة من الأرض. ويمكن العثور على المياه في قيعانها اذا حفرت فيها الآبار.

(1/159)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد أشير إلى الدهناء في بيت شعر للاعشى هذا نصه: يمرون بالدهناء خفافا عيابهم=ويرجعن من دارين بجر الحقائب وقد تصل الأمطار الموسمية إلى بعض أجزاء "الدهناء" فتنبت فيها الأعشاب، ولكن عمرها فيها قصير اذ سرعان ما تجف وتموت. وقد هجر الناس السكنى في أكثر أقسام الدهناء، لجفاف أكثر أقسام هذه المنطقة الصحراوية الواسعة، وخلوها من الماء والمراعي، ولكثرة هبوب العواصف الرملية فيها، ولشدة حرارتها التي يصعب احتمالها في أثناء النهار، وأقاموا في الأمكنة المرتفعة منها، التي تتوافر فيها المياه، وتتساقط عليها الأمطار، فتنبت الأعشاب، وينتجعها الأعراب. اما الأقسام الجنوبية من الدهناء فيسميها الجغرافيون المحدثون "الربع الخالي" "The Empty Quarter"، لخلوها من الناس، وكانت تعرف ب "مفازة صيهد".
وقد تمكن السائح الإنكليزي "برترام توماس Bertram Thomas "" من اجتيازها في "58" يوما، وهو عمل مجهد شاق، فكان أول أوروبي جرؤ على اجتياز هذه الأرض.
ويطلق على القسم الغربي من الدهناء اسم "الأحقاف" وهو منطقة واسعة من الرمال بها كثبان اقترن اسمها باسم "عاد". "واذكر أخا عاد، إذ أنذر قومه بالأحقاف".

(1/160)


--------------------------------------------------------------------------------

وكشف "برترام توماس" في الربع الخالي بحيرة من المياه الملحة، وبقايا حيوانات مبعثرة، وتبين لدى العلماء إن هذه البحيرة كانت من متفرعات الخليج العربي، وأن من المحتمل إن هذه الأرضين التي تكثر فيها رواسب قيعان البحر، قد كانت في عهدها من المناطق البحرية التي تغمرها مياه المحيط، كما عثر فيه على آثار جاهلية لم يعرف من أمرها شيء حتى الآن، يظهر أنها لأقوام كانت تستوطن هذه المناطق أيام كانت فاتا مياه صالحة للإنبات والخصب. وما زالت حتى اليوم تعد أرضا مجهولة، وإن تحسنت معارفنا عنها كثيرا، بفضل بعض موظفي شركات البترول والباحثين عن المعادن في مختلف أنحاء الجزيرة. وستأتي الاكتشافات الجديدة لها بمعارف قيمة عن تاريخ العرب قبل الإسلام من غير شك.
وتكون "وبار" قسما من الدهناء، وكانت من الأرضين المشهورة بالخصب والنماء، وهي اليوم من المناطق الصحراوية، وبها آثار القرى القديمة التي كانت كثيرة قبل الإسلام. والظاهر أنها كانت مواطن الرباريين، وهم الذين دعاهم "بطلميوس" "Jobariai" الذين سأتحدث عنهم وفي الجهة الشمالية الشرقية من بار، رمال "يرين": وكانت من المناطق المأهولة كذلك، ثم دخلها الحراب
3-النفود
أما النفود، وهو اسم لم يكن يعرفه العرب، فهي صحراء واسعة ذات رمال بيض أو حمر تذروها الرياح فتكون كثبانا مرتفعة،وسلاسل رملية متموجة، تبتدئ من واحة "تيماء"، وتمتد إلى مسافة450 كيلومترا تقريبا نحو الشرق، ويبلغ امتدادها من الجوف إلى جبل شمر زهاء 250 كيلومترا تقريبا. وقد عرفت أيضا ب "الدهناء" و ب "رملة عالج"، ثم تغلب عليها اسم "النفود" وصارت تعرف به.

(1/161)


--------------------------------------------------------------------------------

وتعد النفود من الأماكن المائلة أو المنحدرة، ويظهر من القياسات "وان كانت قليلة جدا"، إن المنطقة الشرقية من النفود أوطأ من مستوى المنطقة الغربية عند خط طول "27" درجة و "30" دقيقة، بما يزيد على150 مترا، أي إن هذه البادية مرتفعة في الغرب، آخذة في الانخفاض والميل في الشرق.
وقد نتج عن هذا الميل والانحدار المتوالي إن الرمال التي كانت الرياح الشمالية أو الشمالية الغربية تحملها، تراكمت في المنخفض، فأصبحت الحدود الغربية والشرقية هذه المنطقة مرتفعة بالنسبة إليها، بحيث صار "الحماد" يشرف عليها اشرافا تاما.
ويغطي وجه "النفود"، كثبان من الرمال متموجة يبلع ارتفاع بعضها زهاء "150" مترا، ولذلك لا يعد سطح بادية النفود سطحا مستويا منبسطا. وتأخذ هذه المرتفعات مختلف الإشكال، فتكون في أغلب الأحيان على شكل نعل الفرس، ويكون اتجاهها من الغرب نحو الشرق، وتكون أبعادها وأعماقها مختلفة، وتسمى "القعور". وقد تركت أثرا عميقا في مخيلة المسافرين ورجال القوافل.
وبعد الأشتية الممطرة تتحول هذه المنطقة الرملية الموحشة إلى جنة حقيقية فتظهر الرمال وكأنها قد فرشت ببسط خضر، يزينها الزهر والشقائق ومختلف الأعشاب الصحراوية، وينتجعها الأعراب للرعي. وقد تنمو فيها النباتات المرتفعة ذات السيقان القوية كبعض أنواع "الغضى"، فتكون أدغالا يحتطب منها البدو، وقد يحرقونها لاستخراج الفحهم منها. هذه الأعشاب والنباتات، لا تظهر إلا في المنطقة ذات الرمال الحمر "نفود سمرا". أما النفود البيضاء المؤلفة من رمال نشأت من تفتت أحجار "الكوارتز" فإنها في أكثر الأماكن غير منبتة.

(1/162)


--------------------------------------------------------------------------------

ولكن هذه الجنة الأرضية جنة قصيرة العمر، لا يدوم عمرها إلا أسابيع قليلة، ثم يحل بها الجفاف، وتهب السمائم، فتقضي على كل ما نبت في هذه البادية، فتبدو كالحة عابسة مزعجة منفرة، وكأن أنسانا كنس وجهها كنسا أزال عنه كل أثر لشلك الجمال. وتهب في شهر نيسان رياح حارة من الشرق والجنوب، ورياح في شهور الصيف، تحرق البادية حرقا، حتى تغدو وكأنها جحيم.
وفي العربية ألفاظ عديدة لها صلة بالبوادي، كثرت وتعددت لاتصال حياة العرب بها، منها ما لها علاقة بشكل البادية وظاهر وجهها، ومنها ما لها علاقة بطبيعتها وبتركيبها، إلى غير ذلك من مصطلحات، نشا بعضها من تعدد لهجات العرب ولغاتها، اذ تسمى قبيلة البادية باسم ربما لا تعرفه قبيلة أخرى، وهكذا تنوعت التسميات.
مصدر الصحارى
واذا سألتني عن مصدر هذه الصحارى المزعجة التي وسمت جزيرة العرب بسمة خاصة، وصيرت معظم أهلها بدوا بالرغم منهم، فأقول لك: إن الرأي المنتشر إن هذه الصحارى تكونت من تفتت الأحجار الرملية بتأثر للرياح والجفاف فيها. ويؤيد وجود مثل هذه الأحجار في الشمال الغربي من بلاد العرب هذا الرأي كئيرا، ويظهر انه رأي علمي ينطبق على بعض الصحارى انطباقا كبيرا، غير أنه لا يحل مشكلة مصدر الرمل الأحمر المتكون من أحجار غير رمليه الذي يغر مساحات واسعة من صحراء النفود، بينما الرمل الناشئ من الأحجار الرملية لا يغطي إلأ مساحات ضيقة بالنسبة إلى المناطق الأخرى. وهذا يدل دلالة مريحة على إن رمال "النفود" لم تتكون من تفتت الأحجار الرملية حسب، بل من عوامل أخرى كالتقلبات الجوية وتأثيرها في قشرة الأرض.

(1/163)


--------------------------------------------------------------------------------

يكون ظاهر التربة الأجرد معرضا لحرارة الشمس والثغرات الجوية مباشرة، إذ لا أشجار تحميه، ولا أعشاب تحافظ على تماسك ذراته وحفظها من تلك التغيرات. فإذا انقطعت الأمطار، جفت التربة، فتفتت تدريجا، وتستطيع الرياح إن تعبث فيها بكل سهولة، وتتمكن الرياح التي سرعتها 18 كيلومترا في الساعة من إثارة الطبقات الرملية الخفيفة والأتربة الباقية المبعثرة على سطح ا لأرض.
وإذا هبت الرياح بسرعة 33 كيلومترا في الساعة، امتلأ الجو بالغبار. فاذا ازدادت السرعة، استحالت إلى عواصف" تؤثر تأثيرا كبيرا في سطح الأرض فتحمل ما عليه من أتربة، وتعرض الطبقات السفلى التي كانت تحت هذه الأتربة لفعل الجو المباشر، ليحدث لها ما حدث في الطبقة التي كانت فوقها، وهكذا تتحول هذه المناطق إلى صحارى، وتتكون الرمال حينئذ من التربة المتفتتة لا من تهشم الأحجار الرملية أو الكلسية وحدها.
وتهب مثل هذه الرياح في الشمال الغربي من جزيرة العرب من نهاية شهر "آذار" مارس حتى نهاية شهر "أيار" مايس، وتهب في أغلب الأحيان هبوبا فجائيا، وتستمر يومين أو ثلاثة أيم وتنتهي في بعض الأحيان برعد وبرق. وعند حدوث هذه الزوابع يغبر الأفق ويكفهر وجه السماء، ثم تهب بعد لحظات عواصف شديدة وأعاصير، تضفي على الجو لونا قائما،وأحيانا مائلا إلى الصفرة أو الحمرة بحسب لون الرمال التي تحملها الرياح، وتختقي الشمس، وتؤثر هذه "العجاجة" في النبات والأشجار تأثيرا كبيرا. واذا استمرت مدة طويلة، سببت تلف قسم كبير من المزروعات في الأماكن المزروعة.
وقد أشار الكتاب اليونان والرومان إلى البادية،كما عرفها العبرانيون. ولكلمة "حويلة Havilah"، ومن معانيها الأرض الرملية، أي تخم بني إسماعيل - وأولادهم وهم البدو - وهذا المدلول علاقة كبيرة بمعنى صحراء. وقد ذهب بعض علماء التوراة إلى إنها تعتي النفود.

(1/164)


--------------------------------------------------------------------------------

وتفصل العراق عن بلاد الشام بادية واسعة، تعرف ب "بادية الشام" أو "البادية"، أو "خساف"، ويقال للقسم الجنوبي منها - وهو القسم الذي بين الكوفة والسماوة من جهة، وبينها وبين الشام من جهة أخرى - "بادية السماوة"، ويسميها العامة "الحماد" أو "حماذ".
الدارات
وفي بلاد العرب "الدارات"، والدارة: كل جوبة بين جبال في حزن كان ذلك أو سهل أو رمل مستدير، في وسطه فجوة، وهي الدوره، وتجمع الدارة على دارات. فهي أرض سهل لينة بيض في أكثر الأحيان، وتنبت فيها الأعشاب والصليان والنباتات الصحراوية، ويبلغ عددها زهاء عشر دارات ومئة.
ولبعض هذه الدارات شهرة، اذ وردت أسماؤها في الشعر الجاهلي والإسلامي، مثل "دارة جلجل"، التي ورد ذكرها في شعر امرئ القيس الكندي. و "دارة الآرام" وكانت مملوءة من شقائق النعمان، كما جاء ذلك في شعر برج بن خنزير المازني الذي كلفه الحجاج بن يوسف حرب الخوارج.
الجبال
تكون سلسلة جبال السرات العمود الفقري لجزيرة العرب، وتصل فقراته بسلسلة جبال بلاد الشام المشرفة على البادية، المتحكمة فيها تحكم الجنود في القلاع. وبعض قمم هذه السلسلة مرتفعة. وقد تتساقط الثلوج عليها كجبل دباغ للذي يرتفع "2,200" متر عن سطح البحر، وجيل وثر وجبل شيبان. وتنخفض هذه السلسلة عند دنوها من مكة، فتكون القمم في أوطأ ارتفاع، ثم تعود بعد ذلك إلى العلو حيث تصل إلى مستوى عال في اليمن حيث تتساقط الثلوج على قمم بعض الجبال.
وتمتد في محاذاة السواحل الجنوبية سلاسل جبلية تتفرع من جبال اليمن، ثم تتجه نحو الشرق إلى أرض عمان، حيث ترتفع قمم الجبل الأخضر ارتفاعا يتراوح من تسعة آلاف قدم إلى عشرة آلاف قدم. وتتخلل هذه السلاسل الجنوبية أودية تمثل اتجاه مسايل الأمطار إلى البحر.

(1/165)


--------------------------------------------------------------------------------

وتفصل بين البحر والسلاسل الجبلية سهول ساحلية ضيقة في الغالب، ربما لا تتجاوز خمسة عشر ميلا عن سواحل البحر الأحمر. وتكون هذه السواحل حارة رطبة في الغالب، يتضايق منها الإنسان، وتكون غير صحية في بعض الأماكن. ويطلق على بعض أقسام التهائم "الغور" و "السافلة"، لانخفاض بقاعها. وقد ذهب بعض العلماء إلى اطلاق تهامة على طول الأغوار الساحلية الممتدة من شبه جزيرة سيناء وبر القلزم إلى الجنوب. وسأتحدث عنها فيما بعد.
وتكون هذه السلاسل مانعا - للأبخرة المتصاعدة من البحر الأحمر والبحر العربي- من وقوع الأمطار في أواسط بلاد العرب وفيما وراء السفوح المرقية للسراة والسفوح الشمالية للسلاسل الجبلية الجنوبية، لذلك كثرت الأودية القصيرة التي تسيل فيها. المياه في هذه المناطق، وزادت فيها إمكانيات الخصب والزراعة عن البقاع التي وراء السراة حتى الخليج.
وفي نجد، وهي هضبة يبلغ ارتفاعها زهاء2500 قدم، منطقة جبلية تتكون من "الغرانيت"، يقال لها جبل "شمر"، وهي من مواضع "طيء" التي اشتهر أمرها قبل الإسلام اشتهارا كبيرا، وقد عرفت قديما بجبلي طيء.
وتتألف من سلسلتين، يقال لإحداهما أجأ، و للأخرى سلمى. وهناك منابع عديدة للمياه في شعاب هذه المسلسلة وفي السهل الكبر المنبسط بينهما. ويمكن الحصول على المياه فيها بوفرة تحت طبقات الرمال والصخور. و أما جبل "طويق" فهو مرتفعات تقع في الوسط الشرقي من نجد وفي جنوب شرقي الرياض، وتتألف من الحجارة الرملية وتحيط بها الصخور والحجارة الكلسية، وتدل البحوث على إن من الصخور والمواد البركانية ما قذفته البراكين إلى هذه الجهات.
الأنهار والأودية

(1/166)


--------------------------------------------------------------------------------

ليس في جزيرة العرب انهار كبيرة بالمعنى المعروف من لفظة نهر مثل نهر دجلة أو الفرات أو النيل، بل فيها أنهار مغيرة أو جعافر. وهي لذلك تعد في جملة الأرضين التي تقل فيها الأنهار والبحيرات، وفي جملة البلاد التي يتغلب عليها الجفاف. ويقل فيها سقوط الأمطار، ولذلك أصبحت أكر بقاعها صحراوية قليلة السكان. غير أنها كثيرة الأودية،تطغى عليها السيول عند سقوط الأمطار، فصير وكأنها طاغية مزبدة. وهي في الغالب طويلة، تسير في اتجاه ميل الأرض. أما الأودية التي تصب في البحر الأحمر أو في البحر العربي، فإنها قصيرة بعض الشيء، وذات مجرى أعمق، وانحدار أشد، والمياه تسيل فيها بسرعة فتجرف ما يعرضها من عوائق، وتنحدر هذه السيول إلى البحر فتضيع فيه، ومن الممكن الاستفادة منها في الأغراض الزراعية والصناعية. وقد تكون السيول خطرا يهدد القوافل والمدن والأملاك، ويأتي على الناس بأفدح الخسائر. وفي كتب المؤلفين الإسلاميين إشارات إلى سيول عارمة جارفة، أضرت بالمدن والقرى والمزارع وبالقوافل والناس، إذ كانت قوية مكنتها من جرف الأبنية والناس، ومن إغراقهم حتى ذكر إن خراب عاصمة اليمامة القديمة كان بفعل السيل، وأن كثيرا من المزارع والأموال هلكت وتلفت بفعل لعب السيول بها لعبا لم تتحمله، فهلكت من هذا المزاح الثقيل.
وليس في استطاعة أحد التحدث عن ملاحة بالمعنى المفهوم من الملاحة في نهيرات جزيرة العرب، وذلك لأن هذه النهيرات أما قصيرة سريعة الجريان منحدرة انحدارا شديدا، و أما ضحلة تجف مياهها في بعض المواسم فلا تصلح في كلتا الحالتين للملاحة. وهي أيضا شحيحة بالثروة الحيوانية، وليس فيها إلا مقادير قليلة من الأسماك.

(1/167)

admin
12-25-2010, 09:10 PM
وقد ذهب بعض الباحثين إلى إن كثيرا من أودية جزيرة العرب كانت أنهارا في يوم من الأيام. واستدلوا على ذلك بوجود ترسبات في هذه الأودية، هي من نوع الترسبات التي تكون في العادة في قيعان الأنهار، ومن عثور السياح على عاديات وآثار سكن على حافات الأودية. ومن نص بعض الكتبة "الكلاسيكيين" على وجود أنهار في جزيرة العرب. فقد ذكر "هيرودوتس" نهرأ سماه "كورس" زعم انه نهر كبير عظيم، يصب في "البحر الأريتوي"، ويقصد به البحر الأحمر، وزعم إن العرب يذكرون إن ملكهم كان قد عمل ثلاثة أنابيب صنعها من جلود الثيران وغيرها من الحيوانات، امتدت من هذا النهر إلى البادية مسيرة اثنتي عشر يوما، حملت الماء من النهر إلى مواضع منقورة، نقرت لخزن المياه الآتية من ذلك النهر فيها.
وهناك موضع على مقربة من ساحل البحر الأحمر اسمه "قرح" على مسافة 43 كيلومترا من "الحجر" في مكان يمر به خط الحديد الحجازي في منطقة صحراوية، وكان في الأزمنة السابقة من المحلات المزروعة، وبه بساتين عدة تعرف ب "بساتين قرح"، وعلى مقربة منها "سقيا يزيد" أو "قصرعنتر" "إسطبل عنتر"، كما تعرف به في الزمن الحاضر على بعد 98 كيلومترا من المدينة. والى شماله "وادي الحمض" الذي يرى بعض العلماء أنه المكان الذي أراده "هيرودوتس".

(1/168)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر "بطلميوس" نهرا عظيما سماه "لار" Lar، زعم انه ينبع من منطقة "نجران"، أي من الجانب الشرقي من السلسلة الجبلية، ثم يسير نحو الجهة الشمالية الشرقية مخترقا بلاد العرب حيث يصب في الخليج العربي. ولا يعرف من أمر هذا النهر شيء في الزمن الحاضر، ولعله كان واديا من الأودية التي كانت تسيل فيها المياه في بعض المواسم، أو كان بقايا نهر، أثرت في مياهه عوامل الجفاف. ويرى "موريتس" إن هذا النهر الذي أشار إليه "بطليموس"، هو وادي الدواسر، الذي يمس حافة الربع الخالي عند نقطة تبعد زهاء خمسين ميلا من جنوب شرفي السليل، وتمده بعض الأودية المتجهة من سلاسل جبال اليمن بمياه السيول، وتغيض مياهه في الرمال في مواضع عديدة، فتكون بعض الواحات التي يستقى منها، ويزرع عليها. ويلاحظ وجود مياه غزيرة في واديه، في مواضع لا تبعد كثيرا عن القشرة. وهذا مما يحمل على الاعتقاد بوجود مجاري أرضية تحت سطح الوادي، وانه كان في يوم ما نهرا من الأنهار، غير أننا لا نستطيع إن نتكهن في أمر هذا الوادي أكان نهرا جاريا في زمن بطلموس كما أشار إلى ذلك، أو كان واديا رطب القبعان لم تكن عوامل الجفاف قد أثرت فيه أثرها في الزمن الحاضر. لذلك كانت تمكث فيه السيول والأمطار المتساقطة على السفوح الشرقية لجبال اليمن مدة أطول مما هي عليه الآن. والرأي عندي إن هذه الأنهار وأمثالها التي يشير إليها المؤلفون اليونان والرومان، لم تكن في الواقع وبالنسبة إلى ذلك الزمن إلا سيولا" عارمة جارفة سمعوا بأخبارها من تجارهم ومن بعض رجالهم الذين كتب لهم الذهاب إلى بلاد العرب أو اتصلوا بالعرب، فظنوا إنها أنهار عظيمة على نحو ما ذكروه. فلا يعقل وجود الأنهار الكبيرة في ذلك الزمن، إذ كان الجفاف قد أثر تأثيره في إقليم جزيرة العرب قبل ذلك بأمد طويل، فلا مجال لبقاء أنهار على النحو الذي يذكره أولئك الكتاب.

(1/169)


--------------------------------------------------------------------------------

وينطبق هذا الاحتمال على الأودية الأخرى، وهي كما قلت كثيرة، ومنها وادي للرمة ووادي الحمض، ويعد هذان الواديان من الأودية الجافة، إلا في مواسم الأمطار الشديدة حيث تصب السيول فيهما، غير إن لها مجاري أرضية، تشير إلى تلك الحقيقة، ويمكن الحصول على المياه فيهما بحفر الآبار على أعماق ليست بعيدة عن السطح. وقد تظهر على سطح الأرض في بعض المحال، وربما كانا قبل آلاف السنين، أنهارا تجري فيها المياه،فتروي ما عليها من أرضين.
يتكون "وادي الرمة" عند "حرة خيبر" أو "حرة فدك" من التقاء بضعة أودية ممتدة من الشمال على ارتفاع ستة آلاف قدم. ثم تتجه بعد ذلك نحو الشرق ثم تأخذ اتجاها جنوبيا شرقيا حيث تتصل ب "الجرير" أو "الجريب" كما كان يعرف سابقا، و هو من أوسع فروع وادي الرمة. و يتجه هذا الوادي نحو الشرق حيث يصل إلى "بريدة"، ثم ينعطف نحو الشمال الشرقي فالشرق إلى "القصيم" حيث يسمى بعد ذلك "الباطن" "البطن" ثم يتفرع إلى فرعين يخترقان منطقة صحراوية، ويسير أحدهما في "النفوذ" حيث يتصل بالدهناء إلى إن يبلغ موضعا قرب البصرة. ويبلغ طول هذا الوادي زهاء 950 كيلومترا أو أكثر.

(1/170)


--------------------------------------------------------------------------------

و أما مبدأ وادي الحمض أو وادي إضم كما كان يسمى قديما، فمن جنوب حرة خيبر، ثم يتجه نحو الجنوب الغربي إلى إن يصل إلى يثرب حيث تتصل به أودية فرعية أخرى، منها "وادي العقيق"، ويتصل به كذلك "وادي القرى"، ويستمد مياهه من السيول التي تنحدر إليه من الجبال من العيون التي عند خيبر حيث يصب في البحر الأحمر في جنوب قرية الوجه. وعند هذا المصب بقايا قرية يونانية قديمة، وبقايا معبد يعرف عند الأهلين "كصر كريم"، وهو من مخلفات المستعمرات اليونانية القديمة التي كان الملاحون والتجار اليونانيون قد أقاموها عند ساحل البحر الأحمر لحماية سفنهم من القرصانة وللاتجار مع الأعراب، ولتموين رجال القوافل البحرية بما يحتاجون إليه من ماء وزاد. و يعتقد "موريتس" إن هذا الموضع هو محل مدينة "لويكه كومه" "Leuke Kome" المشهورة التي وصل إليها "أوليوس كالوس" لما هم بفتح اليمن، على حين يرى آخرون إن هذه المدينة هي في المحل المعروف باسم "الحوراء". ويبلغ طول وادي الحمض زهاء 900 كيلومتر.
وهناك "وادي حنيفة" وهو من الأودية المهمة كذاك، يبتدئ من غرب "جبل طويق" ثم يتجه نحو الشرق نحو الخليج العربي، وهو مهم، ويمكن الحصول على المياه فيه بطريقة حفر الآبار، لأن الماء غير بعيد عن قاعه. و أما عند هطول الأمطار، فإن المياه تجري إليه من السفوح فتسيل فيه.
ولقلة المياه في بلاد العرب، انحصرت الزراعة فيها في الأماكن التي حبتها الطبيعة بمواسم تتساقط فيها الأمطار مثل العربية الجنوبية، وفي الأماكن التي ظهرت فيها عون وينابيع، مثل وادي القرى في الحجاز، والأحساء على الخليج العربي. وفي الأودية والأماكن التي تكثر فيها المياه الجوفية، حيث استنبطت المياه منها بحفر الآبار. والزراعة في هذه الأماكن -باستثناء العربية الجنوبية- هي زراعة محدودة، حدودها ضيقة، وآفاقها غير بعيدة، و ناتجها قليل لا يكفي لإعاشة كل السكان.

(1/171)


--------------------------------------------------------------------------------

و قد لزمت سكان الأرضين التي تغيث السماء أرضهم، بإنزال الغيث عليها، الاستفادة. من الأمطار المنهمرة،يحصرها وتوجيهها إلى مخازن تخزنها لوقت الحاجة، وذلك بإنشاء السدود و إقامة الخزانات ذوات أبواب تفتح وتغلق لتوجيه المياه الوجهة التي يريدها الإنسان. وقد أقيمت هذه السدود في مواضع متناثرة من جزيرة العرب، خاصة في الأماكن التي يركبها المطر مثل العربية الجنوبية والعربية الغربية. وتشاهد اليوم آثار سدود جاهلية استعملها الجاهليون للاستفادة من مياه الأمطار.
ولما كانت الأمطار رحمة ونعمة كبرى، إذا انحبست نفقت إبل العرب ومواشيهم، صار انحباسها نقمة وهلاكا، وعدوا انحباسها عنهم غضبا من الآلهة ينزل بهم، ولهذا كان الجاهليون يتضرعون إلى آلهتهم ويتقربون إليها، إن تنزل عليهم الغيث، ولهم في ذلك صلوات وأدعية- للاستسقاء سيأتي الحديث عنها في باب الدين عند الجاهليين.
وعلى خلاف العيون الحارة التي هي من آثار التفاعلات البركانية والتفاعلات الباطنية. الكيماوية، فان في بلاد العرب عيون وينابيع وواحات، صارت موطنا للزراع والزرع. وبعض، هذه العيون، تتدفق من الجبال والهضاب وبعد مجرى قصير تعود فتدخل باطن الأرض كما هو الحال في أرض "مدين". وهنالك عيون تتوقف حياتها على المطر. وقد استفاد الجاهليون من بعض العيون والينابيع فربطوها بكهاريز وبقنوات تجري فيها المياه تحت سطح الأرض الى بيوتهم ومزارعهم دون إن تتعرض للتبخر الزائد: فتفقد كميات كبيرة من المياه تذهب هباء. وقد عثر على شبكات منها في عمان وفي وادي فاطمة بالحجاز وفي اليمن.
أقسام بلاد العرب
قسم اليونان و اللاتين جزيرة العرب إلى أقسام ثلاثة: ا - العربية السعيدة Arabia Felix.
2 - العربية الصخرية، وترجمت بالعربية الحجرية كذلك "Arabia Petreae".
3 - العربية الصحراوية Arabia Deserta.

(1/172)


--------------------------------------------------------------------------------

وهو تقسيم يتفق مع الناحية السياسية التي كانت عليها البلاد العربية في القرن الأول للميلاد. فالقسم الأول مستقل، والقسم الثاني قريب من الرومان ثم أصبح تحت نفوذهم، و أما القسم الثالث فهو البادية إلى نهر الفرات.
وقد أشير إلى العربية السعيدة والعربية الصحراوية في الموارد "الكلاسيكية" القديمة مثل جغرافية "سترابون". ويرى بعض العلماء إن القسس الآخر وهو "العربية الصخرية" Arabia Petreae هو من إضافة "بطلميوس" العالم الجغرافي الشهير، وقد قصد به برية شبه جزيرة سيناء وما يتصل بها من فلسطين إلى الأردن. فهو في رأي هؤلاء أحدث عهدا في التسمية من التسميتين الأخريين. ولم يأخذ الجغرافيون العرب بالتقسيم "الكلاسيكي"، مع أنهم وقفوا على بعض مؤلفاتهم، كجغرافية بطليموس. إلا إن جزيرة العرب عندهم، هي "العربية السعيدة" في اصطلاح أكثر الكتبة اليونان واللاتين.
العربية السعيدة Arabia Felix
أما العربية السعيدة، ويقال لها "Arabia Beata" و "Arabia Eudaimon" في اليونانية، فهي أكثر الأقسام الثلاثة رقعة، وتشمل كل المناطق التي يقال لها جزيرة العرب في الكتب العربية كما يفهم من بعض المؤلفات، وليست لها حدود شمالية ثابتة، لأنها كانت تتبدل وتتغير على حسب الأوضاع السياسية. ولكن يمكن القول إنها تبدأ في رأي أكثر الكتاب اليونان والرومان من مدينة "هيروبوليس" "Heropolis" على مقربة من مدينة السويس الحالية، ثم تساير حدود العربية الحجرية الجنوبية، ثم تخترق الصحراء حتى تتصل بمناطق الأهوار "اهوار كلدبا" عند موضع "Thapsacus". وقد أدخل بعض الكتاب هذه الأهوار في جملة العربية السعيدة، وجعلها بعضهم خارجة عنها بحيث يمر خط الحدود في جنوبها إلى إن تتصل بمصب شط العرب في الخليج.
وعرفت البادية الواسعة التي هي جزء من النفوذ والتي تمر بها حدود العربية السعيدة الشمالية، باسم "Eremos" عند اليونان، وهي امتداد لبادية الشام.
العربية للصحراوية

(1/173)


--------------------------------------------------------------------------------

ويقال لها في اليونانية "Arabia Eremos". أما حدودها، فلم يعينها الكتاب اليونان واللاتين تعيين أ دقيقا. ويفهم من مؤلفاتهم أنهم يقصدون بها البادية الواسعة الفاصلة بين العراق والشام، أي البادية المعروفة عندنا ب "بادية الشام". ويكون نهر الفرات الحدود الشرقية لها إلى ملتقى الحدود بالعربية السعيدة. و أما الحدود الشمالية، فغير ثابتة، بل كانت تتبدل بحسب الأوضاع السياسية. و أما الحدود للغربية، فكانت تتبدل وتتغير كذلك، ويمكن إن يقال بصورة عامة إن حدودها هي المناطق الصحراوية التي تصاقب الأرضين الزراعية لبلاد الشام. فما كان بعيدا عن إمكانيات الرومان واليونان ومتناول جيوشهم، عد من العربية الصحراوية.
ويفهم من العربية الصحراوية أحيانا "بادية السماوة"، وقد يجعلون حدودهاعلى مقربة من بحيرة النجف، أي في حدود الحيرة القديمة، حيث بدا "بطائح كلدية" التي كانت تشغل إذ ذاك مساحة واسعة من جنوب العراق. وعرفت عند بطليموس بإسم "Amardocaea"، وهي تمتد حتى تتصل ببطائح "Maisanios Kolpos" أو "خليج مسنيوس" "خيلج ميسان"، الذي يكون امتداد الخليج العربي "Persikos Kolpos". وكل ما وقع جنوب ذلك الخط الوهمي، عد في العربية السعيدة.
وقد فهم "ديودورس" من "العربية الصحراوية" المناطق الصحراوية التي تسكنها القبائل المتبدية، وتقع في شمالها وفي شمالها الشرقي في نظره أرض مملكة "تدمر". و أما حدها الشمالي الغربي والغربي حتى ملتقاها بالعربية الحجرية، فتدخل في جملة بلاد الشام. و أما حدودها الشرقية، فتضرب في البادية إلى الفرات. فأراد بها البادية إذن. وقد جعل من سكانها الإرميين والنبط.
وتقابل العربية الصحراوية، ما يقال له "اربى" عند الأشوريين، و "ماتو أربى" عند البابليين، و "أربايه" عند السريان والفرس.

(1/174)


--------------------------------------------------------------------------------

كانت البادية، بادية الشام، أو "العربية الصحراوية"، مأهولة بالقبائل العربية، سكنتها قبل الميلاد بمئات السنين. وليست لدينا مع الأسف، نصوص كتابية قديمة أقدم من النصوص الأشورية التي كانت أول نصوص أشارت إلى العرب في هذه المنطقة، وذكرت انه كانت لديهم حكومات يحكمها ملوك. وأقدم هذه النصوص هو النص الذي يعود تاريخه إلى سنة 854 ق. م. وقد ورد فيه اسم العرب في جملة من كان يعارض السياسة الأشورية، و لما كان هذا النص يشير إلى وجود مشيخة أو مملكة عربية، سكنها ملك فلا يعقل إن يكون العرب قد نزلوا في هذا العهد في هذه البادية، بل تشير كل الدلائل إلى إن وجودهم فيها كان قبل هذا العهد بأمد، وربما كان قبل الألف الثاني قبل الميلاد. ولهد كانت هذه القبائل تهاجم أرض ما بين النهرين وبلاد الشام، وتكون مصدر رعب للحكومات المسيطرة على الهلال الخصيب، وكانت ننتقل في هذه البادية الواسعة، لا تعترف بفواصل ولا بحدود، فتقيم حيث الكلأ والماء والمحل الذي يلائم طبعها.
أما الروايات العربية، وهي لا تستند إلى وثائق أو نصوص جاهلية، فقد رجحت وجود العرب في هذه الأرضين إلى ما بعد الميلاد في الغالب، ولم يتجاوز بعض من تجاوز الميلاد أيام "بخت نصر" وهو بالطبع حديث مغلوط فيه.
العربية الحجرية، العربية للصخرية

(1/175)


--------------------------------------------------------------------------------

أما العربية الحجرية، فتشمل الأرضين التي كان يسكن فيها الأنباط، وخضعت لنفوذ الرومان والبيزنطيين. ويطلق ذلك الاسم، أي العربية الحجرية،. على شبه جزية سيناء على المملكة النبطية، و عاصمتها "بطرا" "بترا" "البتراء". وكانت حدود هذه المنطقة تتوسع وتتقلص بحسب الظروف السياسية و بحسب مقدرة العرب، ففي عهد الحارث الرابع ملك الأنباط "من سنة 9 ق.م إلى سنة 40 ب. م" اتسعت حدودها حتى بلغت نهايتها الشمالية مدينة دمشق. ولما ضعف أمر النبط، استولى الامبراطور "تراجان" عام "106 م" على هذه المقاطعة وضمها إلى المقاطعة التي كونها الرومان و أطلقوا عليها أسم "المقاطعة العربية" "Provincia Arabia". ويظهر من وصف "ديودورس" هذه المنطقة أنها في شرق مصر وفي جنوب البحر الميت، وجنوبه الغربي وفي شمال العربية السعيدة و غربها. وان الأنباط يقيمون في الأرضين الجبلية وفي المرتفعات المتصلة بها التي في شرق البحر الميت، وفي شرق وادي العربة، وفي جنوب اليهودية حتى الخليج العربي، "خليج العقبة". و أما الأقسام الباقية، فكانت تسكنها في قبائل عربية قيل لها "سبئية"، وهي تسمية كانت تطلق عند الكتبة اليونان والرومان على أكثر القبائل المجهولة أسماؤها، التي تقطن وراء مناطق نفوذ الأنباط والرومان، ويعنون بذاك قبائل جنوبية في الغالب.
التقسيم للعربي
و يؤسفنا أننا لا نستطيع إن نتحدث عن وجهة نظر أحد من الجاهليين في أقسام بلاد العرب، لعدم ورود شيء من ذلك في النصوص أو في الروايات التي يرويها عنهم أهل الأخبار، وكلهم مسلمون.
أما الإسلاميون، فقد اكتفوا بجزيرة العرب، فأخرجوا بذلك البادية الواسعة منها، واخرجوا القسم الأكبر مما دعاه الكلاسيكيون بالعربية الحجرية منها كذلك. وجزيرة العرب وحدها، هي "العربية السعيدة" عند اليونان والرومان، و ما يقال له أيضا ب "Arabia Proper" في الإنكليزية.

(1/176)

admin
12-25-2010, 09:11 PM
وقد قسموا جزيرة العرب إلى خمسة أقسام: الحجاز، وتهامة، واليمن، والعروض، ونجد. ويرجع الرواة أقدم رواياتهم في هذا التقسيم إلى عبد الله بن عباس.
أما الحجاز، فتمتد رقعته في رأي أكثر علماء الجغرافية المسلمين. من تخوم الشام عند العقبة إلى "الليث"، وهو واد بأسفل.السراة يدفع في البحر، فتبدأ عندئذ أرض تهامة. وقد عد قسم من العلماء "تبوك" وفلسطين من أرض الحجاز. ويقال للقسم الشمالي من الحجاز أرض مدين وحسمى. نسبة إلى السلسلة الجبلية المسماة بهذا الاسم، التي تتجه من الشمال نحو الجنوب، و تتخلها أودية محصورة بين التيه وأيلة من جهة، وأرض بني عذرة من ظهرة حرة نهيل من جهة أخرى. وكانت تسكنها في الجاهلية قبائل جذام. ويسكنها في الزمن الحاضر عرب الحويطات، ويعتقد المستشرقون أنهم من بقايا النبط.
وأرض "حسمى"، أرض خصبة كثيرة المياه. وكانت من المناطق المعمورة، وبها آثار كثيرة ومن جبالها جبل يعرف ب "إرم". ويرى بعض المستشرقين إن لهذا الجبل علاقة بموضوع "إرم" الوارد ذكره في القرآن الكريم وفي كتب قصص الأنبياء والتواريخ. ويرى "موريتس" انه موضع "Aramaua" الذي ذكره "بطليموس" على أنه أول موضع من مواضع العربية السعيدة، وأنه لا يبعد كثيرا عن البحر. ويقال له "رم" في الزمن الحاضر.

(1/177)


--------------------------------------------------------------------------------

وتتخلل الحجاز أودية عديدة، منها وادي إضم الذي ورد ذكره في أشعار الجاهلية وفي أخبار سرايا الرسول. ووادي تخال، ويصب في الصفراء بين مكة والمدينة. والصفراء واد من ناحية المدينة، كثير النمل والزرع، في طريق الحاج، سلكه الرسول غير مرة، وعليه قرية الصفراء، وماؤها عيون تجري إلى ينبع، وهي لجهينة والأنصار ولبني فهر ونهد ورضوى. ووادي "بدا" قرب أيلة، يتصل بوادي القرى. ووادي القرى واد مهم يقع بين العلا والمدينة، ويمر به طريق القوافل القديم الذي كان شريانا من شرايين الحركة التجارية في العالم القديم، ويقال له "وادي الديدبان"، ويصب فيه واديان هما: وادي جزل من الشمال، ووادي الحمض من الجنوب، ويلتقي به واد آخر هو وادي التبج، أي وادي السلسلة. وكان عامرا جدا، تكثر فيه المياه، وتشاهد فيه اليوم آثار المدن والقرى. وقد عثر فيه على كتابات كثيرة لحيانية وسبئية وسعين ية وغيرها، سأتحدث عنها.
ومن أهم مواضع وادي القرى "العلا"، وقد نزله الرسول في طريقه إلى تبوك. ويقع في موضع "ديدان" "ددان" "ددن" القديم. وبه واحة ونهير صغيره. ومدينة "قرح"، وكانت من أسواق العرب في الجاهلية، وقد زعم أنها القرية التي كان بها هلاك عاد. وتبعد عن خرائب "ديدان" بمسافة ثلاثة كيلومترات. وقد سكنتها قبائل "بلي" من القبائل العربية القديمة. وهي ملتقى طريق مصر القديم بطريق الشام. ويرى "موسل" أنها هي "العلا"، دعيت بهذا الاسم فيما بعد. ولما سأل "دوتي" الأعراب القاطنين في هذه الأماكن عن "قرح"، لم يعرفوا من أمرها شيئا.

(1/178)


--------------------------------------------------------------------------------

ووجد "دوتي" في قرى وادي القرى وخرائبه عددا كبيرا من الحجارة المكتوبة بحرف المسند، وقد اتخذها السكان أحجارا من أحجار البناء. وعثر في "الخريبة" على كتابات بهذا القلم، وعلى آثار أبنية ومواطن حضارة. وعلى ألواح من الحجر كان يستعملها الصيارفة لصف نقودهم عليها، أو لذبح القرابين. كما شاهد موضعا يقال له "إسطبل عنتر" على قمة جبل شاهق يرنو إلى الوادي ولعله معبد أحد الأصنام التي كانت تعبد هناك.
تهامة
وتبدأ حدود تهامة، في رأي بعض الجغرافيين، من بحر القلزم، فتكون المنطقة الساحلية الضيقة الموازية لامتداد البحر الأحمر. ويقال لتهامة الواقعة في اليمن "تهامة اليمن"، ويختلف عرضها باختلاف قرب السلاسل الجبلية من للبحر وبعدها عنه، وقد يبلغ عرضها خمسين ميلا في بعض الأمكنة. وترتفع أرض تهامة الجنوبية الواقعة على البحر العربي ما اتجهت نحو المشرق، وتتكون فيها سلاسل من التلال المؤلفة من حجارة كلسية ترجع إلى العهود الجيولوجية الحديثة أو من حجارة بركانية.
ولانخفاض أرض تهامة قيل لها "الغور" و "السافلة". وقد وردت لفظة تهامة على هذا الشكل "تهمت" "تهمتم" في النصوص العربية الجنوبية.
ويظهر إن هذه اللفظة علاقة بكلمة "Tiamtu"، التي تعني البحر في البابلية. وبكلمة "تبهوم Tehom" العبرانية. وعندي إن هذه الكلمة ترجع إلى أصل سامي قديم. له علاقة بالمنخفضات الواقعة على البحر، والتي تكون لذلك شديدة الرطوبة والحرارة في الصيف. ولهذا فإنها في العربية بلهجة القرآن الكريم وباللهجات الجنوبية للسواحل المنخفضة الواقعة بين الجبال والبحر، وهي حارة وخمه شديدة الرطوبة كأنها من بقاع جهنم في الصيف.
اليمن

(1/179)


--------------------------------------------------------------------------------

حد اليمن في عرف بعض العلماء من وراء "تثليث" وما سامتها إلى صنعاء وما قاربها إلى حضرموت والشحر وعمان إلى عدن أبين وما يلي ذلك من التهائم والنجود وقيل: يفصل بين اليمن وباقي جزيرة العرب خط، يأخذ من حدود عمان ويرين إلى ما بين اليمن واليمامة فإلى حدود الهجيرة وتثليث وكثبة وجرش ومنحدرا في السراة إلى شعف عنز وشعف الجبل أعلاه إلى تهامة إلى أم جحدم إلى البحر إلى جبل يقال له كرمل بالقرب من حمضة، وذلك حد ما بين كنانة واليمن من بطن تهامة. أما النصوص العربية الجنوبية، فلم تثبت حدود اليمن. ولكن اليمن فيها وتسمى "يمنت" "يمنات"، منطقة صغيرة ذكرت في نص يعود عهده إلى أيام الملك "شمر يهرعش"، المعروف في الكتب الإسلامية ب "شمر يرعش"، بعد "حضرموت" في الترتيب. وعلى هذا الترتيب وردت أيضا في نص "أبرهة" نائب النجاشي على اليمن. ويعود عهده إلى سنة 543م.
وتخترق السراة اليمن من الشمال إلى الجنوب حتى البحر، وتتخللها الأودية التي تنساب فيها مياه الأمطار،ويمتد بين الهضاب والشعاب فلاة تتفرع من الدهناء من ناحية اليمامة والفلج يقال لها "الغائط"، وتظهر في أواسطها "الصيهد"، وتقع بين مأرب وحضرموت.
وفي شمال منطقة عدن صحراء تتصل بالربع الخالي، يخترق الهضاب المهيمنة على عدن عدد من الأودية الجافة يظهر أنها كانت مسايل مياه، وأنها من بقايا أنهار جفت، وتسيل في بعضها المياه عند سقوط الأمطار، ومنها "وادي تبن"، وهو من بقايا نهر طويل، له فروع عديدة، وتمر به الطريق الرئيسية المؤدية إلى اليمن.
ويخترق حضرموت واد، يوازي الساحل، يبلغ طوله بضع مئات من الأميال و يتألف سطحه من ارضين متموجة تتخلها أودية عميقة تكثر فيها المياه، في باطن الأرض، وبعض تلاله مخصبة.

(1/180)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي حضرموت حجارة بركانية ومناطق واسعة، يظهر أنها كانت تحت تأثير البراكين. والظاهر إن دورها لم ينته إلا منذ عهد ليس ببعيد. ويزرع الناس في هذه الأودية حيث يحفرون آبارا في قيعانها فتظهر المياه على أبعاد متفاوتة، وهنالك نهر يقال له نهر حجره.
ومن شرق سيحوت تبتدئ سواحل "مهرة"، وتعرف عند الجغرافيين باسم "الشحر". ومعنى كلمة "مهرة" في العربية الجنوبية القديمة "ساحل". ويطلق اليوم أسم "الشحر" على الميناء الغربي وحده. وفي "قارة" مدينة "ظفار"، وهي غير ظفار اليمن. وعند خليج ظفار كان موضع "Syagro" المشهور عند اليونان وللرومان.
ويمتد اقليم ظفار من سيحوت إلى حدود عمان، وهو هضبة يبلغ ارتفاعها ثلاثة آلاف قدم، تجب عليها الرياح الموسمية، وفوق جبالها تنمو أشجار الكندر التي اشتهرت بها بلاد العرب قبل الإسلام. وتشقها طولا وعرضا أودية تكسوها الأعشاب وتتخللها الأشجار. وبها جبال "قرا"، و منحدراتها أرجوانية، وقد تفتتت الصخور الحمر فيها، فأكسبت الأودية والسهول الحمرة، وتوجد نهيرات وعيون، ويمكن الحصول على المياه بحفر الآبار. ولا زال السكان يحتفظون بعاداتهم القديمة الموروثة مما قبل الإسلام.
ويظهر إن هذه المنطقة كانت أماكن "القريين" من الشعوب العربية الجنوبية القديمة، وهناك قبيلة لا تزال حتى اليوم يقال لها "بنو قرا" لعل لها صلة بالقريين.
ويتكلم أهل "مهرة" بلهجة خاصة، يقال لها "المهرية" أو "الأمهرية"، وهي متأثرة بالجعزية. كما يتكلم أهل قارة "قرا" بلهجة يقال لها "أحكيليلة"، ويظن إنها من اللهجات العربية القديمة.

(1/181)


--------------------------------------------------------------------------------

وتتألف أرض عمان من أماكن جبلية، وهضاب متموجة، وسهول ساحلية. واكثر حجارتها كلسية و غرانيتية، و فيها أيضا حجارة بركانية. والظاهر إنها كانت من مناطق البركانية. وفي مناطق التلال وفي "جعلان" عيون ومجاري مياه معدنية أكثرها ذات درجات حرارة مرتفعة. وتوجد آبار في "الباطنة" وفي المناطق المجاورة للصحراء وفي الأقسام الشرقية من عمان.
وتتخلل هضاب عمان وجبالها أودية معظمها جاف، وتكون طرق المواصلات بين الساحل والأرضين الباطنة، وجوها حار استوائي، وتتجه الجبال من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي، وأعلى قمة فيها هي قمة الجبل الأخضر، ويبلغ ارتفاعها تسعة آلاف قدم. الأرضون المحيطة بهذا الجبل، خصبة، وقابلة للاستثمار.
وفي عمان مدن قديمة، منها "صحار" و "نزوة" و "دبا" أو "سما"، وكانت من المدن المهمة في أيام الرسول، وهي عاصمة عمان الشمالية، كما كانت سوقا من أسواق الجاهلية، وسكانها من الأزد. والعمانيون من الشعوب للبحرية المحبة لركوب البحار، ولهم صلات وروابط بسواحل أفريقية والهند. ونجد بينهم عددا كبيرا من الزنوج والهنود والفرس والبلوج.
العروض
و أما العروض، فيشمل اليمامة والبحرين وما والاها. وأغلب الأرضين فيه صحارى وسهول ساحلية، ترتفع في الجهات الغربية عن ساحل البحر. ويمتد مرتفع الصمان الصخري موازيا لساحل الخليج، متوسطا بين الأحساء والدهناء. ومن اودية الأحساء، وادي فروق في الجنوب، وهو قسم من وادي المياه.
ومن أقسام العروض، شبه جزيرة "قطر" التي يمتد من عمان إلى حدود الأحساء، يشتغل سكانها بصيد الأسماك واستخراج اللؤلؤ، وقد عرفت ب "Cataraei" عند "بلينيوس". ومعظم أراضيها صحارى، وفيها واحات قليلة، ويزرع السكان في بعض الأماكن على مياه الآبار. وقد عرفت قديما بأنواع من الثياب والمنسوجات القطرية، كانت تصدر إلى الخارج، كما عرفت بتصدير النجائب والنعام.

(1/182)


--------------------------------------------------------------------------------

و يلي شبه جزيرة قطر: "الأحساء"، وكان يقال لهذه المنطقة قديما "هجر" والبحرين. والقسم الأكبر من الأحساء، سهل صحراوي، يرتفع في الجهة الغربية عن ساحل البحر ويتخلله كثير من التلال، يتجه بعضها باتجاه وادي المياه وجبل الطف. والمنطقة الساحلية، سبخة في الغالب، وتكثر فيها الآبار التي لا تبعد مياهها كثيرا عن سطح الأرض. وأغلب مناطق الأحساء، منطقة الأحساء والقطيف في الجنوب حيث تكثر المياه من آبار وعيون.
وتظهر المياه الجوفية المنحدرة من الأمطار التي تتساقط بمقدار أربع عقد أو خمس عقد "انج" في السنة على حافات جبل "طويق" في "الهفوف"، تظهر فيها على شكل عيون، تبلع زهاء أربعين عينا، جعلت المنطقة من أهم الواحات في المملكة العربية السعودية. وبحذاء هجر في الجنوب الغربي من مدينة القطيف تقع "العقير"، وهي الآن ميناء صغيره. وعلى مقربة منها خرائب عادية، يعتقد العلماء أنها موضع "Gerrhaei" المدينة التجارية العظيمة التي اشتهر أمرها، وبلغت شهرتها اليونان والرومان. وكانت محطة من المحطات التجارية العالمية، وملتقى طرق القوافل التي كانت ترد من جنوب بلاد العرب قاصدة للعراق. وقد أغرت الطامعين، فطمعوا في الاستيلاء طيها، وأوحت إلى الكتبة "الكلاسيكين"، فكتبوا فيها قصصا من نسج الخيال، وتقع على خليج سماه "الكلاسيكيون" "Sinus Gerraicus"؛ أي خليج جرهاء.
وتقع القطيف على خليج يشمل جزيرة "تاروت" وتعد المدينة البحرية الرئيسية في الأحساء، يرتفع سطحها بضع أقدام عن سطح البحر، وتكثر بها مياه العيون. وتشاهد عندها خرائب عادية، يستدل منها على إن هذه المدينة كانت ذات تاريخ قديم، ربما يعود إلى آخر عهد من عهود العصر النحاسي.

(1/183)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي هذه المنطقة، يجب إن يكون موقع مدينة "بلبانا" "Bilbana" "Bilaena" "Bilana"، إحدى مدن "الجرهائيين". ومواطن قبيلتي "Gaulopeus" و "Chateni" على سواحل خليج سماه "بلينوس" "Sinus Gaulopeus" أي "خليح كيبيوس". ويرى "شبرنكر" أنه "خليج القطيف". ويذكرنا اسم "Chateni" "p'dkd" باسم "الخط"، ويطلق في العربية على سيف البحرين كله. وربما كان "كيبيوس"، التي سمي الخليج به، هو تحريف "Cateus" الذي يشير بكل وضوح إلى اسم "القطيف".
و أما جزيرة "تاروت" الصغيرة التي في هذا الخليج، فالظاهر إنها جزيرة "Tahar" أو "Taro" أو "Ithar" في جغرافية "بطليموس"، وفيها مدينة "دارين". ويظهر إنها أقيمت على أنقاض أبنية قديمة، ولعلها كانت معبدا للإله "عشتروت" 0 اشتهرت به، ثم حذف المقطع الأول من اسم الإله اختصارا، وصارت تعرف بالمقطعين الأخيرين، و هما "تاروت".
والقسم الأكبر من أرض الكويت منبسط، وأكثر السواحل رملي، إلا بعض الهضاب أو التلال البارزة. وفي المحال التي تتيسر فيها المياه تتوافر الزراعة، وأكثر ما بزرع هناك النخيل. وليس في الكويت من الأنهار الجارية غير مجرى واحد أو نهر يقال له "المقطع"، يصب في البحر. ومشكلة ماء الشرب من أهم المشكلات في هذه الإمارة، لأن ماء أغلب الآبار ملح أجاج،ولذلك يضطر الأغنياء إلى جلب المياه من شط العرب.
ومن أشهر مدن الكويت مدينة "الكويت"، وهي العاصمة، وهي على ساحل الخليج، و "جهرة"، وفي في منطقة زراعية خصبة، ذات أبار على مقربة من خليج الكويت. ويظن إن الخندق الذي أمر بحفره "سابور ذو الأكتاف" ليحمي السواد من غزو الأعراب، كان ينتهي في البحر عند "خليج كاظمة" في شمال الإمارة.

(1/184)


--------------------------------------------------------------------------------

وأرض الكويت، مثل سائر أرض العروض، كانت موطن شعوب قديمة، فيظهر. إن "Bukae" أو "Abucaei" أو "Abukae"، وعاصمتهم مدينة "Coromanis"، هم أسلاف بني عبد القيس، وأن "Coromanis"، المصدر اللغوي الذي اشق منه "القرين"، الاسم القديم للكويت.
ولعل "Idicare" هي "قارة" من مواضع الكويت، وان "Jucara" هي "الجهرة" من أخصب مناطق الكويت في الزمن الحاضر،وكانت من المواضع المأهولة قبل الإسلام.
وقد عرف "ياقوت" البحرين بأنها الأرضون التي على ساحل بحر الهند بين البصرة وعمان، وذكر إن من الناس من يزعم إن البحرين قصبة هجر، و أن منهم من يرى العكس، أي إن هجرا هي قصبة البحرين.
أما "أبو الفداء" فذكر إن البحرين هي ناحية على "شط بحر فارس"، وهي ديار القرامطة ولها قرى كثيرة، وبلاد البحرين هي هجر. وذكر أيضا إن من الناس من يرى إن هجرا اسم يشتمل جميع البحرين كالشام والعراق، وليس هو مدينة بعينها. ويظهر من دراسة ما ذكره العلماء عن البحرين إن رأيهم في حدودها كان متباينا، وأنهم لم يكونوا على اتفاق في تحديدها، فتارة يوسعونها، وتارة يقلصونها.
ومن مواضع البحرين "محلم" وبه نهر اشتهر بنخله، و إليه أشار "بشر بن أبي ختزم ألاسدي" بقوله: كأن حد وجهم لما استقلوا نخيل "محلم" فيها ينوع
اليمامة

(1/185)

admin
12-25-2010, 09:13 PM
و أما اليمامة، فكانت تعرف ب "جو" أيضا، وقد عدها "ياقوت الحموي" من نجد، وقاعدتها "حجر". وكانت عامرة ذات قرى ومدن عند ظهور الإسلام، منها "منفوحة"، وبها قبر كان ينسب إلى الشاعر "الأعشى". و "سدوس" من المدن القديمة، وبها الآن آثار كثيرة، وقد عثر فيها على تمثال يبلغ قطره ثلاث أقدام، وارتفاعه 22 قدما. و "القرية"، وعلى مقربة منها بئر، قال الهمداني -وهو يتحدث عنها-: "فإن تيامنت شربت ماء عاديا، يسمى قرية، إلى جنبه آبار عادية وكنيسة منحوتة في الصخر، ثم ترد ثجر". والظاهر إن هذا الموضع كان من المواضع الكبيرة المعروفة. وذكر ياقوت وغيره إن اليمامة "كانت تسمى جوا والقرية". ولا يعقل تسمية اليمامة بالقرية لو لم يكن هذا الموضع شهرة.
وقد نشر "فلبي" وبعض رجال شركة النفط العربية السعودية صورا فوتوغرافية لكتابات ونقوش عثروا عليها في موضع يقال له "قرية الفأو" على الطريق الموصلة إلى نجران ويقع على مسافة سبعين كيلومترا من جنوب ملتقى وادي الدواسر بجبل الطويق، وعلى مسافة "120" كيلومترا من شرقي "نجران"، وعلى ثلاثين ميلا من جنوب غربي "السليل" في وادي الدواسر.
كما وجدوا آثار أبنية ضخمة، يظهر أنها بقايا قصور كبيرة، ووجدوا كهفا منحوتا في الصخر مزدانا بالكتابات والتصاوير واسعا.، يقول له الناس هناك "سردبا" أو "سردابا". وعند هذا الموضع عين ماء وآبار قديمة، وقد كتب اسم الصنم "ود" بحروف بارزة. وتدل كل الدلائل على إن الموضع الذي تتغلب عليه الطبيعة الصحراوية في الزمن الحاضر، كان مدينة ذات شأن.

(1/186)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد أشار الألوسي في كتابه "تاريخ نجد" إلى سدوس وآثارها فقال: "وفي قربها أبنية قديمة يظن أنها من آثار حمير وأبنية التبابعة. "نقل لي بعض الأصحاب الثقات من أهل نجد: إن من جملة هذه الأبنية شاخصا كالمنارة، وعليها كتابات كثيرة منحوتة في الحجر ومنقوشة في جدرانها. فلما رأى أهل قرية سدوس اختلاف بعض السياحيين من الإفرنج إليها، هدموها ملاحظة التدخل معهم". وفي هذا الوصف دلالة على إن الخرائب التي ذكرها "ياقوت الحموي" بقيت، وأن المنبر الذي أشار إليه، قد يكون هذا الشاخص الذي شبه بالمنارة والذي أزيل على نحو ما ذكره الألوسي.
والكتابات التي عثر عليها في "قرية الفأو" ذات أهمية كبيرة، لأنها أول كتابة باللهجات العربية الجنوبية عثر عليها في هذه المواضع، وتعود إلى ما قبل الميلاد. وعثر فيها على مقابر، وعلى أدوات وقطع فخارية ظهر من فحصها أنها تعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد. ويرى من فحص هذه الآثار أنها تعود إلى السبئيين . والظاهر إن هذا الموضع هو بقايا مدينة قديمة كانت تتحكم في الطريق التجارية التي تخترقها القوافل إلى تقصد الخليج الفارسي والعراق من اليمن عن طريق نجران. وفي هذه المنطقة بصورة عامة بقايا مدن تخربت قبل الإسلام. ورأى "برترام توماس" "Bertram" إن آبار "العويفرة" القريبة من القرية هي موضع "أوفير" "Ophir" الوارد ذكره في التوراة والذي اشتهر بالذهب، والطواويس، وان الاسم العربي القديم هو "عفر" "Ofar"، وقد تحرف بالنقل إلى العبرانية واليونانية، فصار "Ophir". وهذا الموضع قريب من مناجم الذهب. وبالجملة إن هذه الأرضين ويبرين ووبار وغيرها، هي من المناطق التي تستحق الالتفات إليها وتجريد البعثات العليمية للتنقيب فيها ودراسة أحوالها والتطورات التي طرأت عليها.

(1/187)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر إن هنالك جملة عوامل أثرت في اليمامة وفي أواسط جزيرة العرب، فحولت أراضيها إلى مناطق صحراوية، على حين أننا نجد في الكتب أنها كانت غزيرة المياه، ذات عيون وآبار ومزارع ومراع.
ومن أودية اليمامة "العرض" "العارض" الذي يخترق اليمامة من أعلاها إلى أسفلها. ولما كان من الأودية الخصبة، كثرت فيها القرى والزروع. وهو واد طويل، لعله من بقايا مجرى ماء قديم، و "الفقي"، في طرف عارض اليمامة، تحيط به قرى عامرة،تسمى "الوشم". و "وادي حنيفة" و "عرض شمام". وفي اليمامة مرتفعات مثل "جبل شهوان"، تخرج منه العيون ومياه، و "عارض اليمامة"، ويبلغ طوله مسيرة أيام، وتكون عند سفوحه الآبار.
و تعد "الافلاج" من المناطق التي تكثر فيها المياه، و تصب فيها أودية العارض، و فيها السيوح الجارية و الجداول التي تمدها العيون. و قد ذكر "الهمداني" من سيوحة "الرقادى" و "الأطلس" و "نهر محلم". قال: و يقال انه في أرض العرب بمنزل ة نهر بلخ في أرض العجم. وطبيعي إن يكثر فيها وجود الخرائب العادية التي إلى ما قبل الإسلام. وقد وصف الهمداني بعض التحصينات القوية، فقال عنها أنها من عاديات طسم و جديس، مثل "حصن مرغم و "القصر العادي" بالأثل. و يرجع "فلبي" الخراب الذي حل باليمامة إلى العوامل الطبيعية، و منها فيضان وادي حنيفة.
نجد

(1/188)


--------------------------------------------------------------------------------

نجد في الكتب العربية "اسم للأرض العريقة التي اعلاها تهامة و اليمن، ة أسفلها العراق و الشام". وحدها ذات عرق من ناحية الحجاز، و ما ارتفع عن بطن الرمة، فهو نجد إلى أطراف العراق و بادية السماوة. و ليست لنجد في هذه الكتب حدود واضحة دقيقة، وهي بصورة عامة الهضبة التي تكون قلب الجزيرة، وقد قيل لها في الإنكليزية: "The Heart of Arabia". و تتخلل الهضبة أودية و تلال ترتفع عن سطح هذه الهضبة بضع مئات من الأقدام، و تتألف حجارتها في الغالب من صخور كلسية ومن صخور رملية غرانيتية في بعض المواضع. و أعلى أراضيها هي أرضو نجد الغربية المحاذية للحجاز، ثم تأخذ في الانحدار كلما اتجهت نحو الشرق حتى تتصل بالعروض.
و تتألف نجد من الوجهة الطبيعية من مناطق ثلاث: 1 - منطقة وادي الرمة، و تتألف أرضوها من طبقات طباشيرية في الشمال وحجارة رملية في الجنوب، وتغطي وجه الأرض في بعض أقسامها طبقات مختلفة السمك من الرمال، وتتخللها أرضون خصبة تتوافر فيها المياه على أعماق مختلفة، ولكنها ليست بعيدة في الجملة عن سطح الأرض، وتتسرب إليها المياه من المرتفعات التي تشرف عليها وخاصة من جبل شمر، ومن الحرار الغربية التي تجود على الوادي بالمياه. ويختلف عرض وادي الرمة، فيبلغ زهاء ميلين في بعض المحلات، وقد يضيق فيبلغ عرضه زهاء "500" ياردة، وتصل مياه السيول إلى ارتفاع تسع أقدام في بعض الأوقات.
2 - المنطقة الوسطى،وهي هضبة تتألف من تربة طباشرية، متموجة، تتخللها أودية تتجه من الشمال إلى الجنوب. وبها "جبل طويق"، والأرض عنده مؤلفة من حجارة كلسية،وحجارة رملية، ويرتفع زهاء "650" قدم عن مستوى الهضبة. وتتفرع من جبل طويق عدة أودية تسيل فيها المياه في مواسم الأمطار، فتصل إلى الربع الخالي فتغور في رماله. ويمكن إصلاح قسم كبير من هذه المنطقة، ولا سيما الأقسام الواقعة عند حافات وادي حنيفة.

(1/189)


--------------------------------------------------------------------------------

3 - المنطقة الجنوبية، وتتكون من المنحدرات الممتدة بالتسريح من جبل طويق ومرتفعات المنطقة الوسطى إلى الصحارى في اتجاه الجنوب. وفيها مناطق معشبة ذات عيون وآبار، مثل "الحريق" و "الخرج". ويرى الخبراء إن مصدر مياه هذه المنطقة من جبل طويق ومن وادي حنيفة. ومن مناطقها المشهورة "الأفلاج." و "السليل" و "الدواسر"،وفي جنوب هذه المنطقة تقل المياه، وتظهر الرمال حيث تتصل عندئذ بالأحقاف.
ويقسم علماء العرب نجدا إلى قسمين: نجد العالية، ونجد السافلة. أما العالية فما ولي الحجاز وتهامة. و أما السافلة، فما ولي العراق. وكانت نجد حتى القرن السادس للميلاد ذات أشجار وغابات، ولا سيما في "الشربة" جنوب "وادي الرمة" و في "وجر ة".
وفي جزيرة العرب وبادية الشام أرضون يمكن إن تكون موردا عظيما للماشية بل وللحبوب أيضا، لو مسها وابل وهطلت عليها أمطار، وتوفرت فيها مياه، فإن أرضها الكلسية تساعد كثيرا على تربية الماشية بجميع أنواعها. كما تساعد على الاستيطان فيها، ولهذا يتول بعضها إلى جنان تخلط الألباب وتسحر النفوس عند هبوط الأمطار عليها، فتجلب إليها الإنسان يسوق معه إبله لتشبع منها. ولكن هذه الجنان لا تعمر، ويا للاسف، طويلاء، فيضطر أصحاب الإبل إلى الذهاب إلى أرضين أخرى، والى التنقل من مكان إلى مكان، فصارت حياته حياة تنقل وهي حياة الأعراب.

(1/190)


--------------------------------------------------------------------------------

أما وقد انتهيت من الحديث إجمالا عن صفة جزيرة العرب وعن حدودها ورسومها العامة، فلا بد لي من الإشارة إلى جزيرة "سقطرى" "سوقطره" من الجزر التي تقابل الساحل العربي الجنوبي، وهي جزيرة كانت تعادل وزنها ذهبا يوم كان البخور والصبر يعادلان بالذهب. أما اليوم فما زال سكانها يجمعون الصبر والبخور والند، ولكنهم لا يجدون لحاصلهم السوق القديمة لزوال دولة المعابد والملوك الآلهة، وحلول عهد الذرة والبترول. وسكانها منذ القدم، خليط من عرب وإفريقيين وهنود ويونان. يتكلمون بلغة خاصة هي من بقايا اختلاط اللغات في هذه الجزيرة، فيها اللهجات العربية الجنوبية القديمة والمصرية والأفريقية. وهم يعيشون في كهوف ومغاور في الغالب ينالون رزقهم من الطبيعة بغير جهد. وترى في الجزيرة آثار الماضي وقد اختلط بعضه ببعض. لتداخل الحكم في هذه الجزيرة الثمينة التي هي اليوم في قبضة الإنكليز.
والآن وقد وقفت على صفة جزيرة العرب، وعرفت على سبيل الإجمال معالم وجهها، وكيف تغلبت الصحراوية، وظهر الجفاف عليها، فإن في وسعك إن تكون رأيا في سبب قلة نفوس جزيرة العرب في الماضي وفي الحاضر، وفي سبب عدم نشوء مجتمعات حضرية وحكومات مركزية كبيرة فيها، وفي سبب تفشي البداوة وغلبة الطبيعة الأعرابية على أهلها وبروز الروح الفردية عند اهلها، وتقاتل القبائل بعضها مع بعض. ونفرة أهلها من الزراعة والحرف واعتدادهم إياها من حرف الوضعاء والرقيق. إن بيئة تحكمت فيها الطبيعة على هذا النحو، لا يمكن إن يشاكل سكانها سكان المناطق الباردة ذات الأمطار الغزيرة والخضرة الطبيعية الدائمة،أو سكان الأرضين التي حباها الله الخصب والأنهار والماء الغزير. من هنا اختلفت حياة العرب عن حياة غيرهم من الشعوب.

(1/191)


--------------------------------------------------------------------------------

وللسبب المتقدم،أي سبب تحكم الطبيعة في مصير الإنسان، انحصرت الحضارة في جزيرة العرب في الأماكن الممطورة والأماكن التي، خرجت فيها المياه الجوفية عيونا وينابيع، أو قاربت المياه فيها سطح الأرض، فأمكن حفر الآبار فيها. في هذه المواضع نبعث الحضارة وأظهر العربي فيها انه مثل عيره من البشر قارد على الإبداع حين تتهيأ له الأحوال المواتية، وتساعد الطبيعة، ومن هذه الأماكن نستقي علمنا في العادة عن الجاهليين.
وعلى الرغم من سعة مساحة الجزيرة العرب واتساعها، فإنها لن تتسع لعدد كبير من السكان لان معظم أرضها صحراوية، لا تجد الناس اليها ولا تساعد على ازدياد عدد سكانها فيها ازديادا كبيرا، غير إن ذلك لا يعني إنها لا يمكن إن تتسع لعدد اكبر من سكانها الحاليين، وان طاقاتها لا يمكنها إن تتحمل هذا العدد أو ضعفه، بل الواقع هو إن في استطاعة الجزيرة تحمل أضعفاف أضعاف هذا العدد، لو تهيأت لها حكومات حديثة رشيدة، تأخذ بأساليب العلم الحديث في استنباط مواردها الطبيعية لمصلحة أهلها وفي تحسين الصحة العامة وإيجاد موارد رزق للناس وضمان الأمن والسلامة لهم، واسكان الأعراب ، وعمل ما شاكل ذلك من امور. فان سكان الجزيرة سيزدادون حتما، ويبلون أضعاف أضعاف ما هم علية اليوم.

(1/192)


--------------------------------------------------------------------------------

ونجد بين سكان جزيرة العرب في الوقت الحاضر اختلافا في الملامح الجسمية. فأهل اعلي نجد هم اقرب في الملامح إلى قبائل الأردن وعرب بادية الشام. وأهل الحجاز والسواحل، يختلفون بصورة عامة عن أهل البواطن، أي باطن الجزيرة، في الملامح بسبب اختلاط أهل السواحل بسكان السواحل المقابلة لهم، وامتزاج دمائهم. وقد أجرى بعض الباحثين المحدثين فحوصا علمية على السكان في مواضع متعددة من الجزيرة العرب لمعرفة الملامح البارزة عليهم والأصول التي يرجعون إليها، فوجدوا إن هناك امتزاجا واضحا بين السكان يظهر بصورة خاصة في السواحل، وهو امتزاج يرجع بعضة إلى ما قبل الإسلام ويرجع بضع اخر إلى الزمن الحاضر.
ولم يكن لسان عرب الجاهلية لسانا واحدا، ولكن كان كما سنرى ألسنة ولهجات. وقد استطعنا بفضل الكتابات الجاهلية إن نوقف على بعضها. أما في للزمن الحاضر، فإن لغة القرآن الكريم هي اللغة المتحكمة الموحدة للألسنة، وهي لغة العلم والأدب والحكومات، غير إن بعض القبائل لا تزال تحتفظ بلهجاتها القديمة، وكذلك بعض أهل القرى والأرياف البعيدة عن الحضارة، فإنها تتكلم بلهجات وألسنة متفرعة من اللهجات العربية الجاهلية، كما الحال في مواضع من اليمن وفي العربية الجنوبية. ونجد في العربية الجنوبي ة قبائل تتكلم لهجات غريبة عن عربيتنا مثل اللغة المهرية واللغة الشحرية، واللهجات المسماة بألسنة "أهل الهدرة". وهي لهجات لها صلة باللغات العربية الجنوبية الجاهلية وباللغات الأفريقية.
الفصل الخامس
طبيعة جزيرة العرب وثرواتها وسكانها

(1/193)


--------------------------------------------------------------------------------

لم تدرس طبيعة أرض جزيرة العرب دراسة علمية مستفيضة لشاملة، بالرغم من قيام الشركات الأجنبية بالبحث، في أنحاء منها، عن طبيعة تربتها للتوصل بذاك إلى اكتشاف ما في باطنها من ثروات. فأرض جزيرة العرب، أرض واسعة، تغطي الرمال اكثر مساحاتها، فليس من السهل البحث فيها بحثا علميا عميقا عن تركيبها وعن تطورها في كل أنحائها، لهذا كان علمنا بهذه النواحي من البحث ضحلا" مختصرا في الغالب.
يتألف ثلثا الأقسام الشرقية من أرض المملكة العربية السعودية، من طبقات رسوبية يقال لها في علم طبقات الأرض "Sedimentry"، تكون نوعا من الصخور يتأثر ببعض المؤثرات الأرضية، فتكون من أحسن الأماكن الملائمة للبترول والفحم. وتتألف هذه الطبقات الرسوبية في الدرجة الأولى من الحجارة الكلسية وتتكون أرض منطقة أبار البترول عند "الظهران" والمناطق الأخرى التي أصابت شركة البترول العربية السعودية الأمريكية فيها البترول، من هذا النوع من الصخور.
وتوجد آثار طبقات رسوبية في المناطق الغربية من جزيرة العرب المطلة على البحر الأحمر عند جزر "فرسان" و "جيزان" و "صعبيا" و "أملج" و "المويلح" الواقع على مقربة من راس خليج العقبة، و "ضبا"، وحجارة رملية في العلا في القسم الشمالي الغربي من الجزيرة بكميات واسعة، وحجارة بركانية ولا سيما في مناطق الحرار.وصخور تكونت بفعل الترسبات المتأثرة بالضغط والحرارة، وهي التي يقال لها: "Metamorpic Formation"، وتساعد على تكوين المعادن. وقد وجدت في هذه المنطقة، خامات المعادن ولكنها لم تستغل حتى ألان استغلالا تجاريا، كما إن هذه الخامات والأرضين لم تفحص فحصا فنيا لمعرفة النسب المعدنية فيها.

(1/194)

admin
12-25-2010, 09:15 PM
وتوجد الصخور الرملية في عسير وفي وادي الدواسر، وتشاهد في منطقة هذا الوادي تلال تتجه من الشمال إلى الجنوب، تقع إلى جنوب "الخماسين" وعلى ارتفاع "2200" قدم، يظهر أنها تكونت من الصخور "الأيولينية" "Aelian Sandstone" ومن حجارة "الكوارتس" الضخمة، وقد حوت مقدارا من "اكاسيد الحديد" أعطت هذه السلسلة لونا أحمر غامقا. ويتكون فتات هذه الحجارة على هيأة ألواح صلبة، وعند قطعها يلاحظ أنها تتكون من طبقات، ويمكن فصلها على أشكال ألواح، وقد تكونت على حافات هشه السلسلة وجوانبها أشكال طبيعية مدهشة أخاذة بتأثر فعل الرياح والرمال فيها. وتتكون أرض "قرية" من صخور كلسية، وهناك آبار قديمة تبلغ أعماقها تسعين قدما، حفرت في طبقات أرضية مؤلفة من حجارة الكلس، تتخللها طبقات من الحجارة الرملية غير أنها ليست ثخينة. أما أرض "بئر حما" التي يبلغ ارتفاعها زهاء أربعة آلاف قدم فوق سطح البحر، وتقع على الحافات الغربية للربع الخالي، فإنها مؤلفة من الحجارة الرملية الأيولينية الحمراء، وعلى مسافة "35" ميلا إلى الجنوب الغربي من "حما" موضع يقال له "بئر الحسينية" فيه بئر يبلغ عمقها "129" قدما، وقد حفرت في أرض فيها طبقات ثخينة من "الغرانيت". و تتألف اكثر الأرضين التي تمتد من هذا الموضع إلى نجران من حجارة "غرانيتية". وتظهر الحجارة الرملية في القسم الجنوبي والغربي من هذه المنطقة التي ترتفع زهاء "1500" قدم عن مستوى سطح الوادي الموصل إلى نجران، والذي يرتفع هو نفسه زهاء أربعة آلاف قدم عن سطح البحر. وتتألف مناطق واسعة من اليمن من حجارة رملية ومن الطبقات المترسبة "Sediments".

(1/195)


--------------------------------------------------------------------------------

قلت: إن هنالك مناطق في الحجاز مكونة من طبقات مترسبة تعد من أحسن الصخور والطبقات الأرضية، ملائمة للنفط والفحم، إن هنالك مناطق فيها صخور بركانية ونارية: وقد تكو ن أكرها بعد تغييرات كبيرة وممليات طويلة من ضغط هذه السلسلة الجبلية الطويلة التي تكون العمود الفقري لجزيرة العرب. وترتفع زهاء "9000 - 11000" قدم عن مستوى سطح البحر في اليمن على ما تحتها من طبقات.
ونجد مناطق واسعة من "اللابات" مبعثرة على طول هذه السلسلة، منها ما هو حديث التكوين. ويشاهد في الزمن الحاضر لسان بارز من "اللابة" في شرقي "أبي عريش" يمتد حتى يتاخم حدود اليمن،كما نشاهد مناطق أخرى مؤلفة من هذه الحجارة في مواضع عديدة بين "شقيق" و "خور البرك" مثلا حيث تصل "اللابة" إلى البحر الأحمر فتدخل فيه. وكذلك في شمالي "شقيق" عند "جهمة" حيث توجد بقايا بركان يكون جزيرة في البحر مقابل هذا الموضع.
وعلى مسافة اثني عشر ميلا من مكة جبل، يقال له جبل النورة، حيث تحرق حجارة الكلس المكونة له، لاستخراج النورة واستعمالها في البناء. وهذه الحجارة الكلسية هي من الطبقات المترسبة المتحولة. وهناك أماكن أخرى تكونت من هذه الحجارة، يشاهدها المار من جدة إلى موضع "مهد الذهب"، الذي تستغل ألان مناجمه، لاستخراج الذهب، وتتكون تلال مهد الذهب من الحجارة المترسبة التي تعرضت لتغيرات طبيعية عديدة، عليها طبقات من حجارة "البازلت" "Basalt".وفي حجارة المناجم خامات معادن متعددة، وتوجد حجارة "الكوارتس" "Quartz". وتوجد في منطقة الطائف صور "الغرانيت"، وفي نهاية هذه السلسلة الجبلية الطويلة التي تنتهي في اليمن تشاهد "لابات" الحرار وبقايا الحرار التي كانت تزعج اليمانيين، إذ هي قد تقذفهم حممها في يوم من الأيام فتسومهم سوء العذاب.

(1/196)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي أرض، اليمن عدد كبير من الحرار، ذكر السياح بعضها، مثل حرة "أرحب"، وتقع شمالي "صنعاء" ولها لابة استخرج منها الناس حجارة سودا لبناء البيوت. وعلى مقربة من "ذمار" تكون الأرض بركانية. وتوجد الحرار في القسم الشمالي من "وادي أبرد"، وفي الوادي بين "صرواح" و "مأرب". وقد حمل بعض المستشرقين وجود الحرار في اليمن بهذه الكرة وعلى مقربة من المدن القديمة، على تفسير هلاك بعض المدن كراب "مأرب" و "حقة" و "شبوة" بتأثير هياج البراكين.
كذلك توجد مناطق حرار في العربية. الجنوبية، في عدن وحضرموت و عمان وفي الربع الخالي، وقد استعمل القدماء حجارة البراكين في البناء، ولا يزال الناس يستعملونها في البناء حتى اليوم، وقد وجد بين الحجارة المكتوبة عدد من صخور البراكين. وقد استغل الجاهليون بعض الحوار لاستخراج الكبريت منها، وذكر "نيبور" إن أهل اليمن كانوا يستخرجون الكبريت من جيل يقع في شرقي ذمار، ويظهر إن هذا الجبل بركان قديم.
وتتكون بعض هضاب اليمن من الصخور المتبلورة التي مرت في أدوار طويلة. ويرى العلماء أنها كانت في الأصل تحت سطح البحر، ثم ترسبت عليها طبقات ثخينة من المواد الرسوبية حتى تبلورت و تصخرت. وقد استعملها الجاهليون ولا تزال تستعمل في النوافذ، لتقوم مقام الزجاج. وهناك طبقة طباشيرية وطبقات من صخور رملية غذت المناطق المنخفضة، وهي تهائم اليمن، بالرمال. وكذلك المنطقة التي يقال لها الرمله. وتتكون التربة في تهامة وفي سهل صنعاء من المواد الصلصالية التي تعود إلى الأزمنة "الجيولوجية"، المتأخرة، ومن المتكونات "الأيولينية" التي حصلت بتأثير فعل الرياح في الصخور الرملية. ويكثر وجود الصخور المتبلورة في الحجاز وفي العربية الجنوبية كذلك. وتوجد الصخور والطبقات الرسوبية في اليمن وفي حضرموت وعمان، وقد وجدت في هذه المناطق علائم وجود البترول.

(1/197)


--------------------------------------------------------------------------------

والسواحل الشرقية لجزيرة العرب، أي السواحل الواقعة على الخليج، هي سهول، ولكنها سهول من الرمال في الغالب، ولهذا قلت فيها الزراعة، إلا في المواضع التي تتوافر فيها المياه الجوفية،وتتفجر عيونا،مثل الأحساء والقطيف. وهناك سباخ ومستنقعات ناتجة من انخفاض الأرض، جوها غير صحي. والبترول في القرن العشرين، هو الذي أغاث أهل هذه ا الأرض، وجلب لهم الثراء والمال الوافر والسيارات الفارهة وآلات التبريد ووسائل الترف والرفاهية، وبعث فيها الحياة بعد إن كانت خامدة خاملة.
وقد كانت حال هذه السواحل قبل الإسلام أحسن بكثير من حالها في القرن التاسع عشر إلى يوم استنباط البترول في القرن العشرين، بدليل ما نقروه في الموارد التاريخية من أسماء مواضع كانت مأهولة، زالت واندثرت، وأسماء قبائل كانت تنزل بها، اضطرتها أحوال قاهرة متعددة متنوعة إلى هجرها، فقل عدد سكانها بالتدريج.
وتعد البحرين من أكثف المناطق في جزيرة العرب. فان نسبة عدد سكانها بالقياس إلى مساحة أرضها عالية نسبيا قبل الإسلام وفي الإسلام. وسبب ذلك هو توافر الماء فيها، واعتمادها على استخراج اللؤلؤ من البحر و على صيد السمك الذي يقدم للأهلين المادة الأولى للمعيشة. و الماء غير عميق عن سطح الأرض وقد مون عيونا في بعض الأماكن و لهذه المميزات صارت موطنا للحضر قبل الإسلام بزمن طويل.
وفي جزيرة العرب خامات معادن، و من الممكن استغلال بعضها استغلالا اقتصاديا، و من هذه المعادن الذهب، و قد ذكر الجغرافيون العرب أسماء و مواضع عرفت بوجود خام الذهب بها، مثل موضع "بيشة" أو "بيش"، و قد كان به معدن غزير من التبر. و المنطقة التي بين القنفذة و "مرسي )حلج".

(1/198)


--------------------------------------------------------------------------------

و يظهر من المؤلفات اليونانية و من الكتب العربية أن المنطقة التي بين القنفذة و "عتود"، كانت معروفة بوجوج التبر فيها، فكان الناس يشتغلون هناك بأستحلاص الذهب منه، و لهذا رأى "موريتس" أن هذه المنطقة هي منطقة "أوفير" "Ophir" التي ورد ذكرها في التوراة على إنها تصدر الذهب.
و يشاهد في وداي تثليث على مقربة من "حمضة" و على مسافة 183 ميلا من نجران أثار التبر، ويظهر انه كان من المواضع التي استغلت قديما لاستخراج الذهب منها. وقد اشتهرت ديار بني سليمبوجود المعادن فيها، وفي جملتها معدن الذهب، ويستغل اليوم الموضع الذي يقال له "مهد الذهب"، ويقع إلى الشمال من المدينة باستخراج الذهب منه، وتقوم بذلك شركة تستعمل الوسائل الحديثة، تحرت في مواضع عديدة من الحجاز الذهب والفضة ومعادن أخرى، فوجدت أماكن عديدة، استغلت قديما لاستخراج "التبر" منها، ولكنها تركتها لعدم يمكنها من الحصول على الذهب منها بصورة تجارية، تأتيها بأرياح حسنة، واكتفت بتوسيع عملها في "مهد الذهب"، لأنه من أغزر تلك الأماكن بخام الذهب، وظلت تنقب به إلى إن تركت العمل فيه، وحلت نفسها، وتركت كل شغل لها بالتعدين.
وقد ذكر الكتبة اليونان إن الذهب يستخرج في مواضع من جزيرة العرب خالصا نقيأ، لا يعالج بالنار لاستخلاصه من الشوائب الغريبة ولا يصهر لتنقيته. قالوا ولهذا قيل له "ابيرون" "Apyron". وقد ذهب "شرنكر" إلى إن العبرانيين أخذوا لفظة "أوفير" من هذه الكلمة.

(1/199)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عثرت الشركة في أثناء بحثها عن الذهب في "مهد الذهب" على أدوات استعملها الأولون قبل الإسلام في استخراج الذهب واستخلاصه من شوائبه، مثل رحى وأدوات تنظيف ومدقات ومصابيح، وشاهدت آثار القوم في حفر العروق التي تكون الذهب، وأمثال ذلك مما يدل على إن هذا المكان كان منجما للذهب قبل الإسلام بزمن طويل، ولعله من المناجم التي أرسلت الذهب إلى "سليمان"، فأضيف إلى كنوزه، على نحو ما هو مذكور في التوراة.
ويظن بعض الباحثين إن منجم "مهد الذهب" هو المنجم الذي كان لبني سليم، فعرف باسمهم وقيل له: "مدن بني سليم"، وقد وهبه الرسول إلى بلال بن الحارث.
وعرفت "أرض مدين" وما والاها من الأرضين في شمال "وادي الحمض"، بوجود التبر فيها. واستخراج الناس له هناك قبل الجلاد بمئات من السنين. وتوجد آثار المناجم التي كانت تستغل مبعثرة في مواضع عديدة حتى اليوم.
وتوجد خامات معادن أخرى فيء الحجاز منها الكبريت والنحاس والقصدير والحديد، وتستخرج الأملاح من الصخور الملحية التي في الحجاز وفي عسير عند جيزان، ويستخرج الأهلون منها مسحوقا لاستعماله في عمل المفرقعات كما إن هنالك مثل هذه الصخور المحلية في السلف من اليمن. ويمكن الاستفادة من هذه الأملاح فائدة كبيرة من الوجهة الاقتصادية حيث تدخل في كثير من الصناعات.

(1/200)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي منطقة "راج" توجد رواسب "البارايت" "Barite"، وتدل البعوث الأولية على أنه من الممكن استخراج عشرة آلاف طن من "البارايت" في كل عام. وتدل الدلائل على إن هنالك منجما قديما في منطقة "رابغ" كان يستغل لاستخراج "الكالينه" "Galena"، غير إن النماذج التي فحصت فحصا أوليا دلت على إن هذه الماسة قليلة فيها. ويظهر إن هناك كميات كبيرة من تراب الحديد في "العقيق" على مقربة من "مهد الذهب" كما شوهدت خامات المعادن في موضع "برم" جنوب الطائف وفي موضع "نفى"، ولا يستبعد العثور على البترول في الحجاز في المواضع المتكونة من الطبقات المترسبة "Sedimentary Formation"، وتوجد في الحجاز الرمال التي تصلح لصنع الزجاج.
وتستغل أرض الأحساء في استخراج "البترول"، ويكثر وجود البترول في العروض حيث حفرت الآبار في الكويت والبحرين، وتدل الدلائل على وجوده في قطر لوممان، كذلك دلت التحريات على وجوده في حضرموت في منطقة "شبوة" وفي المناطق وراء شبوة إلى داخل جزيرة العرب، حيث يحتمل العثور على مناجم للذهب كذلك. ويجري البحث عن البترول في محمية "عدن" وفي اليمن.

(1/201)


--------------------------------------------------------------------------------

ودلت التقارير الأولية على وجود الفحم في حضرموت في منطقة "شبوة"، وتوجد الصخور المحلية مترسبة في بطن طبقات الأرض يقتطعها الأهلون، وتستغل في الأعمال التجارية، كذلك توجد هذه الصخور الملحية في اليمن، وقد تكونت بفعل العوامل "البيولوجية" والضغط المتواصل، فتحجرت بمرور آلاف السنين عليها، وتكمن تحت سطح الأرض في بعض الأماكن حيث تحفر جوانب التلال للوصول إلى قلب مناجم الملح المتحجرة، وقد يفتت باستعمال المواد المتفجرة "الديناميت"، وتستخرج صخوره من بعض المناجم صافيه بيضاء كأنها البلور.مثل الملح المستخرج من "جبل الملح" بمأرب، فإن ملحه كما يقال صاف كالبلور. وتشتهر "السلف" بوجود مناجم ملح فيها، تقع على مسافة أربعين ميلا إلى الشمال من الحديدة. وتوجد في جزيرة "قمران" المقابلة هذا الموضع مناجم ملح، وكذلك في "اللحية".
وإلى وجود مثل هذه الصخور الملحية في كثير من أنحاء جزيرة العرب، يجب أن يعزى ظهور قصص بناء القصور من الملح المنتشرة في كتب التأريخ و الأدب.
ولما كانت أرض اليمن وأكثر الأنحاء الأخرى من الجزيرة، لم تفحص حتى الآن فحصا فنيا، ولم تطأها أقدام الخبراء، فمن الصعب التحدث عن مواطن المعادن فيها، وعن أنواع التربة، وأثرها في الحضارة الجاهلية.
وقد وجدت مصنوعات حديد في اليمن، عثر عليها في الخرائب والآثار والأماكن العادية، كما اشتهرت اليمن بسيوفها، في الجاهلية وفي الإسلام، غير أننا لا نعرف الآن المواطن التي كانت تستغل لاستخراج الحديد منها، وقد ذكر الرحالة "نيبور" انه كان في " صعدة" منجم، يستخرج منه الحديد، وأن أماكن أخرى كانت تستغل لإنتاج هذه المادة.

(1/202)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر "الهمداني" من معادن اليمن الذهب والفضة، وقال: انه كان يستخرج من "الرضواض" ولا نظير لفضه، والحديد، وكان يستخرج من "نقم" و "غمدان" و "فصوص البقران"، وتستخرج من جبل أنس. و "فصوص السعوانية" وتستخرج من "وادي سعوان" جنب صنعاء، وهو فص أسود فيه عرق أبيض ومعدنه بشهارة وعيشان من بلد حاشد إلى جنب هنوم وظليمة والجمش من شرف همدان، وحجر "العشاري"، وهو الحجر العشاري من عشار بالقرب من صنعاء، والبلور، والمسنى الذي تعمل منه أنصاب السكاكين والعقيق الأحمر، والعقيق الأصفر من الهان والجزع الموشى والمسر، والشزب تعمل منه ألواح وصفائح وقوائم سيوف وأنصاب سكاكين ومداهن وقحفة وغير ذلك. وعرفت اليمن بعقيقها الذي يقال له "عقيق يماني" و "حجر يماني" وهو "الجزع" "Onyx".
وقد بقيت بعض المواضع المذكورة تستغل معادنها في الإسلام، إلا إن تغير الوضع في جزيرة العرب في الإسلام وهجرة كثير من القبائل إلى البلاد المفتوحة، ووجود صناعات فيها ومعادن أثمانها أرخص من أثمان معادن الجزيرة، ثم تقدم العالم بعد ذلك وظهور الثورة الصناعية، كل هذا وأمثاله أثر في وضع التعدين وفي صناعة المعادن في جزيرة العرب، فدثرها، أو تركها مشلولة لا تعمل إلا في حدود مرسومة ضيقة وفي مجال محلي.

(1/203)

admin
12-25-2010, 09:17 PM
وليست دولة الحيوان في جزيرة العرب دولة ضخمة عظيمة، وكيف تكون ضخمة وأكثر أرض الجزيرة عدو للحيوان ولكل ذي روح? والجمل هو الحيوان الأليف الوحيد الذي استطاع بعناده وبصلابته على السير بجبروت و بتبختر فوق رمال الصحارى، غير عابىء بالرياح العاتية التي تذرو الرمال في الأعين، وتنقل أكواما منها معها، تكفي لدفن الجمل ومن عليه أو من معه ومع ذلك فإن هذا الحيوان للصبور العنيد. لم يتوفق أيضا في تحطيم جبروت البوادي في كل مكان، فظل ت بعضها أرضا حراما عليه وعلى السابلة،تحطم من يريد التجاوز عليها والاعتداء على استقلالها، بأن تميته عطشا، فتفتح ذرات رملها الناعم، وعندئذ تغوص قوائم الجمل فيها فيبقى في مكانه حتى ينفق.
والجمل، هو أيضا من اقدم الحيوانات التي سمعنا بها عند العرب، وأعزها. وقد صور في النصوص الاشورية، عند ذكر معركة "قرقر" ومعارك أخرى، وقعت بين العرب والآشوربين. و طبيعي إن يقرن الجمل بالبادية، وأن يجعل رمزا لها، فليسن لحيوان آخر القدرة على اجتياز البوادي واختراقها ونحمل مشقاتها وعطشها مثل الجمل. ثم انه مركب العرب، يحملهم، ومحمل تجارتهم وماءهم،وهو ممولهم بالوبر لصنع البيوت حتى قيل للأعراب "أهل الوبر" ومنه يصنعون أكسية عديدة. ولبن الإبل، هو لبن أهل البادية، وإذا احتاجوا إلى لحم، ذبحوا الجمل، فأكلوه، وأفادوا من جلده.
والجمل ثروة، والثري العربي هو من يملك عددا كبيرا من الإبل، وتقدر ثروته بقدر ما يملكه منها. وقد كان الجمل مقام "النقد"، أي مقام الدينار والدرهم في الغالب، فبعدد من الإبل يقدر مهر الفتاة، وبعدد من الإبل تفض الديات والخصومات. وهكذا يتعامل به كما نتعامل اليوم بالنقود.

(1/204)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرى العلماء إن الإنسان ذلل الجمل حتى صيره أليفا مطيعا له في الألف الثانية قبل الميلاد. وقد ذهب بعضهم إلى إن العربية الشرقية كانت الموطن الذي ذلل فيه هذا الحيوان في الشرق الأدنى، استدلوا على ذلك بإطلاق العراقيين القدماء على الجمل اسم "حمار البحر"، وقالوا إن قصدهم من "البحر" الخليج، وأن لفظة "الجمل" "جملو" "كملو" في "الأكادية" إنما وردت من بادية الشام، ومعظم سكان البادية هم من العرب، وقد كانوا يستعملون الجمل استعمال الناس للسيارات ولوسائل الركوب في هذا الزمن. وقد استعملوه في الألف الثانية قبل الميلاد،فدخوله من البوادي إلى العراق هو دليل على إن العرب كانوا قد استخدموه أولا ومنهم انتقل إلى العراق والبلاد الأخرى.
ويرى "البريت" إن البداوة الحقيقية على في ما نعرفها اليوم من السكنى في البوادي والتنقل فيها من مكان إلى مكان، لم تظهر في جزيرة العرب إلا في أواخر النصف الثاني من الألف الثانية قبل الميلاد، وذلك بتذليل الإنسان للجمل وبترويضه له لخدمة أغراضه، ففتح له بذلك أبواب البوادي، وتمكن من التوغل فيها واجتيازها بفضل جمله خادمه المطيع. أما ما قبل الجمل، فقد كان العربي لا يستطيع اجتياز البوادي واختراقها لأن حماره الذي كان واسطة الركوب عنده، لا يتحمل ولوج البادية، ولا يستطيع إن يعيش فيها، وأن يصبر عن شرب الماء أو الأكل صبر الجمل، لذلك كان عرب الجزيرة في الألف الثانية، وقبل وقت تذليل الجمل رعاة في الغالب، وسائط ركوبهم الحمير، ولم يكونوا قد طرقوا البوادي أو توغلوا فيها توغل العرب أصحاب الوبر فيما بعد.

(1/205)


--------------------------------------------------------------------------------

فالجمل أذن هو الذي فتح لأهل جزيرة العرب آفاق البوادي، ووسع البداوة عندهم، حتى جعلها عالما خاصا يقابل عالم الحضارة في الجزيرة. وهو الذي صار لهم واسطة لنقل الأموال بالطرق البرية الطويلة التي تربط أجزاء الجزيرة بعضها ببعض، و تربط طرق الجزيرة مع الطرق الخارجية. و بفضل الجمل القادر على تحمل العطش و الصبر على الجوع، و على تحمل الصعاب صار في امكان العرب التنقل إلى مسافات بعيدة من الجزيرة و حمل أثقاله معه. فأستخدم العرب له هو في الواقع ثورة كبيرة في ذلك العهد بالنسبة إلى وسائط النقل و الحمل و في عالم التجارة و الاقتصاد. و من حق العربي إذا ما عبر عن الغنى إن يعبر بكثرة ما عند الإنسان من إبل.
وقد عرف الجمل بوجود غزيرة الانتقام فيه، و بعدم نسيانه أذى من يؤذيه، لذلك زعم أنه يبقى حاقدا على المسيء إليه حتى ينتقم من و لو بعد زمن طويل, و يظن بأنها من فعل "كمل" "جمل" "كامل" "جامل"، أي انتقم، مع أنها تعني "حمل" أيضا. و قالوا إن معنى " الجمل" "المنتقم" وقالوا إنه سمي بذاك لأنه حيوان منتقم. ومن ثم وصف "أرسطو" و "أربان"، الجمل بأنه حيوان لا ينسى الأذى، سريع الانتقام. وقد يكون لأقوالهما ولأقوال غيرهما في الجمل دخل في تكون هذه الفكرة عنه عند الناس حتى اليوم.
الجمل المعروف في جزيرة العرب، هو الجمل ذو السنام الواحد. وهناك نوع من الجمال يقال للواحد منها "الهجين"، وهو الجمل المضرب، ويكون أصغر حجما من الجمل العربي الأصيل، إلا أنه أسرع عدوا منه. وقد عد الجمل عند للعبرانين من موارد الثروة والغنى كذاك، ولذلك عد "أيوب" من أغنياء زمانه لأنه كان يملك ألفي جمل، وعد "المديانيون" "أهل مدين" وهم من العرب، أغنياء، لأنهم كانوا يملكون عددا كبيرا من الجمال.

(1/206)


--------------------------------------------------------------------------------

وللجمل في العربية أسماء كثرة. أما في العبرانية وفي اللغات السامية الأخرى، فلا نجد فيها مثل هد الكثرة. ويقال للجمل "كمل" و "بكرة".ويراد ب "كمل" الجمل. أما "بكرة" فالجمل الصغر. والجمل من أقدم الحيوانات المذكورة في التوراة، وذكر أنه كان لإبراهيم عدد كبير من الجمال. وبالرغم من اشتهار جزيرة العرب بجمال خيلها، وبتربيتها لأحسن الخيل، وبتصديرها لها. فإن الخيل في جزيرة العرب إنما هي من الحيوانات الهجينة الدخيلة الواردة عليها من الخارج، ولا ترتقي أيام وصولها إلى الجزيرة إلى ما قبل الميلاد بكثير. قيل إنها وردت إليها من العراق. ومن بلاد الشام، أو من مصر، وإن وطنها الأصلي الأول هو منطقة "بحر قزوين". وهذا لا تجد في الكتابات الآشورية، أو في "للعهد القدم" أو في المؤلفات "الكلاسيكية"، إشارات إلى تربية الخيل في جزيرة العرب،أو استعمال العرب لها في حلهم وترحالهم وفي حروبهم.

(1/207)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد بقي العرب إلى ما بعد الميلاد، بل إلى ظهور الإسلام، لا يملكون عدسا كبيرا من الخيل. وفي غزوات النبي ومعاركه مع المشركين، كان عدد الخيل التي اشتركت في المعارك محدودا معدودا، مع أنها كانت مهمة جدا وعدة حاسمة في إحراز النصر. وذلك بسبب قلتها إذ ذاك، وعدم تمكن كل الناس من اقتنائها، إلا من كان موسرا منهم، أو في حال حسنة. فقد كانت تكاليف الخيل، كثيرة لا يتحملها إلا ذوو الدخل الحسن، فالخيل في حاجة إلى عناية ورعاية، وطعامها للمحافظة على صحتها يكلف باهظا. فلا بد من تقديم الحشائش والحبوب لها ثم إن مجال استعمالها في البادية محدود لأنها لا تستطيع تحمل جوع الصحراء وعطشها تحمل الجمل، كما أنها لا تستطيع السير في رمال البوادي المهلكة المتعبة مسافات بعيدة هذا لم يقبل الأعرابي العادي على شرائها أو تربيتها في تلك الأيام، فصارت من نصيب أهل اليسر والحال الحسنة، يمتلكها ويعتني بها من يملك السيارات في هذه الأيام. كثرتها عند الرجل علامة على ثراء ووجاهته بين الناس.
ونظرا لسرعة الخيل وخفتها في الكر والفر، صارت أهم سلاح لنجاح الغرو وإلحاق الأذى بالعدو، يغير عليها المغير فيباغت خصمه بهجوم سريع خاطف، فيربكه، وهذا أخذت القبائل، ولا سيما القبائل الساكنة في مضارب قريبة من الأرياف ومن الحضر، تشتري الخيل وتعتني بها للمحافظة على حياتها في الدفاع والهجوم. وعدت القبائل القوية، هي التي تملك عددا كيرا من الخيل، وصار للفارس مقام خطير في ذلك الزمن، لشجاعته وصبره في الدفاع عن مواطنيه، فهو بمثابة "الكومندو" في هذه الأيام.
واستعملت الخيل للتسلية واللهو واللعب، فتسابق على ظهورها الفرسان في حلبات السباق، وتراهن الناس على السابق، ولعب الفرسان بعض الألعاب: ألعاب الفروسية وخرجوا على ظهورها للصيد، فالصياد للراكب، أقدر من الصياد الراجل على مطاردة الصيد.

(1/208)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي القرآن ذكر للخيل كمصدر من مصادر القوة، يرهب بها المسلمون أعداءهم ومصدر من مصادر الثروة، ومصدر من مصادر الزينة وبهجة الحياة الدنيا. وفي الحديث ذكر لها كذلك وثناء عليها. وعدت الخيول من الحيوانات الشريفة الرفيعة في التوراة، وصورت على شكل خيول من نار فيها، تهبط على أعداء الرب لتنزل بهم الهلاك والدمار.
أما البغال، فإنها من الحيوانات المعروفة بتحملها للمشقات، وقدرتها على السير في المناطق الوعرة، مثل الهضاب والأرضين المتموجة والجبال. وقد استعملت في الحمل وفي الركوب،وهي تؤدي خدمات في هذه المناطق يعسر على الجمل القيام بها، وقد يعجز عنها. أما هي، فإن من الصعب عليها العمل في البوادي ذات الرمال، كما أنها لا تستطيع الصبر صبر الجمل على تحمل الجوع والعطش أياما متوالية عديدة، لذلك لم يقبل عليها آهل البادية، ولم يعتنوا بها.
وقد حرم قدماء العبرانيين على أنفسهم تربية البغال، و أول من أباح ذلك وجوز لهم استعمالها هو "داوود"، ومنذ ذلك الحين،أقبلوا على تربيتها والاستفادة منها في أرض فلسطين. ويظهر إن قدماء العبرانيين لم يكونوا يعرفون البغال، فلما وجدوها عند أمم وثنية غريبة عنهم، كرهوا استعمالها فحرموها على أنفسهم، حتى انتبه "داوود" لفائدتها ومنافعها، فاستعملها، ثم قلده في ذلك بقية العبرانيين بالتدريج.
ويظهر إن البغال لم تكن كثيرة الاستعمال في جزيرة العرب حتى ظهور الإسلام. فقد ورد في كتب السهر إن "دلدلا"، بغلة النبي، "أول بغلة رئيت في الإسلام أهداها له المقوقس، وأهدى معها حمارا يقال له عفير". وورد أيضا: "أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بغلة شهباء فهي أول شهباء كانت في الإسلام". وورد: "أهدي فروة بن عمرو إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، بغلة يقال لها فضة".

(1/209)


--------------------------------------------------------------------------------

وورد في القرآن الكريم: "والخيل والبغال والحمر لتركبوها وزينة.."، مما يدل على إن من الناس من استعمل البغال للركوب وللزينة. قد كان من الأشراف والوجهاء من يتخذ البغال للركوب في الطرق الوعرة. أما من هم دونهم في المنزلة، فكانوا يتخذون الحمير.
وقد ورد في شعر ل "بشر بن أبي خازم الأسدي" ما يفيد إن البغال كانت معروفة في بعض المواضع، وأن أبولها كانت تترك وقيعا أي أثرا على الأرض. والظاهر انه قصد بعض الأرضين الوعرة التي كان من الصعب على غير البغال السير بها، وذلك مثل بلاد اليمن التي كانت تستعمل البغال للركوب وترفع الأثقال.
والحمير هي أول واسطة للركوب وللحل عند الحضر وأهمها، هي للحضري مثل الجمال للبدوي، وهي مركب مربح لا يسبب ازعاجا، ولا سيما إذا كان اتانا، لأنها أهدأ وآمن من العثار. هذا، إلى أنها صبور تتحمل المشقات، ولعل صبرها وتحملها وسكوتها عند ضربها، قد حمل كل الناس على وسمها بالبلادة. فشبه البليد بالحمار، فإذا أريد تعبير شخص بالبلادة وعدم الفهم قيل إنه "حمار". ليس ذلك عند العرب وحدهم، بل عند غيرهم من الشعوب القريبة منهم مثل العبرانيين، والبعيدة عنهم فشهرة الحمار بالبلادة شهرة عالية. ويقال للحمار "حامور" "Hamor" في العبرانية. أما الأنثى، فإنها "أتون" "Athon" أي "أتان" في العربية. و أما الحمار الصغير، وهو ما يقال له "الكر" أو "الجحش"، فإنه "عير" "Ayir" في العبر انية.
ويظهر من ملاحظات بعض الباحثين إن الحمار في جزيرة العرب هو اقدم عهدا من الجمل ومن الخيل والبغال، إذ كان واسطة الركوب والتنقل في اوائل الألف الثانية قبل الميلاد. فلما حل الجمل محله خفف من واجباته وأعماله، وصار عند العرب في منزلة هي دون منزلة الجمل بكثير.

(1/210)


--------------------------------------------------------------------------------

والبقر من الحيوانات القديمة في بلاد العرب، وهي من الحيوانات الملازمة لأهل الحضر في الغالب، ولا سيما لأهل الريف، أما الأعراب فإن استفادتهم منها غير ممكنة وتكاليفها كثيرة بالنسبة إليهم، ثم إنها لا تستطيع تحمل طبيعة البادية، لذلك لم يقبلوا عليها، ولم يعتنوا بتربيتها، بل ربما نظروا إلى أصحابها نظرة ازدراء وعدم احترام. و يستفاد من ألبانها ومن لحومها وجلودها، كما يستفاد منها في حرث الأرض، وفي سحب الماء من الآبار، وفي جر العربات. وقد عثر على ألواح مكتوبة بالمسند وعليها صور ثيران تقوم بحراثة التربة لتهيئتها للزرع.
والأغنام، هي المادة الرئيسية لتموين الناس باللحوم والصوف. تربى في كل أنحاء جزيرة العرب، ويستفاد من ألبانها كذلك. أما "المعز" فيربى في المناطق المتموجة، أي ذات التلال، وفي الأرضين الجبلية بصورة خاصة. ويستفاد منها مادة للحوم وللحليب وللجلود، ويستعمل شعرها للخيام السود المصنوعة من شعرها في تلك الأزمنة. ولكن هذه الأنواع من الماشية،لا تستطيع العيش في البادية، لذلك كانت من نصيب أهل المدن وحدهم. أما أهل الوبر الضاريون في البادية فإن ماشيتهم الوحيدة الإبل.
وعرفت جزيرة العرب الأسد، الذي قل وجوده فيها في الإسلام، ويظهر من كثرة أسمائه في اللغة ومن ورود اسمه في الشعر الجاهلي، أنه كان كثيرا فيها، وقد اشتهرت أماكن خاصة منها يكثرة أسودها حتى قيل لها "مآسد" والواحدة "مأسدة". ومن هذه الأماكن "عثر"، واليها نسبت "أسود عثر"، و "عتود" وهي قرية نسبت إليها الأسود كذلك. وقد عرف الأسد بشدة بطشه وبقوته وبسيادته على سائر مملكة الحيوان في القوة، ولهذا لقبوا الشجاع الذي لا يقهر أسدا.

(1/211)

admin
12-25-2010, 09:18 PM
أما بقية الحيوانات المعروفة باسم الحيوانات الوحشية، أي التي لم تألف الإنسان، فمنها النمر والفهد والثعلب والذئب والقط الوحشي والضبع والبقر الوحشي، أو الرئم والحمار الوحشي، وقد كان الجاهليون يصطادونه ويأكلونه عند الحاجة، حتى حرمه الإسلام، والنعامة والغزال والضب، وله ذنب معقد، و يأكله الأعراب. والورل والوزغ، واليربوع، والقنفد. ولا تزال مواضع من اليمن والحجاز وحضرموت تحتضن قردة تتيه وحدها على الجبال والمرتفعات، فخورة بأنها من نسل تلك القرود التي عاشت قبل الإسلام بأمد طويل.
وعرف العقاب والبازي والنسر والصقر والبوم من بين الكواسر التي تنقض على الطيور الضعيفة والهوام فتعيش عليها، والغراب بأنواعه معروف في جزيرة العرب وله قصص في الأساطير العربية،وهذا الطائر قصص في الآداب الأعجمية كذلك، لها علاقة كما هي عند العرب بالتفاؤل والتشاؤم بصورة خاصة وكان من الحيوانات التي تركت آثرا في أساطير الشعوب القديمة وما برح الناس يتطيرون من نعيبه. والهدهد المذكور في القرآن الكريم، من الطيور الجميلة المحبوبة، وهناك أنواع عديدة من الحمام والعصافير والقطط والعنادل، وغيرها من الطيور الجميلة ولبعضها أصوات جميلة أخاذة ساحرة، كما إن لبعضها ألوانا زاهية.
والجراد، وان كان طعاما شهيا لكثير من البدو، بلاء على أهل الحضر يأكل زرعهم ويأتي على ما غرسوه فتحل. بهم المجاعة، ويزيد في قساوة الطبيعة على الإنسان. ولذلك عد نقمة توجهها الآلهة على البشر، وتعبيرا عن الغضب الإلهي على الخارجين على طاعة الآلهة، ولما كان يحدثه من أضرار بالزرع والأثمار و الأشجار.

(1/212)


--------------------------------------------------------------------------------

والعقارب ذات أحجام وألوان، وهي تلغ من تصيبه فتؤذيه وتؤلمه إيلاما شديدا، وهي مثال الحقد واللؤم عند العرب. يضرب المثل بطبيعتها، على عكس الأفاعي والحيات، مع أنها مؤذية كذلك، وقد تميت من تلدغه. والسبب في ذلك أنها أكبر حجما من العقرب، وفي استطاعة الإنسان رؤيتها وتجنبها، ثم إنها لا تقدم على الإنسان ولا تلدغه إلا إذا شعرت أنها في وضع حرج مخيف بالنسبة إليها. ولهذا ورد في الأمثال: "نحو العقرب لا تقرب، نحو الحية افرش ونم "، وزعم إن العقرب عمياء مع أنها ترى مثل سائر الحيوانات. ولكن صغر حجمها ولونها الذي يقرب من لون التراب، وكثرة وجودها في البيوت، هي عوامل تجعل الإنسان لا يميزها بسهولة، ولا يشعر بها إلا وقدمه عندها أو فوقها، فتلدغه عندئذ دفاعا عن نفسها، كما يفعل أي حيوان آخر باستعمال ما عنده من وسائل الدفاع عن النفس.
وقد تركت الأفاعي والحيات أثرا كبيرا في القصص العربي ولما كان بعضها كبير الحجم، يقفز على من يهاجمه بسرعة خاطفه، أفزع الناس في البوادي والأودية، وترك في مخيلاتهم باقية لا تنسى. جعلهم يربطون بين الحيات والأفاعي والعفاريت، وبين الجن "الجان"، بأن جعلت فصائل منها.
وتعيش في الرمال وفى الغابات وبين الصخور، فصائل من الحيات مختلفة الأحجام، بعضها صغير، يقفز قفز بعض السمك فوق سطح البحر، أو الهوام وبعض الحشرات فوق سطح الأرض. فلا يشعر المار إلا وأمامه حية قافزة تفزعه وترعبه. وقد طار صيتها وانتشر خبرها خارج حدود جزيرة العرب، فوصفت بلاد العرب بكثرة الحيات الطائرة، حتى زعم إن لبعضها أجنحة، وأنها ذات ألوان متعددة، وكون وجودها قصصا في مخيلة الآشوريين واليونان والرومان، نرى أثره فيما ذكره "هيرودتس" و "سترابو" عن تلك الحيات.

(1/213)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد فزع جيش "أسرحدون" في أثناء اختراقه البادية من كثرة الثعابين والحيات التي كانت تثور عليهم وتقفز أمامهم كما يقول نص "أسرحدون". وذكر إن من بينها ثعابين ذات رأسين، وأن من بينها ما له جناح فيطير. ولما مر الجيش بأرض "بوزو" "بازو" "Bozu" "Bazu"، وجد الأرض مغطاة بالثعابين والعقارب، وهي في كثرتها مثل الذباب والبعوض. والظاهر إن البوادي كانت منازل طيبة للثعابين. وقد تذمر الاسرائيليون من "الثعابين الطائرة" وفزعوا منها عندما كانوا يقطعون البوادي والفيافي في طريقهم إلى فلسطين. وقد أفزعت السياح المحدثين والمستشرقين، ومنهم "لورنس" الذي هاله ما رأى من كثرة الثعابين في الأماكن التي نزل بها وفي جملتها "وادي السرحان".
والسمك هو من أهم مواد. العيش لسكان سواحل الجزيرة، يعيشون عليه ويبيعونه لحما جافا ويصدرونه إلى الأماكن البعيدة ويحملون الطري منه إلى الأماكن التي لا تبعد كثيرا عن الساحل. ويجفف ويدق ليكون طعاما عند الحاجة إليه، كما يكون صعاما لحيواناتهم كذلك. ولا يزال سكان السواحل يصيدون السمك بالطرق التي تعود آهل الجاهلية استعمالها في السمك. ويأتي سمك "السردين" أي السمك الصغير في مواسم الشتاء إلى السواحل بكثرة، فيصاد بسهولة وتغذى به الحيوانات. وطالما تنبعث الروائح الكريهة ويتراكم الذباب بدرجة منفرة من تكدس الأسماك المعرضة للشمس لتجفيفها، فتكون من شر الأماكن لمن لم يتعود دخولها.
ومن أنواع السمك الكبر الذي يوجد في البحر الأحمر و في البحر العربي و الخليج، نوع يقال له "القرش"، يحتاج صيده إلى مهارة و براعة ، و يحمل لبيع لحمه مقطعا في الأسواق.
و قد اشتهرت اليمن و الطائف في الحجاز و مواضع أهل الخضر الأخرى بدباغة الجلود و معالجتها لتحويلها إلى مادة نافعة لصنع الأحذية أو الدلاء أو القرب و ما شابه ذلك. و قد تصدر الجلود مدبوغة، إلى العراق أو إلى بلاد الشام لبيعها هناك.

(1/214)


--------------------------------------------------------------------------------

و ليست لدينا في الزمن الحاضر دراسات علمية دقيقة عن أنواع الحيوانات التي عاشت في جزيرة العرب في العصور السحيقة لما قبل الإسلام. فما عثر عليه من بقايا عظام قديم، أو أصداف و محار، هو قليل لا يكفي لإعطاء أحكام علمية عن حيوانات جزيرة العرب في العصور البرنزية و الحديدية و الحجرية، أو ما قبل هذه العصور التأريخية. فليس لنا إلا الانتظار، حتى تأتي الفرص الملائمة التي يقوم فيها العلماء المتخصصون بالتجوال في مختلف المناطق بحثا عن آثار عظام وهياكل، تكشف القناع عن ذلك العالم الحي، الذي عاش في هذه البقاع قبل آلاف السنين.
وإذا كان الجمل، هو رمز جزيرة العرب، لالتصاقه بها، فإن النخيل هي رمز آخر لها، وكناية عن أهم حاصل و منتوج زراعي تصدره تلك البلاد، ولهذا صارت رمزا لها. وصار "التمر"، عند كثير من المسلمين من أهم ما يتناولونه في شهر رمضان، للإفطار به، لأنه رمز الإسلام ورمز المدينة التي عاش وتوفي فيها الرسول.
وكما أفاد الجمل أهله الفوائد المذكورة المعلومة، من ناحية حمله ولحمه وجلده ووبره، كذلك أفادت النخلة سكان جزيرة العرب فوائد عديدة، حية وميتة، أفادتهم في تقديم ثمرة صارت إداما للعرب، وطبا يستطبون بها لمعالجة عدد من الأمراض. ومادة استخرجوا منها دبسا وخمرا وشرابا، وأفادهم كل جزء من أجزائها، حتى أنهم لم يتركوا شيئا من النخلة يذهب عبثا. فهي إذن رمز الخير والبركة بكل جدارة وحق لأهل جزيرة العرب، لا يدانيها في ذلك أي نوع من أنواع النباتات النامية في هذه البلاد.

(1/215)


--------------------------------------------------------------------------------

وكائن له هذه الفوائد والمنفعة، ينمو ويثمر بسهولة ويسر، لا بد إن يثمن ويقدر، ويميز على غيره. وهذا صارت النخلة سيدة الشجر، لا عند العرب وحدهم بل عند قدماء الساميين أيضا، وأحيطت عندهم بهالة من التقديس والتعظيم. وزخرفت معابدهم بصورها واستعمل سعفها الأخضر في استقبال الأعياد والأبطال والملوك وكبار الضيوف، لأنه علامة اليمن والبركة والسعادة والفرح. ولا يزال السعف زينة تزين بها الشوارع في المناسبات العامة المهمة حتى اليوم. وقد عثر على صورها وصور سعفها على النقود القديمة وفي جملتها نقود العبرانيين الدين يحترمون النخلة احتراما لا يقل عن احترام العرب لها، وهذا ورد ذكرها في مواضع عديدة من، التوراة والتلمود.
والنخيل، هي مثل الجمال ثروة ورأس مال يسر على صاحبه ربحا وافرا. ومن كان له نخل وافر كان غنيا ثريا. وقد ربح يهود الحجاز أرباحا طائلة من اشتغالهم بزراعة النخيل هناك. فالتمر هو مادة ضرورية للأعرابي يعيش عليها ويأتدم بها، و إذ هو لم يكن يفلح ولا يزرع، كان يشتريه مقايضة في الغالب من تجار التمور، فيكسب أصحاب النخيل أرباحا طائلة من بيعهم التمور. ولا يوجد مكان في جزيرة العرب فيه ماء، إلا والنخلة هي سيدة المزروعات فيه، بل تكاد تكون النبات المتفرد بالزرع في أكثر تلك الأمكنة. لا يزاحمها نبات آخر من النبات.
والنخلة هي من أقدم الأشجار التي احتضنها الساميون، وللفوائد التي حصل الساميون عليها من هذه الشجرة.، هي التي حملتهم على تقديسها وعدها من إلاشجار المقدسة، فنجد النخلة مقدسة. عند قدماء السامين وعدوا ثمرها وهو التمر من الثمار المقدسة التي تنفع الناس.

(1/216)


--------------------------------------------------------------------------------

أما الكروم، فقد غرست في مناطق من الجزيرة اشتهرت وعرفت بها مثل الطائف واليمن. و أما الأشجار المثمرة الأخرى مثل الرمان والتفاح والمشمش وأمثالها، فقد غرست في مناطق عرفت بالخصب، وبتوافر الماء فيها، ويميل أهلها إلى الزراعة والاستقرار، مثل مدينة "الطائف" مصيف أهل مكة منذ الجاهلية، واليمن. وقد ذكر إن الكروم دخلت إلى بعض المناطق حديثا، فورد أنها دخلت إلى "مسقط" مثلا في القرن السادس عشر للميلاد، على أيدي البرتغاليين، ودخلت إلى الحجاز في القرن الرابع بعد الميلاد غريبة من بلاد الشام. ويرى بعض الباحثين إن النبط واليهود كانوا الوسطاء في نقل الأشجار المثمرة إلى الحجاز.
?ما أشجار ضخمة تمد الناس بالخشب على نحو ما تجده في. الهند أو في إفريقية، فلجفاف الجزيرة لا نجد فيها مثل تلك الأشجار. لذلك استورد العرب خشب سفنهم ومعابدهم وبيوتهم من الخارج في الغالب، من إفريقية ومن الهند، خلا الأمكنة القريبة من الجبال والمرتفعات التي يصيبها المطر، وتصطدم بها الرطوبة، فقد نبتت فيها أشجار كونت غابات وأيكات، أفادت من في جوارها، إذ أمدتهم بما احتاجوا إليه من خشب لاستعماله في مختلف الأغراض. وقد كانت منطقة "حسمى" و أعالي الحجاز ذات غابات، وقد تعبد أهلها لإله اسمه "ذو غابة"، إله الغابات، كما كست الأحراج الطبيعية والغابات جبال اليمن وجبال حضرموت وعمان.
وما زال أهل العروض ولا سيما سكان الخط، يستوردون أخشاب سفنهم من الهند، لعدم وجود الخشب الصالح لبناء السفن عندهم أو في أماكن قريبة منهم. وهم في ذلك على سنة أجدادهم الذين عاشوا قبل الإسلام بل قبل الميلاد، يذهبون بسفنهم الشراعية إلى سواحل الهند وسيلان تحمل إليها التمور وحاصلات جزيرة العرب والعراق وتعود بهم محملة بحاصلات الهند ومنها الخشب الثمين للاستفادة منه في بناء السفن ولاستعماله في المعابد الضخمة المهمة وفي قصور الملوك.

(1/217)


--------------------------------------------------------------------------------

والسدر من الأشجار المعروفة في جزيرة العرب، وترتفع شجرته أمتارا عن سطح الأرض، وتكون ظلا يقي من يجلس تحته لهيب الشمس ووهجها المحرق. وتكون له ساق قوية متينة. وهو لا يحتاج إلى سقي دائم، لأن جذوره تمتد عميقة في باطن الأرض، فتمتص الرطوبة، ويعطي ثمرا هو "النبق"، ويستعمل ورقه استعمال الصابون في تنظيف الجسم.
وأشجار مثل السدر ذات ارتفاع وظل، وهي أشجار ذات نفع كبير لأهل البلاد التي تغلب عليها طبيعة الجفاف، لا يمكن إن يقدر أهميتها وفائدتها إلا من ركب الصحراء في يوم حار، ثم جاء فجأة فجلس تحت ظل شجرة تقيه وتقي حيوانه من لهب الشمس، سيرى نفسه في جنة وسط جهنم. فلا عجب إذا ما عبد بعض العرب وبعض الساميين مثل هذه الأشجار، وتقربوا إليها بالنذور والقرابين، وتوسلوا إليها، أو عدوها من الأشجار المقدسة، من الأشجار المباركة، من أشجار طوبى، الأشجار التي وعد بها المتقون في الجنة.
وقد عبد قدماء العبرانيين بعض الأشجار المثمرة، وعدوها إلاهة أنثى، لا إلها ذكرا، وذلك لخاصية الحمل التي فيها. وقد تصوروا إن للقمر أثرا في حمل تلك الأشجار، أي في إعطاء الثمرة.
وقد ذكرت أسماء بعض الفواكه والأثمار والأشجار في القرآن الكريم، ويدل ذلك على وجودها في الحجاز، واستعمال الناس لها، ووقوفهم عليها، مثل التين والزيتون والأعناب والطلح والسدر والرمان وعلى وجودها وزرعها في الحجاز، قبل الإسلام بأمد. ولم يكن الحجاز مثل اليمن وحضرموت في كثرة الأشجار والفواكه، وذلك لجفافه بالقياس إلى جو العربية الجنوبية الذي ساعد على نمو الأشجار.

(1/218)


--------------------------------------------------------------------------------

والأثل والأدراك والغضى الذي يستخرج منه الفحم، والمعروف بجمره، و "السنط"، والسمح، و "الصعتر"، وأمثالها، هي من الأشجار التي لا تزال تنمو وتعيش في مواضع متعددة من الجزيرة، وبعضها في الأقسام الغربية والجنوبية حيث تنمو وتنبت على المرتفعات، يستخرج منها الناس وقودا، أو ثمرا بريا يأكلونه، وقد يستفيدون من ورقه فيجففونه ويسحقونه فيبيعونه.
و أما الحبوب والخضر والبقول، فتحتاج كلها إلى سقي، لهذا انحصرت زراعتها في الأماكن التي تتوافر فيها المياه أو تتساقط عليها الأمطار في المواسم المناسبة. لذلك نجدها في الحجاز وفي اليمن وفي العربية الجنوبية وفي مواضع المياه من نجد والعروض. والحبوب هي الحنطة والشعر والذرة والأرز،وسأتحدث عنها وعن بقيتها في باب الزراعة عند الجاهليين. وبعض الخضر، مستورد من الخارج، أدخل من العراق أو من بلاد الشام أو من إفريقية والهند، فالبطيخ مثلا المعروف بع "الخربز" عند أهل المدينة مستورد كما يدل عليه اسمه الفارسي من العراق: استورد قبل الإسلام بأمد. ويمكن الاستدلال من أسماء الأثمار والخضر، ومن دراسة توزيعها وأماكن وجودها،على الأماكن التي جاءت منها، فدخلت جزيرة العرب قبل الإسلام.
أما "البخور" واللبان - بترول العالم في ذلك الزمان - والصموغ والمر والمنتوجات الزراعية الأخرى التي اشتهرت بها العربية الجنوبية، وكانت مصدر رخائها، ومصدر تنافس الدول الكبرى عليها في ذلك الزمان، فقد زالت أهميتها بالتدريج، وذهب أثر سحرها بتبدل الأيام. و "ظفار" والمناطق الأخرى" وان كانت لا تزال ترى أشجار البخور تنبت على الفطرة حتى اليوم، قد زالت دولتها الآن، فلا تأتي للسكان بالذهب والفضة، فقد تغير ذوق العالم، وتبدلت تجارته، وصار يفتش عن الذهب الأسود، منتوج الطبيعة في باطن الأرض.

(1/219)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي هذه المواضيع من العربية الجنوبية وفي الأودية وحافات الهضاب والجبال التي كانت تنبت بها تلك المواد الثمينة، والتي لا تزال تنبت على الطبيعة، تشاهد كهوف ومغاور غريبة وآبار وكتابات جاهلية بالمسند، وآثار مقابر تتحدث كلها عن قوم كانوا قد استوطنوا هذه الأماكن قبل الإسلام بزمان طويل. أما الان، فهي خرائب، ترجو من الأحياء توجيه نظرهم إليها لإحيائها ولاستنطاق آثارها وكنوزها لتحدثهم عن ماضيها القديم.
وقد حبت الطبيعة اليمن بمزية جعلتها تحتضن كل النباتات المذكورة، وتنبت اكثر أنواع المزروعات، وذلك بانعامها عليها بجبال وبمرتفعات وبمنخفضات حارة رطبة، هيأت لها ثلاثة جواء، تنتج محصولات ثلاثة أنواع من المناخ: منتوج المناخ المرتفع البارد، ومنتوج المناطق المعتدلة، ومنتوج المناطق الحارة.
وقد عرف أهل اليمن الأذكياء كيف يستغلون تربتهم، فعملوا مدارج على سفوح جبالهم وعلى المرتفعات، أصلحوا تربتها، وذلك لحصر مياه المطر عند نزوله، ضمانا لدخوله التربة وإروائها، وزرعوا تلك المدارج أو السلالم العريضة بمختلف المزروعات وذلك قبل الإسلام بأمد طويل، فأمنوا بذلك خيرا وافرا لهم، جعل اليمن من أسعد بلاد جزيرة العرب، فهي العربية السعيدة والعربية الخضراء بكل جدارة، وهي موطن الحضارة وأرقى مكان نعرفه في الجزيرة في أيام ما قبل الإسلام.
ومن النبات ما هو دخبل استورد من الخارج، من العراق أو من بلاد الشام، وقد احتفظ قسم منه باسمه الأعجمي القديم. ويظهر إن بعضه قد دخل بعد الميلاد. وقد يكون من المفيد دراسة نبات جزيرة العرب قبل الإسلام، لمعرفة الدخيل منه وكيفية وصوله إلى الجزيرة، كما يستحسن دراسة الكتابات الجاهلية لاستخراج ما ورد فيها من أسماء النبات.

(1/220)

admin
12-25-2010, 09:19 PM
و أما البوادي فإن ظروف الخصب و النماء فيها محدودة، تركزت في مواضع المياه و في الأماكن الرطبة التي تكون المياه الجوفية فيها على حافة القشرة، و في أعقاب الأمطار، حيث تخضر الأرض و تلبس حلة سندسية جميلة، لكن لبسها لا يدوم طويلا، فسرعان ما تمزقها الرياح الجافة و الاهوية الحارة ، فتقضي عليها وتظهر حقيقة ما تحتها من تربة جافة عبوس، لا مكان للنبات فيها ولا مجال لزرع فيها في مثل هذه الظروف.
والواحات ومواضع الآبار والمياه في البوادي، هي رحمة للإنسان حما، ومنظر تقر به العين. فالواحة في البادية، لؤلؤة وكنز وجنة وسط جحيم، لا يدرك جمالها ولا يعرف قدرها إلا من اضطر إلى ركوب البوادي وتعرض لرياح السموم ووهج الشمس وعواصف الرمال تستقبل الأوجه بذرات الرمل الناعمة، تهاجم العيون والأنوف والأفواه، وتضطر حتى الجمل إلى البطء في سيره والى التوقف، ثم تأتي على ما لدى الإنسان من ماء حرص على حمل أكبر كمية يستطيع حملها للوصول إلى مكانه المقصود لضمان حياته في هذه البادية وحياة حيوانه الذي هو فيها جزء من حياته أيضا. ولولا الآبار والواحات في هذه البوادي، لما كان من الممكن طرقها وسلوكها، وإلا كان الدمار والهلاك.
وفي هذه المواضع التي حبت مما الطبيعة ب "إكسير الحياة" يستعيد المسافر نشاطه ويتجدد أمله، ويسترد قواه، يعطيه ماؤها قوة تعيد إليه كبرياءه وعظمته وجبروته، ثم تنسيه كل ما تعرض له من مصاعب ومشقات، وما أبداه من عجز وضعف تجاه القوى الخفية القادرة المهيمنة على الصحراء. وعندئذ يتذكر حكمة: )وجعلنا من الماء كل شيء حي(. ويشعر ببحر الماء والخضراء، يسحر هذه الأشجار والشجيرات والأعشاب النامية في هذه التربة بفضل "إكسير الحياة". ومهما كان الإنسان في هذا المكان من السذاجة والبلادة والجهل، فلا بد إن يستولي عليه شعور من حيث لا يشعر بعظمة سحر هذا المكان.

(1/221)


--------------------------------------------------------------------------------

أما الغرباء الذين يعجبون من تقاتل العرب فيما بينهم على موضع صغير فيه بئر أو بركة ماء أو عشب، فإنهم سيدركون سر هذا التقاتل في حياة أهل البادية لو كلفوا أنفسهم يوما اجتياز تلك البوادي الواسعة العابسة. عندئذ فقط، يدركون إن ذلك القتال الذي وسم أهل البادية بسمة حب الغزو والغارات لم يكن سببه فردية وأنانية، وإنما غريزة إنسانية تغلبت في كل إنسان متى عاش في هذه الظروف القاسية العابسة الفقيرة. إنها غريزة المحافظة على الحياة.
ولا غرابة بعد إذا ما تغنى العربي. بمواضع المياه والبادية بعد نزول الغيث عليها، و إذا ما أظهر الحنين إليها، وتوجع في شعره وفي غنائه على الليالي المقمرة يقضيها في باديته يناجي سماءه الصافية ونور قمره الساطع يغازله وبوحي إليه، ويرسل أليه النسمات العليلة، والى جانبه حبيببته. يذكر حسه هذا في شعره وفي غنائه وفي موسيقاه، حتى ليبدو للغريب، وكأن ما يقوله العربي ويحس به نغمة واحدة ساذجه مكررة تعاد وتعاد من غير معنى ولا سبب. ولكن حسه هذا حس الصحراء، وليس في الصحراء غير نغم واحد، تترنم به الطبيعة، فإما هدوء شامل، و أما نسمة واحدة عليلة مشمرة، و أما عواصف رملية، إذا هدأت عاد إلى الصحراء هدوؤها المعهود.
ومناخ جزيرة العرب - على الهموم - حار شديد الحرارة، جاف، إلا على السواحل، ولا سيما في التهائم، فإن الرطوبة تكون عالية فيها، ولهذا يتضايق الناس من أثر الحر فيهم، مع إن الحرارة ذاتها فيها لا تكون عالية كثيرا، و إنما مبعث هذا التضايق هو من الرطوبة المصحوبة بالحرارة، ولهذا صار بعض مواضع التهائم من شر الأمكنة على وجه هذه الأرض.
ولهذا الجو الرطب الحار أثر في حالة الناس، في صحتهم وفي نشاطهم. فانتشرت الأمراض في الأماكن التي تكثر فيها السباخ والمستنقعات، وفتكت بالناس، وتكدس فيها الذباب وتجمعت الحشرات لملاءمة مثل هذه الأجواء لمعيشة هذه المخلوقات.

(1/222)


--------------------------------------------------------------------------------

ولهذا السبب المذكور، عاشت في هذه الأرضين ونمت النباتات التي تألف المناطق الحارة الرطبة، والأعشاب التي تعيش على المستنقعات وفي الأرض الرطبة، من حشائش وقصب وأعشاب.
أما في الداخل، فإن الحرارة فيها تكون جافة، ولهذا فإنها لا تكون حديدة الطبع، على نحو حر السواحل. ويتلطف الجو في الليالي في النجاد، فيكون الليل رحمة للناس ينسيهم قسوة النهار وشدة حرارته، وفقر الحياة، لا، سيما إذا كمل القمر، وصار قرصا يسحر الناظرين. فإن سحره يكون عاما، يشمل الغني والفقير، ويبعث في النفوس الرقة والحنان، ويثير فيها عواطف الشجن المنبعثة من قسوة الحياة وشحها وفقر الأرض، فتأخذ النفوس الرقيقة في مناجاته بقيثارة بسيطة ذات ثقوب، ينفخ فيها لتخرج منها أصواتا تسع القمر فعل سحره في نفس الإنسان المعذب في النهار المحروم من طيب الحياة التي ينعم بها أهل الأرضين الآخرون، أو بآلات بسيطة أخرى صنعوها بأيديهم لتعبر أناملهم وأوتار آلاتهم الساذجة عن إحساسهم الحزين،ثم لا يكتفي أصحاب هذه النفوس الرقيقة في الغالب بإرسال نغمات الحس العميق من آلة، بل يقرنون تلك النغمات الحزينة بنغمات بشرية تنطق بما في قلب الإنسان من حس وألم دفين، يوحيه إليه ألم الحرمان، ودغدغة النسيم العليل، وسحر القمر وتلألؤ مصابيح السماء. فتخرج نغمات شجية حزينة، تعاد وتكرر، لتسبح السماء على هذا الجمال الساحر، ولتفسر للسامع نوع الحياة في هذه البقاع التي وهبتها الطبيعة عاطفة عميقة، وسحرا فاتنا في الليل، وحرمتها خيرات الدنيا في أثناء النهار، ولتخبره بهذه النغمات المعادة إن الحياة هنا بسيطة لا تعقيد فيها ولا التواء وأنبا معدودة محدودة، وعودة وتكرار.

(1/223)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد يعجب الغريب من تغزل العرب ب "ريح الصبا"، ومن مسحهم لها إلى حد يبلغ الإفراط، فليس في أشعار العالم، ولا في نثرهم، شعر أو نثر فيه هذا القدر من التغزل بريح من الرياح. وقد لا يفهم الغريب أي تعليل يقدم إليه ولا يقبله، وخير جواب يقدم إليه هو حضوره بنفسه إلى جزيرة العرب للاستمتاع بلذة "الصبا" في ليلة مقمرة من ليالي الجزيرة، وسيعرف عندئذ سحر دلال "الصبا" وسحر تغزل العرب بها، على عكس "السموم"، التي تشوي الوجوه، وتعمي العيون، فتجعل الشعراء يلعنونها، والناس يتذاكرون ثقلها وشدتها عليهم وما ألحقته بهم من مهالك وأضرار.
والمطر هو غوث ورحمة لسكان جزيرة العرب، يبعث الحياة للأرض، فتنبت العشب والكلا والكمأة والأزهار، ويحول وجهها العابس الكئيب إلى وجه مشرق ضحوك، فيفرح الناس وتفرح معهم ماشيتهم، ويخرج أهل الحضر إلى البادية للتمتع برؤية البساط الأخضر المطرز بالأزهار، وللاستمتاع بالمنظر الساحر الذي كسا الربيع به وجوه البوادي، ولصيد الغزلان والحيوانات الأخرى التي جاءت هي أيضا من مآويها لتشارك الطبيعة في فرحتها، ولتشبع نفسها بعد جوع وعطش. وتفرح الإبل، ويدر لبنها، ويكثر نسلها، وتتضاعف بذلك ثروة أصحابها، ويسير الجمل متبخترا فخورا بنفسه معتزا، بطرا لا يقضم منها إلا ما يعتقد أنه طعام لذيذ له، يقضم من موضع ثم يتركه بطرا إلى موضع آخر، وقد كان قبل ذلك من جوعه يأكل كل ما يقع بصره عليه ويراه. أفليس من حق العرب أذن إن تسمي المطر "غيثا" ? وأن تفزع وتتوجع من انحباسه، وأن تفزع إلى آلهتها تتوسل إليها لإرسال سحب المطر إليها، وتتقرب إليها بالدعاء وبصلوات "الاستسقاء" و "الاستمطار"، لترسل إليها غيثا يغيثها ويفرج كربتها يدرأ عنها مصيبة تنزل بها إن انحبس المطر ? لذلك كان انحباس "الغيث" عنه العرب كارثة يتألم منها النإس، ويكابد من فداحتها الحيوان.

(1/224)


--------------------------------------------------------------------------------

والجفاف هو الصفة الغالبة على جو جزيرة العرب، فالأمطار قليلة والرطوبة منخفضة في الداخل إلا التهاثم والسواحل، فإنها تنتفع فيها كما ذكرنا. ولكن الطبيعة رأفت بحال بعض المناطق، فجعلت لها مواسم تنزل فيها الغيث، لإغاثة كل حي، وأهمها اليمن. أما عمان، فينزل فيها مقدار منه، ينفع الناس ويعينهم على تصريف أمورهم. و أما باقي الأقسام، فإن أكثرها حظوة ونصيبا من المطر، هي النفوذ الشمالي، وجبل شمر، فتنزل بها الأمطار في الشتاء، فتنبت أعشاب الربيع. و أما الصحارى الجنوبية فلا يصبها من المطر إلا رذاذ، وقد تبخل الطبيعة عليها حتى بهذا الرذاذ.
وينهمر المطر أحيانا من السماء وكأنه أفواه قرب قد تفتحت، فيكون سيولا عارمة جارفة تكتسح كل ما تراه أمامها، وتسبل إلى الأودية فتحولها إلى أنهار سريعة الجريان. وقد لاقت "مكة" من السيول مصاعب كثيرة، وكذلك المدينة والمواضع الأخرى وقد يهلك فيها خلق من الناس، وتسيل مياه السيول إلى مسافات هي تصب في البحر، وقد تبتلعها الرمال فتغوص فيها وتجري في باطن الأرض مكونة مجاري جوفية، تقترب وتبتعد عن قشرة الأرض على حسب قربها أو بعدها منها، وعلى حسب قرارة المكان الذي تسيل عليه. وقد تبلغ البحر فتدفق عيونا في قاعه، كالذي نشاهده في الخليد بين الساحل والبحرين. وقد استفاد أهل اليمن بصورة خاصة وأهل حضرموت والحجاز من السيول بأن بنوا سدودا للسيطرة عليها، ولحبسها إلى حين الحاجة. وسد "مأرب" الشهر هو خير تلك السدود شهرة وصيتا، وقد غذى بإكسير الحياة مساحات واسعة من أرض سبأ. وقد وجد السياح آثار سدود قديمة في نواحي من الحجاز وتجد والعربية الجنوبية تعود إلى ما قبل الإسلام، بنيت في مواضع ممتازة تصلح جيدا لمنع السيول من الذهاب عبثا، حتى إن المهندسين المحدثين رأوا انشاء سدود جديدة في هذه الامكنة للاستفادة من مياه السيول لإحياء ارضين موات في الزمان الحاضر، يمكن قلبها إلى زارع وجنان حضر.

(1/225)


--------------------------------------------------------------------------------

إن ارض اليمن التي صادقتها الطبيعة قأحسنت اليها ووهبتها تحسدها المناطق الاخرى عليها، وهبتها امطارا موسمية ووهبتها جوا حارا رطبا في تهامة اليمن، معتدلا في المرتفعات، وجوا لطيفا في الجبال، ووهبتها نباتات كثيرة تنايب تنوع هوائها وحيوانات عديدة كثيرة، ومعادن متنوعة، هي % أرض ذات حظ كذلك بعدد سكانها، فإنها حتى اليوم من أكثف مناطق جزيرة العرب وأكثرها سكانا. وسكانها ثروة مهجة ومصنع غذى بلاد العرب والبلاد الإسلامية بموجات من القبائل، نشرت الإسلام والثقافة العربية في البلاد المفتوحة، كما أنه مون العراق وبلاد الشام في الجاهلية بقبائل، استوطنت هناك، فكونت حكومات مثل حكومة الحيرة وحكومة الغساسنة، ونسب المناذرة ونسب الغساسنة يرجع إلى اليمن. ولا تزال اليمن تقذف بالألوف من أبنائها كل عام، تقذف بهم في شتى الأنحاء إلى سواحل إفريقية المقابلة، حتى بلغ بعضهم الولايات المتحدة وإنكلترة، فكونوا فيها جاليات يمانية. ويعيش اليوم زهاء مليون يماني خارج اليمن، هاجروا من بلادهم لظروف مختلفة لا مجال للبحث فيها في هذا المكان. وقد سبقهم أجدادهم قبل الإسلام، فطفروا حدود جزيرة العرب وذهبوا إلى مصر والى بعض جزر اليونان.

(1/226)


--------------------------------------------------------------------------------

ويعد سكان "الجبل الأخضر" سعداء حقا بالقياس إلى سكان جزيرة العرب الساكنين في العربية الشرقية أو في البوادي الواقعة في جنوب المملكة العربية السعودية، فإن الغيوم المثقلة بالأبخرة تصطدم بمرتفعات هذا الجبل فتضطر إلى تفريغ شحنتها عليه. وهذا توافرت المياه فيها، فاستغلها السكان وزرعوا عليها. وصارت الأودية من مواطن الحضارة القديمة التي تعود إلى ما قبل الإسلام بزمان طويل، كما صارت سفوح الجبال والمرتفعات موارد رزق للزراع، يستهلكون من الحاصل ما يحتاجون إليه، ويصدرون الباقي لمن يحتاج إليه من أهل بقبة جزيرة العرب. وما زال أهل البلاد يزرعون على سنة آبائهم وأجدادهم الأقدمين. وقد شاهد السياح آثار سدود في هذه المناطق شيدها الأقدمون للتحكم في الأمطار التي تسقط بغزارة وتجري سيولا.
وفي مثل هشه الأمكنة نجد كتابات دونها أصحابها شكرا لآلهتهم على إنعامها عليهم بالغلة الوافرة وبالحصاد الغزير،أو لانعامها عليهم بأرض حصبة ولمساعدتها أباهم على حفر بئر زودتهم بماء للسقي وللزرع، ووجود هذه الكتابات دليل ناطق على وجود الحضارة فيها في تلك الأيام.

(1/227)


--------------------------------------------------------------------------------

أما مواطن الحضارة، فقد وزعتها الطبيعة بيدها، وما برح هذا التوزيع معترفا به. وزعتها عليها توزيعها للنبات والمعادن والماء. ففي المحلات ذوات الحظ للتي أحبها الماء، فطهر فيها واحات وعيونا واحساء أو رطوبات أو نهيرات أو مطرا موسميا، ظهر الاستقرار، وتولدت الحضارة على قدر إسعاف الماء ومقدار استعداده لوضع نفسه في خدمة الأهلين وفي خدمة حيواناتهم وزراعتهم لا فرق بين إن يكون الماء في باطن الجزيرة أو في الأودية أو في السواحل، ولو إن لموقعه دخلا في ازدياد ثروة أصحابه وفي تمكينهم من الاتصال بالخارج، فتنفتح عندئذ لهم أبواب العالم، كأن يكون الموضع على طريق، أو على مفترق طرق، أو على ساحل أو مرفأ بحري، أو على مقربة من بلد متحضر مثل العراق أو بلاد الشام. أما إذا كان واحة منعزلة ومحلا نائي ا، فإن الحضارة لا يمكن إن تظهر بالطبع فيه ظهورها في الأماكن المذكورة.

(1/228)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن هنا نرى الحضارة والاستقرار والميل إلى الاستقرار في بلاد اليمن وحضرموت أظهر وابرز من أي مكان آخر، نرى فيها حكومات بارز المفهوم من الحكومة قبل الميلاد بأمد طويل، ونرى فيها مدنا عامرة مسورة لها حصون وقلاع وتنظيمات وتشكيلات حكومية، ونرى فيها مؤسسات دينية ترعى المسائل الروحية والروابط التي تربط بين البشر وخالقهم، ونرى أنظمة وقوانين مكتوبة وسدودا وأبنية عالية مرتفعة وفنا ما زالت جذوره ومظاهره خالدة باقية في دم الناس. ثم نرى مثل ذلك أو قريبا منه في أعالي الحجاز وفي الأرضين الداخلة في هذا اليوم في المملكة الأردنية الهاشمية. اما الواحات والعيون والآبار، فقد صارت مستوطنات لتموين المستقر والقادم بالماء والتمر وبشيء من الحبوب والخضر، واذا كانت على طريق صارت مأوى للقوافل، ولهذا لم يكن من الممكن قيام حكومات كبيرة بها، لعدم توفر الشروط اللازمة لإنشاء الحكومات الكبيرة بها، واضطرت إلى توثيق علاقاتها بأهل البادية، وإلى الارتباط بهم بروابط العهود والمواثيق ودفع الإتاوة لمنعهم من التعرض لهم بسوء.

(1/229)

admin
12-25-2010, 09:20 PM
فالحياة في جزيرة العرب، هي هبة الماء، ولهذا انحصرت في هذه الأماكن المذكورة، وصار فرضا على رجال القوافل وأصحاب التجارات المرور بها، وهو أي الماء، الذي رسم لأصحاب الجمال خطوط سيرهم إلى المواضع التي يربدون السير إليها، وحدد لهم معالم الطرق. وأقام لهم أماكن الراحة، وما زال الأعراب والتجار يسلكون تلك الطرق، للوصول إلى الأماكن النائبة بالوسائل القديمة التي استعملها سكان الجزيرة قبل الإسلام، وبالمركب القديم، بطوله وبعرضه وهو الجمل. ولكن وسائط النقل الحديثة التي نافسته وأحلته مكرما على التقاعد واضطرته إلى الانسحاب من بعض الطرق، لا تزال تطارده وتنافسه في الطرق الأخرى، وعندئذ لا بد من حدوث مشكلات بالنسبة إلى تربية هذا الحيوان الصحراوي القديم الذي أخلص للبادية، وبقي على إخلاصه لها، ولكن الأمر ليس بيد البادية، وإنما هو بأيدي قاهر البوادي والأرضين والجواء، السيد الإنسان.

(1/230)


--------------------------------------------------------------------------------

أما السواحل، فخلقت من سكانها رجال بحر، يحبون ركوب البحر واستخراج ما فيه للتعيش به ولبيعه وتصريفه في الأسواق، كما جعلتهم أصحاب ضيافة، يقدمون الماء وما عندهم من طعام إلى السفن القادمة إليهم، ويعرضون ما عندهم من سلع فائضة لبيعها لهم، ويشترون من أصحاب تك السفن ما عندهم من بضاعة نافعة، فتحولت إلى أسواق للبيع والشراء، المعاملون بها مزيج من القادمين إليها من أنحاء الجزيرة ومن الوافدين الأجانب القادمين إليها من الخارج، وقد اجتذبت هذه الأمكنة إليها الغرباء، فسكنوا بها، واختلطوا بسكانها، وتولدت بها أجيال مختلطة ممتزجة السماء، كلما كانت قريبة من ساحل مقابل، كان مظهر الاختلاط والامتزاج أظهر وأكثر، وهذا احتضنت تهامة والسواحل العربية الجنوبية عددا كبيرا من الإفريقيين، هاجروا إليها من السواحل الإفريقية المقابلة واستقروا فيها بكثرة، واختلطوا بأصحاب البلاد الأصليين. أما سواحل عمان والخليج، فقد اجتذبت إليها الهنود والفرس، وقد عثر في مواضع من سواحل عمان على بقايا عظام بشرية اتضح إنها من بقايا الهنود "الدراوديين"، سكان الهند القدماء. ولم بنس البحارة وأصحاب السفن اليونان سواحل جزيرة العرب، فأقاموا مستعمرات يونانية في مواضع متعددة منها سيأتي الكلام عليها فيما بعد.
وقذفت الطبيعة بالأعراب في كل مكان من أمكنة الجزيرة، حتى زاد عددهم على الحضر. والصفة الغالبة علهم، أنهم لا يرتبطون بالأرض ارتباط المزارع بأرضه، ولا يستقرون في مكان ألا إذا وجدوا فيه الكلأ والماء، فإذا جف الكلأ وقل الماء، ارتحلوا إلى مواضع جديدة. وهكذا حياتهم حياة تنقل وعدم استقرار، لا يحترفون الحرف على شاكلة أهل الحضر، ولذلك صارت حياتهم حياة قاسية، يتمثل مجتمعهم في القبيلة. فالقبيلة هي الحكومة والقومية في نظر البدوي.

(1/231)


--------------------------------------------------------------------------------

وإن حياة على هذا الشكل والطراز، حياة لا تعرف الراحة والاستقرار، ولا تعترف إلا بمنطق القوة، حياة جلبت المشقة لأصحابها،والمشتقة لمن يقيم على مقربة منهم من الحضر. فهم في نزاع دائم فيما بينهم، ثم هم في نزاع مع الحضر، وهذا كان خطر البداوة على العرب، يوازي خطر الغرباء البعداء عليهم، وصارت البداوة مشكلة عويصة لكل حكومة، ولا تزال مشكلة حتى اليوم. ولن تحل إلا باقناع الأعراب بان حياة الاستقرار خير لهم وأفضل من حياتهم التي يحيونها، وذلك بوسائل لا يدخل الكلام عليها في حيز هذا الكتاب.
للطرق للبرية
من نتائج غلبة الطبيعة الصحراوية على أرض جزيرة العرب، إن انحصر امتداد شرايين المواصلات فيها في أماكن خططتها الطبيعة نفسها للإنسان، فجعلتها تسير بمحاذاة الأودية ومواضع المياه والآبار، وهي السبل الوحيدة التي يستطيع المسافر ورجال القوافل إن يستريحوا في مواضع منها ويحملوا منها الماء. وتنتهي رؤوس هذه الطرق بالعراق وببلاد الشام في الشمال وبالعربية الجنوبية وبموانئها في الجنوب، وهناك طرق أخرى امتدت من العربية الشرقية إلى العربية الغربية، ولها مراكز اتصال بالطرق الطولية الممتدة من الشمال إلى الجنوب في الغالب. وقد أقيمت في مواضع من هذه الطرق مواضع سكنى ذات مياه من عيون أو آبار، عاشت ونمت بفضل منة مائها عليها، فصارت منازل مريحة لرجال القوافل يحمدون آلهتهم عليها، ويحمد أصحاب ذلك الماء آلهتهم على منتها عليهم بإعطائهم ذلك الكنز العظيم الذي أعانهم على العيش وجلب لهم كرم التجار.

(1/232)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي العقد الحساسة من هذه الطرق نشأت المستوطنات، ومواطن السكنى القديمة انتشرت في أماكن متباعد بعضها عن بعض في الغالب، فكان لهذا التوزيع آثر كبير في الحياة الاجتماعية والحياة السياسية والعسكرية، ولا شك. وما الطرق الحالية التي يسلكها الناس اليوم إلا بقية من بقايا تلك الطرق القديمة التي ربطت أجزاء الجزيرة بعضها ببعض، كما ربطت الجزيرة بالعالم الخارجي. ونجد في مخلفات تلك المستوطنات مواد مستوردة من مواضع بعيدة، هي دليل بالطبع على إن الإنسان كان يقطع الطرق قبل الميلاد بمئات من السنين ليتاجر ويبيع ويشتري دون إن يبالي ببعد المسافة وطول الشقة وصعوبة الحصول على وسائل النقل وما يتعرض له، وهو في طريقه إلى هدفه، من محاطر وأهوال.
وتعد "نجران" من أهم المواضع المهمة الحساسة في شبكة المواصلات البرية قبل الإسلام، ففيها تلتقي طرق المواصلات الممتدة في الجنوب، وفيها يتصل الطريق البري التجاري المهم الممتد إلى بلاد الشام، فيلتقي بطريق العربية الجنوبية ومنها يسير الطريق المار إلى "الدواسر" فالأفلاج فاليمامة أو ساحل الخليج ومنه إلى العراق.
ولم تمون الطرق البرية المارة بالعربية الشرقية أي "ساحل الخليج" العراق بتجارة جزيرة العرب وبالمواد المستوردة إليها من الهند، بل مونتها بموجات من البشر منذ آلاف السنين قبل الميلاد. فقد كانت القبائل العربية النازحة من الجنوب لأسباب متعددة تحط رحالها على هذا الساحل، انتهازا لفرصة ملائمة ترحل خلالها إلى العراق لتستقر فيه. وقد سلكت أكثر القبائل العربية التي استوطنت العراق هذا السبيل حينما هاجرت إليه قبل الميلاد وبعده أيضا.
الفصل السادس
صلات الحرب بالساميين

(1/233)


--------------------------------------------------------------------------------

لاحظ المعنيون بلغات "الشرق الأدنى" وجود اوجه شبه ظاهرة بين البابلية والكنعانية والعبرانية والفينيقية والأرمية والعربية واللهجات العربية الجنوبية والحبشية والنبطية وامثالها، فهي تشترك أو تتقارب في أمور أصلية وأساسية من جوهر اللغة، وذلك في مثل جذور الأفعال، وأصول التصريف، تصريف الأفعال، وفي زمني الفعل الرئيسيين، وهما: التام والناقص، أو الماضي والمستقبل، وفي أصول المفردات والضمائر والأسماء الدالة على القرابة الدموية والأعداد، وبعض أسماء أعضاء الجسم الرئيسية، وفي تغير الحركات في وسط الكلمات الذي يحدث تغيرا في المعنى، وفي التعابير التي تدل على منظمات للدولة، والمجتمع والدين، وفي أمور مشابهة أخرى، فقالوا بوجوب وجود وحدة مشتركة كانت تجمع شمل هذه الشعوب، وأطلقوا على ذلك الأصل، أو الوحدة "الرس السامي" أو "الجنس السامي"، أو "الأصل السامي"، أو "السامية، "Aemites" "Ahemites" "Semitic Race" وعلى اللغات التي تكلمت وتتكلم بها هذه الشعوب "اللغات السامية"، "Semitic Languaues".
وقد أخذ من أطلق هذه التسمية، تسميته هذه من التوراة. أخذها من اسم "سام بن نوح"، جد هذه الشعوب الأكبر، كما هو وارد فيها. وأول من أطلقها وأذاعها بين العلماء علما على هذه الشعوب، عالم نمساوي اسمه "أوغست لودويك شلوتسر" August Ludeig Schlostzer أطلقها عام "1781 م" فشاعت منذ ذلك الحين، وأصبحت عند العلماء والباحثين في موضوع لغات الشرق الأدنى علما للمجموعة المذكورة من الشعوب وقد أخذ "آيشهورن" "Joh. Cotte. Eichhorn" هذه التسمية، وسعى لتعميمها بين العلماء علما على الشعوب المذكورة.

(1/234)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي عام "1869 م" قسم العلماء اللغات السامية إلى مجموعتين: المجموعة السامية الشمالية، والمجموعة السامية الجنوبية وتتألف المجموعة الشمالية من العبرانية والفينيقية والأرمية والآشورية والبابلية والكنعانية. و أما المجموعة الجنوبية، فتتألف من العربية بلهجاتها والحبشية. وعمم استعمال هذا الاصطلاح بينهم وأصبح موضوع "الساميات" من الدراسات الخاصة عند المستشرقين، تقوم على مقارنات وفحوص "أنتولوجية" و "بيولوجية" وفحوص علمية أخرى، فضلا عن الدراسات التاريخية واللغوية والدينية.
وهذه القرابة الواردة في التوراة، وذلك التقسيم المذكور فيها للبشر، لا يستندان إلى أسس علمية أو عنصرية صحيحة، بل بنيت تلك القرابة، ووضع ذلك التقسيم على اعتبارات سياسية عاطفية وعلى الآراء التي كانت شائعة عند شعوب العالم في ذلك الزمان عن النسب والأنساب وتوزع البشر. فحشرت التوراة في السامية شعوبا لا يمكن عدها من الشعوب السامية، مثل "العيلاميين" "Elam" و "اللودبين" "Ludim" "Lud"، وأقصت منها جماعة من الواجب عدها من الساميين، مثل "الفينيقيين" و "الكنعانين".
ويرى "بروكلمن" إن العبرانيين كانوا قد تعمدوا إقصاء الكنعانيين من جدول أنساب سام، لأسباب سياسية ودينية، مع أنهم كانوا يعلمون حق العلم ما بينهم وبين الكنعانيين من صلات عنصرية ولغوية.
وقد رجع الإصحاح العاشر من التكوين نسب الفينيقين و السبئين إلى حام جد الكوشيين، ذوي البشرة السوداء، مع أنهم لم يكونوا من الحاميين، وقد يكون ذلك بسبب وجود جاليات فينيقية وسبئية في افريقية، فعد كتبة التوراة هؤلاء من الحاميين.

(1/235)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عرف المسلمون اسم "سام بن نوح"، وقد كان لا بد لهم من البحث عن أولاد "نوح" لما لذلك من علاقة بما جاء عن "نوح" وعن الطوفان في القرآن الكريم. و قد روي أن رسول الله قال: "سام أبو العرب، و يأفث أبو الروم، و حام أبو الحبش"، وقد روى "الطبري" جملة أحاديث عنه في هذا المعنى. و قد لاحظت كلها وردت من طريق "سعيد بن أبي عروبة" عن "قتادة" عن "الحسن" عن "سمرة بن جندب"، و هي في الواقع حديث واحد، و لا يختلف إلا اختلافا يسيرا في ترتيب الأسماء أو في لفظ أو لفظين. ومن هنا يجب إن يدرس هذا الحديث و كل الأحاديث المنسوبة إلى الرسول في هذا الباب دراسة وافية،لنرى مدى صحة نسبتها إلى الرسول، كما يجب دراسة ما نسب إلى عبد الله بن عباس أو غيره في هذا الشأن، فإن مثل هذه الدراسات تحيطنا علما برأي المسلمين أيام الرسول و بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى في نسبتهم إلى سام بن نوح.
وقد قسم بعض علماء الساميات المحدثين اللغات السامية إلى أربع مجموعات هي: المجموعة السامية الشرقية ومنها البابلية والآشورية،والمجموعة الشمالية ومنها الأمورية والأرمية، والمجموعة الغربية ومنها الكنعانية والعبرانية والموابية والفينيقية، والمجموعة الجنوبية ومنها المعينية والسبئية والاثيوبية والعربية والأمهرية. ويلاحظ إن واضعي هذا التقسيم لم يراعوا في وضعه التطورات التاريخية التي مرت بها هذه اللغات بل وضحوا تقسيمهم هذا على أسس المواقع الجغرافية لتلك الشعوب.

(1/236)


--------------------------------------------------------------------------------

والسامية بعد، ليست رسا "Race" بالمعنى المفهوم من الرس عند علماء الأحياء، أي جنس له خصائص جسمية وملامح خاصة يميزه عن الأجناس البشرية الأخرى. فبين السامين تمايز وتباين في الملامح وفي العلامات الفارقة يجعل اطلاق "الرس" عليهم بالمعنى العلمي الحديث المفهوم من "علم الأجناس"، أو الفروع للعلمية الأخرى نوعا من الإسراف واللغو، كما أننا نرى تباينا في داخل الشعب للواحد من هذه الشعوب السامية في الملامح والمظاهر الجسمية، وفي هذا التمايز والتباين دلالة على وجود اختلاط وامتزاج في الدماء، سأتحدث عنه في الفصل الخاص بالأنساب وبانقسام العرب إلى قحطانيين وعدنانيين.
ولقد وجد بعض علماء "الانثروبولوجي" مثلا إن بين اليهود تباينا في الصفات وفي الخصائص التي وضعها هذا العلم للجنس، مع ما عرف عن اليهود من التقيد بالزواج وبالابتعاد عن الزواج من غير اليهود. وكذلك وجد العلماء الذين درسوا العرب دراسة "انثروبولوجية" إن بين العرب تباينا في الملامح الجسمية. وقد اتضح. وجود هذا التباين عند الجاهليين أيضا، كما دلت على ذلك الفحوص التي أجريت على بقايا العظام التي عثر عليها في مقابر جاهلية. كذلك وجد علماء "الأنثروبولوجي" من فحص العظام التي عثر عليها في الآثار الآشورية والبابلية إن أصحابها يختلفون أيضا فيما بينهم في الملامح التي تعد أساسا في تكوين جنس من الأجناس.
ولهذا، فإني حين أتحدث عن السامية لا أتحدث عنها على أنها جنس، أي رس صاف بالمعنى "الأنثروبولوجي"، بل أتحدث عنها على أنها مجموعة ثقافية وعلى أنها مصطلح أطلقه العلماء على هذه المجموعة لتمييزها عن بقية الأجناس البشرية، فأنا أجاريهم لذلك في هذه التسمية، ليس غير.

(1/237)


--------------------------------------------------------------------------------

إن بحوث العلماء في موضوع السلالات البشرية وفي الأجناس البشرية وفي توزع الشعوب وخصائص ومميزات الأجناس لا تزال بحوثا قلقة غير مستقرة. ولهذا تجد نتائج بحوثهم في تعريف الجنس وفي صفات الأجناس وفي المسائل الأخرى المتعلقة بهذا الموضوع مختلفة، ولا سيما إن هنالك عدة أمور تؤثر في حياة الإنسان وفي خصائصه الروحية والجسمية. وللنواحي اللغوية وبعض الخصائص الروحية الأخرى، وان كانت مهمة وضرورية لدراسة الناحية العقلية للإنسان، إلا إنها ليست الأسس للوحيدة لتكوين رأي في الأجناس البشرية.
فالسامية إذن، بهذا المعنى هي مجرد اصطلاح، قصد به للتعبير عن هذه للروابط أو الظواهر التي نراها بين الشعوب المذكورة،أما البحث على إن الساميين جنس من الأجناس بالتعبير الذي بعنيه أهل العلوم من لفظة جنس، فإن ذلك في نظري موضوع لا يسع علماء للساميات أو علماء التاريخ إن يبتوا فيه ويصدروا حكما في شأنه، لأنه بحث يجب إن يستند إلى تجارب وبحوث مختبرية، والى دراسات للشعوب الباقية من السامية، بان ندرس جماجم قدماء للساميين وعظامهم في جزيرة العرب وفي المواطن الأخرى التي انتشر فيها للساميون، وعند اكمال مثل هذه الدراسات ووصولها إلى درجات كافية ناضجة يمكن للعلماء حينئذ إن يتحدثوا عن السامية من حيث إنها جنس بالمعنى العلمي، أو جنس بالمعنى الاصطلاحي.
هذا وقد عني بعض الباحثين المحدثين بدراسة ما عثر عليه في بعض القبور العادية من عظام، لتعيين أوصافها وخصائصها والجنس الذي تعود لليه، كما قام بعضهم بدراسة أجسام الأحياء وإجراء فحوص عليها وتسجيل قياسات الرؤوس وملامح الأجسام وما إلى ذلك مما يتعلق بموضوع "الأجناس البشرية"، وإذا ما استمر العلماء على هذه الدراسة وتوسعوا فيها، فسيكون لها شان خطير في وضع نظريات علمية عن تاريخ أجناس الشرق الأدنى وفي جملتهم الساميين.

(1/238)

admin
12-25-2010, 09:22 PM
وممن بحث في "أنثروبولوجية" الشرق الأدنى "كبرس Ariens Kapperes"، وقد وضع مؤلفا قيما في دراسة شعوب الشرق الأدنى. و "الدكتور سلكمن" "Dr. Seligman"، و "شنكلن W. Shanklin" الذي عني بدراسة "أنثروبولوجية" سكان شرقي الأردن وتقسيماتهم وحالات أعصابهم، و "A. Mochi"، و "برترام توماس" الذي قام بدراسات علمية عديدة من هذه الناحية لنماذج من أفراد القبائل العربية الجنوبية، والبعثة الأمريكية التي أرسلها متحف "فيلد" بشيكاغو لدراسة "أنثروبولوجية" القبائل العراقية النازلة على مقربة من "كيش"، عدا دراسات أخرى عديدة قام بها علماء آخرون.
وقد أجريت أكثر هذه البحوث في مناطق عرفت باتصالها منذ القديم بالعالم الخارجي، وفي أرضين استضافت الغرباء، فهي لذلك لا يمكن إن تعطينا فكرة علمية عن "أنثروبولوجية" ساحل جزيرة العرب، فلا بد من القيام بدراسات دقيقة في قلب الجزيرة لتكوين رأي علمي عن عرب هذه الأماكن.
وقد لاحظ الفاحصون للعظام التي عثر عليها في الأقسام الجنوبية الشرقية من جزيرة العرب وجود تشابه كبير بين جماجم أهل عمان وجماجم سكان السواحل الهندية المقابلة هذه البقاع، كما لاحظوا تشابها كبيرا في الملامح الجسمية بين العرب الجنوبيين أهل عدن وبقبة العربية الجنوبية الغربية وتهامة وسكان إفريقية الشرقية.
وقد اتخذ القائلون إن أصل العرب الجنوبيين من إفريقية هذا التشابه حجة، تذرعوا بها في إثبات نظرياتهم هذه.

(1/239)


--------------------------------------------------------------------------------

غير إن هذه الفحوص أشارت من جهة أخرى إلى حقيقة تخالف النظرية الإفريقية، إذ بينت إن أشكال جماجم العرب الجنوبيين ورؤوسهم هي من النوع الذي يقال له: "Brachycephaly". أما أشكال جماجم سكان إفريقية الشرقية ورؤوسهم، فمن النوع الذي يعرف باسم "Dolichocephaly" في الغالب. وهذا التباين لا يشير إلى وحدة الأصل. وقد تبين من هذه الفحوص إن أشكال جماجم العرب الشماليين ورؤوسهم، هي من نوع "Dolichocephaly" كذلك، أي أنها نوع مشابه لأشكال جماجم الإفريقيين الشرقيين ورؤوسهم.
وقد حملت هذه النتائج بعض الباحثين على التفتي في إن العرب الجنوبيين كانوا في الأصل في المواطن التي تكثر فيها الرؤوس المستديرة، وأن هذه المواطن هي من آسية الصغرى إلى الأفغان، فزعموا أنهم كانوا هناك ثم هاجروا منها إلى مواطنهم الجديدة في العربية الجنوبية، كما زعموا إن سكان "عمان" قد تاثروا تأثرا كبيرا بالدماء "الدراويدينية" "Dravidian" الهندية، لهذا تجد أنهم يختلفون بعض الاختلاف عن بقية العرب الجنوبيين.
وإذا قامت بعثات علمية بالبحوث "الأنثروبولوجية في مواضع أخرى من جزيرة العرب ولا سيما في باطن الجزيرة، و إذا ما استمر العلماء والسياح في البحث عن العظام والأحداث، وفي دراستها دراسة مختبرية، واستمروا في إجراء فحوصهم على الأحياء، وقورنت نتائج فحوصها بنتائج فحوص العلماء في بقية أنحاء الشرق الأدنى، فإن البحث في الساميات وفي علاقات الشعوب القديمة بعضها ببعض، سيتقدم كثيرا،وسيأتي ولا شك بنتائج علمية مقبولة في موضوع السامية والجنس السامي.
وطن الساميين

(1/240)


--------------------------------------------------------------------------------

وتساءل العلماء الباحثون في الأجناس البشرية: من أين جاء الساميون الأول، آباء الشعوب السامية? وأين كان موطنهم الأول وبيتهم القديم، الذي ضاق بهم في الدهر الأول، فغادروه إلى بيوت أخرى? أما أجوبتهم، فجاءت متباينة غير متفقة لعدم اهتدائهم حتى الآن إلى دليل مادي يشير إلى ذلك الوطن، أو يؤيد نظرية وجود مثل هذا الوطن، فقامت آراؤهم على نظريات وفرضيات، وبحوث لغوية وعلى آراء مستمدة من الروايات الواردة في التوراة عن أصل البشر، وعن أبناء نوح، والأماكن التي حل بها هؤلاء الأبناء وأحفادهم ثم أحفاد أحفادهم، وهكذا على نحو ما تصورته مخيلة العبرانيين. فرأى نفر منهم إن أرض بابل، كانت المهد الأول للساميين، ورأى آخرون إن جزيرة العرب هي المهد الأول لأبناء سام، وخصص فريق آخر موطنا معينا من جزيرة العرب، ليكون وطن سام وأبنائه الأول، وذهب قسم إلى إفريقية فاختارها لتكون ذلك للوطن، لما لاحظه من وجود صلة بين اللغات السامية والحامية، ورأى قوم في أرض "الأموريين" الوطن الصالح لآن يكون أرض أبي الساميين، على حين ذهب قوم آخرون إلى تفضيل أرض "أرمينية" على تلك الأوطان المذكورة. وهكذا انقسموا وتشعبوا في موضوع اختيار الوطن السامي، ولكل حجج وبراهين.

(1/241)


--------------------------------------------------------------------------------

وحتى القائلون بنظرية من هذه النظريات في برأي من هذه الآراء، هم قلقون غير مستقرين في نظرياتهم هذه، فتراهم يغيرون فيها ويبدلون. يفترضون وطنا أصليا لجد الساميين، ثم يفترضون وطنا ثانيا يزعمون إن قدماء الساميين كانوا قد تحولوا من الوطن الأول إليه، فصار الموطن الأقدم لهم. فقد ذهب "فون كريمر" مثلا، وهو عالم ألماني إلى إن إقليم "بابل" هو موطن الساميين الأول، وذلك لوجود ألفاظ عديدة لمسميات زراعية وحيوية "حياتية" أخرى تشترك فيها أكثر اللغات السامية المعروفة، وهي مسميات لأمور هي من صميم حياة هذا الإقليم، إلا أنه عاد فذكر أنه وجد إن لفظة "الجمل" لهذا الحيوان المعروف هي لفظة واردة في جميع اللغات السامية وفي ورود هذه التسمية في جميع هذه اللغات دالة على أنها من بقايا اللغة "السامية" الأولى. ولكن الجمل حيوان أصله و موطنه الأول الهضبة المركزية التي في آسية على مقربة من نهر سيحون ونهر جيحون، ولما كان قد لازم الساميين من فجر تاريخهم واقترن اسمه بأسمهم، وجب إن يكون موطن الساميين الأقدم اذن هو تلك الهضبة، إلا إن أجداد الساميين غادروها في الدهر الأول، وارتحلوا عنها فانحازوا إلى الغرب مجتازين إيران والأرضين المأهولة بالشعوب "الهند أوروبية" حتى وصلوا إلى إقليم "بابل"، فنزلوا فيه، فصار هذا الإقليم الوطن الأقدم أو الأول للساميين.
وطريقة "فون كريمر" في هذه النظرية، دراسة أسماء النبات والحيوان في اللغات السامية وتصنيفها وتبويبها الممكن بذلك من معرفة المسميات المشتركة والمسميات التي ترد بكثرة في اغلب تلك اللغات والتوصل بهذه الطريقة إلى الوقوف على أقدم الحيوان والنبات عند تلك الشعوب، فإذا اهتدينا إليها صار من السهل على رأيه التوصل إلى معرفة الوطن الأصل الذي جمع في يوم ما شمل أجداد الساميين.

(1/242)


--------------------------------------------------------------------------------

أمما "كويدي"، وهو من القائلين أيضا إن إقليم بابل هو الموطن الأول للسامين، فقد سار على نفس أسلوب "فون كريمر" نفسه وطريقته، ولكن بصورة مستقلة عنه. درس الكلمات المألوفة في جميع اللغات السامية عن العمران والحيوان والنبات ونواحي الحياة الأخرى، وقارن بينها وتتبع أصولها قال قوله المذكور، إلا انه اختلف عن "فون كريمر" في الوطن الأول، حيث رأى إن مواطن الساميين الأول كانت الأرضين في جنوب بحر قزوين وفي جنوب شرقيه إلا انهم غادروها بعد ذلك وارتحلوا عنها إلى إقليم بابل.
وأما "هومل"، وهو من العلماء الألمان الحاذقين في الدراسات اللغوية، فقد ذهب أولا إلى إن موطن الساميين هو شمال العراق، ثم عاد فقرر إن إقليم بابل هو الوطن الأصل،وذهب أيضا إلى إن قدماء المصريين هم فرع من فروع الشجرة التي أثمرت الثمرة السامية، وهم الذين نقلوا على رأيه الحضارة إلى مصر نقلوها من البابليين.
وقد ناقش "نولدكه" آراء هؤلاء العلماء المذكورين القائمة على المقابلات والموازنات اللغوية، وعارضها معارضة شديدة، مبينا إن من الخطأ الاعتماد في وضع نظريات مهمة كهذه على مجرد دراسة كلمات و إجراء موازنات بين ألفاظ لم يثبت ثبوتا قطعيا إن جميع الساميين أخذوها من العراق، وأورد جملة أمثلة اختلف فيها الساميون، مع انها أجدر المعاني بأن يكون لها لفظ مشترك في جميع اللغات السامية.
ومن أوجه النقد التي وجهت إلى نظرية القائلين إن العراق، أو إقليم بابل منه بصورة خاصة، هو موطن الساميين، هو إن القول بذلك يستدعي تصور انتقال للساميين من أرض زراعية خصبة ذات مياه إلى بواد قفرة جرد، و إبدال حياة زراعية بحياة خشنة بدوية، ومثل هذا التصور يخالف المنطق والمعقول والنطم الاجتماعية.

(1/243)


--------------------------------------------------------------------------------

و أما القائلون إن الموطن الأصلي لجميع الساميين هو جزيرة العرب، فكان من أولهم "شبرنكر". فقد رأى إن أواسط جزيرة للعرب، ولا سيما نجد، هو المكان للذي بجب إن يكون الوطن الأول للساميين،وذلك لأسباب وعوامل شرحها وذكرها. ومن هذا الوطن خرج الساميون في رأيه إلى الهلال الخصيب فطبعوه بالطابع السامي، ومن هذا الهلال انتشروا إلى أماكن أخرى.
وقد أيد هذه النظرية جماعة من المستشرقين الباحثين في هذا الموضوع من أمثال "سايس" و "أبرهرد شرادر"، و "دي كويه" و "هوبرت كرمه" و "كارل بروكلمن" و "كينغ" و "جول ماير" و "كوك" ،وآخرين.
وقد مال إلى تأييدها وترجيحها "دتف نلسن"، وهو من الباحثين في التاريخ العربي قبل الإسلام. وكذلك "هوكو ونكلر". و "هومل" الذي يرى إن موطن جميع الساميين الغربيين هو جزيرة العرب.
وقد ذهب نفر من القائلين بهذه النظرية إلى إن العروض ولا سيما البحرين والسواحل المقابلة لها، هي الوطن السامي القديم. ويستشهد هذا النفر على صحة نظريته ببعض الروايات والدراسات التي قام بها العلماء فكشفت عن هجرة بعض الأقوام كالفينيقين و غيرهم من هذه الأماكن.

(1/244)


--------------------------------------------------------------------------------

أما "فلبي"، فذهب في دراساته المسهبة لأحوال جزيرة العرب إلى إن الأقسام الجنوبية من جزيرة العرب هي الموطن الأصلي للساميين. وفي هذه الأرضين نبتت السامية، ومنها هاجرت بعد اضطرارها إلى ترك مواطنها القديمة لحلول الجفاف بها التي ظهرت بوادره منذ عصر "البالئوليتيك" "Palaeolithic" هاجرت في رأيه، في موجات متعاقبة سلكت الطرق البرية والبحرية حتى وصلت إلى المناطق التي استقرت فيها. هاجرت وقد حملت معها كل ما نملكه من أشياء ثمينة، حملت معها آلهتها، وأولها الإله "القمر"، وحملت معها ثقافتها وخطها الذي اشتقت منه سائر الأقلام، ومنه القلم الفينيقي، وطبعت تلك الأرضين الواسعة التي حلت فيها بهذا الطابع السامي الشي ما زال باقيا حتى اليوم. وقد أخذ "فلبي" رأيه هذا من دراسات العلماء لأحوال جزيرة العرب ومن الحوادث التاريخية التي تشير إلى هجرة القبائل من اليمن نحو الشمال.
فاليمن في رأي "فلبي" وجماعة آخرين من المستشرقين، هي "مهد العرب" ومهد الساميين، منها انطلقت الموجات البشرية إلى سائر الأنحاء. وهي في نظر بعض المستشرقين أيضا "مصنع العرب"، وذلك لأن بقعتها أمدت الجزيرة بعد كبير من القبائل، قبل الإسلام بأمد طويل وفي الإسلام. ومن اليمن كان "نمرود" وكذلك جميع الساميين.
والذين يقولون إن نجدا هي موطن الساميين الأول، يفرضون إن موجات هجرة الساميين اتجهت نحو الشمال كما اتجهت نحو الجنوب والشرق والغرب، فكأن نجدا معين ماء يفيض فيسيل ماؤه إلى أطرافه.

(1/245)


--------------------------------------------------------------------------------

غير إن هنالك جماعة من الباحثين ترى إن نجدا لا يمكن إن تكون الموطن الأول للسامين، وذلك لأن شروط الحياة اللازمة لم تكن تتوفر بها، اللهم إلا في المواضع التي توجد بها أبار أو واحات، وهي قليلة متناثرة، وذلك حتى في العصور "الباليوثية" "Palaeolithic" 0 أما المراعي التي كانت بها في تلك الأوقات فلم تكن دائمة الخضرة، بل كانت مع المواسم ولهذا فان السكن فيها لا يمكن إن يكون سكنا دائميا مستمرا، ثم إن السكن في نجد يقتضي وجود الجمل فيها ولم يكن الجمل موجودا عند الساميين في العهود القديمة بل كان الحمار هو واسطة الركوب والنقل عندهم. ولما كان الحمار لا يتحمل العيش في البوادي الواسعة الفسيحة، لذلك لم يتمكن الساميون إذ ذاك من التوغل في الصحراء والسكن بعيدا عن مواضع الماء، فانحصر سكنهم في أسياف البوادي أي في مناطق قريبة من الحضر، ولهذا السبب رفض العلماء رأي من يقول إن نجدا هي الموطن الأول للساميين.
ويمكن تلخيص الحجج والبينات التي استند إليها هؤلاء العلماء لإثبات نظريتهم في الأمور الآتية: 1 - لا يعقل إن ينتقل سكان الجبال والمزارعون من حياة الحضارة والاستقرار إلى البداوة، بل يحدث العكس. ولما كانت الشعوب السامية قد قضت في أطوارها الأولى حياة بدوية، فلا بد إن يكون وطنها الأول وطنا صحراويا، وجزيرة العرب تصلح إن تكون ذلك الوطن أكثر من أي مكان آخر.
2 - ثبت إن معظم المدن والقرى التي تكونت في العراق أو الشام إنما كونتها عناصر بدوية استقرت في مواضعها، واشتغلت بإصلاح أراضيها و عمرانها، واشتغلت بالتجارة، فنشأت من ذلك تلك المدن والقرى. ولما كانت أكر هذه العناصر البدوية قد جاءت من جزيرة العرب، فتكون الجزيرة قياسا على ذلك الموطن الذي غذى العراق وبادية الشام وبلاد الشام بالساميين، وأرسل عليها موجات متوالية منها.

(1/246)


--------------------------------------------------------------------------------

3 - هناك أدلة دينية ولغوية، وتاريخية وجغرافية، تشير بوضوح إلى إن جزيرة العرب هي مهد السامية ووطن الساميين.
4 - إننا نرى إن جزيرة العرب قد أمد ت العراق وبلاد الشام بالسكان، وأن القبائل الضاربة في الهلال الخصيب قد جاءت من جزيرة العرب، فليس يستبعد إذن إن يكون الساميون قد هاجروا منها إلى الهلال الخصيب.
وقد عارض هذه النظرية طائفة من علماء الساميات، وحجتهم: إن كل ما قيل وذكر من حجج وبينات، لا يدل يقينا على إن جزيرة العرب كانت هي المهد الأصلي للأمم السامية، ونظرت إلى إفريقية على إنها المكان المناسب لأن يكون الوطن الأول للساميين. ومن هذه الطائفة من علماء الساميات "بلكريف"، وقد كون رأيه من وجود تشابه في الملامح، وفي الخصائص الجنسية، وصلات وقد كون رأيه من وجود تشابه في الملامح، وفي الخصائص الجنسية، وصلات لغوية يين الأحباش والبربر والعرب دفعته إلى القول بأن الوطن الأول للساميين هو إفريقية.
وذهب إلى هذا الرأي "جيرلند Gerland"، مستندا إلى الدراسات "الفيزيولوجية" مثل تكوين الجماجم، والبحوث اللغوية. وقد زعم ان شمال إفريقية هو الموطن الأصلي للساميين، وادعى ان الساميين والحاميين من سلالة واحدة ودوحة تفرعت منها جملة فروع، منها هذا الفرع السامي الذي اختار الشرق الأدنى موطنا له.
وهناك نفر من العلماء أيدوا هذه النظرية ودافعوا عنها أو استحسنوها، مثل "برتن Brtin" و "نولدكه" و "موريس جسترو" و "كين" و "ربلي" وغيرهم. ولكنهم اختلفوا أيضا في تعيين المكان الذي نبت فيه الساميون أول مرة في القارة الإفريقية، واختلفوا كذلك في الطريق الذي أوصل السامين إلى جزيرة العرب ، فاختار "برنتن" Brintonشمال غربي إفريقية، ولا سيما منطقة جبال "الأطلس" فجعلها الموطن الأصلي للساميين.

(1/247)

admin
12-25-2010, 09:23 PM
واختار نفر آخر إفريقية الشرقية موطنا أول للساميين، للعلاقات "الأثنولوجية" الظاهرة التي تلاحظ على سكان هذه المنطقة والساميين. وزعم أن الساميين سلكوا في عبورهم إلى آسية أحد طريقين: إما طريق سيناء حيث هبطوا في العربية الحجرية وأناخوا فيها مدة ثم انتشروا منها، وإما طريق المندب حيث دخلوا العربية السعيدة من مواضع مختلفة من الحبشة ومن أرض "فنط Punt". وهي الصومال الحديثة. وقد أكسبتهم أقامتهم في بلاد العرب خصائص جديدة، ووسمتهم بسمات اقتضتها طبيعة الوطن الثاني، ولكنها لم تتمكن من القضاء على الخصائص الأولى التي تشير إلى الوطن الأول قضاء تاما، ولا على الصلة بين اللغات الحامية والسامية التي تسير إلى الأصل المشترك كذلك.
وهذه النظرية، بالرغم من دفاع بعض كبار علماء اللغات والأجناس عنها لا تخلو من ضعف، ومن مواطن ضعفها أنها غضت الطرف عن الاعتبارات التاريخية،واستسلمت لدراسات لم تنضج بعد، فمن الممكن مثلا إرجاع ما لاحظه علماء اللغات السامية واللغة المصرية القديمة إلى عوامل الهجرات السامية من جزيرة للعرب وعن طريق سيناء إلى إفريقية، مثل هجرة "الهكسوس" وهم من أصل سامي جاؤوا مصر من بلاد العرب. وقد ثبت أيضا من تحقيقات العلماء أن كثيرا من الأسماء المصرية القديمة التي كانت تطلق على الأقسام الشرقية من الديار المصرية هي أسماء سامية. وإذا سوغ علماء النظرية الإفريقية لأنفسهم الاستدلال على إفريقية الساميين من وجود القرابة اللغوية بين اللغة المصرية واللغات السامية مثلا، فإن من الممكن إرجاع هذه القرابة إلى أثر الهجرات السامية في اللغة المصرية.

(1/248)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما تقارب الحبشية من اللهجات العربية الجنوبية وكتابة الأحباش حتى اليوم بقلم شبيه بالمسند، فلا يكون دليلا قاطعا على هجرة السامين من إفريقية عن طريق الحبشة إلى جزيرة العرب، إذ يجوز العكس، وقديمة هاجر الساميون من العربية الجنوبية إلى الحبشة. والساميون هم الذين كونوا دولة "أكسوم" التي كانت تتكلم باللغة "الجعزية"، وهي لغة سامية، كما أن قلمها الذي يشبه قلم المسند هو وليد القلم العربي الجنوبي. وكتابات "يها" "محا" المكتوبة بالمسند، في حد ذاتها دليل على أثر العرب الجنوبيين في الإفريقيين "الكوشيين"، وهذه الكتابات حديثة عهد بالنسبة إلى كتابات السبئيين، كما يمتهن اعتبار تشابه أسماء بعض الأماكن القديمة في الحبشة مع نظائر لم في اليمن ووجود معبد في الحبشة خص بالإله "المقة" إله سبا العظيم، وأمور أخرى دينية ولغوية وأثرية، واعتراف الأحباش بأنهم من نسل ملكة سبأ "بلقيس" "ماقدة" من "سليمان الحكيم"، وأن "حبشت" التي لم أخذ الأحباش منها اسمهم في اللغة العربية هي مقاطعة تقع في العربية الجنوبية في رأي أكثر العلماء، وأن "الأجاعز" أصحاب اللغة الجعزية هم اقدم ممن هاجر من اليمن إلى الحبشة، ووجود صلات قديمة ببن الساحلين الإفريقي والعربي، إذا نظرنا إلى كل هذه الأمور نظرة علمية. دقيقة، تجد أنها تجعل أمام القائلين إن أصل الساميين من إفريقية صعوبات ليس من السهل التغلب عليها، ولا سيما إذا أضفنا اليها الأثر الذي تركته اليهودية والنصرانية في الأحباش وفي الشعوب الكوشية الأخرى، فقرب ثقافتها من الثقافة السامية وأثر في لغتها، وهو أثر يجب أن يقام له وزن عند بحث هذا الموضوع.

(1/249)


--------------------------------------------------------------------------------

ثم ان كثيرا من علماء "الأنثروبولوجي" يرون أن إفريقية تأثرت بالسماء الأسيوية. أما تأثيرها في دماء أهل الشرق الأدنى وفي سماء سكان جزيرة العرب، فقد كان قليلا لقد دخلت اليها دماء شعوب الشرق الأدنى من البحر المتوسط ومن طور سيناء ومن مضيق باب المندب. ويظهر أثر هذا الاختلاط واضحا في إفريقية الشرقية وإفريقية الشمالية، وما زال هذا التأثر واضحا حتى اليوم. ولهذا فإن من الصعب تصور هجرة السامين من أفريقية إلى جزيرة العرب وبلاد الشام والعراق على وفق نظرية هؤلاء العلماء.
ومن القائلين إن المهد الأصلي للساميين هو أرض إرمينية "جون بيترس"، وحجته في ذلك أن هذا المحل هو أنسب مكان يتفق مع رواية التوراة في الطوفان، وهو المحل الأصلي للأمم السامية والآرية. ثم إن الأنف الحثي يشبه كل الشبه الأنف العبراني، وفي هذه التسمية دلالة على المكان، وقد نسي أن العرب وهم من الساميين لم يرزقوا هذا الأنف.
وقد ذهب "أنكناد" "Ungnad" إلى أن أصل الساميين من أوروبة، وقد تركوها وهاجروا منها إلى آسية الصغرى، ثم هاجروا منها إلى أرض "أمورو" "Amurru"، وذهب قسم منهم في الألف الرابعة قبل الميلاد إلى بابل وبقية أنحاء العراق.
وذهب "كلي" إلى ان الوطن الأصلي للسامين هو أرض "أمورو" "Amurru" "الأمريين" وتشمل هذه الأرض، في رأيه، بلاد الشام ومنطقة الفرات. من هذه المنطقة هاجر الساميون، وهو قد توصل إلى نظريته هذه من الدراسات اللغوية، ولكنها لا تستند في الواقع إلى أدلة قوية. والأموريون من الشعوب السامية القديمة التي سكنت في فلسطين والشام وإقليم بابل.

(1/250)


--------------------------------------------------------------------------------

وذهب آخرون إلى أن الوطن الأول الأصل للساميين هو أرض "قفقاسية"، إذ كان البشر من ثلاثة أجناس أساسية، هي: الجنس القفقاسي "Caucassids" والجنس المنغولي "Mongoloids" "الآسيويين"، والجنس الزنجي "Negroids". وقد قصدوا بالجنس القفقاسي أصحاب البشرتين البيضاء والسمراء، أي الآريين والساميين. فوطن هذين الجنسين الأول هو "قفقاسية" على هذا الرأي. منه انتقل الساميون إلى أوطانهم الجديدة، بهجرتهم إلى الجنوب واستقرارهم فيما يقال له "الهلال الخصيب"، ثم فيما وراءه إلى السواحل الجنوبية لجزيرة العرب، ومنه انتقل الآريون إلى الجنوب الشرقي لقفقاسية وإلى الغرب والشمال، أي إلى آسية وأوروبة ثم إلى أماكن أخرى فيما بعد.
وهجرات على هذا النحو، لا بد أن تكون لها أسباب ومسببات، اذ لا يعقل ترك إنسان لوطنه من غير سبب. وقد بحث القائلون بهذا الرأي عن الأسباب التي أدت إلى وقوع تلك الهجرات، فوضعوا لهم جملة فرضيات.
ظهر الساميون على مسرح الوجود في الألف الثالثة قبل الميلاد، واستقروا في هذه الأرضين التي اصطبغت بالصبغة السامية، وهي الهلال الخصيب وشبه جزيرة سيناء وجزيرة العرب، حيث تعد اليوم المواطن الرئيسية للساميين.
وقد توسط بعض الباحثين بين الآراء المتباينة، عن الوطن الأول للجنس السامي، فذهب إلى أن الهلال الخصيب وأطراف جزيرة العرب هي الموطن الأول للساميين والميدان الذي وجسوا فيه منذ أقسم أيامهم، وقد كان هذا الميدان موضع صراع بين البداوة والحضارة، فقد كان البدو يهاجمون الحضر سكان القرى والمدن، والبدو هم من الساميين، وكثير من الحضر كانوا من الساميين أيضا، ومن هذا التنازع على الحياة تكون تاريخ الساميين في هذه المنطقة الواسعة من الهلال الخصيب التي تهدها من الشرق والشمال والغرب الجبال والتي تمتد فتشمل كل جزيرة العرب.
الهجرات السامية

(1/251)


--------------------------------------------------------------------------------

تقول كل النظريات التي رأيناها عن أصل الوطن السامي، بهجرات الساميين من ذلك الوطن الأم إلى أوطان أخرى في أزمان مختلفة متباينة، وذلك لأسباب عديدة منها: ضيق أرض الوطن من تحمل عدد كبير من الناس، وتزاحم الناس كل الرزق، مما دعاهم إلى التحاسد والتباغض والتفتيش عن وطن جديد، وظهور تغيرات في طبيعة ذلك الإقليم، إلى عوامل أخرى.
وقد تصور القائلون ان جزيرة العرب هي مهد الجنس السامي، بلاد العرب كخزان هائل يفيض في حقب متعاقبة، تبلغ الحقبة منها زهاء ألف عام، بما يزيد على طاقته من البشر إلى الخارج، يقذف بهم موجات أطلقوا عليها "الموجات السامية".
وقد علل القائلون بنظرية أن جزيرة العرب هي مهد الجنس السامي، سبب هذه الهجرات بعدم استطاعة جزيرة العرب تبول عدد كبير من السكان يزيد على طاقتها، فلا يبقى أمامهم غير سلوك طريق الهجرات إلى الأماكن الخصبة في الشمال. وقد كانت الطرق الساحلية من أهم المسالك التي أوصلت المهاجرين إلى أهدافهم.
وفي جملة أسباب ضيق جزيرة العرب عن استيعاب العدد الكبير من السكان تغير مستمر طرأ عليها، أدى إلى انحباس الأمطار عنها وشيوع الجفاف فيها مما أثر على قشرنها وعلى أحيائها، فهلك من هلك وهاجر من هاجر من جزيرة العرب، وقد استمر هذا التغير آلافا من السنين حتى حول بلاد العرب أرضين غلبت عليها الطبيعة الصحراوية، وقلت فيها الرطوبة، وغلب على أكر بقاعها الجفاف.

(1/252)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد رأى بعض العلماء أن جزيرة العرب كانت في عصر "البلايستوسين" "Pleistocene" حصبة جدا كثيرة المياه، تتساقط عليها الأمطار بغزارة في جميع فصول السنة، وذات غابات كبيرة وأشجار ضخمة، كالأشجار التي نجدها في الزمان الحاضر في الهند وإفريقية، وأن جوها كان خيرا من جو أوروبة في العصور الجليدية التي كانت تغطي الثلوج معظم تلك القارة، ثم أخذ الجو يتغير في العالم، فذابت الثلوج بالتدريج، وتغير جو بلاد العرب بالطبع، حدث هذا التغير في عصر ال "نيوليتتك Neolithic" أو في عصر ال "كالكوليتك" "Chalcolithic"، ولم يكن هذا التغير في مصلحة جزيرة العرب، لأنه صار يقلل من الرطوبة ويزيد في الجفاف، ويحول رطوبة التربة إلى يبوسة فيميت الزرع بالتدريج، ويهيج سطح القشرة فيحولها رمالا وترابا ثم صحارى لا تصلح للإنبات ولا لحياة ا لأحياء.
فاضطر سكان الجزيرة الذين كانوا من الصيادين إلى أن يكيفوا أنفسهم بحسب الوضع الجديد، فأخذ ناس منهم يهاجرون إلى مناطق أخرى ملائمة توائم حياتهم ومزاجهم، وأخذ ناس آخرون يعتمدون على الزرع وتدجين الحيوانات، وعلى الاكتفاء بصيد ما يرونه من حيوانات تحملت الجو الجديد متنقلين من مكان إلى مكان حيث الكلأ والماء. وهكذا تعرضت حياة الأجسام الحية من نبات وحيوان لتغيرات تدريجية مستمرة، فرضها عليها تغير الجو.
وقد أسى انحباس المطر وازدياد الجفاف ويبوسة الجو إلى انخفاض الرطوبة من سطح الأرض، وهبوط مستوى الماء بالتدريج عن قشرة الأرض، وظهور الأملاح في الآبار، وجفاف بعض الآبار، فأدى ذلك إلى ترك الناس هذه الأماكن، إذ صعب عليهم استغلالها بالزراعة، وإصلاحها بحفر آبار لا تساعد مياهها الملحة على نمو النبات، ومعيشة الحيوان. حدث ذلك حتى في العصور الإسلامية حيث نسمع شكاوى مريرة من هذه العوارض الطبيعية.

(1/253)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد تحدث "فلي" عن هبوط مستوى مياه بعض الآبار التي زارها عام 1917 م في الخرج، كما تحدث غيره من السياح عن حوادث مشابهة حدثت في تهامة والحجاز وأماكن أخرى.
ويعزو علماء طبقات الأرض انخفاض مستوى سطح الماء في جزيرة العرب إلى عوامل أخرى، إضافة إلى الجفاف مثل هبوط درجات الضغط على قشرة الأرض. وقد رأى الخبر الأمريكي "تويجل" "Twitchell"، أن الماء قد انخفض زهاء سبع وعشرين قدما عن مستواه الذي كان عليه قبل ألفي عام. ومن العلماء من يرى أن مستوى سطح الماء في البحر الأحمر وفي الخليج العربي قد انخفض كذلك، فذهب بعض علماء دراسة التوراة إلى أن مستوى سطح الماء في خليج السويس قد انخفض "25" قدما عما كان عليه في "أيام الخروج - Exodus". وذهبت جماعة منهم إلى أن هذا الهبوط لم يكن كبرا، وإنما بلغ زهاء ست أقدام أو أقل من ذلك في خلال ثلاثة آلاف سنة. اما مستوى سطح الخليج العربي، فقد هبط على راي بعضهم زهاء عشر أقدام أو خمس أقدام خلال ألفي عام، وان ماء البحر قد تراجع في هذه المدة، ويستدلون على ذلك بوجود السباخ في الأحساء والقطيف، وهي، في رأيهم، من بقايا تأثر البحر في الأرض وبما ذهب اليه بعضهم من أن الربع الخالي، وقد عثر فيه على بقايا بحر واسع في السهل المنخفض الذي يقال له أبو بحر، كان متصلا بالبحر العربي. ومهما يكن من شيء، فإن هبوط. مستوى سطح الماء مهما كان مقداره قد أثر في سطع الأرض.
وقد وجد السياح محارا من النوع الذي يكون في المياه العذبة، وأدوات من للصوان ترجع إلى ما قبل التاريخ والعصور الحجرية، وبقايا عظام ترجع إلى هذه العصور في مناطق صحراوية، ويدل وجودها فيها على أنها كانت مأهولة، وأنها لم نهمل إلا لعوارض طبيعية قاهرة لم يكن من الممكن التغلب عليها، حولت تلك المناطق الخصبة في ألوف من السنين إلى مناطق لا تتوفر فيها شروط الحياة، فهجرت.

(1/254)


--------------------------------------------------------------------------------

كما أننا نجد في الكتب العربية ذكر أشجار ضخمة كانت تنمو في مناطق لا تنبت شيئا ما في الزمان الحاضر، وذكر مناطق كانت تحمي، يقال لها "الحمى" وقد جف معظمها، وعاد أرضين قفرة جردء، فهلاك هذه النباتات وجفاف هذه الأرضين، لا يمكن أن يعزى إلى سوء الأوضاع السياسية وهجرة القبائل والمزارعين إلى أماكن أخرى لفساد الإدارة في الأماكن البعيدة حسب، بل لا بد ان يكون للطبيعة يد في هذا التحول ونصيب. إن هذا التغير الذي حدث في جو جزيرة العرب، فساعد على ازدياد الجفاف وانحباس الأمطار، قد أباد النباتات، وقاوم نمو المزروعات، وعفى على الأشجار الضخمة التي كانت تعيش من امتصاص جذورها العميقة للرطوبة من أعماق الأرض، كما أثر في حياة الحيوان كالأسد الذي قل وجوده، وقد كان كثير الوجود، ويدل على كثرة وجوده هذه الأسماع الكثيرة التي وضعت له وحفظت في كتب اللغة. وحمار الوحش وقد كان من الحيوانات التي يخرج الناس لصيدها في الحجاز وفي نجد، والنعامة. والرئم أو بقر الوحش، والفهد، والنسر.

(1/255)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن العلماء الذين نسبوا هجرة الساميين من جزيرة العرب إلى خارجها، إلى عامل الجفاف والتغير الذي وقع في جو جزيرة العرب، العالم الايطالي "كيتاني" "L.Caetani". لقد تصور "كيتاني" بلاد العرب في الدورة الجليدية جنة، بقيت محافظة على بهجتها ونضارنها مدة طويلة وكانت سببا في رسم تلك الصورة البديعة في مخيلة كتاب التوراة عن "جنة عدن". وجنة عدن المذكورة في العهد القديم هي هذه الجنة التي كانت في نظر "كيتاني" في جزيرة العرب، غير أن الطبيعة قست عليها، فأبدلتها صحارى ورمالأ، حتى اضطر أصحابها إلى الارتحال عنها إلى أماكن تتوافر فيها ضروريات الحياة على الأقل فكانت الهجرات إلى العراق وبلاد الشام ومصر والمواطن السامية الأخرى. وكانت هذه الهجرات كما يقول قوية وعنيفة بين سنة 2500 وسنة 1500 قبل الميلاد، فدخل الهكسوس أرض مصر، وهاجر العبرانيون إلى فلسطين، ثم ولي ذلك عدد من الهجرات.
ويرى "كيتاني" أن هذا التغير الذي طرأ على جو جزيرة العرب، إنما ظهر قبل ميلاد المسيح بنحو عشرة آلاف سنة، غير أن أثره لم يبرز ولم يؤثر تأثيرا محسوسا ملموسا إلا قبل ميلاد المسيح بنحو خمسة آلاف سنة. وعندئذ صار سكان بلاد العرب، وهم الساميون، ينزحون عنها أمواجا، للبحث عن مواطن أخرى يتوفر فيها الخصب والخير، وحياة أفضل من هذه الحياة التي أخنف تضيق منذ هذا الزمن.
وقد تصور "كيتاني" أودية جزيرة العرب، مثل وادي الحمض ووادي السرحان ووادي الرمة ووادي الدواسر، أنهارا كانت ذات مياه غزيرة تنساب أليها من المرتفعات والجبال في الدهور الغابرة، أثرت فيها التغيرات الطبيعية المذكورة، فقلت من مياهها حتى جفت، فصارت أودية، لا تجري فيها المياه إلا أحيانا، إذ تسيل فيها السيول بعد هطول الأمطار.

(1/256)

admin
12-25-2010, 09:24 PM
وقد ذهب إلى هذا الرأي المستشرق الألماني "فرتز هومل" أيضا، فرأى أن الأنهر المذكورة في التوراة على أنها أنهر جنة "عدن"، هي أنهر تقع في بلاد العرب، وأن الأنهر المشار أليها، هي وادي الدواسر، و وادي الرمة، ووادي السرحان، ووادي حوران. وأما "كلاسر"، فذهب إلى أن نهري "جيحون" و "فيشون"، وهما من أنهر "جنة عدن" الأربعة في رواية التوراة، هما في جزيرة العرب.
ويعتقد "كيتاني" أن الفيلة والحيوانات الضخمة التي يندر وجودها اليوم في بلاد العرب، كانت موجودة فيها بكثرة، ولا سيما في أرض "مدين". وكان الصيادون يخرجون لاصطيادها لأكل لحومها. وقد جاء بأمثلة لتأييد رأيه من كتب "الكلاسيكيين".
وقد قسم "كيتاني" جزيرة العرب إلى قسمين: غربي وشرقي. أما القسم الغربي، فهو الذي على ساحل البحر الأحمر الشرقي، وفيه سلاسل جبلية ومرتفعات. و أما القسم الشرقي، فالأرضون التي تأخذ في الانحدار والميل. وهي عند السفوح الشرقية للجبال، وتمتد نحو الخليج. وقد كان سكان المناطق الغربية -في رأيه - في مستوى راق من المدنية، وكان لهم سلطان كبير على المناطق الشرقية، وعلى سكانها الذين كان يغلب عليهم الفقر. وقد كان فعل الجفاف أشد وأسرع في الأرضين الشرقية منه في الأقسام الغربية، لذلك بدأت الهجرات من هذه المناطق قبل المناطق الغربية، وظهرت فيها البداوة بصورة أوضح من ظهورها في الأرضين التي على ساحل البحر الأحمر والمتصلة باليمن وبلاد الشام. ولما توسعت منطقة الجفاف وأخذت الرطوبة تقل في جو بلاد العرب الغربي، ظهرت أعراض الصحراوية في تلك الأرضين كنللك، واضطر السكان إلى الهجرة منها إلى مناطق أخر ى.

(1/257)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد لاقت نظرية "كيتاني" هذه رواجا بين عدد كبير من المستشرقين، واعتدها "السير توماس أرنولد" من أهم النظريات التي اكتشفها المؤرخون الحديثون بالنسبة إلى التاريخ العربي. غير أن المستشرق "الويس موسل"، يرى أنها لا تستند إلى أسس تاريخية، ولا إلى أدلة علمية، وأن القائلين بها قد بالغوا فيها مبالغة كبيرة، ويرى أنه ما دامت البحوث "الجيولوجية التي قام بها العلماء في مراحلها الأولى، قد جرت في مناطق محدودة فلم تفحص أكثر مناطق جزيرة العرب فحصا علميا فنيا، حتى الآن، فلا يصح الاعتماد على فرضيات، تبنى عليها آراء ثابتة. ولهذا فهو يرى أن الأدلة "الجيولوجية" التي استشهد بها "كيتاني" ضعيفة وغير كافية، فهي لا تستحق مناقشة، واكتفى بمناقشة الأدلة التأريخية.

(1/258)


--------------------------------------------------------------------------------

يرجع "موسل" سبب الهجرات، وتحول الأرضين الخصبة صحارى، إلى عاملين هما: ضعف الحكومات، وتحول الطرق التجارية. فضعف الحكومات ينشأ عنه تزعم سادات القبائل و الرؤساء، و انشقاقهم على الحكومات المركزية، ونشوب الفتن والاضطرابات واشتعال نيران الحروب، وانصراف الحكومة والشعب عن الأعمال العمرانية، وتلف المزارع والمدن، وتوقف الأعمال التجارية وحصول الكساد، وانتشار الأمراض والمجاعة، والهجرة إلى مواطن أخرى يأمن فيها الإنسان على نفسه و أهله وماله. فخراب سد "مأرب" مثلا لا يعود إلى فعل الجفاف الذي أثر على السد كما تصور ذلك "كيتاني"، بل بعود إلى عامل آخر لا صلة له بالجفاف، هو ضعف الحكومة في اليمن، وتزعم "الأقيال" و "الأذواء" فيها، وتدخل الحكومات الأخرى في شؤون العربية الجنوبية كالحبشة والفرس، مما أدى إلى اضطراب الأمن في اليمن، وظهور ثورات داخلية وحروب، كالذي يظهر من الكتابات التي تعود إلى النصف الثاني من القرن للسادس للميلاد، فألهى ذلك الحكومة عن القيام بإصلاح السد، فتصدعت جوانبه، فحدث الانفجار، فخسرت منطقة واسعة من أرض اليمن مورد عيشها الأول، وهو الماء، ويبست المزارع التي كانت ترتوي منه، واضطرت القبائل وأهل القرى والمدن الواقعة فيها إلى الهجرة إلى مواطن جديدة. وتصدع السد بسبب ضغط الماء على جوانبه،هو في حد ذاته دليل على فساد نظرية الجفاف.

(1/259)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرى "موسل" أن التقدم الذي حدث في البلاد العربية بعد القرن التاسع عشر دليل آخر على فساد نظرية "كيتاني"، فقد ظهرت مدن حديثة، وعمرت قرى، وشقت ترع، وحفرت آبار، وعاش الإنسان والحيوان والنبات في مناطق من العراق وسورية ولبنان وفلسطين والأردن كانت تعد من الأرضين الصحراوية. فليس الجفاف هو المانع من عمارة هذه المناطق، والسبب في تكون هذه الصحارى، بل السبب شيء آخر، هو ضعف الحكومات وانصرافها عن العمارة وعن المحافظة على الثروة الطبيعية وضبط الأمن، ووقوفها موقف المتفرج تجاه قطع الناس للأشجار واستئصالها لاستخراج الفحم منها، أو لاستعمال خشبها في أغراض أخرى، وقتال القبائل بعضها ببعض، هذا وان من الممكن إعادة قسم من الأرضن الجرد إلى ما كانت عليه، إذا ما تهيأت لها حكومة قوية رشيدة تنصرف إلى حفر الآبار، و إقامة السدود، وغرس الجبال، وإنشاء الغابات، والاستفادة من مياه العيون.
وبرى "موسل" أيضا أن ما ذكره "كيتاني" عن الأنهار في جزيرة العرب مسالة لا يمكن البت فيه ألان، لقلة الدراسات العلمية، كما ان ما ذكره عن انعدام أجناس من الحيوانات، ليس مرده إلى الجفاف وعدم احتمال تلك الحيوانات الجو الجديد، فهلكت، أو هاجرت إلى مواطن جديدة، بل مرده في نظره إلى اعتداء الإنسان عليها، وقتله اياها. ودليله على ذلك أن الحيوانات التي ورد ذكرها في كتب "الكلاسيكيين" لا تزال تعيش في المناطق التي عينها أولئك الكتاب، ولكنها بقلة. كذلك نجد الهمداني وغيره ينكر وجود الأسد و حيوانات أخرى في مواضع قل فيها وجودها الأن، وهذا مما يشير إلى أن هذه الحيوانات لم تنقرض أو تقل بفعل تبدل الجو، بل بفعل اعتداء البشر عليها، وان اعتداء البشر على الحيوان شر من اعتداء الطبيعة عليه.

(1/260)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا يوافق "موسل" على نطرية "كيتاني" في هجرة القبائل العربية من الجنوب إلى الشمال، أو من الشرق إلى الشمال. وقد رأى "كيتاني" كما سبق أن ذكرنا تقسيم جزيرة العرب إلى قسمين: قسم غربي وهو الممتد من فلسطين إلى اليمن، وينتهي بالبحر العربي، وتكون حدوده الشرقية "السراة" والغربية البحر الأحمر ومضيق باب المندب. وقسم شرقي، وهو ما وقع شرقي "السراة" إلى الخليج والبحر العربي.
وقد ظهر الجفاف في رأي "كيتاني" في القسم الشرقي قبل الغربي، وهذا صار سكانه يهاجرون منه بالتدريج إلى مواطن جديدة صالحة للاستيطان مثل العراق والشام، كما صار سببا لظهور الصحارى الشاسعة في هذا القسم بصورة لا نعهدها في القسم الغربي. و يرى "موسل" أن هذا التقسيم لا يستند إلى أسس طبيعية و جغرافية، ولا إلى أراء "الكلاسيكين"، أو علماء الجغرافية العرب، أو غيرهم و انه مجرد رأي لا يكون حجة لإثبات هذا الرأي.

(1/261)


--------------------------------------------------------------------------------

و لموسل رأي في الهجرات، يرى أن ما قاله "كيتاني" و غيره عن الهجرات من جزيرة العرب، من اليمن أو من نجد إلى الشمال، قول لا يستند إلى دليل تاريخي قوي. فليست لدينا حتى ألان براهين كافية تثبت - على حد قول موسل- أن أصل "الهكسوس" أو "العبرانيي" مثلا من جزيرة العرب. كما إن ما ادعاه "كيتاني" عن استمرار الهجرات من الألف الثالث أو قبل ذلك قبل الميلاد إلى القرن السابع بعد الميلاد قول لا ينطبق مع المنطق. فلم ضلت هذه الهجرات مستمرة إلى أن توقفت بعد القرن السابع للميلاد? أزدادت الرطوبة و تحسن الجو? أم أن القبائل الكبيرة قد تجزأت إلى قبائل صغيرة و عشائر و أفخاذ، فأصبح في إمكانها العيش بعض الشيء في محال صغيرة، لا تحتاج إلى مراعي شاسعة ، و لا إلى مياه غزيرة? فلم تدفعها الحاجة منذ هذا العهد إلى الهجرة في شكل موجات كبيرة و هل كان الجفاف هو المانع من مهاجمة حدود الإمبراطورتين البيزنطية و الساسانية كانتا قد سدتا أبواب جزيرة العرب على اهلها، فلم تسمحا بتخطي هذه الحدود? و يرى إن ما ادعاه "كيتاني" من أن الجفاف والجوع حملا قبائل اليمن على الهجرة إلى الهلال الخصيب حيث نزلت في أرضين كانت خالية مهجورة على أطراف الفرات والشام، فألفت حكومتي "المناذرة" و "الغساسنة"، قول لا يؤيده ما جاء في الكتب "الكلاسيكية" وفي المصادر "السريانية" من أن تلك الأرضين كانت عامرة، آهلة بالسكان، تمر بها الطرق التجارية العالمية. ويرى "موسل" أن الحكومتين "اللخمية" و "الغسانية" إنما ظهرتا بعد سقوط "تدمر" وقد أسس الدولتين "مشايخ من أهل الهلال الخصيب،ولم يكونوا مهاجرين وردوا من الجنوب، أو من العروض على نحو ما تزعمه بعض الروايات.

(1/262)


--------------------------------------------------------------------------------

و يأخذ "موسل" على "كيتاني" تصديقه الرواية العربية عن هجرة القبائل ونظريتها في الأنساب، واعتدادها من جملة الأدلة التي تثبت نظرية الجفاف. ويرى أنها - مع التسليم بصحتها - تنطبق على الوضع الذي كان في القرن السابع للميلاد وفي الجاهلية القريبة من الإسلام، وأنها رواية تستند إلى خبر مسوغ لا يصح أن يكون سندا في إثبات الهجرات لما قبل الميلاد.
ويمكن تفسير انتساب القبائل - على حد قول موسل - بصورة أخرى، هو ان العرب الجنوبيين كانوا قد هيمنوا في الجاهلية وقبل الإسلام بقرون على الطريق التجارية التي تصل الشام باليمن وعلى الطرق التجارية الأخرى، وكانت لهم حاميات فيها لحماية القوافل من غارات الأعراب، فلما ضعف أمر حكومات اليمن، استقلت هذه الحاميات، وكان كثيرا من أفرادها قد تزاوجوا مع من كان يجاورهم من القبائل، واتصلوا بهم. ولما كان لليمن مقام عظيم وشر ف بين القبائل، انتسب هؤلاء إلى اليمن، وصاروا يعدون أنفسهم مهاجرين، يتصل نسبهم بنسب اليمن. ومن هنا نشأت، في رأي "موسل" أسطورة الأنساب ثم جاء علماء الأنساب في "المدينة" و "الكوفة" فسجلوها على أنها حقيقة واقعة، ومنهم انتقلت إلى كتب التأريخ، فتوسعت وتضخمت في الإسلام.
ويدعي "موسل" أنه لو كانت هنالك هجرات حقا، لرأينا أثرها في لغة القبائل النازحة إلى الشمال وفي عقيدتها الدينية وفي ثقافتها وفي أساطيرها وفي قصصها الشعبي، ولوجدنا في أقل الأحوال إشارة في الكتابات العربية الجنوبية التي تعود إلى ما قبل الإسلام. ولكننا لا نجد في شيئا من ذلك، وهذا مما يفند رأي القائلين بالهجرات، وبان أصل كثير من القبائل التي كانت تقيم في شمال جزيرة العرب، ومن هؤلاء الغساسنة والمناذرة، هم من اليمن.

(1/263)


--------------------------------------------------------------------------------

ويعترض "موسل" أيضا على دعوى "كيتاني" وغيره من المستشرقين ممن زعموا أن الفتح الإسلامي هو آخر هجرة سامية قذفت بها جزيرة العرب إلى الخارج، وأنها كانت بسبب الجفاف والجوع، ويرى أن ما جاء في هذه الدعوى لا يتفق مع الحقيقة، وأن ما ذكوه "كيتاني" عن عدد نفوس الحجاز مبالغ فيه، وأن الجيوش التي اشتركت في فتح العراق والشام وفلسطين لم تكن حجازية أو نجدية حسب، بل كانت فيها قبائل عراقية وشامية نصرانية، ساعدت أبناء جنسها العرب مع اختلافها مع المسلمين في الدين، وحاربت الروم والفرس، ولذلك فليست الفتوحات الإسلامية هجرة من جزيرة العرب إلى الخارج على نحو ما تصوره "كيتاني" بدافع الفقر والجوع.
والرأي عندي أن ما يسمى بموضوع تغير الجو في جزيرة العرب وبالهجرات للسامية والاستشهاد بآثار السكنى عند حافات الأودية وفي أماكن مهجورة نائية، لأتخاذ ذلك دليلا على الوطن السامي وعلى هجرة الساميين، هو موضوع لم ينضج بعد، وهو لا يزال بعد يحتاج إلى دراسات علمية وإلى نتائج أبحاث علماء "الجيولوجيا" والعلوم الأخرى، ليقولوا كلمتهم في هذا الموضوع. فعلى بحث هؤلاء يتوقف الحكم في موضوع تطور الجو وتغير الإقليم. أما الحدس والتخمين، وأما الاعتماد على حوادث وعلى بحوث لغوية ومقابلات ومطابقات في أمور دينية ثقافية أخرى، فأنها لا تكفي في نظري للبت في قضايا يجب أن يكون فيها الحكم والكلمة لمعلوم لا للحدس والتصور والتخمين. هذا هو رأيي الآن في هذا الموضوع، وفي كل الآراء الواردة عن مواطن الساميين.

(1/264)


--------------------------------------------------------------------------------

فقد رأينا أن بعض تلك الآراء إنما قيلت لاعتقاد أصحابها بما ورد في التوراة، فجاءت بكل ما عندها من حجج وأدلة لإثبات رأيها هذا، ورأينا لن في بعض الأدلة متناقضات و استشهادات ضعيفة، ورأينا أن الاستشهاد باشتراك اللغات في الألفاظ لا يمكن أن يكون دليلا قاطعا على الأصل المشترك، ثم إننا لا نملك سجلا تاريخيا للنبات والحيوان ولظهور الألفاظ حتى نستشهد به في إثبات نظرية من النظريات، كل ما لدينا من هذا النوع إنما هو مجرد رأي وحدس. والرأي لا يكون رأيا علميا إلا بحجة قاطعة وبدليل علمي دامغ وبحوث مختبرية وآثار تثبت ذلك للعيان، فمن حقي إذن أن ألتزم التريث والانتظار وأستعجل العلماء المتخصصين في دراسة طبقات الأرض، لنرى نتائج بحوثهم لنستنير بها في إعطاء أحكام في هذه الآراء.

(1/265)


--------------------------------------------------------------------------------

أما بعض الأمثلة التي استشهد بها لإثبات تغير جو جزيرة العرب، فهي أمثلة لا يمكن أن تكون دليلا للتغير، وإنما ترجع إلى عوامل أخرى مثل تغير طريق القوافل، وتغير اتجاهات السفن البحرية، وإلى الفتن والحروب وغارات القبائل المتوالية التي هي من شر الأوبئة التي فتكت بالمجتمع العربي، فسببت هرب الحضر من أماكن إقامتهم إلى أماكن أخرى، لعدم وجود قوات نظامية وحكومة ترد اعتداءات الأعراب عليهم، ثم الحروب الأهلية التي وقعت في اليمن بين الحبش وأهل اليمن وأمثال ذلك مما وقع بين الفرس والعرب. أما في الإسلام، فقد كان للفتوحات دخل كبير في هجرة القبائل لنشر الإسلام وللاستمتاع بخيرات بقاع جديدة في العراق وفي بلاد الشام وفي أمكنة أخرى لا يوجد لها مثيل في جزيرة العرب، فتخربت لذلك بعض القرى والسدود القديمة التي كانت في الإسلام، وهي اليوم خراب. أضف إلى ذلك الحروب والفتن التي وقعت في اليمن وفي باقي العربية الجنوبية والعروض في أيام الأمويين والعباسين وفي الأيام التي تلتهم، فنشرت في تلك الديار الخراب، ثم إهمال الأمويين ومن جاء بعدهم من خلفاء وملوك وحكام شأن جزيرة العرب، لفقرها وعدم وجود موارد غنية فيها، وانتقال أصحابها أصحاب الجاه والنفوذ إلى البلاد الغنية، ولم يبق من يدافع عنها ويتحدث بلسانها باعتبارها مهد العرب الأول ومهد الإسلام، فتقوى الخراب بذلك على العمار، وأخذ يبتلع ما يجده أمامه من مستوطنات حتى وصلت إلى ما وصلت أليه اليوم.

(1/266)

admin
12-25-2010, 09:40 PM
والدليل على ذلك، ورود أسماء مواضع عديدة في اليمامة وفي الحجاز وفي نجد واليمن وفي كل أنحاء جزيرة العرب الأخرى في الموارد العربية الإسلامية، كانت مأهولة مزروعة في صدر الإسلام، خربت وهجرت وصارت أثرا، وقد ذهب عن أكثرها حتى الاسم. فلما كتب عنها الجغرافيون لم يجدوا من عمرانها شيئا. بل نجد في كتب الجغرافيين أسماء مواضع نزلوا بها وأقاموا فيها، وكانت معمورة مسكونة. أما اليوم فلم يبق من أكثرها شيئا، فهل نرجع فعل هلاكها إلى الجفاف وتغير الجو وإلى اندثار الواحات والبحيرات والأنهار? إن الجغرافيين المذكورين لم يشيروا إلى وجود واحات وبحيرات وأنهار حتى نقول بفعل الجو فيها، بل هنالك عوامل أخرى عديدة اضطرت الناس إلى ترك مواطنهم تلك التي ذكرتها، وفي مقدمتها الفتن والغزو وتغير الطريق وعدم قيام حكومة قوية تحمي الأمن.

(1/267)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما موضوع الاستشهاد بالهجرات، فإنه موضوع غامض محتاج إلى دراسة علمية عميقة، فالذين يرون أن جزيرة العرب كانت مهد الجنس السامي،وضعوا نظريتهم هذه قياسا على روايات أهل الأخبار من أمر هجرة العرب إلى تلك الأرضين، ومن الفتح الإسلامي الذي جرف قبائل عدنانية وقحطانية فساقها إلى بلاد العراق وبلاد الشام وإلى ما وراء هذه الأرضين، ومن هجرة قبائل من جزيرة العرب إلى تلك البلاد حتى الزمن القريب،ومن أخبار عن هجرة الفينيقيين من البحرين إلى بلاد الشام. ولكننا تجد من ناحية أخرى ان التوراة تذكر آن الاسماعيليين هم سكان أرضين تقع في الأقسام الشمالية الغربية من جزيرة العرب وفي شرق فلسطين في البادية وفي طور سيناء، والأخباريون يذكرون أن العدنانيين هم من سلالة اسماعيل أي أنهم اسماعيليون، ويذكرون أنهم جاؤوا من الشمال فسكنوا الحجاز، وأن جدهم رفع قواعد البيت الحرام، ونرى أن اليهود زحفوا من فلسطين نحو الحجاز، وأن أقواما من سكان العراق زحفوا نحو الجنوب فسكنوها في العروض. وان قبائل عراقية كالقبائل العبرانية هاجرت من العراق إلى بلاد الشام ثم إلى مصر ثم عادت إلى بلاد الشمام، فمثل هذه الهجرات تلفت النظر وتجعل الباحث يبحث عن أمثلة أخرى من هذا القبيل، لعله يجد غيرها أيضا. وهي تجعله يشعر أن الهجرات لم تكن دائما في اتجاه واحد، بل كانت حركة دائمة نتجه مختلف الاتجاهات، لعوامل سياسية واقتصادية وحربية ساحتها من شمال بلدية الشام إلى سواحل البحر العربي في الجنوب، ومن سواحل البحر الأحمر إلى سواحل الخليج العربي، فهي ليست هجرات بالمعنى الذي نفهمه من الهجرات في لغة علماء الساميات، ذات أزمان معينة لها أمد محدود كألف عام أو أكثر من ذلك أو أقل، و بمقياس ضخم كبير، بل هي حركة دائمة لقبائل أو لجماعات تتنقل من مكان إلى مكان طلبا للمعاش أو لأحوال سياسية وحربية، فهي هجرة بهذا المعنى إذن ليس غير. فهذه الأرضون التي تشمل كل جزيرة

(1/268)


--------------------------------------------------------------------------------

العرب والعراق إلى حدود الجبال وكل البادية الواسعة حتى سواحل البحر الأبيض فطور سيناء إلى نهر النيل، هي مواطن الساميين، ومسارحهم التي كانوا وما زالوا يدرجون عليها. وقد درجت عليها أقوام أخرى أيضا ليست بأقوام سامية، قبل الميلاد وبعده، بل حتى في زمن الاسلام، ولكنها غلبت على أمرها، وصهرت في بوتقة الساميين، أمثال الفرس واليونان والرومان والصليبيين. فقد بقي من هؤلاء خلق اندمجوا بهم وتخلقوا بأخلاقهم وتكلموا بألسنتهم بمر السنين، حتى صاروا مثلهم ومنهم، وبذلك امتزجت دماء الساميين بدماء غريبة عنهم فدمهم من هنا ليس بدم صاف نقي، وليس في الأجناس البشرية جنس يستطيع أن يفخر فخرا مطلقا بكونه الجنس النقي الخالص الذي لم يختلط قط بأي دم غريب.
أضف إلى ما تقدم أن العلماء القائلين بتبدل الجو وبتغيره، هم على خلاف بينهم في الأزمنة وفي الأسباب. فمنهم من بالغ، ومنهم من أفرط حتى قال إن الجو في جزيرة العرب كان يختلف في أيام اليونان والرومان عنه في الأيام الحديثة. ومنهم من قال إن الجو لم يتبدل تبدلا محسوسا مؤثرا فيها منذ حوالي ألفي عام، و منهم من عزا أسباب انخفاض مستوى الماء الارضي في جزيرة العرب إلى عوامل ليست لها صلة بتبدل الجو، وعزا خراب القرى و المدن و اندثار السدود إلى عوامل أخرى لا علاقة لها بتبدل الجو. ومع كل ذلك، فأن هذه الدراسات لم تنضج بعد، ودراسة جزيرة العرب و جوها لم تتم بصورة علمية مختبرية بعد، و أكثر ما ذكرته هو ملاحظات مؤرخين أو باحثين علميين، على نحو من الحدس و التخمين، و لا يمكن بناء نظريات معقولة على مثل هذه الآراء.

(1/269)


--------------------------------------------------------------------------------

إن هذه الملاحظات تدفعني إلى التريث في البت في وطن الجنس السامي،حتى تتهيأ دراسات أخرى علمية دقيقة عنه، لأن الأخذ بالقياس، و بمجرد الملاحظات والمشاهدات، لا يمكن أن يكون دليلا علميا مقنعا في تثبيت الوطن الأول الذي ظهر فيه هدا النسل الذي نسميه بالنسل السامي. وان كنت أجد أن جزيرة العرب قد أمدت الأقسام العليا منها، وهي بلاد العراق والبادية وبلاد الشام بفيض من الناس، بصورة دائمة مستمرة، وذلك لأسباب عديدة عسكرية واقتصادية، و إنها لم تأخذ من تلك الأرضين مثل هذا الفيض.
إن نظرية موطن الجنس السامي، هي في نظري جزء من مسالة كبرى معقدة، هي مسالة موطن الجنس البشري بكامله، هل هو موطن واحد في الأصل، أو جملة مواطن، وإذا كان ذلك الموطن موطنا واحدا، فأين كان? وكيف ظهرت هذه الأجناس البشرية بألوانها المتعددة وبسحنها المختلفة? إن هذه بحوث، على البشرية أن تضني نفسها في البحث عنها! وكل بحوثنا الآن حدس وتخمين، حتى يترقى العلم البشري إلى درجات فدرجات.
اللغة للسامية لأم
تدفعنا هذه النظريات التي قالها العلماء عن السامية وعن القرابة اللغوية التي نراها في مجموعة اللغات السابة، وعن اشتراكها في كثير من أسس النحو والصرف، لد التفكر في أن جميع هذه اللغات تفرعت من لغة واحدة هي أم اللغات للسامية، "Uresmitisch" كما يعير عنها بالألمانية. ويدفعنا ذلك إلى البحث عن أقدم النصوص المدونة في اللغات السامية، وعن الخصائص الأساسية المشتركة بين كل هذه اللغات، للوقوف على اللغة السامية الأولى التي انقرضت، وبقيت آثارها في هذه الجذور التي غذت اللغات السامية القديمة منها والحديثة بالخصائص السامية، وعن اقرب الفروع التي انفصلت من الأم.

(1/270)


--------------------------------------------------------------------------------

لقد بحث المستشرقون في هذا الموضوع ولا يزالون يبحثون فيه، فمنهم من وجد أن العبرانية أقدم اللغات السامية، وأقربها عهدا بالأم، ومنهم من رأى إن العربية على حداثة عهدها جديرة بالدراسة والعناية، لأنها نحمل جرثومة السامية، ومنهم من رأى القدم للآشورية أو البابلية، وهناك من رأى غير ذلك. وبالجملة، بر يدع أحد من العلماء أنه توصل إلى تشخيص لغة "سام"، وتمكن من معرفة اللغة التي تحدث بها مع أبيه "نوح" أو مع أبنائه الذين نسلوا هذه السلالات السامية.
وكان من جملة العوامل التي ألهبت نار الحماسة في نفوس علماء التوراة والساميات للبحث عن اللغة السامية الأولى أو أقرب لغة سامية أليها، القصص الوارد في التوراة عن سام وعن لغات البشر، وبابل ولغاتها والطوفان وما شاكل ذلك، ثم وجد المستشرقون المعاصرون أن البحث في هذا الموضوع ضرب من العبث، لأن هذه اللغات السامية الباقية حتى الآن هي محصول سلسلة من التطورات وللتقلبات لا تحصى، مرت بها حتى وصلت إلى مرحلتها الحاضرة، كما أنها حاصل لغات ولهجات منقرضة. واللغة السامية القديمة لم تكن إلا لغة محكية زالت من الوجود، دون أن تترك أثرا. ومن الجائز أن يهتدي العلماء في المستقبل إلى لغات أخرى، كانت عقدا بين اللغات السامية القديمة التي لا نعرف من أمرها شيئا وبين اللغات السامية المعروفة. والأفضل أن ننصرف ألان إلى دراسة اللغات السامية والموازنة بينها، لنستخلص المشتركات والأصول. ومتى تتكون هذه الثروة اللغوية، يسهل ابحث في اللغة السامية الأم، كما تستحسن الموازنة بين هذه اللغات واللغات التي ظهرت في القارة الإفريقية، مثل المصرية القديمة والبربرية والهررية وبقية اللهجات الحبشية، لتكوين فكرة علمية عن الصلات التي تربط بن الحاميين والساميين وكانت من جملة العوامل التي دفعت بعض العلماء إلى القول بأن أصل الجنسين واحد، كان يقيم في قارة إفريقية.

(1/271)


--------------------------------------------------------------------------------

وبالجملة إن هناك جماعة من المستشرقين ترى ان اللغة العربية على حداثة عهدها بالنسبة إلى اللغات السامية الأخرى، هي أنسب اللغات السامية الباقية للدراسة وأكثرها ملاءمة للبحث، لأنها لغة لم تختلط كثيرا باللغات الأخرى، ولم تتصل باللغات الأعجمية قبل الإسلام، فبقيت في مواطنها المعزولة صافية، أو أصفى من غيرها في أقل الأحوال، ثم أنها حافظت على خواص السامية القديمة مثل المحافظة على الإعراب على حين فقدت هذه الخاصة المهمة أكثر تلك اللغات، ولهذه الأسباب وغيرها رأوا أن دراستها تفيد كثيرا في الوقوف على خصائص السامية القديمة ومزاياها.
وقد شغل علماء العرب أنفسهم بموضوع اللغة السامية أو لغة سام بن نوح بتعبير أصج، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك، ذهبوا إلى البحث في لغة آدم أبي البشر وفي لغة أهل الجنة. وقد سبق لليهود والنصارى أن بحثوا في هذا الموضوع أيضا، في موضوع لغة آدم أي لغة البشر الأولى، التي تفرعت منها كل لغات البشر حتى اليوم. وقد ذهب بعض علماء العربية إلى أن العربية هي اللسان الأول، هي لسان آدم، إلا أنها حرفت ومسخت بتطاول الزمن عليها، فظهرت منها السريانية، و سائر اللغات. قالوا: "كان اللسان الأول الذي نزل به آدم من الجنة عربيا، إلى أن بعد العهد. وطال، فحرف وصار سريانيا. وهو يشاكل اللسان العربي إلا أنه محرف". وقد أدركوا ما أدركه غيرهم من وجود قرابة وصلة بين العربية وبين السريانية، فقال المسعودي: "وإنما تختلف لغات هذه الشعوب "أي شعوب جزيرة العرب" من السريانيين اختلافا يسيرا". وقد أخذ علماء العربية نظريتهم هذه من أهل الكتاب. ولما كانت السريانية هي لغة الثقافة والمثقفين، ولغة يهود العراق وأكثر أهل الكتاب في جزيرة العرب في ذلك العهد، فلا يستغرب إذن قول من قال إن السريانية هي أصل اللغات وإنها لسان أدم ولسان سام بن نوح.
العقلية السامية

(1/272)


--------------------------------------------------------------------------------

وتحدث المشتغلون بالتاريخ الثقافي و "علم الأجناس" عن عقلية خاصة بالشعوب السامية، دعوها "العقلية السامية"، كما تحدثوا عن عقلية "آرية" وعن عقليات أخرى، وحاولوا وضع حدود لأوصاف العقلية السامية، ورسم صورة خاصة بها تميزها عن صور العقليات البشرية الأخرى.
وقد شاعت هذه النظرية نظرية خصائص العقلية السامية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، ووجدت لها رواجا كبيرا، لظهور بعض الآراء والمذاهب التي مجدت العقلية الأوروبة، وسبحت محمدها، وقالت بتفوق العقل الغربي الخلاق المبدع على العقل الشرقي الساذج البسيط! ورمز العقل الشرقي هو العقل السامي، فهو لذلك عقل ساذج بسيط. ومن أشهر مروجي هذه النظرية الفيلسوف الفر نسي "رينان" "Ernest Renan" "1823 - 1892 م"، و "كراف كوبينو" "Graf Arthur Gobineau" "1816 - 1882 م"، وهو من القائلين بتمايز العنصريات البشرية وبتفوق بعضها على بعض وبسيادة العقلية الآرية على سائر العقليات، و "هوستن ستيوارت شامبر لن Housten Stewart Chamberlain" "1855-1927 م" صاحب كتاب "أسس القرن التاسع عشر".

(1/273)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن هذه الموارد أخذت "النازية" نظريتها في تفوق العرق الآري على سائر أعراق البشر، وتفوق الجنس "الجرماني" خاصة من العرق الآري على سائر الأجناس والأعراق البشرية. ومن هنا وضع "هتلر" "قوانين نورنبرك" لحماية الدم الآري من الاختلاط بالدماء الأخرى، ولصيانته ولبقائه دما نقما صافيا. ولترسيخ هذه النظرية في نفوس الناس ولترويجها بين الألمان والأوروبيين، شجع البحث في موضوع "الأجناس البشرية"، وحشد عددا كبيرا من الأساتذة لإجراء بحوث ودراسات فيه، وأوحى إلى أساتذة التأريخ كتابة التأريخ بطريقة تظهر دائما أن الحضارة البشرية هي حاصل عمل الشعوب الآرية وحدها، وناتج من نتاجها، بتلك الشعوب بدأت وبها تستمر. وقرر أن ما يقال عن حضارات الشرق الأدنى القديمة هو لغو وهراء، وهذا أوجب كتابة تأريخ هذه الشعوب على نحو جديد، وعلى أساس هذه الفلسفة.
وبحوث مثل هذه تقوم في ظروف كهذه أو في ظروف مشابهة لها، لا يمكن أن تكون إلا دراسات فجة مغرضة، مبعثها عاطفة وقصد مبيت، لذلك لا يمكن الاطمئنان أليها ولا الاعتماد عليها. والبحث في خصائص جنس من الأجناس وفي مميزاته وسماته الطاهرة والباطنة، يضفي تقصي ملامح الجنس في الحاضر والماضي، وذلك بدراسة ملامح الباقين وبفحص أجسامهم وخصائصهم بطرق علمية حديثة، وبدراسة عظام الماضين وما تخلف من أجسامهم في باطن الأرض بالأساليب العلمية الحديثة أيضا، ليكون بحثنا شاملا للماضي والحاضر، ومثل هذه البحوث لم تجر حتى الآن، لا على العرب، ولا على غير العرب من هذه الشعوب التي نسميها "الشعوب السامية".

(1/274)


--------------------------------------------------------------------------------

ثم إن البحوث العلمية على قلتها وضآلتها تدل على وجود فروق بارزة بين الساميين في الملامح الجسمية، في مثل شكل الجمجمة والأنف. ووجود مثل هذه الفروق، لا يمكن أن يكون علاقة على وجود "جنس" بالمعنى العلمي المفهوم من "الجنس" يضم شمل الساميين. وعلى وجود علاقة خاصة بالساميين ذات حدود ورسوم تختلف عن عقليات الأجناس البشرية الأخرى.
والصفة العامة التي يراها علماء الساميات في الساميين، أن الساميين يحبون الحركة والتنقل والهجرة من مكان إلى مكان على طريقته الأعراب، وأنهم ميالون إلى الغزو والأخذ بالثأر، وعاطفيون تتحكم العواطف في حياتهم، ويغضبون لتافه الأمور ويرضون بسرعة، يحبون فيسرفون في حبهم، ويظهرون الوجد فيه، ويبغضون فيبالغون في بغضهم حتى ليصلوا إلى حد القساوة والعنف لأسباب تافهة لا تستوجب كراهية و لا بغضا، فرديون في طباعهم تتغلب علهم الفردية، لذلك تراهم في الأصل قبائل، إذا اتحدت و كونت حكومة قوي ة كبيرة، لا تلبث أن تتعرض للانفصال و التفتت، الحياة عندهم على وتيرة واحدة. موسيقاهم و شعورهم العام بما في ذلك الشعر و الغناء و كل سائر التعبير عنه، حزن و نغم معدود مكرر. قضاؤهم قضاء قبلي، يقوم على القصاص بالمثل، و على أساس السن بالسن و العين بالعين و القتل بالقتل، و نظام الحكم عندهم نظام أسسه الفكرة القبلية، و ديانتهم متشابهة، تتجلى عندهم الغريزة الدينية و أتقاد المخيلة و قوة الشعور الفردي و القسوة, و تتغلب عليهم السطحية في التفكير، فلا يميلون إلى التعمق في درس الأشياء للوصول إلى كنهها و جوهرها، كما فعل اليونان.

(1/275)

admin
12-25-2010, 09:41 PM
وليست لهم قابلية في فهم الأمور المعقدة، ولهذا صارت أحكامهم عامة شاملة ساذجة لا تعقيد فيها، لأن تفكيرهم تفكير ساذج غير معقد. وتفكيرهم هذا هو الذي جعلهم يبشرون بالتوحيد على حين كانت الأديان الآرية -على حد قولهم- أديانا معقدة تعتقد بوجود أكثر من إله ! ! ويرى هؤلاء العلماء أن البدوي هو خير ممثل للعقلية السامية، فقد عاش الساميون بدوا أمدا طويلا، ومروا في حياتهم بحياة البداوة ولهذا صارت عقليتهم عقلية بداوة، تجمع بينهم صفات مشتركة نتجت من اشتراكهم في تلك الحياة.
وقد وضع المتعصبون للنظرية العنصرية كتبا في موضوعات متعددة، تعالج الجسم والروح ضد الساميين والآريين، وعنوا عناية خاصة بدراسة الحياة الروحية ومظاهرها عند الجنسين، فبحثوا في الناحية القانونية والتشريعات المختلفة عند الساميين والآريين، وقارنوا بين التشريع عند الجماعتين. كذلك عالجوا مختلف النواحي الأخرى من الحياة، حتى إن بعضهم ألف كتابا في موضوع حرمة أكل لحم الخنزير عند الساميين. مع انه من اللحوم الشهية عند الآريين، وعد ذلك من مميزات الجنس.

(1/276)


--------------------------------------------------------------------------------

وهناك جماعة من العلماء، ردت على هذه النظرية التي تحدد العقليات، وترسم لها حدودا وتضع لها معالم، رأت أن ما يذهب إليه أصحابها من وجود عقليات صافية خالصة للأجناس البشرية المذكورة، يستوجب وجود أجناس بشرية صافية خالصة ذات دماء نقية، لم تمتزج بها دماء غريبة، ويقتضي ذلك افتراضنا اعتزال الأجناس بعضها عن بعض عزلة تامة، وهو افتراض محال، لأن البشرية لم تعرف العزلة منذ القدم، ولم تبن حولها أسوارا مرتفعة تحول بينها وبين الاختلاط ببقية الأجناس، والشواهد التاريخية والبحوث العلمية المختبرية تشير إلى العكس، تشير إلى الاختلاط والامتزاج، كما ذكرنا آنفا، فما يقال عن اختلاف العقليات، هو حديث، أوحته العواطف والنزوات. أما ما نشاهده من اختلاف في أساليب الفكر وفي فهم الأمور،فليس مرجعه ومرده إلى الدم، بل إلى البيئات الطبيعة والاجتماعية والثقافية، فهي التي أثرت و كونت هذه الفروق. وعلى الباحث دراسة كل ما يؤثر على الإنسان من محيط ومن مؤثرات طبيعية مثل الضغوط الجوية والحرارة والبرودة والرطوبة، ومن تركيب الأجسام وأشكالها. وألوان الشعر والبشرة والعين وبنية الجسم بصورة عامة، ومن أنواع الأغذية التي يتناولها والمحيطات الثقافية التي يعيش فيها إلى غير ذلك من مؤثرات يدرسها علماء الأجناس اليوم، وذلك لإصدار أحكام معقولة عن أجناس البشر.
الفصل السابع
طبيعة العقلية العربية
لكل أمة عقلية خاصة بها، تظهر في تعامل أفرادها بعضهم مع بعض وفي تعامل تلك الأمة مع الأمم الأخرى، كما أن لكل أمة نفسية تميزها عن نفسيات الأمم الأخرى، وشخصية تمثل تلك الأمة،وملامح تكون غالبة على أكثر أفرادها، تجلها سمة لتلك الأمة تجزها عن سمات الأمم الأخرى.

(1/277)


--------------------------------------------------------------------------------

والعرب مثل غيرهم من الناس لهم ملامح امتازوا بها عن غيرهم، وعقلية خاصة بهم. ولهم شمائل عرفوا واشتهروا بها بين أمم العالم، ونحن هنا نحاول التعرف على عقلية العربي وعلى ملامحه قبل الإسلام، أي قبل اندماجه واختلاطه اختلاطا شديدا بالأمم الأخرى، وهو ما وقع وحدث في الإسلام.
وقد بحث بعض للعلماء والكتاب المحدثين في العقلية العربية، فتكلموا عليها بصورة عامة، بدوية وحضرية، جاهلية وإسلامية. فجاء تعميمهم هذا مغلوطا وجاءت أحكامهم في الغالب خاطئة. وقد كان عليهم التمييز بين العرب الجاهلين والعرب الإسلاميين، وبين الأعراب والعرب، والتفريق بين سكان البواطن آي بواطن البوادي وسكان الأرياف وسكان أسياف بلاد الحضارة. ثم كان عليهم البحث عن العوامل والأسباب التي جعلت العرب من النوعين: أهل الوبر وأهل الحضر، تلك الجبلة، من عوامل إقليمية وعوامل طبيعية أثرت فيهم، فطبعتهم بطابع خاص، ميزهم عن غيرهم من الناس.
بل إن الحديث عن العقلية العربية، حديث قديم، ففي التوراة شيء عن صفاتهم و أوصافهم، كون من علاقات الإسرائيليين بهم، ومن تعاملهم واختلاطهم بالعرب النازلين في فلسطين وطور سيناء أو في البوادي المتصلة بفلسطين. ومن أوصافهم فيها: أنهم متنابذون يغزون بعضهم بعضا، مقاتلون يقاتلون غيرهم كما يقاتلون بعضهم بعضا "يده على الكل، ويد الكل عليه". يغيرون على القوافل فيسلبونها ويأخذون أصحابها اسرى، يبيعونهم في أسواق النخاسة، أو يسترقونهم فيتخذونهم خدما ورقيقا يقومون بما يؤمرون به من أعمال، إلى غير ذلك من نعوت وصفات.
والعرب في التوراة، هم الأعراب، أي سكان البوادي، لذلك فإن النعوت الواردة فيها عنهم، هي نعوت لعرب البادية، أي للاعراب، ولم تكن صلاتهم حسنة بالعبرانيين.

(1/278)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي كتب اليونان والرومان والأناجيل، نعوت أيضا نعت بها العرب وأوصاف وصفوا بها، ولكننا إذا درسناها وقرأنا المواضع التي وردت فيها، نرى أنها مثل التوراة، قصدت بها الأعراب، وقد كانوا يغيرون على حدود إمبراطوريتي. الرومان واليونان، ويسلبون القوافل، ويأخذون الإتاوات من التجار والمسافرين وأصحاب القوافل للسماح لهم بالمرور.
وقد وصف "ديودورس الصقلي" العرب بأنهم يعشقون الحرية، فيلتحفون السماء. وقد اختاروا الإقامة في أرضين لا أنهار فيها ولا عيون ماء، فلا يستطيع العدو المغامر الذي يريد الإيقاع بهم أن يجد له فيها مأوى. انهم لا يزرعون حبا، ولا يغرسون شجرا، ولا يشربون خمرا، ولا يبنون بيوتا. ومن يخالف العرف يقتل. وهم يعتقدون بالإرادة الحرة، وبالحرية. وهو يشارك في ذلك رأي "هيرودوتس" الذي أشاد بحب العرب للحرية وحفاظهم عليها ومقاومتهم لأية قوة تحاول استرقاقهم واستذلاهم. فالحرية عند العرب هي من أهم الصفات التي يتصف بها العرب في نظر الكتبة اليونان واللاتين.
وفي كتب الأدب وصف مناظرة، قيل إنها وقعت بين "النعمان بن المنذر" ملك الحيرة وبين "كسرى" ملك الفرس في شأن العرب: صفاتهم وأخلاقهم وعقولهم، ثم وصف مناظرة أخرى جرت بين "كسرى" هذا وبين وفد أرسله "النعمان" لمناظرته ومحاجته فيما جرى الحديث عليه سابقا بين الملكين. وفي هذه الكتب أيضا رأي "الشعوبين" في العرب، وحججهم في تصغير شأن العرب وازدرائهم لهم، ورد الكتاب عليهم. وهي حجج لا تزال تقرن بالعرب في بعض الكتب.

(1/279)


--------------------------------------------------------------------------------

ومجل ما نسب إلى "كسرى" من مآخذ زعم انه أخذها على العرب، هو أنه نظر فوجد أن لكل أمة من الأمم ميزة وصفة، فوجد للروم حظا في اجتماع الألفة وعظم السلطان وكثرة المدائن ووثيق البنيان، وأن لهم دينا يبين حلالهم وحرامهم ويرد سفيههم ويقيم جاهلهم، ورأى للهند، نحوا من ذلك في حكمتها وطبها مع كثرة أنهار بلادها وثمارها، وعجيب صناعاتها ودقيق حسابها وكثرة عددها. ووجد للصين كثرة صناعات أيديها وفروسيتها وهمتها في آلة الحرب وصناعة الحديد، وان لها ملكا يجمعها، وأن للترك والخزر، على ما بهم من سوء الحال في المعاش وقلة الريف والثمار والحصون ملوك تضم قواصيهم وتدبر أمرهم. ولم ير للعرب دينا ولا حزما ولا قوة. همتهم ضعيفة بدليل سكنهم في بوادي قفراء، ورضائهم بالعيش البسيط، والقوت الشحيح، يقتلون أولادهم من الفاقة ويأكل بعضهم بعضا من الحاجة. أفصل طعامهم لحوم الإبل التي يعافها كثير من السباع لثقلها وسوء طعمها وخوف دائها. "وإن قرى أحدهم ضيفا عدها مكرمة. وإن أطعم أكلة عدها غنيمة تنطق بذلك أشعارهم، وتفتخر بذلك رجالهم". ثم إنهم مع قلتهم وفاقتهم وبؤس حالهم، يفتخرون بأنفسهم، ويتطاولون على غيرهم وينزلون أنفسهم فوق مراتب الناس. "حتى لقد حاولوا أن يكونوا ملوكا أجمعين"، وأبوا الإنقياد لرجل واحد منهم يسوسهم ويجمعهم.
إذا عاهدوا فغير وافين. سلاحهم كلامهم، به يتفننون، وبكلامهم يتلاعبون. ليس لهم ميل إلى صنعة أو عمل ولا فن، لا صبر لهم، إذا حاربوا ووجدوا قوة أمامهم، حاولوا جهدهم التغلب عليها، أما إذا وجسوها قوة منظمة هربوا مشتتين متبعثرين شراذم، يخضعون الغريب ويهابونه ويأخذون برأيه فيهم، ما دام قويا، ويقبلون بمن ينصبه عليهم، ولا يقبلون بحكم واحد منهم، إذا أراد أن يفرض سلطانه عليهم.

(1/280)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذكر أن أحد ملوك الهند كتب كتابا إلى "عمر ين عبد العزيز"، جاء فيه "لم تزل الأمم كلها من الأعاجم في كل شق من الأرض لها ملوك تجمعها ومدائن تضمها وأحكام تدين بها وفلسفة تنتجها وبدائع تفتقها في الأدوات والصناعات، مثل صنعة الديباج وهي أبدع صنعة، ولعب الشطرنج وهي أشرف لعبة، ورمانة القبان التي يوزن بها رطل واحد ومائة رطل، ومثل فلسفة الروم في ذات الخلق والقانون والاصطرلاب الذي يعدل به النجوم ويدرك به الأبعاد ودوران الأفلاك وعلم الكسوف وغير ذلك من الآثار المتقنة، ولم يكن للعرب ملك يجمع سوادها ويضم قواصيها، ويقمع ظلمها وينهى سفيهها، ولا كان لها قط نتيجة في صناعة و لا أثر في فلسفة إلا ما كان من الشعر. و قد شاركتها في العجم، وذلك إن للروم أشعارا عجيبة قائمة الوزن و العروض فما الذي تفتخر به العرب على العجم فإنما هي كالذئاب العادية، و الوحوش النافرة، يأكل بعضها يعضا و يغير بعضها على بعض. فرجالها موثوقون في حلق الأسر. و نساؤها سبايا مردفات على حقائب الإبل، فإذا أدركهن الصريخ أتستنقذن بالعشي، و قد وطئن كما توطأ الطريق المهيع". إلى آخر ذلك من كلام.
وقد تعرض "السيد محمود شكري الألوسي" في كتابه "بلوغ الأرب"، لهذا الموضوع، فجاء بما اقتبسه منه، ثم جاء برأي "أبن قتيبة" على الشعوبية، في كتابه: "كتاب تفضيل العرب"، م أنهاه ببيان رأيه في هذه الآراء و في رد "أبن قتيبة" عليها.
ولابن خلدون رأي معروف في العرب، خلاصته "إن العربي متوحش نهاب سلاب إذا أخضع مملكة أسرع أليها الخراب، يصعب انقياده لرئيس، لا يجيد صناعة ولا يحسن علما ولا عنده استعداد للإجادة فيهما، سليم الطباع، مستعد للخير شجاع". وتجد آراءه هذه مدونة في مقدمته الشهيرة لكتابه العام في التاريخ.

(1/281)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد رمى بعض المستشرقين العرب بالمادية وبصفات أخرى، فقال "أوليري": " إن العربي الذي يعد مثلا أو نموذجا، مادي، ينظر إلى الأشياء نظرة مادية وضيعة، ولا يقومها إلا بحسب ما تنتج من نفع، يتملك الطمع مشاعره، وليس لديه مجال للخيال ولا للعواطف، لا يميل كثيرا إلى دين، ولا يكترث بشيء إلا بقدر ما ينتجه من فائدة عملية، يملؤه الشعور بكرامته الشخصية حتى ليثور على كل شكل من أشكال السلطة، وحتى ليتوقع منه سيد قبيلته و قائده في الحروب الحسد والبغض والخيانة من أول يوم اختير للسيادة عليه ولو كان صديقا حميم له من قبل، من. أحسن أليه كان موضع نقمته، لأن الإحسان يثير فيه شعورا بالخضوع وضعف المنزلة وأن عليه واجبا لمن أحسن. يقول لامانس "إن العربي نموذج الديمقراطية"، ولكنها ديمقراطية مبالغ فيها إلى حد بعيد، وإن ثورته على كل سلطة تحاول أن تحدد من حريته ولو كانت في مصلحته هي السر الذي يفسر لنا سلسلة الجرائم والخيانات التي شغلت أكبر جزء في تأريخ العرب، وجهل هذا السر هو الذي قاد الأوروبيين في أيامنا هذه إلى كثير من الأخطاء، وحملهم كثيرا من الضحايا كان يمكنهم الاستغناء عنها، وصعوبة قيادة العرب وعدم خضوعهم للسلطة هي التي تحول بينهم وبين سيرهم في سبيل الحضارة الغربية، ويبلغ حب العربي لحريته مبلغا كبيرا، حتى إذا حاولت ان تحدها أو تنقص من أطرافها هاج كأنه وحش في قفص، وثار ثورة جنونية لتحطيم أغلاله والعودة إلى حريته. ولكن العربي من ناحية أخرى مخلص، مطيع لتقاليد قبيلته، كريم يؤدي واجبات الضيافة والمحالفة في الحروب كما يؤدي واجبات الصداقة مخلصا في أدائها بحسب ما رسمه العرف... وعلى العموم، فالذي يظهر لي أن هذه الصفات والخصائص أقرب أن تعد صفات وخصائص لهذا الطور من النشوء الاجتماعي عامة من أن تعد صفات خاصة لشعب معين، حتى إذا قر العرب وعاشوا عيشة زرعية مثلا، تعدلت هذه العقلية". ويوافق المستشرق "براون

(1/282)


--------------------------------------------------------------------------------

أولري" في رمي العرب بالمادية المفرطة. ورماهم "أوليري" أيضا بضعف الخيال وجمود العواطف.
أما "دوزي" فقد رأى أن بين العرب اختلافا في العقلية وفي النفسية، وأن القحطانيين يختلفون في النفسية عن نفسية العدنانيين.
وقد تعرض "أحمد أمين" في الجزء الأول من "فجر الاسلام" للعقلية العربية، وأورد رأي الشعوبيين في العرب، ثم رأي "ابن خلدون" فيهم، وتكلم على وصف المستشرق "أوليري" لتلك العقلية، ثم ناقش تلك الآراء، وأبان رأيه فيها وذلك في الفصل الثالث من هذا الجزء، وتحدث في الفصل الرابع عن "الحياة العقلية للعرب في الجاهلية". وخصص الفصل الخامس ب "مظاهر الحياة العقلية"، وتتجلى عنده في: اللغة والشعر والمثل والقصص. أوجز "أحمد أمن" في بداية الفصل الثالث آراء المذكورين في العرب،وبعد أن انتهى من عرضها وتلخيصها ناقشها بقوله: "لسنا نعتقد تقديس العرب، ولا نعبا بمثل هذا النوع من القول الذي يمجدهم ويصفهم بكل كمال، وينزههم عن كل نقص، لأن هذا النمط من القول ليس نمط البحث العلمي، إنما نعتقد أن العرب شعب ككل الشعوب، له ميزاته وفيه عيوبه، وهو خاضع لكل نقد علمي في عقليته ونفسيته وآدابه وتاريخه ككل أمة أخرى، فالقول الذي يمثله الرأي الخاص لا يستحق مناقشة ولا. جدلا،كذلك يخطىء الشعوبية أصحاب القول الأول الذين كانوا يتطلبون من العرب فلسفة كفلسفة اليونان، وقانونا كقانون للرومان، أو أن يمهروا في الصناعات كصناعة الديباج، أو في المخترعات كالاصطرلاب، فإنه إن كان يقارن هذه الأمم بالعرب في جاهليتها كانت مقارنة خطا، لأن المقارنة إنما تصح بين أمم في طور واحد من الحصارة، لا بين أمة متبدية وأخرى متحضرة، ومثل هذه المقارنة كمقارنة بين عقل في طفولته وعقل في كهولته، كل أمة من هذه الأمم كالفرس والروم مرت بدور بداوة لم يكن لها فيه فلسفة ولا مخترعات. أما إن كان يقارن العرب بعد حضارتها، فقد كان لها قانون وكان لها علم وان كان

(1/283)

admin
12-25-2010, 09:42 PM
قليلا.." ثم استمر يناقش تلك الآراء إلى أن قال: فلنقتصر ألان على وصف العربي الجاهلي، فوصفه بهذا الوصف: "العربي عصبي المزاج، سريع الغضب، يهيج للشيء التافه، ثم لا يقف في هياجه عند حد، وهو أشد هياجا إذا جرحت كرامته، أو انتهكت حرمة قبيلته. وإذا اهتاج، أسرع إلى السيف، واحكم أليه، حتى أفنتهم الحروب، وحتى صارت الحرب نظامهم المألوف وحياتهم اليومية المعتادة." "والمزاج العصبي يستتبع عادة ذكاء، وفي الحق أن العربي ذكي، يظهر ذكاؤه في لغته، فكثيرا ما يعتمد على اللمحة الدالة والإشارة البعيدة، كما يظهر في حضور بديهته، فما هو إلا أن يفجأ بالأمر فيفجؤك بحسن الجواب، ولكن ليس ذكاؤه من النوع الخالق المبتكر، فهو يقلب المعنى الواحد على أشكال متعددة، فيبهرك تفننه في القول أكثر مما يبهرك ابتكاره للمعنى، وان شئت فقل إن لسانه أمهر من عقله.
"خياله محسود وغير متنوع، فقلما يرسم له خياله عيشة خيرا من عيشته، وحياة خيرا من حياته يسعى وراءها، لذلك لم يعرف "المثل الأعلى"، لأنه وليد الخيال، ولم يضع له في لغته لفظة واحدة دالة عليه، ولم يشر أليه فما نعرف من قوله،وقلما يسبح خياله الشعري في عالم جديد يستقي منه معنى جديدا ولكنه في دائرته الضيقة استطاع أن يذهب كل مذهب." "أما ناحيتهم الخلقية، فميل إلى حرية قل أن يحدها حد، ولكن الذي فهموه من الحرية هي الحرية الشخصية لا الإجتماجمة، فهم لا يدينون بالطاعة لرئيس ولا حاكم، تأريخهم في الجاهلية - حتى وفي الإسلام - سلسلة حروب داخلية" وعهد عمر بن الخطاب كان عصرهم الذهبي، لأنه شغلهم عن حروبهم الداخلية بحروب خارجية، ولأنه، رضي الله عنه، منح فهما عميقا ممتازا لنفسية العرب.

(1/284)


--------------------------------------------------------------------------------

"والعربي سب المساواة، ولكنها مساواة في حدود القبيلة، وهو مع حبه للمساواة كبير الاعتداد بقبيلته ثم بجنسه، يشعر في أعماق نفسه بأنه من دم ممتاز، لم يؤمن بعظمة الفرس والروم مع ما له ولهم من جدب وخصب وفقر وغنى وبداوة وحضارة، حتى إذا فتح بلادهم نظر إليهم نظرة السيد إلى المسود".
ثم خلص إلى أن العرب في جاهليتهم كان أكثرهم بدوا، وان طور البداوة طور اجتماعي طبيعي تمر به الأمم في أثناء سيرها إلى الحضارة، وان لهذا الطور مظاهر عقلية طبيعية، تتجلى في ضعف التعليل، وعنى بذلك عدم القدرة على فهم الارتباط بين العلة والمعلول والسبب والمسبب فهما تاما، "يمرض أحدهم ويألم من مرضه، فيصفون له علاجا، فيفهم نوعا ما من الارتباط بين الدواء والداء، ولكن لا يفهمه فهم العقل الدقيق الذي يتفلسف، يفهم إن عادة القبيلة أن تتناول هذا الدواء عند هذا الداء، وهذا كل شيء في نظره، لهذا لا يرى عقله باسا من أن يعتقد إن دم الرئيس يشفي من الكلب، أو ان سبب المرض روح شرير حل فيه فيداويه بما يطرد هذه الأرواح، أو انه إذا خيف على الرجل الجنون نجسوه بتعليق الأقذار وعظام الموتى إلى كثير من أمثال ذلك، ولا يستنكر شيئا من ذلك ما دامت القبيلة تفعله، لأن منشأ الإستنكار دقة النظر والقدرة على بحث المرض و أسبابه وعوارضه، وما يزيل هذه العوارض،وهذه درجة لا يصل أليها العقل في طوره الأول".
ثم أورد أمثلة للاستدلال بها على ضعف التعليل، مثل قولهم بخراب سد مأرب بسبب جرذان حمر، و مثل قصة قتل النعمان لسنمار بسبب آجرة و ضعها سنمار في أساس قصر الخورنق، لو زالت سقط القصر.

(1/285)


--------------------------------------------------------------------------------

ثم تحدث عن مظهر عن آخر من مظاهر العربية، لاحظه بعض المستشرقين و وافقهم هو عليه، هو: إن طبيعة العقل العربي لا تنظر إلى الاشياء نظرة عامة شاملة، وليس في استطاعتها ذلك. فالعربي لم ينظر إلى العلم نظرة عامة شاملة كما فعل اليوناني، كان يطوف فيما حوله؛ فإذا رأى منظرا خاصا أعجبه تحرك له، و جاس بالبيت أو الأبيات من الشعر أو الحكمة أو المثل. "فأما نظرة شاملة وتحليل دقيق لأسسه وعوارضه فذلك ما لا يتفق والعقل العربي. وفوق هذا هو إذا نظر إلى الشيء الواحد لا يستغرقه بفكره، بل يقف فيه على مواطن خاصة تستثير عجبه، فهو إذا وقف أمام شجرة، لا ينظر إليها ككل، إنما يستوقف نظره شيء خاص فيها، كاستواء ساقها أو جمال أغصانها، و إذا كان أمام بستان، لا يحيطه بنظره، ولا يلتقطه ذهنه كما تلتقطه "الفوتوغرافيا"، إنما يكون كالنحلة، يطير من زهرة إلى زهرة، فيرتشف من كل رشفة". إلى أن قال: "هذه الخاصة في العقل العربي هي السر الذي يكشف ما ترى في أدب العرب - حتى في العصور الإسلامية - من نقص وما ترى فيه من جمال".
وقد خلص من بحثه، إلى أن هذا النوع من النظر الذي نجده عند العربي، هو طور طبيعي تمر به الأمم جميعا في أثناء سيرها إلى الكمال، نشا من البيئات الطبيعية والاجتماعية التي عاش فيها العرب، وهو ليس إلا وراثة لنتائج هذه البيئات، "ولو كانت هنالك أية أمة أخرى في مثل بيئتهم، لكان لها مثل عقليتهم، و أكبر دليل على ذلك ما يقرره الباحثون من الشبه القوي في الأخلاق والعقليات بين الأمم التي تعيش في بيئات متشابهة أو متقاربة، وإذ كان العرب سكان صحارى، كان لهم شبه كبير بسكان الصحارى في البقاع الأخرى من حيث العقل والخلق".

(1/286)


--------------------------------------------------------------------------------

أما العوامل التي عملت في تكوين العقلية العربية وفي تكييفها بالشكل الذي ذكره، فهي عاملان قويان. هما: البيئة الطبيعية، وعنى بها ما يحيط بالشعب طبيعيا من جبال وانهار وصحراء وغير ذلك، والبيئة الاجتماعية، وأراد بها ما يحيط بالأمة من نظم اجتماعية كنظام حكومة ودين وأسرة ونحو ذلك. وليس أحد العاملين وحده هو المؤثر في العقلية.
وحصر أحمد امين مظاهر الحياة العقلية في الجاهلية في الأمور التالية: اللغة والشعر والأمثال والقصص. وتكلم على كل مظهر من هذه المظاهر وجاء بأمثلة استدل بها ما ذهب إليه.
والحدود التي وضعها أحمد أمين للعقلية العربية الجاهلية، هي حدود عامة، جعلها تنطبق على عقلية أهل الوبر وعقلية أهل المدر، لم يفرق فيها بين عقلية من عقلية الجماعتين. وقد كونها ورسمها من دراساته لما ورد في المؤلفات الإسلامية من أمور لها صلة بالحياة العقلية ومن مطالعاته لما أورده "أوليري" "وبراون" وأمثالهما عن العقلية العربية، ومن آرائه وملاحظاته لمشكلات العالم العربي ولوضع العرب في الزمن الحاضر. والحدود المذكورة هي صورة متقاربة مع الصورة التي يرسمها العلماء المشتغلون بالسامية عادة عن العقلية السامية، وهي مثلها أيضا مستمدة من آراء وملاحظات وأوصاف عامة شاملة، ولم تستند إلى بحوث علمية ودراسات مختبرية، لذا فأنني لا أستطيع أن أقول أكر مما قلته بالنسبة إلى تحديد العقلية السامية، من وجوب التريث والاستمرار في البحث ومن ضرورة تجنب التعميم والاستعجال في إعطاء الأحكام.

(1/287)


--------------------------------------------------------------------------------

وتقوم نظرية أحمد أمين في العقلية العربية على أساس إنها حاصل شيئين وخلاصة عاملين، أثرا مجتمعين في العرب وكونا فيهما هذه العقلية التي حددها ورسم معالمها في النعوت المذكورة. والعاملان في رأيه هما: البيئة الطبيعية والبيئة الاجتماعية. وعنى بالبيئة الطبيعية ما يحيط بالشعب طبيعيا من جبال وأنهار وصحراء ونحو ذلك، وبالبيئة الاجتماعية ما يحيط بالأمة من نظم اجتماعية كنظام حكومة ودين وأسرة ونحو ذلك. وهما معا مجتمعين غير منفصلين، أثرا في تلك العقلية. ولهذا رفض أن تكون تلك العقلية حاصل البيئة الطبيعية وحدها، أو حاصل البيئة الاجتماعية وحدها. وخطا من أنكر أثر البيئة الطبيعية في تكوين العقلية ومن هنا انتقد "هيكل" "Heagel"، لأنه أنكر ما للبيئة الطبيعية من أثر في تكوين العقلي اليوناني، وحجة "هيكل" أنه لو كان للبيئة الطبيعية أثر في تكوين العقليات، لبان ذلك في عقلية الأتراك الذين احتلوا أرض اليونان وعاشوا في بلادهم، ولكنهم لم يكتسبوا مع ذلك عقلهم ولم تكن لهم قابلياتهم ولا ثقافتهم. ورد "أحمد أمين" عليه هو أن "ذلك يكون صحيحا لو كانت البيئة الطبيعية هي المؤثر الوحيد، إذن لكان مثل العقل اليوناني يوجد حيث يوجد إقليمه، و ينعدم حيث ينعدم، أما والعقل اليوناني نتيجة عاملين، فوجود جزء العلة لا يستلزم وجود المعلول".

(1/288)


--------------------------------------------------------------------------------

وأثر البيئة الطبيعية في العرب، أنها جعلت بلادهم بقعة صحراوية تصهرها الشمس، ويقل فيها الماء، ويجف الهواء، وهي أمور لم تسمح للنبات أن يكثر، ولا للمزروعات أن تنمو، آلا كلأ مبعثرا هنا وهناك، وأنواعا من الأشجار والنبات مفرقة استطاعت أن تتحمل الصيف القائظ، والجو الجاف، فهزلت حيواناتهم، وتحلت أجسامهم، وهي كذلك أضعفت فيها حركة المرور، فلم يستطع السير فيها إلا الجمل، فصعب على المدنيات المجاورة من فرس وروم أن تستعمر الجزيرة، وتفيض عليها من ثقافتها، اللهم إلا ما تسرب منها في مجار ضيقة معوجة عن طرق مختلفة".
وأثر آخر كان لهذه البيئة الطبيعية في العرب، هو أنها أثرت في النفوس فجعلتها تشعر أنها وحدها تجاه طبيعة قاسية، تقابلها وجها لوجه، لا حول لها ولا قوة، لا مزوعات واسعة ولا أشجار باسقة، تطلع الشمس فلا ظل لها، ويطلع القمر والنجوم فلا حائل، تبعث الشمس أشعتها المحرقة القاسية فتصيب أعماق نخاعه، ويسطع القمر فيرسل أشعته الفضية الوادعة فتبر لبه، وتتألق النجوم في السماء فتمتلك عليه نفسه، وتعطف الرياح العاتية فتدمر كل ما أتت عليه. أمام هذه الطبيعة القوية، والطبيعة الجميلة، والطبيعة القاسية، تهرع النفوس الحساسة إلى رحمن رحيم، والى بارئ مصور والى حفيظ مغيث- إلى الله-. ولعل هذا هو السر في الديانات الثلاث التي يدين بها أكثر العالم، وهي اليهوديه والنصرانية والإسلام نبعث من صحراء سيناء وفلسطين وصحراء العرب.

(1/289)


--------------------------------------------------------------------------------

والبيئة الطبيعية أيضا، هي التي أثرت-على رأيه-في طبع العربي فجعلته كثيبا صارما يغلب عليه الوجد، موسيقاه ذات نغمة واحدة متكررة عابسة حزينة، ولغته غنية بالألفاظ، إذا كانت تلك الألفاظ من ضروريات الحياة في المعيشة البدوية، وشعره ذو حدود معينة مرسومة، وقوانيه تقاليد القبيلة وعرف الناس، وهي التي جعلته كريما على فقره، يبذل نفسه في سبيل الدفاع عن حمى قبيلته. كل هذه وأمثالها من صفات ذكرها وشرحها هي في رأيه من خلق هذه البيئة الطبيعية التي جعلت لجزيرة العرب وضعا خاصا ومن أهلها جماعة امتازت عن بقية الناس بالمميزات المذكورة.
وقد استمر "أحمد أمين"، في شرح أثر البيئة الطبيعية في عقلية العرب وفي مظاهر تلك العقلية التي حصرها كما ذكرت في اللغة والشعر والأمثال والقصص، حتى انتهى من الفصول التي خصصها في تلك العقلية، أما أثر البيئة الاجتماعية التي هي في نظره شريكة للبيئة الطبيعية في عملها وفعلها في العقلية الجاهلية وفي كل عقلية من العقليات، فلم يتحدث عنه ولم يشر إلى فعله، ولم يتكلم على أنواع تلك البيئة ومقوماتها التي ذكرها في أثناء تعريفه لها، وهي: "ما يحيط بالأمة من نظم اجتماعية كنظام حكومة ودين وأسرة ونحو ذلك"، ثم خلص من بحثه عن العقلية العربية وعن مظاهرها وكأنه نسي ما نسبه إلى العامل الثاني من فعل، بل الذي رأيته وفهمته من خلال ما كتبه انه أرجع ما يجب إرجاعه إلى عامل البيئة الاجتماعية - على حد قوله - إلى فعل عامل البيئة الطبيعية وأثرها في عقلية العرب الجاهليين. وهكذا صارت البيئة الطبيعية هي العامل الأول الفعال في تكوين تلك العقلية، وحرمنا بذلك من الوقوف على أمثلته لتأثر عامل البيئة الاجتماعية في تكوين عقلية الجاهليين.

(1/290)


--------------------------------------------------------------------------------

وأعتقد إن "أحمد أمين" لو كان قد وقف على ما كتب في الألمانية أو الفرنسية أو الإنكليزية عن تأريخ اليمن القديم المستمد من المسند، ولو كان قد وقف على ترجمات كتابات المسند أو الكتابات الثمودية والصفوية واللحيانية، لما كان قد أهمل الإشارة إلى أصحاب تلك الكتابات، ولعدل حتما في حدود تعريفه للعقلية العربية، ولأفرز صفحة أو أكثر إلى أثر طبيعة أرض اليمن وحضرموت في عقلية أهل اليمن وفي تكوين حضارتهم وثقافتهم، فإن فيما ذكره في فصوله عن العقلية العربية الجاهلية ما بحب رفعه وحذفه بالنسبة إلى أهل اليمن وأعالي الحجاز.
ونجد في كتاب "جزيرة العرب في القرن العشرين" لحافظ وهبة" فصلا بعنوان "السكان"، وردت فيه ملاحظات كيسة عن عقلية الحضر وعقلية البدو في المملكة العربية السعودية وفي بعض المناطق المجاورة لها في الزمان الحاضر. وهذه الملاحظات وان كانت تتعلق بعرب هذا اليوم، إلا أنها مع ذلك ذات فائدة ومنفعة لفهم العقلية الجاهلية، فالزمان وان تباعد بين عرب الجاهلية وعرب القرن العشرين،إلا إن الخصائص العقلية لأكثر أهل البادية المنعزلين عن عالمهم الخارجي لا تزال هي هي، لم تتغير في كثير من الأمور، بل خذ من نسميهم "الحضر" أو العرب المستقرين في جزيرة العرب، فإن البعيدين منهم عن الأماكن التي لها اتصال بالعالم الخارجي وبالأجانب لا يزالون يحتفظون بكثير من خصائص عقلية حضر اليمن أو الحجاز عند ظهور الإسلام. ومن هنا تفيدنا ملاحظات "حافظ وهبة" هذه وملاحظات غيره من أذكياء العرب والسياح والخبراء الأجانب" فائدة كبيرة في التعرف على أسس تفكير العرب قبل الإسلام.

(1/291)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي حديث "حافط وهبة" عن طباع الحضر أشار إلى اختلاف طباعهم باختلاف أماكنهم، فقال: " والحضر تختلف طباعهم باختلاف المناطق التي يعيشون فيها، وظروف الحياة التي تحيط بهم فأهل حايل أقرب مظهرا إلى البداوة. وأهل مكة والمدينة واليمن العالية أبعد مظهرا عن البداوة من البلاد الأخرى العربية، وأهل القصيم ألين عريكة من أهل العارض، لأنهم كثرو الاختلاط والتعامل مع البلاد الأخرى كالشام وفلسطين ومصر، ولذا فترى موظفي ديوان الملك المكلفين بالمقابلات والتشريفات من أهل القصيم أو حايل.
وأهل الرياض أرقى بكثير من أهل الدواسر الذين لم يفارقوا بلادهم، ولم يرفوا شيئا عن أحوال العالم الخارجي.
وأشار إلى تنافس الحضر وإلى تفاخرهم وتفضيل أنفسهم بعضهم على بعض في الشمائل والعادات وحتى في اللهجات.
ومن طباع الحضري، كما يقول "حافظ وهبة" "الخلق التجاري"، وهم يتباينون فى ذلك أيضا بتباين أماكنهم، "فأهل القصيم والزلفى وشقرا، أنشط من أهل نجد في التجارة. فقوافلهم تقصد سائر الجهات العربية، وتجارهم كثيرا ما يسافرون إلى الهند ومصر في سبيل التجارة، والتجار النجديون المعروفون في الهند ومصر والعراق من أهل هذه البلاد" 0 "أما أهل الكويت، فنشاطهم في التجارة البحرية... ويغلب على حضر الجزيرة - وعلى الأخص أهل خليج فارس - التعاون التجاري سواء بين الأهالي بعضهم مع بعض أو بين الأمراء والأهالي".

(1/292)


--------------------------------------------------------------------------------

أما طباع البداوة،وهي طباع تختلف عن طباع أهل المدن فقد وصفها بقوله: "أما البدو، فهم القبائل الرحل المتنقلون من جهة إلى أخرى طلبا للمرعى أو للماء، والطبيعة هي التي تجبر البدوي على المحافظة على هذه الحياة، وحياة البدوي حياة شاقة مضنية، ولكنه وهو متمتع بأكبر قسط من الحرية يفضلها على أي حياة مدنية أخرى. هذه الحياة الخشنة هي التي جعلت القبائل يتقاتلون في سبيل المرعى والماء، وهي التي جعلت سوء الظن يغلب على طباعهم، فالبدوي ينظر إلى غيره نظرة العدو الذي يحاول أخذ ما بيده أو حرمانه من المرعى." "إن البدوي في الصحراء لا يهمه إلا المطر والمرعى، فأزمته الحقيقية انحباس المطر وقلة المرعى ولا يبالي بما يصيب العالم في الخارج ما دامت أرضه مخضرة، وبعيره سمينا وغنمه قد اكتنزت لحما وقد طبقت شحما." "أما إذا نما السكان وضاقت بهم الأرض أو لم تجد أراضيهم بالمرعى، فليس هناك سبيل إلا الزحف والقتال، أو الهجرة إن كان هناك سبيل أليها، وكذلك القبيلة التي غلبت على أمرها وحرمت من مراعيها وأراضيها ليس أمامها سبيل آخر سوى الهجرة.
"لقد كان البدو قبل ثلاثين سنة في غارات وحروب مستمرة، كل قبيلة تنتهز الفرص للإغارة على جارتها لنهب مالها، وتعدد ألامارات وتشاحن الأمراء وتخاصمهم مما يشجع البدوي.

(1/293)

admin
12-25-2010, 09:44 PM
"ولهذا كان للقبيلة في قيمتها في بلاد العرب، فالإنسان يقوى بأبنائه وأبناء عمومته الأقربين والأبعدين، وإذا كانت العصبية ضعيفة أمكن تقوية القبيلة بالتحالف مع سواها حتى يقوى الفريقان ويأمنا شر غيرهما من القبائل القوية." "وقد جرى العرف أن القبائل تعتبر الأرض التي اعتادت رعيها، و المياه التي اعتادت أن تردها ملكا لها، لا تسمح لغيرها من القبائل الأخرى بالدنو منها إلا بإذنها ورضاها، وكثيرا ما تأنس إحدى القبائل من نفسها القوة فتهجم بلا سابق إنذار على قبيلة أخرى و تنتزع منها مراعيها و مياهها." "إن قبائل العرب ليسوا كلهم سواء في الشر و التعدي على السابلة و القوافل، فبعضها قد اشتهر أمره بالكرم و السماحة و الترفع عن الدنايا، كما اشتهر بعضها بالتعدي و سفك الدماء بلا سبب سوى الطمع فيما في ايدي الناس." ليس للبدوي قيمة حربية تذكر، و لذا كان اعتماد الامراء على الحضر، فهم الذين يصمدون للقتال و يصبرون على بلائه و بلوائه. و كثيرا ما كان البدو شرا على الأمير المصاحبين له، فإن ذلك الأمير إذا ما بدت الهزيمة كانوا هم البادئين بالنهب و السلب و يحتجون بأنهم هم أولى من الأعداء المحاربين" "البدوي إذا لم يجد سلطة تردعه أو تضرب على يده يرى من حقه نهب الغادي و الرائح، فالحق عنده القوة التي يخضع لها، و يخضع غيره بها. على أن بهؤلاء قواعد للبادية معتبرة عندهم كقوانين يجب احترامها، فالقوافل التي تمر بأرض قبيلة و ليس معها من يحميها من أفراد هذه القبيلة معرضة للنهب، ولذا فقد اعتادت القوافل قديما إن يصحبها عدد غير قليل من القبائل التي ستمر بأرضها و يسمون هذا رفيقا.
و البدوي يحتقر الحضري مهما أكرمه، كما إن الحضري يحتقر البدوي، فإذا و صف البدوي الحضري، فأنه في الغالب يقول حضيري تصغيرا لشأنه.

(1/294)


--------------------------------------------------------------------------------

و من عادة البدوي الاستفهام عن كل شيء، و انتقاد ما يراه مخالفا لذوقه أو لعادته بكل صراحة، فإذا مررت بالبدوي في الصحراء استوقفك و سألك من أين أنت قادم? و عمن وراءك من المشايخ و الحكام? و عن المياه التي مررت بها? أسعار الأغذية و القهوة? وعمن في البلد من القبائل? و عن العلاقات السياسية بين الحكام بعضهم و بعض.
و مع إن البدوي قد اعتاد النهب و السلب، فإنهم كثيرا ما يعفون عن أهل العلم خوفا من غضب الله عليهم، و بعض البدو لا يحلف كاذبا مهما كانت النتيجة. و البدوي ينكر إذا وجد مجالا للإنكار، و يفلت بمهارة من الإجابة عما يسأل، و لكن إذا وجه له اليمين و كان لا مفر له اعترف بجرمه إذا كان مذنبا، و لا يحلف كذبا" "وليس أعدل من البدوي في تقسيم الغنيمة حتى قد يتلفون الشيء تحريا للعدل، و يقسمون السجادة بينهم كما يقسمون القميص لو السروال، كل هذا إرضاء لضمائرهم دفعا للضلم، إنهم يعرفون الخيام حق المعرفة لأنها بيوتهم التي يعيشون فيها، و مع ذلك فهم يقسمونها مراعاة للعدل، أما الإبل و الغنم فأنهم يقسمونها إذا أمكن القسمة أو يقومونها بثمن إذا لم يكن هناك سبيل للقسمة".
"و البدو لا يفهمون الحياة حق الفهم كما يفهمها الحضري، لا يفهمون البيوت و هندستها، ولا يفهمون فائدة الأبواب والنوافذ الخشبية، حتى إن البدو الذين كانوا في جيش الملك حسين في الثورة العربية كان عملهم بعد الاستيلاء على الطائف نزع خشب النوافذ والأبواب، لا لبيعها والانتفاع بثمنها بل لاستعمالها وقودا أما للقهوة أو الطبخ أو التدفئة، وبدو نجد قد فعلوا مثل ذلك تمامأ، فعندما أسكنت الحكومة بعض القبائل في ثكنة جرول، اكتشفت الحكومة إن النوافذ الخشبية والأبواب تنقص بالتدريج، وأنها استعملت للطبخ وتحضير القهوة، فأخرجهم جلالة الملك توا من الثكنة، وأسكن الحضر فيها، والحضر بطبيعتهم يصفمون ما لا يفهمه جهلة البدو عن النوافذ والأبواب.

(1/295)


--------------------------------------------------------------------------------

"وللبدو مهارة فائقة في اقتفاء الأثر، وكثيرا ما كانت هذه المعرفة سببا في اكتشاف كثير من الجرائم ولا تكاد تخلو قبيلة من طائفة منهم.
"والقبائل العريقة المشهورة من حضر وبادية تحافط على أنسابها تمام المحافظة وتحرص عليها كل الحرص، فلا تصاهر إلا من يساويها في النسسب، والقبائل المشكوك في نسبها لا يصاهرها أحد من القبائل المعروفة.
"أما حكام العرب، فيترفعون عن سائر الناس حضرهم وبدوهم،لا يزوجون بناتهم إلا لقرباهم. ما هم فيتزوجون من يشاءون، وطبقات الحكام يترفع بعضها على بعض: الأشراف يرون أنفسهم أرفع الخلق بنسبهم، وآل سعود يرون أنفسهم أرفع من الأشراف، وأرفع من سواهم من حكام العرب الآخرين".
"وهنا ترى الروح الصحيحة البدوية التي لا تملك شروى نقير ترفض الزواج من غني، لأنه ابن صانع، أو انه من سلالة ال****، أو لأن نسبه القبلي يحيط به شيء من الشك، فسلطان المال لا قيمة له عند العرب. ومع وجود هذه الروح الأرستقراطية التي تتجلى فقط في الزواج ورياسة القبيلة والحكم،فإنه لا يكاد يوجد فارق في طرق المعيشة الأخرى".
ومن عادة القسم الأكبر من سكان الجزيرة، ولا سيما البدو، مخاطبة رؤسائهم بأسمائهم أو بألقابهم، لأنهم لا يعرفون الألقاب وألفاظ التعظيم والتفخيم، فيقولون يا فلان ويا أبا فلان ويا طويل العمر.
ولا يزال العربي الصريح ينظر إلى الحرف والمهن نظرة ازدراء، وإلى المشتغل بها نظره احتقار وعدم تقدير.
والبدوي، لا ينسى المعروف، ولكنه لا ينسى الإساءة كذلك، فإذا أسيء اليه، ولم يتمكن من رد الإساءة في الحال، كظم حقده في نفسه، وتربص بالمسيء حتى يجد فرصته فينتقم مه. فذاكرة البدوي، ذاكرة قوية حافظة لا تنسى الأشياء.

(1/296)


--------------------------------------------------------------------------------

فترى من هذه الملاحظات إن كثيرا من الطباع التي تطبع بها عرب الجاهلية ما زالت باقية، وبينها طباع نهى عنها الإسلام وحرمها، لأنها من خلال الجاهلية، و مع ذلك احتفظ بها البدوي وحافظ عليها حتى اليوم، وسبب ذلك أن من الصعب عليه نبذ مما كان عليه آباؤه وأجداده من عادات وتقاليد. فالتقاليد والعرف وما تعارفت عليه القبيلة هي عنده قانون البداوة. وقانون البداوة دستور لا يمكن تخطيه ولا مخالفته، ومن هنا يخطئ من يظن أن البداوة حرية لا حد لها، وفوضى لا يردعها رادع، وان الأعراب فرديون لا يخضعون لنظام ولا لقانون على نحو ما يتراءى ذلك للحضري أو للغريب. انهم في الواقع خاضعون لعرفهم القبلي خضوعا صارما لشديدا، وكل من يحرج على ذلك العرف يطرد من أهله ويتبرأ قومه منه، ويضطر أن يعيش "طريدا" أو "صعلوكا" مع بقية "صعاليك".
العرب والعربي رجل جاد صارم، لا يميل إلى هزل ولا دعابة، فليس من طبع الرجل أن يكون صاحب هزل و دعابة، لأنهما من مظاهر الخفة والحمق، ولا يليق بالرجل أن يكون خفيفا. ولهذا حذر في كلامه وتشدد في مجلسه، وقل في تجمعه الإسفاف. وإذا كان مجلس عام، أو مجلس سيد قبيلة، روعي فيه الإحتشام، والابتعاد عن قول السخف، والاستهزاء بالآخرين، وإلقاء النكات والمضحكات، حرمة لآداب المجالس ومكانة الرجال.
وإذا وجدوا في رجل دعابة أو ميلا إلى ضحك أو إضحاك، عابوا ذلك الرجل وانتقصوا من شأنه كائنا من كان، وعبارة مثل "لا عيب فيه غير أن فيه دعابة لا أو "لا عيب فيه إلا أن فيه دعابة "، هي من العبارات التي تعبر عن الانتقاص والهمز واللمز.

(1/297)


--------------------------------------------------------------------------------

والبدوي محافظ متمسك بحياته وبما قدر له، معتز بما كتب له وان كانت حياته خشونة وصعوبة ومشقة. ومن هذه الروح المسيطرة عليه، بقي هو هو، لا يريد تجديدا وتطويرا، إلا إذا أكره على التجديد والتغير والتبديل، فهنا فقط يخضع لقانون "القوة"، وهو لا يسلم له إلا بعد مقاومة،و إلا بعد شعوره بضعفه وبعدم قابليته على المقاومة. فيتقبل الآمر الواق مستسلما، ومع ذلك يبقى متعلقا بما فيه، يحاول جهد إمكانه التمسك به، ولو بإلباسه ثوبا جديدا. وفي القرآن الكريم آيات بينات فيها تقريع و تعنيف للأعراب، ووصف لحياتهم النفسية. فيها أن الأعرابي محافظ لا يقبل تجديدا، ولا يرضى بأي تغيير كان لا يتفق وسنة الإباء والأجداد. ومنطقه في ذلك: "حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا "، "إنا وجدنا إباءنا على أمة، و إنا على آثارهم مقتدون".
ولهذا لا نجد البدو يؤمنون بصفة التقدم والنشوء والأرتقاء. فالبدوي يعيش أبدا كما عاش آباؤه وأجداده، مساكنه بيوت الشعر، وهي لا تحميه ولا تقيه من اثر أشعة الشمس المحرقة ولا من العواصف والأمطار، ومع ذلك لايستبدلها بيتا آخر، ولا يفكر في تحسين وضعه وتغيير حاله: "إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون ". وليس من الممكن أن تقوم في هذه البادية ثقافة غير هذه الثقافة الصحراوية الساذجة، ما دام البدوي مستسلما مسلما نفسه للطبيعة ولحكم القدر، وهو استسلام اضطر إلى الخضوع له والإيمان بحكمه، بحكم عمل الطبيعة القاسية فيه منذ آلاف السنين.
وكيف يغير حاله، وليس في البادية ما يساعده على تغيير الحال، ليس فيها ماء كاف ولا شجر نام ولا أمطار وخضرة، فهو يعيش غلى كرم الطبيعة ورحمتها. أما إذا تكاثر عدده، وزاد عدد خيام القبيلة، اضطرت إلى التنقل إلى مكان آخر، أحسن وأنسب من المكان القديم. وهكذا صار دائما في تنقل من مكان إلى مكان.

(1/298)


--------------------------------------------------------------------------------

وتحمس الأعراب وأشباه الحضر في دفاعهم عن العرف، ليس عن بلادة وغباء وشعور بضعف في الكفايات، كلا فللبدوي ذكاء وقاد وفطنة وكفاية وموهبة، وهو إذ يقاوم التغير والتبدل والتجدد، لا يقاومه عن غباء وبلادة وعن شعور بضعف تجاه تقبل الحياة الجديدة، وإنما يقاومه لأنه يشعر عن غريزة فيه أن حياته أفضل وأن البداوة حرية وانطلاق وعدم تقيد، وأن التطور إن لم يأت منه، فهو شر و بلاء، وان كيانه مرتبط بتقاليده، وان وجوده من وجود آبائه وأجداده، فهو إن انحرف عن عرفه عرض نفسه وأهله وقبيلته وكل وجود قومه للهلاك، فهو لذلك يرفض كل تجديد وتغير وإن بدا لنا أو له أنه لمصلحته، لغريزة طبيعية فيه وفي كل إنسان، هي غريزة المحافظة على البقاء، فخوفه من تعرض تقاليده وكيانه للخطر، هو الذي جعله محافظا شديد التمسك بالعرف والعادة. أما إذا شعر هو أو أشعر من طريق غير مباشر بفائدة التطور والتغير وبما سيأتيه من نفع وربح، و لا سيما إذا لم يكن في التغيير ما يعارض عرفه ولا يناقض تقاليده، فإنه يتقبله ويأخذه، ويظهر مقدرة ومهارة فيه، حتى في الأمور الحديثة الغريبة عنه. ويروي خبراء شركات البترول كثيرا من القصص عن مقدار براعة البدو وحذقهم في إدارة الآلات والأعمال التي وكلت إليهم. وهناك شهادات أخرى مماثلة وردت من جهات فنية أخرى. ولو تهيا لهؤلاء البدو مرشدون وخبراء عقلاء كيسون لهم علم بنفسياتهم، ولو عرفت الحكومات العربية عقلياتهم و مشكلاتهم، لكان في الإمكان تحويلهم إلى ثروة نافعة لا تقدر بثمن، ولتجنبت بذلك المشكلات التي تواجهها منهم.

(1/299)


--------------------------------------------------------------------------------

حتى الطب، هو في البادية طب بدوي متوارث لا يتغير ولا يتبدل، يقوم على المداواة بتجارب "العارفة" في الطب. ولا يطمئن الأعرابي إلى طب أهل الحضر، مهما فتكت به الأمراض وأنزلت نجه من آلام، ذلك لأن طب أهل الحضر هو طب غريب عليه بعيد عنه، فهو لذلك لا يطمئن إليه. اللهم إلا إذا أقبل عليه رؤساؤه و ساداته، أو أقنع بمنطقه و بطريقة إدراكه هو للأمور أن في الدواء الذي يداوى به شفاء لمرضه، وعندئذ يقبل عليه ثم يزيد إقباله عليه، حتى يكون مألوفا عنده، بل يقوم في مثل هذه الحالات باختزان ما يمكن اختزانه من الدواء للمستقبل من غير أن يفكر في كيفية خزنه، أو في المدة المقدرة لعمل ذلك الدواء، وتلفه بعد انقضائها.

(1/300)


--------------------------------------------------------------------------------

ووصف الأعراب في القرآن الكريم بالغلظة والجفاوة وبعدم الإدراك وبالنفاق وبالتظاهر في اللسان بما يخالف ما في الجنان: )قالت الأعراب: آمنا، قل، لم تؤمنوا، ولكن قولوا: أسلمنا، ولما يدخل الأيمان في قلوبكم، وإن تطيعوا الله ورسوله، لا يلتكم من أعمالكم شيئا، إن الله غفور رحيم(. )وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق، لا تعلمهم، نحن نعلمهم، سنعذبهم مرتين، ثم يردون إلى عذاب عظيم( . فالأعرابي "البدوي" إنسان لا يعتمد عليه، مسلم ومع ذلك يتربص بالمسلمين الدوائر، فإذا خذل المسلمون في معركة، أو شعر بضعف موقفهم خذلهم وانقلب عليهم، أو اشترط شروطا ثقيلة عليهم، بحيث يجد فيها مخرجا له ليخلص نفسه من الوضع الحرج الذي أصاب المسلمين. فلا يكلف نفسه، ولا يخشى من مصير سيئ ينتظره إن غلب المسلمون. )الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، و الله عليم حكيم. ومن الأعراب من يتخذه ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر علهم دائرة السوء والله سميع عليم(، والأعرابي لم يسلم في الغالب عن عقيدة وعن فهم، إنما أسلم لأن رئيسه قد أسلم فسيد القبيلة إذا آمن وأسلم، أسلمت قبيلته معه. وقد دخلت قبائل برمتها في النصرانية لدخول سيدها فيها. وقد وردت في سورة الحجرات هذه الآيات في وصف بعض الأعراب: )قالت الأعراب آمنا، قل: لم تؤمنوا، ولكن قولوا: أسلمنا، ولما يدخل الإيمان في قلوبكم. وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم في شيئا. إن الله غفور رحيم. إنما المؤمنون، الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، أولئك هم الصادقون. قل أتعلمون الله بدينكم ؛ والله يعلم ما في السموات وما في الأرض. والله بكل شيء عليم. يمنون عليك أن أسلموا. قل لا تمنوا علي إسلامكم، بل الله يمن عليكم، أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين(.

(1/301)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد استثنى القرآن الكريم بعض الأعراب مما وصمهم به من الكفر والنفاق والتربص وانتهاز الفرص فنزل الوحي فيهم: )ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر، ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول، ألا إنها قربة لهم، سيدخلهم الله في رحمته، إن الله غفور رحيم(.
وقد وصف الأعراب بالغلظة والخشونة، فقيل، أعرابي قح ، وأعرابي جلف، وما شاكل ذلك. وفي الحديث "من بدا جفا"، أي من نزك البادية صار فيه جفاء الأعراب.
وذكر أن الرسول وصفه "سراقة" وهو من أعراب "بني مدلج" بقوله: "وان كان أعرابيا بوالا عد عقبيه". وأنه نعت "عيينة بن حصن" قائد "غطفان" يوم الأحزاب ب "الأحمق المطاع". "وكان دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، بغير اذن، فلما قال له أين الإذن? قال ما استأذنت على مضربي قبلك. وقال: ما هذه الحميراء معك يا محمد? فقال: هي عائشة بنت أبي يكر. فقال: طلقها وانزل لك عن أم البنين. في أمور كثيرة تذكر من جفائه. أسلم ثم ارتد وآمن بطليحة حين تنبأ وأخذ أسيرا فأتي به أبو بكر، رضي الله عنه، أسيرا فمن عليه ولم يزل مظهرا للإسلام على جفوته وعنجهيته ولوثة اعرابيته حتى مات".
و ذكر إن "الأعرابي إذا قيل له يا عربي فرح بذلك وهش، والعربي إذا قيل له يا أعرابي غضب". وذلك لازدراء العرب الأعراب، و لارتفاعهم عنهم في العقل وفي الثقافة والمنزلة الاجتماعية.

(1/302)


--------------------------------------------------------------------------------

وهذه الصفات التي لا تلائم الحضارة ولا توائم سنن التقدم في هذه الحياة، هي التي حملت الإسلام على اعتبار "التبدي" أي "التعرب" بعد الهجرة ردة على بعض الأقوال وعلى النهي عن الرجوع إلى البادية والعيش بها عيشة أعرابية. فلما خرج "أبو ذر" إلى الربذة قال له عثمان بن عفان: "تعاهد المدينة حتى لا ترتد أعرابيا". فكان "في يختلف من الربذة إلى المدينة مخافة الأعرابية". ولما وصل "عبد الله بن مسعود" الربذة، ورأى ابنة أبي ذر وهي حائرة وكان والدها قد فارق الحياة لتوه، سألها: "ما دعاه إلى الاعراب". وفي الحديث: "ثلاث عن الكبائر منها التعرب بعد الهجرة". وهو أن يعود إلى البادية ويقم مع الأعراب بعد أن كان مهاجرا. وكان من رجع بعد الهجرة إلى موضعه من غير عذر يعدونه كالمرتد. وذلك بسبب جفاء الأعراب والجهالة، ومن هنا كرهت شهادة البدوي على الحضري فورد في الحديث "لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية". لأنهم في الغالب لا يضبطون الشهادة على وجهها ولما في البدوي من جفاء وجهالة بأحكام الشرع.
وقد عرف العربي الحضري ب "القراري"، أي الذي لا ينتجع ويكون من أهل الأمصار، وفيها، أن كل صانع عند العرب قراري. وهذه النظرية هي نظرة أهل البداوة بالنسبة لأهل الحاضرة، فالصانع عندهم إنسان مزدرى لاشتغاله بصنعة من هذه الصنائع التي يأنف منها العربي الحر.

(1/303)


--------------------------------------------------------------------------------

والحق أن النعوت المذكورة لا تلازم جميع الأعراب ولا تنطبق عليهم كلهم. فهم يختلفون مثل أهل الحضر، باختلاف مواضعهم، من قرب عن حضارة ومن بعد عنها، ومن وجود ماء ونصب، أو جدب أو فقر،وما شاكل ذلك. كما أن بعض النعوت المذكورة تنطبق على بعض أهل المدر أيضا. ولهذا نجد القرآن الكريم. يطلقها عليهم، ولكن لا على سبيل التعميم بل على سبيل التخصيص، فهي نتائج ظروف خاصة وأحوال معينة، لا بد وأن تؤثر فئ أصحابها فتكسبهم تلك الصفات والمؤثرات. كما أن العرب، أي الحضر، لم يكونوا كلهم في التحضر على درجة واحدة سواء، فبينهم اختلاف وتباين، وبهذا التباين تباينت خصائصهم النفسية بعضهم عن بعض.
والبدوي الذي تمكن "ابن سعود" أو غيره من الحكام من ضبطه بعض الضبط ومن الحد من غاراته على الحضر أو على البدو ألآخرين، هو البدوي نفسه الذي عاش قبل الميلاد وفي عهد إسماعيل، والذي قالت في حقه التوراة: "يده على الكل و يد الكل عليه". و هو سيبقى كذلك ما دام بدويا ترتبط حياته بالصحراء، ينتهز الفرص كلما وجد وهنا في الحكومات وقوة في نفسه على أخذ ما يجده عند الآخرين، وهو إن هدأ و سكن، فلأنه يجد نفسه ضعيفا تجاه سلطة الحكومة، ليس في استطاعته مقاومتها لضعف سلاحه، فإذا شعر بقوته لم يخش عندئذ أحد.

(1/304)

admin
12-25-2010, 09:45 PM
و قد تأصلت الفردية في انفس الأعراب وفي أنفس أشباه الحضر وفي اكثر الحضر، حتى صارت أنانية مفرطة، عاقت المجتمع العربي في الجاهلية وفي الإسلام عن التقدم و عن التوثق و الاتحاد، وفي الأدبين الجاهلي و الإسلامي أمثلة عديدة سارت بين الناس تمثل هذه النظرية الضيقة إلى الحياة. ورد في الحديث عن أبي هريرة أنه قال:"قام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى الصلاة، و قمنا معه، فقال أعرابي في الصلاة: اللهم ارحمني و محمدا، و لا ترحم معنا أحدا". فقدم نفسه على الرسول، مع انه مسلم يحمله دينه و أدبه: أدب الإسلام على تقديم الرسول عليه، ثم انه لم يخصص أحدا بالرحمة غير الرسول و غير نفسه مدفوعا بهذه الأنانية القبيحة. وكثيرا ما تسمع الناس يتمثلون بقول أبي فراس: "إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر".
يتمثل به الحضر تعبيرا عن فلسفة و وجهة نظر قديمة إلى هذه الحياة، مبعثها الوضع السيئ العام القلق الذي عم المجتمع وما زال يعمه، والذي جعل الفرد يشعر بعدم وجود من يحميه و يساعده ، فتحول غضبه إلى عقيدة مؤذية مضرة و يل للأسف.

(1/305)


--------------------------------------------------------------------------------

و البدواة عالم خاص قائم بذاته، تكونت طباعها و خصائصها من الظروف التي نشأت فيها، لها مقاييسها و موازينها الخاصة، وهي مقاييس و موازين تختلف عن مقاييس الحضر و موازينهم، الحضر البعيدين عن البادية و عن أحوال البدواة و لذلك اختلفت افهام الجماعتين و تباعدت عقليتهما، ومن هنا يظهر خطأ من يحكم على البداوة بمقاييس أهل الحضارة و يفسر ما يقع من الأعراب تفسيره لما يقع من أهل المدر من أعمال، ومن هنا أيضا نجد أن البدواة لا تستطيع فهم منطق الحضر ولا تستسيغ أسلوب حياتهم، ولا تأمنهم، لأن عالمها يختلف عن عالم الحضر، ولأنها تجد من قيود الريف والمدن ما يصعب عليها تحمله، ولأنها ترى في الحضر جماعة حيل وشر. ومكر فلا تأمنهم، ولا تستطيع أن تطمئن اليهم، مهما أظهر الحضر نحوها من عطف و إحسان. وقد كابدت البداوة كثيرا كما كابدت الحضارة كثيرا أيضا من جراء سوء الفهم هذا الناجم من اختلاف العقليتين.
ويظهر البدوي في عين الحضري الحديث، وكأنه إنسان مزدوج الشخصية جامع للنقيضين، له وجهان. فهو محارب يحارب معك وفي صفوفك، أما إذا شعر أن الهزيمة ستحل بك، فإنه أول من ينقلب عليك، فيمعن عندئذ في سلبك ما معك ونهبه، لا فرق عنده أن يكون الذي حارب معه وفي صفوفه عربيا أو أعجميا. شريفا من أسرة عريقة أم قائدا محترفا. وهو كريم جواد يقدم لضيفه آخر شيء عنده ليأكله ويحبيه بكل وسائل الاكرام، ولكنه لا يمتنع من سلب غريب يجده في طريقه، ومن أخذ ما عنده. وهو رجل متدين لا يحلف كاذبا مها رأى النتيجة، ولكن تدينه تدين بدوي سطحي إلى غير ذلك من متناقضات.

(1/306)


--------------------------------------------------------------------------------

أما الأعرابي، فيسخر من اتهام الحضري له بهذه التهم، ويعجب من سذاجة منطقه وحكمه، فمنطقه في نظره منطق رجل ساذج مريض معلول، وحكمه حكم إنسان ضعيف ذليل. وإلا فكيف يسمع عقل إنسان سليم لإنسان مثلا أن يترك أموال صاحبه أو أصحابه تقع في أيدي غيره أو أعدائه، يأخذونها لينعموا بها وليفتخروا بحصولهم عليها، ثم لا يمد هو يده إليها يأخذ منها ما يحتاج أليه ويريد? ألا يدل هذا العمل على السخف والضعف وفساد الرأي ? أن المحارب في نظر الأعرابي أولى من غيرة بأموال زميله المحارب، وهو أحق بها من أي إنسان آخر للحصول عليها إن داهمه خطر، وشعر أن تلك الأموال ستقع في أيدي عدوه، فهو زميله وصديقه، وهو فوق ذلك به حاجة أليها، فمن حقه الطبيعي إذن أن يأخذها ولو عنوة ويولي بها ليحرم عدوه الحصول عليها والحصول على أي مكسب كان من هذه الحرب. ثم إنه إن لم يباشر أخذ ما يجده أمامه في الوقت الملائم، فإن غيره سيأخذه حتما، وقد يكون غيره هو خصمه وعدوه: ولما كانت النفس مقدمة على غيرها، كان من العقل والحكمة أن يأخذ حقه بنفسه، وإلا ضاع حقه عليه وأفلت منه. ومن هنا اختلف منطقه عن منطق الحضري وباين حكمه على الأمور حكم الحضري.

(1/307)


--------------------------------------------------------------------------------

وحكم الأعراب على الأمور،حكم صادر عن عقلية خاصة بهم، كونتها عندهم الأحوال التي يعيشون فيها والمحيط الذي يتحكم فيهم من جفاف وحرارة وضوء ساطع واختلاف في درجات الضغط الجوي وانحباس الأمطار وفقر محالف لأغلب الأرضين ومن فقر وتقتير وبساطة في المأكل وأمثال ذلك من مؤثرات كونت عندهم عقلية خاصة وثقافة خاصة، فهمت الأمور بمنطقها لا بمنطق الآخرين. ومن هنا اختلفت أيضا عقليات الأعراب وتباينت بعض التباين باختلاف الأحوال التي تحيط بالأمكنة التي ينزلون بها ويقرب تلك الأمكنة وبعدها من الحضر ومن،الحضارة. وبمقدار تأثرها بالمؤثرات الخارجية وبالثقافات الواردة من الخارج، كالذي نلحظه من وجود شيء من التباين بين عقليات القبائل المتنصرة وأعمالها وعقليات القبائل الوثنية وأعمالها، بالرغم من أن نصرانية تلك القبائل لم تكن نصرانية عميقة صميمة، ولم تكن صافية خالصة، وذلك لأن هذه القبائل المتنصرة على سطحية تنصرها، كانت مواطنها ملاصقة للحضر وللحضارة وذات اتصال بالحضر وبالأعاجم وبالثقافات الأجنبية وبالبيئات الثقافية الغربية، وعاش بينها رجال دين غرفوا من ثقافات غريبة وبشروا بين العرب المتنصرة بآراء غريبة عنهم، كما تأثر رؤساء تلك القبائل بمؤثرات الحضر الذين احتكوا بهم وبرجال السياسة والدين الذين كانوا على اتصال بهم، وقد تزوج بعضها من نساء نصرانيات، أثرن في بيئة ذلك الزوج.

(1/308)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد نص الأقدمون على اختلاف طباع القبائل،فعرف بعضها باللين والسهولة، وعرف بعضها بالشدة والخشونة والغلظة، وعرف آخرون بالشجاعة والصبر على المكاره والميل إلى الغزو والحروب، وعرف غيرهم بالميل إلى الاستقرار وبقابليتها على الاستيطان واستغلال الأرض والالتئام مع الجيران. ولوجود هذه الصفات في القبائل كان الحكام في الجاهلية وفي الإسلام إذا أرادوا أمرا وكلوه إلى القبيلة التي تتناسب صفتها التي اشتهرت بها مع العمل الذي يراد القيام يه، وصار اعتماد الحكام على هذه الفراسة في الغالب. وما زال هذا التباين في كنايات القبائل معروفا حتى اليوم، فقد اشتهرت بعض قبائل نجد بأمور لم تشتهر بها القبائل الأخرى، أو أنها فاقت بها سائر قبائل نجد، فاشتهرت بعضها بالقتال، واشتهرت بعضها بالصرامة والصبر، وما إلى ذلك، ويراعي حكام جزيرة العرب اليوم هذه الصفات في ضبط الأمور في حكوماتهم وفي حفظ التوازن في حكم البوادي والأعراب وفى السياسة العامة للحكومة. وفي تقارير السياسيين الوطنين والأجانب وفي كتب السياح والبعثات الأجنبية على اختلاف أنواعها كلام على تباين طباع الأعراب في جزيرة العرب وطباع الحضر في هذا اليوم.
فترى أذن أن للأعراب رأيا في الحضر يشبه رأي الحضر فيهم، أي رأي فيه ازدراء و حط من شأن الحضر ومن مجتمعهم الذي يعيشون فيه، ومن قيمهم في هذه الحياة، وهو رأي تكون عندهم من بيئاتهم التي يعيشون فيها ومن ثقافتهم الخاصة بهم، التي تفسر الأمور بمقاييسها وأوزانها، وهي مقاييس وأوزان بعيدة عن مقاييس الحضر والحضارة ولا أقصد بالحضر هنا حضر الأعاجم وحدهم، بل ادخل فيهم حتى الحضر العرب، كالذي يتبين من استهجان الأعراب بشأن أهل المدر في كل مكان من أمكنة جزيرة العرب ومن ازدرائهم لأحلامهم ومثلهم في الحياة. فالبداوة ثقافة خاصة بهذا العالم، عالم البداوة، والحضارة ثقافة أخرى خاصة بالحضر، وبين الثقافتين بون وخلاف.

(1/309)


--------------------------------------------------------------------------------

وليست هذه الطباع وراثة تنتقل من الآباء إلى الأبناء ابدأ في الدم، فلا تتبدل ولا تتغير، بل هي حاصل أحوال وبيئة، إذا تغيرت ا الأحوال والبيئة وقع تغير يتوقف على مقدار فعل البيئة الجديدة في الإنسان وعلى الزمان الذي يقضيه فيه وعلى مقدار استعداد ذلك الإنسان لتقبل البيئة الجديدة والثقافة الجديدة التي دخل فيها، ولحذا بركون فعل التغير في الجل القديم أقل من الجيل الجديد. وعلى ذلك يخطئ من يصف العرب بصفات يلصقها بهم يجعلها عامة عليهم أبدية. ودليلنا على ذلك أن من عاش من الأعاجم بين العرب وفي بيئة عربية، تطبع بطباع العرب وصار مثلهم، حتى إذا انقرض الجيل القديم ونبع الجيل الجديد تحول إلى جبل عربي في كل شيء، لا نستثتي من ذلك حتى الانتساب إلى العرب إلى عدنان وقحطان وحتى التعصب والعصبيات. والإسلام الذي صهر الأعاجم في بوتقته، وجعلهم جنودا يحاربون في الصفوف الأمامية لنشره وإعلاء كلمته، لم يلبث أن أنساهم أصولهم ولغاتهم، فحولهم بذلك إلى عرب من حيث لم يشعر العرب ولا الأعاجم أنفسهم به.
والأعرابي واقعي، تتأثر أحكامه بالواقع الذي يراه، وبمقياس المادية التي تتمثل عنده، يؤمن بالروح، ولكنه يحولها إلى ما يشبه المادة الملموسة. يؤمن بإله أو بآلهة، كما كان في الجاهلية ولكنه حول تلك الآلهة إلى أوثان وأصنام، يلمسها ويحسها بيديه، فيتقرب أليها ويتوسل بها، وخاف من الأرواح مثل الجن والأرواح الخبيثة التي صورها عقله، أكثر من خوفه من آلهته، فإذا نزل مكانا قفرا، أو محلا موحشا، أو دخل مكانا مظلما أو كهفا، تعوذ من الأرواح، واحتال عليها بمختلف الحيل التي ابتكرها عقله، ليتغلب عليها وليتخلص منها. فهو يخافها اكثر من خوفه من الآلهة، لأنه جعلها تعيش معه في كل مكان، فهي تحيط به. أما الالهة، فإنها بعيدة عنه، ثم إنها لا تؤذي، ومن طبع الإنسان التخوف من المؤذين.

(1/310)


--------------------------------------------------------------------------------

وهو لا سفل بما بعد الموت، لأن هذا العالم الثاني عالم غير محسوس بالقياس إليه. ولهذا لم يتصوره كتصور غيره من الأمم الأخرى، بل هو لم يتعب نفسه بالتفكر فيه، ولهذا كانت مراسيم دفن الميت بسيطة جدا، لا تكلف فيها ولا تعقيد، على نحو ما نجده عند الحضري أو العجم، متى دفن في قبره وهيل التراب عليه، انتهى كل شيء. ولهذا كاد عجبهم شديدا إذ سمعوا بالبعث وبالقيامة والحشر والنشر. )أ إذا امتنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون، أو آباؤنا الأولون(. وكان قائلهم يقول: حياة، ثم موت، ثم نشر: حديث خرافة، يا أم عمرو!
وقال شداد بن الأسود بن عبد شمس بن مالك، يرثي قتلى قريش يوم بدر: يحدثنا الرسول بأن سنحيا=وكيف حياة أصداء وهام وقد ورد البيت المذكور في صورة أخرى في كتاب "الصبح المنير في شعر أبي بصير"، في باب شعر "أعشى نهشل"، ورد في هذا الشكل: وكائن بالقليب قليب بدر من الفتيان والعرب الكرام
أيوعدني ابن كبشة إلى سنحيا وكيف حياة أصداء وهام ?
أيعجز أن يرد الموت عني وينشرني إذا بليت عظامي
ألا من مبلغ الرحمن عني بأني تارك شهر الصيام
فقل لله يمنعني شرابي وقل لله يمنعني طعامي

(1/311)


--------------------------------------------------------------------------------

والحضر الذين نظروا إلى الأعراب، نظرة استصغار وازدراء، لما بينهم وبين الأعراب من تفاوت في الثقافة وفي العقلية، هم أنفسهم وفي الواقع أشباه حضر، وأخص من هؤلاء الحضر حضر الحجاز، فخصائص التعرب غالبة عليهم، غلية تزيد على خصائص الحياة الحضرية. فقد قامت قراهم مثلا وأعظمها مكة ويثرب على الفكرة الأعرابية القائمة على أساس النسب، فكل من مكة ويثرب شعاب، كل شعب لفخذ أو عائلة أو ما أشبه ذلك من أسماء تدخل في أسماء أجزاء القبيلة، تتعصب وتتحزب وتتقاتل فيما بينها وتتحالف، كما يتقاتل أو يتحالف الأعراب. ثم إنهم كانوا يأنفون من الاشتغال بالحرف، تماما كما يفعل البدو، ويعافون الزراعة في الغالب، لا استثني منها زراعة النخيل، لأن الزراعة في نظرهم من أعمال النبط والرقيق،والروح الفردية سائدة بينهم، موجودة عندهم، إلا في أوقات الشدة والضيق، والفردية الجامحة من طبائع البادية ومن خصائصها، إلى أمور أخرى عديدة تعد من صميم الحياة الأعرابية. وسبب ذلك أن هذه المستوطنات التي سموها قرى كانت وسطا بين البداوة والحضارة، وكانت كالجزر الصغيرة وسط المحيطات الواسعة، محيطات من الأعراب،، تستمد غذاءها الروحي والمادي من البداوة أكثر مما تستمده من الحضارة. أضف إلى ذلك عامل الطبيعة الذي يلعب دورا خطرا في تكون المجتمعات وفي تكييفها بالشكل الملائم. ولذلك لم تتكون في يثرب أو في مكة أو في غبرها حياة مشابهة لحياة الحضر العجم في الأماكن الأخرى مثل مدن وقرى العراق وبلاد الشام ومصر، بل وحتى حضر مدن اليمن وهم من العرب بالطبع.

(1/312)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن هنا نجد حضر اليمن، بل وأعرب اليمن أيضا يختلفون عن حضر وأعراب الحجاز ونجد والعربية الشرقية، في كثير من الخصائص والصفات. مع أنهم كلهم عرب ومن أصل واحد. فحضر اليمن، حضر لا يأنفون من العمل ولا يستصغرون شان الحرف. ولا يأنفون من الزراعة. بينهم الحائك والنساج والمشتغل بالأرض، والصانع والحداد والنجار وعامل البناء، وقالع الحجر ومربي الماعز والغنم والبقر، وزارع الخضر والبقول، ودابغ الجلود، مع أنها حرف يراها العربي في بقية مواضع جزيرة العرب من حرف اليد والطبقات الدنيا من الناس.
و أعراب اليمن، الذين ميزهم حضر اليمن عن أنفسهم في الجاهلية بإطلاق لفظة "اعرب" عليهم، لأنهم لم يكونوا في مستواهم وفي درجتهم في الحضارة. هم مع ذلك وبوجه عام أرقى مستوى وأكثر إدراكا من أعراب الحجاز ونجد. لقد وطنوا أنفسهم في أطراف الحواضر وعند مواضع الماء والخصب، وزرعوا ورعوا ماشية وأنعاما، واستقروا في بيوت من مدر أو حجارة. وهي حياة لا يألفها البدوي القح. ولا يراها من مقومات البداوة. ثم انهم لم يكونوا رحلا على شاكلة أعراب الحجاز أو نجد أو بادية الشمام. وإذا كنا نرى بعض قبائل اليمن، وهي ترحل من مواضعها، فرحيلها هذا هو عن سبب قاهر، مثل حروب أو كوارث طبيعية تجعل من الصعب عليها البقاء في منازلها، فلا يكون أمامها للمحافظة على حياتها غير الرحيل إلى مكان آخر. انهم بالقياس إلى عرب الحجاز أو نجد رعاة أو شبه أعراب.

(1/313)

admin
12-25-2010, 09:46 PM
ومرجع هذه الفروق هو في التباين في الطبيعة. فطبيعة أرض اليمن مثلا طبيعة لطيفة خفيفة، الحرارة فيها معتدلة بوجه عام، والفروق في درجات الحرارة بين الصيف والشتاء،أو بين الليل والنهار ليست كبيرة متناقضة متعاكسة. والضغوط الجوية فيها معتدلة غير قلقة متغيرة بكثرة في اليوم أو في الشهر أوفي السنة، والأمطار متوفرة بوجه عام، تزور اليمن في مواسم معينة، وجبال اليمن العالية جبال تقف شامخة عنيدة وفي وضع مناسب أمام الأبخرة المتصاعدة من البحار، حتى تضطرها على الهبوط غيثا على اليمن يغيث الناس. ثم أن اليمن هضاب وأودية وتهائم، ومسايل طبيعية تقود السيول إلى أحواض حفرتها الطبيعة، وعلمت هذه الطبيعة الإنسان على رفع حافاتها لتحبس الماء في الأحواض، وعلى عمل فتحات فيها لخروج الماء منها وقت الحاجة. وهي غنية بالمعادن وبالحجر الصالح للبناء وبالأشجار التي غرزتها الطبيعة بيدها، وأرض على هذا النحو وعلى هذه الشاكلة لا بد وأن تؤثر على أجسام وعلى عقول أصحابها، فجعلتهم من ثم من أنشط شعوب جزيرة العرب في ميدان العمل والحيلة في كسب العيش وفي إقامة المجتمعات وإنشاء حضارة، وفوقتهم بذلك بوجه عام على سائر عرب جزيرة العرب، وصيرتهم قوما لا يرون الأشغال بالحرف عيبا، ولا امتهان المهن العملية نقصا. ولو كانت أرضهم على شاكلة أرض الحجاز أو نجد، ولو كانت طبيعتها ذات طبيعة صحراوية قاسية، لما صار أهل اليمن بالشكل الذي ذكرته. ولهذا السبب، اختلفت طبائع من يسميهم أهل الأخبار بالقحطانيين الساكنين خارج اليمن في نجد أو في بادية الشام عن طبائع أهل اليمن، فصاروا أعرابا أقحاحا يأنفون من الاشتغال بالحرف، ولا يعيشون إلا على تربية الإبل، إلى غير ذلك من سمات وسم بها البدو مع انهم يمانيون كما يذكر أهل الأخبار. ولو كانت طبيعة أرض البادية على نحو آخر، على نحو يؤمن العيش والراحة لمن يقيم بها، لما وجدنا ما وصففاه من أوصاف عند الأعراب،

(1/314)


--------------------------------------------------------------------------------

فإن الطبيعة تصقلهم إذ ذاك صقلا آخر، قد تجعلهم مستقرين مقيمين على الأقل، ودليل ذلك أثر الأمطار والربيع فيهم، عندما تغيثهم السماء، سنين متوالية، إذ يبقون في أماكنهم، ويقيمون فيها،ولا يخطر ببالهم عندئذ خاطر الارتحال والتنقل من هذه ا لأرض.
ولأثر الطبيعة المذكور في طباع الناس، اختلفت طبائع أهل "الطائف" عن طبائع أهل مكة مع أنها أقرب إلى مكة من اليمن، وسبب ذلك أن الطائف أرض مرتفعة ذات جو معتدل، بها مياه وفيرة، وبها أشجار وهبتها الطبيعة لأرضها منذ القدم، أرضها نصبة فرحة، لا تسودها كآبة البادية ولا يخيم عليها عبوس البيداء، فصارت أخلاق أهلها من ثم أقرب إلى أخلاق أهل اليمن، وصاروا أذكياء، عقولهم متفتحة نيرة، استغلوا أيديهم، فزاولوا الحرف مثل الدباغة، واستغلوا الأرض، إذ زرعوها حبا وأشجارا مثمرة، وربوا الماشية، وصارت مدينتهم حتى اليوم مصيف أهل مكة. مع أنهم عرب ما في أصلهم العربي أدنى شك، وهم وعرب مكة أو يثرب أو نجد من طينة واحدة، لا شك في ذلك ولا شبهة.

(1/315)


--------------------------------------------------------------------------------

فالطبيعة إذن من حر وبرد ومن اختلاف في الضغوط الجوية ومن أشعة شمس محرقة منهكة ومن إشعاع أرضي ومن أمطار و أهوية ورياح ومن طبيعة أرض وموقع، ومن هبة الطبيعة إلى السكان من طعام غني أو فقير، من حبوب وأثمار وخضر وحيوان، أثر بالع في تكون الطباع وفي خلق التمايز بين الأجناس البشرية، تضاف إلى ذلك الظروف الاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي تحيط بالناس ثم التكون الجسماني ومظهره. ومن هنا نجد العربي الأصيل الذي لا شك ولا شبهة في أصله العربي، إذا أقام وحده مدة في مجتمع غربي مثل انكلترة أو اسكاندينافية أو أميركا الشمالية، حيث الطبيعة مختلفة عن طبيعة بلاده وحيث الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية متباينة عن الظروف المذكورة في بلاده، تغير وتبدل واضطر مختارا أو كرها عن غريزة تطور كامنة فيه إلى التأقلم والانسجام مع القوم الذين صار يعيش بينهم. ويتوقف هذا التحول بالطبع على عمر الشخص وعلى قابليته وعلى مدة إقامته في المكان. ولو أقام ذلك العربي طيلة حياته كلها في ذلك الوطن الجديد، وصار له نسل من زوجته العربية التي قدمت معه أيضا، فإن النسل الجديد سيكتسب صفات الموطن الذي نشا فيه ويتخلق بأخلاقه، أما نسل نسله، فإنه سيتحول إلى شخص آخر غريب عن جده، غريب عنه حتى في لغته. ومن هنا نجد الجيل الثالث من أجيال المهاجرين العرب الذين هاجروا إلى أميركا، وتجنسوا بها، جيلا أمريكيا في كل شيء، حتى في لغته وثقافته وشعوره وهواه، يشعر أن حنجرته لا تطاوعه على تعلم العربية وأن أوتارها لا تساعد على النطق بها. مع أنه من أصل عربي أبا وأما. وقد برز من هذا الجيل الجديد اليوم قوم في ميادين العلم والتجارة والمال والصناعة والسياسة والعمل، ودخل نفر منهم مجلس النواب في واشنطن، وسيزيد هذا العدد ولا شك، لم يعقهم عن ذلك عائق الرس والعنصر والجنس وخصائص الدم ولو كان الدم عائقا إلى الأبد، لما حدث في المذكورين ما نراه عمليا

(1/316)


--------------------------------------------------------------------------------

في هذا ا ليوم.
والعربي بعد، إن وصف في الجاهلية أو في الإسلام بالخمول والكسل، وب "الرومانطيقية"، أي بالخيال، وبعسم الصبر وبالأنانية والفردية وبما شاكل ذلك من صفات، فصفاته هذه ليست حاصل خصائص دم ونتيجة سمات عرق، وإنما هي ظروف وأحوال وأوضاع أجبرته على ذلك، ولو أطعم ذلك العربي طعاما صحيا فيه المواد الغذائية الضرورية لنمو الجسم والعقل،ولو تغيرت ظروفه، فهو كما ذكرت سيتغير حتما. وما كان الأوروبي ليتفوق على الشرقي لو أن طبيعة إقليمه وأرضه كانت كطبيعة جزيرة العرب، ولو سكن الألماني أو السويسري أو الإنكليزي بلاد العرب، وصار له نسل، فإن نسله لا ينشا كما لو نشا في وطن والده أو جده، لاختلاف الظروف والأجواء. وما كانت أوروبا خضراء هذه الخضرة ونشطة هذا النشاط بسبب دم أهلها وحده،بل لأن طبيعتها ساعدت الناس وعاونتهم،فأنبتت الرطوبة والأمطار الأشجار بنفسها وكونت لأهلها الغابات، ودفع البرد الناس إلى العمل دفعا، ولهذا تجد الناس عندنا في الشتاء يندفعون إلى العمل اندفاعا بعامل البرد الذي يدفع الجسم إلى الحركة.
أضف إلى كل ذلك عوامل أخرى تؤثر في جسم الإنسان وفي تصرفاته واتجاهاته من تركيب جسم ومن ملامح، مثل لون شعر وتركيبه ولون بشرة أو لون عين وشكل جمجمة وأمور أخرى يدرسها ويبحث فيها علماء الأجناس البشرية، تؤثر أيضا في خصائص الإنسان وفي أجناسه وفصائله، مما لا مجال للبحث عنها في هذا المكان.

(1/317)


--------------------------------------------------------------------------------

والبحث في موضوع نفسيات الشعوب وأصول تفكيرها وميزات عقلها، بحث يجب أن يستند إلى أسس علمية حديثة، وإلى تجارب دقيقة عامة،لذلك لا يمكن التعميم ما دمنا لا نملك بحوثا ودراسات علمية منسقة، قام بها علماء متخصصون في البوادي وفي الحواضر وفي كل مكان من جزيرة العرب، روعي عند إجرائها الظروف الطبيعية المؤثرة في ذلك المكان، والظروف الثقافية السائدة عليه، ودرجة تأثر ذلك المكان بالمؤثرات الخارجية، أي بمؤثرات المناطق المجاورة له. فبين أهل جزيرة العرب بون كبير في العقليات، وبين أهل البوادي في الجاهلية وفي هذا اليوم فروق في النفسيات وفي التعامل، حتى وسمت القبائل بسمات، فوسمت "معد" مثلا ة بالحيلة و الكيد والذكاء وبالغلظة والخشونة، ووسمت "ثقيف" بسمات، ووسمت "كندة" بسميات. وقد رأينا ما ذكره "حافظ وهبة" عن أهل نجد من حضر وبدو.
بل إننا نرى أن الأعاجم المتعربين أي الذين ينزلون بين العرب وينسلون بينهم ويتخذون العربية لسانا لهم، سرعان ما يتعربرون كل التعرب، ويتحول أبناؤهم إلى جيل عربي خالص، حتى ليصب عليك التفريق بينهم وبين العرب في الرسوم والعادات والتفكير، وذلك بتأثير المحيط الذي حلوا به، والظروف الطبيعية المؤثرة بالمكان. وقد تعرب آراميون في العراق وفي بلاد الشام، وصاروا عربا في كل شيء حتى في الصفات التي ذكرناها، وقد وجدت البعثة الأمريكية التي جاءت إلى العراق للبحث عن السلالات البشرية إن في دماء القبائل العربية التي ترى نفسها إنها قبائل عربية خالصة نسبا مختلفة من الدماء الغربية، وإذا أدركنا هذه الملاحظة وقيمة أمثال هذه الدراسات في موضوع تكون العقلية وفي حدودها ورسم معالمها، علمنا انه ليس من السهل في الواقع البحث عن عقلية عربية خالصة تعبر عن عقلية جميع العرب وفي كل مكان.

(1/318)


--------------------------------------------------------------------------------

إن الذين بحثوا في العقلية العربية بصورة عامة، تصوروا العرب وكأنهم جنس واحد انحدر من عرق واحد. وبهذا الاعتقاد وضعوا حدود تلك العقلية. أما إذا نظرنا إلى نتائج فحوص بعض علماء "الأنثروبولوجي" وعلماء الآثار وعلماء الحياة لبقايا الجماجم والعظام التي عثروا عليها من عهود ما قبل الإسلام، وإلى فحوصهم لملامح العرب الأحياء وأجسامهم، فإنها على قلتها، تشير إلى وجود أعراق متعددة بين سكان جزيرة العرب، الأموات منهم والأحياء، الجاهليين والإسلاميين، وإلى وجود اختلاف في نفسياتهم وفي قابلياتهم العقلية، وقد تحدثت قبل قليل عن ملاحظات "حافظ وهبة" عن عقليات عرب المملكة العربية السعودية، وتحدثت عن رأي علماء الحياة والأجناس في تعدد الأعراق وتسرب دماء غريبة إلى جزيرة العرب يجعل من الصعب على الباحث الحذر أن يعتقد بإمكان وضع صورة دقيقة يمثل وجود عقلية واحدة لجميع أولئك الناس وفي كل العصور والعهود.
الفصل الثامن
طبقات العرب
اتفق الرواة وأهل الأخبار، أو كادوا يتفقون على تقسيم العرب من حيث القدم إلى طبقات: عرب بائدة، وعرب عاربة، وعرب مستعربة. أو عرب عاربة، وعرب متعربة، وعرب مستعربة. أو عرب عاربة وعرباء وهم الخلص، والمتعربة. واتفقوا أو كادوا يتفقون على تقسيم العرب من حيث النسب إلى قسمين: قحطانية، منازلهم الأولى في اليمن. وعدنانية، منازلهم الأولى في الحجاز.
واتفقوا، أو كادوا يتفقون على أن القحطانيين هم عرب منذ خلقهم الله، وعلى هذا النحو من العربية التي نفهمها ويفقهها من يسمع هذه الكلمة. فهم الأصل، والعدنانية الفرع، منهم أخذوا العربية، وبلسانهم تكلم أبناء إسماعيل بعد هجرتهم إلى الحجاز، شرح الله صدر جدهم إسماعيل، فتكلم بالعربية، بعد أن كان يتكلم بلغة أبيه التي كانت الإرمية، أو الكلدانية، أو العبرانية على بعض الأقوال.

(1/319)


--------------------------------------------------------------------------------

وتجد الأخباريين والمؤرخين يقسمون العرب أحيانا إلى طبقتين: عرب عاربة، وعرب مستعربة. ويدخلون في العرب العاربة عادا وعبيل ابني "عوص بن إرم"، وثمود وجديس ابني "جاثر بن إرم"، وعمليق وطسم وأميم بني "لوذان بن إرم"، و "بني يقطن بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام"، وهم: جرهم، وحضرموت، والسلف، وجاسم بن عمان بن سبا بن يقشان بن إبراهيم. أما "الهمداني"، فقد عد كل القبائل التي أولها "جاسم" وآخرها "عبس الأولى" من العرب العاربة. والقبائل المذكورة هي "جاسم" الذين نزلوا بعمان والبحرين، وبنو هيف، وسعد، وهزان الأولى، وبنو مطر، وبنو الأزرق، وبنو بديل، وراجل، وغفار، وتيماء، وبنو أثابر، وبنو عبد ضخم.
وظل الرواة يتوارثون هذا التقسيم كلما بحثوا في تاريخ العرب قبل الإسلام، وفي موضوع الأنساب. ولا حاجة بنا إلى أن نعود، فنقول: إن كل ما روي من هذا التقسيم وما رواه الرواة من أخبار تلك الطبقات، لم يرد ألينا من النصوص الجاهلية، وإنما ورد ألينا متواترا من الكتب المدونة في الإسلام، لذلك لا نستطيع أن نجرؤ فنقول: إن هذا التقسيم، وضعه الجاهليون، وتوارثوه كابرا عن كابر، حتى وصل إلى صدر الإسلام، م منه وصل ألينا.
وتقسيم العرب إلى طبقات - وذلك من ناحية القدم والتقدم في العربية - هو تقسيم لا نجد له ذكرا لا في التوراة أو الموارد اليهودية الأخرى ولا في الموارد اليونانية أو اللاتينية، أو السريانية. ويظهر أنه تقسيم عربي خالص، نشأ من الجمع بين العرب الذين ذكر أنهم بادوا قبل الإسلام، فلم تبق منهم غير ذكريات، وبين العرب الباقين، وهم إما من عدنان، وإما من قحطان.
وجماع العرب البائدة في عرف أكر أهل الأخبار، هم: عاد، وثمود، وطميم، وجديس، وأميم، وجاسم، وعبيل، وعبد ضخم، وجرهم الأولى، والعمالقة، وحضورا. هؤلاء هم مادة العرب البائدة و خامها، وهم أقدم طبقات العرب على الإطلاق في نظر أهل الأخبار.

(1/320)


--------------------------------------------------------------------------------

أما عاد، فإنهم من نسل "عاد بن عوص بن إرم". وأما ثمود فمن نسل "ثمود بن غاثر بن إرم". وأما "طسم"، فمن نسل "طسم بن لاوذ". وأما "جديس"، فمن نسل "جديس بن غاثر بن إرم"، في رواية أو من نسل "جديس بن لاوذ بن سام" على رواية أخرى. وأما "أميم" فإنهم من نسل "أميم بن لاوذ بن سام". وأما "جاسم"، فمن نسل "جاسم"، وهو من العماليق أبناء "عمليق"، فهم اذن من نسل "لاوذ بن سام". وأما "عبيل"، فإنهم من نسل "عبيل بن عوص بن إرم"، وأما "عبد ضخم"، فمن نسل "عبد ضخم" من نسل "لاوذ"، وقد جعلوا من صلب "أبناء إرم" في رواية أخرى. وأما "جرهم الأولى"، فمن نسل "عابر"، وهم غير جرهم الثانية، الذين هم من القحطانيين. وأما العمالقة، فإنهم أبناء "عمليق بن لاوذ"، وأما "حضورا"، فإنهم كانوا بالرس، وهلكوا.
نرى مما تقدم أن أهل الأخبار قد رجعوا نسب العرب البائدة إما إلى "إرم"، وإما إلى "لاوذ"، باستثناء "جرهم الأولى" الذين ألحق بعض النسابين نسبهم ب "عابر". وهذه الأسماء هي أسماء توراتية، وردت في التوراة، وأخذها أهل الأخبار من منابع ترجع إلى أهل الكتاب، وربطوا بينها وبين القبائل المذكورة، وكونوا منها الطبقة الأولى من طبقات العرب.
و "إرم"، هو شقيق "لاوذ" في التوراة، وأبوهما هو "سام بن نوح"، وقد ترك "سام" هذا من الأولاد "آشور" Asshur و "أرفكشاد" و "لود" و "إرم" و "عيلام". كما ورد في التوراة. وقد أجرى أصحاب الأخبار بعض التحوير والتغيير في هذه الأسماء، بأن صيروا "آشور" )أشوذ( و "انشور" و "أرفكشاد" "أرفخشذ"، و "لود" "لاوذ"، و "عيلام" "عويلم"0 أما "إرم"، فقد أبقوه ولم يغيروا في شكله.

(1/321)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا نجد ل "لود" أي "لاوذ" ولدا في التوراة. فأولاده المذكورون هم هدية من أهل الأخبار قدمت أليه. أما "إرم"، وهو "آرام" في التوراة، فإن له من الأولاد "عوص" و "حول" و "ماش" و "كيثر". ولم تذكر التوراة ولدا لهؤلاء الأبناء الأربعة، فالأولاد الذين ذكرهم أهل الأخبار، على انهم ولد "عوص" و "كيثر" "غاثر" "كاثر"،هم هبة من الأخباريين قدموها إلى هذين الأخوين.
وأما "لود" الذي صار "لاوذ"، عند أهل الأخبار، فإن آراء الباحثين في التوراة مختلفة في المراد منه. وقد ظن بعضهم أنه جد "اللوديين"، وذكر هؤلاء "اللوديين" مع "كوش" و "فوط"، و بين "فارس" و "فوط". وأما "لود" أبوهم، فإنه ابن "مصرايم" أي مصر. ويحملنا هذا على التفكير في أنهم شعب من شعوب إفريقية. ولكن هذا الرأي يخالف ما جاء عن "لود" من انه ابن "سام"، وانه شقيق لأخوته المذكورين الذين تقع أملاكهم في الهلال الخصيب، ومقياسا على هذه المواضع يجب أن يكون ملكه في هذه الأرضين أيضا. ومهما يكن من شيء، فإن آراء العلماء متباينة في مواضع نسله، ولم ينوه أحد منهم أنها في جزيرة العرب.
وأما عوص، فإن آراء العلماء متباينة كذلك في المكان المنسوب أليه، فذهب بعضهم إلى أن أرض "عوص" يجب أن تكون على تخوم "ايدوم" أو تخوم العربية الشمالية، وذهب بعض آخر إلى أنها المناطق التي على نهر الفرات، وذهب بعضهم إلى أنها في منطقة "حوران" وذهب بعض آخر إلى أنها أرض "دمثسق" و "اللجاة" "اللجاء"، وذهب آخرون إلى أنها في الحجاز أو في نجد. ورأى بعض أهل الأخبار أن منزل "عوص" هو "الأحقاف".
وأرض "عوص" هي موطن "أيوب" الشهير صاحب السفر المعروف باسمه والذي ورد ذكره في القرآن الكريم، وضرب به المثل في الصبر.
وأكاثر "جاثر" "Gether"، فلا يعلم من أمره شيء، ويحب أن تكون مواطن "الكاثريين" في الهلال الخصيب، أو في بادية الشام، أو في التخوم الشمالية لجزيرة العرب، وذلك نظرا لوروده مع "عوص" و "ماش".

(1/322)

admin
12-25-2010, 10:02 PM
وقد جعل أهل الأخبار "النبط" من نسل "نبيط بن ماش"، وجعلوا أهل الجزيرة والعال من ولد "ماش" كذلك. أما النبط في التوراة، فانهم "نبيوت" نسبة إلى الابن الأكبر لأبناء "إسماعيل المسمى ب "نابت" عند أهل الأخبار وليس ل "ماش" علاقة به وبالنبط. وأما "ماش"، فانه كناية عن موضع سكنه جماعة عرفوا بهذا الاسم، لعله "بادية ماش" "صحراء ماش" المذكورة في الكتابات الآشورية، وهي في البادية الكبيرة المسماة "بادية الشام".
العرب البائدة
ونحن جريا مع عادة أهل الأخبار في تقسيم العرب إلى الطبقات الثلاث المذكورة، نبدأ بذكر الطبقة الأولى من طبقات العرب، وهي طبقة العرب البائدة.
وقد شك كثير من المستشرقين في حقيقة وجود أكثر الأقوام المؤلفة هذه الطبقة، فعدها بعضهم من الأقوام الخرافية التي ابتدعتها مخيلة الرواة، وخاصة حين عجزوا عن العثور على أسماء مشابهة لها أو قريبة منها في اللغات القديمة أو في الكتب الكلاسيكية، وقد اتضح الآن أن في هذه الأحكام شيئا من التسرع، إذ تمكن العلماء من العثور على أسماء بعض هذه الأقوام، ومن الحصول على بعض المعلومات عنها، ومن حل رموز بعض كتاباتهم مثل الكتابات الثمودية. وقد اتضح أن بعض هذه الأقوام أو أكثرها قد عاشوا بعد المسيح ولم يكونوا ممعنين في القدم على نحو ما تصور الرواة. ولعل هذا كان السبب في رسوخ أسمائهم في مخيلة الإخباريين.

(1/323)


--------------------------------------------------------------------------------

وأبدأ الآن بالتحدث عن "عاد": عاد: و إذا جارينا الأخباربين، وسرنا على طريقتهم في ترتيب الشعوب العربية، وجب علينا تقديم طسم وعمليق وأميم وأمثالهم على عاد وثمود؛ لأنهم من أبناء "لاوذ بن سام" شقيق "إرم"، وعاد وثمود من حفدة "إرم بن سام". ولكن الأخباريين يقدمون عادا على غيرهم، و يبدأون بهم، وهم عندهم أقدم هذه الأقوام، ويضربون بهم المثل في القدم. ومثلهم في ذلك مثل أخباريي العبرانيين الذين عدوا العمالقة أول الشعوب. ولعل هذه النظرية تكونت عند الجاهليين من قدم عاد، أو من ورود اسم عاد في القرآن الكريم في سورة الفجر ثم مجيء اسم "ثمود" بعد ذلك. ولهذا صاروا إذا ذكروا "عادا" ذكروا "ثمودا" بعدها في الترتيب. فلورودهما في القرآن الكريم قدما على بقية الأقوام.
وقد أورد "الطبري" ملاحظة مهمة عن قوم "عاد" وعن رأي أهل الكتاب فيهم، إذ قال: "فأما أهل التوراة، فإنهم يزعمون أن لا ذكر لعاد ولا ثمود ولا لهود وصالح في التوراة، وأمرهم عند العرب في الشهرة في الجاهلية، والإسلام كشهرة إبراهيم وقومه". ويظهر من ذلك أن المسلمين حينما راجعوا اليهود يسألونهم علمهم عن عاد وأمثالهم، أخروهم بعدم وجود ذكرهم في التوراة. والواقع أن التوراة لا علم لها فيهم. فأحادث عاد وثمود وهود وصالح إنما هي أحاديث عربية، تحدث بها الجاهليون، وليس لها ذكر في كتب يهود، ولكن أهل. الأخبار ربطوا مع ذلك بينها وبين التوراة، وأوجدوا لها صلة ونسبا بأسماء أعيان وردت في التوراة. ولكن عملهم هذا لا يخفى بالطبع على من له وقوف على التوراة.

(1/324)


--------------------------------------------------------------------------------

وأكثر هذه الأقوام أقوام متأخرة عاشت بعد الانتهاء من تدوين التوراة، عاشت بعد الميلاد في الغالب، ولعل منها من عاش إلى عهد غير بعيد عن الإسلام. ثم إن التوراة والكتب اليهودية الأخرى لم تهتم إلا بالشؤون التي لها علاقة بالعبرانيين، وهي ليست كتبا في التواريخ العامة للعالم حتى تكتب عنهم وعن أمثالهم من قبائل. أما بقاء أخبار قوم عاد ومن كان على شاكلتهم من العرب البائدة في ذاكرة أهل الأخبار، فلأنهم عاشوا بعد الميلاد، وفي عهد غير بعيد عن الإسلام، ومع ذلك، فقد أخذت أخبارهم طابع القصص والأساطير.
وقد ذهب بعض أهل الأخبار إلى أن عادا هي "هدورام" في التوراة. ودليلهم على ذلك اقتران عاد بإرم في الكتب العربية، وبعض القراءات التي قرأت "بعاد إرم" في الآية: )ألم تر كيف فعل ربك بعاد، إرم ذات العماد" على الإضافة، أو مفتوحتين، أو بسكون الراء على التخفيف، أو بإضافة إرم إلى ذات العماد. وبين "عاد إرم" و "هدورام" تشابه كبير في النطق.

(1/325)


--------------------------------------------------------------------------------

ولكن التوراة تشير إلى أن "هدورام" من نسل "يقطان"، أي قحطان في الكتب العربية، وهذا لا يستقيم مع الروايات. ويرد "جرجي زيدان" على هذا الاعتراض بقوله: "ولعل كاتب سفر الخليقة رأى مقر تلك القبيلة في بلاد اليمن، فقال أنها من نسل قحطان، لأن مقام عاد في الأحقاف بين حضرموت واليمن. كثيرا ما التبس علماء التوراة في هدورام أو هادرام ومقر نسله، ولم يهتدوا إلى شيء عنه، مع انهم اهتدوا إلى أماكن أكثر أبناء قحطان، وكلها بحوار الأحقاف، فعاد هي "هدورام" في التوراة. وإما أن يكون كاتب سفر الخليقة أراد بيان القبائل التي سكنت اليمن، وكلها ينسب إلى قحطان، فرأى عاد إرم في جملتها، فجعله من أولاد قحطان وبعبارة أخرى: من القبائل المتفرعة عن قبيلة قحطان. وإما أن يكون بالحقيقة من نسل قحطان،وهم العرب في نسبته إلى آرام"، ورأى "فورستر" وجود صلة بين "عادة"، وهو اسم زوجة "لامك"، وبن "عاد"، وهي والدة "يابال" الذي كان أبا لسكان الخيام ورعاة المواشي، ونسلها من الأعراب. وقوم عاد من الأعراب كذلك. وذهب أيضا إلى أن هؤلاء هم Oaditae وهو اسم "قوم ذكرهم "بطليموس"" على انهم كانوا يقيمون في الأرضين الشمالية الغربية من جزيرة العرب، ولعلهم كانوا يقيمون عند موضع "بئر إرم"،وهي من الآبار القديمة في منطقة )حسمى( على مقربة من جبل يعرف بهذا الاسم في ديلر جذام بين أيلة وتيه بني إسرائيل. ولا يبعد هذا الموضع عن أماكن ثمود الذين ارتبط اسمهم باسم عاد. وقد أيد هذا الرأي )شبرنكر( وجماعة من المستشرقين، وهو أقرب الآراء إلى الصواب.

(1/326)


--------------------------------------------------------------------------------

وذهب الأخباريون إلى وجود طبقتين لقوم عاد هما: عاد الأولى، وعاد الثانية، وكانت عاد الأولى، في زعم أهل الأخبار، من أعظم الأمم بطشا وقوة، وكانت مؤلفة من عدة بطون تزيد على الألف، منهم: رفد، ورمل، وصد،والعبود. والظاهر أن فكرة وجود طبقتين لعاد قد نشأت عند الأخباربين من الآية: )وأنه أهلك عادا الأولى، وثمود فما أبقى(، فتصوروا وجود عاد ثانية، قالوا أنها ظهرت بعد هلاك عاد الأولى.
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن "عادا الأولى"، هو "عاد بن عاديا ابن سام بن نوح"، الذين أهلكهم الله، وأوردوا في ذلك بيت شعر ينسب إلى "زهر"1. وأما عاد الآخرة، فهم "بنو تميم" وينزلون برمال عالج. وذهب الطبري إلى أن عادا الأولى، هم نسل بن عوص بن إرم بن سام ابن نوح، وأن عادا الآخرة هم رهط قيل بن عتر، ولقيم بن هزال ابن هزيل بن عتيل بن صد بن عاد الأكبر، ومرشد بن سد بن عفير، وعمرو بن لقيم بن هزال، وعامر بن لقيم، وسرو بن لقيم بن هزال، وكانوا في أيام "بكر بن معاوية" صاحب "الجرادتين"، وهما قينتان له تغنيان. وقد هلكوا جميعا الا "بني اللوذية"، وهم "بنو لقيم بن هزال ابن هزيل بن هزيلة ابنة بكر"، وكانوا سكانا بمكة مع أخوالهم "آل بكر ابن معاوية"، ولم يكونوا مع عاد بأرضهم فهم عاد الأخيرة، ومن كان من نسلهم الذين بقوا من عاد.
وجعل بعض أهل الأخبار عدد قبائل عاد ثلاث عشرة قبيلة، ذكروا منها: "رفد" و "زمل" و "صد" و "العبود".
وجعلها "الهمداني" أحد عشر قبيلة وهي: العبود، والخلود، وهم رهط هود النبي المرسل، وفيهم بنو عاد وشرفهم، وهم بنو خالد. وقيل: بنو مخلد، وبنو معبد، ورفد، وزمر وزمل، وضد وضود، وجاهد، ومناف، وسود، و هوجد.

(1/327)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذهب العلماء مذاهب في تفسير المراد من "إرم ذات العماد" في الآية: )ألم تر كيف فعل ربك بعاد، إرم ذات العماد( فذهب بعضهم إلى أن "إرم ذات العماد" مدينة في "تيه أبين" بين عدن وحضرموت، وذهب آخرون إلى أنها دمشق أو الإسكندرية. والذي دعاهم إلى هذا الرأي - على ما أرى - هو كثرة وجود المباني ذوات العماد في هاتين المدينتين وما عرف عنهما من القدم، فوجد الأخباريون فيهما وصفا ينطبق على وصف إرم ذات العماد. وقد خلقت "باب جيرون" من أبواب دمشق قصة "جيرون بن سعد ابن عاد" الذي قالوا فيه إنه كان ملكا من ملوكهم، وإنه الذي اختط مدينة دمشق، وجمع عمد الرخام والمرمر إليها، وسماها "إرم".
وهناك مناسبة أخرى جعلت بعض العلماء يذهبون إلى أن دمشق هي "إرم" أو "إرم ذات العماد"، فقد كانت دمشق - كما هو معروف - من أهم مراكز الإرمين "الآراميين"، وكانت عاصمة من عواصمهم. وهذا السبب أيضا قال نفر من الباحثين إن "إرم" تعني "أرام"، وأن عادا من "الآراميين"، وأن "عاد إرم" انما تعني "عاد أرام"، فالتبس الأمر على المؤرخين وظنوا أن ذات العماد صفة، فزعموا أنها مدينة بناها عاده. غير أنه قول لا يؤيده دليل يثبت أن "إرم" في هذا الموضع تعتي "ارام". ومن الجائز أن تكون "إرم ذات العماد" هي التي أوحت إلى النسابين فكرة جعل "عاد" من نسل "عوص بن ارم"، لتشابه اسم "ارام" و "ارم" عند العرب التي هي "آرآم" فأصبحت عاد من الإرميين.
ويرى بعض المستشرقين أن الذي حمل الأخبارين على القول إن "الإسكندرية" هي "ارم ذات العماد"، هو أثر قصص الإسكندر في الأساطير العربية الجنوبية ذلك الأثر الذي نجده في كتب القصاص اليمانيين، في مثل كتاب "التيجان" المنسوب إلى وهب بن منبه، وفي الرواية اليمانية. وقد حاول الإسكندر كما نعرف احتلال اليمن، فغدا "شداد بن عاد" بانيا للإسكندرية، وأصبح "الإسكندر" مكتشفا لها.

(1/328)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد فسر العلماء لفظة "إرمي" الواردة في بيت الحارث بن حلزة البشكري: إرمي بمثله جالت الجن فآبت لخصمها الأجلاء
بأنها نسبة إلى "إرم عاد" في قدم ملكه، وقيل في حلمه.
ونسب بعض أهل الأخبار ل "عاد" ولدا، دعوه "شدادا" قالوا: إنه كان قويا جبارا، سمع بوصف الجنة، فأراد بناء مدينة تفوقها حسنا وجمالا، فأرسل عماله، وهم: "غانم بن علوان"، و "الضحاك بن علوان"، و "الوليد بن الريان"، إلى الآفاق، ليجمعوا له جميع ما في أرضهم من ذهب وفضة ودر وياقوت، فابتنى بها مدينته، مدينة "إرم" باليمن، بين حضرموت وصنعاء، ولكنه لم ينعم بها إذ كفر بالله، ولم يصدق بنبوة "هود"، فهلك. وتولى من بعده ابنه "شديد".
وزعم بعض، النسابين أن نسب "شداد" هو على هذه الصورة: "شداد ابن عمليق بن عوفي بن عامر بن إرم"، فأبعدوه بذلك عن "عاد". وقيل في نسبه غير ذلك.
ويفهم من القرآن الكريم أن مساكن "عاد" بالأحقاف، )واذكر أخا عاد، إذ أنذر قومه بالأحقاف(. والأحقاف: الرمل بين اليمن وعمان إلى حضرموت والشجر. وديارهم بالدو والدهناء وعالج ويبرين ووبار إلى عمان إلى حضرموت إلى اليمن. وقد اندنع أكثر الأخبارين يلتمسون مواضعهم في الصحارى، لأنها أنسب المواضع التي تلائم مفهوم الأحقاف، فوضعوا من أجل ذلك قصصا كثيرا في البحث عن مواطن عاد وتبور عاد، ورووا في ذلك كثيرا من قصص المغامرات التي تشبه قصص مغامرات لصوص البحر.

(1/329)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي بعض الأخبار: أن "عادا" لحقت برالشحر، فسكنت به، وعليه هلكوا بواد يقال له "مغيث". فلحقتهم بعد "مهرة" بالشحر. وقد سبق أن قلت: إن Oaditae الذي ذكرهم "بطلميوس" هم قوم "عاد"، وإنهم كانوا يسكنون في الأرضين الشمالية الغربية من جزيرة العرب في منطقة "حسمى"، أي في أعالي الحجاز، وعلى مقربة من مناطق ثمود. وهو أقرب إلى الصواب، اذ اقترن ذكر عاد في القرآن بذكر )ثمود الذين جابوا الصخر بالواد(. "حسمى" أقرب إلى هذا الوصف من الرمال. ولم يعين القرآن موضع الأحقاف، و إنما عينه المفسرون، ولا يحتم تفسيرهم تخصيص الأحقاف بهذا المكان، حيث جعلوا رمال "وبار" في جملة المناطق التي كانت لعاد.
وقد ذهب "موريتس" إلى ان موضع "Aramaua" الذي ورد عند "بطلميوس"، وهو "إرم"، أو "إرم ذات العماد". ويقال له الآن "رم". وقد أيد "موسل" رأي "موريتس" غير أنه لم يذهب إلى ما ذهب أليه من أنه "إرم". وقد أظهرت الحفريات التي قام بها "المعهد الفرنسي" في القدس، صحة هذا الرأي، إذ ورد في الكتابات "النبطية" التي عثر عليها في خرائب معبد اكتشف في "رم" أن اسم الموضع هو "إرم". فيتضح من ذلك أن هذا الموضع حافظ على اسمه القديم،غير أنه صار يعرف أخرا ب "رم" بدلا من "إرم".
وفي سنة 1932 قام "هورسفيلد" Horsfield من دائرة الآثار في المملكة الأردنية الهاشمية حفريات في موضع جبل "رم"، ويقع على مسافة "25" ميلا إلى الشرق من العقبة، ويقع المكان الذي بحث فيه عند واد، وعلى مقربة منه "عين ماء"، ووجد في جانب الجبل آثارا جاهلية قديمة. وقد حملت اكتشافاته هذه و اكتشافات "سافينياك" Savignac واكتشافات "كليدن" H.W. Glidden على القول: إن هذا المكان هو موضع "إرم" الوارد ذكره في القرآن، والذي كان قد حل به الخراب قبل الإسلام، فلم يبق منه عند ظهور الإسلام غير عين ماء كان ينزل عليها التجار وأصحاب القوافل الذين يمرون بطريق الشام - مصر - الحجاز.

(1/330)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر "ياقوت الحموي" اسم مكان سماه "جش إرم"،قال عنه: إنه اسم جبل عند "أجأ" أحد جبلي. طيء، أملس الأعلى، سهل ترعاه الإبل، وفي ذروته مساكن لعاد وإرم، فيه صور منحوتة من الصخر. ففرق "ياقوت" هنا بين عاد وإرم، وجعلهما قومين: قوم عاد وقوم إرم، وقد تكون الواو بين الكلمتين زيادة من الناسخ، فيبطل حينئذ الاستدلال على تفريق ياقوت بينهما. وفي الكتب العربية أسماء محلات أخرى قديمة عثر فيها على نقوش وتماثيل، وصفت أنها من مساكن قوم عاد.
وبالإضافة إلى المواضع التي أشير فيها إلى "عاد" في القرآن الكريم، فقد أشر إليهم في الشعر الجاهلي كذلك في شعر طرفة وفي شعر النابغة وفي شعر زهير وفي شعر الهذليين، وفي شعر طفيل بن عوف الغنوي، وفي شعر "متمم بن نويرة" شقيق "مالك بن نويرة"، وهو من الشعراء المخضرمين الذين عاشوا في الجاهلية وأدركوا الإسلام، وفي شعر "أمية بن أبي الصلت"، وهو ممن عاش في أيام الرسول كذلك، وفي شعر غيرهم من الشعراء الجاهلين المخضرمين.
وورد في شعر لزهير بن أبي سلمى "أحمر عاد"، وضرب المثل بشؤم أحمر عاد، فقيل: أشأم من أحمر عاد. وجعل الشاعر "أبو خداش الهذلي" "كليب وائل" كأحمر عاد في الشؤم، وذلك بسبب الحرب التي هاجت بين بكر وتغلب. وقد نص "ابن قتيبة الدينوري" على أن المراد من "أحمر عاد" "أحمر ثمود" الذي عقر الناقة.

(1/331)


--------------------------------------------------------------------------------

ويدل ورود خبر "عاد" في القرآن الكريم وفي الشعر الجاهلي على أن القصة كانت شائعة بين عرب الجاهلية معروفة عندهم، وأنهم كانوا يتصورون أن قوم "عاد" كانوا من أقدم الأقوام، ولذلك ضرب بقدمهم المثل حتى إنهم كانوا ينسبون الشيء الذي يريدون أن يبالغوا بقدمه، إلى عاد، فيقولون إنه "عادي". وإذا رأوا أثرا قديما أو أطلالا قديمة عليها نقوش لا يعرفون صاحبها، قالوا إنها عادية، أي من أيام عاد. وإذا رأوا بناء قديما لا يعرفون صاحبه، قالوا إنه بناء عادي. وقد تحدث "المسعودي" عن أشجار عادية، أي قديمة جدا. ولهذا السبب رأى "ولهوزن" أن كلمة "عاد" لم تكن اسم علم في الأصل، بل كان يراد بها القدم، وأن كلمة "عادي" تعنى منذ عهد قديم جدا، وكذلك كلمة "من عاد" أو "من العاد"، أو من "عهد عاد". وان المعنى هو الذي حمل الناس على وضع تلك الأساطير عن أيام "عاد".
وقد جعل بعض الشعراء أيام "عاد" من أوليات الزمان، التي جاءت بعد "نوح" وجعل بعض آخر لفظة "إرمي"؛ بمعنى "عادي"، أي قديم كأنه من عهد إرم وعاد، أو كأنه في الحكم من عاد.
وقد ضرب المثل في القرآن الكريم بقدم "قوم نوح" وقوم "عاد وثمود" حتى إن أخبارهم خفيت عن الناس فلا يعلمها إلا الله: )ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود، والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله(، وفي ذلك دلالة على أن الناس في أيام الرسول كانوا يرون أن الأقوام المذكورة هي من أقدم الأقوام، ولهذا ذكروا بهم للاتعاظ.
وقد ورد ذكر عاد في الكتاب الذي وجهه "يزيد بن معاوية" إلى أهل المدينة يهددهم فيه بمصير يشبه مصير "عاد وثمود"، حيث ينزل بهم عقابا شديدا ويصيرهم حديثا للناس، "واترككم أحاديث تنسخ بها أخباركم مع أخبار عاد وثمود". وقال "سبيع" لأهل اليمامة: "يا بني حنيفة بعدا كما بعدت عاد وثمود".

(1/332)

admin
12-25-2010, 10:03 PM
وضرب المثل برجل من "عاد" اسمه "ابن بيض"، زعموا أنه كان من عاد، وكان تاجرا مكثرا عقر ناقة له على ثنية، فسد بها الطريق على السابلة، فضرب به المثل.
وزعم أهل الأخبار أن رجلا غنيا من بقية "عاد" اسمه "حمار" كان متمسكا بالتوحيد، فسافر بنوه، فأصابتهم صاعقة فأهلكتهم، فأشرك بالله وكفر بعد التوحيد، فاحرق الله أمواله وواديه الذي كان يسكن فيه فلم ينبت بعده شيء. ويزعمون أن "امرأ القيس" الشاعر ذكر ذلك الوادي في شعر له.
ويذكر أهل الأخبار أن المكان الذي كان فيه "حمار" المذكور هو "جوف"، وهو موضع في ديار عاد، وقد نسب اليه، فقبل "جوف حمار"، نسبة إلى "حمار بن مويلع"، فلما أشرك بالله وكفر، أرسل الله نارا عليه فأحرقته وأحرقت الجوف أيضا، فصار ملعبا للجن لا يستجرئ أحد أن يمر به، والعرب تضرب به المثل، فتقول: "أخلى من جوف حمار".
هود
ويرد مع قوم "عاد" ذكر نبي منهم، هو "هود"، وقد نعت في القرآن الكريم ب "أخي عاد": )وإلى عاد أخوهم هودا، قال: يا قوم، اعبدوا الله(. كما نعت القرآن عادا بقوم هود: )ألا، إن عادا كفروا ربهم،ألا بعدا لعاد قوم هود(. "قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح". وقد نسبه الناسبون إلى "الخلود بن معيد بن عاد"، وإلى "عبد الله بن رباح ابن جاوب بن عاد بن عوص بن إرم"، وإلى "عبد الله بن رباح بن الخلود ابن عاد بن عوص بن إرم"، ومن أهل الأنساب من زعم انه "عابر بن شالخ ابن أرفخشذ بن سام بن نوح"، إلى غير ذلك من روايات.

(1/333)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد وردت قصته مع قومه ونهيه لهم عن عبادة الأصنام في القرآن الكريم. وقد ضرب المثل بكفر رجل من عاد، اسمه "حمار"، فقيل:"أكفر من حمار"، قالوا: "هو رجل من عاد، مات له أولاد، فكفر كفرا عظيما، فلا يمر بأرضه أحد إلا دعاه إلى الكفر، فإن أجابه، وإلا قتله". وذلك على نحو ما ذكرته عنه قبل قليل. وهي قصة واحدة، رويت بطرق متعددة، تختلف في التفاصيل، لكنها متفقة من حيث الفكرة والجوهر، وعليها طابع قصص الوعاظ وأهل الأخبار. وقد ذكر أصحاب الأخبار أن غالبية "عاد" كفرت بنبوة "هود"، ولم تؤمن به، لهذا أصابها العذاب والهلاك. ولم ينج منهم إلا من آمن ب "هود" واتبعه وسار معه حين ترك قومه: قوم عاد.
وقد نبه المستشرقون إلى وجود شبه بين هود و "هود" الواردة في القرآن أيضا بمعنى "يهود": )وقالوا كونوا هودا، أو نصارى، تهتدوا(. وأشاروا إلى أن "هودا" تعني التهود، أي الدخول في اليهودية، كما لاحظوا أن بعض النسابين قالوا إن هودا هو "عابر بن شالح بن أرفكشاد" جد اليهود، فذهبوا إلى أن هودا لم يكن اسم رجل، و إنما هو اسم جماعة من اليهود هاجرت إلى بلاد العرب، وأقامت في الأحقاف، وحاولت تهويد الوثنيين، وعرفوا بيهوذا، ومنها جاءت كلمة "هود"، و أنها استعملت من باب التجوز علما لشخص.
وزعم الرواة أن هودا ارتحل هو ومن معه من المؤمنين بعد النكبة التي حلت بقومه الكافرين من أرض عاد إلى الشحر. فلما مات دفن بأرض حضرموت. ويدعي الرواة انه قبر في واد يقال له "وادي برهوت" غير بعيد عن "بئر برهوت" التي تقع في الوادي الرئيسي للسبعة الأودية. وهي من الآبار القديمة التي اشتهرت في الجاهلية بكونها شر بئر في الأرض، ماؤها أسود منتن، تتصاعد من جوفها صيحات مزعجة، وتخرج منها روائح كريهة، ولذلك تصور الناس أنها موضع تتعذب أرواح الكفار فيه.

(1/334)


--------------------------------------------------------------------------------

ويذهب السياح الذين زاروا هذا المكان ودرسوه إلى انه موضع بركان قديم، يظهر أنه انفجر، فاهلك من كان حوله. ويؤيد هذا الرأي ما ورد في الكتب العربية من أنه كان يسمع لهذا المكان أصوات كالرعد من مسافات، وانه كان يقذف ألوانا من الحمم يسمع لها أزيز راعب. ومن هنا نشأت قصة قبر هود، وعذاب عاد في هذا الموضع، على رأي المستشرق "فون كريمر".
ولا يزال هذا الموضع الذي يقال له "قبر هود"، يزار حتى الآن، يقصده الناس من أماكن بعيدة في اليوم الحادي عشر من شعبان للزيارة، وربما كان من الأماكن التي كان يقدسها الجاهليون.
وفي هذه المناطق آثار مدن بائدة، وقرى جاهلية، وتشاهد كهوف ومغاور على حافتي الوادي، وكتابات وصور منقوشة على الصخور تسل كلها على أنها كانت من المناطق المأهولة، وأنها تركت لسبب آفات وكوارث طبيعية نزلت بهذه الديار.
ورأى نفر من المستشرقين أن هذا المكان الذي فيه قبر "هود" هو الموضع الذي سماه الكتاب اليونان Styx أو Stygis ، والذي زعم الرومان أن قبيلتين من قبائل جزيرة "اقريطش" "كريت" وهما قبيلة Minos و "رودومانتس" Rhodomantys تركتا موطنهما الأصلي، وارتحلتا إلى هذا المكان الذي ضم مئات من القبائل العربية، فكانتا من أقواها. وقد سكنتا في رأيهم، على مقربة من موضع سماه "بلينيوس" Stygis Aguniae Fossa.

(1/335)


--------------------------------------------------------------------------------

أما الأخباريون الذين زعموا أن "هودا" اعتزل قومه بعد يأسه من قبول دعوته، وأنه ذهب مع من آمن به إلى مكة، فقد ذهبوا إلى أنه عاش فيها أمدا، ثم مات هناك، فقبره بمكة مع قبور ثمانية وتسعين نبيا من الأنبياء. وذكر جماعة أنه بدمشق في المسجد الأموي. ولعل القصص الوارد عن "دمشق"، وأنها "إرم ذات العماد" هو الذي أوحى. إلى هؤلاء فكرة جعل قبر "هود" بدمشق. ومهما يكن من شيء فإن هناك جماعة من أهل الأخبار قبرت بعض الأنبياء في هذه المدينة، واختارت المسجد الأموي نفسه مقبرة لهم. ولعل ذلك بسبب أن هذا المسجد كان كنيسة معظمة قديمة عند أهل دمشق قبل دخولهم في الإسلام، وكان قد قبر فيها جماعة من قديسيهم ورجال دينهم، فلما تحولت الكنيسة إلى جامع تحولت قبور هؤلاء بعواطف الناس القديمة إلى قبور أنبياء. وقد ظهر مثل هذه الروايات التي تمجد الجامع الأموي في الوقت الذي تحصن فيه "ابن الزبير" بمكة، وتحزب أهل الحجاز على الأموبين.
وقد اتخذ القحطانيون هودا جدا من أجدادهم، وألحقوا نسبهم به، وتفاخروا به. فعلوا ذلك بدافع العصبية والمفاخرة على العدنانيين الذين كانوا يقولون إن فيهم الأنبياء، ولم يكن في قحطان نبي، فأوجد نسابوهم نسبا يوصلهم إلى الأنبياء، كما أوجدوا لهم نسبا احتكر لهم العروبة، وجعلهم الأصل والعدنانيون من الطارئين عليهم، كما سيأتي الحديث عن ذلك.

(1/336)


--------------------------------------------------------------------------------

وإذا صح أن الشعر المنسوب إلى حسان بن ثابت الذي افتخر فيه بانتسابه إلى "هود بن عابر"، وبأن قومه وهم من "قحطان" منهم، هو هذا الشاعر حقا، يكون لدينا أول دليل يثبت أن هذا الانتساب كان معروفا عند ظهور الإسلام. وأن أهل "يثرب"، وهم من الأوس والخزرج، وهم من قحطان في عرف النسابين، كانوا قد انتسبوا أليه قبل الإسلام. أخذوا ذلك من اليهود النازلين بينهم، الذين كانوا يحاولون التقرب إلى أهل يثرب، للعيش مهم عيشة طيبة. فأشاعوا بين الناس أن "عايرا"، وهو جد العبرانيين، ووالد ولدين هما "فالغ" و "يقطان" كان جدهم وجد أهل يثرب، لأن أصلهم من يقطان، وأن علاقتهم لذلك بهم هي علاقة أبناء عم بأبناء عم. ولما نزل الوحي بخبر "هود"، وتفاخر المكيون على أهل يثرب بالإسلام، استعار أهل يثر ب "هودا"، وصيروه "قحطانا"، أو ابنا له، وانتسبوا اليه، ليظهروا بذلك انهم كانوا أيضا من نسل نبي، وان نبوءة قديمة كانت فيهم، وقد كان "حسان بن ثابت" من المتعصبين للأزد قوم أهل يثرب، والأزد من قحطان بر وكان من المتباهين بيمن و قحطان.
لقمان
ومن قبائل عاد قبيلة كان فيها "لقمان" الذي ورد ذكره في القرآن الكريم وفي الشعر الجاهلي وفي القصص. وقد ضرب به المثل بطول العمر، فعد في طليعة المعمرين، وعده "أبو حاتم السجستاني" ثاني المعمرين في العالم بعد الخضر. وقد كان عرب الجاهلية يعرفون قصص "لقمان"، وكانوا يصفونه بالحكمة. وقد وصف في القرآن الكريم بهذه الصفة: )ولقد آتينا لقمان الحكمة(. ولهذا السبب عرف بين الناس وفي الكتب ب "لقمان الحكيم". وذكر عنه انه كان "حكيما عالما بعلم الأبدان والأزمان" وانه طلب من الله أن يعمر طويلا فأعطاه طلبه: و عمر عمر سبعة أنسر، وذكر الأخباريون أن آخر نسي أدركه، وهلك بهلاكه اسمه "لبد". قالوا واليه يشير "النابغة" بقوله: أضحت خلاء وأضحى أهلها احتملوا أخنى عليها الذي أحنى على لبد

(1/337)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد أكثرت العرب في صفة طول عمر النسر، وضربت به الأمثال. وبلبد، وبصحة بدن الغراب. وذكروا في ذلك شعرا، منه ما نسب إلى "الخارجي" في طول عمر "معاذ بن مسلم بن رجاء"، مولى القعقاع بن حكيم: يا نسر لقمان، كم تعيش، كم تلبس ثوب الحياة يا لبد ?
قد أصبحت دار حمير خربت وأنت فيها كأنك الوتد
تسأل غربانها إذا حجلت كيف يكون الصداع والرمد ?
ويذكر أهل الأخبار إن "لقمان" قد عرف لذلك ب "لقمان النسور"، لأنه عمر عمر سبعة نسور. وذكر بعض، أهل الأخبار انه عمر مائة وخمسين سنة، وانه لما مات قبر بحضرموت، أو بالحجر من مكة. وهو عمر لا يتناسب مع ما يذكره أهل الأخبار من طوله، ومن انه يعادل عمر سبعة نسور. أما "السجستاني"، فجعل عمره خمسمائة سنة وستين. وهو عمر أخذه من عمر النسور المذكورة، اذ عاش كل نسر ثمانين عاما، والعدد المذكور هو مجموع عمر تلك النسور السبعة. غير إن من الأخباريين من أعطاه عمرا قدره بثلاثة آلاف وخمسمائة سنة. وهو عمر يؤهله ولا شك لأن يكون في عداد المعمرين.
وقد ورد اسم لقمان على انه اسم خمار في شعر منسوب للنابغة حيث يقول: كأن مشعشعا من خمر بصرى نمته البخت مشدود الخيام
حملن قلاله من بين رأس إلى لقمان في سوق مقام
وجعلوا للقمان نسبا هو "لقمان بن عاد"، وصيروه "لقمان بن ناحور بن تارخ"، وهو "آزر" أبو "إبراهيم". وقال بعضهم: بل هو ابن أخت "أيوب"، أو ابن خالته، وجعله آخرون من حمير، فقالوا له: "لقمان الحميري"، وصره آخرون قاضيا من قضاة "بني إسرائيل". وقد اشتهر عند المسلمين بالقضاء، ويظهر أن هذا السبب هو الذي جعل الواقدي يقول: إنه كان قاضيا في بني إسرائيل. ولم يفطن الأخباريون إلى هذه الأخبار المتناقضة التي تخالف رواياتهم في عاد، وأنها من أمم العرب البائدة، إلا إذا جعلناه من الطارئين على قوم عاد الداخلين فيهم، فهو غريب بين قوم عاد.

(1/338)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من روايات أهل الأخبار، أن الأخباربين كانوا يرون وجود لقمان اخر، هو غير لقمان عاد. فقد زعموا أنه كان في عهد "داوود" لقمان، عرف ب "لقمان الحكيم". وقد نسبه بعضهم على هذا النحو: "لقمان بن عنقاد"، وقد زعم "المسعودي"، أنه كان نوبيا، وأنه كان مولى للقين ابن جسر، ولد على عشر سنين من ملك داوود، وكان عبدا صالحا، من الله عليه بالحكمة، ولم يزل باقيا في الأرض مظهرا للحكمة في هذا العالم إلى أيام يونس بن متي حين أرسل إلى أرض نينوى في بلاد الموصل.
وهنالك من فرق بين "لقمان بن عاد" وبين "لقمان" المذكور في القرآن، قال الجاحظ: "وكانت العرب تعظم شأن لقمان بن عاد الأكبر والأصغر، ولقيم بن لقمان في النباهة والقدر وفي العلم والحكم، في اللسان وفي الحلم، وهذان غير لقمان الحكيم المذكور في القرآن على ما يقوله المفسرون". وقد أورد الجاحظ جملة أبيات للنمر بن تولب في لقمان ولقيم.
وقد ذكر الجاحظ أنه كانت للقمان أخت محمقة ؛ تلد أولادا حمقى، فذهبت إلى زوجة لقمان، وطلبت منها أن تنام في فراشها حتى يتصل بها لقمان، فتلد منه ولدا كيسا على شاكلته، فوقع عليها فأحبلها ب "لقيم" الذي أشرت إليه، فهو ابن لقمان أذن من أخته. وقد أورد الجاحظ في ذلك شعرا جاء به على لسان الشاعر المذكور، أي: "النمر بن تولب"، زعم أنه نظمه في هذه القصة. وزعم الجاحظ أيضا أن لقمان قتل ابنته "صحرا" أخت "لقيم"، وذلك أنه كان قد تزوج عدة نساء كلهن خنه في أنفسهن، فلما قتل أخراهن ونزل من الجبل، كان أول من تلقاه "صحرا" ابنته فوثب عليها فقتلها، وقال: "وأنت أيضا امرأة". وكان قد ابتلي بأخته على نحو ما ذكرت، فاستاء من النساء. وضربت العرب في ذلك المثل بقتل لقمان ابنته صحرا، وقد أشير إلى ذلك في شعر ل "خفاف بن ندبة".

(1/339)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد أشير إلى "حي لقمان" في شعر لأبي الطحان القيني، كما أشير أليه في شعر ينسب إلى "لبيد بن ربيعة الجعفري". وفي شعر للفرزدق، وفي شعر لبنت وثيمة بن عثمان ترثي به أباها.
وأضافوا إلى "لقمان" أمثالا كثيرة نسبت أليه في الإسلام، ولم تكن معروفة في الجاهلية. ونسب أليه بعض الأخباريين الميل إلى إنشاء المدن والبناء، وضربوا به أيضا المثل في كثرة الأكل، فقالوا: "آكل من لقمان".
وزعم "وهبه بن منبه" انه قرأ من حكمة "لقمان" نحوا من عشرة آلاف باب، وزعم الرواة إن عرب الجاهلية كانت عندهم "مجلة لقمان"، وفيها الحكمة والعلم والأمثلة، وان جماعة منهم كانوا قد قرأوها وامتلكوها، ذكروا من جملتهم "سويد بن الصامت". وقد رووا انه كان يقرأها، وانه أخبر الرسول بها لما قدم عليه. وقد جمع الناس، فيما بعد، حكمته وأمثاله والقصص المروي عنه، ويشبه ما نسب أليه المنسوب إلى "ايسوب" Aesop صاحب الأساطير والحكم والأمثال الموضوعة على لسان الحيوانات عند اليونان.
وبالغوا في حكمته وفي علمه حتى زعم انه كان يدرك من الأشياء ما يعجز عن إدراكه الإنسان السوي.. وضرب المثل في أيساره، وعظم أمره، حتى قيل "أيسار لقمان"، كالذي ورد في شعر "طرفة"، وورد في الأخبار: "إذا شرف الأيسار، وعظم أمرهم قيل: هم أيسار لقمان. يعنون لقمان بن عاد". واستشهدوا على ذلك ببيت طرفة: وهم أيسار لقمان، إذا أغلت الشتوة أبداء الجزر
وقد زعم أن "زرقاء اليمامة"، التي اشتهرت بحدة بصرها وقوة رؤيتها حتى أنها كانت ترى من مسرة ثلاثة أيام، كانت امرأة من بنات لقمان بن عاد، وكانت ملكة اليمامة واليمامة أسمها، فسيمت الأرض باسمها. وقد زعم أن النابغة الذبياني أشار إليها في شعره.
وقد ورد في بعض الأشعار "لقمان بن عاد"0 إذ جاء: تراه يطوف الآفاق حرصا ليأكل رأس لقمان بن عاد

(1/340)


--------------------------------------------------------------------------------

وهناك أمثلة عديدة ينسبها الرواة إلى "احدى حظيات لقمان"، ووردت على لسانها وعلى لسان لقمان وعلى لسان فتى اسمه عمرو.
وقد زعم بعض أهل الأخبار إن لقمان بن عاد، هو الذي بنى سد مأرب، وأن مأرب اسم قبيلة من عاد، وقد سمي باسمها هذا الموضع.
لم يبق بعد هلاك عاد الأولى، على رأي أهل الأخبار إلا هود ونفر ممن آمن به والوفد الذي سار إلى مكة للاستسقاء، وفيهم لقمان وكان من أكابر العاديين. فأنشأ هؤلاء عادا الثانية، وخالف لقمان "الخلجان" ملك عاد الأولى، الذي خالف هودا، فهلك. وخاف العاديون انحباس المطر والجفاف، فارتحلوا إلى أرض سبأ، وبنى لقمان سد "العرم" قرب مأرب، وبقيت عاد الثانية قائمة، إلى أن تغلبت عليها قبائل قحطان، ثم انقرضت وبادت.
ويذكر أهل الأخبار إن عادا لما رأوا انحباس المطر عنهم، أرسلوا وفدا، بلغ سبعين رجلا في قول بعض الرواة، إلى مكة يستسقون، وكان أصحابها هم العمالقة يومئذ، ورئيسهم "معاوية بن بكر"، فأكرمهم وأضافهم، وأقاموا عنده شهرا: يشربون الخمر وتغنيهم "الجرادتان" وما قينتان لمعاوية بن بكر، وفي الوفد المذكور لقمان. ونسوا أنفسهم هناك، ولم يفطنوا لما جاؤوا أليه، إلا بعد أن ذكرتهم "الجرادتان" بما جاؤوا به إليها، فاستسقوا، فأرسل الله عليهم ريحا عاتية، أهلكت عادا في ديارها، ودمرت كل شيء، فهلكت، ولم يبق من عاد إلا من كان خارج أرضهم بمكة، وهم من "آل لقيم بن هزال بن هزيل بن هزيلة ابنة بكر"، فهم عاد الآخرة، ومن كان من نسلهم الذين بقوا من عاد.
وقد ذكر المؤرخون وأصحاب الأخبار أن "عادا" تعبدوا لأصنام ثلاثة، يقال لأحدها: صداء، وللآخر صمود، وللثالث الهباء. ولم نعثر على أسماء هذه الأصنام حتى الآن في الكتابات.

(1/341)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان هلاك "عاد" واندثارهم بسبب انحباس المطر عنهم سنين ثلاثا، أعقبه هبوب رياح عاتية شديدة استمرت )سبع ليال وثمانية أيام حسوما( فهلك الناس واقتلعتهم الرياح وصارت ترميهم من شدتها، )كأنهم أعجاز نخل منقعر(. )فترى القوم فيها صرعى، كأنهم أعجاز نخل خاوية( وخلت ديارهم منهم، وصارت أماكنهم أثرا.
ويجمع أهل الأخبار على أن هلاك عاد، إنما كان بفعل عوارض طبيعية نزلت بهم فأهلكتهم، وهي على اختلاف رواياتهم في وصفها وفي شرحها، انحباس الأمطار عنهم، وهبوب رياح شديدة عاتية عليهم. وقد تحدث المفسرون عنها لورود ذكرها في القرآن الكريم. وروي أن النبي أشار إلى أن هلاكهم وهلاك ثمود كان بالصواعق، والصواعق من العوارض الطبيعية بالطبع.
ويرجع قسط من أخبار "عاد" إلى الجاهليين، فهو من القصص الشعبي القديم الموروث عنهم، ويعود قسط آخر منه إلى الإسلاميين، وهو القسط الذي جاء شرحا لما جاء موجزا في القرآن الكريم، ويرجع بعضه إلى "الحارث بن حسان البكري" و "الحارث بن يزيد البكري"، وتزعم رواية وردت في تأريخ الطبري أنه قص على الرسول قصصا عن أمر "عاد"، ويرجع بعض آخر إلى "كعب الأحبار" وإلى "وهب بن منبه"، وهما من مسلمة يهود، وإلى "السدى"، وإلى أشخاص آخرين تجد ذكرهم في سند الروايات المذكورة عند "محمد بن اسحاق" صاحب السيرة، وعند الطبري وعند آخرين من أهل الأخبار والتواريخ ممن ساروا على طريقة ذكر المسند مع الروايات.
ويظهر أن كثيرا من أخبار "عاد" وضعت في أيام "معاوية" الذي كان له ولع خاص بأخبار الماضين، فجمع في قصره جماعة اشتهرت بروايتها هذا النوع من القصص، وفي مقدمة هؤلاء "**** بن شرية الجرهمي" و "كعب الأحبار".

(1/342

admin
12-25-2010, 10:07 PM
ويذكر بعض أهل الأخبار أن رجلا قص في أيام معاوية، أن إبلا له ظلت في تيه أيمن، وهو غائط بين حضرموت وأبن، فالتقطها من هناك، ووجد فيه موضع "إرم ذات العماد"، ووصف أبنيته العجيبة، وهذا الرجل هو في جملة من مون العاشقين للأساطير بأخبار عاد. وقد ذكر الطبري أن "وهب بن منبه"، قص أنه سمع من رجل اسمه "عبد الله بن قلابة" أن إبلا له كانت قد شردت، فأخذ يتعقبها، فبينما هو في صحارى "عدن"، وقف على موضع "إرم ذات العماد"، وقد وصف ذلك الموضع على النحو المالوف عن "وهب"، من إغراقه في الأساطير وفي القصص الخيالي البعيد عن العقل.
ثمود
ويرد اسم ثمود في الكتب العربية مقرونا باسم "عاد"، وبعد هذا الاسم في الغالب، والروايات العربية الواردة عنهم لا تعرف من تأريخهم شيئا، إنما روت عنهم قصصا أوردتها لمناسبة ما ذكر عنهم في القرآن الكريم على سبيل العظة والاعتبار والتذكير. وقد وردت إشارات عنهم في الشعر الجاهلي.
وجاء اسم "ثمود" في مواضع عديدة من القرآن الكريم، جاء منفردا، وجاء مقرونا باسم شعوب أخرى مثل قوم "نوح" وقوم "عاد"، فبدأ بقوم نوح ثم عاد ثم ثمود. وجاء مع ثمود في موضعين "أصحاب الرس"، جاءوا بعد "ثمود" كما جاء اسمهم قبل "ثمود". وورد أيضا ذكر قوم "لوط" و "أصحاب الأيكة"، وقد تقدم في هذا الموضع اسم "ثمود"، ودعت الآية أولئك: )الأحزاب(، كما ورد ذكر "ثمود" مع "عاد". وقد تقدم اسم "عاد" على ثمود إلا في آية واحدة تقدم فيها اسم ثمود على اسم "عاد": )كذبت ثمود وعاد بالقارعة(، وورد اسم "ثمود" في آيات أخرى من القرآن الكريم.
وقد ذكر الطبري إن شعراء الجاهلية ذكرت في شعرها عادا وثمود، وان أمرهما كان معروفا عند العرب في الشهرة قبل الإسلام، وأن من يظن أن الجاهليين لم يكونوا يعرفون عادا أو ثمودا فإنه على وهم وخطا.

(1/343)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من ورود ذكر "ثمود" في مواضع متعددة من القوآن، لتهيب "الكفار" من العاقبة التي آلت إليها حالة "ثمود" بعد أن استحبوا العمى على الهدى، واستمروا بطغواهم كما استمر طغيان "فرعون" وقوم "مدين" وغيرهم ممن ذكرناهم، أن الجاهليين كانوا يعلمون مصير ثمود ومصير عاد الذي كان من نوع مصير ثمود، وأنهم كانوا يعرفون منازلهم كالذي يظهر بجلاء من الآية: )وعادا وثمودا وقد تبين لكم من مساكنهم( معرفة جيدة، ولم يعين القرآن الكرم موضع منازل "ثمود"، وإنما يظهر من آية: )وثمود الذين جابوا الصخر بالواد(، أن مواضعهم كانت في مناطق جبلية، أو في هضاب ذات صخور. وقد ذكر المفسرون إن معنى "جابوا الصخر" قطعوا صخر الجبال واتخذوا فيها بيوتا، وأن "الواد" هو وادي القرى. فتكون مواضع ثمود في هذه الأماكن. وقد عين أكثر الرواة "الحجر" على أنه ديار ثمود، وهو قرية بوادي القرى. وقد زارها بعض الجغرافيين وعلماء البلدان والسياح، وذكروا أن بها بئرا تسمى بئر "ثمود"، وقد نزل بها الرسول مع أصحابه في غزوة "تبوك". وقد ذكر السعودي أن منازلهم كانت بين الشام والحجاز إلى ساحل البحر الحبشي، وديارهم بفج الناقة، وأن بيوتهم منحوتة في الجبال، وأن رممهم كانت في أيامه باقية، وآثارهم بادية، وذلك في طريق الحاج لمن ورد الشام بالقرب من وادي القرى.
وينسب النسابون ثمود إلى "ثمود بن جاثر أو كاثر بن إرم بن سام بن نوح"، ويكتفي بعضهم بإرجاع نسبهم إلى عاد، فيقولون عنهم إنهم من بقية عاد. وينسبهم بعض آخر إلى "عابر بن إرم بن سام بن نوح"، وزعموا أن ثمود هو أخو جديس.

(1/344)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد استطاع المستشرقون التعرف على الثموديين من الكتابات والمؤلفات "الكلاسيكية"، فوجدوا اسم ثمود في النصوص الآشورية: وجدوه في نص من نصوص "سرجون الثاني"، مع أسماء شعوب أخرى سوف أتحدث عنها. وقد دعوا ب "Tamudi" "Thamudi" وذلك بمناسبة معركة جرت بين الآشوريين وبين هذه الشعوب، انتصر فيها الآشوريون، كما وجدوه في النصوص و الكتابات الثمودية، مواضع متعددة من جزيرة العرب، وفي النصوص "الكلاسيكية" حيث عرفوا باسم "Thamudeni" "Thamudenoi" "Thamydenoi" "Thamyditai".
ولقد وصف مؤلف كتاب: "الطواف حول البحر الإريتري" مواضع الثمودين "Thamudeni" مستندا إلى مورد آخر، اخذ منه، أقدم عهدا منه. فذكر "أن ""Thamudeni"، كانوا يقيمون على ساحل صخري طويل، لا يصلح لسير السفن، وليست فيه خلجان تستطيع أن تأوي أليه القوارب فتحتمي بها من الرياح، ولا ميناء تتمكن من الرسو فيه، ولا موضع أو جزر عنده تقبل أليه القوارب الهاربة من الأخطار. فيظهر من وصف هذا المؤلف أن مواطن ثمود كانت في الحجاز على ساحل البحر الأحمر.
وقد ذكر هذا الوصف، ولكن بشيء من التحوير "ديودورس". وأما "بلينيوس"، فذكر "Thamudaei" بين "Domata" "Haegra" مدينة دعاها "Badanatha" "Baclanza". وأما "بطلميوس"، فقد جعل قوم ثمود ""Thamuditae"" ""Thamudeni"" بين ا ل "Sarakenoi" و بين "Apatae" ويظهر من كل ذلك أن ديارهم في شمال غربي "العربية السعيدة"، أي في المواضع التي عينتها المصادر العربية.

(1/345)



يظهر من جغرافية "بطلميوس" اذن، أن ديار ثمود كانت غير بعيدة عن ديار "عاد"، ليس بينهما وبين ديار عاد "Oaditae" إلا ديار "سره كيني" "Sarakeni" وكلها في أعالي الحجاز في هذه المنطقة الجبلية التي تخترقها الطرق التجارية التي توصل الشام ومصر بالحجاز واليمن. وفي هذا تأييد للروايات العربية القائلة إن ديار ثمود كانت على مقربة من ديار عاد. فإذا كانت "الحجر" وما والاها هي مواطن ثمود: وجب أن تكون ديار "عاد" على مقربة من هذه ا لمواضع.
وأما تأريخ قوم "ثمود"، فيه ود إلى ما قبل الميلاد بزمان. وقد ذكرت قبل قليل أنهم كانوا في جملة الشعوب التي حاربت الآشوريين في عهد "سرجون الثاني"، وقد ذكر هذا الملك في النصوص التأريخية التي سجلها، أنه تغلب عليهم، وانه أجلاهم من مواطنهم إلى "السامرة" "Samaria". ولم يكن أولئك الثموديون الذين حاربوه من أبناء الساعة، بل لا بد أن يكون لهم أسلاف عاشوا قبلهم عدة قرون.
وقد عرفت المنطقة التي حارب بها قوم ثمود والشعوب الأخرى الآشوريين باسم "بري" "Bari"، ويظهر أنها تعني لفظة "بر" و "برية" العربية، أي "البادية" فحرفت إلى "بري" على وفق الآشوري.
ويرى بعض الباحثين أن آخر ذكر ورد في الوثائق لقوم "ثمود" كان في القرن الخامس للميلاد " حيث ورد أن قوما منهم كانوا فرسانا في جيش الروم.
وقد كان الثموديون يقطنون بعد الميلاد في مواطنهم المذكورة في أعالي الحجاز في "دومة الجندل" و "الحجر" وفي غرب "تيماء". وقد ذكر أنهم كانوا يمتلكون في منتصف القرن الثاني للميلاد حرتي "العوارض" و "الأرحاء". ويرى "دوتي" أن "الحجر" التي سكن بها قوم ثمود، هي موضع "الخريبة" في الزمن الحاضهر، لا "مدائن صالح" التي هي في نظره "حجر" النبط. وتقع "مدائن صالح"، وهي عاصمة النبط، على مسافة عشرة أميال من موضع"الخريبة".

(1/346)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم يرد في الموارد العربية الإسلامية، ما يفيد وجود قبائل ثمودية قبيل الإسلام، أو في الإسلام، غير ما ذكره بعضهم من نسب "ثقيف" الذي رجعوه إلى ثمود؛ ولكن ذلك لم يرض الثقفين. فقد كان الحجاج بن يوسف يكذب ذلك، والظاهر أن أعداء ثقيف ولا سيما معارضي الحجاج وضعوا ذلك على ثقيف بغضا للحجاج، الذي كان قاسيا عاتيا شديدا. وقد روى "دوتي" أن بدو نجد يذكرون أن قبيلة "بني هلال" هي من نسل عاد وثمود.
% ونجد في كتاب: "Mission archeologique en Arabie" لمؤلفيه "Jaussen" "Savignac"، عددا من الكتابات الثمودية، عثرا عليها في "العلا" وفي مواضع أخرى من الأرضين التي هي اليوم في المملكة الأردنية الهاشمية وفي أعالي الحجاز من المملكة العربية السعودية، كما عثر غيرهما قبلهما وبعدهما على عدد آخر، أغلبه من هذه للكتابات القصيرة، التي كتبت على مختلف الأحجار، بالمناسبات، مثل تذكر شخص،أو تسجيل الهمم لمناسبة وجود صاحبه في هذا المكان، كما يفعل كثير من الناس في أيامنا.
وتمكن "لانكستر هاردنك" محافظ مديرية الآثار العتيقة في المملكة الأردنية الهاشمية من تصوير ما يزيد على خمسمائة كتابة ثمودية أرسلها إلى المستشرق "أنوليتمان"، يعود بعضها إلى ما قبل الميلاد، ويعود قسم منها إلى ما بعد الميلاد، ومن بينها نص أرخ بسنة "267" للميلاد، ونص آخر رسمت فيه دائرة في داخلها صورة تشبه الصليب، وكتابة قرأها المستشرق "أنوليتمان": "يشوعة" أو "ليشوعة"، أي "ليسوع"،وهو النصر الذي رقم ب "476". والظاهر إن صاحبه كتبه تيمنا باسم المسيح، ولا يعرف تأريخه بالضبط. ويعتقد "ليتمان" انه أقدم شاهد عرف حتى ألان عن انتشار النصرانية في شمال جزيرة العرب. وقد قراها المستشرق "فان دين برندن": "بوايوب" أي "لأيوب"، أو "بأيوب"،أو "أبوب".وبالجملة فان العلماء لم يتمكنوا من ترجمة تلك الكتابات ترجمة صحيحة حتى الآن.

(1/347)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي المتاحف الأوروبية وفي مكتبات بعض الجامعات وفي أوراق المستشرقين مجموعة من النصوص الثمودية، جميعها في أمور شخصية وفي موضوعات دينية وأدعية لآلهة ثمود. وأما المناطق التي وجدت فيها هذه النصوص، أو أخذت صورها، فهي مناطق "حائل" بنجد، وأرض "تبوك" وتيماء ومدائن صالح والسلاسل الجبلية الممتدة بين هذه المنطقة والحجاز، وعثر في الطائف على بعض النصوص الثمودية أيضا وفي السواحل الحجازية الشمالية للبحر الأحمر عند "الوجه" وفي "طور سيناء" وفي "الصفا" شرقي دمشق وفي مصر. وفي "الحرة" و "الرحبة" وفي شمال غربي تدمر.
وقد عثر على نقوش ثمودية في اليمن، وبدل وجود هذه الكتابات هنالك على وجود صلات بين اليمن وثمود، ولعلهم كانوا يقيمون في اليمن كذلك. وقد عثرت البعثة المصرية التي زارت اليمن على مخربشات ثمودية في "حجر المعقاب" عند جبل "حليل" على مسافة ليست بعيدة من "بيت حميد" بوادي شرع بالخارد.
ويشك المستشرق "هوبرت كريمه" "Hubert Grimme" في صحة نسبة كثير من هذه النصوص إلى ثمود، ويرى أنها لأناس غيرهم، إذ لا دليل علميا هناك يثبت كون هذه النصوص تعود إلى هؤلاء.
وهناك عدد غير قليل من هذه النصوص إلى ثمود، ويرى أنها لأناس غيرهم، إذ لا دليل علميا هناك يثبت كون هذه النصوص تعود إلى هؤلاء.
وهناك عدد غير قليل من النصوص الثمودية يعود عهدها إلى العهد النبطي، ويشغل حيزا من الزمن يقع بين حوالي مئتي سنة قبل المسيح وثلاث مئة سنة بعده، وتمتزج في مثل هذه النصوص الثمودية بالنبطية، وقد عثر على بعض نصوص نبطية في الحجاز ظن أنها نصوص ثمودية، مثل نص: Hu.418 =Eu. 772 ، ونص آخر يعود إلى سنة 267 للميلاد.

(1/348)


--------------------------------------------------------------------------------

إلا أن هناك نصوصا ثمودية يظهر عليها أثر عبادة "صلم" "Salm". وقد كانت "تيماء" من أهم الأماكن التي كانت تقدس هذا الإله حوالي سنة )650( ق. م.، ويرمز أهل تيماء إلى "صلم" برأس ثور، وقد وجد هذا الرمز على النقوش الثمودية، كما وجدت أسماء بعض الالهة التي كان يتعبد لها أهل تيماء منقوشة في النصوص الثمودية، مما يدل على أن قوم ثمود كانوا يتعبدون لها كذلك، وأن هنالك صلات ثقافية ودينية بين تيماء وثمود.
ويرجح بعض الباحثين تأريخ عدد من الكتابات الثمودية إلى القرن السابع قبل الميلاد. وهناك كتابات يرون أنها أقدم عهدا من القرن السابع. غير أن أكثر ما عثر عليه يعود تاريخه إلى ما بعد الميلاد. وهى بالجملة في أمور شخصية، لا تفيد المؤرخ الذي يريد تدوين تأريخ "ثمود" فائدة كبيرة. ولكنها نافعة على كل حال من نواح أخرى، فهي تفيد اللغوي الذي يريد الوقوف على لغة الثموديين ومعرفة أسمائهم ولهجاتهم، وتفيد الباحثين في اللهجات العربية الجاهلية وفي الساميات.
والكتابات الثمودية في نظر الباحثين نوعان: كتابات قديمة وقد دونت بالقلم الثمودي القديم، وكتابات حديثة وقد كتبت بقلم ثمودي متطور تخلف أشكال حروفه ورسومها بعض الاختلاف عن القلم القديم. وللقلم الثمودي صلة بقلم "طور سيناء"، كما أن له علاقة بالقلم المسند. وتفيد دراسته من هذه الناحية في الوقوف على تأريخ تطور الكتابة في جزيرة العرب قبل الميلاد، وفي تطور الأقلام بوجه عام.
ويلاحظ وجود بعض الخواص في الكتابات الثمودية التي عثر عليها في الحجاز، لا نجدها،أو قلما نجدها في كتابات ثمودية أخرى، عثر عليها في نجد وفي اليمن. ويعود سبب ذلك إلى تأثير البيئات، ولا شك، في هؤلاء الثموديين الذين تأثروا بلهجات جيرانهم و بثقافاتهم، فطهر ذلك الأثر في هذه الكتابات.

(1/349)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من الكتابات الثمودية أن قوم ثمود كانوا زراعا وأصحاب ماشية، وأنهم كانوا أقرب إلى الحضر، منهم إلى أهل الوبر، فقد كانت لهم مستوطنات ثابتة استقروا فيها، وكانت لهم معابد ثابتة أيضا، أي مبنية، وبينهم قوم اشتغلوا بالتجارة. ولعل الأيام ستجود علينا بكتابات ثمودية تتحدث عن أمور عامة، وعندئذ نستطيع أن نستنبط منها شيئا عن أحوالهم من مختلف الوجوه.
ومن أصنام ثمود التي ورد ذكرها في كتاباتهم، الصنم "ود"، وهو من . الآلهة القديمة عند العرب. والصنم "جد - هد" أو "جد - هدد"، وله عندهم معابد وسدنة يخدمونه، ويعرف سادن الأصنام عندهم ب "قسو" أي "قس". عرفنا أسماء بعضهم، ومنهم السادن "ايليا" "ايلية". ويظهر
انه كان من الآلهة العربية العتيقة، غير أن سعده أخذ في الأفول، فأخذت مكانه آلهة أخرى، ثم عفى أثره من الذاكرة، فلم يرد اسمه بين الأصنام التي كان يعبدها الجاهليون قبيل الإسلام. وقد بقيت مع ذلك أسماء مثل: "عبد جد" تشير إلى اسم الإله العربي القديم.
و"شمس" و "مناف" و "مناة" و "كاهل" و "بعلة" "بعلت" و "بعل" و "يهو" و "رضو" أو "رضى"، هي أيضا من أصنام ثمود، سأتحدث عنها كلها في أثناء بحثي في الديانة العربية قبل الإسلام. ومن بقية آلهة ثمود "عثيرت" "عثيرة"، و "وتن" "وت"، و "يثع" "سمع" و "سميع" و "هبل" و "سحر" و "سين" و "هم" و "تجن" و "يغوث" و "إله" و "ألى" و "إلهي" و "الت" و "اللآت" و "حول" "حويل" و "ذو شري" و "سمين" و "هلال" و "صلم" و "نهى" و "عثتر سمين" و "كاهل" "كهل"، و "ملك" و "مالك"، و "هادي" "هدى"، و "بحل"، و "رتل"، و "هيج"، و "شوع"، و"ستار"، و "ظفت"، و "سعى"، و "غم"، و "عسى"، و "عسحرد"، و "عثير"، و "عطير"، و "تجر"، و "دبر".

(1/350)


--------------------------------------------------------------------------------

وبعض هذه الأسماء ليست في الواقع أسماء آلهة، وإنما هي من قبيل ما يقال له "الأسماء الحسنى" عندنا أو صفات الله، فلفظة "سمع" مثلا، وهي بمعنى "ير" أو "السميع" في عربيتنا ليست اسم إله معين، إنما هي صفة للإله، بمعنى أن الإله هو سميع يسمع دعوات الداعين. ولذلك يخاطبه المؤمنون ويقولون له "سمع" "يا سميع"، ليسمع دعاءهم وليجيب طلباتهم، وهناك ألفاظ أخرى هي من هذا القبيل.
ووصلت ألينا أسماء ثمودية كثيرة، مثل: "اوس" و "سد" و "عفير" و "وائل" و "بارح" و "كربال" "كرب إيل" و "عش" "عاثش" و "مالك" "ملك" و "عذرال" "عذرايل"، و "عوذ"، و "أسعد"، و "عياش"، و "إياس"، و "قيس بن وائل" "قس بن وال" وغيرها، مما يخرجنا ذكرها عما نحن فيه. وهي أسماء لا يزال بعضها مستعملا.
ويلاحظ أن بعض هذه الأسماء مثل "كرب ال" و "عذرال"، وما شاكله، قل استعمالها عند العرب قبيل الإسلام، بينما كانت من الأسماء الشائعة في الجاهلية البعيدة عن الإسلام، ولا سيما بين الجاهليين في العربية الجنوبية، حيث ترد بكثرة في كتابات المسند.
ويرى "برو" Brau أن ثمودا أصيبوا بكارثة عظيمة، من ثوران براكين أو هزات أرضية، بدليل ورود كلمة "رجفة" وكلمة "صيحة" في القرآن الكريم، وذلك محتمل جدا، لأن البقاع التي كانوا يقطنونها هي من مناطق ا لحرار.
ويشبه مصير "عاد" و "ثمود" مصير "سدوم" "Sodom" وعمورة "جمورة" "كمورة" "Gomorrah" وبقية مدن الدائرة في عمق السديم التي تقع - على رأي كثير من علماء التوراة - في جنوب البحر الميت، فقد لأقت هذه المدن، وهي خمس على سهل "دائرة الأردن" المصير الذي لقيه قوم عاد وثمود، حيث أرسل الله عليهم عذابا "فأمطر الرب على سدوم وعمورة كبريتا ونارا من عند الرب من السماء، وقلب تلك المدن كل الدائرة وجميع سكان المدن ونبات الأرض". وأصحاب هذه المدن هم: قوم "Lot" "لوت".

(1/351)

admin
12-25-2010, 10:13 PM
و "لوت" هو "لوط" المذكور في القرآن الكريم. وقد رأيت أن القرآن الكريم قد أشار إلى مصير "قوم لوط"، وأطلق على ثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة "الأحزاب". )ثمود وقوم لوط و أصحاب الأيكة أولئك الأحزاب(.
وقد تعرض المفسرون لقوم "لوط" وما حل بهم من العذاب، وبحث عنهم أهل الأخبار والتأريخ، باعتبار أن أخبارهم هي صفحة من صفحات التأريخ القديم العام قبل الإسلام. وفي الرواية التي ذكرها "الطبري" في تأريخه عنهم، وسندها مرفوع إلى "محمد بن كعب القرظمي" ذكر للقرى الخمس الواقعة حول "سهل دائرة الأردن"، وقد دعاها ب "المؤتفكات" المأخوذة من القرآن الكريم من )والمؤتفكة أهوى(، وهي: صبعة، وصعرة، وعمرة، ودوما، وسدوم، بحسب رواية الطبري هذه. وفي هذه الأسماء تحريف وتغيير في الترتيب الذي وردت به في التوراة، إذ هي فيها على هذا الشكل: سدوم "Sodom" و "عمورة" "Gomorrah" و "أدمة" "Admah" و "صبوبيم" "Zeboim" و "بالع" "Bela"وتسمى أيضا ب "صوغر" "Zoar".
وقد نبه القرآن قريشا إلى مصير يشبه مصهر "ثمود"، إذ كفروا بنبوة نبيهم "صالح"، وعقروا "الناقة" التي أرسلت لهم إية تحذرهم من عاقبة كفرهم ومن استمرارهم في تكذيبهم نبوة نبيهم. فلما استمروا في غيهم وضلالهم، أرسل الله عليهم "الصيحة"، فأهلكتهم، ورجفت الأرض بهم، فلم يبق من كفارهم على الأرض إلا رجل واحد، هو "أبو رغال" كان في حرم الله، فمنعه حرم الله من عذاب الله.
ويذكر أهل الأخبار أن رسول الله لما غزا غزاة تبوك، نزل "الحجر"، ونهى الناس من دخول القربة، ومن شرب مائها، وأراهم مرتقى الفصيل. والقرية المذكورة هي "الحجر"، وهي "قرية ثمود"1.
وقد ورد في شعر "حسان بن ثابت": "أشقى ثمود"، وقد ذكر الشراح أنه "قدار بن سالف أحيمر ثمود"، وهو عاقر ناقة صالح. وهكذا نجد لثمود "أحيمرا" على نحو ما وجدنا عند عاد.

(1/352)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرجع سند روايات "الطبري" عن ثمود إلى "الحسن بن يحيى"، ويتصل سنده ب "أبي الطفيل"، وإلى "القاسم"، وينتهي سنده إلى "عمرو بن خارجة"، و "ابن جريج" عن جابر بن عبد الله و "إسماعيل بن المتوكل الأشجعي" وينتهي سنده ب "عبد الله بن عثمان بن خثتم" عن "أبي الطفيل".
وتفيدنا دراسة هذه الأسانيد وأمثالها فائدة كبيرة في الوصول إلى معرفة الموارد التي أمدت الأخباريين بأمثال هذه الأخبار.
طسم وجديس
وساق الأخباريون نسب "طسم" على هذه الصورة: "طسم بن لاوذ بن إرم" أو "طسمم بن لاوذ بن سام"، أو "طسم بن كاثر"، أو ما شابه ذلك من نسب. ونحن لا نعرف الآن من أمرهم غير ما ورد من القصص المدون في الكتب، ولم يرد لهم ذكر في القرآن الكريم. وقد جعلهم بعض أهل الأخبار من أهل الزمان الأول، أو من عاده.
وقد شك حتى الأخباريون في الأخبار المنسوبة إلى "طسم"، إذ اعتبروها أخبارا موضوعة، فقال بعضهم: "وأحاديث طسم: يقال لما لا أصل له. تقول لمن يخبرك بما لا أصل له: أحاديث طسم وأحلامها، وطسم إحدى قبائل العرب للبائدة".
أما مواطن طسم، فكانت الإمة، وعند بعضهم الأحقاف والبحرين. وقد زعم الأخباريون أن طسما وجديسا سكنتا اليمامة معا، وهي إذ ذاك من أخصب البلاد وأعمرها، ثم انتهى الملك إلى رجل ظالم غشوم من "طسم" يقال له "عمليق" أو "عملوق" إستذل جديسا، وأهانها، فثارت جديس وقتلت عمليقا ومن كان معه من حاشيته، واستعانت طسم ب "حسان بن تبع" من تبابعة اليمن، فوقعت حرب أهلكت طسما وجديسا، و بقيت اليمامة خالية، فحل بها "بنو حنيفة" الذين كانوا بها عند ظهور الإسلام.

(1/353)


--------------------------------------------------------------------------------

وذهب نفر من المستشرقين إلى أن طسما من الشعوب الخرافية التي ابتدعها الأخباريون، غير أنه لا يستبعد أن يأتي يوم قد يعثر فيه على أخبار هؤلاء القوم وعلى اسمهم في الكتابات. وقد وردت في نص يوناني عثر عليه في "صلخد" ويعود تأريخه إلى سنة "322 م" جملة "أنعم طسم"، فلا يستبعد أن يأتي اليوم الذي نقرأ فيه نصوصا تعود إلى طسم.
ويروي أهل الأخبار ان "الأسود بن رباح"، وهو قاتل عمليق، هرب بعد ذلك من اليمامة إلى جبلي طيء، فأقام بهما إلى أن جاءت طيء، وأمر سيدهم "سامة بن لؤي" ابنه الغوث أن يقتل الأسود، بعد أن رأوا ضخامة جسمه بالنسبة إلى أجسامهم، وخافوا منه، فجاء أليه الغوث، ثم أخذ يكلمه، ثم باغته بان رماه بسهم قتله، واستقرت طيء بالجبلين.
وذهب "جرجي زيدان" إلى أن "طسما" هي "لطوشيم"، وهي قبيلة من العرب ورد اسمها في للتوراة على أنها من نسل "ددان بن يقشان" وورد معها اسم قبيلة أخرى من قبائل "ددان" دعيت ب "Leummim" "لاميم"، يرى زيدان أنها "أميم".
ونسب الأخباريون إلى طسم صنما سموه "كثرى"، لعله الصنم "كثرى" الذي أدرك الإسلام، فحطم مع الأصنام الأخرى التي أمر الرسول بتحطيمها تخلصا من عبادة الأصنام، فحطمت أينما وجدت، وقد حطم الصنم "كثرى" "نهشل بن الربيس بن عرعرة"، ولحق بالنبي.
وقد ضرب أهل الأخبار المثل ب "كلب طسم". وذكروا قصته على هذا النحو: كان لرجل من طسم كلب، وكان يسقيه اللبن ويطعمه اللحم ويسمنه، يرجو أن يصيب به خيرا ويحرسه، فجاع يوما فهجم على صاحبه وأكله، فضرب به المثل فقبل: سمن كلبك يأكلك.
وقد جاء ذكر طسم في شعر للحارث بن حلزة، هو: أم علينا جرى إياد كما قيل لطسم أخوكم الأباء
وقد قال الأصمعي في شرحه: "كان طسم و جديس اخوين، فكسرت جديس على الملك خراجه، فأخذت طسم بذنب جديس"4 فضرب لذلك بها المثل، لمن يؤخذ بجريرة غيره.
جديس

(1/354)


--------------------------------------------------------------------------------

وقالوا عن "جديس" انهم حي من عاد، وهم اخوة طسم، أو انهم حي من العرب كانوا يناسبون عادا الأولى. وقالوا انهم أبناء "جديس بن لاوذ ابن إرم بن سام بن نوح". أو أبناء "جديس." شقيق "ثمود بن غاثر ابن إرم بن سام بن نوح"، أو ما شابه ذلك من نسب. وقد كانوا أتباعا لطسيم، ويسكنون معهم في اليمامة، ثاروا على "عمليق" "عملوق" ملك طسم، فكانت نهاية طسم كما كانت نهاية "جديس"، ولذلك قيل "بوار طسم بيدي جديس".
ويذكر أهل الأخبار أن جديسا لما قتلت "عملوقا" ومن كان معه من قومه طسم، هرب رجل من طسم اسمه "رباح بن مرة"، حتى أتى "حسان بن تبع"، فاستغاث به، فخرج "حسان" في حمير، فأباد جديسا، وأخرب بلادهم، وهدم قصورهم وحصونهم. ويرى "كوسين دي برسفال" أن اغارة حمير المذكورة كانت حوالي سنة "250" بعد الميلاد.
ويرتبط بخبر هذه الإبادة قصة امرأة زعم أنها كانت أقوى الناس بصرا، ترى من مسافات بعيدة جدا، عرفت بي "زرقاء اليمامة". وقد ورد قصص عنها ذكره أهل الأخبار.
وورد في بعض الأخبار أن "جذيمة الأبرش" كان قد حارب "طسما" و"جديسا".
ويذكر أهل الأخبار أن "حسان بن تبع" الذي أوقع بجديس، هو "ذو معاهر"، وهو "تبع بن تبع تبان أسعد أبي كرب بن ملكيكرب بن تبع بن أقرن"، وهو أبو "تبع بن حسان"، الذي يزعم أهل اليمن أنه قدم مكة ويثرب، وأنه وجه ابنه "حسان" إلى "السند" وابنه "شمرد الجناح" "سمر"، إلى آخر ذلك من قصص سأتحدث عنه في أثناء الكلام عله مملكة "حمير وذي ريدان".
ويذكر أهل الأخبار أيضا أن التي أبصرت جند "حسان" اسمها "اليمامة"، وكانت أول من اكتحلت بالإثمد، ولهذا تكونت في عينيها عروق سود منه" كانت هي السبب في نشوء حدة البصر عندها، وأن "حسان" أمر فققئت عيناها لإدراك سبب حدة بصرها، فاكتشف وجود الإثمد بهما، ويزعمون أنه أمر بابدال اسم "جو" مساكن طسم وجديس إلى "اليمامة"، فعرفت بهذه التسمية مذ ذلك الحين.

(1/355)


--------------------------------------------------------------------------------

وإذا كان ما جاء في شعر الأعشى عن "اليمامة" وعن حسان صحيحا، فإن ذلك يدل على أن القصة المذكورة كانت شائعة معروفة في أيامه بل وربما قبل أيامه، وللظاهر إن أهل الأخبار قد أخذوا اسم اليمامة من أسم المكان، فصيروه امرأة ذات بصر حديد. ونجد قصة "اليمامة" ومجيء التبع في شعر للنمر بن تولب العكلي. ونجد اتفاقا بين القول المنسوب إلى اليمامة في سياق القصة وبين قولها في الشعر المنسوب إلى الأعشى وإلى النصر.
وقد ذكر "ابن دريد" أن "تبع" أرسل على مقدمته "عبد كلال بن مثوب بن ذي حرث بن الحارث بن مالك بن غيدان" إلى اليمامة، فقتل طسما وجديسا. ولم يذكر اسم ذلك التبع.
و يعتق بعض المستشرقين أن اسم "Jolisitae" أو "Jodisitae" الوارد في "جغرافيا بطلميوس" إنما يقصد به قوم "جديس"، وأنهم كانوا معروفين في حوالي سنة "20ا" بعد الميلاد.
وقد نسب أهل الأخبار أماكن عديدة إلى طسم وجديس، وهي قرى ومدن ذكر أنها كانت عامرة آهلة بالسكان ذات مزارع، وقد بقي بعضها في الإسلام، ووصفه أهل الأخبار. وإذا صح أنها كانت لطسم وجديس حقا، وأنها كانت من أعمالهم ونتاجهم، فإن ذلك يدل على أن القوم كانوا حضرا وعلى مستوى من الرقي، ولم يكونوا بدوا على شاكلة الأعراب. وربما يعثر على كتابات في هذه المواضع تكشف اللثام عن حقيقة أصحاب هذه المواضع وهوية الأقوام التي عاشت فيها.
ومن الأماكن المذكورة "المشقر"، وهو حصن بين نجران والبحرين على تل عال، يقابله حصن سدوس، وهو من أمكنة "طسم". وقد نسب بعض الرواة بناءه - كعادتهم عند جهلهم أسماء الأماكن - إلى سليمان، وقد سكنته عبد القيس أهل البحرين. و "معنق" من قصور اليمامة على أكمة مرتفعة. و "الشموس" قيل: انه من بناء "جديس".

(1/356)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن قرى اليمامة الشهيرة "حجر"، وكانت لطم وجديس، والظاهر إنها كانت عامرة ذات قصور عالية كثيرة، و إنها كانت محاطة بالمزارع، و إنها بقيت مدة طويلة مهملة في وسط الرمال التي تكونت في تلك البقاع المنبتة الخصبة التي تحولت إلى صحراء. و "القرية" "قرية بني سدوس"، وكان بها قصر عظيم من الصخر، وقد زعموا انه كان من حجر واحد بناه جن سليمان. و "جعدة" وهي حصن، وبها قصر قديم "عادي" ينسبونه إلى طسم وجديس، ويظهر انه ظل باقيا إلى أيام "الهمداني"، بدليل وصفه له في كتابه "صفة جزيرة العرب" والظاهر من وصفه أن الحصن كان عظيما، وانه كان يحيط بالقرية، وأن أساسه من اله في وحوله منازل الحاشية للرئيس الذي يكون فيه، وكان فيه الأثل والنخيل، وحوله منازل الناس والسوق،ويحيط بالقرية خندق، وفي السوق آبار. قال الهمداني: انها مئتان وستون بئرا ماؤها عذب فرات. و "خضراء حجر"، وهي حضور "طسم" و "جديس"، وفيها آثارهم وحصونهم و بتلهم، الواحد بتل، وهو مربع مثل الصومعة مستطيل في السماء من طين. وقد بولغ في وصف ارتفاع هذه "البتل" وطولها، حتى زعم ان ارتفاع ما تبقى منها إلى في أيام الهمداني كان قد بلغ مئتي ذراع في السماء. و "الخضرمة"، وكانت لجديس، وبها آثار قديمة كثيرة، و "الهدار" و "ريمان".
أميم
وجعل الأخباربون "أميما" في طبقة طسم وجديس، وقالوا انهم من نسل "لاوذ بن عمليق"، أو "لوذ بن نوح"، أو ما شابه ذلك من شجرات نسب. وكان من شعوبهم على زعم أهل الأخبار "وبار بن أميم"، نزلوا برمل "عالج" بين اليمامة والشحر، وانهارت عليهم الرمال فأهلكتهم. ويزعم أهل الأخبار أن ديار "أميم" كانت بأرض فارس، ولذلك زعم بعض نسابة الفرس انهم من "أميم"، وان "كيومرت" الذي ي ينسبون أليه هو ابن أميم ابن لاوذ.

(1/357)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا نعرف من أمر أم يم شيئا غير هذه النتف، ولم يذكر الأخباريون كيف عدوهم من طبقة العرب الأولى إذا كانت ديارهم بأرض فارس، ولم يشرحوا لنا كذلك كيف وصلوا نسب "وبار" بأميم، وما العلاقة. بينهما.
وقد ذكر الهمداني أن وبار هو شقيق "كيومرت" ويقال "جيومرت"، وقد أولدهما "أميم". وبوبار عرفت أرض "وبار"، وهي أرض أميم.
وجاء في جغرافيا "بطلميوس" امم شعب ربي دعي "Iobaritai" "Jobaritae" "Jobabitae" ، على انه من شعوب العربية الجنوبية، ويسكن على مقربة من أرض قبيلة أخرى دعاها Sachalitae ، وتقطن عند خليج يدعى باسمها "Sinus Sahalits". وهذا الاسم قريب جدا من اسم "وبار"، لذلك ذهب المستشرقون إلى أن "Jobaritae"، هو شعب وبار أو "بنو وبار". غير أن هنالك عددا من العلماء يرون أن الاسم الأصلي الذي ورد في جغرافيا بطلميوس هو "يوباب"، غير أن النساخ قد أخطأوا في النسخ فحرفوا حرف الباء "B" الثاني في هذا الاسم وصيروه راء "R"، فصار الاسم بعد هذا التحريف "Jobabitae". فالشعب الذي قصده بطلميوس - على حد قول هؤلاء - هو "يوباب" أو "يباب"، إلا انه لا يوجد هنالك دليل قوي يثبت حدوث هذا التحريف.
وفي موضع ليس ببعيد هذا ا،كان الذي ذكره بطلميوس تقع أرض وبار الشهيرة، وهي بين رمال يبرين واليمن "ما بين نجران وحضرموت وما بين مهرة والشحر"، أو ما بين الشحر إلى تحوم صنعاء. وقيل: " قرية وبار كانت لبني وبار، وبين رمال بني سعد وبين الشحر ومهرة"، والنسبة إليها "أباري". ونرى إن هذه النسبة قريبة من الاسم الذي ذكره بطلميوس.. ويدعي "ياقوت الحموي" إنها مسماة ب "وبار بن إرم بن سام بن نوح".

(1/358)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد روت الكتب العربية قصصا كثيرة عن "وبار"، ومن جملة الأساطير التي تروى عنها أسطورة "النسناس". وتتلخص في أنهم "من ولد النسناس بن أميم بن عمليق بن يلمع بن لاوذ بن سام"، وأنهم كانوا في الأصل بشرا، فجعلهم الله نسناسا، للرجل منهم نصف رأس ونصف وجه وعين واحدة ويد واحدة ورجل واحدة، وأنهم صاروا يرعون كما ترعى البهائم، وأنهم يقفزون قفزا شديدا ويعدون عدوا منكرا. والظاهر أن لهذه القصص والأساطير أصولا جاهلية، وقد وضع منها في الإسلام شيء كثير، ووضع معها شعر كثير على لسان ذلك "الإنسان الحيوان"، ولا يزال الناس يروونها حتى الآن.
وقد أنكر بعض المستشرقين، وجود وبار، وزعموا أنهم من الشعوب التي ابتكر وجودها القصاص قائلين إن تلك الرمال الواسعة المخيفة هي التي أوحت إلى القصاص والأخباريين إختراع شعب "وبار" وقصص النسناس. والذي أراه أن هذا لا يمنع من وجود شعب بهذا الاسم، وإن كنا لا نعرف من أمره شيئا إلا هذه القصص والأساطير. وقديما أنكروا وجود عاد وثمود، ثم اتضح بعد ذلك من الكتابات وجود عاد وثمود. وهكذا قد يعثر في المستقبل على كتابات وبارية لعلها تلقي ضوءا على حالة ذلك الشعب.
وتجد في رواية آهل الأخبار عن عمار "وبار" وكثرة زروعها ومراعيها ومياهها في الجاهلية شيئا من الأساس. فقد أيد السياح ذلك، وأثبتوا وجود أثر من آثار عمران قديم. وهو سند يتخذه القائلون بتطور جو بلاد العرب، وسطحها لإثبات رأيهم في هذا التغيير.

(1/359)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم يذهب اسم "وبار" من ذاكرة سكان العرب حتى هذا اليوم. فهم يروون أن في الربع الخالي موضعا منكوبا هو الآن خراب، هو مكان "وبار". وقد قاد بعض الأعراب "فلبي" إلى موضع في الربع الخالي، قال له عنه إنه مكان "وبار" المدينة التي غضب الله عليها، فأنزل بها العقاب، وصارت، خرابا. وقد تبين ل "فلبي" أن ذلك الموضع هو فوهة بركان، قذف حمما، فبانت الأرض المحيطة به و كأنها خرائب تولدت من حريق. وتحدث أعراب آخرون للسائح "برترام توماس" عن مكان آخر يقع في جنوب شرقي هذا الموضع بمسافة "250" ميل، قالوا له إنه مكان "وبار" المدينة المفقودة المنكوبة كما عثر رجال شركة "أرامكو" على موضع في البادية وذلك في سنة 1944 ؛ زعم لهم الأعراب انه مكان وبار، مما يدل على أن الأعراب يطلقون اسم وبار على مواضع عديدة تقع في البوادي. والبوادي أنسب مكان يليق في نظرهم بان يكون موطن وبار.
عبيل
و "عبيل" مثل أميم لا نعرف من أمرهم غير نتف ذكرها الأخباريون الذين زعموا انهم إخوان عاد بن عوص، أو اخوان عوص بن إرم، وانهم لحقوا بموضع "يثرب" حيث اختطوا يثرب. وكان الذي اختطها منهم رجل يقال له "يثرب بن باثلة بن مهلهل بن عبيل". ثم إن قسما من العماليق انحدروا إلى يثرب، فاخرجوا منها عبيلا، فنزلوا موضع "الجحفة"، فأقبل سيل فاجتحفهم فذهب بهم فسميت "الجحفة".
وقد ورد في التوراة اسم ولد من أولاد "يقطان"، هو "Obal" "عوبال" أو "Ebal". وهذا الاسم قريب من "عبيل"، لذلك رأى بعض علماء التوراة أن من الممكن أن يكون "عبيل" هو "عوبال". ونجد في جغرافيا بطلميوس اسم موضع يقال له Avalitae على خليج يدعى بهذا الاسم "Avalites Sinus" وعليه مدينة تسمى "Avalites Emporium"، وسكانها يعرفون باسم "Avalites". وقد ورد هذا الاسم عند "بلينيوس" على صورة "Abalitae" و ""Abalites ، ويرى "فورستر" أن من المحتمل أن يكون هؤلاء هم "عوبال" وقد يكون أبناء عوبال هم عبيل.

(1/360)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر أن في اليمن مكانا يقال له عبيل، وقرية تقع على طريق صنعاء تعرف ب "عبال". وهذان الاسمان قريبان من اسم عبيل. غير أني لا أريد أن أقول الأن شيئا فيا يخص "عبيلا"، فلا يجوز الحكم في مثل هذه الأمور لمجرد تشابه الأسماء، وانما ذكرت ذلك للمناسبة العارضة وللتنبيه.
وأما عبد ضخم، فكانت تسكن على قول الأخباريين الطائف، وهلكوا فيمن هلك من الشعوب البائدة، وكانوا أول من كتب بالخط العربي. وذكر الطبري انهم حي من عبس الأول.
ويذكر أهل الأخبار إن "أمية بن أبي الصلت" ذكر "بني عبد ضخم" في شعره، اذ قال فيهم: كما أفني بتي عبد بن ضخم فما يذكو لصاليها شهاب
بني ببض ورهط بني معاذ وفيهم عزة وهم غلاب
وقد ذكر الهمداني أن "ابن الكلبي" يرى أن "عبد ضخم" و "بيض"، وهما حيان، هما اللذان وضعا الكتاب العربي، وذكر الهمداني أن الشاعر "حاجز الأزدي" ضمن هذا الرأي بقوله: عبد بن ضخم إذا نسبتهم وبيض أهل العلو فين الخط لهجة
ابتدعوا منطقا لخطهم=فبين الخط لهجة العرب
جرهم الأولى
وجرهم هؤلاء، هم غير "جرهم" القحطانية على رأي النسابين والأخباريين، ولذلك يقولون لجرهم هذه "جرهم الأولى"، ولجرهم القحطانية "جرهم الثانية"، ويقولون عن الأولى إنهم من طبقة العرب البائدة، وأنهم كانوا على عهد عاد وثمود والعمالقة. ويظهر من روايات الأخباريين أنهم كانوا يقيمون بمكة، ويرجعون أنسابهم إلى "عابر"، وأنهم أبيدوا: أبادهم القحطانيون. أما جرهم الثانية، أي جرهم القحطانيين فينسبهم بعض أهل الأخبار إلى "جرهم بن قحطان بن هود" وهم أصهار إسماعيل.
وقد ورد اسم "جرهم" عند "اصطيفان البيزنطي" من الكتبة اليونان.
للعمالقة
وحشر الأخباريون العمالقة "العماليق" في هذه الطبقة أيضأ، فنسبم وهم إلى "عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح". ولم تذكر التوراة أصلهم ونسبهم، وهي لا تشير إلى أل بناء "لود" أو "لاوذ" كما يقول له الأخباريون.

(1/361)

admin
12-25-2010, 10:14 PM
"وعمليق" جد العمالقة، هو شقيق طسم. ويذكرون أنهم كانوا أمما كثيرة، تفرقت في البلاد، فكان منهم أهل عمان وأهل الحجاز وأهل الشام وأهل مصر. ويعرف أهل عمان والبحرين ب "جاسم"، وجاسم هم من نسل عمليق على زعم أهل الأخبار. وكان من العمالقة أهل المدينة، ومنهم "بنو هف" و "سعد ابن هزان" و "بنو مطر" و "بنو الأزرق". وكذلك سكان نجد، ومنهم بديل وراجل وغفار، وكذلك أهل تيماء.
وكان ملكهم "الأرقم"، وهو من العمالقة. وهو من معاصري "موسى" على رواية الهمداني. وقد أرسل "موسى" عليه جندا لمقاتلته ففتك باتباعه أهل تيماء وببقية عمالقة الحجاز.
ويذكر بعض أهل الأخبار أن "العماليق" لحقت بصنعاء قبل أن تسمى صنعاء، ثم انحدر بعضهم إلى يثرب، فاخرجوا منها "عبيلا"، وسكنوا في ديارهم، وذهبت "عبيل" إلى موضع "الجحفة"، فأقبل السيل فاجتحفهم، فذهب بهم، فسميت الجحفة. وذكروا أن "موسى" أرسل جيشا لحرب عماليق يثرب، ولم نجد في التوراة ذكرا لمثل هذا الجيش، أو الحرب.
والعمالقة الذين نتحدث عنهم، هم عرب صرحاء، من أقدم العرب زمانا، لسانهم اللسان المضري الذي هو لسان كل العرب البائدة على حد قول أهل الأخبار. بل زعم بعضهم أن عمليقا، وهو أبو العمالقة، أول من تكلم بالعربية حين ظعنوا من بابل، فكان يقال لهم ولجرهم "العرب العاربة".

(1/362)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من فحص هذا المروي في كتب الأخباريين عن العمالقة ونقده أنه مأخوذ من منابع يهودية، فقد ذكر العمالقة في التوراة، وقد كانوا أول شعب صدم العبرانيين حينما خرجوا من مصر متجهين إلى فلسطين. وظلوا يحاربونهم، ويكبدونهم خسائر فادحة، وأوقعوا الرعب في نفوسهم، ولهذا ثار الحقد بينهم على العماليق. ويتجلى هذا الحقد في الآيات التي قالها التي "صموئيل" لشاؤول "Saul" أول ملك ظهر ضد العبرانيين، قالها لهم باسم إسرائيل: "إياي أرسل الرب لمسحك ملكا على شعبه إسرائيل. والآن فاسمع صوت كلام الرب. هكذا يقول رب الجنود. أني افتقدت ما عمل عمليق بإسرائيل حين وقف له في الطريق عند صعوده من مصر. فالان اذهب واضرب عماليق، وحرموا كل ماله، ولا تعف عنهم، بل اقتل رجلا وامرأة، طفلا ورضيعا، بقرا وغنما، جملا وحمارا". وهذا الحقد هو الذي جعلهم يخرجونهم من قائمة النسب التي تربطهم بالساميين.
وقد كانت منازل العمالقة من حدود مصر فطور سيناء إلى فلسطين. وعددم ذكر العبرانيين لهم في جملة قبائل العرب لا يدل على أنهم لم يكونوا عربا، فقد ذكرت أن العبرانيين لم يطلقوا لفظة "عرب" إلا على الأعراب، أعراب البادية، ولا سيما بادية الشام. ثم إن العمالقة من أقدم الشعوب التي اصطدم بها العبرانيون، وحملوا حقدا عليها، وهم عندهم وفي نظرهم أقدم من القحطانيين والإسماعليين.
حضورا
وأورد أهل الأخبار قصصا عن "حضورا"، فذكروا أن "حضورا" كانوا يقيمون بالرس، و كانوا يعبدون الأوثان، وبعث إليهم منهم نبي منهم اسمه "شعيب بن ذي مهرع"، فكذبوه، وهلكوا.
وهنالك عدة مواضع يقال لها "الرس" منها موضع باليمامة، وموضع كان فيه ديار نفر من ثمود.
وورد في القرآن الكريم "اصحاب الرس"، مع عاد وثمود، وذهب المفسرون إلى أنهم كانوا جماعة "حنظلة"، وهو نبي، فكفروا به ورسوه في البئر إلى غير ذلك من الأقوال.

(1/363)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من القران الكريم أن "أصحاب الرس" كانوا مثل جماعة عاد وثمود في الطبقة، أي في زمانهم، وأنهم هلكوا أيضا. وقد ذكر بعض أهل الأخبار أن نبي "أصحاب الرس" هو "خالد بن سنان"، وقد ذكروا أن الرسول ذكره، فقال فيه: " ذاك نبي ضيعة قومه".
وذكر "الهمداني" أن "حنظلة بن صفوان" كان نبيا في اليمن، وقد أرسل إلى سبأ، وكان من "الأقيون"، وهم بطن دخل في "حمير"، وذكر أنه وجدت عند قبره هذه الكتابة: "أنا حنظلة بن صفوان. أنا رسول الله. بعثني الله إلى حمير وهمدان والعريب من أهل اليمن، فكذبوني وقتلوني". وأنه أنذر قومه "سبأ" برسالته فكذبوه، فلما كذبوه، أرسل الله عليهم سيل العرم.
وذكر "الهمداني" أيضا نقلا عن "ابن هشام" أن "حنظلة بن صفوان ابن الأقيون"، هو، نبي الرس، والرس بناحية صيهد، وهي بلدة منحرفة ما بين بيحان ومأرب والجوف، فنجران فالعقيق فالدهناء، فراجعا إلى حضرموت. وذكر أيضا أن الرس، بمعنى البئر القليلة الماء، وأن أهل الرس قبائل من نسل أسلم ويامن أبو زرع ورعويل وقدمان، وهم من نسل قحطان. وقد كذبوا نبيهم "حنظلة" وقتلوه وطرحوه في بئر رس ماؤها.

(1/364)


--------------------------------------------------------------------------------

وروى أهل الأخبار أن "بختنصر" "نبوخد نصر" غزا أهل "حضور" "حضوراء" وأعمل فيهم السيف وأجلى خلقا منهم إلى أماكن أخرى، لأنهم كفروا وجحدوا نبوة نبي منهم أرسله الله إليهم، وهو "شعيب بن مهدم بن ذي مهدم بن المقدم بن حضور"، ولم يصدقوه، وكانوا أصحاب بطش وشدة وغلظة. فلما قتلوه، أوحى الله إلى نبي في عصره هو "برخيا بن اخبيا بن رزنائيل ابن شالتان"، وكان من سبط "يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل"،أن يأتي "بختنصر"، فيأمره بغزو "العرب الذين لا أغلاق لبيوتهم ولا أبواب"، ويطأ بلادهم بالجنود، فيقتل مقاتلهم، ويستبيح أموالهم. فأقبل "برخيا" من نجران، حتى قدم على "بختنصر"، وذلك في زمان "معد بن عدنان"، فوثب "بختنصر" على من كان في بلاده من العرب، وجمع من ظفر به منهم، فبنى لهم حيرا على النجف وحفظة، ثم ضمهم فيه، وكل بهم حرسا وحفظة، ثم سار في بلاد العرب فالتقى بعدنان بذات عرق، فهزم "بختنصر" عدنان، وسار إلى "حضور"، فانهزم الناس وفروا فرقتين: فرقة أخذت إلى "ريسوب" وعليهم "عك"، وفرقة قصدت وبار. أما الذين بقوا في "حضور"، وحاربوا "بختنصر" فقد احصدتهم السيوف. ثم رجع ملك بابل بما جمع من السبايا، فألقاهم بالأنبار، وخالطهم بعد ذلك النبط، ومات عدنان. فلما مات "بختنصر"، خرج "معد بن عدنان" حتى أتى مكة، ثم ذهب إلى "ريسوب" فاستخرج أهلها، وسأل عمن بقي من ولد "الحارث بن مضاض الجرهمي" وهو الذي قاتل درس العتق، فأفنى أكثر جرهم على يديه - فقيل: بقي "جرشم بن جلهمة"، فتزوج معد ابنته "معانة"، فولدت له "نزارا".

(1/365)


--------------------------------------------------------------------------------

وأهل حضور الذين قتلوا نبيهم، وقتلهم "بختنصر" هم شعب من أهل اليمن على رأي الأخباربين، كانوا يقيمون الحضور أو "حضوراء". وفي اليمن موضع يسمى "حضور"، ينسبه أصحاب الأخبار إلى "حضور بن عدي بن مالك بن زيد بن سدد بن حمير بن سبأ"، وذكروا أنه المكان الذي قصده "بختنصر"، فقتل أهله. وعلى هذا المكان مسجد يزار حتى اليوم، يقال له مسجد شعيب نبي اصحاب الرس. وهو جبل من جبال اليمن المقدسة،قال الهمداني: "وأما الجبال المقدسة عند أهل اليمن، فجبل حضور وصنين ورأس بيت فائش من رأس جبل تخلى ورأس هنوم ورأس تعكر ورأس صبر. وفي رؤوس هذه الجبال مساجد مباركة مأثورة".
وأرى أن قداسة هذه الجبال وردت إليها من الأيام التي سبقت الإسلام، من ط أيام الوثنية أو أن المساجد التي أنشئت في رؤوسها، إنما أنشئت فوق معابد قديمة، لعبادة الأصنام، وذلك كما حدث في أماكن أخرى من جزيرة العرب حيث اكتسبت بعض، المعابد الوثنية القديمة قدسية خاصة. فلما جاء الإسلام، ألبست ثوبا إسلاميا، فبقيت حية، وتحولت بمرور الزمن إلى مزارات ومساجد تقام فيها الصلوات.
وقد اعتمد رواة خبر غزو "بختنصر" لأهل )حضور( على ما جاء عن "ابن الكلبي" و "ابن إسحاق ونفر آخر من عرفوا بروايتهم هذا النوع من الروايات التي تعرف من معين الإسرائيليات. وما بنا حاجة أبدا إلى البحث في أسماء رواته لمعرفة صلته بالتوراة. فالمسألة جد واضحة. خذ التوراة واقرأ ما جاء في أسفار )أرميا( ونبوءته،تجد القصة مكتوبة في السفر التاسع والأربعين: "عن قيدار وعن ممالك حاصور التي ضربها نبوخذ راصر ملك بابل. هكذا قال الرب: قوموا اصعدوا إلى قيدار، اخربوا بني المشرق. يأخذون خيامهم وغنمهم، ويأخذون لأنفسهم شققهم وكل آنيتهم وجمالهم، وينادون إليهم الخوف من كل جانب.

(1/366)


--------------------------------------------------------------------------------

"اهربوا، انهزموا جدا، تعمقوا في السكن يا سكان حاصور،يقول الرب، لأن نبوخذ راصر ملك بابل قد أشار عليكم مشورة، وفكر عليكم فكرا. قوموا إلى أمة مطمئنة ساكنة آمنة. يقول الرب لا مصاريع ولا عوارض لها. تسكن وحدها وتكون جمالهم نهبا، وكثرة ماشيتهم غنيمة، وأدرى لكل ريح مقصوص الشعر مستديرا، وآتى بهلاكهم من كل جهاته يقول الرب. وتكون حاصور مسكن بنات آوى، إلى الأبد،لا يسكن هناك إنسان، ولا يتغرب فيها ابن آدم".
أما النبي )برخيا( الذي زعم الاخباريون أنه هو الذي اشار على "بختنصر" بغزو "حضور"، فهو "باروخ بن نيريا "نريا" بن محسيا" شقيق "سرايا" "Seraiah". وقد كان كاتبا، محبا مخلصا للنبي "أرميا"، وكان يكتب لأرميا، وهو الذي كلفه النبي "أرميا" بالذهاب إلى "يختنصر" حاملا رسالة إلى الملك. وهي الرسالة المدونة في أسفار "أرميا". وقد ذهب إلى بابل وقابل الملك، ثم عاد إلى القدس حيث هاجم "بختنصر" القدس واستولى عليها بتحريض من هذا النبي نبي العبرانيين! ترى أن الأخباريين أخذوا قصة غزو "بختنصر" لحاصور، القصة الواردة في أسفار "أرميا"، وجعلوها غزوا لشعب "حضور" في اليمن، وهو موضوع بعيد لا يعقل وصول "بختنصر" اليه، وأضافوا أليه شيئا من الزخارف التي وضعها "ابن الكلبي" أو غيره، كإقحام اسم عدنان ومعد بن عدنان واسم نبي عربي جنوبي في القصة، ولم يكفهم ذلك، فجعلوا "برخيا" من أهل "نجران"، وجعلوه يقطع المسافة ما بين نجران وبابل، ليكلف "بختنصر" غزو العرب. وصيروا "حاصور" "حصور" الواردة في "أرميا" "حضور" و "خضوراء"، وجعلوه في اليمن، ولم ينسوا البحث عن سبب، فجعلوه اعتداء أهل "حضور" على نبيهم.

(1/367)


--------------------------------------------------------------------------------

أما "حاصور" التوراة، فإنها أرضون تقع في "العربية"، كانت فيها ممالك صغيرة، أو مشيخات، كما يفهم ذلك من عبارة "أرميا" "وعن ممالك حاصور". وكانت تتاخم "قيدار" ولعلها كانت في البادية. ويرى علماء التوراة أن سكانها كانوا من أهل المدر، ويقيمون في بيوت ثابتة، وقد أطلقت كلمة "حاصور" "Hazor" عليهم تمييزا لهم عن أهل الوبر، وكانت ديارهم في جنوب فلسطين أو شرقها.
و تعني كلمة "حاصور" "Hazor" "Hasor" و جمعها "Hazerim" "Haserim" ما تعنيه لفظة،"حيرتا" "Herta"، في الإرمية و "الحيرة" في العربية، من معنى "محاط" أي "محصور" "محاصر"، بمعنى الحصن أو الأمكنة المحاطة المحصورة أو "المضرب كل و "الحمى". وقد كان مشايخهم يقيمون في أسياف البادية في مخيمات ومضارب مع أتباعهم، فهي في معنى "حيرتا" عند بني إرم و "Paremboles" عند اليونان. وكانوا يرعون الماشية من ماعز وأغنام وجمال في مناطقهم التي اعتادوا الإقامة بها، ويظهر أنهم تعرضوا لجيوش "بختنصر"، أو أنهم لم يساعدوه في حملته على فلسطين، فأغتاظ منهم، و جرد عليهم حملة، و كان من عادتهم الالتجاء إلى المغاور و الكهوف حين مهاجمة عدو لهم حيث يذهبون إلى مناطق بعيدة يصعب على الجيوش مطاردتهم، فيتحذون منها مواطن آمنة و يعيشون فيها ما دام الخطر.
ولم يكن للأخباريين علم دقيق بما يرد في التوراة من أمور، فلم يفطنوا أن من غير الممكن أن يكون أهل "حاصور" من أهل اليمن، لأن ذكر التوراة لهم مع "قيدار" يجعل مواضعهم في شمال جزيرة العرب، ثم إن اليمن بعيدة جدا عن "بختنصر"، و لا يعقل أن يكون في إمكان جيوشه الوصول بسهولة إلى هناك. ثم إن الكتب اليهودية تصور "حاصور" في مكان في العربية الشمالية في جوار أرض "قيدار"، و لم يكن لها علم واسع عن اليمن، كما أن "باروخ" من القدس ولم يكن من أهل نجران.

(1/368)


--------------------------------------------------------------------------------

و يظهر أن حربا قديمة ماحقة، أو كارثة طبيعية مثل زلزال أو هياج حرة، وقعت في "حضور" اليمن، سبب تلفها و إنزال خسائر كبيرة بها و بأهلها، فترك ذلك أثرا عميقا في ذاكرة الناس، رواه كابر عن كابر، فوجد الاخباريون الذين وقفوا على أخبار التوراة، أو كانوا يجالسون أهل الكتابو يسائلونهم، شبها بين "حاصور" و "حضور"، و ظنوا جهلا بالطبع بما ورد في "أرميا" عن "حاصور"، أن "حاصور" التوراة "حضور" اليمن، ثم أضافوا إلى ذلك ما شاءوا على طريقتهم في أمثال هذه المناسبات.
هلاك العرب البائدة
هذا ويلاحظ أن هلاك العرب البائدة كان بسبب كوارث طبيعية نزلت بهم مثل انحباس المطر جملة سنين مما يؤدي إلى هلاك الحيوان وجوع الإنسان، واضطراره إلى ترك المكان والارتحال عنه إلى موضع آخر، قد يجد فيه زرعا وماء وقوما يسمحون له بالنزول معهم كرها لقوته ولتغلبه عليهم، أو صلحا بأن يسمح الأقدمون له بالنزول في جوارهم لاتساع الأرض وللفائدة المرجوة للطرفين. وقد يتفرق ويتشتت بين القبائل، فيندمج فيها بمرور الزمن ويلتحق بها في النسب والعصبية، فيكون نسبه النسب الجديد. وبذلك ينطمر ذكر القبيلة القديم والأصل الذي كان منه. وقد لا يبقى منه غير الذكريات، كالذي رأيناه من أمر القبائل البائدة.
وقد تكون الكارثة هيجان حرات وهبوب عواصف رملية شديدة عاتية تستمر أياما واهتزازات أرضية في الأرضين غير المستقرة، مما يلحق الأذى بالناس. ومن هنا في ذكر هذه الكوارث في القرآن الكرم وفي الأخبار الواردة عن هلاك القبائل المذكورة فيه، أو التي لم ترد فيه، و إنما يذكر أسماءها أهل الأخبار.

(1/369)


--------------------------------------------------------------------------------

هذا وقد ألف بعض أهل الأخبار كتبا في بعض العرب البائدة ومن هؤلاء "**** بن شرية الجرهمي"، و "ابن الكلبي"، فقد ذكر إن لهذا مؤلفا دعاه "كتاب عاد الأولى والآخرة" و "كتاب تفوق عاد"، ومنهم "أبو البختري" و "وهب بن وهب بن كثير" فله "كتاب طسم وجديس" وغير ذلك. والغالب على هذه المؤلفات كما يظهر من الاقتباسات منها والمبثوثة في الكتب الباقية، إنها ذات طابع أسطوري.
الفصل التاسع
العرب العاربة والعرب المستعربة
تحدثت في الفصل السابق عن العرب البائدة، وهم العرب الذين هلكوا و اندثروا قبل الإسلام، ولم يبق منهم غير آثار وذكريات. أما العرب العاربة والعرب المستعربة "المتعربة"، أو العرب القحطانيون والعرب العدنانيون، فإنهم العرب الباقون التين كانوا يؤلفون جمهرة العرب بعد هلاك الطبقة الأولى، فهم العرب الذين كتب لهم البقاء، وكان ينتمي إليهم كل العرب الصرحاء عند ظهور الإسلام.
العرب للعاربة
أما الطبقة الثانية من طبقات العرب بعد البائدة، فهي "العرب العاربة" على أقوال النسابين، وهم من أبناء قحطان وأسلاف القحطانيين المنافسين للعرب العدنانيين، الذين هم العرب المستعربة في عرف النسابين.
وقحطان الذي يرد في الكتب العربية، هو "يقطان" التي يرد اسمه في سفر التكوين، وهو "قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح" في رأي أكثر النسابين. و هو "يقطان بن عابر بن شالخ بن أرفكشاد بن سام ابن نوح( في التوراة.
فترى من ذلك مطابقة تامة بين النسب الوارد في الكتب العربية والنسب الوارد في التوراة، مما يدل دلالة واضحة على أن الأخباريين أخذوا علمهم بنسبه من روايات أهل الكتاب، وهم يؤيدون ذلك ولا ينكرونه.

(1/370)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد سرد بعض الأخباريين نسب قحطان في شكل آخر: مثل "قحطان بن هود بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح". على أن هودا هو عابر، أو "قحطان بن هود بن عبد الله بن الخلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام ابن نوح"، أو "قحطان بن يمن بن قدار" ظ أو "قحطان بن الهميسع بن تيمن بن نبت بن إسماعيل بن إبراهيم. فترى من ذلك أن بعض شجرات النسب أدخلت أسماء عربية بين الأسماء المأخوذة من التوراة.
وقد ألح بعض نسابي اليمن على جعل "هود" عابرا، وعلى جعله والد قحطان، وأصروا على ورود ذلك في الشعر، ولم يكن من العسير عليهم بالطبع أيجاد ذلك الشعر ووضعه، فكانوا إذا نوقشوا في ذلك، احتجوا بقول الشاعر: وأبو قحطان هو ذو الحقف
واحتجوا بأمثال ذلك من كلام منظوم أو منثور. وجاءوا بأكثر من ذلك لإفحام الخصوم والقائلون إن "قحطان" هو "قحطان بن الهميسع بن تيمن بن نبت بن إسماعيل" هم نسابو ولد "نزار بن معد"، أي النزارية، الذين كانوا يقابلون "اليمانية" في صدر الإسلام وفي الدولة الأموية والعباسية، يؤيدهم في ذلك بعض اليمانية، مثل "هشام بن الكلبي"، و "الشرفي بن القطامي" و "نصر بن زروع الكلي" و "الهيثم بن عدي". ويظهر أن غايتهم من ذلك وصل نسب قحطان بشجرة نسب أولاد إسماعيل. أما سائر اليمانية، فتأبى ذلك، وتذهب إلى أنه )قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح".

(1/371)

admin
12-25-2010, 10:15 PM
وتستهدف هذه الروايات غاية عاطفية بعيدة على ما يظهر، كانت ذات أهمية في نظر القحطانيين، هي وصل نسبهم بالأنبياء. فبعد أن ذكروا ما ذكروا من أخبار ملكهم ودولهم قبل الإسلام، وجدوا أن العدنايين يفخرون عليهم مع ذلك بان فيهم النبوة والأنبياء، منهم الرسول، وفيهم إسماعيل جدهم. فأرادوا أن يكون لهم أجداد أنبياء: أنبياء خلص قحطانيون، أو أن يكون لهم نسب يتصل بنسب إسماعيل على الأقل، أو أن يصل نسب إسماعيل بأسباب نسبهم، فقالوا: إنهم من نسل هود، وهود نبي من أنبياء الله، وقالوا: أن قحطان من نسل إسماعيل، وقالوا: إن هودا هو عابر، وعابر من نسل الأنبياء، وقالوا أشياء أخرى من هذا القبيل ترمي إلى ترجيح كفتهم على كفة منافسيهم العدنانيين في الفخر بالأنساب على الأقل.
ولم يعجب اليمانية المعنى الوارد في التوراة للفظة "يقطان" "يقطن"، ولعلهم عرفوا معناها من أهل الكتاب، فعكسوا المعنى بأن صيروه على الضد تماما. جعلوه "الجبار"، وقالوا: "واسمه في التوراة الجبار"، مؤكدين جازمين. أما في التوراة وعند أهل الكتاب وفي العبرانية، فهو العكس، ف )يقطان"في التوراة لفظة تعني "صائر صغير"، فهي في معنى: )صغير(. وبين يصغر وجبار فرق كبير. وهكذا صار الصغير جبارا. وبهذا التفسير أعاد النسابون آو أحد المتحدثين إليهم من أهل الكتاب الهيبة والمكانة إلى "قحطان".
وشاء بعض أهل الأخبار أن يكون دقيقا في حكمه، عارفا بمدة حكم "قحطان"، لئلا يترك الناس في جهل من أمرها، فجعلها مئتي سنة، لم يزد عليها ولم ينقص منها. وكان صاحب هذا الخبر "هشام بن الكلبي" رأس الأخباريين في مثل هذه الأمور.

(1/372)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ورد في جغرافيا "بطلميوس" اسم قريب من اسم "قحطان"، هو "كتنيتة" "كتانيتة" "Katanitae". غير أن هذا لا يدل حتما على إن المراد منه "قحطان"، اذ يجوز أن يكون اسمم موضع لا علافة له بقحطان، أو اسم قبيلة من القبائل اسمها قريب منه. وقد ورد اسم قبيلة تدعى "قطن" أو "بنو قطن"، كما ورد اسم موضع عرف بي "جو قطن"، وذكر اسم مدينة بين "زبيد" و "صنعاء"،يقال لها "قحطان"، وأشار "المسعودي" إلى "جزائر قطن"، لهذا أرى أن من الخير ألا يتخذ الآن أي موقف كان لا سلبا ولا ايجابا، قبل اكتمال العدة والظفر بمواد مساعدة تكف لإصدار الأحكام.
وقد عثر على اسم قبيلة عربية عرفت بقبيلة "قحطن"، أي قحطان، في نصوص المسند، لا أستبعد أن يكون لاسمها علاقة بقحطان الذي صيره أهل الأخبار جدا لكل العرب الجنوبيين. فقد ذكر بعد اسم "كدت" الذي هو كندة في النص: "Jamme 635" وكان على قبيلة قحطان وعلى كندة ملك واحد اسمه "ربيعت" "ربيعة"، وهو من "ثورم" "ال ثورم" "الثورم" أي "آل ثور". وثور هو جد قبيلة كندة في عرف النسابين من أيام الملك "شعر أوتر"، وسأتحدث عنه وعن الملك فيما بعد.
ونحن لا نعرف من أمر "قحطان" شيئا غير هذا النسب الذي يردده الأخباريون، وليس لدى العبراينين من أمره غير ما ورد من انه أحد أولاد "عابر" وأخرهم، وانه جد قبائل عديدة قديمة. وسكوت أهل الأخبار عنه واكتفائهم بسرد نسبه، دليل على أخذهم له من التوراة.
أما أولاده، فلم يبخل عليه أهل الأخبار بالأولاد، فوهب بعضهم له امرأة سموها "حتى بنت روق بن فزارة بن سعد بن سويد بن عوص بن إرم بن سام ابن نوح"، ووهبوا له من الولد ما تراوح عدده من عشرة ذكور إلى واحد وثلاثين على حسب كرم الراوي أو بخله على قحطان، من بينهم يعرب وحضرموت وعمان وجرهم.

(1/373)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذكر "الهمداني" أولاد "قحطان" على هذا النحو: يعرب ابن قحطان، ودعاه ب "المزدغف"، ومعنى "المزدغف" المحتوي للأشياء، وجرهم بن قحطان، ولؤي، وخابر، والمتلمس، والعاض "العاصي" "القاضي"، وغاشم، والمعتصم، وغاصب، و مغرز، ومبتع، والقطامي، وظالم، و "الحارث" "الحرث"، ونباتة، وقاحط، وقحيط، ويعفر جد المعافر، و المود، والمودد، و السلف، و السالف، ويكلأ، و غوث، و ا لمرتاد، و طسم، و جديس، وحضرموت، وسماك، وظالم، وخبار، والمتمنع، وذو هوزن، ويأمن، ويغوث، وهذرم. وقد أخذ هذه الأسماء من روايات أشار إلى أسماء رواتها. وقد جمعتها ليكون في إمكان القارئ الإحاطة بها.
وذكر "الهمداني" في موضع آخر انه قرأ "في السجل الأول: أولد قحطان بن هود أربعة وعشرين رجلا، وهم: يعرب، والسلف الكبرى، ويشجب، وأزال، وهو الذي بنى صنعاء، ويكلى الصغرى، وخولان - خولان رداع في الفقاعة - والحارث، وغوث، والمرتاد، وجرهم، وجديس، والمتمنع، والمتلمس، والمتغشمر، وعباد وذو هوزن، ويمن، وبه سميت اليمن، و القطامي، و نباتة، و حضر موت، و سماك، و ظالم، وخيار، والمشفتر". وقصد ب "السجل الأول" سجل خولان الذي تحدثت عنه آنفا.
أما الذي تولى الملك بعد قحطان - على رأي الأخباريين - فكان يعرب، وكان ملكه باليمن، وقد غلب بقايا عاد، ووزع اخوته في الاقطار،فأقر أخاه حضرموت على الأرضين التي عرفت بأسمه فقيل لها حضرموت، وعين عمان على أرض عمان، وولى جرهما على الحجاز.
ولا نعرف من أمر يعرب شيئا غير ما ذكره بعض الأخباريين من إن أم يعرب هي من عاد أو من العماليق، ومن أن له اخوة من أمه، هم: جرهم والمعتمر والمتلمس وعاصم ومنبع والقطامي وعامي وحمير وغيرهم.

(1/374)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد حكم "يعرب" على رأي بعض أهل الأخبار مدة تساوي المدة التي حكم فيها أبوه، أي مئتي سنة. وإذا كانت هذه المدة هي مدة حكمه، فلا بد أن تكون أيام حياته أطول من أيام حكمه. فعمره إذن عمر لا بد أن يحسده عليه كل أحياء هذا القرن ومن سيأتي بعدهم من الناس.
ولم ينسب أهل الأخبار والنسب إلى يعرب ولدا كثيرا. فقد نسب بعضهم إليه يشجب، قالوا وبه كان يكنى، و شجبان، وبه سميت "شجبان" باليمن، وهي أعلا رمع.
ويلاحظ أن بين "يشجب" و "شجبان" تقاربا كبيرا، ولعل أحد الاسمين خلق الاسم الثاني. وجعل بعضهم ليعرب من الولد: يشجب. وحيدان، وحيادة، وجنادة، ووائلا، وكعبا.
ولم يرد اسم "يعرب" في الشعر الجاهلي. وإنما ورد اسمه في شعر ينسب إلى "حسان بن ثابت"، وفي شعر ينسب إلى "مضاض بن عمرو الجرهمي"، وهو من جرهم، قيل: إنه قاله لما أخرجتهم الأزد من مكة. والشعران من النوع المصنوع المحمول على حسان وعلى "مضاض" الذي لا أدري أكان يتكلم بهذا اللسان العربي الذي نزل به القرآن،. أم بلسان أهل اليمن الذي يختلف عن هذا اللسان.
ولا نعرف ل "يعرب" اسما في التوراة، لا في أبناء يقطان ولا في غير أبنائه. إنما نعرف أن في التوراة اسم ملك سمته "يرب Jareb" يظن بعض علماء العهد القديم أنه اسم ملك عربي كان يحكم مقاطعة عربية، ومن الجائز في نظرهم أن يكون قد حكم "يثرب"، أو مكانا آخر في جزيرة العرب. ولا يستبعد أن يكون أهل الأخبار قد سمعوا باسمه من يهود "يثرب"، فصيروه "يعرب بن قحطان".

(1/375)


--------------------------------------------------------------------------------

ويقصد الأخباريون بجرهم جرهما الثانية،التي جاءت بعد هلاك جرهم الأولى. وقد أقامت بمكة، وكان منها أرباب البيت. ويظهر أن أهل الجاهلية كانوا يتصورون أن قبيلة جرهم كانت ترعى البيت الحرام. وقد ذكر الأخباريون أن إسماعيل نشا بينها وتزوج منها، وأن أباه إبراهيم بعد أن قام ببناء الكعبة ورفع قواعدها، ترك اببنه بينهم، فصارت له صلة بهم. ثم تغلبت على جرهم خزاعة، فانتزعت منهم السدانة، واحتفظت بها إلى أن انتقلت إلى قريش.
وكان سيب تغلب خزاعة على جرهم وخروجها من مكة إن جرهما بغت على "قطوراء" وتنافست معها، وكان "قطوراء" أبناء عم لجرهم، وكانوا يقيمون أسفل مكة بأجياد، وجرهم في اعلاها ب "قعيقعان"، فاقتلوا قتالا شديدا،وقتل "السميدع" صاحب "قطوراء"، وتصالح الطرفان، وأستقر الأمر لجرهم. ثم إن جرهما بغت بمكة، وظلمت من دخلها من غير أهلها، وأكلت مال الكعبة الذي يهدى لها. فلما رأت "بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة" و "غبشان" من خزاعة ذلك، أجمعوا على حربها و إخراجها من مكة،فاقتتلوا، فغلبتهم "بنو بكر" و "غبشان" فنفوهم من مكة.
وذكر النسابون أن "قطوراء" "قطورا" كانوا أبناء عم جرهم، وكانوا ظغنا من اليمن، فأقبلوا سيارة، وعلى جرهم مضاض بن عمرو، وعلى "قطوراء" السميدع، فاستقروا بمكة. وعاشوا مع جرهم والعدنانين أبناء إسماعيل بمكة بعد هجرتهم هذه من اليمن، ولم بتعمق النسابون في البحث عن أصل قبيلة "قطوراء".
وقد نص "الطبري"، على أن اسم جرهم هو "هذرم"، ونص على أن والده هو "عابر بن سبأ بن يقطن بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام ابن نوح".وهو نسب أخذ من التوراة إلا أن من أخذه ونقل الطبري روايته منه لم يروه صافيا نقيا، بل غير فيه وبدل، جهلا أو لسبب آخر. فإن "هذرم" هو "هدورام" "Hadoram" في التوراة، وهو الابن الخامس من أبناء "يقطان" أي قحطان. وبذلك تكون "جرهم" من القبائل القحطانية بحسب رواية التوراة.

(1/376)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم يختف ذكر جرهم حتى في صدر الإسلام، فكان القاص "**** بن شرية الجرهي" ينسب إلى جرهم، ويظهر من شعر "حسان بن ثابت" أن بقية منها بقبت باقية، وظلت جماعة منها تعيش على ساحل البحر الأحمر المقابل لمكة إلى أواخر القرن الثاني للهجرة. ومن بقايا جرهم: "ال****يون" في اليمن، على زعم بعض الأخباريين. هذا، وما ذكره "الطبري" من وجود علاقة بين "جرهم" و "لحيان" يستند إلى حقيقة.
وقد ذكر "بلينيوس" اسم شعب دعاه: "Charmaei"، وذكره "أسطيفان البيزنطي" كذلك، ويرى "فورستر" انه "جرهم". ويشك بعض الباحثين في صحة هذا الرأي، وذلك لأن الشعب المذكور كان يعيش على مقربة من المعينيين، أي في أرض بعيدة عن مكة. ويدل ذكر "بلينيوس" و "أسطيفان البيزنطي" لهم، على انهم كانوا من الشعوب العربية المعروفة في حوالي الميلاد وبعده، ولهذا ورد ذكره عند هذين الكاتبين.
وقد ذكر "الهمداني" إن موضعا كان بمكة يقال له: "دوحة الزيتون"، كان. مقبرة من مقابر جرهم، وان نفرا دخلوا المقابر، فوجدوا أشياء ثمينة من مصوغات وكتابات.
وإلى يعرب ينسب أهل الأخبار نشوء العربية، يزعمون انه كان أول من أعرب في لسانه، ولهذا قيل للسانه "العربية". وهذه رواية قحطانية تعارض الروايات العدنانية بالطبع، ويظهر من بعض روايات أهل الأخبار إن "يعرب" هو الذي جاء بولده إلى اليمن، فأسكنهم بها، إلا أنها لم تذكر الموطن الذي جاء منه. وتذكر هذه الروايات إن ولده كانوا أول من لمجا بتهيئة الملك، فقالوا له: "أبيت اللعن" و "أنعم صباحا"، وهي تحايا ينسبها بقية الأخباريين إلى غيره من الملوك المتأخرين. وسأتحدث عنها فيما بعد.

(1/377)


--------------------------------------------------------------------------------

وانتقل الملك - على رأي الأخباريين - من يعرب إلى ابنه يشجب، ويقال له "يمن"، ومن ولده عبد شمس، ويقال له عامر ويلقب ب"سبأ" على زعم بعض الأخباريين. زعموا انه هو الذي بنى قصر سبأ ومدينة "مأرب"، وانه فتح مصر وبنى بها مدينة عين شمس، وانه أول من سن السبي، ولذلك عرف بي "سبأ"، وغير ذلك مما يقصه علينا أهل الأخبار.
، ويلاحظ إن النسابين قد بخلوا على "يشجب" كثيرا، فلم يهبوا له أولادا أ كثيرين، وكل ما أعطوه هو: "سبأ الأكبر"، و اسمه كما رأينا "عبد شمس"، و أعطاه بعضهم بالإضافة إليه: "جرهم بن يشجب"، و "شجبان بن يشجب"، فأولد "شجبان" صيفيا، و أولد صيفي مالكا، و أولد مالك الحارث، وقد ملك.
ويذكر "الهمداني" نقلا عن بعض الرواة إن لقب )سبأ(، هو "الأعقف"، قال: "وكان أول من استعمل لتدمير الحكم في ملكه، وأول من نصب ولي العهد في حياته.. وأول من سبى السبي، ممن ختر به وحاربه وناصبه". وروى في ذلك شعرا نسبه إلى "علقمة بن ذي جدن".
و ذكر "حمزة الاصفهاني" نقلا عن "عيسى بن داب" إن ملك "عبد شمس"، أي "سبأ"، كان في زمن "كيقباد"، فسار "سبأ" في مدن اليمن و مخابئها، و كانت إذ ذاك في بقايا عاد، فلم يدع بأرض اليمن أحد منهم إلا سباه و استبعده فسمي "سبأ"، ووطد بذلك حكم القحطانيين في اليمن.

(1/378)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عثر العلماء على نص وسموه ب "Rep. Epigr. 4304"، هذا نصه: "عبد شمس، سبأ بن يشجب، يعرب بن قحطان". وهو نص أشك في صحته، وأرى أنه وضع بعد الجاهلية بزمن، قد يكون غير بعيد. صنعه بعض من تعلم حروف المسند، أو ممن يتقنون صناعة تزييف العاديات اليمانية، لأن أسلوب المسند معروف، ولا نجد في نصوصه نصا واحدا دون على هذا النسق في تدوين النسب. ثم إن هذا النسب هو نسب متأخر وضع على أثر احتدام النزاع بين القحطانين والعدنانيين في العصر الأموي كما سنرى فيما بعد. والظاهر إن نافش النص، وهو من اليمن، أراد إثبات ورود هذا النسب عند السبئيين واقناع الناس بأنه كان معروفا فدونه، على كل حال إن في استطاعة الباحثين تقدير زمن تدوين هذا النص، ودراسة طبيعة اللوح الذي دون عليه بالطرق الفنية، وعندئذ يمكن إثبات صحة تلك الكتابة أو عدم صحتها بطريقة علمية لا تقبل جدلا.
وجعل "المسعودي" لسبأ عشرة أولاد، تشاءم منهم أربعة، وتيامن منهم ستة. فالذين تشاءموا: لخم وجذام وعاملة وغسان، والذين تيامنوا حمير والازد ومذحج وكنانة والأشعريون وأنمار الذين هم بجيلة و خثعم. وذلك على رواية من جعل أنمارا من سبأ، وجعلهم في كتابه "التنبيه والأشراف": حمير وكهلان وعمرو والأشعر وأنمار وعاملة ومر. وجاء في كتاب "شمس العلوم": "سئل النبي عن سبأ، فقال: رجل من العرب أولد عشرة: تيامن منهم ستة: حمير وسدان وكندة ومذحج والأشاعر وأنمار، وتشاءم منهم أربعة: جذام ولخم و عاملة لأزد".

(1/379)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما "الهمذاني"، فأولد لسبأ العرنجج، وهو حمير، وكهلان، وأضاف اليهما استنادا إلى رواية "ابن الكلبي": نصرا، وأفلح، وزيدان، وعبد الله، و نعمان، و المود، وهوذة أو أهود، ويشجب، ودرهما، وشداد، وربيعة. وأصاف إلى هؤلاء استنادا إلى رواية أخرى: أبا ملك عميكرب بن سبأ، وأهون ابن سبأ "الهون"، وجعلهم: حميرا، وكهلان، وبشرا، وريدان، وعبد الله، وأفلح، والنعمان، والمود ويشجب، ورهما، وشدادا، وربيعة، في مكان آخر.
و يذكر المسعودي أن حمير هو الذي تولى الملك بعد أبيه: وكان كما يقول: أول من وضع على رأسه تاج الذهب من ملوك اليمن، ولذلك عرف به "المتوج". وحكم خمسين سنة. وقد عرف حمير بر "العرنج" "العرنجج". وذكر "ابن الكلبي" أنه كان يلبس حللا حمرا، وصرح بعض أهل الأخبار أنه كان هناك ثلاثة رجال عرفوا ب "حمير"، هم: الأكبر والأصغر، والأدنى. فالأدنى هو حمير بن الغوث بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد بن سدد بن زرعة، وهو حمير الأصغر بن سبأ الأصغر بن كعب بن سهل بن زيد بن عمرو ابن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن حذار بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهيسع بن العرنجج، وهو حمير الأكبر ابن سبأ الأكبر بن يشجب.
وأولاد حمير هم: مالك، وعامر، وعمرو، وسعد، و وائلة في رواية. والهميسع بن حمير، ومالك بن حمير، ولهيعة بن حمير، ومرة بن حمير على رواية "ابي نصر" في قول "الهمداني"، والهميسع، ومالك، وزيد، وعريب، ووائل، و مشروح "مسروح"، ومعديكرب، وأوس، و مرة على رواية أخرى، وجعلهم بعض الرواة أكثر من ذلك عددا، وقد ورد في الجزء الأول من الإكليل "قال الهمداني: "وأما الجبال المقدسة عند أهل اليمن، فجبل حضور وصنين ورأس بيت فائش من رأس جبل تخلى ورأس هنوم ورأس تعكر ورأس صبر. وفي رؤوس هذه الجبال مساجد مباركة مأثورة".

(1/380)


--------------------------------------------------------------------------------

وأرى أن قداسة هذه الجبال وردت إليها من الأيام التي سبقت الإسلام، من ط أيام الوثنية أو أن المساجد التي أنشئت في رؤوسها، إنما أنشئت فوق معابد قديمة، لعبادة الأصنام، وذلك كما حدث في أماكن أخرى من جزيرة العرب حيث اكتسبت بعض، المعابد الوثنية القديمة قدسية خاصة. فلما جاء الإسلام، ألبست ثوبا إسلاميا، فبقيت حية، وتحولت بمرور الزمن إلى مزارات ومساجد تقام فيها الصلوات.
وقد اعتمد رواة خبر غزو "بختنصر" لأهل )حضور( على ما جاء عن "ابن الكلبي" و "ابن إسحاق ونفر آخر من عرفوا بروايتهم هذا النوع من الروايات التي تعرف من معين الإسرائيليات. وما بنا حاجة أبدا إلى البحث في أسماء رواته لمعرفة صلته بالتوراة. فالمسألة جد واضحة. خذ التوراة واقرأ ما جاء في أسفار )أرميا( ونبوءته،تجد القصة مكتوبة في السفر التاسع والأربعين: "عن قيدار وعن ممالك حاصور التي ضربها نبوخذ راصر ملك بابل. هكذا قال الرب: قوموا اصعدوا إلى قيدار، اخربوا بني المشرق. يأخذون خيامهم وغنمهم، ويأخذون لأنفسهم شققهم وكل آنيتهم وجمالهم، وينادون إليهم الخوف من كل جانب.
"اهربوا، انهزموا جدا، تعمقوا في السكن يا سكان حاصور،يقول الرب، لأن نبوخذ راصر ملك بابل قد أشار عليكم مشورة، وفكر عليكم فكرا. قوموا إلى أمة مطمئنة ساكنة آمنة. يقول الرب لا مصاريع ولا عوارض لها. تسكن وحدها وتكون جمالهم نهبا، وكثرة ماشيتهم غنيمة، وأدرى لكل ريح مقصوص الشعر مستديرا، وآتى بهلاكهم من كل جهاته يقول الرب. وتكون حاصور مسكن بنات آوى، إلى الأبد،لا يسكن هناك إنسان، ولا يتغرب فيها ابن آدم".عميكرب" في موضع "معديكرب" و "واسا" في موضع "أوس".

(1/381)


--------------------------------------------------------------------------------

وولد مالك بن حمير قضاعة بن مالك بن حمير، جد قبائل قضاعة في زعم من يجعل قائل قضاعة من اليمن. أما نسابو العدنانيين، فيدخلونها في عدنان، ولا يوافقون على إلحاق نسبها باليمن، ويرون إن ذلك وقع متأخرا لدوافع سياسية وعصبية. وجعل "الهمداني" لقضاعة أولادا هم: الحاف، والحاذي، ووديعة، وعبادة. أما صاحب "الاشتقاق"، فقد اكتفى بذكر ولدين هما: الحاف والحاذي، ثم قال: ومنهما تفرعت قضاعة.
وولد الحاف بن قضاعة على رأي "الهمداني" هم: عمران بن الحاف، وعمرو بن الحاف، وأسلم بن الحاف، وعر ايد بن الحاف، و زيد بن الحاف، ، و**** بن الحاف، وعشم بن الحاف، وسقام بن الحاف، وليلى بنت الحاف، وسلمان بن الحاف على ما ورد في سجل خولان.
فولد عمران بن الحاف، حلوان بن عمران بن الحاف، وتزيد بن عمران ابن الحاف، وسليح بن عمران بن الحاف 4. فولد حلوان بن عمران تغلب الغلباء، وربان وهو علاف. وقد عدهم "ابن حبيب" من "قبائل الحمسى من العرب". وقد جعل بعض النسابين "سليحا" ابنا لعمرو بن الحاف ابن قضاعة. وذكر بعضهم ان اسم سليح هو "عمرو". ونسبوا إلى حلوان أبناء آخرين، هم: مزاح، وعابد، وعائد، وتزيد. وقد دخل بعض هذه القبائل في قبائل أخرى، فدخلت "عابد" و "عائد" في غسان، ودخلت تزيد في تنوخ.
وولد تغلب وبرة، فولد وبرة كلبا والنمر والأسد والذئب والثعلب والفهد والضبع والدب والسيد والسرحان وال!رك وتغلب والخشند وعبسا وضنة. فولد الأسد بن وبرة تيم الله فهما وقهما في همدان، وهو تنوخ، وقد دخل في تنوخ المتتخين، و هم: جرم، و نهد ، و الأزد، و إياد، و شيع الله بن أسد. فأولد شيع الله جسرا، فولد الجسر القين بن جسر. وولد تلغب بن وبرة عامرا، وهو طابخة، وولد النمر بن وبرة التيم وخشينا وفتية بن النمر.

(1/382)

admin
12-25-2010, 10:21 PM
وولد "ربان" جرما، وعوفا، وأولد اسلم بن الحاف سودا وحوتكة أبي أسلم. فولد سود ليثا، فولد ليث زيدا، فولد زيد نهدا،وسعدا وجهينة. فولد سعد - ويعرف بسعد هذيم - عذرة والحارث وصعبا ومعاوية و وائلا بطون كلها. وولد عمرو بن الحاف بهراء وبليا وحيدان وخولان ولوذة. وخولان تقول: لوذ. فأولد لوذ "هوذة". وولد حيدان بن عمرو، مهرة، ومجيدا، وتزيد الذين تنسب إليهم "الثياب التزيدية".
وأولد مهرة بن حيدان: اضطمرى بن مهرة، فولد اضطمرى ثلاثة نفر: الآمري، ويقال آمري، ونادغم و الدين، فولد الآمري: القمر، والقرا،والمصلا، والمسكا. ومن قبائل القمر بنو ريام، وبلدهم قرية يقال لها رضاع على على ساحل بحر عمان. ولهم جبل حصين بناحية عمان يمتنعون فيه يعرف بحبل بني ريام، وبنو خنزريت، وبنو تبرح. ومن قبائل الديل حسريت، فأولد حسريت: الشوجم، ويخن، وأولد يخن: كرشان، والثعين، فمن الثعين بنو تبلة بن شاسة.
ويختلف ما في "سجل خولان وحمر بصعدة" عن نسب مهرة بعض الاختلاف في رواية "أبي راشد" المتقدمة التي ذكرها الهمداني. ففي السجل المذكور: أولد مهرة: الآمري، والدين، ونادغم وبيدع بطن. فولد الآمري: اظطمري ومهرى. فولد اضطمري: القمر، ويبرح. فولد يبرح: القرا، وبني رئام. وولد مهرى: المذاذ والمسكا، والمصلا. فولد المصلا، المزافر. وولد الدين: الوجد، والغيث، فمن الغيث: بنو باغت، وبنو داهر. وولد نادغم: العيد و حسريت، و العقار. فولد: الشوجم، و يحنن، فولد يخنن: الثعين، والثغراء، والكرشان. وقال بعض الحضارمة: من نادغم: بنو حديد، وبنو بخ.
وأولد مجيد بن عمرو بن حيدان بن عمرو و يحننا، وحيا، وحبيبا،وعندلا ووداعة، والأقارع.

(1/383)


--------------------------------------------------------------------------------

فأولد خولان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة سبعة نفر: حي بن خولان وهو الأكبر من ولده، وسعد بن خولان، وهو الذي ملك بصرواح، ورشوان ابن خولان، وهانىء بن خولان، ورازح بن خولان، والأزمع بن خولان، وصحار بن خولان. ويضيف بعض النساب إليهم أولادا آخرين، وجعلهم بعضهم ثلاثة عشر ابنا.
وأولد حي بن خولان:عدي بن حي، وزيد بن حي، وشعب بن حي، ومرثد بن حي، وغنم بن حي، والمقدام بن حي، ونوف بن حي. وتجد بعض الاختلاف في هذه الأسماء، بحسب اختلاف روابات النسابين.
ومن ولد حي بن خولان "جيهم"، وهو الذي قال فيه امرؤ القيس: فمن يأمن الأيام من بعد جيهم فعلن به كما فعلن بحزفرا
وقد زعم أهل الأخبار أن "جيهما" المايهور كان ملكا من ملوك حمير.
وأولد سعد بن خولان: ربيعة بن سعد، وسعد بن سعد، وعمرو بن سعد. فأولد ربيعة: حجر بن ربيعة، وسعد بن ربيعة، وكامل بن ربيعة، وفروذ ابن ربيعة، ويغنم بن ربيعة، ورشوان الأصغر بن ربيعة، وداهكة بن ربيعة في بعض الروايات.
و أولد سعد بن سعد بن خولان: الحارث بن سعد، و حرب بن سعد،و غلب بن سعد، و سهمك بن سعد، و قثم بن سعد. و أولد غالب بن سعد ابن سعد ين خولان: يعلى بن غالب، فأولد يعلى بن غالب: جبرا، و معيشا، و شلا، ثلاثة أبطن.
و ولد هانئ بن خولان: هلالا، و عليا فولد هلال شرحبيل و جابر، فولد شرحبيل هلالا، فولد هلال شرحبيل الأصغر ، و جابرا. و أولد شرحبيل الأصغر "جماعة"، و هي قبيلة عزيزة. و هم أهل بوصان من أرض خولان. و جعل بعض النسابين ولد هانئ خمسة نفر: هلالا، و يعلى، و عليا، و سعدا، و جامعا.
و أولد بن خولان مرتدا، و عويضا، و رئما، و يعلى، و يغنما، و بزيا، بطون كلها. و ذكر بعضهم قائمة تختلف عن هذه في أسماء هؤلاء الأولاد.
و أولد رشوان بن خولان: لآحقا، و مخلفا، و خليفة، و سعدا، و منبرا، و حربا، و خوليا. و هناك رواية أخرى تختلف عن هذه في ذكر الاسماء.

(1/384)


--------------------------------------------------------------------------------

و ولد الازمع بن خولان ثابتا، و الأجبول، و أخيل و مخيلا، و الأسووق، و الجعل، و مران. و جعل بعض الاخباريين عدة ة ولده عشرة، هم:مران، و الكرب، و الاسووق، و حفنى، و عبد الله، و يعلى، و ثابت، و عمرو، وعمير، و الناسك.
و أولد صحاربن خولان ستة نفر: عامرا، و بشرا، و طارقا، و علقمة، و شبلا، و حاذرا. و كل هذه بطون كبار.
هذا و إننا لنجد اختلافا بين النسابين في تثبيت هذه الانساب، مما يدل على إن أهل النسب مع دعواتهم بحفظ النسب و وجود مشجرات للأنساب عندهم، كانوا يختلفون فيما بينهم في النسب، حتى إننا نستطيع إن نقول إن سجل خولان وحمير الذي بصعدة، لم يكن يتفق مع الروايات الأخرى للواردة في النسب، ويتجلى ذلك في الروايات المتناقضة التي نراها في الإكليل وفي غيره من كتب الأنساب، ويظهر ان نسابي أهل اليمن،كانوا يعتمدون على علمائهم في النسب، وعلى ما كان مدونا عندهم منه، ولهذا تجدهم يختلفون في كثير من أنساب أهل اليمن عن النسابين الشماليين الساكنين في العراق أو في بلاد الشام.
وجعل "الهمداني" ولد "مالك "بن حمير" على هذا النحو: "زيد بن مالك"، و "زهران بن مالك"، وهم حي عظيم، ولهم كانت اليمامة، و "هوازن الأولى بن مالك" و "الغمور بن مالك" و "الأخطور بسن مالك"، وقيل "هزان الأولى بن مالك". وقد ولد زيد بن مالك "مرة بن زيد"، فولد مرة بن زيد عمرو بن مرة، فولد عمرو بن مرة مالك بن عمرو، فولد مالك بن عمرو قضاعة بن مالك بن عمرو بن مرة بن زيد بن مالك بن حمير.
وولد عامر بن حمير دهمان، وولد دهمان "يحصب" كلها، وولد سعد ابن حمير السلف وأسلم، وولد عمرو بن حمير الحارث، وولد "الحارث" "آل ذي رعين".

(1/385)


--------------------------------------------------------------------------------

ويذكر ابن "قتيبة" ان الذي حكم بعد "حمير" هو أخوه "كهلان"، وكان ملكه ثلاثمئة سنة، أي أنه أضعاف أضعاف مدة حكم أخيه حمير. و إذا كانت هذه هي مدة حكمه، فلا بد أن يكون عمره يوم مات أكثر من ذلك بالطبع. وقد ولد "كهلان" زيدا، وولد "زيد" مالكا، وأددا، فولد أدد طيئا وهو جلهمة، و "الأشعر" وهو "نبت"، و "مالكا"، وهو "مذجح"، و "مرة".
ومن طيء "بنوفطرة"، و "الغوث"، و"الحارث". ومن "فطرة": "سعد"، ومنهم: "الأسعد"، و "خارجة"، و "تيم الله". ومن "خارجة"، "جديلة"، ومن "جديلة": "بنو رومان"، و منهم "ذهل"، و "ثعلبة" ومن "ذهل": ثعلبة، "جدعاء"، ومن "جدعاء": ثعلبة، و من ثعلبة: تيم.
ومن الغوث بن طيء: عمرو، ومن عمرو: أشنع، وثعل، وبولان، و هنىء، و نبهان، و جرم. و من "ثعل": معاوية، وسلامان، و جرول. ومن معاوية: سنبس. ومن سلامان: بحتر ومعن. ومن جرول: ربيعة، ولوذان. ومن ربيعة: أخزم.
ومن ولد "مالك بن أدد" المعروف بمذحج: سعد العشرة، وعنس، وجلد، ومراد، وهو يحابر. ومن سعد العشيرة: جزء، وزيد الله، والحكم، و أوس الله، وصعب، وجعفى. ومن جزء: الحمد والعدل. ومن الحكم: جشم، وسلهم. ومن صعب: زبيد، وأود. ومن جعفى: مر ان وحريم.
ومن جلد: علة. ومن علة: حرب، وعمرو. ومن حرب: يزيد ابن حرب، ومنبه بن حرب، ومن منبه: رهاء، ومن يزيد المعروف بصداء: الحارث، والغلي، وسيحان، وشمران، وهفان، ومنبه، هؤلاء الستة يقال لهم: جنب.
ومن "عمرو بن علة": عامر، وصعب، والنخع، وهو جسر. ومن عامر: مسلية. ومن كعب: الحارث. ومن الحارث: معقل، والحماس، وعبد المدان. ومن المنخع: عوف: ومالك. ومن النخع: صلاءة، ورزام.
ومنهم الحماس، والحارث، وكعب، وهو الأرت.
ومن مراد وهو يحابر: زاهر، وناجية. ومن ناجية: غطيف، وقرن، وبنو ردمان. ومنهم من جعل قرنا ابنا لردمان. ومن زاهر: الربض، وبنو زوف، والصنابح.

(1/386)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن الأشعر: الجماهر،والأتغم، والأدغم، والأرغم، وجدة، وعبد شمس، وعبد الثريا.
ومن ولد "أدد": "مرة". وولد "مرة": "الحارث". وولد "الحارث": "عديا"، و "مالكا". وولد "عدي": "جذاما"، و اسمه عمرو، ومنهم بنو حرام، وبنو حشم، و "لخما"، وهو "لخم بن عدي". ومنهم: "بنو جزيلة"، و "بنو نمارة"، و "عفيرا". ومنهم "ثور ابن عفير بن عدي"، وهو "كندة". و "الحارث"، وهو "الحارث بن عدي". و هو "عاملة".
وقد هجا "الكميت" جذاما لأنها تحولت إلى اليمن، وهي معروفة بأنها من "بني أسد بن خزيمة". وهذا مما يدل على ان جذاما كانت قد اختلط نسبها بسبب اختلاطها بالقبائل المتجمعة،وان نسبها اختلط لذلك بالقحطانيين وبالعدنانيين.
ومن كندة: "بنو معاوية" و "أشرس". ومن "بني معاوية": "الحارث" ، و منهم "الرائش". ومن "أشرس": "السكون"، و "السكاسك" ، و بنو حجر"، و "بنو "الجون"، و "بنو الحارث" و أولاده، و قبائل أخرى.
ومن "بني حرإم": "غطفان"، و "أفصى". ومن "جزيلة": راشدة، وحدس، ومن نمارة: الدار، وبنو نصر.
أما "مالك بن الحارث بن مهر"ة بن أدد"، فولد: "عمرا"، و "يعفر".ومن "عمرو" خولان وهو فكل، ومن بعفر ولده: المعافر .
وولد "خيار بن مالك" ربيعة، وولد "ربيعة" أوسلة، وهو: همدان، وألهان. وولد همدان نوفا وخيران، فمنهم بنو حاشد وبنو بكيل. منهم تفرقت همدان، وعربب. ومن بطون همدان: السبيع، ووادعة ، وأما "خارجة" فمنهم جديلة، وهي من طيء . وأما عمرو بن سعد، فهو أبو خولان من عمرو . وولد "مراد بن مذجح": أنعم بن مراد، ويحابر، وكان لهم يغوث بجرش. وولد خالد بن مذجح:! علة بن خالد. فولد علة عمرا. فولد عمرو: جسرا وكعبا. ومن كعب "بنو النار"، و "بنو الحماص"، و "بنو قنان".

(1/387)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما "سيدعان"، فمنهم سلامان. واما "زهران"، فمنهم "دوس ابن عدنان" ، ومنهم جذيمة بن مالك بن فهم بن غنم بن دوس، وجهضم ابن مالك رهط الجهاضم، وسليمة بن ماللك، وبنو هناءة، ومعن بن مالك.
ومنهم بطن يقال له يحمد، والفراهيد. ومن زهران بنو يشكر والجدرة.
وأما نبت بن مالك بن زيد بن كهلان، فقد أولد "الغوث". ومن "الغوث" عمرو والأزد. ومن "عمرو": أراش، ومن أراش: أيمار، ومن أنمار: خثعم، وبجيلة، وعبقر . ومن بجيلة: بنو قسر. ومن بطونهم: بنو نذير، وبنو أفرك، وعرينة . ومن "خثعم": شهران ناهس، وشهران، ويقال لهما بنو عفرس .
وأما الأزد، فمن ولد: مازن، وعمرو، ودوس، ونصر، ومالك، و قدار، و الهنو، وميدعان، وزهران، و عامر، وعبد الله، وغيرهم. وأما مازن فمنهم: ثعلبة، ومنهم عامر، وامرؤ القيس، و كرز. ومن امرىء القيس: حارثة الغطريف. ومنهم عدي، وعامر ماء السماء، والتوأم، ومن عامر ماء السماء ثعلبة العنقاء، ومالك، والحارث، وجفنة، وكعب، وهم غسان. نزلوا على ماء يسمى غسان فنسبوا إليه. ومن ثعلبة العنقاء حارثة، ومنهم الأوس و الخزرج.
وقد عرف "الأوس" و "الخزرج" بابني قيلة، وذكر أنهم لم يؤدوا إتاوة قط في الجاهلية إلى أحد من الملوك، وكتب إليهم تبع يدعوهم إلى طاعته.
فغزاهم، "تبع أبو كرب" ? فكانوا يقاتلونه نهارا، ويخرجون إليه العشاء ليلا، فلما طال مكوثه، ورأى كرمهم، رحل عنهم .
ومن "نصر بن الأزد": "حمار بن نصر بن الأزد". قالوا: وكان له بنون فماتوا، فحلف لأميتن من أحيا من أهل الجوف، فقتل ثمود، فقيل: أخلى من جوف حمار.
العرب المستعربة

(1/388)


--------------------------------------------------------------------------------

والطبقة الثالثة من طبقات العرب - على رأي أهل الأخبار - هم "العرب المستعربة" "المتعربة"، ويقال لهم العدنانيون أو النزاريون أو المعديون. وهم من صلب "إسماعيل بن إبراهيم وامرأته "رعلة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي" . قيل لهم "العرب المستعربة"، لأنهم انضموا إلى العرب العاربة، وأخذوا العربية منهم. و منهم تعلم "إسماعيل" الجد الأكبر للعرب المستعربة العربية، فصار نسلهم من ثم من العرب واندمجوا فيهم. وموطنهم الأول مكة على ما يستنبط من كلام الأخباريين، فيها تعلم "إسماعيل" العربية، وفيها ولد أولاده، فهي إذن المهد الأول للإسماعيليين.
ويذكر أهل الأخبار أن "إسماعيل" ولد من زوجه "رعلة"، اثني عشر رجلا هم: "نابت" وكان أكبرهم، و "قيذر" و "أذبل"، وميشا، و مسمعا، وماشى، ودما، وأذر، وطيما، ويطور، و نبش، وقيذما. وأكثر هذه الأسماء ورودا في الكتب العربية، نابت، وقيذر. وقد أخذ النسابون هذه الأسماء من التوراة، فقد جاء فيها: "هذه أسماء بني إسماعيل بأسمائهم، على حسب مواليدهم: نبايوت بكر إسماعيل، وقيدار، وأدبئيل، ومبسام، و مشماع، و دومة، ومسا، وحدار، وتيما، و يطور، و نافيش، وقدمة".
ولم تذكر التوراة اسم المرأة التي تزوجها إسماعيل، فأولدها هؤلاء الأولاد الذين انتشروا، فسكنوا في منطقة تمتد من "حويلة" إلى "شور".
وعدنان في نظر العدنانيين هو جدهم الأعلى، كما أن قحطان هو الجد الأعلى للقحطانيين. ولما كانت الطبقة الأولى من العرب قد بادت وذهبت، تكون العرب الباقية و كلها من ولد قحطان و عدنان، استوعبت شعوب العرب كلها.
وقد رأينا أن "قحطان" هو "يقطن" أو "يقطان" في التوراة. أما "عدنان"، فلا نجد له اسما فيها، وقد رأينا أن بين "يقطان و"سام" ثلاثة آباء أو أربعة. أما بين عدنان وسام، فعدد كبير من الأباء.

(1/389)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد اختلف النسابون في عدد من كان بين إسماعيل وعدنان من الآباء، فرأى بعضهم أنهم أربعون، وروى غيرهم انهم عشرون، وقال آخرون انهم خمسة عشر شخصا، وقالت جماعة إن المدة طويلة بين عدنان وإسماعيل بحيث يستحيل في العادة أن يكون بينها هذا العدد من الآباء.
وقد اختلف الأخباريون وأصحاب الأنساب في نسب عدنان اختلافا كبيرا، واختلفوا بينهم حتى في كيفية النطق بتلك الأسماء، على حين إننا لا نرى اختلافا بينم في نسب قحطان، ولا في كيفية النطق بتلك الأسماء . وقد علل محمد أبن سعد الواقدي ذلك بقوله: "وكان رجل من أهل تدمر يكنى أبا يعقوب من مسلمة بني إسرائيل قد قرأ من كتبهم، وعلم علمهم، فذكر ان بورخ أبن ناريا، كاتب أرميا أثبت نسب معد بن عدنان عنده، ووضعه في كتبه، وأنه معروف عند أحبار أهل الكتاب وعلمائهم، مثبت في أسفارهم، وهو مقارب لهذه الأسماء. ولعل خلاف ما بين هم من قبل اللغة، لأن هذه الأسماء ترجمت من العبرانية" .
ويقول الواقدي في موضع آخر: "وهذا الاختلاف في نسبته يدل على انه لم يحفظ، و إنما اخذ من أهل الكتاب، وترجموه لهم، فاختلفوا فيه. ولو صح ذلك، لكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، اعلم الناس به. فالأمر عندنا على الانتهاء إلى معد بن عدنان، ثم الإمساك عما وراء ذلك إلى إسماعيل ابن إبراهيم، وقال أيضا: "ما وجدنا في علم عالم ولا شعر شاعر أحدا يعرف ما وراء معد بن عدنان بثبت".
ونقل ابن خلدون رأي من تقدمه في هذا الاختلاف، فقال: " ونقل القرطبي عن هشام بن محمد فما بين عدنان وقيدار نحوا من أربعين أبا، وقال: "سمعت رجلا" من أهل تدمر من مسلمة يهود وممن قرأ كتبهم يذكر نسب معد ابن عدنان إلى إسماعيل من كتاب أرمياء النبي، عليه السلام، وهو يقرب من هذا النسب في العدد والأسماء إلا قليلا، ولعل الخلاف إنما جاء من قبل اللغة، لأن الأسماء ترجمت من العبرانية".

(1/390)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرجع بعض أهل الأخبار اختلاف الناس في عدد الآباء والأجداد فيما بين عدنان وإسماعيل إلى أيام النبي، فهم يذكرون إن الناس كانوا في خلاف فيما بينهم في عددهم، وان الرسول لما رأى خلافهم هذا، نهاهم عن تجاوز نسب "معد بن عدنان"، وأمرهم بالتوقف عنده. وانتسب النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى عدنان، وقال: "كذب النسابون، فما بعد عدنان، فهي أسماء سريانية لا يوضحها الاشتقاق" .
وقد جعل بعض الأخباريين اسم والد "عدنان" "أددا"، وساقوا نسبه على هذا الشكل: "عدنان بن أدد بن يرى بن أعراق الثرى"، وساقه آخرون على هذا الوجه: "عدنان بن أدد بن الهميسع بن سلامان بن عوص ابن يوز بن قموال بن أبي بن العوام بن ناشد بن بلداس بن تدلاف بن طايخ ابن جاحم بن ناحس بن ماخي ين عيقي بن **** بن الدعا 000" إلى آخر ذلك من سلسلة مفتعلة ولا شك، رواها "ابن الكلبي". وقد سبق النسب على هذه الصورة أيضا: "عدنان بن أدد بن الهميسع". وروي بصور أخرى في كتاب نسب قريش "للزبيري".
ولم يذكر أهل الأخبار شيئا عن "أد" أو "أدد"، ولا عن كيفية توصلهم إلى أحدهما، أو كليهما. وقد زعم بعض علماء اللغة إن "أد" من "أد"، والكلمة فعل من المودة، "قليت الواو ألفا لانضمامهما".
وذكر الأخباريون أن "ودا"، وهو الصنم الشهير الذي تغلب على دومة الجندل وتعبدت له "كلب" و "قريش" و قبائل أخرى عديدة، كان يهمز أيضا، فيقال "أد"، وبه سمي "عبد ود"، كما سمي "اد بن طابخة"، و "أدد جد معد بن عدنان".
ونجد بين آلهة الشعوب السامية اسم صنم يقال له: "أدد" "Adad" و "أدو" "Addu"، أرى أن لاسم هذا الصنم علاقة باسم "أدد".
وقد ساق "محمد بن إسحاق" نسب عدنان على هذه الصورة أيضا: "عدنان ابن مقوم بن ناحور بن تيرح بن يعرب بن يشجب بن نابت بن إسماعيل"، فجمع بين نسب "عدنان" ونسب "يعرب"، ورجعهما كما ترى إلى "إسماعيل"، وساقه في مكان آخر بصورة أخرى.

(1/391)


--------------------------------------------------------------------------------

والغريب أن الرواة الذين رووا هذه الأنساب وشجرات النسب التي يتصل سند روايتها بهم، كابن الكلبي ومحمد بن إسحاق وأمثالهما، هم أنفسهم يروون هذا النسب بأشكال مختلفة ومتضاربة، وطالما حرفوا الأسماء العبرانية، ورووها بصور متعددة، وقد يحشون بينها أسماء عربية. وقد روى رواياتهم هذه أناس متعددون، ولكنهم متفقون على أنهم سمعوها منهم، أو نقلوها من مؤلفاتهم، كما يتبين ذلك من السند. ولما كان أكر هذه الأسماء الواردة في عمود نسب "عدنان" محرفة، وكانت غير موجودة في التوراة، وإنما هي أسماء عبرانية ممسوخة احيانا، فإن هذا يدل على أن الرواة اليهود الذين كانوا يتحدثون بمثل هذه الأمور إلى ابن الكلبي ومحمد بن إسحاق وغيرهما ممن مال إلى الأخذ منهم، كانوا إما جهلة بما يتحدثون به، وإما كذابين أو ممن كانوا يحاولون التقرب إلى المسلمين بهذه التلفيقات لمآرب خاصة، أو ادعاء للعلم. غير أننا لا نستطيع أن نبرئ هؤلاء للرواة أنفسهم من وصمة الجهل أو الكذب، ولا سيما ابن الكلبي الذي تفرد برواية معظم هذه الأخبار. الجائز أنه كان يلجا إلى أهل الكتاب ليأخذ منهم ما عندهم، ومن الجائز انه كان يضيف اليها، أو يخترع من عنده، ليتحدث به إلى الناس. وإلا فان من الصعب صدور هذا الخلط من رجل ثقة يعي ما يقول.
وقد استغل نفر من أهل الكتاب مثل اليهودي التدمري المذكور، الذي أسلم كما يقول الرواة،هذا الجشع الذي ظهر بين أهل الأخيار في البحث عن الأنساب القديمة، أنساب أجداد العرب القدامى، فصنعوا ما صنعوا من أسماء عليها مسحة توازنية، قدموها إليهم على أنها مذكورة في التوراة. وقد أخذها الرواة على عادتهم من غير بحث ولا مراجعة للتوراة. وما الذي يدفعهم إلى البحث والمراجعة، فإن كل ما يطمعون به ويريدونه هو الحصول على مادة يظهرون بها على أقرانهم من أهل الرواية والأخبار.

(1/392)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم يرد اسم "عدنان" في النصوص الجاهلية، ولا في المؤلفات "الكلاسيكية". أما في الشعر الجاهلي، فقد ورد في شعر ينسب إلى "لبيد"، وفي شعر آخر ينسب إلى "عباس بن مرداس". "ولم يجاوز أبناء نزار في أنسابها وأشعارها عدنان. اقتصروا على معد، ولم يذكر عدنان جاهلي قط غير لبيد.. وقد يروى لعباس بن مرداس بيت في عدنان". وهذا بدل على أن "عدنان" لم يكن جدا كبيرا في الجاهلية، كما صوره أهل الأخبار و الأنساب، فلو كان جدا كبيرا، لوجب عقلا تردد اسمه وورود شيء عنه. والغريب إننا نجد اسم "معد" مذكورا عند "بروكوبيوس" وفي القديم من الشعر الجاهلي، مع أنه ابن "عدنان".
وقد وردت في الكتابات النبطية والثمودية أسماء قريبة من اسم "عدنان"، مثل "عبد عدنون" و "عدنون". أما الكتابات الجاهلية التي عثر عليها في اليمن، فلم "يرد فيها هذا الاسم، أو اسم آخر قريب منه.
لقد كان من السهل علينا الوقوف على المنبع الذي أمد أهل الأخبار بأصل كلمة "قسطان". أما بالنسبة إلى "عدنان"، فإن من العسير علينا أن نتحدث عن المنبع الذي أمد أهل الأخبار باسمه. فليس في التوراة اسم يشابهه بين أسماء أبناء اسماعيل، أو غير أبناء إسماعيل، وليس فيها اسم. ملك عربي أو سيد قبيلة عربية اسمه لا يشابه اسم "عدنان". ثم إننا لا ندري كيف عثر عليه أهل الأخبار، وكيف صيروه على الوزن الذي صيغ به اسم "قحطان": هل ابتدعوه ابتداعا، أو أخذوه من أفواه أناس أدركوا الجاهلية وكانوا قد وقفوا على اسمه بين أهل مكة أو بين القبائل التي تنسب إلى اسماعيل? و هل كان اسم قبيلة أو اسم حلف من الأحلاف، ثم صير اسم رجل فيما بعد. هذه أسئلة يجب أن نعترف بأن من غير الممكن الإجابة عنها في الزمن الحاضر، لعدم وجود مادة لدينا تساعدنا في استنباط أجوبة منها، لذلك نترك أمرها إلى المستقبل، فلعل الأيام المقبلة تأتي بمادة جديدة، تزح النقاب عن هذا الجهل المطبق باسم عدنان، وبفكرة عدنان.

(1/393)

admin
12-26-2010, 11:28 AM
ويظهر من روايات أهل الأخبار إن "تهامة" هي موطن العدنانيين، ومكة من تهامة. ولكن أحوالا قاهرة أحاطت بالقبائل العدنانية فاضطرتها إلى التفرق والهجرة. وكانت "قضاعة" أول من تشتت وتفرق بسبب قتال وقع بينها وبين نزار. ثم أعقب هجرة قضاعة هجرات أخرى من العدنانيين، فانتشروا في مناطق واسعة من جزيرة العرب حتى وصلوا إلى العراق والشام. واختلطوا بالقبائل الأخرى، وتفرقوا، في كل مكان.
ويظهر من تلك الروايات أيضا، أن القبائل العدنانية، كانت قبائل متشاحنة يحارب بعضها بعضا، دفعها إلى تشاحنها هذا طبيعة البداوة وفقر البادية،و التقاتل عاى الكلأ والماء، حتى ضرب بها المثل في التفرق والتشتت.
ونجد اسم "نزار" على انه اسم قبيلة مذكورا في نص "امرئ القيس" مع أنه ابن "معد"، أي حفيد عدنان، ولا نجد اسم جده في هذا النص. وهذا مما قد يبعث الظن في نفوسنا أن فكرة "عدنان" لم تظهر إلا في الجاهلية القريبة من الإسلام وفي الإسلام.
وأولد الأخباريون عدنان عددا من الأولاد، أشهرهم وأعرفهم في نظرهم: معد، وعك. وقد زعم الأخباريون أن معدا عاش في أيام "بختنصر"، وأن معدا خلص إلى "حران" حينما هاجم ملك بابل، أهل "حضورا" في اليمن. أما "عدنان" والده، فلقى "بختنصر" فيمن اجتمع أليه من "حضورا" وغيرهم في "ذات عرق"، فهزمهم "بختنصر" " ومات "عدنان" في أيامه. فلما هلك "بختنصر" خرج "معد" من "حران" إلى مكة، فوجد أخوته وعمومته قد لحقوا بطوائف اليمن، وتزوجوا فيهم، فرجع بهم إلى بلادهم.
ورجع "الزبيدي" أيام "معد" إلى أيام "موسى" إذ قال: " وكان معد بن عدنان في زمن سيدنا موسى عليه السلام، كما يعرفه من مارس علم، التواريخ والأنساب".

(1/394)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد جعل بعض أهل الأخبار أم معد بنتا من بنات يشجب، قالوا إن اسمها "تيمة" وإنها "تيمة بنت يشجب بن يعرب بن قحطان". فربطوا بذلك نسب معد بنسب قحطان من جهة الأم. بلى ذهب هؤلاء إلى بعد من ذلك بأن جعلوا أم "عدنان"، بنتا من بنات "يعرب"، وقد قالوا لها "بلهاء". فصار "يعرب بن قحطان" بهذا الزواج، خالا لعدنان ولذريته العدنانيين.
وجعلها بعض آخر من جديس أو من طسم، وقالوا إن اسمها "مهدد بنت اللهم". يقال "اللهم بن جلحب بن جديس"، وقيل ابن طسم، وقيل ابن الطوسم، ومن ولد يقشان بن إبراهيم.
ومن بقية ولد عدنان على رأي أهل الأخبار: عدن بن عدنان، وزعم أنه صاحب عدن، وأبين بن عدنان، وهو صاحب "أبين" على بعض الآراء، وأد بن عدنان، وقد درج، والضحاك، والعي، وام جميعهم أم معد على بعض الروايات .
ونجد لمعد ذكرا في الشعر الجاهلي، فقد ورد في شعر "امرئ القيس"، وفي شعر "النابغة الذبياني"، وفي شعر "زهر بن أبي سلمى"، وفي شعر "قيس بن الخطيم"، وفي شعر "بشر بن أبي خازم الأسدي"، و في شعر "عمرو بن كلثوم التغلبي"، و في شعر " عبد المسيح بن عمرو الغساني"، وفي شعر "سلامة بن جندال السعدي"، و في شعر ينسب إلى الحاجب بن زرارة". يقولون انه قاله يرد فيه على، "الحارث"، وفي شعر ينسب إلى الشاعر "ابن دارة"، زعموا أنه قاله في مدح "حاتم الطائي"، وفي شعر ينسب إلى"زهير بن جناب الكلبي"، وغيرهم، كما ورد اسم معد في شعر المخضرمين.

(1/395)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد استعملت في كلمة "الحي المعدي" في شعر ل "حاجب بن زراة"، كما ورد "حي في معد"، مما ينبئ إن معدا كانت مؤلفة من احياء، لا من حي واحد، و جاء في شعر عمرو بن كلثوم: " و قد علم القبائل من معد"، و يدل ذلك على إن معدا كانت مؤلفة من قبائل، و انها لم تكن قبيلة واحدة. و نلاحظ إن شعراء الجاهلية القدامى كانوا يستعملون: "قد علمت معد". و يقول علماء اللغة: إن معدا "غلب عليه التذكير، وهو مما لا يقال فيه من بني فلان. وما كان على هذه الصورة، فالتذكير فيه أغلب. و قد يكون اسما للقبيلة". و يستنتج من هذا إن معدا لم تكن في الأصل اسم علم لرجل تنتمي إليه قبيلة معينة، و انما كانت كلمة عامة تشتمل قبائل تشترك في طراز الحياة و إن كانت تعتقد انها ترتبط بعضها ببعض برباط النسب.
و قد استعمل حسان بن ثابت كلمة "معد" في مقابل "الأنصار"، و ذكر أن الأنصار "لها في كل يوم من معد قتال أو سباب أو هجاء"، وأن الأنصار نصروا رسول الله على رغم أنف معد، و أورد اسم معد في أحد الابيات مع قحطان، كما قال عن "بني أسد" إنها "تذبذب في معد"، فأستعمل كلمة معد في شعره للدلالة على خصوم الانصار، كما استعملها في مقابل قبائل معينة. و خصوم الأنصار هم قريش و المهاجرون. و لما كان الشاعر يعد نفسه من اليمن، و أهل مدينته من أصل يماني، فإن من الجائز أن نقول إنه عبر عن فكرة معد و قحطان في هذا الزمان و عن رأي أهل مدينته خاصة في النسب عند ظهور الإسلام.

(1/396)


--------------------------------------------------------------------------------

و بينما يصرف حسان بن ثابت كل فنه إلى هجاء خصوم الأنصار، أي أهل مكة و الدفاع عن أهل يثرب، و الفتحار بقومه على قوم معد و نزار، نرى انه لا يسمي من يهجوهم عدنانيين، و لم يستعمل في شعره الواصل الينا المطبوع اسم عدنان، فلم أغفل حسان اسم عدنان? أليس عدنان والد معد? ألم يكن من الأجدر به ذكر عدنان و تقديمه على معد? ألم يقسم علماء النسب العرب إلى أصلين: أصل قحطاني وأصل عدناني? ألسنا نجد في كتب الأنساب والتأريخ اسم عدنان مقسما على معد، وان قبائل معد تعد نفسها عدنانية، كما أن قبائل قحطان تعد نفسها قحطانية? لا يعقل بالطبع أن يكون حسان قد ترك عدنان والعدنانية ولجأ إلى استعمال "معد" لو لم تكن لفظة "معد" أشهر وأعرف وأكثر استعمالا في أيامة من عدنان. وهذا هو ما نلاحظه أيضا في سائر الآثار التي تعود إلى الجاهلية وصدر الإسلام.
ويلاحظ إن حظ مصطلح "عدنان" و "عدنانية" و "قبائل عدنانية" قد برز في الإسلام بروزا لا نلحظه في الجاهلية بل حتى في الجاهلية الملاصقة للإسلام ولهذا غلب على مصطلح "معد" و "معدية" و "قبائل معدية"، فصار "عدنان" في مقابل "قحطان" ومن هنا صار العرب قحطانيين أو عدنانين، واختفت بالتدريج المصطلحات الانتسابية الأخرى التي شاعت في الجاهلية أو في صدر الإسلام.

(1/397)


--------------------------------------------------------------------------------

ويستنتج من أقوال علماء اللغة أن لفظة "معد" تعني الشظف في العيش، والغلظ في المعاش والتقشف، وأنها تعني حياة بدوية شاقة بعيدة عن كل وسائل الحضر وترف أهل المدر، وهذا بالنظر لأهل المدن وأهل المدر نوع من الخشونة لا يحمد الإنسان عليه. وقد وصفت ملابسهم بالخشونة كذلك فميزت عن غيرها، جاء "عليكم باللبسة المعدية" أي خشونة اللباس، وروي: "اخشوشنوا وتمعددوا". وبهذا المعنى ورد: "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه". فالظاهر إن كلمة معد كانت تعتي ما تعنيه "اريبي" "عريبي" عند الآشوريين، أي البدو والأعراب. غير إنها خصصت بعد ذلك بقبائل خاصة هي القبائل التي نسبت نفسها إلى عدنان وإسماعيل، وأكثرها من مكة وحولها، ثم تغلبت عليها "العدنانية" في العصر الأموي فما بعده.
والمثل: "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه"، من الأمثال المشهورة المعروفة حتى الان. و يرتفع أهل الأخبار بزمنه إلى أيام الجاهلية، و يقولون إن النعمان بن المنذر تمثل به يوما. ولفظة "معيدي"، تصغير "معدي"، ويراد بها رجل من معد. وفي إطلاق هذا المثل بهذا المعنى دلالة على المعاني المتقدمة. وفي رواية أن قائل هذا المثل هو "المنذر بن ماء السماء". وقد استخف النابغة الذبياني بمعد أيضا إذ قال: ضلت حلومهم عنهم وغرهم سن المعيدي في رعي وتغريب
ولا أستبعد أن يكون بين لفظة "معيدي" و "معدان" التي تطلق في العراق اليوم على للغلاظ السود من بعض الأعراب، وبين "معد" صلة، فقد كانت مواطن "معد" في العراق أيضا، والصفات المذكورة تنطبق على المعدان كذلك.
وقد اتهمت "معد" بالمكر والحيلة والكيد، فورد في الأخبار "وان هذه المعدية لا تخلو من مكر وحيلة"،وورد "كنت أخبرك إن معدا لا ينام كيدها ومكرها"، وورد "إن عدي بن زيد فيه مكر وخديعة، والمعدي لا يصلح إلا هكذا" مطا يدل على أن ملوك الحيرة كانوا لا يأمنون من القبائل المعدية ولا يعتمدون عليها، ولذلك كانوا يحذرونها.

(1/398)


--------------------------------------------------------------------------------

كما اتهم ولد نزار بالحيل، قال "المسعودي": "ورأيت بلاد مأرب من أرض اليمن أناسا من عقيل محالفة لمذحج، لا فرق بين هم وبين أحلافهم، لاستقامة كلمتهم، فيهم حيل كثيرة ومنعة، وليس في اليمن كلها أحيل من نزار بن معد غير هذا الفخذ من عقيل، إلا ما ذكر من ولد أنمار بن نزار ابن معد، ودخولهم في اليمن حسب ما ورد به الخبر".
وورد في كتاب "تأريخ الحروب" ل "بروكوبيوس Procopius" المتوفى سنة "565م"، أي في زمن لا يبعد كثيرا عن ميلاد الرسول، ذكر قبيلة من قبائل "السركيوني"Sarakenoi سماها "Maddeni" "Maddenoi" ، وقال إنها كانت خاضعة لحكم Homeritae وان "يوسطنيانوس" "جستنيانس" "527 - 565م"، قيصر الروم، أرسل رسولا إلى ملك ال Homertae لينضم إلى الروم ويوافق على تعيين شيخ اسمه "Casius" "Kaisus" على Maddeni، وتأليف جيش مشترك من "هوميريته" و "مديني" "معديني" لمهاجمة الفرس وشن الغارات على حدودهم. وقد نصب ملكا على "مديني"، ورجع الرسول ليخبر القيصر، غير أن المللكيين لم يغزوا أرض الفرس.
وقصد "بروكوبيوس" ب "مديني" Maddeni "معدا" و ب "هوميريته" Homeritae "حميرا"، وعنى بذلك اليمن. وكانت معد خاضعة يومئذ لحمير، وكان هذا الزمن زمن استيلاء الحبشة على اليمن. و Caisua الذي نصب ملكا على "معد" هو "قيس"، وكان صاحب كفايات، شجاعا محاربا، وكان قد قتل أحد أقرباء ملك Homeritae، وكان هذا الملك هو Esimiphaeus أي "السميذع أشوع"، الذي نصبه النجاشي نائبا عنه على اليمن، فتلقب بلقب "ملك". والظاهر أن وساطة القيصر لدى "السميذع" إنما كانت لإصلاح ذات البين، ولتسوية ذلك الحادث. وقد تم على ما يظهر ونجحت الوساطة، وتلقب "قيس" وهو رئيس "معد" يلقب ملك. ولا أستبعد أن يكون "قيس" هذا أحد رؤساء القيسيين.

(1/399)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذكر "بروكوبيوس" أن معدا هم جماعة من "السركينوى"، أي جماعة من القبائل التي عرفت عند اليونان باسم "السرسين" أيضا، كما ذكرت ذلك في السابق. وهذا يعني أن معدا لم تكن في أيام ذلك المؤرخ الذي لم يبعد عهده عن الإسلام كثيرا، على النحو الذي يصوره الأخباريون. وكل ما في الأمر إنها قبيلة أو مجموعة قبائل تسمى ب "معد"، وأنها كلها أو قبيلة منها كانت خاضعة لحمير، أي للسلطة الحاكمة على اليمن يومئذ، وهي الحبشة، ثم استقلت عنها.أما بقية معد، فلم يتحدث المؤرخ عنهم، لذلك لا ندري أكان "معد" "بروكوبيوس" هم جماعة أو جماعة منها.و إذا كان الشعر المنسوب إلى "أبن بقيلة"، و هو من نقباء الحيرة و ساداتها صحيحا: تكون كلمة "معد" معروفة في ذلك العهد، على نهو يفهم منه إنها كانت تعني قبائل عديدة أعرابية تنضوي كلها تحت هذه التسمية. فقد جاء في شعره ألم وتوجع لما حل بأهل الحيرة بعد الفتح، فقد رأى سواما تروح بالخورنق والسدير بعد ما كانا مكانين مختارين للمنذرين، وبعد فرسان النعمان، يرى الناس قلوصا بين "مرة والحفير"، وصاروا بعد هلاك "أبي قبيس" كجرب المعز في اليوم المطر، وقد تقاسمتهم القبائل من معد، علانية كأيسار الجزور، بعد أن كانوا أناسا لا يرام لهم حريم، وصاروا كضرة الضرع الفخور، يؤدون الخراج بعد خراج كسرى، وخراج من قريظة والنضير، ثم خلص إلى نتيجة يخلص إليها من ييأس ويقنع، فقال: كذاك الدهر دولته سجال فيوم من مساءة أو سرور

(1/400)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذكر "الطبري" إن خالدا لما أمره "أبو بكر" بفتح العراق، وقصد الأبلة، حشر ثمانية آلاف من ربيعة ومضر إلى ألفين كانا معه، وربما قصد "ابن بقيلة" من "معد" هذه القبائل التي انضافت إلى خالد. ولكن القبائل التي انضافت إلى خالد في العراق أو التي حاربته هي من مضر وربيعة في الغالب، وبين سكان الحيرة قوم يرجعون أنسابهم إلى تميم وإلى قبائل معدية، فكيف يتألف "ابن بقيلة" من إدبار الدنيا ومن إعراضها عنه وعن أمثاله حتى صاروا في حكم "معد"، وقد اقتسمتهم قبائل معد. فالظاهر إنه كان يتأفف لأن الأمر أدبر منه ومن سادة أهل الحيرة والقرى، وهم حضر مستقرون، لهم نعيم وملك وقصور وبيوت وعيش رغيد. ولكن الدنيا أدبرت عنهم، وسلمت الأمر إلى قبائل من معد، وهم أعراب، وصار أمرهم إليهم، فتأفف من ذلك الزمان.
وقد عرف "حذيفة بن بدر" سيد غظفان ب "رب معد"، وكان من أشرف بيوتات هذه القبيلة، التي كانت محالفة ل"أسد". وقد عرفتا ب "الحليفتين" مما يدل على انهما كانتا متحالفتين. ويدل هذا النعت الذي نعت به "حذيفة"، وهو "رب معد"، على إن معدا كانت قبائل، وكل منها تنتسب إليها، وأنها لم تكن قبيلة معينة، أي إنها كانت قبائل ترى نفسها إنها من نسب واحد، وان قبيلة واحدة منها إذا برزت وظهرت جاز لها أن تمثل قبائل معد، وأن ينعت رئيسها نفسه ببعض النعوت التي تدل على ترأسه لها، ومنها "رب معد".

(1/401)


--------------------------------------------------------------------------------

فيتبين من كل ما تقدم إن "معدا" كلمة أريد بها أعراب كانوا يتنقلون في البوادي، يهاجمون الحضر والأرياف بصورة خاصة، لأنها كانت أسهل صيد للأعراب بسبب بعد أهلها عن سيطرة الحكومة المركزية، وعدم وجود قوات دفاعية رادعة لتدافع عنهم. وكانوا يباغتون الناس ويفاجئونهم، وكانت حياتهم حياة قاسية صعبة. ولم يكونوا قبيلة واحدة، ولكن قبائل عديدة، تتشابه في المعيشة، وتشترك في فقرها وفي تعيشها على الغزو والتنقل، وقد كانت تقيم في البوادي وعلى أطراف الحضارة، كانت مواطنها بادية الشام ونجد والحجاز والعربية الشرقية. ثم صارت اللفظة علما لرجل صير جدا للقبائل التي عاشت هذه المعيشة، وعرفت بهذه التسمية على الطريقة المعروفة عند العرب وعند غيرهم من الساميين من تحويل أسماء الأماكن أو الأصنام أو المحالفات إلى أسماء أجداد وآباء.
وقد كانت "تهامة" موطن أبناء معد على حسب رأي أهل الأخبار. سكنت قضاعة من ساحل البحر حيث أنشأت "جدة" فيما بعد إلى حيز الحرم، وسكن أبناء جنادة بن معد منطقة الغمر: غمر ذي كندة، وكانت كندة قد أقامت بها أيضا فعرفت بها. وسكن أبناء قنص بن معد وسنام بن معد، وبقية ولد معد أرض مكة، حيث أقاموا مع بقايا جرهم. ظلوا على ذلك متساندين متآلفين تضمهم المجامع، وتجمعهم المواسم، حتى وقع الشر بين هم، فتفرقوا وتخاذلوا وقاتل بعضهم بعض، يقتل العزيز منهم الذليل.
عك
وقبائل عك ، هي القسم الآخر الشهر من أقسام قبائل عدنان، وتقع أرضها في نجوب أرض معد، شقيق عك. وقد زعم أهل الأخبار أن "بختنصر" لما هاجم "حضورا" انطلق "عك" إلى أرض اليمن، فاستقر بها، فاختلط من ثم نسب عك باليمانيين. وقد سكن العكيون تهامة اليمن إلى جدة. ومن معاني لفظة "عك" في اللغة الحر الشديد.

(1/402)


--------------------------------------------------------------------------------

و قد تصور جماعة من النسابين وجود صلة بين "عك" و "الأزد". والظاهر أن ذلك إنما وقع لهم من اختلاط منازل القبيلتين. وزعم بعض الأخباريين أن نسب عك كان في اليمن في الأصل، ثم انتقل إلى معد، بعد قتال وقع بين عك وغسان في تهامة، تغلبت فيه غسان على عك، فأجلتها عن أوطانها، فمن ثم انتفت عك من اليمن، وانتسبت في معد.
وقد سيق نسب "عك" على هذه الصورة: "عك بن الديث بن عدنان" في يعض الروايات، وسيق على صور أخرى مثل: "عك بن عدنان بن عبد الله" من بطون الأزد.
وهناك بيت شعر للشاعر "العباس بن مرداس" يتكثر بعك على اليمن، حيث يقول: وعك بن عدنان الذين تلعبوا بغش إن حتى طردوا كل مطرد
ومضمون هذا البيت يخالف ما جاء في الرواية الأخرى التي تدعى تغلب غسان على عك.
وقد ذكر "ابن دريد" أن "عدنان" والد "عك"، هو "عدنان بن عبد الله بن الازد"،وأن من نسب "عكا" إلى الازد، نسبه إلى هذه الصورة فجعل "عدنان" حفيدا من حفدة الأزد.
وقد ورد في جغرافيا "بطلميوس" اسم شعب من الشعوب العربية، دعي ب Anchitae Achitae Akkitae Akkitai، موطنه هي المواطن التي نسبها النسابون إلى "عك"، لهذا ذهب الباحثون المحدثون إلى أن هذا الشعب هو "عك". وعلى ذلك تكون إشارة "بطلميوس" إليهم أقدم إشارة إلى هذه القبيلة في التأريخ. وتكون "عك" بذلك من القبائل المعروفة قبل الإسلام بزمان. وهي لا بد أن تكون قد عرفت قبل "بطلميوس" وإلا لم يذكرها هذا الجغرافي في جغرافيته.
غير أن "بطلميوس" يشر إلى أصلها ونسبها، ولا إلى صلتها بغيرها من القبائل. وكل ما ذكره عنها إنها قبيلة من قبائل العرب، تسكن في المواضع التي عينها في كتابه المذكور.
أولاد معد

(1/403)


--------------------------------------------------------------------------------

وولد معد بن عدنان عددا من الأولاد، جعلهم بعض الأخباريين أربعة، هم: نزار بن معد، وقضاعة بن معد، وقنص بن معد، وإباد بن معد. وجعلهم بعض آخر أكثر من ذلك، إذ أضافوا إلى المذكورين **** الرماح ابن معد، وقد دخل أبناؤه في "بني مالك بن كنانة"، والضحاك بن معد، قالوا: أغار على بني إسرائيل، وقناصة بن معد، وسناما، وحيدان، وحيدة، و حيادة، و جنيدا، وجنادة، و القحم، والعرف، وعوفا، وشكا، و أمثال ذلك.
وزعموا إن الإمارة كانت لقنص بعد أبيه على العرب. وأراد إخراج أخيه نزار من الحرم، فأخرجه أهل مكة، وقدموا عليه نزارا.
ويخرج بعض أهل الأخبار "قضاعة" من صلب معد، فيضيفها إلى القحطانين، على حين نرى فريقا أخر من النسابين ومن ورائهم القضاعيون يعدون أنفسهم مهن أقدم أبناء معد، فيقولون: قضاعة ابن معد، وبه كان يكنى معد، أي انهم أقدم أبناء معد. ويروون في ذلك شعرا من أشعار قضاعة في الجاهلية وبعد الجاهلية. وفي كل ذلك أثر التعصب القبلي الذي كان يتحكم في النفوس، ويظهر في النسب. ويذكر النسابون الذين يرجعون نسب قضاعة إلى حمير إنها من نسل قضاعة بن مالك بن حمير بن سبا كما رأيت.
ونرى "الكميت" يعير قضاعة ويهجوها بانتمائها إلى اليمن وادعائها إنها من "قضاعة بن مالك بن حمير"، و إنما هو "قضاعة بن معد بن عدنان".
وقد شبهها بالرئال لمفارقتها نزارا، وانتقالها إلى اليمن.

(1/404)

admin
12-26-2010, 11:28 AM
ويشر اختلاف النسابين هذا في نسب قضاعة إلى اختلاط قبائل قضاعة بقبائل معد وبقبائل اليمن، فانتمى قسم منهم إلى معد، وقسم منهم إلى اليمن، ومن هنا وقع هذا الاختلاف. وأرى إن لاختلاط قبائل قضاعة في بلاد الشام وفي أماكن أخرى بقبائل ترجع نسبها إلى قحطان دخلا في إدخال نسبها في اليمن. وقد يكون ذلك في العصر الأموي بصورة خاصة، حيث صار نزاع قيس وكلب، أي نزاع عدنان واليمن نزاعا سياسيا عنيفا قسم عرب بلاد الشام إلى جماعتين متباغضتين، تسعى كل جماعة لضم اكبر ما يمكن من القبائل إليها، ولا سيما القبائل القوية المهمة مثل قضاعة. فأدخلها اليمانيون لذلك فيهمم وألحقوا نسبها باليمن. أما قضاعة الباقون الذين كانوا في أرضين أخرى، فلم يقع عليهم مثل هذا التأثير، وقد كانوا أكثر استقلالا، وعلى اتصال متين بالعدنانيين، ولهذا أبوا إلحاق نسبهم بقحطان.
و إذا غربلنا أخبار الأيام، وبعض الروايات التي يرويها أهل الأخبار، فإننا نتوصل منها إلى أن قضاعة كانت قد اشتركت مع ربيعة ومعد في محاربة "يمن".
فقد ذكر مثلا: إن "عامر بن الطرب العدواني" قاد ربيعة ومضر وقضاعة كلها "يوم البيداء"، لليمن حين تمذحجت على بني معد. وذكر أن "ربيعة ابن الحارث بن زهر التغلبي" قاد مضر وربيعة وقضاعة يوم السلان إلى أهل اليمن، وأن ابنه "كليب بن ربيعة"، و هو "كليب وائل"، قاد ربيعة ومضر وقضاعة يوم "خزازى" إلى اليمن. ولعل في هذه الأمثلة وفي غيرها تأييدا لرأي غالب قضاعة وبقية النسابين الذين يرجعون نسب قضاعة إلى بني معد، أي إنها كانت في حلف مع ربيعة ومضر، وهما من بني معد. ولما كانت ربيعة ومضر في نزاع مع اليمن، كانت قضاعة معها في هذا النزاع.

(1/405)


--------------------------------------------------------------------------------

وتذكر "قضاعة" في الأخبار مع "مضر" و "ربيعة" و "اليمن" وهذا يدل على إنها كانت في منزلة المذكورين في الكثرة والمكانة. وقد عدت في قبائل "الحلة" من العرب ما خلا علافا وجنابا. وأهميتها هذه وكثرة عددها، دفعت العدنانيين و القحطانيين إلى ضم نسب قضاعة إليهم، لما كان في هذا الضم من أثر كبير في تقوية مركز أحد الطرفين.
و يذكر "ابن سعد" أن ولد "معد" تفرقوا في غير بني معد سوى "نزار"و قد أدرك "ابن سعد" و أمثاله ذبك من اختلاطهم باليمانيين، الامر الذي أدى إلى تداخل النسب، فصارت أنسابهم لذلك مترجحة بين قحطان و عدنان.
نزار
و هو جد القبائل "النزارية" المنحدرة على رأي النسابين من نزار بن معد من زوجة "معانة بنت جوشم بن جلهمة" ، أو "معانة بنت جهلة" من جرهم. و هو على زعم الاخباريين والد أربعة أولاد، هم: ربيعة، و مضر، و أنمار و إياد. و هم أجداد قبائل كثيرة في الوقت نفسه. و قد انتشرت هذه القبائل في اواسط بلاد العرب و شماليها. و هناك اسطورة رواها المؤرخون و النسابون عن اختصاص كل ولد من أولاد نزار و عن المناطق التي نزلت بها قبائلهم و احتكامهم إلى "الافعى الجرهمي" أو "أفعى نجران".
و قد زعم بعض أصحاب الأخبار أن أم ربيعة و أنمار: "حدالة" "جدالة" بنت و علان بن جوشم بن جلهمة بن عمرو" من جرهم، و أن أم "مضر" "سودة بنت عك"، كما زعم بعض المؤرخين أن إياد و أنمار هما من أبناء معد، وأما نزار، فقد كان من عقبه البطنان: ربيعة، ومضر.
وقد نعتت مضر ب "الحمراء"، فقيل: "مضر الحمراء "، ونعتت إياد ب "الشمطاء" و "البلقاء"، وقيل لربيعة "الفرس"، ولأنمار "الحمار".
ويقال للنزاريين: "نزارية" و "بنو نزار" و "أبناء نزار" 0 أما التنزر فالانتساب إلى نزار، ويقال: تنزر الرجل، إذا تشبه بالنزارية، أو أدخل نفسه فيهم. واستعملت "النزارية" في مقابل "اليمانية" في أيام الأمويين.

(1/406)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرى "ليفي ديلافيدا" إن "النزارية" فكرة سياسية نجمت في العصر الاموي، في وسط ذلك الصراع الحزبي المعروف، وعلى الأخص بعد معركة "مرج راهط"، وانها لا تمثل حقيقة تأريخية، فهي لا تعني رابطة قبائل بالمعنى المفهوم. ومن رأيه إن هذا الموضوع لم يدرس دراسة كافية بعد، وان المواد اللازمة لدراسته غير متوافرة.
وقد ذهب أيضا إلى أن أقدم من ذكر اسم "نزار" من الشعراء الجاهليين هو "بشر بن أبي خازم"، و "كعب بن زهر" من الشعراء المخضرمين ويرى إن "بني نزار" الواردة في شعر "حسان بن ثابت" لا تعني النزارية، أي أبناء نزار بن معد بن عدنان على نحو ما يذهب إليه أهل الأنساب، بل جماعه أخرى هي من نسل "نزار بن معيص بن عامر بن لؤي" من قريش.
ويرى "ليفي ديلافيدا" أيضا إن ما ورد في شعر "أمية بن أبي الصلت" من شعر، نسب فيه ثقيفا إلى نزار، وما ورد في قصة "الأقرع بن حابس التميمي" من ذكر "نزار"، لا يمكن أن يبعث الثقة إلى النفوس ولا الاطمئنان إلى القلوب، بل يظهر إن ما ورد إنما وضع لأغراض واضحة هي على زعمه إلحاق نسب ثقيف بنزار، وقد كان ذلك موضع جدل في ذلك العهد، وإثبات نسب "بجيلة" وهو نسب كان موضع جدل أيضا.
أما انا، فأرى إن "نزارا" من القبائل التي كانت معروفة في القرن الرابع بعد الميلاد، بدليل ورود اسمها في النص المعروف ب "نص النمارة" الذي وضع على قبر "امرىء القيس"، ويعود عهده إلى سنة "328" للميلاد. فقد ذكرت في جملة القبائل التي خضعت لحكمه. ولكن النص لم يتحدث عن نسب نزار ومواضعها في ذلك الزمن. وفي الجملة إنها ذكرت مع قبيلة "أسد".

(1/407)


--------------------------------------------------------------------------------

وتتألف القبائل النزارية من ربيعة ومضر وإياد وأنمار، على رأي من جعل أنمارا ابنا من أبناء نزار. فأما إياد، فقبيلة كانت مواطنها تهامة إلى حدود نجران، ثم انتشرت بسبب حروب وقعت بينها وبين ربيعة ومضر، فارتحل قسم منها إلى العراق، وانضم قسم آخر إلى قضاعة وأقام بالبحرين، وسكن قسم منها في "وادي بيشة"، وهاجر آخرون إلى بلاد الشام.
وقد كانت رئاسة مضر إلى ربيعة في أيام "كليب بن ربيعة"، المعروف أيضا ب "كليب وائل". وقد كانت مضر وربيعة متجاورتين ومتحالفتين، ودليل ذلك إقران اسم أحدهما بالآخر، وجعل أهل الأنساب مضر شقيقا لربيعة غير إن تحاسدا شديدا كان يقع بين سادات مضر وسادات ربيعة، وطالما كانت إحداهما تفتخر على الأخرى، وترى إنها اعز مكانة ونفر من شقيقتها، كالدي يحدث بين القبائل.
ويظهر أن الأمر قد اختلط علا بعض أهل النسب في قضية "إياد"، فجعلوا إيادا ابنا من أبناء معد، أي شقيقا لنزار، وجعلوه إبنا لنزار، فصيروه شقيقا لربيعة ومضر وأنمار. وقد ذكر المسعودي أن إيادا ينسبون إلى القبيل الأكبر، وليست لهم قبائل مشهورة. ويذكر قوم أن ثقيفا من إياد، ويرى فريق أنهم من قيس عيلان.
وأما "قنص بن معد"، فيزعم قوم أن "آل المنذر" ملوك الحيرة منهم. ويظهر من عدم ذكر أسماء قبائل تنسب إلى قنص أن قمصا لم تكن من القبائل الكبرى، وأنها دخلت في القبائل الأخرى قبل الإسلام، فنسيت، فلما دون أهل الأخبار الأنساب، لم يكن لها شأن يذكر عندئذ غير الاسم.
ويلاحظ أن النسابين الذين جعلوا "آل نصر" من "قنص بن معد"، أي من العدنانيين، يذكرون أنفسهم ويروون في كتبهم أن نسبهم هو من اليمن، وأنهم من أصل قحطاني.

(1/408)


--------------------------------------------------------------------------------

ويذكر أهل الأخبار أن ربيعة ومضر حاربوا أبناء قنص بن معد وتغلبوا عليهم، حتى أخرجوهم من ديارهم فتفرقوا فى البلاد، وذهب جمع منهم إلى سواد العراق، ولكنهم اصطدموا بالنبط الارمانيين من ملوك النبط، فتراجعوا واستقر قسم منهم في الأنبار والحيرة.
وأما "مضر بن الياس" فولد "الياس بن مضر"، والياس، وهو قيس عيلان. وعرف أبناء "الياس" ب "خندف" نسبة إلى أمهم "خندف"، وهم: مدركة، وطابخة، وقمعة. وذكر المسعودي أن مضر ترجع إلى حيين، هما خندف، و قيس.
ومن النسابين من يزعم أن "قمعة"، واسمه "عمير"، هو والد خزاعة. أما خزاعة، فتأبى ذلك، وترجع نسبها إلى غسان.
وورد في شعر الشعراء المعاصرين لبني أمية: "ابنا نزار"، وقد قصدوا يذلك "ربيعة" و "مضر"، كما ورد "بحرا نزار" في المعنى نفسه.
وجعل "ابن جني"، اللغة العربية التي نزل بها القرآن "لغة ابني نزار"، وقد سمى "الفرزدق" "قيس علان" و "خندفا" ب "الحيين" المكونين لعد. وورد في شعر للعجاج "حيي مضر". وجاء في شعر لجرير: إذا أخذت قيس عليك وخندف=بأقطارها، لم تدر من حيث تسرح مما يدل على إن قيسا وخندفا، كانا من القبائل القوية في هذه الأيام.
ويظهر من تقسيم النسابين قبائل مضر إلى حيين: خندف وقيس عيلان، إن تلك القبائل كانت حلفا في الأصل، ثم انفصمت عراه، أو إن خندفا تحالفت مع قبائل قيس عيلان، وربطت نسبها بنسب مضر. وتتألف خندف من قبائل مهمة، منها ظبة، وتميم، و خزيمة، و هذيل، و كنانة، و قريش، و أسد و غيرها. وأما قيس عيلان، فمن قبائلها: فهم، وعدوان، وغطفان، وعبس، وذبيان، وسليم، وهوازن، وباهلة، وغنى، وغيرها من قبائل سيأتي ذكرها بعد قليل.
وأما مدركة بن الياس، فولد: خزيمة، وهذيلا، وأسدا، وكنانة. فأما هذيل، فأولد ثلاثة: سعدا، ولحيانا، وعميرا، والعدد في سعد بن هذيل: تميم وحريث، ومنعة، وخزاعة، وجهامة، وغنم، وولد تميم معاوية والحارث.

(1/409)


--------------------------------------------------------------------------------

وجعل "مصعب بن عبد الله بن مصعب الزبيري" أولاد مدركة ولدين، هما خزيمة وهذيل. أما أسد وكنانة، فهما عنده ولدان من أولاد خزيمة.
وأم خزيمة، فله من الولد كنانة، وأسد، وأسدة، والهون. وولد أسد دودان، وكاهلا، وعمرا وحملة. فهؤلاء "بنو أسد"، ومنهم تفرقت أسد كلها. ومن بطونهم المشهورة: "بنو فقعس"، وبنو الصيداء، وبنو نصر ابن قعين، وبنو الزينة، وبنو غاضرة، وبنو نعامة. أما ولد الهون، فهم: القارة، ومن القارة: عضل، والديش و هما قبيلا الهون. وقد اشتهرت القارة ب الرماية. وجعل "الزبيري" ولد الهون ثلاثة: هم عضل، والديش، والقارة.
ويذكر "الزبيري"، الذي أدخل أسدة في أولاد خزيمة، إن أسدة يزعمون إنه جذام، ولخم، وعاملة، وقد انتسبوا في اليمن. ويظهر إن قبائل "أسد ابن خزيمة" ادعت.، حين مجيء لخم وجذام مع خالد بن عبد الله ا القسري إلى العراق، إنها والقبائل القادمة من دم واحد، هو دم خزيمة بن مدركة، وإنها أرادت إلحاق نسبها بهذا النسب.
و أما كنانة، فولد النضر، و مالكا، و ملكان، و عبد مناة. و هو علي، وربما قالوا مسعودا، وآخرين ذكرهم "الزبيري" فأما بنو ملكان، فلهم بقية، وليس لهم شرف بارع، مما يدل على انهم لم يكونوا كثيري العدد، وأما بنو مالك، فمن قبائلهم بنو فقيم وبنو فراس. ومن بني فقيم "القلامس" نسأة الشهور. وأما عبد مناة، فمنهم "بنو مدلج" القافة، ومنهم بنو جذيمة، ومنهم بنو ليث، ومنهم الدئل، ومنهم بنو ضمرة. ومن بني ضمرة: غفار. ومنهم بنو عريج.
وأما "النضر"، فولده مالك والصلته. فأما "الصلت"، فصاروا في اليمن، ويقول قوم إنه أبو خزاعة. ورجعت قريش إلى مالك كلها، فهو أبوها كلها. وولد مالك بن النهر فهرا والحارث. فأما "الحرث" الحارث ابن مالك، فهو من المطيبين، و يقال إن الخلج منهم. ويقال كانوا من عدوان، فألحقهم عمر بن الخطاب بالحارث، ومسوا خلجا لأفهم اختلجوا من عدوان، وهم بالمدينة كثير.

(1/410)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما فهر بن مالك، فمنهم تفرقت قبائل قريش، فقيل لهم "بنو فهر". وولده: غالب بن فهر، ومحارب بن فهر، فأما "محارب"، فمنهم ضرار ابن الخطاب شاعر قريش في الجاهلية. وأما غالب بن فهر، فولده لؤي وتيم. فأما تيم، فهم بنو الأدرم من أعراب قريش.
ويذكر بعض أهل الأخبار أن قريشا كانوا متفرقين في "بني كنانة"،فجمع "قصي" إلى مكة "بني فهر بن مالك" فجذم قريش كلها "فهر بن مالك" فما دونه "قريش" وما فوقه عرب، مثل كنانة وأسد وغيرهما من قبائل مضر، فإنما قريش إلى "فهر بن مالك" لا تجاوزه. ثم يفسرون معنى "قريش"، بالتقرش أي التجمع، أو جمع المال والتجارة، أو غير ذلك مما سأتحدث عنه فيما بعد. مما يدل على أن تلك التسمية لم تكن قديمة، و إنما هي لقب في الأصل أطلق على جماعة من بني فهر كانوا يسكنون مكة، فعرفوا به حتى غلب على اسمهم، وصار اللقب اسما، ومن هنا اشتهر بين النسابين إنه اسم إنسان وجد قبيلة.
وأما لؤي، فإليه ينتهي عدد قريش وشرفها. وولده: كعب بن لؤي، وعامر بن لؤي، وسامة بن لؤي، وسد بن لؤي، وخزيمة بن لؤي، والحارث بن لؤي وعوف بن لؤي. فأما عامر، فولده حسل ومعيص: ومن حسل سهل وسهيل والسكران بنو عمرو. وأما سامة، فوقع بعمان، وهلك بها فولده هناك. وأما سعد بن لؤي، فهو أبو ولد بنانة، وأما خزيمة بن لؤي، فمنهم عائدة، وهم في بني شيبان. وأما كعب بن لؤي، فولده:مرة، وهصيص، وعدي. فاما هصيص، فمنهم بنو سهم، وبنو جمع. وأما عسي، فمنهم عمر بن الخطاب.
وأما مرة، فمنهم تيم بن مرة رهط أبي بكر، وآل المكندر، ومنهم مخزوم ابن يقظة بن مرة، ومنهم كلاب بن مرة وولد زهرة بن كلاب وقصي ابن كلاب.

(1/411)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما قصي بن كلاب، فإنه أول من جمع قبائل قريش، وأنزلها بمكة، وبنى دار الندوة، وأخذ مفتاح الكعبة من خزاعة. وكان له من الولد: عبد مناف، وعبد الدار، وعبد العزى، وعبد. فأما عبد، فبادوا. وأما عبد العزى، فمنهم خويلد بن أسد أبو خديجة. وأما عبد الدار، فمنهم آل أبي طلحة، ومنهم شيبة بن عثمان، وقد أعطاه النبي مفتاح الكعبة، وصار في ولده. و أما عبد مناف، فولده هاشم وعبد شمس والمطلب ونوفل و أبو عمروا.
وأما طابخ بن الياس، فولد أدا، وولد "أد" مرا وعبد مناة وضبة ومزينة وحميسا والرباب. فأما جمد مناة، فمنهم تيم بن عبد مناة وبطونها، وعدي بن عبد مناة، و عطل بن عبد مناة، وهؤلاء الثلاثة من الرباب، وثور ابن عبد مناة. وجعل "الزبري" ولد أد بن طابخة: مزينة، ومرا وتميما.
وأما ضبة بن أد، فولده سعد وسعيد وباسل. فأما باسل، فهو أبو الديلم، وقتل سعيد ولا عقب له، وضبة كلها ترجع إلى "سعد بن ضبة"، وهي جمرة من جمرات العرب، وهي من الرباب. وولد سعد الذين تنسب إليهم ضبة يكرا، وثعلبة وصريحا. ومن بطونهم نصر، ومازن، والسيل، وذهل، وعائذة، وتيم اللات، وزبان، وعوف، وشييم. ومن ذهل بجالة، وتيم، وصبيح، وضبة، وكعب. ومن كعب ضرار بن عمرو، وهو بيت ضبة، وبنو صباح، وهم معروفون بالصيد، وشقرة وهلال.
وأما مزينة بن أد، فهم مزينة مضر، ومنهم الشاعر زهير. وأما حميس ين أد، فهم قليلون، يكونون في البصرة في بني عبد الله بن دارم وبالكوفة في بني مجاشع. واما مر بن أد، فولده ثعلية بن مر. وهم بنو ضاعنة، ونسبوا إلى أمهم. وبكر بن مر، وهم الشعيراء وأراشة بن مر ولحقوا باليمن، فصاروا في جذام، وبقال لهم جديس، والغوث بن مر، وصاروا باليمن، ويقال لهم صوفة، وكانوا يفيضون بالناس قبل بني صفوان وتميم بن مر.

(1/412)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما تميم بن مر، وقبره ب "مران"، فولده زيد مناة، وعمرو، والحارث. فأما الحارث، فمنهم شقرة، وأما عمرو، فولده العنبر والهجيم وأسيد والقليب والحارث بن عمرو المعروف بي "الحبط"،ويقال لولده "الحبطات"، ومالك بن عمرو. وأما زيد مناة، فولد سعدا وفيهم العدد، وعامرا، وانتسب ولده إلى عامر بن مجاشع والحارث، وهم قليل، وامرؤ القيس، منهم عدي ابن زيد الشاعر، وقبائلهم بنو عصية. ومالك بن زيد مناة ومنهم ربيعة الجوع، ومنهم البراجهم، وهم عمرو وقيس وكلفة وظليم وغالب بنو حنظلة بن مالك. ومنهم بنو يربوع بن حنظلة، وهم بنو كليب بن يربوع، ورياح بن يربوع، وثعلبة بن يربوع، و عدانة بن يربوع، وحزام بن يربوع.
ومن تميم بن مر بنو دارم بن مالك بن حنظلة، ومجاشع بن دارم، ونهشل ابن دارم، ومنهم بن العدوية، نسبوا إلى أمهم، وهم: زيد بن مالك بن حنظلة، وصدى بن مالك بن حنظلة، ويربوع بن مالك بن حنظلة، وعوف ابن مالك بن حنظلة، وجشش بن مالك بن حنظلة.
وأما سعد بن زيد مناة بن تميم فهو الفزر. وولده كعب بن سعد، وعمرو ابن سعد، والحارث بن سعد، وهم: عوافة، وعبشمى بن سعد، واسمه مقروع، وجشم بن سعد، ومالك بن سعد، وهبيرة بن سعد. فأما كعب ابن سعد، ففيهم العدد. منهم مقاعس، ومنهم حمان، ومنهم بنو منقر، ومنهم بنو مرة، ومنهم ربيعة. ومن "عوف بن كعب" بهدلة رهط الزبرقان ابن بدر، وقريع رهط بني أنف الناقة، ومنهم آل عطارد وآل صفوان بن شجنة الذين كانت فيهم الإفاضة بالناس من عرفة، ومن عطارد بنو عوف.

(1/413)

admin
12-26-2010, 11:30 AM
وأما قيس بن عيلان، وهو قمعة بن الياس بن مضر، فولد سعدا،وعكرمة، وأعصرا، وعمرا، وخصفة. وبعض النساب يزعم أن عكرمة هو ابن حفصة، وأعصر هو أبن سعد. و أما عمرو بن قيس، فولده فهم وعدوان. فمن فهم تأبط شرا. وأما عدوان، فمن بطونهم بنو خارجة وبنو وابش وبنو يشكر وبنو عوف و الفرعا وبنو رهم وبنو رباح. ومن عدوان عامر بن الظرب حاكم العرب" وأبو سيارة الذي كان يفيض بالناس، وعدوان أنزلوا ثقيفا بالطائف، وكانت كثيرة السادة، فتفرقوا يبغي بعضهم على بعض.
وأما بنو سد بن قيس عيلان، فهم غطفان 1 وأعصر بن سعد. فولد أعصر غنيا ومعنا وهو أبو باهلة، و باهلة امرأة من همدان نسب بنو معن إليها، ومنبه بن أعصر وهم الطفاوة. فأما غني، فمنهم بنو ضبينة و بنو بهثة وبنو ****. وهم حلفاء في بني كلاب. وأما الطفاوة، فمنهم بنو جسر وبنو سنان، وكانوا في بني شيبان حلفاء. ومن الطفاوة الحبال، وكانوا في الهجيم،وأما معن ابن أعصر، فولده قتيبة ووائل، وامهما من فزارة، وأود، وجاءت امهما باهلة امرأة من همدان، وفراص وأبو عليم.
وأما قتيبة بن معن، فمن ولده غنم، وولد غنم سهم بن غنم، ومن بني قتيبة بنو صحب، وهم ينزلون اليمامة. ومنهم عمرو بن عبد واعبد وقعنب وسعد بن عبد و عامر بن عبد، ومن بني سعد بنو أصمع. وأما وائل بن معن، فمنهم بنو سلمة وبنو هلال بن عمرو وبنو زيد وبنو عامر ابن عوف وبنو عصية.
وأما غظفان بن سعد، فولده ريث و عبد الله، فولد ريث بغيضا وأشجع، فولد بغيض ذبيان وعبسا وأنمارا. وأما عبد الله بن غطفان،فهم في بني عبس.
وأما أشجع، فمنهم بنو دهمان. واما أنمار بن بغيض، فهم قليل. وأما عبس بن بغيض، فولده قطيعة، وورقة، ومعتم، والشرف والعدد في قطيعة.
وأما ورقة ومعتم ابنا عبس، فلا يعرف منهما أحد.

(1/414)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما ذبيان بن بغيض، فولده فزارة، وسعد، وهاربة البقعاء، وقد بادت هاربة إلا بقية يسيرة في بني ثعلبة بن سعد، وأما فزارة بن ذبيان، فولده عدي، وضالم، ومازن، وشمخ. فأما ظالم، فقد بادوا إلا قليلا، وأما شمخ بن فزارة، فولده لؤي وهلال، وأما مازن بن فزارة، فمنهم بنو العشراء، وأما عدي بن فزارة، فولده ثعلبة وسعد.
وأما سعد بن ذبيان، فولده ثعلبة وعوف. فمن ثعلبة بنو جحاش، وبنو سبيع، وبنو حشور. وفي بني سبيع البيت والشرف. وولد عوف بن سعد مرة وعيدا. فأما عيد، فقليل، وفي مرة بن عوف الشرف والسؤدد. فولد مر ة بن عوف غيظا، ومالكا، وحرمة، وسهما، وبني صارد و غيرهم. فولد غيظ نشبة ويربوعا.
وأما خصفة بن قيس عيلان، فولده عكرمة و محارب. وبعضهم ذكر إن عكرمة هو ابن قيس. وأما محارب، فمنهم جسر والخضر. وبنو جسر حلفاء بني عامر بن صعصعة. وأما عكرمة، فولده عامر ومنصور، وأبو مالك. فأما بنو أبي مالك، فهم في بني تيم الله. وأما عامر، فهم حشوة في بني سليم ولهم بقبة بالبادية. وأما منصور بن عكرمه، فولده سليم، وسلامان، وهوازن، ومازن. وأما سليم فولده بهثة. وولد بهثة امرأ القيس وعوفا. ومن قبائل سليم، بنو حرام، وبنو خفاف، وسماك، ورعل، وذكوان، ومطرود، وبهز، وقنفذ، ورفاعة، و عصبة، وظفر، وبجلة، وحبيب ابن مالك، وبنو الشريد، وبنو قتيبة.
وأما هوازن بن منصور، فولده بكر، وسبيع، وحرب، ومنبه، ولا عقب لسبيع وحرب. وأما منبه، فهو أبو ثقيف في قول بعض النسابين. وولد بكر بن هوازن سعدا ومعاوية وزيدا. ومن ولد معاوية بن بكر، جشم، ونصر، و صعصعة، والسباق، وجسر، وجحش، وجحاش، وعوف، ودحوة، ودحية. فأما دعوة، ودحية، وجحش، وجحاش، فلا عقب لهم. وأما عوف، فيقال لهم الوقعة.

(1/415)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما صعصعة بن معاوية، فولده عامر ومرة وغاضرة و مازن ووائلة. فأما ينو مرة، فيعرفون ب "بني سلول". وأما عامر بن صعصعة، فولده هلال ابن عامر، و سواءة بن عامر ونمر بن عامر، وهي جمرة من جمرات العرب. وربيعة بن عامر، وولده بنو مجد وينسبون إلى أمهم. وهم عامر بن ربيعة وكلاب بن ربيعة، وكعب بن ربيعة. فأما عامر بن ربيعة ، فمن ولده عمرو ابن عامر فارس الضحياء، وبنو البكا بن عامر. وأما كلاب بن ربيعة، فمن ولده جعفر، ومعاوية، وربيعة، وأبو بكر، وعمرو، والوحيد، ورواس، والأضبط، وعبد الله. وأما معاوية بن كلاب، فمنهم الضباب، وهم حسل وحسيل وضب.
وأما عمرو بن كلاب، فمنهم بنو دودان. وأما أبو بكر بن كلاب، فمن ولده القرطات: قرط وقريط ومقرط. وأما كعب بن ربيعة، فمن ولده عقيل وقشير والحريش وجعدة وعبد الله وحبيب. وأما عبد الله، فمن ولده بنو العجلان. وأما قشير بن كعب، فمنهم غطيف وغطفان، ومنهم مالك ذو الرقيبة، ومنهم بنو ضمرة. وأما عقيل بن كعب، فمنهم خفاجة، ومنهم الحلفاء، ومنهم الأخيل.
وأما منبه بن هوازن بن منصور، فولده قسي، وهو ثقيف. فولد ثقيف جشم وعوفا والمسك، فتزوج قاسط المسك، فولدت وائلا أبا بكر بن وائل، وأما جشم، فولد حطيطا، فولد حطيط مالكا وغاضرة. وأما عوف، فهم الأحلاف، وذلك أنهم تحالفوا على بني مالك وصارت غاضرة مع الأحلاف، فثقيف فرقتان: بنو مالك والأحلاف.
هذا وإننا لنجد بعض النسابين ينسبون ثقيفا إلى "ثمود"، فيقولون إنهم من بقاياهم، وهو نسب لا يرضى عنه الثقفيون بالطبع، ويزعجهم أن يكونوا من قوم هلكوا بسبب غضب الله عليهم. ومنهم من جعل نسبهم في إياد. ومنهم من جعل نسبهم من "أبي رغال" إلى غير ذلك من أقوال، يظهر إنها ظهرت في الإسلام كرها للحجاج بن يوسف، أحد بني ثقيف، المشهور بتعسفه وبظلمه. وقد قيل إن قيسا، وهو اسم "ثقيف" هو من القسوة، وكان غليظا قاسيا ولا أظن أن هذا التفسير هو ما يرضي الثقفيين.

(1/416)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما ربيعة بن فئ زار بن معد، فولد أسد بن ربيعة وضبيلة بن ربيعة وأكلب ابن ربيعة. فأما أكلب بن ربيعة، فهم في خثعم. وهم بطون كثيرة تنسب إلى خثعم. واما ضبيعة بن ربيعة، فولد أحمس، والحارث، والقلادة، وأما أسد بن ربيعة، فولد جديلة وعنزة وعمرة. فأما عميرة، فهم في عبد القيس. أما عنزة، فاسمه عامر. وأما جديلة، فولد دعمي وولد دعمي أفصى، فولد أفصى هنبا وعبد القيس. فولد عبد القيس اللبو وأفصى. وولد أفصى شنا ولكيزا. فمن شن الديل بن شن. وولده سعد وجذيمة وعامر وعجب. ومنهم بنو بهثة بن جذيمة بن الديل بن شن. وأما لكيز، فولد نكرة وصباحا ووديعة. فأما نكرة، فهم حلفاء جذيمة، ومنهم هنبة بن نكرة، وهم أهل البحرين. وفيهم العدد والشرف، ومنهم المثقب العبدي الشاعر والممزق الشاعر والمفضل ابن عامر الشاعر وصاحب القصيدة المنصفة. وبعمان قوم من نكرة، وباليمن قوم منهم.
وأما وديعة، فولده عمرو وغنم ودهن. فأما دهن، فهم وائلة، نسبوا إلى أمهم. وأما غنم، فولد عمرو بن غنم وعوف بن غنم. وأما عمرو بن وديعة فولده أنمار وعجل ومحارب والديل والعوق وامرؤ القيس. فمن ولد الديل أهل عمان. وأما العوق، فمنهم العوقة، وهم عمانيون قليل. وأما أنمار، فمنهم عصر، ومنهم ظفر. وأما محارب، فولد حطة وظفر أبي محارب.
وأما هنب بن أقصى، فولد قاسط بن هنب وعمرو بن هنب وخندف بن هنب. وأما عمرو فمنهم عتيب، وهم بنو شيبان. وأما قاسط، فولد عمرو بن قاسط والنمرين قاسط ووائل بن قاسط. أمهم المسك بنت ثقيف.
وأما النمر بن قاسط، فولد تيم الله وأوس الله وعائد الله وأمهم هند بنت تيم بن مر وإخوتهم لأمهم بكر وتغلب، وأخوهم لأمهم أيضا اللبو بن عبد القيس. فاما تيم الله، فولد الخزرج والحريث. وولد الخزرج سعدا. وأما وائل بن قاسط، فولد بكر بن وائل وتغلب بن وائل وعز بن وائل. أمهم هند بنت تميم بن مر. فأما عنز بن وائل، فأولد أراشة ورفيدة. فمن أراشة أشجع وغضاضة.

(1/417)


--------------------------------------------------------------------------------

و أما تغلب بن وائل، فولد غنم بن تغلب والأوس بن تغلب وعمران بن تغلب. فأما غنم بن تغلب، فمنهم معاوية بن عمرو بن غنم. ومنهم الأراقم، وهم: جشم، ومالك، وعمرو، وثعلبة، والحث، ومعاوية بنو بكر بن حبيب بن عمرو. ومن بني تغلب عكب. ومنهم بنو عدي بن أسامة، ومنهم بنو كنانة يقال لهم قريش تغلب. وهم بنو عكب. ومنهم جشم بن بكر، ومن بني جشم بنو الحارث بن زهير، رهط كليب بن ربيعة، ومنهم بني زهر بنو عتاب.
وولد بكر بن وائل علي بن بكر، ويشكر بن بكر، وبدن بن يكر، أمهم هند بنت تميم بن مر. ويقال لها أم القبائل. فأما يشكر، فولد كعبا وكنانة وحربا. وفي كعب العدد والشرف. فمن ولد كعب حبيب والعتيك، ومنهم بنو غنم بن حبيب وثعلبة وجشم وعدي بن جشم.
وأما علي بن بكر، فولده صعب. وولد صعب لجيما و عكابة ومالكا. فأما مالك، فنهم بنو زمان وعددهم في بني حنيفة. وأما لجيم، فولد عجلا و حنيفة. فأما عجل، فولده ربيعة وضبيعة وسعد وكعب. فآما كعب وضيعة فقليل.
وأما حنيفة بن لجيم، فولده الدول وعدي وعامر وعبد مناة. فاما عبد مناة فهم قليل. وأما الدول، فمنهم بنو هفان.
وولد عكابة بن صعب قيسا وثعلبة. فأما قيس، فقليل، وعددهم في بني ذهل. وأما ثعلبة بن عكابة، فيقال له الحصن. وولد ثعلبة ذهلا وشيبان وقيس وتيم الله وأتيدا و ضنة. فأما ضنة، فلحقت باليمن فصارت في بني عذرة. وأما أتيد، فهي في بني شيبان. وأما تيم الله بن ثعلبة، فهم اللهازم، وهم حلفاء بني عجل. فولد تيم الله مالكا والحارث وعامرا وهلالا وذهلا وزمانا وحاطمة، فهؤلاء يقال لهم الأحلاف، إلا الحارث وعامرا ومالكا، وسمي أولئك أحلافا لأنهم تحالفوا على هؤلاء.

(1/418)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما قيس بن ثعلبة، فولد ضبيعة وتيما وسعدا. وفي ضبيعة العدد. وأما تيم ين قيس وسعد بن قيس، فهما الحرقتان. وأما ذهل بن ثعلبة بن عكابة، فولد شيبان وعامرا. فأما عامر، فيقال لها الوخم. وأما شيبان، فولده سدوس وفيه العدد، وعمرو ومازن وعلباء وعامر وزيد مناة.
فأما علباء، فهم قليل. وأما شيبان بن ثعلبة بن عكابة، فولده: ذهل، وتيم، و ثعلبة، وعوف. فأما عوف، فلا في له. وأما ذهل بن شيبان، فولد مرة بن ذهل، وربيعة، ومحلم، والحارث، وعبد غنم، وعوفا، وصبحا وسيبان، وعمرو وأمه جذرة، وهم يدعون بني الجذرة، وهم قليل.
والأنساب التي دونتها ورتبتها، لا تعني إنها أنساب كاملة، كل شجرة منها بأغصانها وأوراقها، لم أترك نسبا، ولم أهمل اسما. بل هي خلاصة الأنساب، أخذتها كما رويت في كتاب "الإكليل" للهمداني وفي كتاب "المعارف" لابن قتيبة. وقد ترك ابن قتيبة أسماء قبائل وبطون وأفخاذ، لأنها لم تكن مثل المذكورين في الشهرة. وبين "ابن قتيبة" وغيره من النسابين اختلاف كبير في عرض الأنساب وترتيبها. ولما كان عملي هو وضع مخطط عام في النسب لا غير، فقد رأيت الاكتفاء بهذا الرسم الأولي، وترك التفصيلات ومواطن الخلاف إلى الراغبين في دراسة النسب المتعشقين له، ليراجعوا الكتب الخاصة بها. وغايتي من هذا المخطط، هو تقديم جريدة صغيرة إلى القارئ بأسماء قبائل عدنان وقحطان، ليقف عليها، فعلى هذه المعرفة يتوقف فهم كثيرة من الأحداث.
الفصل العاشر
أثر التوراة
لهذا المدون في التوراة عن الإسماعيليين و القحطانيين، وعن نوح و أولاده، وعن الأنساب الأخرى، أثر ظاهر على عمل أهل الأخبار والأنساب الذين اشتغلوا بموضوع النسب في الإسلام، بل يظهر إن أثره كان فعالا ومؤثرا حتى في الجاهليين، وذلك لاتصالهم واختلاطهم بأهل الكتاب.

(1/419)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان لما جاء في القرآن الكريم مجملا من أمر آدم ونوح والطوفان وإبراهيم و إسحاق ويعقوب وإسماعيل وغيرهم، وما جاء فيه من أمر عاد وثمود وقوم صالح وأصحاب الأيكة وقوم تبع، أثر كبير أيضا في أهل الأخبار والتفسير حملهم على البحث عنهم. والتفتيش عن أخبارهم من الأحياء المسنين الذين كانوا يقصون على جيلهم قص الماضين وأخبار العرب المتقدمين، ومن أهل الكتاب الذين كان لهم إلمام بما جاء في التوراة من الرسل والأنبياء والأمم القديمة و الأنساب.
ويمكن حصر الروايات الواردة في الأنساب، والمأخوذة من أهل الكتاب ورجعها إلى الطرق الأصلية التي وردت منها وإلى الأماكن التي ظهرت فيها، وسنجد بعد البحث أن اكثر رواة هذا النوع من الأخبار كانوا قد استقوا من معين واحد. هم مسلمة أهل الكتاب، مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه، وعبد الله بن سلام، ومحمد بن كعب القرظي، ورجل من أهل تدمر عرف ب "أبي يعقوب" كان يهوديا فاسلم. وقد زود "ابن الكلبي" وغير ابن الكلبي بقسط من هذه الأسماء التي يستعملها النسابون في الأنساب. وكان "محمد ابن إسحاق صاحب السيرة يعتمد على أهل الكتاب، ويكثر الرواية عنهم و يسميهم أهل العلم الأول.
وقد استغل نفر من أهل الكتاب حاجة المسلمين هذه إلى الوقوف على "البدء" أي مبدأ الخلق والتكوين، وقصص الرسل والأنبياء، وكيفية توزع البشر، فأخذوا يفتعلون ويضعون ويصنعون على التوراة والكتب اليهودية المقدسة، يبيعونه لهم أو يتقربون به إليهم، إدعاء للعلم والفهم. قال الطبري "كان ناس من لليهود كتبوا كتابا من عندهم يبيعونه من العرب، ويحدثونهم إنه من عند الله ليأخذوا به ثمنا قليلا".

(1/420)


--------------------------------------------------------------------------------

أما ما ذكروه من أن "أبا يعقوب" التدمري وجد في كتاب "بورثغ بن ناريا" "كاتب أرمبا"، نسب "معد بن عدنان" فإنه كذب وتلفيق، فليس في كتاب "بورخ" شيء من هذا النسب. وكتابه من جملة أسفار "الأبوكريفا، في نظر "البروتستانت"، وهو مترجم إلى العربية ومطبوع مع أسفار التوراة الأخرى، في الترجمة "الكاثوليكية"، وقد قرأناه فلم نجد فيه شيئا من هذا شيء يذكره اليهودي الذي دخل في الإسلام. وليس ل "بورخ" كتاب آخر فنقول إنه وجده فيه، ولا يعقل أن يكون كتاب "بورخ" الذي قرأه نسخة خاصة لم توجد عند غيره من الناس، حتى نحسن الظن به. وكل ما نجده في سفر "بورخ" مما قد يكون له علاقة بالعرب هو هذه الكلمات: "لم يسمع به في كنعان ولا تروى في تيمان، وبنو هاجر أيضا المبتغون للتعقل على الأرض وتجار مران وتيمان وقائلو الأمثال ومبتغو التعقل، لم يعرفوا طريق الحكمة ولم يذكروا سبلها".وليس في هذه الكلمات كما نرى شيء ما له صلة بنسب "معد بن عدنان".
فكنعان، كناية عن الكنعانيين، وليست لهم صلة بمعد أو بعدنان. وأما "تيمان" فكناية عن أرض كانت في الجنوب الشرقي من "أدوم"، وهي أرض "أبناء الشرق"، وقد نسبت التوراة التيمانيين إلى "اليفاز بن عيسو"، ونسبت إليهم الحكمة. وليست لهم علاقة أيضا بأبناء معد ولا بعدنان.
وأما "بنو هاجر" "الهاجريون" "Hagrites" فانهم شعب سكن شرق أرض "جلعاد"، وقد اختلف علماء التوراة في أصله، فمنهم من عده قبيلة عربية، ومنهم من عده من الآراميين، ومنهم من رأى انهم "الإسماعيليون". وقد ذكر الهاجريون مع أقوام من الآراميين في كتابة أخبار انتصارات "تغلا تبليسر الثالث" "Tiglath-Pileser III". وهكذا وجدنا أنفسنا عاجزين حتى في هذا الموضع من سفر "باروخ" من العثور عن أية صلة للكلمات المذكورة بنسب "معد بن عدنان".

(1/421)


--------------------------------------------------------------------------------

ويروي رواة الشعر وأهل الأخبار شعرا لعدي بن زيد العبادي ولأمية بن أبي الصلت ولنفر آخر من للشعراء في أحداث وأمور توراتية. وهذه الأشعار إن صح إنها لهم حقا، دلت على وقوف أولئك الشعراء على التوراة، أو على بعض أسفارها، أو على قصص منها. أما عدي بن زيد، فلا أستبعد وقوفه على التوراة، فقد كان نصرانيا قارئا كاتبا بالفارسية والعربية، وربما كان كاتبا بلغة بني إرم كذلك، لغة المثقفين في العراق يومئذ. وقد كان هو نفسه من المثقفين ثقافة عالية بالقياس إلى زمانه، وفي شعره زهد وتصوف وتدين وتأمل وتفكر، فلا يستبعد إذن أخذه من التوراة ومن الأناجيل. وقد أورد "الهمداني" له أبياتا في قصة آدم وحواء والجنة والحية. وهي أبيات فيها ركة وضعف، ولكنها منتزعة من "سفر التكوين" من التوراة أخذت منه. وهي إن كانت من شعره ومن نظمه حقا، كانت أقدم شعر يصل إلينا في نظم بعض قصص التوراة بلغة عربية.
وأما "أمية بن أبي الصلت"، فقد كان واقفا على كتب اليهود والنصارى كما يذكر أهل الأخبار، قارئا "كتب الديانتين، مطلعا على العبرانية أو السريانية أو على اللغتين معا، إن كان واقفا أي حائرا بين الديانتين، فلم تدخل في أمية ديانة منهما، و إنما كان من الأحناف على حد تعبير أهل الأخبار، لذلك لا يستبعد وقوفه على قصص توراتي وإنجيلي، وعلى الاستفادة منه في الشعر. ونجد في شعره ألفاظا غريبة، يذكر أهل الأخبار إنه أخذها من لغات أهل الكتاب، فوضعها في شعره، وشعره كما قلت في مواضع من هذا الكتاب يستحق من هذه الناحية الدرس والنقد، لنرى إلى أية درجة من الحق والصدق تصل دعاوى أهل الأخبار في شعر أمية، وفي نسبته إليه. وهو إن ثبت إنه، كان أيضا دليلا على وقوف المثقفين من الجاهليين على كتب أهل الكتاب، و شيوعه في الحجاز، وكان أيضا دليلا على نظم بعض الشعراء لحوادث التوراة و الانجيل في شعرهم في ذلك العهد.

(1/422)


--------------------------------------------------------------------------------

ونجد في شعر "أمية بن أبي الصلت" وأمثاله من المتصلين بأهل الكتاب القارئين لكتهم كما يذكر أهل الأخبار، فائدة كبيرة لنا في تكوين رأي عام عن وقوف العرب على الآراء التوراتية في الجاهلية، وفي جملة ذلك أنساب التوراة. وفي الشعر المنسوب إلى "أمية" آراء مستمدة من التوراة، مثل شعره في "نوح" وفي قصة "الطوفان" والغراب والحمامة وبقية حكاية الطوفان إلى زواله، فإنه إن صح دل على وقوف "أمية" على خبر قصة "الطوفان" الواردة في السفر السادس فما بعهده من التكوين. فإن ما جاء في هذا الشعر هو اقتباس لما ورد في تلك الأسفار. ونجد له أشعارا أخرى إن صحت نسبتها إليه، دلت على إنه كان على اتصال بأهل الكتاب، وعلى أخذ منهم. ولعله كان يغرف من قصصهم الذي كان يشرح للناس ما جاء في التوراة، أو إنه كان يراجع ترجمات التوراة كانت بعربية أهل الكتاب في ذلك العهد، أو يسمع منهم ترجمة التوراة سماعا فوقف على بعض ما جاء فيها، وفي جملة ذلك هذا القصص، وربما الأنساب المتعلقة بالعرب كذلك.
وحكاية "أمية" عن الطوفان أقرب إلى التوراة من حكاية "الأعشى" أبي بصير ميمون بن قيس، عن الطوفان. وذلك إن صح أن ذلك الشعر من نظمه حقا. فإن العناصر التوراتية فيه ليست بارزة واضحة وضوحها في شعر أمية. ويظهر من بعض الجمل الواردة في شعر الأعشى عن الطوفان مثل: ونادى ابنه نوح وكان بمعزل ألا اركب معي واترك مصاحبة الكبر
فقال: سآوي نحو أعيط مشرف بطول شنان السماء ذي مسلك وعر
ومثل: ونجا لنوح في السفينة أهله ملاحكة الألواح معطوفة الدسر
فلما استوت من أربعين تجرمت تناهت على الجودي أرست فما تجري

(1/423)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن مضمون القصة نفسها، إن المنبع الذي استقى منه الشاعر "الطوفان" هو القرآن الكريم، ومن يراجع الآيات المنزلة عن "نوح" وعن الطوفان وعن ابنه، وكيف امتنع عن الركوب معه بالرغم من إلحاح نوح عليه، يجزم أن الشاعر المذكور قد أخذ الطوفان من القرآن الكريم ومن موارد إسلامية، واستعمل ألفاظا وتراكيب وردت في كتاب الله، ولم ترد في التوراة.
و اني أشك في كون هذا الشعر من شعر "الأعشى". فالأعشى رجل لم يسلم وان أدرك ألام الرسول، كان قد قصد الرسول، ونظم قصيدة في مدحه، ولكن قريشا أثرت عليه، وحالت بينه وبين الوصول إلى الرسول، وعاد إلى "منفوحة" بلدته، فمات بها دون أن يسلم. والرأي عندي إن تلك الأبيات، هي من صنع مسلم، وضعها على لسانه.
ولا يعني شكي في صحة نسبة هذه الأبيات إلى الأعشى، إن الأعشى كان بعيدا عن آراء ومعتقدات أهل الكتاب، غير واقف على أخبارهم وعقائدهم. ففد كان الأعشى جوالا جوابا زار العراق وبلاد الشام،اتصل بقبائل نصرانية، وجالس اليهود والفرس والروم، ووردت في أشعاره ألفاط من ألفاظ الحضارة الأعجمية، كما وردت فيها أفكار تدل على وقوف على آراء وأفكار دينية وخواطر فلسفية، فرجل مثل هذا لا يستبعد وقوفه على قصص يهودي ونصراني وعلى آراء دينية لأهل الكتاب. وللحكم على، مقدار فهمه لها، يمكن بالطبع دراسة ما ورد في الشعر على لسانه، ومطابقته بما نعرفه من آراء القوم لنقف على درجة صلة ما جاء في شعر الأعشى من آراء ومعتقدات بآراء أهل الكتاب و معتقداتهم.

(1/424)


--------------------------------------------------------------------------------

أما الأماكن التي ظهرت فيها هذه الروايات الإسرائيلية، فهي: اليمن، والمدينة، والعراق. ومن العراق الكوفة بصورة خاصة. وقد كان في كل هذه المواضع رجال من أهل الكتاب مونوا أهل الأخبار بما كانوا يرغبون في معرفته، ولم يكن هؤلاء على قدر واحد في المعرفة والفهم، والظاهر إن منهم من لم يكن له إلام بالتوراة ولا بالتلمود و غيرهما من الكتب و إنما أخذ ذلك من أهل النظر منهم، أو كما وصل إليه من أهله وحاشيته، ولذلك اضطرب الأخباريون في بعض، الأحيان في رواية خبر واحد، كما اختلفوا في ضبط الأسماء. وقد علل ابن خلدون اختلافهم في ضبط الأسماء.قوله: "واعلم إن الخلاف الذي في ضبط الأسماء إنما عرض في مخارج الحروف، فان هذه الأسماء إنما أخذها العرب من أهل التوراة، ومخارج الحروف في لغتهم غير مخارجها في لغة العرب. فإذا وتر الحرف متوسطا بين حرفين من لغة العرب، فترده العرب تارة إلى هذا وتارة إلى هذا. وكذلك إشباع الحركات قد تحذفه العرب إذا نقلت كلام العجم، فمن ها هنا اختلف الضبط في هذه الأسماء".
والحق هو إن هذا الخطأ لم يقع في ضبط الأسماء فقط، بل وقع في أمور جوهرية أخرى ترينا جهل بعض الرواة بجدول الأنساب، وترينا الخلط أحيانا بين الروايات الإسرائيلية. والروايات الإيرانية حتى تكون من هذا المجموع المدون في الكتب الإسلامية عن الأنساب خليط من روايات إسرائيلية و روايات فارسية وقصص شعبي عربي، يجوز أن نضيف إليه عنصرا آخر هو الوضع، فقد وضع الرواة شيئا من عندهم حين عجزوا عن الحصول عليه من الموارد الثلاثة المذكورة، وكان لا بد لهم من سد تلك الثغر، فسدوها بما جادت به قرائحهم من شعر ونثر. ومن هذا القبيل، ما أدخلوه على التوراة أيضا من أنساب زعموا إنها وردت في التوراة، وليس لها في الواقع وجود فيها.

(1/425)

admin
12-26-2010, 11:30 AM
خذ آدم، فقد صيره الأخباريون "كيو مرث" وهو من الفرس، وخذ نوحا تر إنه صار "افريدون" عند أهل الأخبار وهو من الفرس أيضا، وجعلوا "لاوذ" ابنا من أبناء إرم من سام أخي عوص وكاثر، مع إنه "لود"، في التوراة، وهو شقيق إرم بن سام ووالد عوص وجاثر، وقالوا أشياء أخرى لا وجود لها في التوراة.
أما متى دخلت أنساب التوراة إلى العرب، ومتى ظهرت وشاعت بينهم، فنحن لا نستطيع أن نحدد ذلك على وجه مضبوط بالقياس إلى أيام الجاهلية. ولكننا نستطيع إن نقول إنها كانت قد تسربت إلى الجاهليين من اليهود، وذلك بوجودهم في الجزيرة العربية واتصالهم بالعرب، وقد يكون من النصارى أيضا، وقد تفشت في أماكن من جزيرة العرب وبين بعض القبائل، وان هؤلاء أي أهل الكتاب هم الذين أشاعوا بين الجاهليين هذه الأنساب. وقد تكون لليهود يد" في إشاعة خبر رابطة النسب وأواصر القربى التي تربط بينهم وبين العرب، وذلك للتأثير عليهم وللتقرب منهم، وللسكن بينهم بهدوء وسلام.
ونستطيع أن نقول جازمين إن هذا القصص الإسرائيلي، وهذه الأنساب التي يرويها أهل الأخبار، لم تكن كثيرة الشيوع بين الجاهليين، و إنما هي شاعت وراجت في الإسلام، وذلك للأسباب المذكورة، ومروجوها وناشروها هم زمرة تحدثت عنهم في مواضع متعددة من هذا الكتاب.
ونحن لا يهمنا هنا من الأنساب للواردة في الوردة إلا الأنساب المتعلقة بالعرب وبالشعوب العربية، و معنى هذه الأنساب الخاصة بذرية "سام" و "كوش". ويهمنا من ذرية "سام" ذرية "إرم" و "لود" و "أرفخشذ"، حيث ألحق النسابون بهؤلاء قبائل العرب. أما أشور و "عيلام"، وهما بقية أبناء "سام"، فليس لذريتهم علاقة بالعرب، فليس لنا كلام عنهم في هذا المكان.

(1/426)


--------------------------------------------------------------------------------

وأولاد سام في التوراه، هم خمسة: "عيلام"، و "أشور"، و"أرفكشاد"، و "لود"، و "أرام". وقد ضبط الأخباري ون الأسماء على هذه الصورة: "أشوذ"، و "أرفخشذ"، و "عليم" "عويلم" " عيم"، و "لاوذ" و "ارم". وأضافوا إليهم "عابرا"، فصيروه أخا للمذكورين وابنا من أبناء "سام". أما في التوراة فإنه عابرا هو حفيد حفيد "سام"، وليس بابن له، وقد شق نسبه فيها على هذه الصورة: "عابر بن شالح بن أرفكشاد ابن سام". وكان إبراهيم هو السابع من أعقابه.
ونجد الطبري يروي في مكان من تأريخه أن أولاد سام، هم: "أرفخشذ ابن سام، وأشوذ بن سام، ولاوذ بن سام، وعويلم بن سام"، فهم أربعة. وقال بعد اسم "عويلم بن سام" مباشرة: "وكان لسام إرم بن سام" مما يدل على أن المورد الذي نقل منه الطبري روايته لم يكن على علم تام بخبر أم "إرم"، و يؤيد هذا الاستنتاج قوله: "قال: ولا أد?ي إرم لأم ارفخشذ واخوته أم لا ?". وقد قال هذا المورد إن أم أبناء سام المذكورين هي: "صليب ابنة بتاوبل بن محويل بن خنوخ بن قيس بن آدم " فيكون عدد أولاد "سام" خمسة أيضا وهو العدد المذكور في التوراة إلا أننا نرى تباينا بين روايتي الطبري والتوراة في للترتيب وفي الضبط: ضبط الأسماء.
ونجد الطبري بروي في مكان آخر أن أولاد سام، هم: عابر، وعليم، وأشوذ، وأرفخشذ، ولاوذ، وإرم. وذكر أن من و لد "أرفخشذ" الأنبياء والرسل وخيار الناس والعرب كلها والفراعنة بمصر. ويظهر من هذه الرواية أن ولد سام هم ستة، وقد نتج ذلك عن ضم "عابر" إلى ولد سام. وهو ضم مخالف لما جاء في التوراة. ولو رفعنا اسم "عابر" من الأسماء المذكورة، لصارت بقية الأسماء خمسة، وقد رتبت على وفق ما ورد في "سفر التكوين". ف "عليم" هو "عيلام"، و "أشوذ"، هو "أشور"، و "أرفخشذ"، هو "ارفكشاد"، و "لاوذ"، هو "لود"، و "إرم" هو "أرام".
وليس في التوراة ذكر لأبناء "لود"، أي "لاوذ" أهل الأخبار والأنساب.

(1/427)


--------------------------------------------------------------------------------

كل ما فيها أن له نسلا، وقد عرفوا بي "اللوديين". وقد ذكروا مع "كوش" و "فوط" مما يبعث على الظن أنهم إفريقبون. ولورود اسم جدهم "لود" مع "أشور" و "ارام" و "عيلام"، يرى علماء التوراة أن اللوديين الذين هم من نسل "لود بن سام" هم شعب من شعوب الشرق الأدنى لا تبعد مواطنهم عن البابليين و الآشوربين، وأنهم غير "اللوديين" الإفريقيين، اللودين المنحدرين من صلب "مصرايم"، أي "مصر" المذكورين أيضا في التوراة.
ولهذا فإن الأولاد الذين نسبهم أهل الأخبار إلى "لود"، "لاوذ"، وهم: طسم وعمليق، وجرجان، وفارس على رواية، وجديس، وأميم، وعبد ضخم على رواية أخرى، وأمثالهم ممن لم نذكر من الأولاد، هم هبة منحها أهل الأخبار والأنساب ل "لاوذ" لا نجد له ذكرا في التوراة.
إن "عمليقا"، الذي هو جد العمالقة على رأي أهل الأخبار، وليس من نسل لود" في التوراة، بل هو جد "أول الشعوب"، لذلك يبدو تجاسر أهل الأخبار في منح "لود" أولادا عملا غريبا، والظاهر أن "ابن الكلبي" واليه ترجع أكثر هذه الروايات، أو أحد من سألهم عنهم ، اختاروا "لودا" من بين أبناء "سام" فمنحوه أولئك الأولاد. وكان لا بد لهم من نسبتهم إلى أحد الأجداد المتقدمين القحطانيين، لأنهم أقدم منهم في نضرهم، فاختاروا لهم ذلك الأب.
أما "أرام"، وهو "إرم" عند أهل الأخبار، فقد أولد أولادا على ما جاء في التوراة، وهم: "عوص" "UZ"، و "جاثر" "كاثر" "غاثر" "Gether" و "حويل"، "حول" "Hul"، و "ماش" "Mash". وقد ذكروا في موضع من التوراة أنهم أبناء "سام"، وذلك جريا على طريقة العبرانيين في حذف اسم الأب أحيانا، وإلحاق الحفدة بالجد مباشرة.

(1/428)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عرف أهل الأخبار هذه الأسماء، إلا أنهم قدموا وأخروا فيها كما حرفوا فيها بعض التحريف، وقد اختار أهل الأخبار "عوصا"، فجعلوا له أولادا هم: عاد، وعبيل، وغاثر بن عوص، واختاروا "جاثر" فجعلوا له "ثمودا" و "جديسا". وقالوا عنهم: "وكانوا قوما عربا يتكلمون بهذا اللسان المضري". و لا نجد في التوراة و لا في اليهوديات ذكرا لهؤلاء الأولاد الذين منحهم أهل، الأخبار "عوص" او "غاثر" "جاثر" 0 إذن فالنسب المذكور هو من صنع الأخباريين.
و "أرام" هو جد "بني إرم" أي "الآراميين". وهم قوم معروفون فلا حاجة الى التحدث عنهم. وأما "عوص" فهو جد "العوصيين" سكان أرض "عوص" موطن "أيوب" "Jop"، إلا أن العلماء لم يتفقوا في تعين مكانه. فذهب بعضهم إلى إنه "دمشق" و "اللجاء" "اللجاة" مستندين في ذلك إلى رواية "يوسيفوس"، و ذهب آخرون إلى إنه "أورفا" على الفرات ورأى بعض إنه في "نجد"، وذهب بعض آخر إلى إنه "أدوم" أو العربية الشمالية، ورأى "كلاسر" إنه في شمال غرب "المدينة"، ورأى غيره إنه في مكان ما من جزيرة العرب أو من بادية الشام.
وقد استدل، بعض الباحثين من سفر "أيوب" ومما ورد فيه: ومن اسمه على إنه كان عربيا، عاش بين العبرانيين، أو إن بعضهم اختلط به، فدون أخباره وقصصه. وقد أمدت كتب "الهكادة" "Haggadah" و "التلمود" و "المدارش" اليهود وأهل الأخبار بقصص عنه وعن أصدقائه الخلص الذين لازموه.

(1/429)


--------------------------------------------------------------------------------

نرى مما تقدم إن الأخباريين قد ربطوا نسب العرب البائدة أي العرب الأولى يالإراميين "الآراميين" و باللوديين "اللاوذيين" و بالعوصيين و بالجائرين "الغاثرين". ولا نجد في كتبهم الأسباب التي حملتهم رجع أنساب هؤلاء العرب إلى هؤلاء الآباء. ويظهر أن فكرة وجود عرب أولى عاشت قبل القحطانيين والعدنانيين، جعلت أهل الأخبار في يبحثون عن آباء لهم، يكونون أقدم عهدا من "قحطان" ومن "عدنان"، فنسجوا أولئك العرب إلى "لود" و "أرام" ابني سام، وإلى "عوص" و "جاثر" ابني "أرام"، وهم أقدم عهدا من جدي القحطانيين و العدنانيين.
أما أثر التوراة على النسابين وأهل الأخبار بالنسبة إلى الطبقة الثانية من العرب، الطبقة التي دعاهها العرب العاربة، والعرب القحطانيين، فقد ذكرت في الفصل الخاص بهؤء العرب إن "قحطان" جد القحطانيين، هو "يقطان" في التوراة. وقد نسبه أكثر أهل الأخبار إلى "عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح". وصيره بعضهم ابنا من أبناء سام. ولقد وقد ذكرت إن النسب الثاني نسب مغلوط، وان نسبه المذكور في التوراة يجعله الابن الثاني الأصغر ل "عابر". أما الولد البكر فهو "فالج"، فيكون العبرانيون واليقطانيون أبناء عم وفق هذا النسب.
وقد ذهب بعض الباحثين في التوراة إلى إن "يقطان" لا وجود له، و إنما ابتدع ابتداعا لإيجاد صلة بين العرب والعبرانيين.
وقد ذهب بعض الباحثين في التوراة إلى إن عابرا، جد قبيلة كبيرة، انقسمت على نفسها إلى قسمين: قسم بقي فيما بين النهرين، وهو القسم الذي عرف بذرية "فالج"، ومن هذه الذرية انحدر "العبرانيون"، و قسم ترك ما بين النهرين" و ارتحل إلى جزيرة العرب، و هو القسم الذي عرف ب "يقطان"، و دليلهم على ذلك إن معنى "فالج" هو الانشقاق" و "الانقسام"، و إن في أيامه "قسمت الأرض" على رواية أهل التوراة. ومعنى ذلك انقسام ذرية "عابر"، وانشطارهم إلى شطرين.

(1/430)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذكر "الطبري" إن "بني يقطن" لحقت باليمن، فسميت اليمن حيث تيامنوا، ومصدر خبره هذا "ابن هشام"، وقد اخذ "ابن هشام" خبره هذا من أهل الكتاب و لا شك.
ويشك بعض دارسي التوراة في كون "يقطان" المذكور هو "قحطان" الذي يذكره علماء الأنساب، ويرون إن نظرية من يجعل قحطانا هو "يقطان"، نظرية لا تستند إلى أساس، و إنما وضعت على التشابه الموجود بين اللفظين، وهذا التشابه هو الذي دفع علماء الأنساب إلى اعتبار "قحطان" "يقطانا"، فمن ثم صار "يقطان" جدا للعرب القحطانيين. ولكنهم لا ينكرون ذلك أن "يقطان" التوراة، هو جد قبائل ذكرت التوراة أسماءها، وبعضها قبائل، عربية معروفة، فلا يستبعد أن يكون "يقطان" على رأيهم كناية عن قبائل عربية لم يكن العبرانيون على علم بها تمام الحلم.
ولم ترد في القرآن الكريم لفظة "قحطان" أو "يقطان". ولم ترد كذلك في الكتابات الجاهلية. أما الشعر الجاهلي، فقد وردت فيه في مواضع الفخر والحماسة. و إذا وافقنا على إنها وردت في الجاهلية القريبة من الإسلام،فان موافقتنا هذه لا تعني أن قدماء أهل الجاهلية البعيدين عن الإسلام كانوا على علم ب "قحطان"، أو إن قوما منهم كانوا ينتمون إليه وينتسبون بنسبه، فحكم مثل هذا لا بد أن يستند إلى كتابات وأدلة مقبولة. ولهذا رأى نفر من المستشرقين إن الأخباريين جاؤوا بقحطانهم هذا من التوراة، من تأثرهم بأهل الكتاب، ومن مطالعتهم للتوراة، فحولوا النزاع الذي كان بين أهل اليمن وفيهم "سبأ"، والنزاع الذي كان بين أهل مكة وبين أهل مكة ويثرب التي ينتمي أهلها إلى اليمن إلى نزاع بين جدين، وصار "قحطان" وليد "يقطان" "يقطن" جدا حقيقيا ليمن ولمن نسب نفسه إليهم من الأفراد والقبائل.

(1/431)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ورد في جغرافيا "بطلميوس" اسم قريب من "قحطان" هو "كتنيته" "كتانيته" "Katanitae"، قد يكون دليلا على وجود أسماء عند الجاهليين قريبة من" قحطان". أما هذه التسمية، فإننا لا نستطيع أن نقول لها علاقة بقحطان. فالتشابه في التسميات، لا يكون دليلا قاطعا على وحدة تلك التسميات. وقد ورد في الموارد العربية اسم قبيلة عرفت ب "قطن" و ب "بني قطن"، كما ورد اسم مكان عرف ب "جو قطنن"، واسم مدينة تدعى "قحطان"، تقع بين "زبيد" و "صنعاء". لهذا أرى إن من الخير لنا ألا نتحذ موقفا خاصا لا سلبا ولا إيجابا تجاه هذا الموضوع انتظارا لاستكمال العدة والحصول على مواد جديدة تكفي لإصدار حكم فيه.
أما بلاد "اليقطانيين"، على رأي التوراة، فتمتد من "ميشا" "Mesha" إلى "سفار" "Sephar". ولم تذكر التوراة حدودا جغرافية لها غير هذين الحدين. ولا يعرف العلماء عن موضوع "ميشا" شيئا. فذهبوا في تعيينه مذاهب. ذهب بعضهم إن إنه "مسينة" أو "ميسان" "Mesene" على رأس الخليج العربي، وذهب آخرون إلى إنه "موزح" أو "موسج" في نجد، ورأى آخرون إنه "ماشو" "Mashu" أو "ماش" "Mash"، أي بادية الشام في الكتابات الآشورية.

(1/432)


--------------------------------------------------------------------------------

وذهب "ديلمن" "Dillmann" إلى إن "ميشا"، تحريف "مسا" "Massa"، وهو اسم أحد أبناء إسماعيل، فتكون حدود "اليقطانيين" على رأيه بعد حدود أرض "مسا"، من قبائل، الإسماعيليين مباشرة، غير إننا لا نستطيع مع ذلك من تعين الموضع، لأننا لا نعلم أيضا أين كانت مواطن "مسا" من قبائل الإسماعيليين، فكيف نثبت هذه الحدود? وأما الحد الآخر، وهو "سفار"، فهو الحد الجنوبي للبلاد "اليقطانيين"، وذلك باجماع آراء علماء التوراة. ولكنهم يختلفون في تعين الوضع فقط، فمنهم من رأى إنه "ظفار" عاصمة الحمربلإت، ومنهم من يرى إنه "ظفار" حضرموت التي اشتهرت شهرة واسعة في العالم القديم، وورد ذكرها في الكتب "الكلاسيكية". ومن المرجح أن تكون هي الموضع المقصود، وذلك لشهرتها هذه ولقدمها.
وقد جعلت التوراة ل "يقطان" أولادا، عدتهم فيها ثلاثة عشر ولدا، هم: الموداد، و شالف، وحضرموت، ورياح، وهدورام، وأوزال، و دقلة، و عوبال، و ابيمايل، وشبا، و اوفير، و حويلة، و يوباب. و هذه الأسماء، هي أسماء قبائل، وأمكنة، اعتدها كتبة التوراة على عادة ذلك العهد أسماء أعيان، و صيروها أسماء أولاد "يقطان".
ولا يعني هذا العدد، في نظري إنه جميع القبائل العربية التي كانت تقيم في مواطن "اليقطانيين": و إنما هو حاصل ما بلغ إليه علم كتبة تلك الأسفار في ذلك اليوم من أمر هذه القبائل، ولم تكن معارف أولئك الكتبة يومئذ أكثر من هذا الذي ذكروه ودنوه. على نحو ما وصل إلى علمهم ومسامعهم، فهو لهذا لا يمثل أي ترتيبا جغرافيا للأماكن المذكورة ولا سردا على نسق معين مضبوط.

(1/433)


--------------------------------------------------------------------------------

ونحن إذا أنعمنا النظر في هذه الأسماء نجد إنها قد كدست في منطقة ضيقة، هي اليمن وحضرموت. أما ما فوقها إلى "ميشا" نهاية الأرض اليقطانية في الشمال، فلم يذكر الكتبة من أسماء قبائلها شيئا ما. وهو يدل على أنهم لم يكونوا يعرفون عن باطن جزيرة العرب شيئا، أو أن موضع "ميشا" في مكان آخر في غير هذا الموضع الذي تصوره علماء التوراة، كأن يكون في شمال اليمن مثلا، وبذلك يستقيم التحديد كل الاستقامة مع ما هو شائع معروف من أن أرض اليمن وبقية العربية الجنوبية هي موطن القحطانيين.
ويظر أن كتبة النسب في التوراة لم يراعوا في عدهم أسماء أبناء يقطان الترتيب الجغرافي، أو قرب اليقطانيين وبعلي هم عن العبرانيين. فهذا الترتيب، لا يشير - في الحقيقة - إلى أن الأسماء وضعت على أساس جغرافي. والظاهر إنها جمعت كما وصلت إلى مسامع العبرنيين من غير فحص أو تدقيق، كما أننا لا نستطيع أن نؤكد إنها وصلت صحيحة سالمة من غير تصحيف أو تحريف.

(1/434)


--------------------------------------------------------------------------------

و "الموداد" "مودد" "المودد" "Al-Modad"، هو الابن البكر ليقطان على ما يفهم من التوراة. وهو رمز عن شعب من الشعوب اليقطانية، يرى نفر من علماء التوراة أن مواطنه في العربية الجنوبية. قد يكون في جنوب غربي جزيرة العرب. وقد وردت في النصوص العربية الجنوبية وفي نصوص غير عربي كلمات قريبة من هذه الكلمة، مثل "موددى" في البابلية، و"مودادو" "موددو" في البابلية أيضا وفي "الأمودية". ووردت لفظة "مودد" في كتابات "جبانية" "كبانية" "Gebanitae"، في نصوص تدل على تقرب ملوك "حبان" "جبن" "كبن" "جبان" من ملوك معين، وإلى سيادة "معين" على "الجبأنيين" في ذلك الحين. فورد "مودد ملك معين" بمعنى "المتودد لملك معين" و "المحب لملك معين". ويرى "حلاسر" أن هذه الجملة لا تعني "أحباء ملوك معين" وأصفياءهم، وإنما تحكي وظيفة لها علاقة بالإله "ود"، مثل كهانة الإله "ود" وسدانته. ومسكن هؤلاء "الجبأنيين" في الزاوية الجنوبية الغربية لجزيرة العرب، كما ورد اسم "مودد" في الكتابات السبئية، وفي كتاب الإكليل للهمداني. وقد ذكره قبل "السلف"، مما يدل على أنه اسم مكان مجاور للسلف.
وأورد "بطلميوس" في الجغرافيا اسم شعب عربي دعاه "Allumaeotae" يرى "فورستر" أنه شعب "الموداد" الذي نتحدث عنه. ويقع مكان هذا الشعب في جغرافيا "بطلميوس" نجوب "الجرعاء" "Gerraea" "Vicus Jerachaeorum"، ويتصور أنه على ساحل الخليج العربي عند "فطن".

(1/435)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما "شالف" "Sheleph" الذي ورد في التوراة بعد "الموداد"، فلم يتمكن العلماء من تشخيصه أيضا. ويرى بعضهم انه شعب "Salepeni" المذكور في جغرافيا "بطلميوس". ويرى آخرون انه "السلف"، وهم بطن من ذي الكلاع من حمير، وهو "السلف بن يقطن"، أو "السلاف"، أو "بنو سلفان". و "السلف" اقرب هذه الأسماء إلى "شالف"، وخاصة إذا أخذنا بما قاله النسابون من انتساب هذه القبيلة إلى جد أعلى هو "السلف ابن يقطن"، وذكر "نيبور" في رحلته اسم موضع في اليمن يقال له "سلفية"، قد تكون لاسمه علاقة ب "شالف". وفي منطقة "يريم" ممر يقال له "نجد الأسلاف"، وقد رأى "كلاسر" احتمال وجود صلة بينه وبين "شالف".
وأما "حزرماوث"، "Hazarmaveth"، فهو "حضرموت". ومعلوماتنا عن هذا الشعب حسنة بفضل الكتابات الجاهلية التي عثر عليها في العربية الجنوبية، والتي ترجم عددا منها المستشرقون. وسأتحدث عنهم في الأجزاء الآتية من هذا الكتاب.
وأما "يارح" "Yerah"، فان معناه "قمر" و "شهر"، ولهذا ذهب بعض الباحثين إلى انه اسم قبيلة عربية. وبين العرب قبيلة تعرف ب "بني هلال"، فلا يبعد أن يكون "يارح" اسم قبيلة. وقد عثر في كتابات تدمر على اسم "يارح"" وقد ورد اسم علم، كما إن اسم "شهر" من الأسماء المعروفة عند الجاهليين، وقد سمي به عدد من الملوك الذين عاشوا قبل الميلاد وبعده.

(1/436)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرى "كلاسر" إن الشعب كان يقيم في "مهرة"، أو في جنوب عمان في موضع قد يكون المكان الذي سماه "بطلميوس" "Jerakon kome". و "يارح" هو "يرخ" و "ورخ" في اللهجات العربية الجنوبية، وتعني "شهرا" "فمرا". وهناك مواضع متعددة في العربية الجنوبية تسمى بأسماء قريبة من هذه الكلمة، مثل "وراخ" و "يراخ". وقد ذكر الهمداني اسم موضع دعاه "وراخ" في مخلاف "العود"، لذلك رأى بعض العلماء وجود صلة بين هذه المواضع و "يارح". كما ورد في جغرافيا "بطلميوس" اسم مكان دعاه "Insula Jerachaeorum"، وهو جزيرة تقع في البحر الأحمر جنوب جدة. وورد اسم محل آخر سمي "Vicus Jerachaeorum"، ويقع في مقابل النهر الذي دعاه نهر "الآر" "Lar" الذي يصب على زعم "بطلميوس" في الخليج العربي "الخليج الفارسي" "Sinus Persicus".
وأما "هدورام" "Hadoram"، فيرى "ملر" "Muller"، و "كلاسر" احتمال إنه "دورم"، وهو موضع على مقربة من "صنعاء". ويؤيدان رأيهما هذا بما ورد في المؤلفات العربية من أن اسم "صنعاء" القديم هو "أزال". و "أزال" هو شقيق "هدورام"، وقد ذكر بعده في ترتيب أسماء أولاد "يقطان".
وقد ذكرت الكتب العربية اسم موضعين يقال لهما "الهدار". قال الهمداني عن أحدهما: إنه "حصون ونخول وقصور عادية"، وقال عن الثاني: إنه "هدار بني الحريض"،وذكر أن فيه "القطنية"، وهذا الموضع الأخر قريب من "هدورام"، للفظة "القطنية" أهمية كبيرة لقربها من لفظة "يقطان".
وقد ذكر "الطبري" في تاريخه أن جرهما "اسمه هذرم ين عابر بن يقطن ابن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح". وهذا النسب الذي ذكره "الطبري" هو النسب الوارد في التوراة بزيادة "عابر" بين "هذرم" وهو "هدورام" وبين "يقطن". وهو خطأ، يرد كثيرا في الأنساب المنقولة من التوراة إلى الكتب العربية. ومورد "الطبري" هو "ابن الكلبي"، ومورد "ابن الكلبي" هو من أهل الكتاب، شانه في ذلك شأن كل الأنساب حيث أخذها من أهل الكتاب.

(1/437)

admin
12-26-2010, 11:31 AM
أما "أزال"، فهو مثل سائر الأسماء المتقدمة، غير معروف. ولم يتفق علماء التوراة على تعيينه حتى الآن. وقد ذكر أهل الأخبار أن "صنعاء" عاصمة لليمن، كانت تعرف في الجاهلية ب "أزال". وترجع هذه الرواية إلى "وهب بن منبه"، الذي زعم "إنه وجد في الكتب القديمة المنزلة التي قرأها: أزال كل عليك، وأنا أتحنن عليك" وزعم أن "أزال" هي "صنعاء" ولم يرد في النصوص الجاهلية ما يفيد أن صنعاء كانت تعرف ب "أزال"، بل لدينا نص من أيام الملك "يشرح يحضب" "ملك سبأ وذي ريدان" ويعود إلى نهاية القرن الثاني وبداية القرن الأول لما قبل الميلاد، أي القرن المتصل بالقرن الأول للميلاد ورد فيه "صنعو" وهو "صنعاء".
ويرى "كلاسر" إن اسم "أزال" إنما وضع ل "صنعاء" بعد دخول اليهودية إلى اليمن وانتشارها هناك، وضعه اليهود. وذكر "البكري" إن صنعاء كلمة حبشية، ومعناها وثيق وحصين.
وهناك مواضع أخرى عرفت ب "أزال"، منها موضع يعرف ب "يأزل"، عند جبل "حضور"، وموضع آخر في الحجاز، غير أن من غير الممكن في الزمان الحاضر البت في أي مكان من هذه الأمكنة بأنه هو "أزال" التوراة.
ولم يتمكن علماء التوراة من البت في موضع "دقلة" "Diklah" أيضا. ويرى بعض المستشرقين إن هذا الاسم يشير إلى مكان يجب أن يكون كثير التمر. وقد رأى "هومل" إنه موضع "حد دقل". وذكر "ياقوت الحموي" موضعا في اليمامة سماه "دقاة"، واى ن الباحثين في هذا الموضوع لم يقطعوا برأي فيه.
ورأى بعض الباحثين إن "عوبال" "Obal" "Ebal"، شعب "عبيل". ورأى آخرون انهم "عيبال" في تهامة الحجاز، أو "عبال" أو "عبيل"، وهما موضعان في اليمن.
ورأى "فورستر" احتال وجود صلة بين "عوبال" و "Avalitae"، وهو اسم شعب عربي ذكر "بلينيوس" أو "Abalitae"، وقد ذكره بعض الكتبة "الكلاسيكيين.
وذهب "كلاسر" إلى احتمال كون وادي "اتمة"، هو موضع شعب "أبيمائيل" "Abimael"، غير إن ذلك مجرد ظن، ليس غير.

(1/438)


--------------------------------------------------------------------------------

والولد العاشر من ولد "يقطان"، هو "شبا". وقد وردت بعض أخبار "شبا" في أسفار التوراة، وذكرت قصة "ملك شبا" وزيارتهما لسليمان. فسبأ هنا، شعب من شعوب اليقطانيين. ولكننا نرى التوراة تجعل "شبا" في موضع آخر ابنا ل "يقشان"، و "يقشان" هو ابن "إبراهيم من زوجته "قطورة" "Keterah"، و هو شقيق "إسماعيل" من أبيه. فسبأ هنا من نسل شعب آخر يختلف "سبأ" اليقطانيين. ونراها تذكر "سبأ" بالسين المهملة في جملة أبناء "كوش". والمعروف إن المراد من "كوش" عند العبرانيين، الحاميون، أي الشعوب الإفريقية، فيكون "سبأ" هنا اسم شعب من الشعوب الإفريقية.
ومعنى هذا التعدد في النسب انتشار السبئيين وسكناهم في مواضع متعددة، وهذا ما حمل كتبة التوراة على إدخال نهب السبئيين الساكنين في إفريقية في نسب "الكوشيين"، وإدخال السبئيين الساكنين عند "ددان" في نسل "رعمة".
ويرد اسم "أوفر" "Ophir" بين "شبا" و "حويلة"، وهو كناية عن أرض اشتهرت عند العبرانيين بكثرة ذهبهها وبوجود الفضة وخشب الصندل وبعض الأحجار الكريمة فيها. وقد اختلف في تعيين مكانها، فذهب كثير من علماء التوراة إلى إنها في جزيرة العرب، ولكنهم اختلفوا في تعيين المكان، فذهب بعضهم إلى إنها في اليمن، وذهب آخرون إلى إنها في عسير، وآخرون إلى إنها في اليمامة أو موضع "العويفرة" الذي لا يبعد كثيرا عن حافات جبل طويق، ومنهم من رأى إنه "مهد الذهب" في الحجاز، وهو موضع عرف باستخراج الذهب منه قبل الإسلام بزمن طويل، وقد نقبت فيه شركة تعدين حديثة، أغلقت أبوابها من عهد ليس ببعيد، كما ذكرت ذلك في كلامي على معادن جزيرة العرب.
غير أن هنالك جماعة من الباحثين في التوراة ترى أن الوصف الوارد في التوراة لأرض "أوفير" يجعلها أرضا في الهند، وذلك لأن الحاصلات المذكورة فيها هي حاصلات هندية، ومن الصعب تصور وجودها في بلاد العرب في ذلك الزمان. وذهب فريق آخر إلى إنها في إفريقية.

(1/439)


--------------------------------------------------------------------------------

والابن الثاني عشر من أبناء "يقطان"، هو "حويلة". وقد ذكرته التوراة في موضع آخر في جملة أبناء "كوش" مع "سبأ"، مما يدل على توطن قبيلة أخرى تسمى بهذا الاسم في "إفريقية" لعلها فرع من فروع "حويلة" بلاد العرب. وقد ذهب بعض العلماء إلى أن "حويلة" بلاد العرب، هي في بادية الشام، أو على مقربة من خليج العقبة، وذهب آخرون إلى إنها في أواسط جزيرة العرب، أو في منطقة "جبل شمر"، ورأى كلاسر أنها في المامة. وقد ذكر "الهمداني" جماعة دعاهم "الحوليين"، يظهر أنهم سكان موضع "حوالة" وهناك بطن من بطون اليمن يقال له "بنو حوالة"، كما ورد في اسم "حويل".
وفي التوراة: "وكان نهر يخرج من عدن فيسقي الجنة، ومن ثم يتشعب فيصير أربعة رؤوس. اسم أحدهما فيشون، وهو المحيط بجميع أرض حويلة حيث الذهب. وذهب تلك الأرض جيد. هنالك المقل وحجر الجزع". فيفهم منه أن نهر "فيشون" "Pishon" يحيط بأرض "حويلة" وهو من أنهر الجنة الأربعة. وأحد الأنهار الأربعة على رأي علماء التوراة هو نهر النيل، وأما الثاني فهو الفرات، وأما الثالث فهو نهر دجلة، وأما النهر الآخر الذي نتحدث عنه، فذهبوا إلى إنه نهر "كارون" أو شط العرب، أو أحد الأنهر الأخرى فتكون أرض حويلة عندئذ في منطقة تقع على راس الخليج.
وآخر أبناء "يقطان" هو "يوباب" "Jobab"، ويرى "كلاسر" إنه اسم قبيلة "يهيبب"، الذي ورد في النصوص السبئية. وذهب بعض آخر إلى إنه اسم شعب "وبار"، وانه تصحيف لاسم "Jobarital" الوارد في جغرافيا "بطلميوس".

(1/440)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد أضاف "ابن الكلبي" إلى سلسلة أبناء "يقطن" "يقطان" ولدا آخر لم يرد له ذكر في التوراة، دعاه "توقير"، زعم إنه والد الهند والسند، فربط بذلك بين نسب "اليقطانيين" والهنود. ولا ندري: أعبر عن ذلك جهلا واعتباطا، أم كنى بذلك عن الروابط القديمة التي ربطت بين العربية الجنوبية والهند، حيث سكن عدد كبير من قدماء الهنود "الدراويديين "Dravidians" في سواحل عمان وحضرموت? وقد عثرت البعثات العلمية التي نقبت في هذه الأماكن على بقايا هياكل عظمية ترجع إلى هؤلاء، كما يتحدث السياح والباحثون في أثر دماء الهند على سكان هذه المناطق.

(1/441)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم ينل هؤلاء الأولاد الثلاثة عشر عناية الأخباري "ابن الكلبي"، ولا عناية "محمد بن اسحاق"، أو غيرهما من أهل الأخبار المعروفين بأخذهم عن أهل الكتاب، إذ لم يشيروا إليهم في أثناء كلامهم على أولاد "يقطن" "يقطان"، و لم يتحدثوا عنهم. بل نسبوا إليه أولادا آخرين تراوح عددهم من عشرة ذكور إلى واحد وثلاثين، أسماؤهم أسماء عربية، لا وجود لها في التوراة، ما عدا اسما أو اسمين. وهذا الإهمال يثير في نفوسنا الدهشة والاستغراب: لم أهمل يا ترى هؤلاء الأخباريون أبناء "قحطان" المذكورين في التوراة، مع انهم أخذوا "يقطان" من التوراة، وجعلوا نسبه نسبا لقحطان! و لم تكرموا عليه فأعطوه عددا من الأولاد لم يأت لهم ذكر في التوراة? و لم لم يضم أهل الأخبار أولاد "يقطان" المذكورين إلى أولاد قحطان ? ألا يدل ذلك على جهل أصل الأخبار بهم وعدم وقوفهم عليهم ? إن كان جهلهم بهم هو السبب، فان ذلك يدل على إن أهل الأخبار لم يكونوا يرجعون إلى التوراة رأسا، يقرأون أسفارها ويأخذون منها، بل كانوا - وهذا هو ما اذهب إليه - يراجعون آهل الكتاب ويأخذون منهم ما يريدون. ولهذا لم يقفوا على أولاد "يقطان"، لأنهم لم يسألوا أهل الكتاب عنهم، أو لأن أهل الكتاب لم يتحدثوا إليهم عنهم. على إننا لا نستطيع أن نقبل هذا العذر، ذلك لأن أهل الأخبار كانوا قد ذكروا أسماء أبناء "إسماعيل، نقلوها من التوراة وعلى حسب الترتيب الوارد في "التكوين". وهذا ما يجعلنا نتساءل: لم ذكر أهل الأخبار أبناء "إسماعيل"، وأهملوا أبناء "يقطان"? هل هناك تعمد وغرض ? إن الإجابة عن مثل هذه الأسئلة،ليست سهلة في الواقع، لأن أهل الأخبار لم يكونوا يسيرون على قواعد ثابتة وأنظمة معينة في أخذ الأنساب، ولهذا نراهم يقعون في الغلط، وذلك يدل على إن علمهم بالأمور الواردة في التوراة لم يكن علما راسخا، وان علم محدثيهم من أهل الكتاب لم يكن راسخا أيضا ولم يكن مستمدا من

(1/442)


--------------------------------------------------------------------------------

التوراة رأسا، بل من السماع والرواية في بعض الأحايين، و إلا لما وقعوا في أغلاط شنيعة،وما احتاجوا إلى الوضع والكذب، كالذي نراه من كعب الأحبار ووهب بن منبه وأمثالهما من مسلمة يهود.
الإسماعيليون
و "إسماعيل هو الجد الأكبر للعرب المستعربة، أي العرب العدنانين. وهو "يشمئيل" "Ishmael" في التوراة ومعنى الاسم "إلهي يسمع" "، أو "يسمع إلهي". وهو ابن "إبراهيم من زوجه "هاجر". وتقول التوراة إنه "ختن" وهو في الثالثة عشرة من عمره، ورحل إلى برية "فاران" فتزوج فيها من امرأة مصرية، وعاش فيها راميا بالسهام حيث اشتهر بالرماية. ولم تذكر التوراة بعد ذلك سيئا عنه، إلا ما ورد من إنه حضر دفن أبيه "إبراهيم"، وأنه عاش "137" سنة.
هذا مجمل ما ورد في التوراة عنه. أما ما أورده أهل الأخبار عنه، فإنه يستند إلى هذا الوارد في التوراة عنه، إلا ما ذكروه عن امرأته، فقد جعلوها امرأة من "جرهم"، وما أوردوه عنه من إنه هاجر إلى مكة، وأنه عاش، هناك، وتعلم العربية فيها، وقبر في "الحجر" عند قبر أمه "هاجر"، وأمور أخرى صغيرة تختلف باختلاف الروايات.
وقد جعلت التوراة ل "إسماعيل ولدا، عدتهم اثنا عشر ولدا، هم: نبايوت بكر إسماعيل، و قيدار، و أدبئيل، ومبسام، ومشماع، ودومة، ومسا، وحدار، وتيما، ويطور، ونافيش، وقدمة. ذكرتهم على حسب مواليدهم، كما نص على ذلك فيها. وهو عدد يظهر إنه من وضع كتاب الأسفار و ترتيبهم. أمهم امرأة مصرية، وهي كناية عن اتصال الإسماعيليين بالمصريين، وقد أخذ أهل الأخبار هذه الأسماء، وغيروا في نطقها بعض التغيير، فصيروها: نابت و قبذر، واذبل، و مبشا، و مسمعا، ودما، و دما، وأذر، و طيما، ويطور، ونبش، وقيذما، وما شاكل ذلك. وقد نص الطبري على اختلاف أهل الأخبار في ضبط هذه الأسماء. ويعود هذا الاختلاف على ما يظهر إلى اختلاف المورد الذي أخذ منه أهل الأخبار.

(1/443)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد زعم أهل الأخبار أن إسماعيل تزوج من جرهم، وأن اسم زوجه "رعلة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي"، أو ما شاكل ذلك من أسماء، وأنها ولدت له اثني عشر رجلا، هم: نابت وكان أكبرهم، وقيذر، و أذبل، و مبشا، و مسمعا، و ماشي، و دما، و إذر، و طيما، و يطور، ونبش، وقيذما. وأكثر هذه الأسماء ورودا وتكرارا في الكتب العربية، نابت وقيذر.
ونرى من عدد هؤلاء الأولاد ومن أسمائهم، أن رواتها أخذوا أولئك الأولاد من التوراة. أخذوا العدد وأخذوا الأسماء، ولكنهم حرفوا وصحفوا فيها،ولا ندري أكان هذا التحريف قد وقع من الأخباريين أنفسهم، أجروه تعمدا ليسهل النطق بها في العربي ة، أم وقع من الرواة الإسرائيليين أو النصارى الذين رجع أهل الأخبار إليهم، فأخذوا منهم تلك الأسماء، أو إنه مجرد تحريف وتصحيف، وقع من الجانبين، فظهر على هذا الشكل.
أما امرأة "إسماعيل ام أولاده، فإنها ليست جرهمية عربية في التوراة، و إنما هي امرأة مصرية كما ذكرت. لم تذكر التوراة اسمها. ويذكر أهل الأخبار إن اسماعيل كان قد تزوج بامرأة أخرى من جرهم قبل "رعلة بن مضاض ابن عمرو الجرهمي"، أو "السيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي"، كما تعرف في روايات أخرى، إلا إنه طلقها بأمر أبيه، لما جاء إلى مكة زائرا، فلما جاء للمرة الثانية ورأى زوجته الثانية رضي عنها، وأمر ابنه إسماعيل بإبقائها، فبقيت، ومنها كان نسله المذكورين.
وقد نص "الطبري" على أن العرب هم من نابت وقيدر، ولم يذكر شيئا عن بقية الأولاد. والظاهر إن إهمالهم هذا الإهمال يعود إلى عدم وقوف الموارد التي أمدت الأخباريين على شيء عنها، وعدم تمكنهم من تعيينها وتثبيت مواضعها، فإن ذلك يحتاج إلى علم وإلى وقوف على ما جاء في كتب التفاسير والشروح والموارد اليهودية الأخرى عن هذه القبائل. والموارد المذكورة نفسها لا تعرف عن تلك القبائل وعن تلك البلاد شيئا كثيرا يزيد على ما جاء في التوراة.

(1/444)


--------------------------------------------------------------------------------

فإن كتبة الأسفار لم يهتموا إلا بما يتعلق بإسرائيل،0 أما ما وراء إسرائيل من شعوب وأرضين،ولا سيما الشعوب التي لا تخام الأرضين التي وجد فيها العبرانيون، فإنها لم تكن تعنى بها إلا بمقدار ما لها من صلة بإسرائيل.
وقد حددت التوراة المنازل التي أقام بها "الإسماعيليون"، فجعلتها من "حويلة" إلى "شور". فكل ما وقع بين المكانين، هو في أرض القبائل الإسماعيلية. وقد ذكرت قبل قليل أن آراء العلماء مختلفة في تعيين موقع أرض "حويلة"، وعندي إن هذا الموضع يجب ألا يكون بعيدا عن فلسطين، لأن "شاؤول" ضرب العماليق من "حويلة" إلى شور. ولا يعقل أن تكون هذه الأرضون بعيدة عن فلسطين، لأن "شاؤول" لم يكن قويا ذا جيوش جرارة حتى تضرب العماليق في منطقة نائية، بعيدة عن فلسطين.
وأما "شور"، فموضع يقع على الحدود الشمالية الشرقية لأرض مصر، في البرية المسماة. "برية تيه بني إسرائيل، وب "برية ايتام". ويرى بعض علماء التوراة إن "الطور" الحالية هي أرض "شور".
ويلاحظ إن الأرض التي زعم إن "شاؤول" قد ضرب بها العماليق، "وضرب شاؤول عماليق من حويلة حتى مجيئك إلى شور التي مقابل مصر"، هي الأرض ذاتها التي جعلتها التوراة أرضا لذرية "يشمعئيل" "إسماعيل". فيظهر من ذلك إن العماليق كانوا قد سكنوها أيضا. ولما كان العمالقة قد سكنوا ارضا، تقع بين كنعان ومصر في برية سيناء وتيه بني إسرائيل، وجب أن تكون تلك الأرض هي موطن الإسماعيليين.

(1/445)


--------------------------------------------------------------------------------

ويعترف العبرانيون بوجود صلات قربى لهم بالإسماعيليين. ويظهر أن الإسماعيلية عاشت زمنا طويلا في "طور سيناء". وفي جنوب فلسطين. عاشت عيشة أعرابية. ولهذا كان الإسماعيليون أهل وبر بالقياس إلى اليقطانيين المستقرين. وقد نظر العبرانيون نظرة عداء إلى الإسماعيليين، لأنهم كانوا يتحرشون بهم ويغيرون عليهم ويتعرضون بتجاراتهم. وقد ذكروا في أيام "داوود". وقد ورد في التوراة أن الله أوحى إلى "هاجر" يبشرها بأن نسل ابنها سيكثر وينمو حتى يكون أمة عظيمة، وهو كناية عن كثرة عدد أولئك الأعراب في أيام عن لهجاتهم. ويرى بعض العلماء أن لهجاتهم يجب أن تكون من اللهجات العربية الشمالية المتأثرة بلغة بني إرم. ولعدم وصول نص مدون بلهجة من لهجات هذه القبائل، لا نستطيع أن نبدي في الزمان الحاضر رأيا علميا في شكل هذه ا اللهجات.
و "نبايوت" هو بكر إسماعيل وأهم القبائل الإسماعيلية في التوراة، وقد أعطاه هذه المنزلة أهل الأخبار أيضا لأخذهم منها. ونحن لا نعرف الأسباب التي جعلت التوراة تعده أحسن أولاد "إسماعيل" أراعت في ذلك بعد القبيلة، أم راعت قربها من العبرانيين، أم ضخامتها وكثرة عددها بالقياس إلى القبائل الإسماعيلية الأخرى، أم أمورا أخرى جعلت العبرانيين ينظرون إليهم على أنهم أقدم تلك القبائل ? فليس في التوراة قواعد ثابتة تمشى عليها كتبة العهد القديم في تدوين الأنساب.
ويعرف "نبايوت" ب "نابت" و "نبت" عند الأخباريين. ومنه ومن قيدر، نشر الله العرب، على رأي أهل الأخبار. وقد جعل بعض الأخباربين نابتا والدا لأ "يشجب"، مع أن "يشجب" هو ابن "يعرب" عند الأكثرين.

(1/446)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ورد اسم "نبايوت" مع اسم "قيدار" في النصوص الآشورية: ويظهر أنهم كانوا أقوياء كثيري العدد. ويدل ورود اسمهم مع "قيدار" في التوراة في النصوص الآشورية على أنهم كانوا متجاورين. ولم تعين التوراة مواضع سكناهم، ولكن ورود اسمهم في رأس قائمة الإسماعيليين واقترانه بالأدوميين عن طريق المصاهرة ووقوف العبرانيين على أخبارهم، يدل كله على أنهم كانوا يقيمون في المناطق الواقعة في جنوب شرقي فلسطين وفي الأقسام الجنوبية الشرقية من بادية الشام.
وقد ذهب "كلاسر" إلى أن "نبايوت" "مشيخة" أو مملكة حكمت في "القصيم"، و قد كانت معاصرة لمملكة "عريبي"، وكانت لا تزال مستقلة في أيام الفرس.
وقد ظن بعض العلماء انهم "النبط"، ذهبوا إلى ذلك من تشابه "نبايوت" "Nabaiot" و "نبط" "Nabat"، غير إن هذا رأي يعارضه كثير من علماء التوراة.
وقد كان بين الأوس قوم يقال لهم "النبيت"، افتخر بهم الشاعر "قيس ابن الخطيم" من شعراء الجاهلية، وقد قتل قبل الهجرة، ومدحهم، ووصفهم بالشدة والبأس، كما كان في "إياد" قوم يقال لهم "النبيت".
وكان نبيت الأوس يتألفون من "ظفر" رهط الشاعر قيس بن الخطيم، ومن عبد الأشهل، وحارثة. وقد وقعت بينها حروب ومعارك، فانضمت حارثة إلى الخزرج، وتحالفت معها، ودخلت فيها. وأما ظفر وبنو عبد الأشهل، فقد اضطروا أخيرا إلى ترك ديارهم إلى مكة للتحالف معهم، أو مع اليمن، أو الغساسنة أو. المناذرة، لمساعدتهم على الخزرج، ولاسترداد ملكهم. والظاهر انهم كانوا قديما من القبائل القوية، وكانت في الحرار الشرقية، ثم أفل نجمها، ا وتشتت شملها بسبب الحروب التي وقعت بن بطونها. ولعلها من القبائل التي كانت تقيم في الشمال، في العربية الحجرية أو العربية الصحراوية، ثم اضطرت إلى الهجرة إلى الجنوب والاستيطان في مناطق الحرار. والظاهر إنها كانت على اتصال باليهود، وقد تحالف معها يهود خيبر.

(1/447)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ورد اميم "قيسار" في النصوص الأشورية، ورد على هذه الصورة: "قدرو" "Kidru" و "قدرو" "Kadru"، كما ورد في المؤلفات "الكلاسيكية"، فقال لهم "بلينيوس" "قدراي" "Pliny" "Cedrei"، وذكر انهم قبيلة عربية تقيم على مقربة من النبط. وقد حاربهم "آشور بنبال"، وكان ملك "قيدار" في ذلك العهد، ملك عرف باسم "أو أيطع" "U Aite'" ابن "خزاعيل" "Hazael"، وقد ذكرهم "آشور بنبال" مع "عريبي" "أريبي"، كما ذكرهم "حزقيال" مع العرب "العرب وكل رؤساء قيدار"، مما يدل على إن مواطن "قيدار" كانت تجاور العرب، ويراد بالعرب هنا، الأعراب. وهو ما يتفق مع ما جاء في نص "آشور بنبال" كل الاتفاق. وذكروا بعد "نبايوت" في التوراة، مما يدل على انهم كانوا يقطنون في جوارهم، كما ذكروا مع "ممالك حاصور" التي ضربها "نبوخذ نصر" "بختنصر". وقد نكل "بختنصر" بالقيداريين كذلك، وخرب بلادهم وأخذ غنائم كثيرة منهم، واستولى على ما وقع في أيدي جيشه من أموللهم وخيامهم وغنمهم وجمالهم وقد ورد وصف ذلك في سفر "أرمياء".

(1/448)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من التوراة أن القيداريين كانوا أعرابا يعيشون في الخيام، عيشة أهل البداوة، وقد وصفت خيامهم بأنها خيام سود "أنا سوداء وجميلة يا بنات اورشليم، كخيام قيدار، كشقق سليمان". والخيام السود هي بيوت أهل الوبر. وكانوا يعتنون بتربية المواشي، وقد اشتهروا بأن فيهم رعاة يملكون ماشية كثيرة. إلا أن منهم من كان متحضرا سكن القرى والمدن. ونجد "أشعياء" يتنبأ بإفناء "مجد قيدار. وبقية عدد قسي أبطال بني قيدار". مما يدل على إن القيداريين كانوا قوة وعددا ضخما، فيهم جماعة مهرت برمي السهام. ويتبين من "المزامير" انهم غزاة، وحياتهم حياة غزو، لا يعرفون السلام ولا الاستقرار، وقد ذكروا مع العرب في جملة من تاجر مع العبرانيين. تاجروا معهم "بالخرفان والكباش والأعتدة". وكانوا مثل قبائل العرب الأخرى على احتكاك بالعبرانيين، يتاجرون معهم تارة، ويخاصمونهم تارة أخرى، ويظهر انهم كانوا على عداء شديد معهم، وخصومة منتهرة في أيام "أشعياء" و "أرمياء"، كما يتبن ذلك من الهجوم الضيف الموجه إليهم في سفريهما ومن فرح العبرانيين من النكبات التي حلت بهم، ولا سيما انتقام "بختنصر" منهم. ويظهر إنه غزاهم، لأنهم كانوا يتحرشون بالبابليين في أثناء مرورهم بالبادية إلى فلسطين، مما حمل "بختنصر" على الانتقام منهم ومن قبائل أخرى كانت ضاربة في البادية وفي الطرق المؤدية إلى بلاد الشام.

(1/449)

admin
12-26-2010, 11:34 AM
وقد ذكر أهل الأخبار اسم رجل دعوه "قدار بن سالف"، زعموا إنه كان يدعى "احيمر ثمود"، وأنه هو الذي عقر الناقة، ناقة النبي صالح، وذكروا أن "قيدار بن إسماعيل هو أبو العرب، وزعم بعضهم إنه كان نبيا، وزعم إن له قبرا ومشهدا يزار قريبا السلطانية بالعجم، وأتي من ولده "حمل بن قيذار"، وله ابن - يقال له "سواري". وقد ذكر أهل الأخبار أن "كعب الأحبار"، قال: "قال الله لرومية: إني أقم بعزتي لأهبن سبيك لبني قاذر،أي بني إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، يريد العرب" و إذا صح أن هذا الكلام هو من كلام "كعب" حقا، فإنه يدل على تحريض "كعب" للمسلمين على اكتساح إمبراطورية الروم، وقد كان اليهود يكرهون الروم، لما أوقعوه بهم من ظلم، وأنه كان يعبر عن الحالة التي كانت بين الروم والعرب في ذلك الزمان في. وليس الكلام المذكور، كلام الله في التوراة و إنما هو كلام "كعب". ولكعب أمور عديدة من هذا القببل، إذ يضع كلاما يزعم إنه من كلام الله المذكور في الكتب المنزلة.
وأما "أدبئيل" "Adbeel"، فكناية عن قبيلة عربية أخرى من القبائل الإسماعيلية، يرى بعض علماء التوراة إنها عاشت في جنوب غربي البحر الميت. ويظن إنها قبيلة "ادب ايله" "Idiba'ila" "Didi'ila" "ادبئيله" "ادبعيله" "دبئيله" "وبعيلة" الذكورة في كتابة من كتابات الملك "تغلا تبلسر الثالث". وقد ذكر هذا الملك إنه عين نائعبا عنه، أو "منسوبا ساميا" "قيبو" "Kepu" على خمسة عشر موضعا، وكان اسم هذا المندوب "ادب ال" "أدب أبل" "أدبئيل" "Idibi'il"، وهو سيد قبيلة عرفت بهذا الاسم. والظاهر إنه فوض إليه أمر حماية الحدود والمحافظة عليها من الغزو. وتقع أرض هذه القبيلة على مقربة من الحدود المصرية وفي الجنوب من غزة. و كأنما هذه القبيلة لا تزال موجودة في أيام المؤرخ اليهودي "يوسف فلافيوس".

(1/450)


--------------------------------------------------------------------------------

ويلي "أدبئيل" "أدب ال" "ادب ايل" في تسلسل أولاد إسماعيل، مبسام "Mibsam"، و قد سمي في بعض الكتب العربية "ميشا"، ولا نعرف من أمر هذه القبيلة شيئا.
وأما "مشماع"، وقد سمي "منمى" و "منسى" و "مسمع" و "مشماعة" في بعض الكتب العربية، فلا نعرف من أمره شيئا. ويتصور بعض العلماء أن لهذا الاسم علاقة بقبيلة "بني مسماع" أو "جبل مسماع" "جبل مسمع" قرب تيماء.
ورأى "فورستر" أن "مشماع" هي قبيلة "Masmaos" التي ذكرها "يوسفوس"، على إنها من القبائل العربية التي كانت تعيش في أيامه. و يرى "فورسر" أيضا أن قبيلة "Masaemanes" التي ذكرها "بطلميوس" هي هذه القبيلة كذلك. وهذا الاسم قريب من اسم "ماء السماء".
و "دومة" هو "دوما" في بعض الكتب العربية، وهو كناية عن موضع "دومة الجندل"، وقد عرف ب "دومانا" "Domatha" عند "بلينيوس" و ب "Doumaetha" "Dumaetha" عند "بطلميوس"، و ب "Adumu" "ادومو" في الكتابات الآشورية، وهو كناية عن موضع وعن اسم قبيلة عربية. فقد ورد أن شعبا اسمه "Dumathii" كان يقدم قربانا، "ولدا" في كل سنة إلى آلهته، ويسنن ذلك القربان في معبد الإله. ويراد به شعب "دومة الجندل".
وقد ورد اسم "مسا" "Massa" في النصوص الآشورية مقرونا ب "تيما" "تيماء".ويرى بعض العلماء إنه كناية عن قبيلة كانت منازلها في المشرق والجنوب الشرقي من "موآب". ويرى بعض آخر أن مواطنها في الأرضين الجنوبية من وادي السرحان، وفي غرب منازل "عريبي" "اريبي".
وجاء في رسالة أرسلها أحد "المقيمين" الآشوريين إلى ملك آشوري لم يرد أسمه في الكتابة أن "ملك قمرو" "مالك قمرو" اين "عميطع" سيد قبيلة "مسئا" "Mas'a" غزا قبيلة "Naba'ti"، وقتل عددا من أتباعها. الظاهر أن هذه القبيلة، هي القبيلة المذكورة في التوراة.

(1/451)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما "حدد" أو "حدار"، كما دون في سفر التكوين، فإنه "أدد" عند بعض أهل الأخبار. وقد تكون لاسمه علاقة باسم الإله "حدد" أو "أدد" المعبود الشهير الذي تعبد له الآراميون وقبائل عربية كثيرة، وكذلك الاشوريون و البابليون. ولا نعرف من أمر قبيلة "حدد" هذه شيئا يذكر في الزمن الحاضر.
وأما "تيما"، فإنه "طما" في الكتب العربية، وهو كناية عن "تيماء"، وسوف أتحدث عنها. وأما "يطور"، وهو "وطور" وما أشبه ذلك في الكتب العربية، فقبيلة عرفت ب "Ituraea" في المؤلفات اليونانية واللاتينية. وقد حاربت العبرانيين، وكانت تقيم شرقي نهر الأردن في أيام الملك "شاؤول". ويظهر إنها هاجرت نحو الشمال، فسكنت في الأقسام الجنوبية من لبنان وفي الحافات الشرقية من جبال لبنان. وقد أجبر الملك اليهودي "ارسطوبولس الأول" "Aristobulus I" "107 قبل الميلاد" قسما من اليطوريين على التهود. وكان قد استولى على أرضهم. وكان لهم ملوك. وفي أيام ملكهم "سوهومس" "سوحومس" "سوخومس" "Sohumus" أدخلت أرضهم في مقاطعة "سورية" وذلك في سنة "50" ب. م، وقد كابدت دمشق مصائب شديدة من غزوات اليطوريين.

(1/452)


--------------------------------------------------------------------------------

وكانت مواطن اليطوريين في ما بين "اللجاة" "Trachonitis" و"الجليل"، وعرفت ب "جدورا"، وب "ايطورية". وقد عرفوا بمهارتهم في الرماية. وقد ذكرهم "سترابو". والظاهر أن مواطنهم الأصلية كانت في البادية،ومنها جاؤوا إلى "ايطورية" ثم ذهبوا إلى الأقسام الجنوبية من لبنان وإلى سهل البقاع. وقد ضيق عليهم الرومان في حوالي الميلاد وأجروا بعضهم على الرجوع إلى البادية ويظهر أن سبب ذلك هو عدم خضوعهم للسلطات وغاراتهم على الحضر. وقد قتل "مارقوس أنطونيوس" "Marcus Antonius"، ملك اليطوريين لمن في سنة "34" ق. م، وكان يدعى "ليسانياس" "Lysannias"، وتوفى "زنودوروس" "Zenodorus" الذي خلفه في سنة "20" ق. م، واستولى "هيرود الكبير" "Herodes the Great" على قسم من أرض اليطوريين. ولما قسمت مملكة "هيرود"، صارت هذه الأرضون من نصيب "فيليب".
.وفي أيام "لوقا"، كانت "Ituraea" منطقة، تقع على ما يظهر في شمال شرقي "بحر الجليل". ويخترق الطريق الروماني الذي عمله الرومان من "دمشق" إلى "طبرية" "طبريا" هذه المنطقة.
وقد كون اليطوريون لهم إمارة أو مملكة في "البقاع"، كان حكامها رجال دين أي كهانا وملوكا في آن واحد. وقد عرفنا منهم رجلا اسمه "Mennaios" وهو اسم قريب من الأسماء العربية، فلعله "معن" 0 أما ابنه فقد سمى نفسه باسم يوناني، هو "بطلميوس" "Ptolemaios". وكان هذا الملك، أي "بطلميوس"، ولدان، هما: "Lysanias"، وقد تولى الملك من بعد والده و "فيليب" " "Philippion". وأما "زينودور" "Zenodor"، فقد خلف "Lysanias" وأما "Sohaimos" "Sohumus"، فإنه اسم قريب من "سحيم" ومن "سهيم" و "سخيم" و "سهم"، وأمثال ذلك، وهي أسماء عربية معروفة.

(1/453)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر أن ارتحال "اليطوريين" من الأقسام الشرقية من الأردن نحو الشمال، نحو دمشق، ثم سهل البقاع حتى ساحل البحر الأبيض، كان قبل القرن الثاني قبل الميلاد. ولعلهم هم العرب الذين ذكر أن الاسكندر الكبير كان قد حاربهم بعد حصاره لمدينة "صور" "Tyros".
وقد كون الرومان فرقا محاربة من "اليطوريين"،اشتركت معهم في الحروب. وقد امتازت بعض هذه الفرق في حذقها بالرمي. وكون "مارك أنتوني" "Marcus Antonius" حرسا خاصا منهم، أشير إليهم في الموارد اليونانية و اللاتينية.
و "نافش" "Naphish"، هو "نفيس" عند الأخباربين. ويرى بعض علماء التوراة احتمال كون "بنو نفسيم" "Naphisim" المذكورين في سفر "عزرا" هم "نافش" هؤلاء.
وأما "قدمة"، فهو "قيدمان" و "قيذما" وما شاكل ذلك في المؤلفات العربي ة، ولا نعرف من أمرهم شيئا يذكر في الزمان الحاضر، ولعلهم "القدموينين" الذين أدخلت أرضهم في جملة "الأرض الموعودة" المذكورة في التوراة. وكانت مواطنهم عند "البحر الميت". ومن العلماء من يظن أن لهم صلة ب "بني قديم" "Bene Kedem"، أي "أبناء الشرق". وذهب "فورستر"، إلى احتمال كون "قدمة" موضع "رأس كاظمة" على الخليج. ولما كانت "قدمة" من القبائل الإسماعيلية، وقد ذكرت مع القبائل الإسماعيلية في التوراة، ومواطنها كلها لا تبعد كثيرا عن فلسطين، فإني أرى أن مواطن هذه القبيلة يجب أن تكون أيضا في هذه المواضع،أي في مكان لا يبعد كثيرا عن فلسطين.
والغالب على أبناء إسماعيل البداوة، أي حياة التنقل والغزو والرماية، لذلك كانت ملاحظة التوراة عن إسماعيل من إنه سينشأ راميا، ملاحظة حسنة، تدل على تبصر بأمور "الإشماعيليين" الذين كانوا يقومون بالغزو ويرمون بالسهام.

(1/454)


--------------------------------------------------------------------------------

أما المجموعة الثالثة من مجموعات أنساب العرب المذكورة في التوراة، فإنها مجموعة قبائل نسبت إلى "قطورة" زوج "إبراهيم. وقد ذكرت التوراة إنها ولدت له "زمران، ويقشان، ومدان، ومديان، ويشباق، وشوحا". وولد يقشان: في، وددان. وكان بنو ددان: أشوريم، ولطوشيم، ولأميم. وبنو مديان: عيقة، وعفر، وحنوك، وأبيداع، والدعة، و يبلغ عدد القبائل المنحدرة من " قطورة" ست عشرة قبيلة.
ف "قطورة" إذن هي مجموعة قبائل مثل الإسماعيليين واليقطانيين، وهي تتفق مع القبائل الإسماعيلية في أفها تنحدر من صلب إبراهيم، وهي من هذه الناحية أقدم عهدا مهن القبائل الإسماعيلية، لأن والد هذه القبائل هو إبراهيم. أما والد القبائل الإسماعيلية، فهو إسماعيل، وهو ابن إبراهيم.
والأسماء المذكورة كناية عن قبائل عربية، ألفت مجموعة خاصة، كان حلفا ، على ما يظهر تألف من قبائل رجعت نسبها إلى أمل واحد، هو "قطورة". انتشرت قبائله في الأرضين الواقعة بين القبائل العربية الإشماعيلية وبين القبائل اليقطانية. وتشير قصة زواج "إبراهيم بقطورة إلى صلة القطوريين بالإشماعيليين، والإشماعيليون من صلب إسماعيل بن إبراهيم، ويؤخذ على إنه كناية عن اختلاط قبائل المجموعتين، أي الحلفين بتعبير أصح. ووجود أسماء بعض قبائل يقطانية وبعض قبائل كوشية في قائمة أسماء أبناء قطورة، هو أيضا دليل على وجود صلات بين هذه الاحلاف الثلاثة وعلى تداخل القبائل واختلاطها بعضها ببعض.

(1/455)


--------------------------------------------------------------------------------

أما أولاد "قطورا" عند أهل الأخبار، فهم: يقسان، وزمران، ومديان، ويسبق، وسوح، وبسر على رواية، ومدن ومدين ويقسان وزمران ويسبق وسوح على رواية أخرى. ومدن ومدين ويقشان، وزمران، وأشبق، وشوخ. وقد أخذت هذه الأسماء كما نرى من التوراة، إلا إن من أخذها حرف فيها بعض التحريف، وخالف الترتيب الموجود للأسماء في التوراة فقدم وأخر، وأضاف أسماء جديدا هو "بسر" على الرواية الأولى، وضعه فى مكان "مدان"، إلا أن الطابع التوراتي ظل بارزا واضحا عليها. فلا حاجة بنا إلى إرجاع كل اسم منها إلى الاسم المقابل له في التوراة.
وزوج أهل الأخبار "يقشان" "يقسان"، من امرأة سموها "رعوة بنت زمر بن يقطن بن لوذان بن جرهم بن يقطن بن عابر"، و أولدوا لها ولدا. دعوه "البربر"، قالوا عنه إنه جد البربر. وهو زواج لا تعرف عنه التوراة شيئا، وأما الزوج "رعوة بنت زمر بن يقطن"، فليس لها ذكر فيها أيضا، وأما نسبها، فهو نسب اخترعه من اخترعها، وليس له لذلك ذكر في التوراة. وأما "بربر" ابن "رعوة" فهو من صنع صانع أخبار أمه. وليس له ذكر ما في التوراة.
ولفظة "بربر" في الكتاب المقدس لفظة تعني "الغريب"، وهي من أصل يوناني، وقد أطلقها اليونان على الغرباء الناطقين بلغة أخرى غير اللغة اليونانية. ولم تستعمل علما على جنس معين له جد وآب ونسل. ولذلك، فإن ربط نسب "البربر"، وهم سكان المناطق المعروفة من شمال إفريقية به "رعوة" و بقحطان، هو من صنع "أهل الأخبار"، وقد وقع في الإسلام بالطبع، وبعد الفتح الإسلامي لتلك المناطق، لغايات سياسية، على نحو ما حدث من ربط نسب الفرس واليونان والأكراد بالعرب.

(1/456)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم يشر الأخباريون وأهل الأنساب إلى "القطوريين" كطبقة خاصة من العرب. وقد أشار بعضهم إلى قبيلة عربية عرفت ب "قطورة"، ذكروا إنها عاشت مع "جرهم" بمكة. ولعل لتشتت شمل القبائل القطورية ودخولها في القبائل الأخرى: قحطانية وعدنانية، وفي جهل أهل الكتاب في ذلك العهد، أي أيام لجوء أهل الأخبار اليهم يسألونهم عن الأنساب، دخلا في هذا الإهمال.
ويلاحظ أن بين أسماء قبائل "قطورة" أسماء وردت في جدول أنساب قبائل "يقطان"، وفي جدول أسماء أبناء "كوش". ويفسر بعض العلماء ذلك باتصال القبائل القطورية بالقبائل اليقطانية وبالقبائل الكوشية وباختلاطها بها وتلاحمها معها، ونزولها بينها، فعد كتبة "أسفار التكوين" ذلك نسبا، فأدخلوا القسم الذي دخل في اليقطانيين من اليقطانيين، والقسم الذي نزل بين الكوشيين من الكوشيين، ومن ثم صار ذلك نسبا ورابطة دم.
وزوج إبراهيم "قطورة"،معروفة ضد أهل الأخبار. وقد دعوها ب "قطوراء" وب "قطورا" وب "قنطوراء". ومعنى اللفظة في اللغة العبرانية "البخور". وقد تزوجها إبراهيم بعد وفاة "سارة". ولكنهم كعادتهم في معظم الأخبار التي أخذوها من أهل الكتاب، خلطوا في أخبارها وحرفوا فيها، فجعلوا لها نسبا، ولم يرد له ذكر في اتوراة، اختلفوا فيه أيضا، فصار "يقطن" والد "قطورة" في خبر، وصار "يكفور" أو "مفطور" هو والدها في خبر آخر، وصار "افراهم بن أرغو بن فالغ" هو والدها في خبر آخر أيضا. وجعلت عربية من العرب: تتكلم بهذا اللسان العربي المعروف. وقيل إن اسمها "انموتا" أو "انمتلى"، وصيرت "قطورا بنت يقطن"، ولكنهم أخرجوها أحيانا من العرب، وأضافوها إلى الكنعانيين، كما جعلوها "قطورا بنت مقطور" من العرب العاربة.

(1/457)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم يفطن أهل الأحبار إلى خلطهم في هذا النسب وإلى سكوت التوراة عن نسبها، ولا أدري من أين جاؤوا ب "يكفور"، أو "مفطور"، وكيف يجوز أن تكون "فطوراء" من نسل "افراهم بن أرغو بن فالخ". ف "افراهم"، هو "إبراهيم"، وهو زوج "قطورة" لا والدها أو جدها أو جد جدها أو ما شاكل ذلك. ثم إن نسب "إبراهيم" على هذه الصورة هو نسب مغلوط، يدل على جهل، فإنه "إبراهيم" وهو "ابرام" في التوراة، هو ابن "تارح" و "تارح" هو ابن "ناحور" و "ناحور" ابن "سروج" وهذا هو ابن "رعو" الذي صار "ارغو" عند الإسلاميين. و "رعو" هو ابن "فالج" الذي صير "فالغ" عند أهل الأخبار. فترى من ذلك كيف خلط أهل الأخبار، وكيف كان علمهم بالقصص المأخوذ من التوراة. وكل هذا الجهل ناشئ من اعتمادهم على الأخذ شفاها من أهل الكتاب، ومن عدم رجوعهم إلى نص التوراة.
ويلاحظ إن أكثر الذين قالوا في "قطورة" "قطوراء" و "قطورا"، ذكروا أولادها على نحو ما ورد في التوراة. أما الذين قالوا "قنطوراء"، فقد نسب أكثرهم إليها الترك والصين، وأضاف بعضهم إليها السودان في بعض الأحيان. وهو نسب تكرم به عليها أهل الأنساب والأخبار، فليس في التوراة ذكر لهؤلاء الأولاد النجباء. ولعل إلحاق هؤلاء ب "قنطوراء" إنما كان لغرض سياسي، هو إدماج نسب الترك والصين بالعرب، ترضية لهم، كما فعلوا بالنسبة إلى شعوب أعجمية أخرى. ويرد اسم "بنو قنطوراء" في الملاحم والتنبؤات، فرووا أحاديث تدل على شعور الخلافة الإسلامية بالخطر القادم من الترك والصين، وبأن النسب لم ينفع شيئا معهم، إذ ورد: "يوشك بنو قنطوراء أن يخرجوكم من أرض البصرة"، وورد: "إذا كان آخر الزمان جاء بنو قنطوراء".

(1/458)


--------------------------------------------------------------------------------

وزعم أهل الأخبار إن إبراهيم تزوج من زوج أخرى، كانت من العرب أيضا، أسموها "حجور بنت أرهير"، ولدت له خمسة بنين: "كيسان، وشورخ، وأميم، ولوطان، ونافس". وليس في التوراة ذكر هذه الزوج العربية، فليس لها نسل فيها بالطبع. فالأولاد هم من نسل مخيلة أصحاب الأخبار، جمعوها من أسماء توراتية مرت وتمر علينا في مواضع من هذا الكتاب، وضبطوها بعدد، لتظهر بمظهر خبر صحيح مضبوط.
ومن الأخباريين من أحجم عن تعيين هوية زوج إبراهيم، فلم يذكروا شيئا عن عروبتها أو عن أبيها وجدها، بل اكتفوا بذكر اسمها وحده، فدعوه "حجوني"، وقالوا: إنها ولدت له سبعة نفر، هم: نافس، ومدين، وكيشان، وشروخ، وأميم، و لوط، ويقشان.
ومعارفنا بالقبائل القطورية لا تختلف عن معارفنا بالقبائل الإسماعيلية واليقطانية من حيث الضآلة والضحالة. فهي قد لا تزيد في بعض الأحيان على الاسم، ذلك لأن التوراة لم تذكر شيئا عنها، ولأن المفسرين والأحبار الذين شرحوا التوراة، لم يذكروا شيئا عن تلك القبائل، إما جهلا بها، وإما لعدم وجود ميل بين العبرانيين إلى الوقوف على أحوال تلك القبائل التى ذكرت في التوراة لمناسبة من المناسبات. ولهذا ضحل علمنا بها أيضا. وليس أمامنا غير انتظار الحظ، فقد يكتشف العلماء موارد جديدة قد تساعدنا في الوقوف على أولئك ا لأقوام.
فزمران مثلا، لا نعرف من أمره شيئا يذكر. وقد ورد لدى "بلينيوس" اسم قبيلة عربية دعاها "Zamarni" وهذا الاسم قريب من "زمران"، لهذا رأى بعض العلماء احتمال وجود صلة باسم هذه القبيلة القطورية، كما ورد اسم موضع يقال له "زبرم" "Zabram" يقع غرب مكة، يرى بعض الباحثين احتال وجود صلة له بتلك القبيلة. غير أن من الصعب الحكم أن أحد هذين الموضعين هو "زمران".

(1/459)


--------------------------------------------------------------------------------

وأولد أهل الأخبار ل "زمران" ولدا سموه: "المزامير"، وهو في نظرهم جد "المزامير الذين لا يعلمون". وليس في التوراة ولد ل "زمران" اسمه "المزامير" صفتهم أنهم لا يعمون. وليس للفظة أية صلة ب "المزامير" التي هي أغان أو موشحات ترتل على صوت المزمار لتمجيد الله. وتقسيم إلى خمسة كتب، يختم كل منها بتسبيحة، وتكرر لفظة "آمين" مرتين، أضافها جامعو المزامير لا مؤلفوها. وهي من لفظة "مزمور" "Mizmor" في العبرانية "Mazmor" في السريانية و "Mazmur" في الاثيوبية، وتقابل "الزبور" و "الزبر" في القرآن الكريم.
وقد ذكر "ابن النديم" على لسان "أحمد بن عبد الله بن سلام" من مترجمي التوراة والإنجيل، أن المزامير هي "الزبور"، وهي خمسون ومئة مزمور. وهو عدد صحيح مضبوط، يدل على علمه بعدد المزامير، لأن ما ذكره هو، عددها الصحيح . والعلماء مختلفون فيما بينهم في المعنى "الاثنولوجي" لكلمة "زمران". ويرى بعضهم أنها من "زمر" ومعناها "تيس جبلي"، ويقولون إن بني "زمران" اتخذوا ذلك الحيوان "طوطما" لهم، ولذلك عرفوا به.
أما "يقشان"، فرى "كلاسر" إنه موضع "وقشة"، وهو مكان من السراة في عسير. ورأى "أوسيندر" إنه "يقش" في اليمن. وذكر "الهمداني" اسم قبيلة سماها "بني وقشة" من قبائل "الجنب". وذهب فريق من العلماء إلى أن اللفظة هي تحريف للفظة "يقطان".
قد ذكر أهل الأخبار أن "بني يقسان"، أي "بني يقشان" لحقوا بمكة فسكنوا بها. ولكنهم لم يشيروا إلى بنية على نحو ما جاء في التوراة.
وأما "مديان" "مدان" "Midian "، فإنه "مدين" في الموارد العربية.

(1/460)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ورد ذكر "مدين" و "أصحاب مدين" في مواضع من القرآن. ورد على سببل العظة والتذكير بمصير يشبه مصير "مدين"، وأشار إلى نبيهم "شعيب": "وإلى مدين أخاهم شعيبا". وورد اسمهم في سورة "التوبة" مع قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم، وورد مثل ذلك في سورة "الحج". ومما جاء في القرآن على لسان شعيب، قوله يخاطب أهل مدين: "يا قوم، اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، قد جاءتكم بينة من ربكم، فأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين". وورد في سورة هود ما يشير أيضا إلى أنهم كانوا ينقصون المكيال والميزان، فاستحقوا العقاب والعذاب، وذلك لترهيب أهل مكة، وكانوا تجارا، من نقص المكيال والميزان، لئلا يصيبهم ما أصاب قوم شعيب حيث أصابهم الهلاك.
ويظهر من ذكر "الرجفة" أن حدثا أرضيا، هزة أو هياج حرة، أصابهم، فأثر فيهم. وهذا ممكن جدا، لأن أرض مدين من مناطق الزلازل و ا لحرار.

(1/461)

admin
12-26-2010, 11:34 AM
ولورود اسم "مدين" وقصة "شعيب" في القرآن الكريم، عني المفسرون وأصحاب قصص الأنبياء بجمع ما ورد عن أهل مدين وأخيهم شعيب من أخبار، غير انهم لم يجدوا في ذاكرة من تقدمهم شيئا، فاستعانوا بما ورد عند يهود. وقد أضاف الأخباريون إلى ذلك شيئا من القصص الشعبي، وشيئا ابتكروه، فأصبح "شعيب" "شعيب بن نويت بن رعويل بن مر بن عنقاء بن مدين ابن إبراهيم". وقد ذكر الطبري وغيره من المفسرين والمؤرخين إن اسم "شعيب" "يثرون" "يثرون" "يثرو"، وقد أخذوا ذلك من أهل الكتاب ولا شك، ففي التوراة إن "موسى" نزل على أهل "مدين"، بعد هربه من "فرعون"، وتزوج ابنة كاهن "مدين" "مديان" "يثرون"، واسمها "صفورة"، فولدت له ولدا دعاه "جرشوم" "كرشوم". فرأى المفسرون والأخباريون إن شعيبا المذكور في القرآن الكريم هو "يثرون" التوراة. ويرى "بول" "Buhl" إن ذلك لم يكن معروفا في صدر الإسلام و إنما حدث هذا بعد هذا العهد.
وقد وضع بعض أهل الأخبار نسبا عجيبا مضحكا ل "شعيب"، فجعلوه "يثرون بن ضيعون بن عنقا بن نابت بن إبراهيم. وتعقل آخرون فقالوا: إنه "شعيب بن ميكيل" من ولد مدين. وقيل غير ذلك. كل هذا من وضع أهل الأخبار، وأهل الكتاب الذين أمدوهم يمثل هذه الأنساب والقصص، ولم يتورعوا من ادعاء انهم وجدوا ذلك في كتب الله.

(1/462)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عرف "يثرو" "Jethro"Jether"" ب "رعوئيل" "Reuel" أيضا في التوراة. كما عرف ب "حوباب بن رعوئيل" في موضع أخر. ويظهر إن خطا قد وقع في كتابة الاسم الثاني أو الأول، ولهذا صار "رعوئيل" في سفر الخروج و "حوباب بن رعوئيل" في سفر العدد. ونرى إن الاسم الذي ذكره "المسعودي" وغيره من أهل الأخبار ل "شعيب" الذي هو "يثرو" يختلف مع اسمه المذكور في التوراة. ويرى بعض الباحثين إن كلمة "يثرو" ليست اسم علم له، و إنما هي كناية عن وظيفته، وهي الكهانة، فقد كان كاهنا في قومه،والكاهن هو "يثرو" في بعض اللغات العربية الجنوبية، وأما اسمه، فهو "رعوئيل" أو "حوباب بن رعوئيل".
وقد جعل الناس لشعيب قبرا زعموا إنه على مقربة من "حطين" في موضع سماه "ياقوت" "خيارة". وقال له "بول Buhl " "خربة مدين.
وقد ورد خبر "مدين" في غزوة "زيد بن حارثة" لجذام في "حسمى". ويظهر من بعض الموارد الإسلامية أن "مدين" كانت في صدر الإسلام من أرض "جذام"، وأنها كانت إذ ذاك أكبر من "تبوك". وبها بئر زعم إنها البئر التي استقى منها موسى.
ويظهر من شعر "كثير عزة" إنه كان في أيامه بمدين جماعة من الرهبان، يتعبدون، ويبكون من حذر العقاب. وورد اسم بطن يقال له "بنو المدان"، كما ورد ذكر "مدان" في غزوة "زيد بن حارثة" بني جذام، ويقال له "فيفاء مدان". "والمدان" اسم صنم أيضا، وبه عرف "بنو عبد المدان".
وفي التوراة إن "المديانيين" كانوا برفقة "الاشماعيليين" لما بيع "يوسف". وأن موسى نزل عندهم وتزوج فيهم: أخذ ابنة "يثرون" كاهن "مديان" "مدين". وفي موضع آخر أن "يثرون" من "بني القيني" "Kenite" ويظن أن "بني القيني" هم فرع من فروع "مديان".

(1/463)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد اتحد "المديانيون" مع "مؤاب" ضد إسرائيل. وفي أيام "جدعون""Gideon" كان المديانيون قد ضايقوا العبرانيين مضايقة شديدة، وكانوا قد اتفقوا مع العمالقة و "بني المشرق"، فتمكن "جدعون" من اخراجهم. وقد ورد في سفر "القضاة" اسم أميرين من أمراء المديانيين، هما "غراب" "Oreb"، و "ذئب" "Zeeb" وورد في الإصحاح الثامن من القضاة اسم ملكين أو "شيخين" من "مديان" "مدين" هما: "زبح" "Zebah" و "صلمناع " "Zalmuna". والظاهر إنه لم يعد للمديانيين شأن منذ هذا العهد، فلم يرد عنهم شيء يذكر، ولعلهم ذابوا في القبائل العربية الأخرى. ويفهم مما جاء في "القضاة" أنهم كانوا فرعا من "الإشماعيليين". والذي يفهم من مواضع متعددة من أسفار التوراة أن مواطن "المديانيين" كانت تقع شرق العبرانيين. والظاهر أنهم توغلوا في المناطق الجنوبية لفلسطين، واتخذوا لهم هناك مواطن جديدة، عاشوا فيها أمدا طويلا بعد هذا التأريخ حيث يرد ذكرهم في الأخبار المتأخرة. وقد ذكر "بطلميوس" موضعا يقال له "مودينا" "Modiana" على ساحل البحر الأحمر، يرى العلماء إنه موضع "مدين"، وهو ينطبق على موضع أرض مدين المعروفة في الكتب العربية.
وذكر "يوسفوس فلافيوس" المؤرخ اليهودي المعروف مدينة سماها "Madiana" وقال إن موسى زارها. وذكر "بطلميوس" مدينة أخرى سماها "Madiama" ، وقد أشار المؤرخ "أويسبيوس" "Eusebius" إلى مدينة دعاها "مديم" "Madiam"، قال إنها سميت بهذا الاسم نسبة إلى ولد من أولاد "قطورة" زوج إبراهيم، وهي تقع في بادية ال "سرسين" "Saracens" إلى شرق البحر الأحمر. ويرى "موسل" أن "Madiama" أو"Madiam" هي "مدين".

(1/464)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من التوراة أن "المدينيين " قد غيروا مواضعهم مرارا، بدليل مايرد فيها من اختلاطهم ب "بني قديم" والعمالقة والكوشيين و الإسماعيليين. ويظهر أنهم استقروا بعد ضعفهم في المنطقة التي ذكر "يوسفوس" وجود مدينة"Madiana" فيها، أي في القرون الأخيرة قبل الميلاد. ويرى "موسل" إنها تقع في جنوب "وادي العربة" وإلى جنوب وجنوب شرقي العقبة.
ومن الصعب تعيين "بشاق". فقد رأى بعضهم إنه موضع "يسبق" وهو مكان في شمال سورية، ذكر في كتابات "شلمنصر" الثاني. وقد ورد في خبر فتوحات "تغلا تبليزر" الأول اسم مكان يقال له "سوخ" "Sukh" أو "شوح" أو "شوخ" "Schukh"، ويقع شرق "حلب"، وهو لا يبعد كثيرا عن أرض "يسبق" "Jasbuk". واسم "سوخ" قريب جدا من "شوح" الذي يلي اسم "يشباق" في التوراة، لذا رأى بعض العلماء إنه هو الموضع المقصود، وأن "يشباق" كناية عن هذا المكان، عن موضع "يسبق" الذي لا يبعد كثبيرا عن "شوح". ورأى بعض الباحثين إنه "الشبلك"، وهو موضع يقع على طريق "السكة الرومانية" الموصلة إلى العقبة.
وأما "شوحا"، فذهب بعض الباحثين إلى إنه موضع "سوخ" "سوخو" "Sukh" ""Suchu، المذكور في نص "أشور بنبال" "865" ق. م. ويقع على الجانب الأيمن من نهر الفرات. وقد ذكرت أن نفرا من الباحثين رأوا + إنه مكان "سوخ" المذكور في نص "تغلا تبليزر" الأول. وقد نسب أحد أصحاب "أيوب" الثلاثة، وهو "بلدد" إلى "شوح" فعرف ب "الشوحي".
ويظن كثير من العلماء إنه من قبيلة أو من أرض عرفت بي "شوح"، وأن هذه القبيلة أو الأرض هي "شوحا".

(1/465)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد نسبت التوراة ولدين إلى يقشان هما: "شبا"، و "ددان". ويحب أن تكون أرض "شبا" هنا في جوار ارض "ددان"، وذلك لورود "ددان" مباشرة بعد "شبا"، أي على مقربة من موضع "ديدان" الذي هو "العلا"في الحجاز. وأهل "شبا" المذكورون هنا، هم جالية سبئية من جاليات سبئيةعديدة انتشرت بين اليمن وفلسطين، وفي السواحل الإفريقية المقابلة لليمن،كما سأتحدث عن ذلك.
ولم تهب التوراة لشبا أولادا، بل تركته عقيما. إنما وهبت شقيقه ددان عددا من الأولاد ونسلا، هم "أشوريم" و "لطوشيم" و "لأميم" 0 أما"أشوريم "Ashurim" "Asshurim"، فإنهم قبيلة عربية من قبائل "قطورة" بإجماع علماء التوراة، ولا صلة لهم ب "آشور"، أي الآشوريين. وقد ورد في "التركوم" "Targum" أن "آشوريم" بمعنى سكان مستوطنة أو معسكر.
مما يدل على إن هؤلاء العرب كانوا مستقرين مقيمين في مستوطنات، ولم يكونوا أعرابا.
وقد ورد اسم "آشور" في نصوص معينة مقرونا باسم موضع "عبر نهران"،وتقع هذه المنطقة من "طور سيناء" إلى "بئر السبع" "Beersheba"و "حبرون" و تحاذي "مصرى" في جزيرة العرب على رأي "ونكلر".
ولا نعرف شيئا عن "لطوشيم" و "لاميم"، ويظن "كلاسر" أنهم من سكان "طور سيناء".
وأما "مديان" "مدين"، فكان له من الأولاد: عيفة، وحفر، وحنوك، وابيداع، والدعة. فهم اذن قبائل من صلب "مديان" أي مدين.
أما "عيفة"، فقد ورد ذكره في التوراة على إنه اسم قبيلة كانت تحمل الذهب واللبان على الجمال من "شبا" وتبيع تجارتها في فلسطين.
ذكرت مع "مدين". ويظهر إن "بني عيفة" وأهل مدين، كانوا وسطاء أو تجارا يذهبون إلى "شبا"، فيحملون الذهب واللبان، لبيع هذه السلع الغالية النفيسة في فلسطين. ولا نعرف من أمر هذه القبيلة في الزمن الحاضر شيئا يذكر.

(1/466)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما "عفر"، فاميم قبيلة يظن بعض العلماء إنها "بنو غفار"من "كنانة"، أو موضع "يعفر" على مقربة من "الحكية" بين تهامة وأبان. ورأى "كلاسر" إنه موضع "Apparu" الذي ورد في كتابة تعود إلى "آشور بنبال".
وهناك مواضع أخرى اسمها قريب من اسم "عفر"، فعلى مقربة من "مكة" موضع يعرف ب "عفر" وب "عفار"، وفي نواحي "العقيق" مكان يسمى "عفاريات". وذكر "الهمداني" "عفار" و "الخنقة"، واسماهما قريبان من "عفر" و "حنوك". غير إن في أعالي الحجاز في منطقة "مدين" وفي الأردن مواضع تسمى بأسماء قريبة من "عفر".
وأما "حنوك"، فلا نعرف من أمره شيئا يذكر. وقد ذهب بعض الباحثين إلى إنه "الحنكية"، وهو موضع في شمال المدينة.
وأما "ابيداع" "Abida'"، فيرى "كلاسر" إنه موضع من هذه المواضع في الحجاز. وقد ورد في النصوص السبئية اسم قريب من هذا الاسم. ولا نعرف من أمر "الدعة" شيئا حتى الآن.
أبناء كوش

(1/467)


--------------------------------------------------------------------------------

ونجد في التوراة إن أبناء "كوش" "سبا، وحويلة، وسبتة، ورعمة، وسبتكا"، وان "شبا و ددان" هما ابنا "رعمة". و "كوش" هو ابن "حام"، والمراد بأبناء "كوش" الحبش وسكان "نوبيا" وهم سود. أما الأسماء المذكورة، فهي أسماء قبائل وأرضين عربية معروفة، لذلك حار علماء التوراة في تفسير الأسباب التي حملت كتبة التوراة على جعل تلك الأسماء أسماء أولاد لكوش. فرأى بعضهم إنها كناية عن قبائل عربية هاجرت من جزيرة العرب إلى السواحل الأفريقية المقابلة واستقرت في أفريقية منذ أزمنة قديمة وكونت لها مستوطنات وربما حكومات شاك، واندمج شعبها في أرض أفريقية، فعدت من شعوبها، فلما دون أهل الأنساب العبرانيون أنساب البشر في أيامهم عدوها من شعوب أفريقية بحسب إقامتها، وأدخلوها في أبناء "كوش"، أي في أبناء تلك المنطقة التي أقاموا فيها. وذهب بعض آخر إلى أن "الكوشيين" المذكورين لم يكونوا من افريقبة، بل من جزيرة العرب، ورأوا وجود "كوش" اخرى في جزيرة العرب أصحابها هم القبائل العربية المذكورة. واستدلوا على ذلك يما جاء في "أخبار الأيام الثاني": "وأهاج الرب على يهورام روح الفلسطينيين والعرب الذين بجانب "الكوشيين"". حيث يفهم من هذه الآية إن العرب المذكورين الذين عادوا "يهورام" كانوا يجاورون "الكوشيين"، ويقتفي ذلك على زعمهم وجود "كوش" أخرى، هي "كوش عربية"، واياها قصد "سفر التكوين" في هذا المكان.

(1/468)


--------------------------------------------------------------------------------

أما "سبأ"، وقد ذكر الاسم بالسين في هذا الموضع من التوراة، فإنه اسم شهير معروف، هو شعب سبأ. وتصور التوراة وجود "سبأ" في "كوش"، يشير إلى انتشار السبئيين في أفريقية، ووقوف العبرانيين ذلك، وعندي إن ذكر السبئيين مرة ب "شبا" أي بالشين المعجمة، ومرة بالسين المهملة، إنما وقع من كتبة الأسفار، كتبوه بالشين على وفق النطق العبراني، وكتبوه بالسين على نحو ما ينطق به في العربية، فظهر الاسم وكأنه اسم شعبين متباينين، ولا سيما في الموضع المذكور، حيث ظهر اسم "سبا" بالسين، ابن من أبناء "كوش"، بينما ا ظهر بالشين أي "شبا" ابن من أبناء رعمة وشقيق ل "ددان" على سين ورد بالشين أيضا في أولاد يقطان. والظاهر إن المورد الذي استقى منه كتبة الأسفار هذه الأسماء سموها بالشين من إخوانهم العبرانيين الذين كانوا على اتصال بالسبئيين، وذلك على وفق نطقهم، وقد كان هولاء السبئيين من سكان اليمن وأعالي الحجاز، فأطلقها عليهم بحسب نطق العبرانيين بها، وسمع عن السبئيين لآخرين وهم من دعاهم ب "الكوشين" من العرب، و فرق بين الأنساب على طريقة العبرانيين من نسبة الأقوام إلى المواضع التي تقيم من ينسبونهم بها.
وأما "حويلة"، فقد تحدثت عنها في كلامي على أبناء "يقطان".
وأمما "سبتة" "Sabta"،فقد رأى بعض العلماء إنها قبيلة من قبائل جزيرة العرب، يجب أن تكون مواطنها بين "سبأ" و "رعمة"، ورأى آخرون إنها على ساحل الخليج، على حين رأى آخرون إنها "Sabota" أي "شبوة" عاصمة حضرموت ورأى "كلاسر" إنها في اليمامة.

(1/469)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما "رعمة" "Raamah"، فإنه والد "شبا" و "ددان" "ديدان"، ولكونه أحد أبناء "كوش" وجب البحث عن أرضه في أفريقية، إلا أن العلماء لا يتفقون على ذلك، بل يذهب أكثرهم إلى إن "رعمة" كناية عن أرض هي في مكان ما من جزيرة العرب، في غرب الخليج العربي حيث موضع"Regama" الذي ذكره "بطلميوس"، أو في أرض "Rammanitae" الذي ذكره "سترابو"، أو موضع "ركمت" "ركمات" "رجمت" "رجمات" المذكور في كتابات المسند. ويخيل إلي إنه كناية عن حلف ضم جماعة من السبئيين الشماليين والديدانيين ورعمة، في تلك الأيام، ولذلك صير والدا في وددان، ثم انفصمت عراه، فذكرت "رعمة" مع "شبا" تتاجر مع "صور" "Tyr" وذلك في سفر حزقيال، أو إنه اسم أرض في شمال غربي العربية الغربية يجاور مواضع السبئيين الشماليين والديدانيين. أو في موضع ما من سواحل الخليج.
وأما "سبتكا"، فلا نعرف من أمرها شيئا يذكر. وقد ذهب بعض العلماء إلى أنها تحريف لفظة "سبته". ويرى "كلاسر" أنها في الأقسام الشرقية من جزيرة العرب.
الهاجريون

(1/470)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر في التوراة اسم شعب سكن في شرقي الأردن وفي شرقي أرض "جلعاد"، عرف باسم "الهاجريين". وهم من العرب أو بن "بني إرم" في رأي بعض العلماء. غير أن إطلاق هذه اللفظة على الإسماعيليين، يدل على إن المراد بهم العرب بم لأن "الإسماعيليين" هم عرب، وأن "هاجر" كناية عن أم "إسماعيل" جد" القبائل التي تحدثت عنها على رأي التوراة. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن مراد التوراة من "الهاجريين" الأعراب، أي البدو وهم عرب أيضا. وقد امتدت منازل الهاجريين من الفرات إلى "طور سيناء"، فهي منطقة واسعة تشمل البادية: بادية الشأم، وتضم عددا كبيرا من الأعراب. وهي منازل "الإسماعيليين" أيضا، وقد يكون هذا هو السبب في عدم تميز التوراة أحيانا فيما بين الهاجربين و الإسماعيليين. وقد ذكروا مع "يطور" "Jetur" و "Naphish"، وهما من الإسماعيليين. وأشير إلى اسم رجل من الهاجريين عرف ب "يازيز" "Jaziz"، ذكرت التوراة إنه كان يرعى بغنم داوود في جملة أشخاص كان "داوود" قد أودع إليهم أمر إدارة أمواله.
وبعد، فهذا كلام موجز في أثر التوراة على روايات أهل الأنساب والأخبار في أنساب العرب. وقد رأيت أن مروجيه ومدخليه بن العرب هم أهل الكتاب، ومعظمهم من يهود أو من مسلمة يهود. لهذا ترى أسانيد اكثر هذه الروايات تنتهي بى "كعب الأحبار" و "وهب بن مني "" وأضرابهما. وقد ينتهي السند ب "ابن عباس"، من طريق "ابن الكلبي" عن أبيه، عن أبي صالح، وللعلماء كلام في هذا السند. و "ابن الكلبي" مورد مشهور معروف في هذه الموضوعات، لا يقابله في ذلك إلا "ابن إسحاق الذي غرف، كما ذكرت في أول هذا الفصل، من مناهل أهل الكتاب، وكان يسميهم أهل العلم الأول، فملأ كتابه لذلك بغث كثير، لاعتماده على هؤلاء وتوثيقه لهم، ولم يكن لأكثرهم كما يظهر من نقد ما نسب إليهم علم بما جاء في التوراة. و بكتب اليهود الأخرى.

(1/471)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ظهر لي من دراساتي لهذا الموضوع وللقصص الإسرائيلي عامة أن كثيرا من هذا الذي يرويه أهل الأخبار في النسب وفي القصص، بعيد عما يرد في التوراة، وقد اخترع اختراعا وص خ بغباوة وبجهل، وحشي بالفاظ عبرانية أو قريبة منها، بطريقة مضحكة أحيانا، تدل على خبث واضع الخبر أو جهله، وعلى سذاجة الناقل عنه وعلى عدم اهتمامه إلا بإظهار نفسه بمظهر الواقف على عدم اهتمامه إلا بإظهار نفسه بمظهر الواقف على الأخبار، ونذلك كان لا يهمه إلا جمع الأخبار وقصها لناس، وقد يكون هو واضع تلك الأخبار وصانع ذلك القصص.
وقد ذكر "الطبري" في تأريخه حديثا يرجع سنده إلى رسول الله، في أبناء نوح، زعم أن الرسول قال: "سام أبو العرب، ويافث أبو الروم" وحام أبو الحبش". ذكره بصور مختلفة، فيها تقديم وتأخير، أو زيادة في بعض الألفاظ. ويتصل أسانيد هذا الحديث بمختلف صور رواياته إلى سند واحد، هو: "سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة ابن جندب، عن الرسول".
وهناك أحاديث، وردت في موضوع نسب عدنان، فيها نهي عن تجاوز ما وراء ذلك، وهي وأمثالها يجب أن تكون موضع دراسة مستقلة حقا، لترى سلاسل سندها، ومقدار قدمها أو بعدها من حديث الرسول. فعلى مثل هذه الدراسة نستطيع أن نبني أحكاما في موضوع رأي النسابين في نسب العرب في أيام الرسول.

(1/472)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا بد لي هنا من التنبيه على أن "محمدا بن اسحاق بن يسار" صاحب المغازي والسير، هو - كما قلت مرارا - من الآخذين عن أهل الكتاب، الراوين عنهم. وكان يسميهم أهل العلم الأول. وهم بالطبع من هذه الناحية أعلم من غيرهم بأمور التوراة والإنجيل، بحكم كونهم يهودا أو نصارى. وهذا في المؤرخين و الأخباريين يروون ما ورد من قصص توراتي ومن أنساب توراتية عن "ابن اسحاق"، فهو اذن أحد الناشرين للإسرائيليات بين المسلمين. والقصص الإسرائيلي الذي نشره، ليس في الواقع قصصا إسرائيليا صافيا خاليا من الكدرة، بل هو متفاوت في درجات النقاء والصفاء. فيه العكر، وفيه ما هو قريب مما جاء في التوراة، وفيه ما هو مطابق لما جاء في "العهد القديم"، فهو نفي صاف. ويعود سبب هذا الاختلاف إلى الموارد التي استقى منها "ابن إسحاق علمه. ففيها منابع كانت ذات علم ووقوف على كتب أهل الكتاب، وفيها موارد مدعية أو ليس لها حظ من العلم، و إنما تحدثت إليه على نحو ما كان شائعا بين أهل الكتاب، وبينها موارد استباحت الكذب، ادعاء للعلم ولأسباب أخرى، ومن هتا اختلفت موارد "ابن إسحاق" في درجات النقاء والصفاء.
و "هشام بن محمد بن السائب الكلبي"، هو من الآخذين عن أهل الكتاب كذلك، المدخلين للإسرائيليات ولأنساب التوراة إلى المسلمين. وهناك نفر آخرون أخذوا عن أهل الكتاب أيضا، يخرجنا ذكر أسمائهم هنا عن صلب الموضوع. ولهذا اكتفيت بذكر هذين الرجلين، لما لهما من أثر بارز فيمن جاء بعدهم في موضوع الإسرائيليات وأنساب التوراة.

(1/473)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما ما نسب إلى "ابن عباس" من أقوال لها صلة بالتوراة فيجب دراسته بحذر ونقده نقدا عميقا، ومطابقته بما ورد في تلك الأسفار وفي كتب اليهود الأخرى. ونقد سلسلة السند التي تروي تلك الأقوال وتنسبها إليه. ولم يقم حتى الآن باحث لفت نظره هذا الموضوع. لذلك أرجو أن ينتبه إليه العلماء ليبدوا رأيهم فيه، ورأيهم في الأقوال المماثلة المنسوبة إلى صحابيين آخرين وتابعين" ليكون حكمنا في مثل هذه الأمور حكما مستندا إلى درس وعلم.
ومما نسب إلى "ابن عباس" شعر مشهور معروف اليوم بين الناس قالوا إنه نسبه إلى آدم، وأنه قال: إن آدم نظمه بعد قتل ابنه، وهو شعر موضوع بالطبع، وضع على آدم، على لسان ابن عباس. فقد نسبه بعض العلماء إلى أناس آخرين.
ولم يعرف عن "كعب الأخبار" إنه ألف أو دون شيئا، إنما عرف عنه إنه كان لمجلس مجالسه في المسجد يتحدث إلى الناس ويستعين بالتوراة أحيانا يقرأ منها عليهم ويفسرها لهم. ولكن "الهمداني" يذكر إنه كان قد كتب كتبا، وان أهل "صعدة"، كانوا قد توارثوا كتبه ورووا منها. قال: "روى الصعديون مرفوعا إلى إبراهيم بن عبد الملك الخنفري، قال: قرأت كتب كعب الأخبار، وكان كعب رجلا من حمير من ذي رعين، وكان قد قرأ التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان، و أوسع في العلم. وقال أيضا: "والوجه ما ذكرنا في أول السيرة من هذا الكتاب، ما رواه أهل صعدة عن كعب الأحبار في خلق آدم، ومن خلفه إلى نوح، وخر الطوفان. وقد نقل "الهمداني" شفا عن "الخلق" والأنبياء ونوح والطوفان في الجزء الأول من كتابه: الإكليل ذكر أنها لكعب الأحبار. والظاهر إنه أخذها من رواية أهل صعدة لكتب "إبراهيم بن عبد الملك الخنفري"، نقلا من كتب كعب الأحبار.
الفصل الحادي عشر
أنساب العرب

(1/474)

admin
12-26-2010, 11:37 AM
للنسب عند العرب شأن كبير، ولا يزال العربي يقيم له وزنا، ولا سيما عربي للبادية. فعلى نسب المرء في البادية تقوم حقوق الإنسان، بل حياته في الغالب. فنسب الإنسان، هو الذي يحميه، وهو الذي يحافظ علما حقوقه ويردع الظالم عنه ويأخذ حق المظلوم منه.
وقد يبدو ذلك للمدني الأعجمي أمرا غريبا شاذا غير مألوف. ولكن هذا المدني نفسه يعمل بالنسب ويأخذ به، وإن كان في حدود ضيقة، فجنسيته هي نسبه، تحميه وتحفظ حقوقه. وليس نسب الأعرابي غير هذه الجنسية، يحتمي به، لأنه يصونه ويحفظ حقوقه ويدافع عنه. وهو مضطر إلى حفظه، وإلى عد آبائه وأجداده وذكر عشيرته وقبيلته، لأنه بذلك يسلم، ويحافظ على حياته. فإن أراد شخص الاعتداء عليه، عرف إن وراءه قوما، يدافعون عنه ويأخذون حقه من المعتدى عليه. وهو لذلك مضطر إلى حفظ نسبه والمحافظة عليه.
وأما كون الحضر أقل عناية بأنسابهم من أهل الوبر، فلأن الحاجة إلى النسب عندهم أقل من حاجة أهل الوبر إليها. فالأمن مستقر، ولدى الحضر في الغالب حكومات تأخذ في المعتدى عليهم من المعتدين. ثم إن مجال الاختلاط والامتزاج عندهم أكثر وأوسع من أهل البوادي وسكان الأرياف، وكلما كانت الحواضر قريبة من السواحل ومن بلاد الأعاجم، كان الاختلاط أوسع وأكثر، ولهذا ضعفت فيها وشائج الدم والنسب، وكثر فيها التزاوج والتصاهر بين العرب والعجم، فصعب على الناس فيها المحافظة على أنسابهم، وقلت الفائدة من النسب عندهم. ولهذا لم يعتنوا به عناية الأعراب بالأنساب.

(1/475)


--------------------------------------------------------------------------------

فالانتماء إلى عشيرة أو في قبيلة أو حلف، هو حماية للمرء، وجنسية في عرف هذا اليوم. ولهذا صار إخلاص الأعرابي لقبيلته أمرا لازما له محتما عيله، وعليه أن يدافع عن قبيلته دفاع الحضري عن وطنه.فالقبيلة هي قومية الأعرابي، وحياته منوطة بحياة تلك القبيلة. ولهذا كانت قومية أهل الوبر قومية ضيقة، لا تتعدى حدودها حدود القبيلة وحدود مصالحها وما يتفق أهل الحل و العقد فيها عليه. ومن هنا صارت القبائل كتلا سياسية، كل كتلة وحدة مستقلة، لا تربط بينها إلا روابط المصلحة والفائدة والقوة والضعف والنسب.
والعادة انتساب كل قبيلة إلى جد تنتمي إليه، وتدعي إنها من صلبه، وان دماءه تجري في عروق القبيلة، وتتباهى به و تفاخر، فهو بطلها ورمزها، وعلامتها الفارقة التي تميزها عن القبائل الأخرى. وليس ذلك بدعا في العرب، بل إنا لنجد الأمم والشعوب الأخرى تنتمي إلى أجداد وآباء. ف "هيلين" "Hellen"، هو جد أهل "دورس" "Dorus"، ومنه أخذ "الهيليون" اسمهم هذا. وكان للرومان وللفرس وللهنود وللأوروبيين أجداد انتموا إليهم واحتموا بهم وتعصبوا لهم ونسبوا أنفسهم إليهم على نحو ما نجده عند العرب والإسرائيليين وبقية الساميين.

(1/476)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي التوراة ولا سيما "أسفار التكوين" منه، أبرز أمثلة على النسب، نجد فيها أنساب الأنبياء والشعوب، وأنساب بني إسرائيل. يسبق النسب في العادة جملة: "وهذه مواليد" "وإله تولدت"، ثم يرد بعدها النسب. أي أسماء من يراد ذكر نسبهم. قد يذكر نسب الأب والزوجة والولد، وقد لا تذكر الزوجة، بل يكتفي بالأب وبأولاده. وقد لا يذكر الولد. والذي يقرأ هذه الأسماء يقرأها وكأنها أسماء أشخاص حقا. ولكننا إذا قرأناها قراءة نقد، نرى أن بعضها أسماء مواضع ومواقع، أو أسماء قبائل، وعشائر أو أسماء طواطم، أي أسماء حيوانات سمت بها القبائل، مثل "ذئب" و "كلب" و "أسد" و "ضبة" وأمثال ذلك، وكلها كناية عن قائل وشعوب عاشت قبل الشروع في تدوين هذه الأنساب أو في أيام التدوين.
ويظهر من كيفية عرض هذه الأنساب وجمعها وتبويبها أن في العبرانيين جماعة من النسابين اختصت بجمع الأنساب وحفظها، ومنهم من كان يعتني بجمع أنساب الغرباء عن بتن إسرائيل، وربما كان كتبة الأسفار من هؤلاء. فلما شرع كتبة أسفار التكوين بقصة الخلق وبكيفية، وزع شعوب العالم وظهور الإنسان على سطح الأرض، كان لابد من ذكر الشعوب وأنسابها على أسلوب كتابة التأريخ في ذلك العهد، فاستعين بما نجمع عند نسابي العبرانيين من علم بالنسب، وأدرج في هذه الأسفار.

(1/477)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد وردت في التوراة في أسفار التكوين وفي "أخبار الأيام الأولى" أسماء قبائل عربية، رجعتها إلى مجموعات، مثل مجوعة "يقطن" "يقطان"، ومجموعة الإشماعليين، أي الإسماعيلين، نسل إسماعيل،غير إنها لم تشر كعادتها بالنسبة إلى كل أنساب البشر إلى المورد الذي أخذت منة تلك الأنساب. لذلك لا ندري إذا كانت التوراة قد اقتبست ما ذكرته عن أساب الأمم من الأمم التي تحدثت عن نسها، بأن أوردت تلك الأنساب على نحو ما كان شائعا متعارفا عند الأمم المذكورة بالنسبة لنسبها، أو أنها روتها على حسب ما كان متعارفا عند قدماء العبرانيين في أجداد البشر وفي أنسابهم، فدونتها على هذا النحو الشائع بين العبرانيين اذ ذاك.
أما النصوص الجاهلية، فإنها لم تتحدث، وياللاسف، عن مجموعات قبائل على النحو المتعارف عليه عند علماء النسب. ولكنها جاءت بأسماء قبائل عديدة كثيرة، لم يعرف من أمرها أهل الأخبار والنسب شيئا. فنحن نقف على أسمائها لأول مرة،.بفضل تلك الكتابات.
وقد أفادتنا الكتابات الجاهلية فائدة كبيرة من ناحية دراسة أسماء القبائل الواردة في كتب النسب والموارد الإسلامية الأخرى، إذ مكنتنا من الوقوف على الصلات بينها، وعلى معرفة ما سمي منها بالأب أو الابن أم الأم، كما عرفتنا على مواطن عديدة من مواطن الخطأ التي وقع فيها النسابون وأصحاب الأخبار، وعلى كثير من الوضع الذي، وضع في النسب أو في القصص المروي عن القبائل جهلا أو عمدا أو ظهورا بمظهر العلم والإحاطة بأنساب الرب وأخبارهم، الجاهلين منهم والإسلاميين.

(1/478)

ولم أجد في الشعر الجاهلي هذه القحطانية والعدنانية التي يراها أهل النسب والأخبار، وأقصى ما وجدته فيه قصيدة للأخنس بن شهاب بن شريق التغلبي حوت أسماء قبائل وأسماء مواطنها ومواضعها، هي: "معد" و "لكيز" و "بكر" و "تميم" و "كلب" و "غسان" و "بهراء" و "إباد" و "لخم". وهي قبائل بعضها عدنانية وبعضها قحطانية في اصطلاح أهل النسب، إلا أنني لم أجد فيها أسماء آباء هذه القبائل ولا أجدادها، ولم أستطع أن أفهم منها أن هذه القبيلة، هي قبيلة عدنانية، وأن تلك قبيلة قحطانية، فقد جاءت الأسماء متداخلة وكل ما وجدته فيها مما يخص النسب، هذا البيت: فوارسها من تغلب ابنة وائل حماة كماة ليس فيها أشائب
ولم يرتفع الأخنس بنسب تغلب إلى ما وراء وائل من آباء وأجداد.
والحق أن من يقرا هذه القصيدة دون أن يقرأ اسم صاحبها، يرى إنها من قصائد الشعراء المتكلفين الذين ظهروا في أيام الدولة العباسية، ولن يخطر بباله أبدا أنها من نظم شاعر جاهلي. وأنا أريد أن أتجاسر فأقول: إني أشك في صحة نظم ذلك الشاعر هذه القصيدة، وأسلوب نظمها يأبى أن يرجعها إلى ذلك العهد.
وقد خصص "ابن النديم" في كتابه "الفهرست، فصلا ب "أخبار الأخباريين والنسابين وأصحاب الأحداث"، ذكر فيه أسماء بعض من عرف واشتهر بحفظه للانساب، ولا سيما من ألف فيهم تأليفا في النسب. وقد طبعت بعض مؤلفات المذكورين، وهي متداولة بين الناس. والذين ذكرهم "ابن النديم" هم من اشتهر وعرف وذاع خبره في العراق وفي البيئة التي اتصل بها "ابن النديم"، وهم من أهل الحواضر في الغالب، إلا أن بين أهل البوادي والأماكن القصية النائية المنعزلة جماعة كانت قد تخصصت بالنسب، انحصرت شهرتها في البيئة التي عاشت فيها. ولهذا لم يصل خبرهم إليه والبنا، وكثير منهم لم يؤلف في النسب تأليفا، و إنما حفظه حفظا، شأنهم في ذلك شأن النسابين الجاهلين، أو الذين أدركوا الإسلام.

(1/479)


--------------------------------------------------------------------------------

ونجد في كتب الأدب والتواريخ قصصا عن بعض النسابين في الجاهلية وفي الإسلام، يثير الدهشة من قدرة وشدة الحافظة عند أولئك النسابين في حفظ الأنساب. وقد عرف أحدهم ب "النسابة"، فقيل: "فلان النسابة" أو "النسابة". وقد كان لهم شأن خطير بين قومهم، لأنهم المرجع في الأحساب والأنساب، واليهم المفزع عند حصول اختلاف في الأمور المتعلقة بها. ويذكر أن الخليفة "عمر" أمر بتسجيل الأنساب وتبويبها وتثبيتها في ديوان، وذلك عند فرضه العطاء، " فبدأ بالترتيب في أصل النسب، ثم ما تفرع عنه، فالعرب عدنان وقحطان. فقدم عدنان على قحطان لأن النبوة فيهم وعدنان تجمع ربيعة ومضر، فقدم مضر على ربيعة لأن النبوة فيهم، ومضر تجمع قريشا وغير قريش، فقدم قريشا لأن النبوة فيهم، وقرش تجمع بني هاشم وغيرهم، فقدم بني هاشم لأن النبوة فيهم، فيكون بنو هاشم قطب الترنيب، ثم بمن يليهم من أقرب الأنساب اليهم حتى استوعب قريشا، ثم بمن يليهم في النسب حتى استوعب جميع عدنان. وقد كان هذا التسجيل سنة خمس عشرة للهجرة، في رواية، أو سنة عشرين في رواية أخرى.
وذكر أن الخليفة قال: "أيما حي من العرب كانوا في حي من العرب أسلموا معهم فهم معهم، إلا أن يعترضوا، فعليهم البينة، كالذي فعله مع "بجيلة" رهط جرير بن عبد الله بن جابر، وكانوا قد تفرقوا، واغتربوا بسبب حروب وقعت بينهم والتحقوا بقبائل أخرى. وروي أن عوف بن لؤي بن غالب ألحق نسبه ب "غطفان"، والتحق نسب بنيه "بني مرة" بغطفان، ويقال إن الخليفة قال: لو كنت مستلحقا حيا من العرب، لاستلحقت يني مرة، لما كنا نعرف فيهم من الشرف البين، مع ما كنا نعرف من موقع عوف بن لؤي بتلك البلاد. ثم قال بعض أشرافهم: إن شئتم أن ترجعوا لنسبكم من قريش، فافعلوا. ولكنهم كرهوا أن يتركوا نسبهم في قومهم، ولهم فيهم من الشرف والفضل ما ليس لغيرهم".

(1/480)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ضاعت أصول الجرائد التي دونت عليها الأنساب في ذلك الديوان، ولم يبق منها شيء. ويظهر إن أهل الأخبار لم ينقلوا صورها، و إنما أخذوا الأسس التي قام عليها التسجيل على نحو ما ذكرت، وبالجملة فإن في إشارتهم إلى تلك الأسس والقواعد التي سار عليها الخليفة في اتخاذ القربى بالرسول والوضع القائم للقبائل، فائدة كبيرة لدراسة أسس تثبيت الأنساب عند العرب في صدر ا لإسلام.
ويذكر إن الذي قام بوضع مخطط الأنساب وبتسجيل القبائل والعشائر وفق الخطة التي أشرت إليها، هو "عقيل بن أبي طالب"، وهو من الثقات في معرفة الأنساب، ومعرفة بن نوفل، وجبير بن مطعم، وان الذي أشار عليه بتدوين النسب في الدواوين هو "الوليد بن هشام بن المغيرة" لما رآه من عمل الروم في تسجيل العطاء في بلاد الشام.

(1/481)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم يقتصر التسجيل المذكور على تسجيل نسب القبائل وحدها، بل شمل ذلك نسب أهل القرى أيضا، كنسب أهل مكة والمدينة والطائف وغرها. وذلك لأن سكانها وان كانوا من أصحاب المدر، وقد أقاموا واستقروا في بيوت ثابتة، إلا انهم كانوا كالأعراب من حيث الانتساب إلى الآباء والأجداد. وقد رأينا إن عمر كان قد بدأ بقوم الرسول، وقومه حضر، من أهل مكة، إلا انهم كانوا لا يختلفون عن أهل الوبر في التعلق بالأنساب وفي حفظها، لأن حياتهم الاجتماعية وان كانت في قرية، إلا أن غريزة المحافظة على النفس والدفاع عن الحقوق حملتهم مثل الأعراب على التمسك بالعصبية، بعصبية النسب، ليتمكنوا من المحافظة على الأمن والسلامة والمال، لعدم وجود حكومة قوية تقوم اذ ذاك بتامين هذه الواجبات. ثم إن هذه الأماكن محاطة بالأعراب، وبين أهل مكة من كان شبه حضري، وبيئة مثل هذه لا بد لها من الاحتماء بعصية النسب، وبالتزاوج مع الأعراب، لتكوين رابطة دموية، تؤدي إلى عصبية تضطر الطرفين إلى الدفاع عن مصالحهما المشتركة وتكوين كتلة واحدة تستجيب للنخوة ولنداء الاستغاثة في ساعة الحاجة والضرورة. ولهذا كان لتزاوج عند العرب أهمية كبيرة في السياسة. ومن هنا نظر سادات القوم والملوك إلى التزوج من بنات سادات القبائل الكبيرة نظرة سياسية في الدرجة الأولى وذلك لشد عضدهم ولتثبيت ملكهم ولضبط القبائل، وبضبطها يستتب الأمن وينتصر على الأعداء. وقد كان لزواج معاوية في الإسلام من "كلب" أثر كبير في السياسة الأموية وفي تثبيت ملكه وملك ابنه يزيد وملك مروان الذي انتصر بهم في معركة "مرج راهط" على القيسيين.

(1/482)


--------------------------------------------------------------------------------

وعلى الرغم من التسجيل المذكور الذي كان للعطاء، أي لأغراض حكومية رسمية، فان أنساب القبائل لم تثبت ولم تستقر إلا بعد ذلك بأمد. وآية ذلك ما نجده من خروج قبائل في العصر الأموي من نسب قديم، ودخولها في نسب آخر جديد. وقد كان شروع النسابين في تسجيل علمهم وتسوينه، مما ساعد كثيرا ولا شك في تثبيت هذه الأنساب واقرارها،ولا سيما أنساب القبائل المشهورة المعروفة، وقد وصلت بعض كتب الأنساب، وطبع قسم منها.
وقد وضع بعض المؤلفين، مثل الواقدي أبي عبد الله محمد بن عمر المتوفى سنة "207ه"، مؤلفا في "وضع عمر الدواوين، وتصنيف القبائل ومراتبها وأنسابها"، إلا إنها ضاعت، فحرمنا الاستفادة منها، ولو بقيت مثل هذه المؤلفات اذن لكان لنا علم قيم ورأي في كيفية تصنيف القبائل في تلك الأيام.
وقد كان بعض النسابين قد تخصص بنسب جماعة من العرب، جماعة قومه ومن يرتبط بهم في الغالب. مثل "الزبير بن بكار" صاحب "كتاب نسب قريش وأخبارها"، ومثل "عقيل بن أبي طالب"، وكان قد تخصص بنسب قريش، ومثل "أبي الكناس الكندي"، وكان أعلم الناس بنسب كندة، ومثل "النجار بن أوس العدواني"، وكان من أحفظ الناس لنسب "معد ابن عدنان"، ومثل "عدي بن رثاث الإيادي"، وكان عالما بإياد، ومثل "خراش بن إسماعيل العجلي"، وكان عالما بنسب ربيعة. وعن هؤلاء وأمثالهم أخذ أهل الأنساب علمهم بالأنساب، ووضعوا كتبا في نعشا القبائل أو في أنساب العرب، أو في انساب جماعة منهم.

(1/483)


--------------------------------------------------------------------------------

ولتسجيل "عمر" للأنساب شان كبير بالنسبة إلى الباحثين في تطور النسب عند العرب، لأنه ثبت بذلك الأسس ووضع القواعد للنسابين في الإسلام وقيل من الاضطراب الذي كان يقع في النسب، بسبب الاختلاط، وعليه سار المسلمون في تقسيم العرب إلى أصلين. ولا بد أن يكون لهذا التقسيم أصل قديم، يرجع إلى ما قبل عمر. أقره الخليفة، وجعله أساسا له في التقسيم الذي بقيا مرعيا متعارفا عليه بين النسابين إلى اليوم. ويمكن أن نقارن هذا العمل، أي تسجيل النسب وتثبيه في سجلات، بالعمل الذي قام به "عزرا" في تثبيت أنساب اليهود وتدينها، وفي تدوين انساب الغرباء، لتستقر بذلك الأنساب فسار من جاء بعده من النسابين في تعيين النسب على أساس ذلك التدوين.
وفي القرآن الكريم آيات تشير إلى عناية القوم بأحسابهم وأنسابهم، ولكنه لم يتعرض لبيان وجهة نضرهم بالنسبة إليها، ولا يشعر في موضع ما منه بوجود تلك الفكرة التي ألح على وجودها أهل الأخبار، وهي انقسام العرب إلى ثلاث طبقات أو طبقتين، ووجود نسبين أو جملة أنساب للعرب، ولم يرد فيه اسم "عدنان" ولا "قحطان"، ولا أي من هذه الأشياء التي يتمسك بها أهل الرواية والأخبار، ويقصونها لنا على أنها من الحقائق الثابتة في أنساب العرب، وعلى أن العرب كانوا حقا من جدين هما: عدنان وقحطان.
بل كان ما ورد في القرآن يشعر أن العرب كانوا ينظرون إلى أنفسهم أنهم من جد أعلى واحد، هو: "إبراهيم" وأن "إبراهيم" أبو العرب: "وجاهدوا في الله حق جهاده. هو اجتباكم. وما جعل عليكم في الدين من حرج، ملة أبيكم إبراهيم. هو سماكم المسلمين ...". فلم يفرق بين عرب "قحطانيين وعرب عدنانيين. وروي: إن الرسول قال: "كل العرب من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام".

(1/484)


--------------------------------------------------------------------------------

بل حتى الشعر الجاهلي، لا نجد فيه إشارة واحدة تفيد اعتقاد الجاهليين بوجود أصلين أو ثلاثة أصول أو أكثر لهم. وكل ما ورد فيه هو فخر بقحطان وفخر بعدنان أو معد أو غير ذلك من الأسماء التي تعد من أسماء الأجداد التي ينتهي إليها "الشعب" أو "الجذم". وأما التفصيلات الأخرى والأسماء الواردة في تحب النسب أو الأخبار والتواريخ، فهي من روايات الإسلاميين. ثم إن من الشعر الجاهلي ما لا يصح أن يكون جاهليا، ومنه ما قيل قبل الإسلام، ولا يصح كل الشعر الجاهلي أن يكون شاهدا على آراء أهل الجاهلية البعيدين عن الإسلام.
كذلك لا نجد في شعر الجاهلية سلسلة نسب شحطان أو عدنان. ولا نجد في الأخبار ما يفيد وقوف أهل الجاهلية عليها ر وهي سلسلة أخذت اسماؤها من التوراة، وبعضها أسماء محرفة موضوعة على شاكلة الأسماء التوراتية. أما في الحديث النبوي، فقد ورد أن الرسول انتسب إلى "أسد"، وهو والد "عدنان"، ثم قال: "كذب النسابون". و في كل ذلك دلالة على أن أسماء آباء قحطان وعدنان، إنما دونت وتثبت في الإسلام. أما قبل الإسلام، فلعل بعضهم وفي أيام الرسول، كان قد تلقن من اليهود نسب قحطان، وان بعض اليهود لقن العرب نسبا لعدنان، فلما لاكت الألسنة تلك الأنساب، وسمعها الرسول قال: "كذب النسابون".
أما أسماء أبناء قحطان وعدنان فما دون ذلك، فإنها أسماء عربية في الغالب، و ينقطع منها أثر التوراة وأثر الأسماء التوراتية، مما يدل على إن النسابين العرب كانوا على علم وبصيرة بتلك الأسماء، وأنها كانت معروفة عندهم. وهي أسماء لا ترد في التوراة ولا خير لها عند أهل الكتاب.

(1/485)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذهب "دوزي" إلى وجود فروق أساسية بين القحطانيين و العدنانيين، حتى ذهب إلى وجود اختلاف بين نفسهية كل جماعة من الجماعتين. وأنا لا أريد أن أنكر عليه وجود العداء الذي كان قد استحكم بين القبائل التي تنتسب إلى معد أو إلى قحطان، ولا أريد أن أنكر عليه نهجا شعراء اليمن على قبائل معد، أو عدنان، ولا نهجم شعراء عدنان على قبائل اليمن المنتمية إلى قحطان، ولا أريد أن أنكر افتخار اليمانيين بانتسابهم إلى اليمن، ولا افتخار العدنانين بانتسابهم إلى عدنان أو مضر أو معد أو غير ذلك من أسماء الشعوب والأجذام، لا أريد أن أنكر شعر "امرىء القيس" في افتخاره بنسبه في اليمن، ولا أن أنكر شعر غيره من الشعراء اليمانيين أو الشعراء العدنانيين في الافتخار باليمن أو بمضر أو بمعد. ولكنني لا أريد أن أنكر في الوقت نفسه افتخار القبائل القحطانية بعضها على بعض، وافتخار القبائل العدنانية بعضها على بعض، وهجاء القبائل القحطانية بعضها لبعض، وهجاء القبائل العدنانية بعضها لبعضها هجاء لا يقل عن هجاء اليمن لمعد أو هجاء معد لليمن. فهل يصح أن يتخذ هذا الهجاء سببا لوضع نظرية في اختلاف أجناس هذه القبائل? وهل يصح أن نجعل هذا الهجاء حجة على تباين أصل القحطانيين، وعلى تباين أصل العدنانيين ? إن جاز ذلك، وجب علينا إذن إعادة النظر في كل ما هو مكتوب عن أصول القبائل وفي كل ما هو مدون في كتب النسب والأخبار.

(1/486)


--------------------------------------------------------------------------------

هذا "سلامة بن جندل السعدي"، وهو من مضر، يحل في شعره على معد، ويهجوها هجاء مرا، وهذا "قي س بن الخطيم" لسان الأوس يحمل على الخزرج، ويردد ذكريات الأيام التي كانت بين الأوس والخزرج بمثل الشدة التي تجدها في شعر الهجاء الذي قاله العدنانيون في القحطانيين، والقحطانيون في العدنانيين. إنه ذكر تلك الأيام لا لمجرد الفخر والتباهي، بل ليثير في نفوس الأوس الأحقاد القديمة، وليزيد في تلك النيران نيرانا. لقد ذكرهم "بيوم الربيع"، وذكرهم ب "يوم السرارة"، وذكرهم ب "يوم مضرس ومعبس"، و هو يوم دارت فيه الأيام دورنها على الأوس، فقتل منهم عدد كبير، وانهزم أكثرهم إلى بيوتهم وآطابهم، حتى خرج الناس من طوائفهم إلى مكة يستعينون على الخزرج، وذكرهم بأيامهم الأخرى. كل ذلك بلهجة عنيفة شديدة، ليس فيها لين ولا رفق. إنه ينظر إلى الخزرج نظرة عداء وحقد، نظرة تشعر منها أن الأوس جنس وأن الخزرج من جنس بعيد آخر. لقد ذكر قريشا بخير، وذكر إنها ستحمل عنهم حرب الخزرج، وذكر أنهم لو التحقوا بأبرهة اليماني أو بنعمان أو عمرو، لنالوا من هؤلاء كل قدير، ولجعلوا لهم جاها أي جاه.
ذكر أبرهة حاكم اليمن، وذكر غسان ولخما، وذكلر أهم من ذلك كله قريشا على إنها ستحمل الحرب وستقابل الخزرج عما قريب. وقريش من عدنان، والأوس والخزرج من قحطان، ولم نجد في شعره ما يذكر برابطة النسب بين الخزرج والأوس. ولم برد في شعره اسم قحطان أو عدنان. والقصيدة التي ذكر فيها هذا اليوم هي من أقدم قصائد هذا الشاعر الذي اضطرت قبيلته "للظفر"، ومعها "عبد الأشهل" إلى مغادرة يثرب والتفتيش عن حليف يساعدها في العودة إلى ديارها، فذكر قيس قريشا، وكأنه يذكر قبيلة قريبة من قبيلته، مع إنها من نسب آخر في رأي النسابين.

(1/487)

admin
12-26-2010, 11:39 AM
وفي كتب الأدب والدواوين شعر كثير ينسب إلى شعراء جاهليين وشعراء مخضرمين وشعراء إسلاميين، فيه هجاء عنيف من شاعر قحطاني لقبائل قحطانية، ومن شاعر عدناني لقبيلة عدنانية، وفيه مدح وفيه إغراق من شاعر قحطاني لقبائل عدنانية، وهجوم عنيف على القحطانيين، وهكذا. ولو أردنا شرح ذلك وسرد الأمثلة، لأخذ ذلك منا وقتا طويلا يخرجنا عن صلب الموضوع، وينقلنا إلى أمور أخرى لا صلة لها بهذا البحث.
ثم إن علينا أن نحسب حسابا لأمر هذا الشعر المروي في المدح والفخر وفي الذم والهجاء، وهو عندي أوسع باب من أبواب الشعر محتمل النقد، و إثارة الشكوك حوله. وقد خبرنا من الكتب أن القبائل كانت تستأجر الشعراء لقول المدح أو الذم، و إنها كانت تعد الشاعر منحة من منح الله على القبيلة، لأنه لسانها الناطق والذائد عنها بشعره، يدافع عن قبيلته، و يهاجم أعداءها،ويتهمهم بكل ما يصل إليه فنه من الهجاء ورمي التهم، كائنين ما كانوا قحطانيين أو عدنانيين. وقد اقتضت طبيعة الخصومة التي زادت حدتها في الإسلام بين يمن ومضر وضع شيء كثير من هذا الشعر شعر المنافرة والمفاخرة بين عدنان وقحطان، وهذا أمر وقع، مفروغ منه، لا شك في صحته وثبوته، اقتضته ظروف السياسة، فيجب الانتباه له حين التحدث عن نزاع قحطان وعدنان.
وترينا الأخبار أن ما نسميه بنزاع قحطاني وعدناني لم يكن شديدا في الجاهلية بين القبائل التي كانت تقيم في الأنحاء الشمالية من جزيرة العرب، أي بين تلك القبائل التي رجع النسابون نسبها بحق أو بغير حق إلى عدنان أو قحطان، بمثل تلك الشدة التي تظهر في النزاع الذي تحدثوا عنه بين القبائل التي كانت تعيش في اليمن أو في الحجاز. وهذا أمر ذو بال، يجب أن يحسب له كل حساب عند الحديث عن نزاع عدنان وقحطان.

(1/488)


--------------------------------------------------------------------------------

وترينا الأخبار كذلك أن الخصومات التي وقعت بين القبائل العدنانية نفسها، أو بين القبائل القحطانية نفسها، لم تكن أقل عنفا وضراوة من ذلك النزاع الذي وقع بين من نسميهم بالقحطانيين ومن نسميهم بالعدنانيين. لقد اتخذ شكلا عنيفا،شكلا يجعلك تشعر أن تلك القبائل كانت تشعر إنها قبائل متباعدة لايجمعها شمل، ولا يربط بينها نسب، ولا تجمعها جامعة دماء على النحو الذي يرويه ويذكره أهل الأنساب والأخبار.
والغريب أنك في كل ذلك النزاع المرء العنيف، لا تسمع فيه انتساب كل العرب إلى عدنان أو قحطان، و إنما تسمع فيه فخرا بأسماء القبائل أو بأسماء الأحلاف الداخلة في عدنان أو في قحطان، تسمع فيه اسم "معد" أو اسم "يمن" أو "نزار" أو "مضر" أو غير ذلك، ولا تسمع فيه اسم الجدين الأكبرين المذكورين. فماذا يعني هذا ? وعلام يدل ? ويمن عند أهل الأنساب والأخبار وفي العرف، كناية عن "قحطان"، و "قحطان" عندهم أيضا و في العرف كناية عن "يمن" وعن الشعوب التي ترجع نسيها إلى "يمن" 0 أما "معد" و "مضر" و "نزار"، فكناية عن "عدنان" أو عن أحلاف من أحلاف عدنان.

(1/489)


--------------------------------------------------------------------------------

وأنت إذا ما أردت أن ترسيم حدودا فاصلة بين "قحطان" و "عدنان"، أي بين "يمن" و "معد"، فإنك تستطيع أن ترسمها بسهولة إذا ما اعتبرت "قحطان" كناية عن اليمن، وان "عدنان" كناية عن "قريش" والقبائل التي ترجع نسبها إلى نسب قريش. وحدود أرض قريش وحدود أرض اليمن معروفة واضحة. أما إذا أردت إن ترسم حدودا فاصلة، وأن تضع معالم واضحة بينة بين القبائل القحطانية والقبائل العدنانية، استنادا إلى روايات أهل الأنساب والأخبار وإلى الشجرات التي رسموها لأنساب العرب طرا، فإنلك ستخفق حتما، وسيخيب عملك من غير شك. ذلك لأن أهل الأنساب لم يسيروا في تقسيمهم العرب على وفق قواعد ثابتة وأسس واضحة مرسومة، مثل اختلاف في ملامح جسمانية، أو تمايز في أمور عقلية أو نفسية أو لغوية، أو اختلاف في مواقع جغرافية، بل ساروا وفقا للعرف والشائع، فسجلوا الأنساب على وفق الشائع بين الناس عن النسب في ذلك العهد.

(1/490)


--------------------------------------------------------------------------------

وأنت إذا أردت تطبيق ما عندك من علم في "الأثنولوجيا" وفي "الأنتروبولوجي" وفي العلوم المشابهة الأخرى، على التقسيم الثنائي للعرب، فستجد نفسك حائرا تائها لا مجال لقواعد علمك في هذا المكان. فبين القبائل التي تنتمي إلى "قحطان" مثلا تباين كبير في الملامح وفي العقلية وفي اللغة، ويجعل من غير الممكن تصور وجود وحدة دموية تجمع شمل هذه القبائل، وجد واحد انحدر من صلبه هؤلاء، وبين القبائل العدنانية اختلاف كذلك في الملامح وفي اللغة، يضطرك إلى القول بفساد نظرية النسابين في أصل هذه القبائل. ولا بد عندئذ من اعتبار هذا انسب رمزا أخذ من صراع قديم، أو من أحلاف قديمة، فصير جد ين لجماعتين. وكيف تتمكن من إقناع الباحث الحديث في العلوم المذكورة بوجود وحدة في الملامح الجسمية وفي الصفات العقلية، ووحدة في اللسان بين القبائل القحطانية الجنوبية، الضاربة في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية وبين القبائل القحطانية الشمالية، مثل غسان ولخم وكلب وكندة وغيرها، على حين يرى بين الجماعتين فروقا واضحة بينة في كل شيء. حتى إنه يستطيع أن يشير إلى القحطاني الجنوبي حالا عند رؤيته له، على حين لا يستطيع أن يميز القحطاني الشمالي من العدناني، ولا أن يعرفه إلا بالاستفسار منه. الصحيح إننا إذا أخذنا بالملامح وبالأمور الأخرى المذكورة، خلصنا إلى نتيجة تقول لنا إن الفروق بين القحطانيين والعدنانيين هي أقل جدا من الفروق التي نراها بين القحطانيين الشماليين والقحطانيين الجنوبيين. وهي نتيجة ليست في مصلحة أهل الأنساب بالطبع، تبين لنا إن قضية قحطان وعدنان قضية اعتبارية لا غير.

(1/491)


--------------------------------------------------------------------------------

بل خذ القحطانيين الجنوبيين، وهم لب القحطانية ومادتها، تر إن القحطاني الساكن على السواحل الجنوبية يختلف في سحنته عن القحطاني الساكن في المرتفعات والهضاب، والجبال. وان الساكن على السواحل المقابلة للسواحل الأفريقية يختلف في ملامحه الجسمية عن الساكن على السواحل المقابلة للهند، وان سكان حضرموت أو عمان أو مسقط يختلفون في الملامح والسحن عن إخوانهم القحطانيين الساكنين في اليمن وفي نجران وفي الأقسام الجنوبية من المملكة العربية السعودية. فهل يكون هذا الاختلاف دليلا على قحطانية بالمعنى الذي يزعمه أهل الأنساب ?
ولقد ذهب بعض الباحثين في علم الأجناس البشرية "الأنتروبولوجي" "Anthropology" إلى إن العرب الجنوبيين هم من أصل حامي، وان وطنهم الأصلي هو أفريقية. وقد ذهب بعض آخر إلى وجود شبه كبير في الملامح وفي الخصائص البشرية بين العرب الجنوبيين والقبائل الإفريقية الساكنة على الساحل الإفريقي من البحر الأحمر والصومال، إلا إنه نسب ذلك إلى إن تلك القبائل كانت عربية في الأصل، هاجرت من جزيرة العرب عن طريق باب المندب إلى أفريقية، فسكنت هناك. ومن ثم وقع هذا التشابه. بين تلك القبائل والعرب الجنوبيين.
ورأى آخرون أن العربية الجنوبية هي مزيج من الأجناس البشرية واضح المعالم، وذلك منذ أقدم أيامها. فنرى فيها قبائل تشبه جماعة "الفيديد" "Weddid" الهندية، وهي من للسلالات الهندية القديمة، يسكن بعضها في أرض "سيهان" و "معارة" من حضرموت، ونرى فيها عناصر مما يطلق عليها اسم "الجنس الشرقي" "Orientalide Rasse"، وهو الجنس الذي يكثر وجوده بين العرب الشماليين، وعناصر أخرى تمثل إنسان حوض البحر المتوسط "Mediterranen Rasse" أو الأجناس الأوروبية، حيث وجد بعض السياح بين بعض قبائل اليمن جماعة من الناس لها عيون زرق وشعر أشقر وبشرة بيضاء أو تميل إلى البياض وملامح أوروبية بينة، وتتراوح نسبة هؤلاء بين 8 إلى 12 بالمئة.

(1/492)


--------------------------------------------------------------------------------

ووجد الباحثون بين قبائل العربية الجنوبية،جماعات لها ملامح آشورية وجماعات ذات ملامح تشبه ملامح سكان آسية الصغرى، وجماعات ذات ملامح أفريقية. وقد وجد الدكتور "سليمان أحمد حزين" أن بين أهل شمال اليمن وبين أهل جنوب اليمن إلى المحيط اختلافات بارزة في الملامح وفي المظاهر الجسمية يخرجنا البحث عنها هنا من حدود التأريخ العام. ووجد غيره مثل ذلك. كما وجد هذا الاختلاط بارزا في بقايا الهياكل البشرية القديمة التي عثر عليها في العاديات.
وما هذه المظاهر والملامح التي رأيناها من الجماجم وبقية الهياكل البشرية ومن أشكال التماثيل والصور، ومن دراسات الباحثين "الأنتروبولوجيين" للقبائل الحاضرة، إلا حكاية واضحة صريحة عن عملية امتزاج أجناس بشرية متعددة في العربية الجنوبية، بسبب الهجرات والحروب والاتصال البحري والتجارة وعوامل أخرى، ونجد مثل ذلك بالطبع بين من نسميهم بالعرب الشماليين. وسوف نرى إن الدول القديمة كانت تنقل البشر نقلا من مناطق إلى مناطق فتزرعهم فيها، وان أكثر أفراد الجيوش التي كانت ترسل لمحاربة القبائل أو للتوسع في الجزيرة كانت تبقى وتستقر في المواضع التي ترسل إليها، فتتطبع بطباع من نزلت بينهم، وتكون في النهاية منهم، أضف إلى ذلك الرقيق.

(1/493)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذكر إن جماعة من "بني الحارث بن كعب" وفدت على الرسول، فنظر إليهم، فقال: " من هؤلاء الذين كأنهم من الهند?". وقد كان "قيس بن عمرو" الشاعر المعروف ب "النجاشي" من هؤلاء. وسواء أكان ما نسب إلى الرسول من قوله المذكور صحيحا أم موضوعا، فإن الأخبار تذكر إن بشرة "بني الحارث بن كعب"، كانت تميل إلى السمرة الشديدة، بل إلى السواد الذي يشبه سواد بشرة الإفريقيين، أفلا يحوز أن يكون أصلهم من إفريقية?. وقد عرفت جماعة كبيرة من أهل مكة بالأحابيش، لأن أصلهم من رقيق الحبشة والسواحل الإفريقية المقابلة لجزيرة العرب ? فدعوى وجود جنس "أنتروبولوجي" واحد أو جنسين منفصلين، لكل منهما خصائص جسمية وملامح "فسيولوجية" معينة للعرب، وبالمعنى العليم المفهوم اليوم عند علماء الأجناس، هي دعوى غير مقبولة، لأن البحوث العلمية والمختبرية لا تؤيدها ولا تثبتها، ولأن البحوث التأريخية الحديثة تعارضها أيضا، وكل ما نقوله هو أن ما نسميه اليوم بالجنس هو جنسية ثقافية فكرية، لا جنسية دموية تقوم على وحدة الملامح والمظهر والدم.
فما يذكره أهل الأنساب عن النسبين، وما يتصوره بعض الناس من صفاء الجنس العربي صفاء تاما ونقائه من كل دم غريب، دعوى لا يمكن الاطمئنان إليها في هذا اليوم. لن يضير العرب قول مثل هذا، فصفاء الأجناس البشرية صفاء تاما، من القضايا التي عجز حتى القائلون بنظرية العنصريات مثل النازيين عن إثباتها في هذا اليوم. وسيظهر ضعفها في المستقبل ظهورا أوضح مما هو عليه الآن.
لقد كان "نولدكه" أول من شك من المستشرقين في هذا النسب العام الذي وضعه أصحاب الأنساب للعرب، وكان أول من نبه على أثر اليمانيين في وضعه وفي محاولتهم رجعه إلى عهود قديمة قبل الإسلام. وذهب "هاليفي" إلى أبعد من ذلك، فرأى إن كل ما قيل في هجرة القبائل اليمانية إلى الشمال هو أسطورة، وان ما يزعم من انتساب تلك القبائل إلى اليمن هو حديث خرافة لا يركن إليه.

(1/494)


--------------------------------------------------------------------------------

ونحا مستشرقون آخرون هذا المنحى، فرأوا إن للنسابين يدا في ترتيب هذه الشجرة العظيمة للأنساب،أو الشجرتين بتعبير أصح: شجرة نسب أبناء قحطان، وشجرة نسب أبناء عدنان. ولذلك نهم لا يطمئنون إليها، ولا يصدقون بكثير من هذه الأنساب المروية وبالأخبار والروايات الواردة في هجرة القبائل القحطانية نحو الشمال.
اذن، فقحطان ليس بجد لكل القبائل القحطانية المعروفة، وعدنان لم يكن جدا لجميع القبائل العدنانية، و إنما ما كنايتان عن مجموعة قبائل، تدعى عند العرب "بالحلف"، وقد أخذ أهل النسب قحطانهم من التوراة، وهو هناك كناية عن مجموعة قبائل مواطنها في العربية الجنوبية. أما "عدنان" فلم يرد اسمه في التوراة، ولا نعرف من أمره شيئا في الزمن الحاضر، والظاهر إنه كناية عن حلف، ويظهر إنه ظهر للوجود قبيل الإسلام. وعدم وقوفنا على أخباره، لا يسوغ لنا نكران وجوده، فلعل الأيام تكشف لنا عن كتابات نرى فيها اسمه، كما حدث بالنسبة إلى أسماء أخرى شك فى أصلها بعض المستشرقين، ثم تبين إنها كانت معروفة، بدليل ورودها في بعض كتابات الجاهليين.
ولا أعتقد إن التوراة ابتدعت فكرة "يقطان" ونسل يقطان، اذ لا يعقل تصور ذلك. والذي أراه إنها حكت نسبا كان يجمع شمل القبائل العربية المذكورة عند العرب، وصل خبره إلى العبرانيين فسجله كتبة التوراة في الأسفار، مع أنساب الشعوب. كما إنها أخذت من العرب أيضا نسب "الإشماعيليين" على نحو ما كان م معروفا يومئذ، وكذلك نسب أبناء "قطورة". فتكون التوراة قد ذكرت أنساب ثلاث مجموعات أو أحلاف عربية كبيرة، كانت قائمة في ذلك الزمن.

(1/495)


--------------------------------------------------------------------------------

و قد يكون من الخير الاتيان بأمثلة من أيام الإسلام، تساعدنا في شرح موضوع النسب عند الجاهليين وتفسيره. فإن الزمن وان تغير وتبدل في الإسلام وتباعد عن الجاهلية، إلا أن الأفكار القبلية بقيت هي هي عند تلك القبائل بالنسبة إلى النسب وتكوين الأحلاف. فقبيل ظهور الإسلام كان بين "يثرب" و "مكة" نزاع شديد. ولما هاجر الرسول إلى "يثرب" عرف أتباعه الذين تبعوه بالمهاجرين.
وقد دامت الهجرة إلى عام الفتح: "فتح مكة". وأما أهل المدينة الذين آووا الرسول ونصروه، فقد عرفوا بالأنصار لانتصارهم للرسول ولتقديم مساعداتهم له وللمسلمين. وللقضاء على الخصومة، آخى الرسول بين الأنصار والمهاجرين. غير أن العداء عاد فتجدد بين الأنصار والمهاجرين، بعد وفاة الرسول، ويظهر أثره في شعر حسان بن ثابت والنعمان بن بشير والطرماح بن حكيم، وهم شعراء يثرب وألسنتها، وفي الأشعار الأخرى التي جمعا في دواوين الأنصار.
وقد صير النزاع المذكور لفظة "الأنصار" علما خاصا على أهل المدينة، حتى كادت تكون نسبا، واصطبغت الدعوة بصبغة يمانية، فنجد في شعر الأنصار فخرا باليمن، واعتزازا بأصلهم اليماني، ومجاهرة بأنهم يمانيون صرحاء وبأنهم من أقرباء الغساسنة ومن ذوي رحمهم. كما انهم استعملوا لفظة الأنصار مقابل قريش ومعده ومضر ونزار، وأطلقوا على لسانهم حسان بن ثابت شاعر الأنصار، وشاعر اليمن، وشاعر أهل المقرى.

(1/496)


--------------------------------------------------------------------------------

ونبد في أيام معاوية وفي أيام ابنه يزيد قصصا عن هذا النزاع اليثربي المكي، النزاع الذي سمي نزاع الأنصار مع المهاجرين، أو نزاع الأنصار مع قريش، ويلاحظ إن هذا القصص لم يستعمل لفظة "مهاجرين" في مقابل "الأنصار" إلا نادرا، إنما استعمل الألفاظ المذكورة. وقد عرفت وفودهم فيه ب "وفود الأنصار" أو "الأنصار". فصارت تلك اللفظة وكأنها نسب أو علم من أعلام القبائل، حتى تضايق من ذلك رجال قريش. قيل بينما كان "عمرو بن العاص" عند "معاوية" يوما، إذ دخل عليه حاجبه يقول: "الأنصار بالباب"، فتضايق من ذلك عمرو، وقال: "ما هذا اللقب الذي قد جعلوه نسب? أرددهم إلى نسبهم". فقال له معاوية: إن علينا في ذلك شناعة. قال: وما في ذلك ? إنما هي كلمة مكان كلمة، ولا مرد لها.
فقال معاوية لحاجبه: أخرج، فناد: من كان بالباب من ولد عمرو بن عامر، فليدخل. فخرج، فنادى بذلك، فدخل من كان هناك منهم سوى الأنصار، فقال له: أخرج، فناد: من هنا من الأوس والخزرج، فليدخل. فخرج فنادى ذلك، فوثب النعمان بن بشير، فأنشأ يقول: يا سعد، لا تعد الدعاء، فما لنا نسب نجيب به سوى الأنصار
نسب تخيره الإله لقومنا أثقل به نسبا إلى الكفار
إن الذين ثووا ببدر منكم يوم القليب هم وقود النار
وقام مغضبا. فبعث معاوية، فرده، وترضاه وقضى حوائجه وحوائج من كان معه من الأنصار. وكان النعمان بن بشير حامل لواء الأنصار قد غضب في مجلس من مجالسه مع معاوية، ولاحظ معاوية عليه الغضب فضاحكه طويلا، ثم قال له: " إن قوما أولهم غسان، و آخرهم الأنصار، لكرام". وكان أهل يثرب يلحقون نسبهم بنسب غسان، ويرجعون نسهم ونسب غسان إلى الأزد. ونسب الأزد إلى اليمن.

(1/497)


--------------------------------------------------------------------------------

لقد كان من المعقول استعمال لفظة "المهاجرين" في مقابل "الأنصار"، إلا أن الجانبين لم يستعملاها إلا قليلا، و إنما استعملا لفظتي قريش ومعد، كما استعملا "قريشا" في مقابل "يمن". وقد افتخرت قريش بمعد، وبالنبوة. فأجابهم الأنصار بان أم الرسول من بني النجار أخوال النبي، وهم من المدينة، وبأنهم كانوا أول من آمن به ونصره، وبأن المتنبيين كانوا من قبائل معد.
ولو كتب لمصطلح "الأنصار" بالبقاء، ولو كان عهد التدوين بعيدا عنه، لصار ولا شك نسبا من الأنساب، ولصارت اللفظة اسم أب لقبيلة، كما صارت الألفاظ المذكورة التي خلدت لأنها الألفاظ الجاهلية، فلما صار التدوين، كان الناس يتداولونها على أنها أنساب وأسماء.
واستعملت لفظة "اليمانية" في مقابل "النزارية"، في العصر الأموي. ويظهر إنها تغلبت على لفظة "الأنصار" وقضت عليها. وهي تعني القبائل التي ترجع أن أنسابها إلى اليمن. أما "النزارية" فقد عنت كل القبائل العدنانية.
وقد كان بين الحزبين نزاع شديد. ولكل شيعة نسابون ومدافعون ومهاجمون. وقد أثر هذا النزاع تاثيرا خطيرا في وضع الأنساب.

(1/498)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرجع بعض الباحثين انقسام العرب إلى قحطانيين و عدنانيين إلى هذا النزاع: نزاع "يثرب" ومكة قبل الإسلام، ويرجعه آخرون إلى التنازع الطبيعي الذي هو بين البداوة والحضارة. فقد كان أهل يثب أي اليمن كما يقولون أصحاب حضارة وملك. أما أهل مكة ومن والاهم، فقد كانوا أعرابا أو شبه أعراب. ومن هنا اختلفت طبيعة أهل يثرب عن طبيعة أهل مكة، ووقع النزاع والتنافس بين الجماعتين، وتحول إلى نسبين. وزعموا إن هذا النزاع هو نزاع الحظارة مع البداوة، نزاع أهل المدر مع آهل الوبر، نزاع "بني مدراء"، أو "أهل القارية" كما يقال لهم أيضا، لأنهم "قارون" أي سكان القرية والقرى مع أهل البادية أي البادون نزلة البادية. قالوا: ومن هنا قيل: الحضر خلاف البدو، والحاضر خلاف البادي، و "أهل الحاضرة" و "أهل البادية" و "الحاضرة"، خلاف البادية وهي المدن والقرى والريف، وهو تقسيم، يرونه، قديما، يرجع إلى الجاهلية. روي أن الرسول قال، حين وفد عليه قيس بن عاصم: "هذا سيد أهل الوبر ". و نجد مثل ذلك في النصوص اليمانية الجاهلية، إذ أشارت إلى الأعراب كطبقة خاصة قائمة بنفسها، تمتاز عن الحضر المستقرين.
ون ثم كانت غالبية القبائل العدنانية التي يذكر أهل الأخبار أسماءها قبائل أعرابية، أي قبائل بدوية، أو قبائل غلبت البداوة عليها، وغالبية القحطانية قبائل مستقرة أو قبائل شبه حاضرة تنخت في أماكن ثابتة ومالت إلى حياة الحضارة. ولما كان الحضر أرقى فكريا من أهل الوبر، صارت إليهم السيادة في الغالب، فتحكموا في القبائل العدنانية، وملكوا القبائل المعدية. فحكم المناذرة والغساسنة وآل كندة وغيرهم ممن يرجع نسبه النسابون إلى قحطان، قبائل عدنانية، ولم يحكم العدنانيون القحطانيين قبل الإسلام.

(1/499)


--------------------------------------------------------------------------------

هذا هو رأي من يرى أن القحطانية والعدنانية كفاية عن الحضارة والبداوة، وتعبر عن أهل المدر وأهل الحضر. يستدلون على رأيهم هذا بما قلته من غلبة الحياة الحضرية والاستقرار على القبائل التي يرجع النسابون نسبها إلى قحطان، وغلبة البداوة أو شبه البداوة على القبائل العدنانية.
وللحكم على هذه النظرية، يجب تكوين جدول. بأسماء القبائل الجاهلية العدنانية منها والقحطانية، ودراسة أحولها الاجتماعية والمواضع التي عاشت فيها في مختلف الأزمنة، وعند ذلك نستطيع الحكم على ما فيها من قوة أو ضعف، فإن في القحطانيين قبائل متبدية، وفي العدنانيين قبائل مستوطنة وأصحاب قرى. ولهذا لن تصدق تلك النظرية إلا بمثل هذه الدراسة.
ولفهم النزاع القحطاني العدناني، أو نزاع يثرب ومكة، لا بد من البحث عن موارد جاهلية و إسلامية نستعين بها على فهم طبيعة هذا النزاع. أما الموارد الجاهلية، أي الكتابات، فليس فيها حتى الساعة شيء ما محدثنا عن هذا النزاع، وأما الموارد الإسلامية، فإن شعر حسان بن ثابت، أو الشعر المنسوب إلى هذا الشاعر بتعبير أصدق واصح، هو المرجع الأول الذي يحدثنا عن طبيعة هذا النزاع أو التحاسد الذي كان بين مكة ويثب قبل ظهور الإسلام وعند ظهوره، إذ كان حسان نفسه من المناضلين فيه الحاملين للواء يثرب في نزاعها مع مكة. ونرى القحطانيين يروون شعره ويذكرونه في افتخارهم على العدنانيين. وقد حمل شعره جل مواضع فخر قحطان على عدنان، ومفاخر أهل يثرب على أهل مكة، حتى نستطيع أن نقول إنه أحد نجاة النزاع القحطاني العدناني، باعتبار إنه أقدم مشارك فيه يصل خيره إلينا، وأن أكثر ما تذكره القحطانية من دعاوى مركزة في شعر هذا الشاعر مذكورة فيه.

(1/500)

admin
12-26-2010, 12:45 PM
وقد وصل جل شعر حسان إلينا، وطبع في ديوان. راجعناه وراجعنا ما يحمل من شعر، فلم نجد فيه ذكرا لعدنان، و إنما نجد فيه اسمي "قحطان" و"معد". ولم "رد فيه اسم الأول إلا مرة واحدة في قوله: فلو سئلت عنه معد بأسرها وقحطان أو باقي بقية جرهما
وأما اسم الثاني، أي "معد"، فقد ورد في مواضع بلغت سبعا في الديوان.
غير إننا نرى في الجزء الأول من "الإكليل"، أبيات شعر نسبها "الهمداني" لحسان، ورد فيها ذكر لقحطان، وفخر به، وانتسب إليه: لقد كان قحطان العلا القرم جدنا له منصب في يافع الملك يشهر
ينال نجوم السعد إن مد كفه تفل أكف عند ذاك وتقصر
ورثنا سناء منه برزا ومحتدا منيف الذرى فخر الأرومة يذكر
ونرى أبياتا أخرى من هذا النوع من الفخر، في مكان آخر من هذا الكتاب، نسبها أيضا هذا الشاعر، هي هذه: فنحن بنو قحطان والملك والعل ومنا نبي الله هود الأخاير
وإدريس ما إن كان في الناس مثله ولا مثل ذي القرنين أبناء عابر
وصالح والمرحوم يونس بعد ما ألات به حوت بأخلب زاخر
شعيب و الياس وذو الكفل كلهم يمانون قد فازوا بطيب السرائر
ونرى أبياتا أخرى نسبها "الهمداني" إلى "حسان" أيضا، فيها نشر بقحطان وبقوم الشاعر، رواها على هذا النحو: فمن يك عنا معشر الأزد سائلا فإنا بنو الغوث بن نبت بن مالك
ابن زيد بن كهلان نما سبأ له إلى يشجب فوق النجوم الشوابك
ويعرب ينميه لقحطان ينتمي لهود نبي الله فوق الحبائك
يمانون عاديون، لم يلتبس بنا مناسب شابت من إلى وأولئك
والأبيات المذكورة، لا يمكن أن تكون من نضم حسان، فأسلوبها غير أسلوبه في شعره، وفي بعضها ركة وضعف، ولفظة "المرحوم" عن الاصطلاحات الحادثة المتأخرة، كما إن التفاخر بالأنبياء المذكورين لم يكن معروفا على عهده.
وأما الشعر المبتدئ بهذا البيت: فمن يك عنا معشر الأزد سائلا فإنا بنو الغوث بن نجت بن مالك
ففيه إضافات لا تجدها في الديوان.

(1/501)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي المضاف إليه تباين ظاهر مع أسلوب حسان في شعره، وركة بينة، وطابع الصنعة ظاهر عليه. وقد ورد في ديوانه على هذا النحو: فإن تك عنا معشر الأسد سائلا فنحن بنو الغوث بن زيد بن مالك
لزيد بن كهلان الذي نال عزه قديما دراري النبوم الشوابك
إذا القوم عدوا مجدهم وفعالهم وأيامهم عند التقاء المناسك
وجدت لنا فضلا يقر لنا به إذا ما فخرنا كل باق وهالك
فأنت ترى أن الأبيات في الديوان خالية من نسب "سبأ" و "يشجب" و "يعرب" و "قحطان" و "هود" وغير ذلك، وان أسلوب صياغة هذا النظم لا يمكن أن يكون من أسلوب شاعر جاهلي أو شاعر مخضرم، بل لا بد أن يكون من نظم المتأخرين، إضافته بعض المتعصبين لليمن إلى شعر حسان، ونظمه على وزن البيت الأول وطريقته، يكون أوقع في النفس، ودليلا على قدم ذلك النزاع.
ولا أعتقد إن هنالك حاجة تدعوني إلى إلفات نظر القارئ إلى أن الأبيات المتقدمة الواردة في ديوانه، "هي الأبيات المتقدمة عليها نفسها، أي الأبيات التي أخذتها من كتاب الإكليل للهمداني رويت بشكل آخر، بشكل يرينا إن لم الرواة مهما حاولوا اظهار انهم على حرص تام في المحافظة على أصالة الشعر والمحافظة على الأصل، فإنهم لا يتمكنون من ذلك.
ونسب بعض الرواة إليه هذه الأبيات: تعلمتم من منطق الشيخ يعرب أبينا، فصرتم معربين ذوي نفر
وكنتم قديما ما بكم غير عجمة كلام، وكنتم كالبهائم في القفر

(1/502)


--------------------------------------------------------------------------------

وهي أبيات لم ترد في ديوانه، شعر إن "يعرب"، وهو جد القحطانيين، هو أول من أعرب في لسانه، وأول من نطق بالعربية، فهو أول متكلم بها، وأول من أوجدها وكونها، وان العدنانيين تعلموها من أبنائه، بعد إن كان لسانهم لسانا أعجميا. وأما من ناحية صحة نسبتها إلى شاعر الإسلام وشاعرا وفي الأنصار، فإن في أسلوب نظمها وفي صياغة البيت الأول وجملة "منطق الشيخ يعرب"، ما فيه الكفاية لإظهار إنها مصنوعة، حملت عليه حملا، ولا يمكن أن يكون هذا النظم من نظم أول الإسلام، حتى وان كان من شاعر من شعراء أهل المدر في ذلك العهد.
وزعم إن حسانا ذكر القيل "ذو ثات"، وهو من أقيال حمير، فقال هذا البيت: وفي هكر قد كان عز ومنعة و ذو ثبات قيل ما يكلم قائله
ولم يرد هذا البيت في ديوانه. أما أسلوب نظمه، فينبئك إن قائله يجب أن يكون شخصا آخر من المتأخرين عن حسان، ممن كانوا يضعون الشعر على ألسنة غيرهم على نحو ما وضعوا على ألسنة التبابعة وآدم والجن.
هذا ولحسان شعر لم يرد في ديوانه، بل ورد في موارد أخرى. منه ما هو مقبول ومنه ما هو مردود، لأنه متحول وقد حمل على حسان وألصق به، ولم يغفل العلماء عنه، بل أشاروا إليه ونبهوا إن بعض الناس قد تعمدوا وضعه وحمله عليه لمآرب. قال الأصمعي في ذلك: " تنسب إليه أشياء لا تصح عنه. وهذا فيما يظهر صحيح، وكثيرا ما رأيت في سيرة ابن هشام أبياتا لحسان من هذا القبيل يعقبها صاحب السيرة بقوله: وأهل العلم ينفيها عن حسان". وقد نسب الجمحي الوضع على حسان إلى بعض قريش للغض منه، فقال: "وقد حمل عليه ما لم بحمل على أحد. لمتا تعاضهت قريش، واستبت، وضعوا عليه أشعارا كثيرة، لا تليق به". وقد كان ذلك لتعرضه بهم، ولتعصبه المفرط ليثرب، وافتخاره بهم على قريش.

(1/503)


--------------------------------------------------------------------------------

هذا و مع إفراط "حسان" في التعصب ليثرب، لا نراه يذكر قحطان إلا مرة واحدة، أما عدنان فلم يذكره في شعره قط. ولهذه الملاحظة أهمية كبيرة، لتكوي ن رأي في فكرة "قحطان" وعدنان في ذلك العهد، إذ إنها تدل على إن القحطانية والعدنانية لم تكن عنده على النحو الذي صارت فيه فيما بعد، بعد اشتداد النزاع بين الأنصار وأهل مكة ومن حولها في خلافة بني أمية خصوصا، وهم عصب العدنانيين، وانه في كل فخره بالنسب لم يتجاوز الأزد، ابناء "الغوث بن زيد بن مالك بن زيد بن كهلان"، وغسان و آل نصر.
وأما بعد إسلامه، فقد حول فخره وتباهيه إلى فخر بالأنصار على قريش ومضر ومعد، أي أهل مكة، بنصرة قوم للإسلام، وبنصر النبي حين خذلوه وقاوموه. فكانوا ملوك الناس قبل محمد، فلما أتى الإسلام، كان لهم النصر في نصرته. ونجد هذا الفخر واضحا قويا في شعره، فهو فخر أهل يثرب على أهل مكة. فخر الأنصار على مضر ومعد وقريش، فلم يصل الفخر بقومه عنده إذن إلى حد الفخر بقحطان، أو باليمن كلها على عدنان. وأما ما ورد منه أكثر من ذلك، كما نرى في الأبيات المنسوبة إليه في الجزء الأول من الإكليل، إنه عندي من ذلك النوع المنحول الذي اضيف إليه. فالتكلف ظاهر عليه، والأسلوب مختلف عن أسلوبه، وهو من النظم المتأخر عن أيام حسان، من نظم وضاح يتكلف قول الشعر ولا يحسن صناعته.
خذ قصيدته التي تمثل منتهى فخره بقومه، نره يقول: ألم ترنا أولاد عمرو بن عامر لنا شرف يعلو على كل مرتقي?
رسا في قرار الأرض، ثم سمت له فروع تسامى كل نجم محلق
ملوك وأبناء الملوك، كأننا سوارى نجوم طالعات بمشرق
إلى أن يقول: كجفنة والقمقام عمرو بن عامر وأولاد ماء المزن وابني محرق
وحارثة الغطريف أو كابن منذر ومثل أبي قابوس رب الخورنق

(1/504)


--------------------------------------------------------------------------------

فلا تجد فخره بها يتعدى حدود الفخر بالأزد وبالغساسنة وآل نصر، أي ملوك الحيرة. وهو ما وجدناه في أشعاره الأخرى. وقد عاب في هذه القصيدة "قيسا" و "خندفا" لأنهما قاومتا الرسول وآذتاه. مما يدل على أن هذين الاسمين كانا معروفين قبل الإسلام.
هذا، وقد أضاف أهل الأخبار إلى قصيدة حسان التي مدح فيها الملك "جبلة بن الأيهم"، ومطلعها: لمن الدار أقفرت بمغان بين أعلى اليرموك والصمان
هذا البيت: أشهرنها فإن ملكك بالشا م إلى الروم فخر كل يماني
ولم يرد ذكر هذا البيت في الديوان. وهو بيت يتحدث كما ترى عن فخر باليمن: أصل الغساسنة، وأهل يثرب، وكل قحطان. وأغلب ظني إنه من الأبيات المدسوسة، وضعه أحد المتعصبين لليمن ودسه في القصيدة.
هذا وقد نسب إلى النعمان بن بشير الأنصاري شعر قيل إنه قاله في هذا الباب. ونسب إلى الطرماح بن حكيم مثل ذلك، وهو أيضا شاعر من شعراء الأنصار. وعلينا أن ندرس شعرهما، وشعر أمثالهما، وشعر شعراء قريش أيضا دراسة نقد وتمحيص نميز بها بين صحيحه وفاسده، لنتمكن بذلك من تكوين رأي علمي صحيح في القحطانية والعدنانية وتأريخ ظهورهما. ولو تيسر لنا ديوان الأنصار أو دواوين الأنصار، لزادت معارفنا، ولا شك، في هذا الباب وتمكنا من تكوين رأي في تلك العصبية القبلية بصورة أصح وأدق ولا شك.

(1/505)


--------------------------------------------------------------------------------

لقد حارب الإسلام العصبية الجاهلية، وآخى الرسول بين المهاجرين والأنصار، وحالف بين قريش وأهل يثرب، ونهى عن أحلاف الجاهلية، وروي عنه إنه قال: "لا حلف في الإسلام"، لما ينتج عنه من فتن ومن قتال بين القبائل وغارات، ولأن الإسلام قد عوض عن الحلف، وزاده شدة بنزوله. "وما كان من حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة". وعد "التعرب" بعد الهجرة، أي أن يعود المرء إلى البادية ويقيم مع الأعراب، كبيره من الكبائر، حتى عد من يعود إلى موضعه من البادية بعد الهجرة كالمرتد. ومع ذلك، لم يكن من الممكن تنامي العصبيات، وغسل آثار الجاهلية، وطمس معالمها تماما، فتحزبت القبائل وتكتلت، وكانت تحارب على إنها همدان، أو ربيعة، أو طيء، أو مضر، أو قريش، أو قيس، او الأزد، أو ربيعة.، أو تميم، أو غير ذلك من أسماء قبائل.
القحطانية والعدنانية في الإسلام
الحق إن ما نسميه قحطانية أو عدنانية إنما هو صفحة من صفحات النزاع الحزبي عند العرب في الإسلام، شاء أصحابه ومثيروه رجعه إلى الماضي البعيد، ووضع تأريخ قديم له، فجعلوا له أصولا زعموا إنها ترجع إلى ما قبل الإسلام بكثير، ورووا في ذلك شعرا لا يخرج في نظرنا عن هذا الشعر الذي يحفظه الرواة على لسان آدم و هابيل وقابيل والجن.
وفي هذا الصراع القحطاني العدناني العنيف شرع في تدوين الأنساب وتثبيتها في القراطيس والكتب. فكان لهذا الصراع ولوضع القبائل وتكتلاتها في هذا الوقت أثر خطير في تثبيت أنساب القبائل وتسجيلها، ليس في هذا العهد فقط، بل في تثبيت أنساب قبائل الجاهلية وتسجيلها أيضا. إذ سجلت هذه الأنساب: جاهلية و إسلامية على الرأي السائد في النسب يوم شرع في التسجيل والتدوين، أي في أوج هذه العصبية الضيفة التي عمت الناس في صدر الإسلام. ومن هنا كان لا بد لفهم الفكرة القحطانية العدنانية من الإلمام بنزاع قحطان وعدنان في ا لإسلام.

(1/506)


--------------------------------------------------------------------------------

والذين قاموا بتسجيل الأنساب وتدوينها وتثبيتها في الكتب، كانوا هم أنفسهم من أصحاب العصبية لنزار أو لليمن ومن المتأثرين بالأحوال السياسية لذلك العهد. ولهذا نجد في أقوال بعضهم تحزبا وتطرفا وميلا إلى تأييد فريق على فريق. ومن هنا كان لا يد لنا من التنبه لهذه العصبية، واتخاذ الحيطة والحذر عند دراسة هذا النزاع القحطاني العدناني.
وقد استعملت في هذا العهد "مضر" في مقابل "الأزد"، كما استعملت الأزد في مقابل تميم، وورد "أهل اليمن" أو اليمانية. ولكننا قلما نسمع في نداء القبائل وأخبار هذه الفن أو الحروب التي وقعت في هذا العهد استعمال كلمة "عدنان" في مقابل "قحطان"، ويقال مثل ذلك في الأشعار أيضا، في مثل شعر "الفرزدق" الذي استعمل كلمة "قحطان" في مقابل كلمة "نزار" وكلمة "لحن" في مقابل "نزار" أو "الأزد" في مقابل "نزار". كما استعمل الحكم بن عبدل "قحطان" في مقابل "معد". وقد ذكر الأعشى في شعر له: "ومن معد قد أتى ابن عدنان"، وذلك في مقابل "قحطان". وفي أيام معاوية وابنه "يزيد" و "مروان بن الحكم"، نالت "كلب" مركزا ساميا، لتزوج معاوية امرأة من كلب، هي "ميسون بنت بحدل"، فأصبحت هي والقبائل التي تؤيدها مقربة عند الخلفاء، مع أن الخلفاء من قريش، وقريش من قيس. وهذا مما أغضب قيسا المعروفة بعدائها لكلب. وقد كانت لفظة "قيس" في هذا العهد ترادف كلمة "معد" و "مضر" و "نزار". وأما "كلب"، فترادفه اليمن.وقد عرفت المعركة التي وقعت في "مرج راهط" بين مروان وابن الزبير بأنها معركة "قيس" و "كلب" لأن قيسا حاربت فيها عن "ابن الزبير". أما كلب، فقاتلت عن مروان، و قد أوجد هذا الانتصار حقدا كبيرا بين "قيس" وحلفائها من القبائل، وبين كلب وأنصارها من القبائل التي أدعت إنها من اليمن، فوقعت حروب بن قيس وكلب هلك فيها خلق كثير من الفريقين. ولعب دورا مهما في تكتل القبائل وفي تجمع القحطانيين والعدنانين.

(1/507)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد اسهم الخلفاء الذين جاؤوا بعد "عبد الملك"، ويا للأسف، في هذا النزاع، متأثرين بعاطفتهم وبدمهم من الأمهات، فكان يعضهم يؤيد القيسيين إذا كانت أمهم من قيس، وكان آخرون يؤيدون "كلبا" إذا كانت أمهم من اليمن. وسار على هذه السياسة الولاة والعمال، فكانت النتيجة تكتل القبائل وانقسامها إلى معسكرين "قيس" و "يمن"، وتزعمت "أزدعمان" في البصرة و خراسان حزب "يمن" في مقابل "قيس" و "تميم".
ووقعت وقائع دموية بين يمن و قيس، أنهكت العرب جميعا، وصارت من جملة العوامل، التي عجلت بسقوط الأمويين.
وحمل الشعراء مشاعل هذا النزاع، وأمدوا ناره بوقود غزير. نظموا القصائد في مدح قيس وفي ذم يمن وذم قيس بحسب قبيلة الشاعر ونسبه. ساهم فيه الأخطل والكميت ودعبل الخزاعي وجرير بن عطية بن الخطفى التميمي و إسحاق بن سويد العدوي وغيرهم، فكان مدح وكان ذم، وكان تباه وافتخار، وكان قذع وهجاء. وبدلا من أن يتدخل الحكام و مسيرو الأمة في إخماد نار هذه الفتنة و إسكات الشعراء جمعا للصف، ساهموا هم أنفسهم كما قلت في هذه المعركة وشجعوا المحاربين فيها، ففرقوا بين العرب بسياستهم هذه وأطمعوا الأعاجم فيهم، وجعلوا العرب يقاتل بعضهم بعضا، وبذلك توقفت الفتوحات العربية الإسلامية، نتيجة لهذه السياسة المفرقة الخرقاء.
ولم يقف هذا النزاع على التباهي بقحطان وعدنان وبالأيام وبالشجعان، بل تجاوز ذلك إلى التباهي بارتباط كل فريق بجماعة من الأعاجم بروابط الدم والنسب والثقافة، فافتخرت النزارية بالفرس على اليمانية، وعدوهم من ولد "إسحاق ابن إبراهيم" وافتخروا بإبراهيم جد العرب والفرس. ونظم "جرير بن عطية ابن الخطفى التميمي"، في ذلك شعرا، جاء فيه: أبونا خليل الله لا تنكرونه فأكرم بإبراهيم جدا و مفخرا
وأبناء إسحاق الليوث إذا ارتدوا حمائل موت لابسين السنورا
إذا افتخروا عدوا الصبهبذ منهم و كسرى وعدوا الهرمزان وقيصرا

(1/508)


--------------------------------------------------------------------------------

أبونا أبو إسحاق بجمع بيننا أب لا نبالي بعده من تأخرا
أبونا خليل الله، والله ربنا رضينا بما أعطى الإله وقدرا
ومن هذا القبيل، قول إسحاق بن سويد العدوي: إذا افتخرت قحطان يوما بسؤدد أتى فخرنا أعلى عليها وأسودا
ملكناهم بدا بإسحاق عمنا وكانوا لنا عونا على الدهر أعبدا
ويجمعنا والغر أبناء فارس أب لا نبالي بعده من تفردا
وقول بعض النزارية: و إسحاق وإسماعيل مدا معالي الفخر والحسب اللبابا
فوارس فارس وبنو نزار كلا الفرعين قد كبرا وطابا

(1/509)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم يقف النزاريون عند هذا الحد، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك، فزعموا أن هذا النسب قديم، وأن قرابة الفرس بالعدنانيين قديمة، وأن الفرس كانت في سالف الدهر تقصد إلى البيت الحرام بالنذور العظام تعظيما لإبراهيم الخليل بانيه، وانه عندهم أجل الهياكل السبعة العظيمة والبيوت المشرفة في العالم، وأن رجلا تولاه وأعطاه العدة والبقاء، واستشهدوا على صحة دعواهم بشعر زعموا أن قائله هو أحد شعراء الجاهلية: زمزمت الفرس على زمزم=وذاك في سالفها الأقدم وترتب على هذا وضع نسب الفرس يتصل بنسب العرب العدنانيين، فزعموا أن "منوشهر" الذي ينتسب اليه الفرس هو "منشخر بن منشخرباغ"، و "هو يعيش بن ويزك"، و "ويزك" هو اسحاق بن إبراهيم الخليل، واستشهدوا على زعمهم هذا بشعر، قالوا إن بعض شعراء الفرس في الإسلام قاله مفتخرا: أبونا ويزك وبه أسامي=إذا افتخر المفاخر بالولاده أبونا ويزك عبد رسول=له شرف الرسالة والزهاده أما "يعيش بن ويزك" جد الفرس الجديد، فهو "عيسو" "Esau"، وفي العبرانية "Usu"، ومعناها "مشعر" أو "خشن"، وهو شقيق يعقوب وجد الأدوميين في التوراة وابن إسحاق. وأما "ويرزك" فهو "يزك" أو "إيزك" "Isaac" "Icaak" وهو "إسحاق"، وهو في العبرانية "يصحق" "يصحك" "يصحاك" "Yishak" أي "الضحاك(. و يرى علماء التوراة إن الأصل اسم قبيلة كان يقال لها "يصحقيل" "يصحق ال" "يضحك ال" "Yishhakel" "Yishakil"، وهو والد "عيسو" و "يعقوب".
وقد أسهم بعض الفرس أنفسهم في إذاعة هذا النسب ونشره، وقد استشهد على صحة دعواه بالأشعار المذكورة التي تفتخر بالفرس على اليمانية، وانهم ولد أبيهم إبراهيم. ولعلهم قالوا ذلك تقربا إلى الحكومة، وهي عدنانية، ولعوامل سياسية أخرى، منها تقريب الفرس من العرب، وضمان تعاونهم مع الخلافة في وجه النعرات القومية التي ضهرت في إيران.

(1/510)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم يكتف العدنانيون بقرابتهم للفرس و للإسرائيليين، بل زعموا إن الأكراد من أقربائهم كذلك، وانهم من نسل ربيعة بن نزار بن بكر بن وائل، أو انهم من نسل ربيعة بن نزار بن معد، أو انهم من نسل مضر بن نزار، أو من ولد كرد بن مرد بن صعصعة بن هوازن، وانهم انفردوا في قديم الزمان لوقائع ودماء كانت بي نهم وبين غسان، وانهم اعتصموا بالجبال فحادوا عن اللغة العربية لما جاورهم من الاسم، وصارت لغتهم أعجمية، فذلك على رأي أسل الأخبار بدء نسب الأكراد.
وقد لقي هذا النسب الجديد للأكراد تشجيعا من بعض الأكراد في أيام العباسيين، وربما في أيام أواخر الدولة الأموية كذلك، فأيدوه وانقسموا أيضا فرقا في شجرات النسب، فمنهم من أخذ بشجرة كرد بن مرد، ومنهم من أخذ بانتسابهم إلى سبيع بن هوازن، ومنهم من انتسب إلى ربيعة ثم إلى بكر بن وائل.
وكان من الطبيعي أن يجعل القحطانيون أعداء الفرس من ذوي أرحامهم، وهم اليونان فقالوا: إن يونان أخ لقحطان، وإنه من ولد عابر بن شالخ، إنه خرج من أرض اليمن في جماعة من ولده وأهله ومن انضاف إلى جملته حتى و أقاصي بلاد المغرب فأقام هناك، وانسل في تلك الديار، واستعجم لسانه ووازى من كان هناك في اللغة الأعجمية من الافرنجة، فزالت نسبته، وانقطع نسبه وصار منسيا في ديار اليمن. وقالوا أيضا إن الاسكندر من تبع. وكان من الطبيعي انزعاج العدنانيين من ربط نسب قحطان بيونان، فانبروا للرد عليه، وكيف يرضون أن يكون للقحطانيين أبناء عم على شاكلة اليونانيين، وقد كانوا أمهر من الفرس، ولهم دولة كبرى. فقال أحدهم، وهو أبو العباس ا لناشئ: وتخلط يونانا بقحطان ضلة لعمري لقد باعدت بينهما جدا

(1/511)


--------------------------------------------------------------------------------

وأضاف القحطانيون الأتراك اليهم أيضا، فزعموا أن معظم أجناس الترك وهم "التبت" من حمير، وأن التبع "شمر يرعش" أو تبعا آخر ربتهم هناك، و أن "شمر يرعش" هو الذي أمرببناء "سمرقند"، إلى غير ذلك من أقوال لا ترضى العدنانيين بالطبع، وفي ذلك يقول "دعبل بن علي الخزاعي" في قصيدته ألتي يرد بها على "الكميت"، و فخر فيها بمن سلف من ملوكهم وسير في الأرض،وان لهم من الفضل ما ليس لمعد بن عدنان، فقال في شعره: همو كتبوا الكتاب بباب مرو وباب الصين كانوا الكاتبينا
وهم جمعوا الجموع بسمرقند وهم غرسوا هناك التبتينا
وأضافوا "الضحاك" إليهم، وصيروه من "الأزد"، والأزد من اليمن، فهو يماني إذن أصيل. و "الضحاك" هو "بيوراسب أ عند أهل الأخبار. وقد ملكوه ألف سنة. وهو بطل أسطوري عند الفرس. وقد أخذ أهل الأخبار "ضحاكهم" هذا من "إسحاق"، كما أخذ العدنانيون "ويزكهم" من "إسحاق" فصيروه "منشخر" على نحو ما ذكرت. وقد قلت إن معنى "إسحاق" في العبرانية الضحاك. فالقحطانيون فعلوا هذا فعل العدنانيين، لجأوا إلى إسحاق فصيروه "الصحاك"، وبدلا من أن يقولوا إنه "ويزك" من اسم "إسحاق" في العبرانية أخذوا معنى الاسم فصيروه اسما عربيا هو الضحاك، وجعلوه قحطانيا من الأزد.
وكان كل فريق يرد على مزاعم الفريق الآخر، حين يضيف إليه أمة من الأمم. فلما ادعى العدنانيون انهم هم و الإسرائيليون والأعاجم من نسب واحد، انرى "دعبل الخزاعي" يرد عليهم في قصيدة ساخرة يقول فيها: فان يك آل إسرائيل منكم وكنتم بالأعاجم فاخرينا
فلا تنس الخنازير اللواتي مسخن مع القرود الخاسئينا
بأيلة والخليج لهم رسوم وآثار قدمن وما محينا
لقد علمت نزار إن قومي إلى نصر النبوة فاخرينا
قال هذه القصيدة في الرد على "الحميت"، وهو لسان من ألسنة النزارية، وقد تعرضى فيها باليمانية وتهكم عليهم.

(1/512)

admin
12-26-2010, 12:46 PM
حتى الموالي، وهم كما نعلم من أصل غير عربي، أسهموا في هذه المعركة، وحاربوا في الصفوف الأولى منها، تعصب كل منهم للجانب الذي دخل في ولائه. هذا "أبو نواس"، وهو مولى "بني حكم بن سعد العشيرة"، يتعصب للقحطانية ويدافع. كل قواه عنها، لأن "بني الحكم" من اليمن. وقد حمله تعصبه لهم على نظم قصيدة هجا فيها قبائل نزار بأسرها وافتخر بقحطان وقبائلها، وقد أوجعت النزاريين وآلمتهم، فشكوه إلى الخليفة الرشيد، وهو منهم، فأمر بحبسه بسببها، وقيل إنه حده لأجلها، وأولها: لست لدار عفت وغيرها ضربان من قطرها و حاصبها
ثم قال مفتخرا باليمن وذاكرا للضحاك: فنحن أرباب ناعظ ولنا صنعاء والمسك في محاربها
وكان منا الضحاك يعبده ال خايل والطير في مساربها
ثم يستمر فيقول في هجاء نزار: واهج نزارا وافر جلدتها وكشف الستر عن مثالبها
وأثارت هذه القصيدة جماعة من النزارية، فردت عليه. وكان منهم رجل من "بني ربيعة بن نزار"، فقال يذكر نزارا ومناقبها، واليمن ومثالبها في قصيدة أولها: دع مدح دار خبا و انتهى عهد معد بزعم عاتبها
ثم استمر، فقال: فامدح معدا وافخر بمنصبها ال عالي على الناس في مناصبها
وهتك الستر عن ذوي يمن أولاد قحطان غير هائبها
وقد أنتج هذا النزاع القحطاني العدناني قصصا وحكايات وشعرا دون في الكتب، وأنتج "حديثا" زعم أن قائله هو الرسول، قاله في مدح قحطان أو في مدح عدنان، وأحيانا في مدح القبائل، مثل: حمير ومذحج و همدان وغسان، و قبائل أخرى أو في مدح بيوتات معينة من مثل هذه القبائل.

(1/513)


--------------------------------------------------------------------------------

لقد تلون هذا النزاع بلون أدبي زاه لا يخلو من طرافة وإن كان قد أساء من الناحية السياسية إلى هذه الأمة أيما اساءة. فقد لون اليمانون تأريخهم القديم بألوان زاهية جميلة من القصص والحكايات والأخبار، فهم الذين زعموا أن قحطان هو ابن هود النبي، فأوصلوا نسبهم بالأنبياء، وهم الذين أوصلوا نسب قحطان إلى إسماعيل، فنفوا بذلك أي فضل كان للعدنانيين على القحطانيين في الآباء والأجداد، وهم المسؤولون عن هذا التقسيم المشهور المعروف للعرب وجعل القحطانيين في الطبقة الأولى من العربية بالنسبة إلى العدنايين، وهم الذين نظموا في الإسلام تلك الأشعار والقصائد التي ذكرها الرواة على أنها من نظم التبابعة وملوك القحطانيين، وهم الذين ساقوا تلك الحكايات عن الفتوحات العظيمة لملوك اليمن وعن حكم القحطانيين للعدنانيين و استذلالهم إياهم.

(1/514)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد استغل العدنانيون ظهور الرسول بينهم، فاتخذوا من هذا الشرف ذريعة للتفاخر والتباهي على القحطانيين. وقد أجابهم اليمانيون على ذلك بأفهم هم الذين كان لهم شرف نصرة الرسول وإعلاء كلمة الله، وهم الذين كونوا مادة الجيش الإسلامي، وهم الذين آووا الرسول وفتحوا مكة. و تمسك العدنانيون بأذيال إبراهيم وعدوه جدهم الخاص بهم، مع إنه جد العرب عامة، كما في القرآن الكريم، ونفوا كل مشاركة للقحطانيين في هذا النسب الشريف. وقد كان لهم ما يساعدهم في تقوية حجتهم، فقد كان الرسول من صلب إسماعيل والرسول منهم، فإبراهيم هو أبو المختص بهم. ولرد دعوى الإسماعيليين هذه من اختصاص إسماعيل وإبراهيم بهم. وصل بعض رواتهم نسب قحطان بإسماعيل وإبراهيم، ولم يكتفوا بذلك فلا بد لهم من شرف زائد، ورجحان على العدنانيين الذين لم يبدأ ملكهم إلا في الإسلام، فاختصوا هودا بهم، وجعلوه نبيا يمانيا. ثم لم يقبلوا بنبي واحد زيادة على الأنبياء الذين اختص بهم العدانانيون فأضافوا إليهم صالحا النبي وقالوا: إنه من صميم حمير وإنه صالح بن الهميع بن ذي ماذن نبي حمير من آل ذي رعين، وزعموا أن ثقفيا كان غلاما له، وحصلوا بذلك على نبي وطعنوا في ثقيف، وهم من العدنانيين في الوقت نفسه، وأضافوا إليهم نبيا آخر من صميم حمير سموه أسعد تبع الكامل بن ملكي كرب بن ج تبع الأكبر ابن تبع الأقرن، و قالوا إنه ذو القرنين الذي قال الله تعالى فيه: "أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين". وذكروا إنه كان من أعظم التبابعة وأفصح شعراء العرب، ولذلك قال بعض العلماء فيه ذهب ملك تبع بشعره، ولولا ذلك لما قدم عليه شاعر من العرب وقالوا: نهى النبي عن سبه، لأنه آمن به قبل ظهوره بسبع مئة عام، وليس ذلك إلا بوحي من الله عز وجل. وهو أول من كسا اليت، وجعل له مفتاحا من ذهب. وأوردوا له أشعارا لإثبات إيمانه بالرسول تمنى فيها لو أدرك أيامه إذن

(1/515)


--------------------------------------------------------------------------------

لآمن به، ولكان له وزيرا وابن عم، ولألزم طاعته كل من على الأرض من عرب وعجم، ورووا له أبياتا في البيت الحرام، وكيف كان يقصده فيمكث فيه تسعة أشهر، وكيف كان ينحر في العام سبعين ألفا من البدن.
وزعموا فوق هذا كله إنه تنبأ بعودة ملك حمير حيث يظهر المهدي منهم، وهو رجل حميري سبئي الأبوين، يعيد الملك إلى حمير بالعدل، في هذه الأبيات التي رواها **** بن شرية الجرهمي: ومن العجائب أن حم ير سوف تعلى بالقهور
ويسودها أهل الموا شي من نضير أو نضر
يعني النضر بن كنانة، وهو قريش.
ويثيرها المنصور من جنبي أزال كالصقور
وهو الإمام المرتجى الم ذكور من قدم الدهور
وأنه قال: بمنصور صير المرتجى يعود من الملك ما قد ذهب
ويرجع بالعدل سلطانها على الناس في عجمها والعرب
و قالوا إن المنصور هو لقب القائم المنتظر الذي سيظهر ليعيد ملك حمير المسلوب.
وذكروا إنه كان في جملة ما قاله من شعر قوله: واعلم بني بأن كل قبيلة ستذل إن نهضت لها قحطان
إ لى غير ذلك من أشعار نسبت إليه وإلى غيره من التبابعة تتحدث عن حقد القحطانيين على العدنانيين، وعن ألمهم الشديد لفراق ملكهم وانتقال الحكم منهم إلى المكيين، وقد كانوا من أتباعهم بالأمس. فعللوا أنفسهم بالتحدث عن الماضي، ثم صبروا أنفسهم بالحديث عن ملك سيعود، وعن دولة ستأتي، وعن مهدي يأخذ بالثأر، كالذي يفعله المغلوبون. وجعلوا ذا القرنيين الذي ورد اسمه في سورة الكهف منهم، فقالوا: هو الهميسع بن عمرو بن زيد ابن كهلان، أو الصعب بن عبد الله بن مالك بن زيد بن سدد بن حمير الأصغر، أو تبع الأكبر بن تبع الأقرن، أو تبع الأقرن، وكان مؤمنا عالما عادلا، ملك جميع الأرض وطافها، ومات في شمال بلاد الروم حيث يكون النهار ليلا إذا انتهت الشمس إلى برج الجدي. وقد كان يقول الشعر، وهو الذي بشر بالنبي في شعره، وطبيعي أن يكون واضعو هذه الأشعار أناسا من الأنصار ومن بقية فروع قحطان.

(1/516)


--------------------------------------------------------------------------------

وتعلق متعصبو اليمانية بالأبنية الفخمة وبالمدن الكبرى، فجعلوها من أبنية ملوكهم أو من أبنية أسلافهم العرب العاربة. وقد ذكر المسعودي إن من اليمانية من يرى أن الهرمين الذين في الجانب الغربي من فسطاط مصر، هما قبرا "شداد بن عاد وغيره من ملوكهم السالفة الذين غلبوا على بلاد مصر في قديم الدهر، وهم العرب العاربة من العماليق وغيرهم". و نسبوا لملوكهم الفتوحات الفخمة في الشرق والغرب.
وأضافوا إليهم لقمان الحكيم، زعموا إنه لقمان الحميري، وقالوا إنه كان حكيما عالما بعلم الأبدان والأزمان، وهو الذي وقت المواقيت، وسمى الشهور بأسماء مواقيتها، وزعموا أن ياسر ينعم ملك بعد سليمان بن داوود، وسمي ينعم، لأنه رد الملك إلى حمير.بعد ذهابه، وان الضحاك ملك من الأزد كان في وقت إبراهيم فنصره. وبذلك كانت للقحطانيين منة قديمة على إبراهيم وعلى العدنانيين بصورة خاصة. وقالوا أشياء أخرى كثيرة، قد يخرجنا ذكرها من صلب هذا الموضوع من أعمال وفتوحات لشمر يرعش وغيره من التبابعة.
وقد إون العدنانيون تأريخهم، واستعانوا بالشعر، فوضعوا منه ما شاءوا في الرد على القحطانيين. قال ابن سلام "نظرت قريش فإذا حظها من الشعر قليل في الجاهلية، فاستكثرت منه في الإسلام"، و عقبوا على الروايات القحطانية. فلما ادعى اليمانيون مثلا إن تبعهم "أيا كرب" فتح العراق والشام والحجاز، وانه امتلك البيت الحرام، ونكل بالعدنانيين شر تنكيل، وانه قال شعرا،منه: لست بالتبع اليماني إن لم تركض الخيل في سواد العراق
أو تؤدي ربيعة الخرج قسرا أو تعذني عوائق العواق
قال العدنانيون: نعم، وقد كانت بين تبع هذا وقبائل نزار بن معد وقائع وحروب، واجتمعا عليه معد من ربيعة ومضر وإيراد وأنمار، فأنتصرت عليه، وأخذت الثأر منه، وفي ذلك قال أبو دواد الإبادي: ضربنا على تبع حربه حبال البرود وخرج الذهب
وولى أبو كرب هاربا وكان جبانا كثير الرهب

(1/517)


--------------------------------------------------------------------------------

وأتبعته فهوى للجبين وكان العزيز بها من غلب
إلى غير ذلك من القصص والحكايات التي وضعها الرواة في الإسلام حين احتدم الخلاف بين الانصار وقريش، سجلت في الكتب، ورويت للناس، وانتشرت بينهم على إنها أمور واقعية، وان العرب كانوا من أصلين: قحطان و عدنان.
وقد كان لكل فريق رواة وأهل أخبار يقصون عد الناس قصصا وأخبارا في أخبار النزاع القحطاني العدناني. فوضع "**** بن شرية الجرهمي" كثيرا من القصص من والأشعار عن العرب الأولى وعن القحطانيين، وضع ذلك لمعاوية ابن سفيان، وكان معاوية مغرما بسماع أساطير الأولين وأخبار الماضين، كما سبق أن أشرت إلى ذلك.
ووضع "يزيد بن ربيعة بن مفرغ" المتوفى سنة "69" للهجرة، وهو شاعر متعصب لليمن، قصص "تبع". جاء في كتاب الأغاني: "سئل الأصمعي عن شعر تبع و قصته ومن وضعهما، فقال: ابن مفرغ. وذلك إن يزيد بن معاوية لما سيره إلى الشام وتخلصه من **** الله بن زياد، أنزله الجزيرة وكان مقيما برأس عين، وزعم إنه من حمير، ووضع سيرة تبع وأشعاره. وكان النمر بن قاسط يدعي إنه منهم".
وظهرت كتب ضمت أخبار التبابعة وقصصهم، أشار إليها المسعودي، دعاها ب "كتب التبابعة". وقد وقف عليها ونقل منها، وهي كما يظهر من نقله ومن نقل غيره منها من هذه الأساطير المنسوبة إلى **** ووهب ويزيد ابن المفرغ وأمثالهم من أصحاب القصص والأساطير.

(1/518)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان بين العدنانيين والقحطانيين جدل وكلام في لغة "إسماعيل"، فاليمانيون ومنهم "الهيثم بن عدي الطائي" كانوا يرون أن لسان "إسماعيل" الأول هو اللسان السرياني، ولم يعرف العربية. فلما جاء إلى مكة وتصاهر مع جرهم، أخذ لسانهم وتكلم به، فصار عربيا. أما النزارية، فكانت تنقي ذلك نفيا قاطعا، وترده ردا شديدا، وتقول لو كان الحال كما تزعمون: "لوجب أن تكون لغته موافقة للغة جرهم أو لغيرها ممن ننزل مكة. وقد وجدنا قحطان سرياني اللسان، وولده يعرب بخلاف لسانه. وليست منزلة يعرب عند الله أعلى من منزلة إسماعيل، ولا منزلة قحطان أعلى من منزلة إبراهيم، فأعطاه فضيلة اللسان العربي التي أعطيها يعرب بن قحطان". فنفوا النزارية العربية عن قحطان أيضا وصيروه كإسماعيل سرياني اللسان.
وقد عقب "المسعودي" على هذا النزاع النزاري القحطاني بقوله: "ولولد نزار وولد قحطان خطب طويل ومناظرات كثيرة لا يأتي عليها كتابنا هذا في التنازع والتفاخر بالأنبياء والملوك وغير ذلك مما قد أتينا على ذكر جمل من حجاجهم و ما أدلى به كل فريق فهم ممن سلف وخلف". ونجد جملا كثيرة من هذا النوع مبثوثة في كتابيه: مروج الذهب، والتنبيه و الأشراف، تتحدث عن ذلك النزاع المر المؤسف الذي وقع بين العرب في تلك الأيام.
ولعل هذه العصبية الجاهلية، هي التي حملت جماعة من المتكلمين منهم "ضرار بن عمرو بن ثمامة بن الأشرس" و "عمرو بن بحر الجاحظ" على الرغم إن "النبط" خير من العرب، لأن الرسول منهم، ففضلوهم ذلك على العدنانيين والقحطانيين. وهو قول رد العدنانيون و القحطانيون عليه. قال به المتكلمون متأثرين بآراء أهل الكتاب في أنساب أبناء إسماعيل وبآرائهم الاعتزالية التي تكره التعصب في مثل هذه الأمور. وقد ذكر "المسعودي" شيئا من الرد الذي وضعه القحطانيون و العدنانيون ضد هؤلاء.
العرب العاربة والعرب المستعربة

(1/519)


--------------------------------------------------------------------------------

أما مصطلح "العرب العاربة" و "العرب المستعربة"، فهما على ما يتبين من روايات علماء اللغة والأخبار من المصطلحات القديمة التي تعود إلى الجاهلية، ولكننا لو درسنا تلك الروايات خرجنا منها، ونحن على يقين بان الجاهليين لم يطلقونهما يالمعنى الذي ذهب إليه الإسلاميون، بل قصدوا بهما القبائل البعيدة عن أرض الحضارة، والقبائل القريبة منها، فقد عرفت القبائل النازلة ببلاد الشام والساكنة في أطراف الإمبراطورية البيزنطية ب "المستعربة". و "المستعربة" مصطلح أطلق على هذه القبائل و على القبائل النازله في سيف العراق من حدود نهر الفرات إلى بادية الشام، فهو يشمل إذن القبائل النازلة على طرفي الهلال الخصيب وفي طرفي القوس الذي يحيط بحدود الإمبراطوريتين. ومن المستعربة غسان وإياد وتنوخ. وقد فضلت غالبية هذه المستعربة السكنى في أطراف المدن في مواضع قريبة من البوادي والصحارى، عرفت عندهم ب "الحاضر"، فكان في أكثر مدن بلاد الشام حاضر يقيم به العرب من تنوخ ومن غير تنوخ.

(1/520)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد وجدت في تأريخ الطبري خبرا زعم انه جرى بين "خالد بن الوليد"، وبين "عدي بن عدي بن زيد العبادي"، يفهم منه أن العرب: عرب عاربة وأخرى متعربة. وقد جرى بينهما على هذا النص و: "قال خالد: ويحكم: ما أنتم ? أعرب ? فما تنقمون من العرب ? أوعجم، فما تنقمون من الانصاف والعدل ? فقال له عدي: بل عرب عاربة وأخرى متعربة. فقال: لو كنتم كما تقولون لم تحادونا وتكرهوا امرنا، فقال له عدي: ليدلك على ما نقول: أنه ليس لنا لسان إلا بالعربية". فيفهم من هذا الحديث إن العرب: عرب عاربة و عرب متعربة. وهم أناس تعربوا فصاروا عربا. وهو كلام معقول مقبول، ولا سيما بالنسبة إلى الحيرة والعراق وبلاد الشمام، حيث تعرب فيها كثير ممن لم يكن عربيا في الأصل فصاروا عربا، لسانهم لسان العرب. ولا يفهم من هذا الكلام بالطبع ؤتقسيم العرب بالمعنى المفهوم عند أهل لأخبار والتأريخ، أي عرب قحطانيون وعرب عدنانيون. وكل ما قصد به إن صح إن هذا الكلام "و كلام "خالد" وكلام " عدي" حقا تعنيف وتأنيب لعدي بن عدي بن زيد على وقوفه هو و قومه و أهل الحيرة موقفا معاديا للمسلمين، و تأييدهم للفرس و لدفاعهم عنهم، مع انهم عجم بعيدون عنهم. فكأنه قال لهم: لو كنتم عربا فكيف تؤيدون عجما علينا و نحن عرب? و "عدي" من العرب، و أبوه من تميم كما يقول النسابون. فهو ليس من العرب الاخرى المتعربة، و لكن من العرب العاربة، أي عرب بالاصالة، كما إن خالدا نفسه من العرب العاربة، لأنه عربي اصلا و إن كان عدنانيا. فلم يقصد بالعرب العاربة هنا العرب القحطانيين، و لا بالعرب المتعربة العرب العدنانيين. فالعرب المتعربة اذن هم المتعربون من أهل الحيرة و غيرهم، ممن كانوا من النبط و بني إرم أو غيرهم ثم دخلوا بين العرب و لحقوا بهم فصار لسانهم لسانا عربيا مثل العرب الآخرين و تعربوا بذلك.

(1/521)


--------------------------------------------------------------------------------

و يلاحظ إن "غسان" قد أدخلت في المستعربة؛ مع إنها من العرب العاربة، أي من العرب القحطانيين في عرف النسابين. و في ذلك على إن مدلول العرب العاربة و العرب المستعربة لم يكن في الجاهلية و في صدر الإسلام بالمعنى الذي صار عليه عند علماء النسب و أهل الأخبار، و إن تخصيص العرب العربة بالقبائل التي ترجع نفسها إلى اليمن، و العرب المستعربة بالقبائل التي يرجعون نسبها إلى عدنان، قد وقع من النسابين في أيام الأمويين فما بعد.
الفصل الثاني عشر
طبقات القبائل
ورتب علماء الأنساب قبائل العرب على مراتب، هي: شعب، ثم قبيلة، ثم عمارة، ثم بطن، ثم فخذ، ثم فصيلة. فالشعب النسب الأبعد مثل عدنان وقحطان، والقبيلة مثل ربيعة ومضر، والعمارة مثل قريش وكنانة، والبطن مثل بني عبد مناف وبني مخزوم، ومثل بني هاشم وبني أمية، والفصيلة مثل بني أبي طالب وبني العباس. وجعل "ابن الكلبي" مرتية بين الفخذ والفصيلة، هي مرتبة العشيرة، وهي رهط الرجل. وبني "النويري" طبقات القبائل على عشر طبقات هي: الجذم، و الجماهير، والشعوب، والقبائل، والعمائر، والبطون، و الأفخاذ، والعشائر، والفصائل والأرهاط. ورتب "نشوان ابن سعيد الحميري" القبائل على هذا النحو: الشعب، ثم القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الجيل، ثم الفصيلة. وجعل مضر مثال الشعب، وكنانة مثال القبيلة، وقريشا مثال العمارة، وفهرا مثال البطن، و قصيا مثال الفخذ، وهاشما للجيل، وآل العباس للفصيلة.

(1/522)


--------------------------------------------------------------------------------

وأكثر علماء النسب يقدمون الشعب على القبيلة، والظاهر إن هذه الفكرة كانت قد اختمرت في رؤوس الجاهليين الذين عاشوا في الجاهلية القريبة من الإسلام حيث ظهرت عندهم الفكرة القومية بمعنى واسع، وحيث نجد عندهم ظهور الكلمات التي تشير إلى هذا المعنى، مثل اطلاقهم العرب على العرب جميعا اصطلاحا، وحيث أخذ الحس القومي يظهر بين القبائل بوجوب التكتل لمكافحة الغرباء? كالذي حدث في معارك اليمن مع الحبش، وفي معارك عرب العراق مع الفرس. وقد قدم القرآن الكريم الشعوب على القبائل )وجعلناكم شعوبا وقبائل، لتعارفوا(. فالشعوب هنا فوق القبائل و تعبر عن هذا المعنى الواسع الذي أتحدث عنه.
وزاد بعض العلماء الجذم، بأن وضعوها قبل الشعب، ووضعوا الفصيلة بعد العشيرة، ومنهم من زاد بعد العشيرة الأسرة، ثم العترة. ورتبها آخرون على هذه الصورة: الجذم، ثم الجمهور، ثم الشعب، ثم القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم العشيرة، ثم الفصيلة، ثم الرهط، ثم الأسرة، ثم العترة، ثم الذرية. وزاد غيرهم في أثنائها ثلاثة، هي: البيت، والحي، و الجماع.
والاختلاف الذي نراه من علماء النسب، هو في الترتيب، أي من حيث التقديم والتأخر، وفي إضافة بعض المصطلحات أو في نقصها. أما من حيث العموم، فإننا نجدهم يتفقون في الغالب،ولا يختلفون أبدا في أن القبائل والأنساب كانت على منازل ودرجات. ولا بد أن تكون أكثر هذه المصطلحات مصطلحات أهل الجاهلية القريبين من الإسلام. أما بالنسبة إلى الجاهلين البعيدين عنه، فلن يكون حكمنا عليهم علميا إلا إذا أخذنا مصطلحاتهم من كتاباتهم. ولم نتمكن ويا للأسف من الحصول على مادة منها تفيدنا في هذا الباب. فليس لنا إلا الصبر والانتظار.

(1/523)

admin
12-26-2010, 12:47 PM
والقبيلة: الجماعة تنتمي إلى نسب واحد، ويرجع ذلك النسب إلى جد أعلى، أو إلى جدة وهو في الأقل. ولا تزال اللفظة حية مستعملة يستعملها العرب في كل مكان في المعنى الاصطلاحي المستعمل عند النسابين.
والقبيلة هي المجتمع الأكبر بالنسبة إلى أهل البادية، فليس فوقها مجتمع عندهم. وهي في معنى "شعب" عندنا وفي مصطلحنا الحديث. و تتفرع من القبيلة فروع وأغصان، هي دون القبيلة، لأنها في منزلة الفروع من الشجرة. ثم اختلفوا في عدد الفروع المتفرعة من القبيلة، فجعل بعضهم بعد القبيلة العمارة ثم البطن، ثم الفخذ ثم الفصيلة، وجعل بعض آخر ما دون القبيلة: العمارة ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة، وزاد بعض آخر قبل الشعب الجذم، وبعد الفصيلة العشيرة. ومنهم من زاد بعد العشيرة الأسرة، ثم العترة. ورتب بعض النسابين طبقات النسب على هذا النحو: جذم، ثم جمهور، ثم شعب، ثم قبيلة، ثم عمارة، ثم بطن، ثم فخذ، ثم عشيرة، ثم فصيلة، ثم رهط، ثم أسرة، ثم عترة، ثم ذرية. وزاد بعضهم في أثنائها ثلاثة، وهي: البيت و الحي، و الجماع.
ويدل اختلاف النسابين في ضبط أسماء ما فوق القبيلة أو ما تحتها،واضطرابهم في الترتيب على أن هذا الترتيب لم يكن ترتيبا جاهليا أجمع الجاهليون عليه، وإلا لما تباينوا هذا التباين فيه، ولما اختلفوا هذا الاختلاف في سرده، إنما هو ترتيب اجتهادي أخذه العلماء من افواه الرواة ومن الأوضاع القبلية التي كانت سائدة في أيامهم ومن اجتهادهم أنفسهم، فرتبوها على وفق ذلك الاجتهاد.
وأكثر هذه المصطلحات لم ترد لا في الكتابات الجاهلية ولا في الشعر المنسوب إلى الجاهلين، لذلك يصعب على الإنسان أن يبدي رأيا علميا مقبولا فيها، وأعتقد أن خير ما يمكن فعله في هذا الباب هو استنطاق الكتابات الجاهلية وتفليتها وتفلية الشعر الجاهلي للبحث عما فيه من مصطلحات تتعلق بالنظم القبلية وعندئذ نتمكن من تكوين رأي قريب من الصواب والصحة في هذا الموضوع.

(1/524)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن أجل ذلك قال "روبرتسن سمث" إن البطن والحي هما أساس أقدم أشكال المجتمعات السياسية عند الساميين.
كما استدل من أسماء بعض القبائل التي تحمل أسماء بعض الحيوانات، مثل: بني أسد، وبني كلب، وبني بدن، وبني ثعلب، وبني ثور، وبني بكر، وبني ضب، وبتي غراب، وبني فهد، وما شاكل ذلك من أسماء جماعة من القبائل، وبعضها عمائر، وبعضها بطون أو فصائل على وجود "الطوطمية" عند العرب، وعلى أن هذه الأسماء هي من ذكريات "الطوطمية" القديمة.
وقد تأثر بنظريته هذه جماعة من العلماء. وعد بعض العلماء نظرية "الطوطمية" مفتاحا يوصل إلى حل كثير من المسائل الغامضة من تأريخ البشرية القديم.
هذا وقد رجع "ابن حزم" جميع قبائل العرب إلى أبو احد، سوى ثلاث قبائل، هي: تنوخ، والعتق، وغسان، فإن كل قبيلة منها مجتمعة من عدة بطون. وقد نص غيره من أهل النسب على أن تنوخا اسم لعشر قبائل، اجتمعوا وأقاموا بالبحرين، فسموا تنوخا. وذكر ب بعض آخر إن غسان عدة بطون من الأزد، نزلت على ماء يسمى غسان، فسميت به. فترى من هنا إن تنوخا والأزد حلف في الأصل، وقد صار مع ذلك نسبا عند كثير من أهل الأخبار في الدفاع عنه. ولما كانت هذه النزعة الفردية هي هدف سياسة سادة القبائل، أصبحت من أهم العوائق في تكوين الحكومات المدنية الكبيرة في جزيرة العرب، ومن أبرز مظاهر الحياة السياسية قبل الإسلام.

(1/525)


--------------------------------------------------------------------------------

وينطبق ما قلته عن تنظيم القبيلة وبناء الأنساب عليه على أهل الحضر أيضا. فالحضر، ولاسيما حضر الحجاز، وان استقروا وأقاموا غير أنهم لم يتمكنوا م ن ترك النظم البدوية الاجتماعية القائمة على مراعاة قواعد النسب وفقا للتقسيمات المذكورة. وهي تقسيمات أوجدتها طبيعة الحياة في البادية، تلك الحياة الشحيحة التي لا تتحمل طاقاتها تقديم ما يحتاج إليه مجتمع كبير مستقر من مأكل وماء، ولذلك اضطرت المجتمعات الكبرى، وهي القبائل،على التشتت والانقسام والانتشار كتلا تختلف درجات حجمها حسب طبيعة الأرض التي نزلت بها، من حيث الكرم و البخل، و لما استقر بعض هؤلاء البدو وتحضروا في أماكن ثابتة مثل مكة ويثرب و الطائف، حافظوا على نظمهم الاجتماعية المذكورة الموروثة من حياة البادية، وعاشوا في مدرهم أحياء وشعابا عيشة قائمة على أساس الروابط الدموية والنسب، كما سأتحدث عن ذلك في الحياة الاجتماعية.
والنسب عند العرب، هو نسب يقوم إذن على الطبقات المذكورة، كما أن الطبقات المذكورة قائمة على دعوى النسب، فبين النسب وبناء المجتمع، صلة وارتباط، ولا يمكن فك أحدهما عن الآخر، ولهذا نجد شجرات الأنساب تتفرع وتورق وتزهر على هذا الأساس.
وأنا لا أستثني المجتمع العربي في الجنوب، الذي تغلب عليه حياة الاستقرار والسكن والاستيطان من هذا التنظيم. فنحن وإن لم نتمكن حتى الآن من الحصول على كتابات كافية تقدم لنا صورة واضحة عن الأنساب وعن تنظيمات المجتمع عند المعينيين والسبئيين وغيرهم من العرب الجنوبيين، غير أن في بعض الكتابات التي وصلت إلينا إشارات تفيد وجود هذا التنظيم عند العرب الجنوبيين.

(1/526)


--------------------------------------------------------------------------------

والعرب الجنوبيون وإن غلبت عليهم حياة السكن والاستقرار، غير أن زمانهم لم يتمكن من تحرير نفسه من قيود الحياة القبلية، ولم يكن من الممكن يالنسبة لهم الابتعاد عن الاحتماء بالعصبية القبلية وبعرف القبيلة، فالطبيعة إذ ذاك طبيعة حتمت على الناس التمسك بتلك النظم لحماية أنفسهم وللدفاع عن أموالهم حيث لا حق يحمي المرء غير حق العصبية القائم على أساس النسب والدم.
ويعبر عن القبيلة بلفظة "شعيم" و "شعبن" في العربيات الجنوبية. أي "قبيلة" و "القبيلة"1 أما لفظة "القبيلة" فلم أعثر على وجود لها في كتابات المسند. فلعلها من الألفاظ الخاصة بأهل الحجاز ونجد. وأما ما دون "الشعب"، أي القبيلة في اصطلاحنا، فلم أقف على مسمياتها بالنحو الذي يذكره أهل الأنساب. و إنما تجد العرب الجنوبيين يقسمون القبيلة إلى أقسام، مثل "ربعن" أي "ربع" و "ثلثن" أي ثلث. ويريدون بذلك، ربع قبيلة وثلث قبيلة. وربما كانوا يقسمونها إلى أقسام أخرى، لم تصل أسماؤها الينا، ولعل الأيام ستزودنا بما كان العرب الجنوبيون يستعملونه من مصطلحات في النسب عندهم، وذلك قبل الإسلام بزمان طويل، وبالمصطلحات التي كانوا يطلقونها على فروع القبيلة في تلك الأوقات.
وبينما نجد أهل الأنساب ينسبون أهل الوبر وأهل المدر إلى أجداد، عاشوا

(1/527)


--------------------------------------------------------------------------------

وماتوا، نجد المعينيين مثلا، يستعملون جملة: "أولدهو ود"، أي "أولاد ود"، و "ود" هو إله شعب معين الأكبر، كما نجد السبئيين يطلقون على أنفسهم "ولد المقه"، اي أولاد الإله "المقه". والمقه كما سنرى فيما بعد، هو إله سبأ الأول. ونجد القتبانيين يدعون أنفسهم "ولد عم"، أي أولاد عم. ومعنى هذا، إن كل قبيلة من القبائل المذكورة، نسبت نفسها إلى إلهها الخاص بها واحتمت به، تماما كما فعل العبرانيون وغيرهم، إذ نسبوا أنفسهم ، إلى إله قومي اعتبروه إلههم الخاص بهم، المدافع عنهم، والذي يرزقهم وينفعهم. وقد يعد هذا نسبا. أما نسب على النحو الذي يقصده و يريده أهل الأخبار، أي جد عاش ومات وله أولاد وحفدة، فهذا لم يصل خبره إلينا في كتابات المسند، بل في كل ما وصل إلينا من كتابات جاهلية حتى الآن.
الأنساب
وأقرب تفسير إلى أنساب العرب في نظري هو إن النسب، ليس بالشكل المفهوم المعروف من الكلمة، و إنما هو كناية عن "حلف" يجمع قبائل توحدت مصالحها، واشتركت منافعها، فاتفقت على عقد حلف فيما بينها، فانضم بعضها إلى بعض، واحتمى الضعيف منها بالقوي، وتولدت من المجموع قوة ووحدة، وبذلك حافظت تلك القبائل المتحالفة على مصالحا وحقوقها. قال البكري: "فلما رأت القبائل ما وقع بينها من الاختلاف والفرقة، وتنافس الناس في الماء والكلأ، والتماسهم المعاش في المتسع، وغلبة بعضهم بعضا على البلاد والمعاش، واستضاف القوي الضعيف، انضم الذليل منهم إلى العزيز، وحالف القليل منهم الكثير، وتباين القوم في ديارهم ومحالهم، و انتشر كل قوم فيما يليهم".

(1/528)


--------------------------------------------------------------------------------

لقد حملت الضرورات قبائل جزيرة العرب على تكوين الأحلاف، للمحافظة على الأمن و للدفاع عن مصالحا المشتركة كما تفعل الدول. و إذا دام الحلف أمدا، وبقيت هذه الرابطة التي جمعت شمل تلك القبائل متينة، فإن هذه الرابطة تنتهي إلى نسب، حيث يشعر أفراد الحلف أنهم من أسرة واحدة تسلسلت من جد واحد، وقد يحدث ما يفسد هذه الرابطة، أو ما يدعو إلى انفصال بعض قبائل الحلف، فتنظم القبائل المنفصلة إلى أحلاف أخرى، وهكذا نجد في جزيرة العرب أحلافا تتكون، وأحلافا قديمة تنحل أو تضعف.
لم يكن في مقدور العشائر أو القبائل الصغيرة المحافظة على نفسها من غير حليف قوي، يشد أزرها إذا هاجمتها قبيلة أخرى، أو أرادت الأخذ بالثأر منها. لقد كانت معظم القبائل داخلة في هذه الأحلاف، إلا عددا قليلا من القبائل القوية الكثيرة العدد، يذكر أهل الأخبار إنها كانت تتفاخر لذلك بأنفسها، لأنها لا تعتمد على حليف يدافع عنها، بل كانت تأخذ بثأرها وتنال حقها بالسيف. و يشترك المتحالفون في الغالب في المواطن، وقد تنزل القبائل على حلفائها، وتكون الهيمنة بالطبع في هذه للقبائل الكبيرة.
وقد عرفت مثل هذه الأحلاف عند سائر الشعوب السامية كالعبرانيين مثلا، وطالما انتهت كما انتهت عند العرب إلى نسب، حيث يشعر المتحالفون انهم من أسرة واحدة يجمع بينهم نسب واحد. ويقال للحاف أيضا "تحالف"، وضد اليمانين "تكلع".

(1/529)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرى "كولدتزيهر" إنه لفهم الأنساب عند العرب، لا بد من معرفة الأحلاف والتحالف فإنها أساس تكون أنساب القبائل، فإن هذه الأحلاف التي تجمع شمل عدد من البطون والعشائر والقبائل هي التي تكون القبائل والأنساب، كما إن تفكك الأحلاف وانحلالها يسبب تفكك الأنساب وتكوين أنساب جديدة ويرى أيضا إن الدوافع التي تكون هذه الأحلاف لم تكن ناشئة عن حس داخلي بوجود قرابة وصلة رحم بين المتحالفين وشعور بوعي قومي، بل كانت ناشئة عن المصالح الخاصة التي تهم العشيرة كالحماية والأخذ بالثأر وتأمين المعيشة. ولذا نجد الضعيف منها يفتش عن حليف قوي، فانضمت "كعب" مثلا إلى "بني مازن" وهم أقوى من "كعب"، وانضمت "خزاعة" إلى "بني مدلج"، كما تحالفت "بنو عامر" مع "اياد" وأمثلة أخرى عديدة. ولما كانت المصالح الخاصة هي العامل الفعال في تأليف الأحلاف، كان أمد الحلف يتوقف في الغالب على دوام تلك المصالح. وقد تعقد الأحلاف لتنفيذ شروط اتفق عليها، فمتى نفذت أو تلكأ أحد الطرفين في التنفيذ انحل الحلف. وتعد هذه الناحية من النواحي الضعيفة في التأريخ العربي، فإن تفكير القبائل لم يكن يتجاوز عند عقدهم هذه الأحلاف مصالح العشائر أو القبائل الخاصة، لذلك نجدها تتألف للمسائل المحلية التي تخص القبائل، ولم تكن موجهة للدفاع عن جزيرة العرب و لمققاومة أعداء العرب. ولا يمكن أن نطلب من نظام يقوم على العصبية القبلية أن يفعل غير ذلك. فإن وطن القبيلة ضيق بضيق الأرض التي تنزل فيها، فإذا ارتحلت عنها و نزلت في أرض جديدة، كانت الأرض الجديدة المواطن الجديد، الذي تبالغ القبيلة في الدفاع عنه. و لما كانت هذه النزعة الفردية هي هدف سياسة سادة ا لقبائل، أصبحت من أهم العوائق في تكوين الحكومات المدنية الكبيرة في جزيرة العرب، ومن أبرز مظاهر الحياة السياسية قبل الإسلام.

(1/530)


--------------------------------------------------------------------------------

خذ اختلاف النسابين في نسب بعض القبائل وتشككهم فيه، فأنه في الواقع دليل قوي يؤيد هذا الرأي، فقد اختلف في نسب "أنمار" مثلا. فمنهم من عدها من ولد "نزار"، ومنهم من أضافها إلى اليمن. والذين يضيفونها إلى "نزار" يقولون إن انمارا من نزار، وأنمار هو شقيق ربيعة ومضر وإياد، فهو أحد أبنا نزار. دخل نسله في إليمن، ر فأضيفوا إليه، ومن هنا حدث هذا الاختلاف. أما اليمانية، فانهم يرون إن أنمارا هو منهم، وقد كان أحد ولد "سبأ" العشرة. فهو عندهم شقيق لخم وجذام وعاملة وغسعان وحمير والأزد ومذحج وكنانة والأشعرين ويرون أن بجيلة، وخثعما من أنمار. ويستدلون على ذلك بحديث ينسبونه إلى الرسول.
وأما الذين يرجعون نسبه إلى "نزار" فيستدلون على نسبه هذا بحديث ينسبونه إلى الرسول أيضا. وفي الجملة لا يهمنا هنا موضوع نسب "انمار" أكان في اليمن أم كان في نزار، و إنما الذي يهمنا أن الأحلاف تؤثر تأثيرا كبيرا في نشوء النسب، فلولا دخ ول أنمار في اليمن ونزولها بين قبائل يمانية، لما دخل نسبها في اليمن. ولولا دخول أنمار في قبائل عدنانية وتحالفها معهما لما عدها النسابون من نزار، ولما عدوا انمارا ابنا من أبناء نزار الأربعة. فاختلاط "انمار" في اليمن وفي نزار وترددها بين الجماعتين هو الذي أوقع النسابين في مشكلة نسبها.

(1/531)


--------------------------------------------------------------------------------

وطالما دفعت الحروب القبائل المغلوبة على الخضوع لسيادة القبائل الغالبة وقد تتحالف معها وتدخل في جوارها،و إذا دام ذلك طويلا، فقد يتحول الحلف و الجوار إلى نسب. ثم إن تقاتل القبائل بعضها مع بعض يؤدى أحيانا إلى ارتحال بعض هذه القبائل المتقاتلة إلى مواطن جديدة فتنزل بين قبائل أخرى، وتعقد معها حلفا وتجاورها ومنى طال ذلك صار نسبا، كالذي ذكره أهل الأنساب من نزوح قبائل عدنانية إلى اليمن بسبب تقاتلها بعضها مع بعض، مما أدى إلى دخول نسبها في اليمن، و كالذي ذكروه أيضا من نزوح قبائل يمانية نحو الشمال واختلاطها بقبائل عدنانية مما أدى إلى دخول نسبها في نسب تلك القبائل.
ونجد في كتب الأنساب والأخبار أمثلة كثيرة على اختلاط أنساب قبائل معروفة في عدنان وفي قحطان، كما رأيت فعل السياسة في تكييف النسب في مصدر الإسلام وفي عهد الدولة الأموية وتنظيمه، كما رأيت كيف أن بعض النسابين ينسبون قبيلة إلى أب قحطاني على حين ينسبها بعض آخر إلى أب عدناني، وكيف أن نسابي القبيلة كانوا يرون رأي آخر. وقد رأيت كيف أن بعض مم رجع نسب ثقيف إلى "ثمود" بغضا للحجاج الذي كان من ثقيف، ورأيت أيضا اختلاف النسابين فيما بينهم في رسم شجرات الأنساب.
لقد وقع هذا الاختلاف لعوامل عديدة سياسية وجغرافية وعاطفية، لا يدخل البحث فيها في هذا المكان.
هذا وقد رج ح "ابن حزم" جميع قبائل العرب إلى أب واحد، سوى ثلاث قبائل، هي: تنوخ، والعتق، وغسان.، فإن ى ل قبيلة منها مجتمعة من عدة بطون. وقد نص غيره من أهل النسب على إن تنوخا اسم لعشر قبائل، اجتمعوا وأقاموا بالبحرين، فسموا تنوخا. وذكر بعض آخر إن غسان عدة بطون من الأزد، نزلت على ماء يسمى غسان، فسميت به. فترى من هنا إن تنوخا والأزد حلف في الأصل، وقد صار مع ذلك سببا عند كثير من أهل الأخبار.

(1/532)


--------------------------------------------------------------------------------

وبين أجداد القبائل والأسر الذين يذكرهم أهل الأنساب، أجداد كانوا أجدادا حقا، عاشوا وماتوا. وقد برزوا بغزواتهم وبقوة شخصياتهم، وكونوا لقبائلهم وللقبائل المتحالفة معها أو التابعة لها مكانة بارزة، جعلها تفتخر بانتسابها إليهم، حتى خلد ذلك الفخر على هيأة نسب. ونجد في كتب الأنساب أمثلة عديدة لهؤلاء.
"الطوطمية" ودور الأمومة عند العرب
وقد لاحظ العلماء المحدثون إن بين أسماء القبائل، أسماء هي أسماء حيوان أو نبات أو جماد أو أجرام فلكية. كما لاحظوا إن بين المصطلحات الواردة في النسب مصطلحات لها علاقة بالجسم وبالدم. و قد وجدوا إن بين هذه التسميات والمصطلحات وبين البحوث التي قاموا بها في موضوع دراسة االمجتمعات البدائية صلة وعلاقة. وان للتسميات المذكورة صلة وثيقة ب "الطوطمية"، كما إن للمصطلحات صلة. بما يسمى ب "دور الأمومة" أو "زواج الأمومة"عند علماء الاجتماع.
والطوطمية نظرية وضعها "ماك لينان" "م كلينان" المتوفى سنة 1881 م، خلاصتها: 1 - إن الطوطمية دور مر على القبائل البدائية، وهي لا تزال بين أكثر الشعوب إغراقا في البدائية والعزلة.
2 - إن قوامها اتخاذ القبيلة حيوانا أو نباتا، كوكبا أو نجما أو شيئا. أخر من الكائنات المحسوسة أبا لها تعتقد إنها متسلسلة منه وتسمى باسمه.
3 - تعقد تلك القبائل إن طوطمها يحيها ويدافع عنها، أو هو على الأقل لا يؤذيها وان كان الأذى طبعه.
4 - لذلك تقدس القبيلة طوطمها وتتقرب إليه وقد تتعبد له.

(1/533)


--------------------------------------------------------------------------------

5 - الزواج ممنوع بين أهل الطوطم الواحد، ويذهبون إلى الزواج من قبائل غريبة عن قبيلة الطوطم المذكور. وهو ما يعبر عنه ب "Exogamy" في اللغة الإنكليزية. إذ يعتقدون إن التزاوج من بين أفراد القبيلة الواحدة ذو ضرر بالغ، ومهلك للقبيلة، لذلك يتزوج رجال القبيلة نساء من قبيلة أخرى غريبة، لا ترتبط بطوطم هذه القبيلة، والمخالف لهذه القاعدة، أي الذي يتزوج امرأة من قبيلته يعرض نفسه للعقوبات قد تصل إلى الحكم عليه بالموت.
6 - الأبوة غير معروفة عند أهل الطوطم، و مرجع النسب عندهم إلى الأم.
7 - لا عبرة عندهم إلى العائلة، والقرابة هي قرابة الطوطم، فأهل الطوطم الواحد اخوة و أخوات يجمعهم دم واحد.
والطوطمية "Totemism"، لفظة أخذت من كلمة "Ototemom"، وهي من كلمات قبيلة "Ojibwa" من قبائل هنود أمريكا. اشتق منها "لانك" "J. Lang" كلمة "توتم" "Totem"، ومنها أخذ اصطلاح "طوطمية" "توتميسم" "Totemism" الذي يعني اعتقاد جماعة بوجود صلة لهم بحيوان أو حيوانات تكون في نظرها مقدسة، ولذلك لا يجوز صيدها أو ذبحها أو قتلها أو أكلها أو إلحاق أذى بها. وتشمل الطوطمية النباتات كذلك، فلا بجوز لأفراد الجماعة التي تقدسها قطعها أو إلحاق الأذى بها. وقد يتوسع بها فتشمل بعض مظاهر الطبيعة مثل المطر والنجوم والكواكب.
وهم يؤمنون بأن "الطوطم" لا يؤذي أتباعه. فلا يخافون منه، حتى وإن كان من الحيوانات المؤذية، التي تلحق الأذى بالإنسان، كالحية أو العقرب أو الذئب. وهم يعتقدون أيضا انه يدفع عنهم، وأنه ينذر أتباعه إن أحس بقرب وقوع خطر على أتباعه، وذلك بعلامات و إشارات على نحو ما يقال له الزجر والطيرة والفأل.

(1/534)


--------------------------------------------------------------------------------

وهم يتقرب ون إلى طوطمهم، محاولة منهم في كسب رضاه، فيقلدونه في شكله ومظهره، وقد يلبسوا جلده أو جزءا من جلده، أو يعلقون جزءا منه في أعناقهم أو أذرعهم على نحو من التعاويذ. لأنه يحميهم بذلك ويمنع عنهم كل سوء. كما يحتفلون وبالمناسبات مثل مناسبات الولادة أو الزواج أو الوفاة بنقش رمز الطوطم على ظهر المولود، أو دهن الجسم بدهن مقدس من دهان ذلك الطوطم إلى آخر ما هنالك من أعراف وتقاليد.
ويؤلف المعتقدون بالطوطم جماعه تشعر بوجود روابط دموية بين أفرادها، أي بوجود صلة رحم بينها. والرابط بينها هو ذلك الطوطم الذي تنتمي الجماعة إليه وتلتف حوله، ليكون حاميها والمدافع عنها في الملمات. ومن أصحاب هذا المذهب من لا يذكر اسم الطوطم، بل يكنى عنه. ويجوز أن يكون ذلك خوفا منه، أو احتراما له. وقد يرسم له شعار تحمله الجماعة وأفرادها. ولها قوانين وآراء في موضوع الزواج الذي تترتب عليه قضية القرابة وصلات الرحم.
و للعلماء نظريات وآراء في الطوطمية. وفي منصبة على دراسة الناحية الاجتماعية منها، من حيث كون " الطوطمية " نظاما اجتماعيا يقوم على أساس مجتمع صغير مبني على العشيرة أو القبيلة. أما الدراسات الدينية للطوطمية، فهي بعد هذه الدراسة من حيث التوسع والتبسط في الموضوع. وأكثر هذه الدراسات أيضا عن قبائل هنود أمريكا الشمالية و عن قبائل اوستراليا ثم أفريقية. أما اثر الطوطمية عند الشعوب القديمة مثل اليونان والشعوب السامية فإن بحوث العلماء في المراحل الأولى من البلاد، وهي مستمدة بالطبع من الإشارات الواردة في الكتابات أو المؤلفات أو من دراسات الأسماء.
ومن أشهر أصحاب النطريات في موضوع الطوطمية "تيلر" "Sir E. B. Tylor" و "سير جيمس فريزر" "Sir J. G. Frazer"، و هذا الأخير يرفض نظرية الذاهبين إلى إن الطوطمية في شكلها الأول هي ديانة؛ لأن الطوطم لا يعبد كما يقول على صورة صنم.

(1/535)

admin
12-26-2010, 12:48 PM
ومن أسماء الحيوانات التي تسمت بها البطون والعشائر: كلب، وذئب، ودب، وسلحفاة، ونسر، وثعلب، و هر، وبطة، وثور، وغير ذلك من أسماء حيوانات تختلف بحسب اختلاف المحيط الذي تكون فيه.عبدة الطواطم. يضاف إلى ذلك أسماء أشجار ونباتات أخرى وطائفة من أسماء الأسماك. وقد ذكر "بيتر جونس Peter Jones" أربعين بطنا من بطون قبيلة ال "Ajibwa" لها أسماء حيوانات.
وقد لاحظ "روبرتسن سمث" "Robertson Smith" إن في أسماء القبائل عند العرب أسماء كثيرة هي أسماء حيوان أو نبات أو جماد. فاتخذ من هذه الأسماء دليلا على وجود "الطوطمية" عند العرب، و على أثرها في الجاهليين.
فاسماء مثل: بني كلب، وبني كليب، والنمر، والذئب، والفهد، والضبع والدب، والوبرة، والسيد، والسرحان، و بكر، وبني بدن، وبني أسد، وبني يهثة، وبني ثور، وبني جحش، وبني ضبة، وبني جعل، وبني جعدة، وبني الأرقم، وبني دئل، وبني يربوع، و قريش، وعنزة، وبن حنش، وبن غراب، وبني فهد، وبني عقاب، وبرني أوس، وبني حنظلة،، وبني عقرب، و بني غنم، وبني عفرس، وبني كوكب، وبني قنفذ، وبني الثعلب، والسيد، وبي قنفذ، وبني عجل، وبني انعاقه، وبني هوزن، وبني ضب، وبني قراد، وبني جراد، وما شاكل ذلك من أسماء، لا يمكن في نظره إلا أن تكون أثرا من أثار الطوطمية، ودليلا ثابتا واضحا على وجودها عندهم في القديم.
وقد لاقى تطبيق روبرتسن سمث نظربة "الطوطمية" على العرب الجاهليين، ترحيبا عند بعض المستشرقين، كما لاقى معارضة من بعضهم. وقد رد عليه "جرجي زيدان" في كتابه "تاريخ التمدن الإسلامي"، وبين أسباب اعتراضه على ذلك التطبيق.
دور الأمومة

(1/536)


--------------------------------------------------------------------------------

واتخذ "روبرتسن سمث" من تسمي بعض القبائل بأسماء مؤنثة مثل: "مدركة" "وطابخة" و "خندف" و "ظاعنة" و "قيلة" و "جديلة" و "مرة" و "عطية"، وأمثالها، دليلا على وجود ما يسمى ب "دور الأمومة" عند العرب. وهو دور لم يكن للنساء فيه أزواج معينون، لأن الزواج لم يكن فيه بالمعنى المفهوم من الزوجية عندنا، بل كان الرجل بجتمع بالمرأة ثم يتركها ليجتمع بامرأة أخرى، و هكذا تكون المرأة قد اتصلت بجملة رجال، كما يكون الرجل قد اتصل بجملة نساء. و إذ كانت المرأة لم تكن تعرف زوجها الذي نجل مولودها، ولا يعرف المولود والده نسب، إلى أمه و عرف بها. وبهذا التفسير، فسمر "روبرتسن سمث" ومن ذهب مذهبه من علماء علم الاجتماع، وجود الأسماء المؤنثة عند العرب وعند العبرانيين وعند بقية الساميين.
واتخذ "روبرتسن سمث" من وجود بعض الكلمات في تسلسل أنساب القبائل مثل: البطن و الفخذ والصلب والظهر والدم و "رحم"، دليلا آخر على وجود "دور الأمومة" عند العرب، لأن هذه الألفاظ صلة بالجسم، ولهذا كان إطلاقها عند قدماء العرب - على حد قوله - علاقة بجسم الأم. ولا سيما أنهم استعملوا لفظة "الحي" كذلك. ولهذه الفظة علاقة بالحياة وبالدم. و إطلاق الألفاظ في نظره ورأيه على معان اجتماعية، دليل على الصلة التي كانت للام في المجتمع لذلك العهد.

(1/537)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد بحث "روبرتسن سمث" بحثا مفصلا في الحي، إذ هو في نظره وحدة سياسية واجتماعية قائمة بذاتها. ويطلق على "الحي" لفظة "قوم" و"أهل". وينظر أبناء الحي الواحد بعضهم إلى بعض نظرة قرابة كأنهم من نسل واحد يربط بينهم دم واحد. وقد استدل "روبرتسن سمث" من معنى "الحي" على وجود معنى الحياة في الكلمة في الأصل، كما هو الحال في اللغات السامية، ورأى لذلك إنها يمثل رابطة قرابة وصلة دم عند سائر العرب السامية. ويكون أعضاء الحي الأحرار "صرحاء"، وفي العبرانية "أزراح" 0 أما الذي ينتمون إليه بالولاء، فهم "الموالي" يستجيرون به أو بالقبائل أو الأفراد، فييلقون حماية من يستجيرون بهم، ويكون "الجار" في رعاية مجيره.
و "البطن" في نظر "روبرتسن سمث" هو أقدم أوضاع المجتمع السامي القديم، ويقوم على أساس الاعتقاد بوجود القرابة والروابط الدموية. ويرى أن مفهومه عند قدماء الساميين كان يختلف اختلافا بينا عنه عند العرب المتأخرين، أو عند العبرانيين" أو غيرهم. وقد فهم من اللفظة معنى المجموع الأكبر عند العرب، أي معنى "شعب" أو "جذم" أو قبلية، ورأى إن هذا المعنى هو المعنى القديم للكلمة عند العرب. أما المعاني التي تذكرها علماء اللغة والأدب والأخبار،فهي في نظره معان متأخرة وضعت في الجاهلية القريبة من الإسلام، ومن جملة هذه المعاني اختصاصها بالأماكن التي تقيم فيها القبيلة أو العشرة، وتتألف من جملة عدد من الدور.
وقد استدل "روبرتسن سمث" من لفظ ة "البطن" و "الفخذ" وأمثالهما على مرور العرب في دور الأمومة، وعلى أن القبائل كانت قد أخذت أنسابها القديمة وأسمائها من الأمومة ومن "الطومية". ورأى أن كلمة "البطن" في الأصل كانت تعني معنى آخر غير الذي يذهب إليه علماء الأنساب، ودليله على ذلك استعمال "رحم".

(1/538)


--------------------------------------------------------------------------------

ول "روبررتسن سمث" بجوث في طرق الزواج عند قدماء العرب، سأتحدث عنها في موضوع الزواج والطلاق عند الجاهليين في القسم الخاص بالحياة الاجتماعية عند العرب و بالتشريع.
وقد أشار "نولدكه" Noeldeke إلى أهمية تأنيث أسماء القبائل، فاتخذ القاثلون بنظرية "الأمومة" من هذه الأسماء دليلا على أهمية هذا العهد في التأريخ الجاهلي القديم.
وقد وافق "ويلكن" "G.A. Wilken" على بعضأراء "روبرتسن سمث"، و خالفه في بعض الآراء.
ومن واضعي نظرية الأمومة العالم الألماني السويسري "باخ أوفن" "Johann Jakob Bachofen" "1815- 1887م"، و هو من علماء القانون ومن مؤسسي "علم القانون المقارن"، وكان معروفا بأبحاثه عن الأشياء الخفية التي تؤثر في حياة الإنسان. وقد ذهب إلى أن تأريخ العالم صراع بين الروح والمادة، بين الذكر والأنثى، وأن الحياة الأرضية مزيج من هذين الكفاحين. وقد لفت نظره إلى الزواج باعتبار إنه ناحية من النواحي القانونية، وتعرض لمباحث الزواج عند الإنسان القديم، و لفوضوية الزواج، حيث كان الرجل يتناول المرأة بغير عقد، كما تفعل الحيوانات، ولاشتراك عدد من الرجال في امرأة واحدة، "Hetarische Gynaikokratie"، فلا يعرف فيه النسل من أي أب هو، و إذا بقي في رعاية أمه، فنسب إليها: وهو زواج مر على جميع الشعوب. كما بحث عن الأديان البدائية وعلاقتها بأمثال هذا الزواج.
ويحب أن نضيف إلى تلك الفوضوية فوضوية أخرى، هي فوضوية الغزو وتقاتل الإنسان مع الإنسان و إباحة المدن والقرى للجيوش الغازية المنتصرة، يعيثون فيها وفي أهلها فسادا، يؤدي إلى انتهاك الحرمات واستباحة الأعراض وتوالد أطفال ليس في مقدور أمهاتهم معرفة آبائهم، فلا يبقى لهم من مجال إلا الانتساب إلى الأمهات.

(1/539)


--------------------------------------------------------------------------------

ودور الأمومة عند أصحاب هذه النظرية، هو أقدم أنواع الزواج. و أما "الأبوة" أي دور الزواج الذي عرف النسل فيه آباءهم فهو عندهم أحدث عهدا من الأمومة، وقد زعموا أن هذين الدورين مر ا على البشرية جمعاء، وفيهم العرب. وفي دور الأمومة تكون القرابة فيه لصلة الرحم، أي إلى الأم، فهو الرباط المقدس المتين الذي يربط بين الأفراد ويجمع شملهم، وهو نسبهم الذي إليه ينتمون. في هذا الدور لا يمكن أن يعرف فيه الانتساب إلى الأب، لسبب عادي هو عدم إمكان معرفة الأب فيه. ولهذا كان نسب النسل في " حتما للأم. وكان نسب الجماعات فيه أيضا للأم. ومن هذه الجماعات القبائل. وهم يرون أن تسمي القبائل بأسماء رجال، بأن تجعلهم أجدادا وآباء، هي تسميات محدثة ظهرت بعد ظهور دور الأموة، و تطور الزواج من زواج الفوضى أو زواج تعدد الرجال إلى زواج حدد فيه على المرأة التزوج برجل واحد ليس غير، يكون فيه بعلها الذي تختص به. ومن هنا اندثرت الأسماء القديمة، أي أسماء الإناث في الغالب، و حلت محلها أسماء الذكور. وسيأتي الكلام على موضوع أشكال الزواج عند العرب في موضعه من هذا الكتاب.
هذا، وقد بحث "جرجي زيدان" في نظرية "الأمومة" عند العرب ورد عليها بتفصيل.
أصول التسميات

(1/540)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد الف "ابن دريد الأزدي" كتابا في اشتقاق الأسماء عند العرب، سماه "كتاب الاشتقاق"، تحدث فيه عن أصول الأسماء واشتقاقها، وذلك ردا على من زعم إن العرب تسمي بما لا أصل له في لغتهم، فذكر اشتقاق تلك الأسماء. وقد قال في مقدمته له: "كان الأميون من العرب... لهم مذاهب في أسماء أبنائهم و****هم وأتلادهم. فاستشنع قوم إما جهلا وإما تجاهلا تسميتهم كلبا، وكليبا، وأكلب، وخنزيرا، وقردا، وما أشبه ذلك مما لم يستقص ذكره. فطعنوا من حيث لا يجب الطعنن، وعابوا من حيث لا يستنبط عيب.. وكان الذي حدانا على إنشاء هذا الكتاب، إن قوما ممن يطعن على اللسان العربي وينسب أهله إلى التسمية بما لا أصل له في لغتهم، وإلى ادعاء ما لم يقع عليه اصطلاح من أوليتهم وعدوا أسماء جهلوا اشتقاقها، ولم ينفذ علمهم في الفحص عنها".. إلى إن قال: "واعلم إن للعرب مذاهب في تسمية أبنائها فمنها ما سموه تفاؤلا على أعدائهم نحو: غالب، وغلاب، وظالم، وعارم، ومنازل ومقاتل، ومعارك، وثابت و نحو ذلك. وسموا في مثل هذا الباب مسهرا، ومؤرقا، ومصبحا، ومنبها، وطارقا. ومنها ما تفاءلوا به للأبناء نحو: نايل، ووايل، و ناج، و مدرك، و دراك، وسالم، وسليم، ومالك، وعامر، وسد، وسيد، ومسعدة، وأسعد، وما أشبه ذلك. ومنها ما سمي بالسباع ترهيبا لأعدائهم نحو: أسد، وليث، وفراس، وذئب، وسيد، وعملس، وضرغام، وما أشبه ذلك. ومنها سمي بما غلظ وخشن من الشجر تفاؤلا ايضا، نحو: طلحة، وسمرة، وسلمة، وقتادة، وهراسة، كل ذلك شجر له شوك و عضاة. ومنها ما سمي بما غلط من الأرض. وخشن لمسه وموطئه، مثل: حجر، وحجير، و صخر، وفهر، وجندل، و جرول، وحزن، وحزم. ومنها إن الرجل كان يخرج من منزله وامرأته تمخض فيسمي ابنه بأول ما يلقاه من ذلك، نحو: ثعلب، وثعلبة، وضب، وضبة، و خزز، و ضبيعة، و كلب، و كليب، وحمار، و قرد، و خنزير، و جحش، وكذلك أيضا يسمى بأول ما يسنح أو يبرح من الطير،

(1/541)


--------------------------------------------------------------------------------

نحو: غراب، وصرد، وما أشبه ذلك.. خرج وابل بن قاسط وامرأته تمخض، وه و يريد أن يرى شيئا يسمي به، فإذا هو ببكر قد عرض له، فرجع وقد ولدت اه غلاما، فسماه بكرا، ثم خرج خرجة أخرى وهي تمخض، فرأى عنزا من الظباء، فرجع وقد ولدت غلاما فسماه، عنزا.. ثم خرج خرجة أخرى، فإذا هو بشخيص قد ارتفع له ولم يتبينه نظرا، فسماه الشخيص.. ثم خرج خرجة أخرى، وهي تمخض، فغابه أن يرى شيئا، فسماه تغلب.. خرج تميم بن مر وامرأته سلمى بنت كعب تمخض، فإذا هو بواد قد انبثق عليه لم يشع ر به، فقال: الليل والسيل، فرجع وقد ولدت غلاما، فقال: لأجعلنه لإلهي، فسماه زيد مناة، ثم خرج خرجة أخرى، وهي تمخض، فإذا هو بمكاء يغرد على عوسجة قد يبس نصفها وبقي نصفها، فقال لئن كنت قد أثريت وأسريت لقد أجحدت وأكديت، فولدت غلاما فسماه الحرث"...

(1/542)


--------------------------------------------------------------------------------

قيل لأبي الدقيش الاعرابي: "لم تسمون أبناكم بشر الأسماء نحو كلب وذئب، و****كم بأحسنها نحو مرزوق ورباح?"، فقال: "إنما نسمي أبناءنا لأعدائنا و****نا لأنفسنا". وتعرض الجاحظ لهذا الموضوع أيضا، فقال: "والعرب إنما كانت تسمي بكلب وحمار وحجر وجعل وحنظلة وقرد على التفاؤل بذلك. وكان الرجل إذا ولد له ذكر، خرج يتعرض لزجر الطير والفأل، فإن سمع إنسانا يقول حجر أو رأى حجرا، سمى ابنه به وتفاءل فيه الشدة والصلابة والبقاء والصبر وانه يحطم ما لقي، وكذلك إذا سمع إنسانا يقول ذئب أو رأى ذئبا تأول فيه الفطنة والمكر والكسب، وإن كان حمارا تأول فيه طول العمر والوقاحة والقوة والجلد، وان كان كلبا تأول فيه الحراسة واليقظة وبعد الصوت والكسب". ويظهر مما تقدم أن موضوع التسميات عند العرب كان من الموضوعات التي لفتت إليها الأنظار، لما في كثير منها من غرابة وخروج على المألوف، فانبرى بعض العلماء في شرح الأسباب التي أدت بالعرب إلى اتخاذ تلك التسميات، وإلى ذكر العلل التي دفعتهم عليها كالذي نراه في بحث "ابن دربد" في كتابه "الاشتقاق"، حيث ذكر في مقدمته كل الأسباب التي رآها وتوصل إليها في بحثه عن هذا الموضوع، الذي أثار جانبا منه "رويرتسن سمث" وغيره من المستشرقين.
كما سموا بعبد العزى، و عبد ود وعبد مناة وعبد اللات و عبد قسي و نحو ذلك، مما فيه إضافة العبودية لأحد الأصنام.

(1/543)


--------------------------------------------------------------------------------

والمتعارف عليه في الإسلام، هو إرجاع النسب إلى الأب. أما الانتساب إلى الأم،فانه قليل الوقوع. ولهذا يعد الرجل عربيا إذا كان والده عربيا، لا يؤثر فيه نسب أمه إن كانت أعجمية. أما قبل الإسلام، فإن النسب وإن كان تابعا لنسب الأب، إلا أنه قد يلاحق الولد بالأم. وبالرغم من هذا العرف، فإن العرب في الماضي وفي الحاضر يقيمون وزنا كبيرا لدم الأمهات، بل قد تزيد أهميته عندهم على أهمية دم الأب. والمثل العراقي العامي "ثلثين الولد على الخال"، خير تعبير عن وجة نظرهم تلك، فإنه يمثل نزعة عرق الخال. وهي من النزعات التي أقام لها الجاهليون وزنا كبيرا عندهم.
أما وجهة نظر العلم الحديث، فإن لدم الأبوين أثرا متساويا في المولود. وهذا فان موضوع النسب إلى الأب أو الأم، موضوع لا يعالج عنده بالعرف والعادة، بل يعالج وفق قواعد العلم المقررة لديه. وبناء على ذلك يجب أن نقيم وزنا لموضوع التزاوج المختلط بين العرب والغرباء، وقد كان معروفا وشائعا في الجاهلية أيضا، إذ تزوجوا من الرقيق، ولاسيما الرقيق الأبيض ونسلوا منه، كما سكن في جزيرة العرب آلاف من الغرباء قبل الإسلام واندمجوا في أهلها. وتركوا أثرا في دماء أهلها، يختلف باختلاف مقدار الاختلاط. ويتبين ذلك وضوح في سحن سكان السواحل، لأنهم أكثر عرضة للاختلاط من أبناء البواطن والنجاد.

(1/544)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا تختلف أسماء القبائل العربية في طبيعتها عن طبيعة أسماء القبائل عند الشعوب الأخرى، ولا سيما قبائل الشعوب المسماة: الشعوب السامية. فهي أسماء آباء وأجداد ترد غالبا في شكل أسماء ذكور، وترد في الأقل في صورة أسماء نساء، وتعد عندئذ أسماء أمهات، أي أمهات قبائل، وهي كما قلت قبل قليل ليست أسماء أعيان بالضرورة، فبينها أسماء مواضع نسب سكانها إليها، فصارت بمرور الزمن جدا، وأبا، أو أما. وبينها أسماء آلهة و اصنام، تعلق المؤمنون بها حتى نسبوا إليها، وبينها أسماء طواطم. ونجد بن أسماء القبائل العربية أسماء ترد عند العبرانيين وعند غيرهم من الشعوب السامية أعلاما لقبائل كذلك، وقد يكون من المفيد جدا دراسة هذه الأسماء ومقابلتها بعضها ببعض، ودراسة أسماء القبائل العربية دراسة مستفيضة لمعرفة أصولها وتطورها ومراجعة الموارد الأعجمية والكتابات الجاهلية للعثور على تلك الأسماء فيها وتعيين زمن ظهور الاسم فيها لأول مرة.
الفصل الثالث عشر
تأريخ الجزيرة القديم
ليس من السهل بقاء العاديات، التي تتألف من مواد منزلية وأدوات ضرورية لحياة الإنسان، مدة طويلة في أرضين مكشوفة سهلية، وفي مناطق صحراوية لا حماية فيها لتلك الأشياء. وليس من السهل أيضا احتفاظ مثل هذه التربة بجدث الإنسان وبعظام الحيوان أمدا طويلا. وهي معرضة لحرارة شديدة قاسية ولرياح عاصفة قاسية. ولهذا لا يطمع الباحثون في الحصول على كنوز غنية من المناطق السهلة المكشوفة التي تغلب عليها الطبيعة الصحراوية والتي تؤلف أكبر قسم من جزيرة العرب.

(1/545)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن هنا سيتجه أمل، الباحثين عن الآثار إلى الأودية التي تتوافر فيها الوسائل الكفيلة بنشوء المجتمعات على اختلاف أشكالها، وإلى السهول التي تبعث النهيرات والينابيع والابار الحياة فيها، وإلى الهضاب والجبال حيث توجد المياه وتتساقط الأمطار وتتوافر الكهوف والصخور،وهي من العوامل المساعدة على نشوء الحضارة وحفظ الآثار، للاستفادة منها في الحصول على آثار تحدثنا عن تأريخ جزيرة العرب في آلاف السنين الماضية قبل الميلاد.
وليس في استطاعتنا في الزمن الحاضر التحدث عن جزيرة العرب في العصور الجليدية، لعدم وجود بحوث علمية عن هذه العصور في هذه البلاد. كذلك لا نستطيع أن نتحدث عن بلاد العرب في العهود الحجرية، لعدم وجود موارد كافية تساعدنا في الكشف عنها كشفا علميا، نعم، عثر على أدوات حجرية في موضع يقال له "الدوادمي" "Dawadami"، وهو يبعد "375" ميلا عن الخليج، عثر عليها مدونة في الأرض، وكان بينها فاس طولها سبع عقد و نصف عقدة، ولها لون يميل إلى الخضرة، وعثر على أدوات حجرية أخرى في أنحاء من جزيرة العرب، وفي جملتها الأحساء وحضرموت، ولكن ما عثر عليه ما زال قليلا، لا يمكن أن يعطينا رأيا واضحا علميا في تلك العهود في هذه البلاد.
وقد تبين من فحص الأدوات الحجرية التي عثر عليها في الأحساء أنها تتكون من أحجار لا توجد في العروض، وبينها أحجار بركانية أو من حجارة "الكوارتز"، و نن أنواع أخرى من الصخور، إذا رأى فاحصوها إنها أدوات استوردت من العربية الغربية. كما تبين من فحص الأدوات الحجرية التي عثر عليها في إليمن وفي حضرموت إنها من النوع المستورد من فلسطين أو من بلاد الشام، لأنها تشبه الأدوات الحجرية التي عثر عليها هناك.

(1/546)


--------------------------------------------------------------------------------

أما الأدوات الحجرية التي عثر عليها في مواضع من حضرموت، فليست محكمة دقيقة الصنعة، بالقياس إلى ما عثر عليه في فلسطين أو في بلاد الشام أو في إفريقية، وقد عزا بعضهم ذلك إلى طبيعة أحجار هذه المنطقة، وعزاه آخرون إلى تأخر حضارة أهل حضرموت في ذلك العهد بالقياس إلى الحضارات الأخرى. ورأى بعض الباحثين أن أرض، حضرموت كانت في عزلة عن البلاد المتقدمة في الشمال، وأن صلاتها بإفريقية كانت أقوى من صلاتها بشمال جزيرة العرب وبالهلال الخصيب وبحضارة البحر المتوسط، ولذلك صارت الأدوات التي عثر عليها بدائية بعض الشيء بالقياس إلى ما عثر عليه في أعالي جزيرة العرب، حيث كان الاتصال وثيقا بالحضارات المتقدمة.
ومن الأدلة التي تثبت إن اتصال حضرموت بالسواحل الأفريقية المقابلة كان قويا ووثيقا في العصور ال "الباليوليثية"، هو عثور المنقبين على فؤوس يدوية في حضرموت تعد من صميم الصناعات التي ظهرت في تلك الأنحاء من أفريقية. ووجودها في حضرموت وعثور المنقبين على أدوات أخرى في من صناعات إفريقية، دليل على شدة العلاقات ومبلغ توثقها بين أفريقية والسواحل العربية الجنوبية.
ويظن إن الزجاج البركاني، المتكون من فعل البراكين "Obsidian" المتخذ أشكالا هندسية، مثلثا أو هلالا أو مربعا، الذي يعود إلى الدور المعروف عند علماء الآثار بسور صناعات النصل "Blade Industries"، والذي عثر على نماذج منه في حضرموت، هو من المستوردات التي يرجع أصلها إلى سواحل أفريقية الشرقية. وقد كانت هذه الصناعة مزدهرة في حوض البحر المتوسط وفي أوروبة قبل الألف الثالثة قبل الميلاد. أما في العربية الجنوبية، فيعود عهدها إلى الألف قبل الميلاد.
واكتشفت أدوات من العصور الحجرية في "الحملة" ورأس "عوينات علي" "عوينت علي" وجنوب "دخان" من "قطر"، منها فؤوس ومقاشر ونبال وكميات من حجر الصوان. وهذه الصخور هي من العصور "الباليوليثية" و "النيوليثية".

(1/547)

admin
12-26-2010, 12:50 PM
وعثر في مواضع متفرقة أخرى من جزيرة العرب على أدوات من عهود مختلفة قبل التاريخ، عثر على أكثرها في مواضع شتى تقع عند الأودية والطرق والمواضع التي تتوافر فيها وسائل الحياة. وسيكون لبحث من يأتي بعدي فيقوم بوضع خارطة أو مخطط للمواضع التي عثر فيها على آلات وأدوات مما قبل التاريخ شأن كبير. ولا شك في الكشف عن مواضع السكنى والحضارة في بلاد العرب قبل التأريخ، وفي الكشف عن نظرية تغير الجو في جزيرة العرب ونظرية الهجرات وارتحال السكان من مكان إلى مكان.
وعثر على آثار متنوعة من العصور ال "الباليوليثية" "Palaolithikum" "Palaeolithic" وال "النيوليثية" "Neolithikum" "Neolithic" في الكويت والبحرين وحضرموت ومواضع أخرى من العربية الجنوبية واليمن. وقد ذهب "فيلد" "H. Field" إلى أن اليمن وعدن كانتا مأهولتين بالسكان في العصور "النيوليثية"، ثم هاجر قسم من الناس إلى عمان والخليج، وهاجر قسم آخر بطريق باب المندب إلى الصومال و "كينيا" "Kenya" و "وتنجانيقا"، و هاجر فريق آخر بطريق مأرب ونجران إلى شبه جزيرة سيناء و فلسطين و الأردن.
وعثر على آثار من العصور المذكورة في مواضع من المملكة العربية السعودية تتمد من الأحساء "الهفوف" إلى الحجاز، ومن مدائن صالح إلى نجران. وقد عثر على أدوات حجرية في "تل الهبر". وقد كان الصيادون في عصور ما قبل التأريخ يتنقلون باتجاه الأودية من مكان إلى مكان حيث كان الأحوال فيها خير مما عليه الآن. وقصد ترك هؤلاء الصيادون ثم الرعاة بعض الآثار في الأمكنة التي حلوا بها ما برح السياح وخبراء شركة "أرمكو" وغيرهم يعثرون على قسم منها بين الحين والحين.

(1/548)

ووجدت في "كلوة" "Kelwa" التي تقع على سفح "جبل الطبيق" آثار من العهود "الباليوثيكية" القديمة: "Chelleen" وال "Acheuleen" والي "Levalloisien". وقد قدر بعض الباحثين تأريخ السكنى في هذا الموضع إلى الألف الثامنة قيل الميلاد. وقد اكتشف هذا الموضع "هورسفيلد" "G.. Horsfieled" و "كلويك" "N. Glueck"، فوجد آثارا وصورا على الصخور، قدر إنها ترجع إلى آلاف من السنين قبل الميلاد من مختلف العصور.
وعثر على كهوف وقد صورت على جدرانها صور حيوانات وصور الشمس، و الهلال و ذلك على طريق التجارة القديمة في العربية الجنوبية، بين وادي يبعث و وادي عرمة. و هي تشبه في أهميتها من دراسة الناحية الاثرية، الصور المتقدمة التي عثر عليها في "كلوة" في الأردن.
%533 و قد ذهب بعض الباحثين إلى إن جزيرة البحري ن كانت مأهولة بالناس أيام العصور الجليدية المتأخرة في اوربة، أي قبل خمسين ألف سنة، و أن ساحل الخليج، و لا سيما المنطقة الواقعة بين "الدوامي" و شمال القطيف، كان مزدحما بالسكان في المحصي ر البرنزية، أي حوالي "3000-2500 ق. م"، كما عثر على أدوات من العصور "الباليوثيكية" في موضع "رأس عوينت علي" "عوينات علي" في شبه جزيرة "قطر".
وقد ذهبوا أيضا إلى أن جو" البحرين آنذاك - أي أيام العصور الجليدية - كان يشبه جو بلاد اليونان في الوقت الحاضر. وأن أرضي البحرين كانت مخصبة خضراء، مغطاة بكساء من الغايات. ولعلها كانت متصلة إذ ذاك بالأرض الأم - أرض جزيرة العرب - أما سكانها فقوم من الصيادين. عاشوا على ما يقتنصونه من حيوانات، وفي مقدمتها الأسماك. وقد عثر على أدوات من حجر الصوان، استخدمها أولئك الصيادون في صيدهم وفي تقطيع لحوم الفرائس التي يوقعها سوء حظها في أيديهم. عثر عليها في مواضع متعددة من البحرين، وبعدد كبير أحيانا، مما يدل على أن تلك الأماكن كانت مستوطنة آهلة بالناس.

(1/549)


--------------------------------------------------------------------------------

وليس في هذه الأدوات الصوانية ما يشير إلى أصل أصحابها، أو إلى أسمائهم وأسماء المواضع التي كانوا فيها. وكل ما يستفاد منها إنها من أواسط العصور "الباليوثيكية" "Paleothitic"، وذلك بدليل مشابهتها لأدوات من الصوان ترجع إلى هذا العهد عثر عليها في شمال للعراق وفي فلسطين في شمال غربي الهند.
وقد عثر في البحرين أيضا على عدد من رؤوس حراب وسكاكين صنعت من الصخور الصوانية. قدر بعض الباحثين عمرها يتراوح بين عشرة آلاف واثني عشر ألف سنة. وهي ترجع إلى أواخر أيام الرعي وابتداء عهد الاستيطان والاستقرار والاشتغال بالزراعة. وبين ما عثر كل عليه من هذه الأدوات، أحجار سنت وشذبت لكي تكون بمثابة آلات لحصد المزروعات ولقطع الحشائش واجتثاثها من الأرض.
وفي العربية الغربية والعربية الجنوبية جبال ترصعها كهوف، اتخذها الإنسان مساكن له، فأقام فيها قبل الميلاد بأمد طويل، لا نستطيع تقدير زمانه، واتخذ بعضها معابد ومواضع مقسهة، وأماكن للخلوة والتأمل الروحي والعبادة،و بعضها مقابر يودع فيها أجداث آبائه وأجداده وأهله، ولكن أكثر هذه الكهوف قد عبث بها الزمن، وعبثت بها أيدي الإنسان، أكثر من عبث الطبيعة بها، فانتزعت منها ما نبحث الآن عنه من بقايا عظام وتركات سكنى، وآثار فن، فحرمنا بذلك الوقوف على حياة الإنسان في جزيرة العرب في تلك الأيام.
وقد أشار الكتبة "الكلاسيكيون" إلى سكان الكهوف في بلاد العرب. وعثر السياح على بقايا تلك الكهوف التي كانت منازل ومساكن آهلة بالناس. ولا يزال الناس يسكنون الكهوف في حضرموت وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب. وقد يكون من بينها كهوفا كانت منازل الأجداد النازلين بها اليوم منذ آلاف من السنين.

(1/550)


--------------------------------------------------------------------------------

ولما كانت زيارات السياح هذه الكهوف زيارات سريعة خاطفة، لم يتعمق السائحون فيها في داخل الكهف، ولم تتناول ما على جدر الكهوف من رسوم أو زخارف،وقد يأتي يوم يعثر فيه الباحثون على كنوز من فن سكان الكهوف، ومن مخلفات لهم وعظام تكدست تحت أطباق الثرى، نستخرج منها وصفا لحياة الإنسان في تلك المناطق من جزيرة العرب، وقد تفيدنا في دراسة الصلات والعلاقات التي كانت بين أهل الجزيرة وبين بقية أنحاء العالم في تلك العهود السحيقة.
فيتبين من هذه الآثار القليلة إن بلاد العرب كانت مأهولة بالناس منذ العصور "الباليوثية" "Palaeolithic"، أي العهود الحجرية المتقدمة، وان من أقدم الآثار التي عثر عليها آثارا من أيام العصور المعروفة ب "Chellian" بين علماء الآثار، أي الأدوار الأولى من أدوار حضارة العصر الحجري، وانه قد عثر على أدوات من الصوان في الربع الخالي وفي حضرموت من عهد ال "Neolithic" والعصور "البرنزية". وعثر على أدوات من الصوان من عصور ال "Chalcolithic" هي من النوع الذي عثر عليه في جنوب فلسطين.
ولم يوفق الباحثون للعثور على هياكل كاملة لإنسان ما قبل التأريخ، لا في جزيرة العرب ولا في "سيناء". وللعثور عليها أهمية كبيرة بالنسبة إلى البحث في تأريخ ظهور الإنسان وتطوره، للوقوف على الزمن الذي عاش فيه في بلاد العرب.

(1/551)


--------------------------------------------------------------------------------

والجماجم والعظام مادة مفيدة جدا في دراسة التأريخ، ولكن الباحثين لما يتمكنوا من الحصول على مقدار كاف منها يكون عندهم فكرة علمية عن العصور التي ترجع إليها وعن أشكال أصحابها. وقد عثر رجال شركة "أرمكو" للبحث عن البترول في العربية السعودية على بقايا عظام وأسنان لبعض الحيوانات "الحلمية" "Mastodon" وعلى قسم من جمجمة حيوان قديم في موضع يبعد تسعين ميلا إلى الغرب من "الدمام" ووجد مثل هذه البقايا الحيوانية في أنحاء أخرى من جزيرة العرب، ولكن ما عثر عليه لا يزال قليلا، لا يكفي لإعطاء آراء علمية عن الحياة في جزيرة العرب في التأريخ القديم.
وقد تعرضت تلك المقابر لعبث الطبيعة ولعبث الطامعين بما فيها من أشياء ثمينة، لذلك أصاب أجسام الموتى التلف، ولم يبق منها غير بقايا من جسيم، إلا ما كان من مقابر البحرين، فقد أعطت الباحثين هيكلن كاملين لم يصبهما أي سوء أو تلف. فقد تبين من فحصهما إن أهل الميت وضعوا جسمي الميتين على الجانب الأيمن ووجهوا الوجهين نحو المشرق، وأمدوا رجلي الميتين. ويبعث وضع الميتين على هذه الصورة الاحتمال بأن أهل البحرين كانوا يتبعون هذه العادة في دفن موتاهم، وهي عادة كانت عند آهل العراق أيضا، في الألف الثالثة قبل الميلاد.

(1/552)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عثر في مواضع من جزيرة العرب على مقابر تبين إنها من نوع المقابر التي يقال لها "تمولي" "Tumuli"، التي عثر عليها في البحرين في نهاية القرن التاسع عشر. أما مقابر البحرين، فهي تلال تكونت من قطع من الصخور، وضع بعضها فوق بعض، لتكون غرفة أو غرفتين، تكون احداهما فوق الأخرى في الغالب، تتخذ قبرا يوضع فيه الموتى، وتكون سقوف الغرف من ألواح الصخور. وبعد إغلاق باب القبر يهال التراب على الصخور، حتى تتخذ شكل تلال. وقد عثر على بقايا خشب فيها، مما يدل على استعمال الخشب في بناء.هذه القبور التي يصل قاعدة بعضها إلى حوالي خمسين ياردة في العرض وحوالي ثمانين قدما في الارتفاع. ويقدر الباحثون الذين بحثوا عن هذه المقابر عادها بزهاء خمسين ألف تل، وبزهاء "100" ألف تل في تقدير بعض آخر، أي خمسين ألف قبر أو "100" ألف قبر. قبر فيها الإنسان والحيوان جنبا إلى جنب، كما يتبين ذلن من بقايا العظام التي عثر عليها فيها. والغالب أنهم دفنوا الحيوان مع الإنسان، ليستفيد منه الميت في العالم الثاني في عقيدة أهلها يومئذ، وكما نجد ذلك في اعتقاد المصريين واعتقاد غيرهم من الشعوب، ولهذا دفنوا مع الموتى أواني وأدوات بيتية وحليا وجواهر وفخارا وغير ذلك مما يحتاج إليه الإنسان.
وقد عثر في هذه المقابر على عدد من الجرار، تشبه الجرار المستعملة في الوقت الحاضر، مما يدل على أن الناس في الوقت الحاضر لا يزالون يسيرون على سيرة أجدادهم الذين عاشوا قيل الميلاد في عمل الجرار وسائر الخزف. وقد صنعت تلك الجرار من الطين، وضعه الخزاف على قرص دولاب يديره برجليه. واستعمل يديه في اكتساب الطين شكل الجرة التي يريدها. ويميل لون هذه الجرار إلى الحمرة. كما عثر على قشور بيض النعام، وقد قطعت بصورة تجعلها كأسا يشرب بها. وعثر على أدوات أخرى، وكل ما عثر عليه غير. مكتوب ولا مؤرخ، لذلك لا نعرف من أمره اليوم ولا من أمر أصحابه شيئا.

(1/553)


--------------------------------------------------------------------------------

وعثر رجال شركة "أرمكو" على عدد كبير من هذه المقابر على حافات جبل "المذرى" الشمالي، قدرها "كورنول" بالألوف، وعثروا كذلك على عدد آخر من هذه المقابر في جبل "المذرى" الجنوبي. وقد حافظت بعض هذه القبور على أشكالها محافظة جيدة، %538 ويشبه بعضها القبور التي عثر عليها "فلبي" في الأقسام الجنوبية الغربية من جزيرة العرب. وولمجد "كورنول" مقابر أخرى في موضع "الرديف" الواقع على بعد "110" أميال من شمال غربي "الدمام"، وفي موضع يقع شمال "عين السبح"، بمسافة أربعة أميال، حيث بلغ قطر أحد تلك المقابر "33" ياردة وارتفاعه "13" قدما. وقد يمكن من الحصول على هيكل عظمي وعلى فخار وقطع من العاج وقشور بيض للنعام وأسلحة مصنوعة من البرنز.
وعثر على مقابر في موضع "المويه" الواقع على "143" ميلا من شمال شرقي مكة. وقد وصف "فلبي" المقابر التي عثر عليها في "الرويق" وفي مرتفعات "العلم الأبيض" و " العلم الأسود"، فقال: إن أكثرها قد عبث به العابثون، فاخذوا ما كان داخل الغرف التي كان يوضع فيها الموتى من ذخائر ومواد، وهي مختلفة الأحجام والارتفاع. ويظهر من وجود هذه المقابر في محال صحراوية بعيدة عن مواضع العمران وفي أماكن لا يقيم فيها الناس، أن هذه المناطق كانت مأهولة قبل الإسلام، وأنها كانت ذات تأريخ قديم جدا، ربما يرجع في رأي "فلبي" إلى أيام قدماء "الفينيقيين" وربما كان "الفينيقيون" في رأي "فلبي" أيضا من الأفلاج والخرج، حيث هاجروا بعدئذ إلى البحرين.

(1/554)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد سمع "فلبي" بوجود مقابر أخرى من هذا النوع، تعرف بين الناس باسم "الخشبة". وسمع "Thesiger" بمقابر أخرى في موضع "رهلة جهمين". و عثرت شركة "أرمكو" على مقابر عادية كثيرة العدد في "وادي الفاو" و "القرية"، لم تحدد هوية أصحابها حتى الآن. وقد زارها "فلبي" ووصفها، وتبين له أن الموضع وهو "القرية"، كان محاطا بسور، وجد في داخله آثار بيوت ومقابر، وبين أنقاض المقابر أحجار مكتوبة تدل على إنها كانت شواهد قبور. وعلى مسافة من "القرية" كتابات وصور حيوانات مثل النعامة والأيل، وصور أناس نقشت على الصخر.
ويظهر من وصف "جيرالد دي كوري" "Gerald de Gaury" "وفلبي" لمقابر الخرج إنها كثيرة العدد، وأنها في مواضع متعددة من هذه الإيالة عند، "فرزان" و "السلمية" و "السلم"، وهي متفاوتة الأحجام والارتفاع. ولم يتمكن "دي كوري" من تعيين تاريخها، ولا يمكن التثبت من ذلك بالطبع إلا بعد القيام بحفريات دقيقة وفحوص للعظام ولمحتويات القبور لمعرفة مكانها في التأريخ.
وقد وجد أن أبواب مقابر البحرين قد وضعت في الجهة الغربية، مما يبعث على الظن على أن لهذا الوضع صلة بدين القوم الذين تعود إليهم تلك المقابر.
وقد وجد أن المواد والأدوات التي عثر عليها في هذه المقابر تشبه المواد والأدوات التي عثر عليها في المقابر الأخرى التي عثر عليها في المواضع المذكورة من جزيرة العرب. ويظن بعض الباحثين أن أصحاب هذه المقابر كانوا يقيمون في الجهة المقابلة لجزيرة البحرين من الجزيرة، أي على ساحل الخليج، وكانوا قد اتخذوا الجزية مقبرة لهم، فينقلون إليها موتاهم لدفنهم هناك. ومنهم من يرى أن تلك المقابر هي مقابر رؤساء الفينيقيين وأشرافهم الذين كانوا يقطنون البحرين، وأن عهد تلك المقابر يرجع إلى ما بين 3000-1500 سنة قبل الميلاد.

(1/555)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عثرت البعثة الدانماركية في سنة "1959 م" في البحرين جنوب طريق "البديع" على أربع مقابر تبين من فحصها إنها ترجع إلى العصور الحجرية. وعثر السياح على تلال في مواضع متعددة من عمان وقطر، تبين إنها مقابر لعهود سبقت الميلاد.
وليست لدينا الآن دراسة علمية شاملة عن هذه المقابر: مقابر البحرين، ومقابر المواضع المذكورة من جزيرة العرب، إلا أن آراء من زاروها ورأوها، تكاد تتفق في القول بوجود ترابط في الزمن فيما بينها، ويرجعون أيامها إلى عصر ال "Chalcolithic" أو إلى العصر البرنزي. ومنهم من يرى إنها من العصر البرنزي المتأخر، ويرى أن المقابر المقامة على المرتفعات هي مقابر جماعة من الصيادين أو الرعاة. أما المقابر المقامة على السهول المنبسطة فيرون لنها مقابر قوم مزارعين مستقرين.
%541
و يظن إن المقابر التي عثر عليها في جزيرة "أم النار" في "أبي ظبي" هي مقابر أقوام عاشوا في الألف الثالث قبل الميلاد، وقد عثر فيها على هياكل عظمية و على خرز و فخار عليه رسوم. و قد كسيت هذه المقابر و غطيت بحجارة منحوتة، حفرت عليها صور ثيران و جمال و أفاعي و حيوانات أخرى. و قد نحتت واجهة الحجر المحيطة بالصور لتظهر الصور بارزة عالية. وبظهر من دراستها إنها من عمل أيد أتقنت مهنتها، وأجادت في فنها بالقياس إلى تلك الأزمنة. وهي تحتاج إلى دراسة لمعرفة مدى تأثرها بفنون الشب الأخرى التي كان لها اتصال بهذه البلاد.

(1/556)


--------------------------------------------------------------------------------

إن هذه المقابر تستحق الدراسة حقا، لأنها تتحدث عن وجود روابط فكرية مشتركة بن أصحابها، وعن احمتال ارتباطهم بعقيدة دينية واحدة. ولا يستبعد أن تكشف بعض القبور السالمة التي لم تعبث بها أيدي البشر العاتية، عن كتابات مطمورة في غرفها، أو عن صور و نقوش ورموز تتحدث إلينا عن هوية أصحابها وعن مكانتهم في التاريخ وفي الحضارة البشرية بالنسبة إلى الأيام التي عاشوا قيها. وعندئذ نكون قد انتقلنا إلى مرحلة جديدة من مراحل تاريخ العرب القديم، لا نعرف اليوم من أمرها إلا هذا النزر اليسير الذي نتحدث عنه.
ولست أستبعد أيضا احتمال عثور المنقبين في المستقبل على آثار أصحاب هذه المقابر في مواضع لا يمكن أن تكون بعيدة عنها، إذ لا يعقل أن يكون ذوو أرحام الموتى قد سكنوا في مواضع قصية نائية عنها. وأن قوما لهم هذه المهمة في عمل هذه القبور، لا بد أن يكونوا على درجة من الحضارة. والمخلفات للتي عثر عليها في بعض هذه القبور هي خير شاهد على ذلك. فقد عثر فيها على حلي وكل أوان من الفخار وعلى آثار أضرى مصنوعة تظهر براعة في الصنعة والإتقان. ولا يستبعد العثور على أمثالها في مستوطناتهم متى عليها.

(1/557)


--------------------------------------------------------------------------------

هذا، وقد عثر بعض السياح على قبور جاهلية في حضرموت وفي اليمن وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب، إلا أن هذه المقابر هي أحدث عهدا من تلك، ثم إنها قبور نحتت في الصخور نحتا، ولم تعمل على هيأة تلال على النحو الذي وصفناه. ول "كارل راتجن" "Carl Rathjens" وصف مفصل لمقابر منحوتة زارها تقع على مقربة من مدينة "كوكبان" في اليمن. وهي كثيرة منحوتة في جانب الجبل، منها المنفردة المنعزلة ومنها ما نحتت بعضها فوق بعض. وقد وجد أن أكثرها قد لعبت بها الأيدي، فأخذت ما كان فيها، فخلت من كل شيء. وقد عثر على كتابة سبئية عند أحد أبواب هذه المقابر، مما يدل على إنها كانت لقوم من سبأ. ولا يستبعد بالطبع أن يكون أولءك الناس قد توارثوا هذا النوع من القبور من أسلاف لهم كانوا قد نحتوها.
وعلمنا بأحوال جزيرة العرب في العصور "البرنزية"،لا يزيد على علمنا بالعصور الحجرية فيها. فهي ضحلة يسيرة، لأن ما عثر عليه من مخلفات تلك العصور ليس بشيء يذكر ولا يكفي لاستنباط آراء منه. ولا يستبعد بالطبع احتمال عثور المنقين في المستقبل على آثار قد ترجع إلى هذه العصور ستهتك الحجب التي تحول الآن بيننا وبين التعرف على تلك الحقب القديمة من تأريخ الجزيرة وقد وجدت "البعثة الدانماركية" التي نقبت في جزيرة "فليكا" من جزر الكويت على آثار من هذه العصور، إلا إن ما عثر عليه لا يكفي لإعطاء رأي علميا كاف عن العصور البرنزية في هذه الأرضين.
وقد عثر في جزيرة "فيلكا" على آثار سكنى وبقايا أبنية وهياكل يرجع عهدها إلى الألف الثالثة قبل الميلاد، وقد تبين أن هذه الجزيرة والجزر الأخرى الواقعة في الخليج كانت ملاجىء يلجا إليها أصحاب السفن والتجار في تلك الأزمنة للاستراحة ولشراء ما يجدونه عند أهل السواحل المقابلة، وللتمون بما يحتاجون إليه من ماء وزاد. ولأهميتها هذه اهتمت بها وبالسواحل المقابلة لها حكومات العراق، فاستولى عليها الأكاديون والأشوريون واليونان.

(1/558)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عثر على مواد مصنوعة من حديد من العصر الحديدي، غير إنها قليلة لا يمكن أن تكون لنا رأيا واضحا من العصور الحديدية في جزيرة العرب.
وعثر على بقايا جماجم بشرية في "الظهران" تبين من دراستها وفحصها على إنها من العصور "البرنزية".
وتدل الأدوات المكتشفة على قلتها على أن شعوب جزيرة العرب حتى في الأزمان البعيدة عن الميلاد كانت على اتصال بالعالم الخارجي ولا سيما العراق وبلاد الشام وحوض البحر المتوسط والقارة الإفريقية،وإنها كانت تستورد منها ما تحتاج إليه من مواد وتبيع لها ما عندها من سلع خام أو من سلع تستوردها من السواحل الإفريقية أو الهند، وأنها لم تكن في يوم من الأيام بمعزل عن بقية العالم.
والعراق وبلاد الشام، أي الأرضون التي يقال لها "الهلال الخصيب" في الزمان الحاضر، هي مهن الناحية الطبيعية وحدة لا يستطاع فصلها عن جزيرة العرب، وامتداد طبيعي لها. وليست البادية الواسعة التي يملا باطن الهلال إلا جزءا من جزيرة العرب، وامتدادا لها، لا يفصلها عنها فاصل، ولا يحد بينها حد، و إذا ما تنقلت من بادية الشام إلى بوادي المملكة العربية السعودية، فلا تجد أمامك شيئا يشعرك بوجود فروق بين طبيعة هذه الأرضين الواسعة، أو وجود حواجز يمنع سكانها من الهجرة نحو الشمال أو إلى الجنوب. وهذا كان من الطبيعي تنقل الناس في هذين الأرضين منذ وجدوا فيها وظهروا عليها بكل حرية، وبحسب الظروف السياسية والعسكرية والاقتصادية.

(1/559)

admin
12-26-2010, 12:52 PM
وتأريخ ظهور العرب في بادية الشام وفي أطراف الهلال الخصيب، تاريخ قديم جدا، ولكننا لا نستطيع تحديد مبدئه، ولا تثبيته، لأننا لا نملك أدلة علمية تعينه وتحدده. ثم إن كلمة "العرب" لم تكن تعنى عند الشعوب التي عاشت قيل الميلاد، غير معنى "أعراب"، وكانت إذا ما ذكرت لفظة "عرب" تقصد البدو على نحو ما ذكرت في الفصل الأول في تحديد معنى هذه اللفظة. أما العرب المستقرون، أو شبه الحضر، فقد عرفوا عندهم بأسمائهم، ولهذا اشتبه أمرهم علينا، وعثر على العلماء تعيين هوياتهم، لعدم نص الكتابات أو الكتب القديمة علا انهم عرب بمعنى جنس للسبب المذكور، فصرنا في حيرة من أمرهم، وفي التوراة أسماء قبائل كثيرة، نسبت إلى آباء وأجداد، يجب أن تعد من العرب، ولكن التوراة لم تطلق عليها لفظة "عرب"، لأنها لم تكن قبائل بدوية وليست اللفظة فيها إلا بهذا المعنى، فحار العلماء في تعيين أصل كثير منها، وما زالت حيرتهم هذه حتى اليوم. وليس من المستبعد أن يكون بين الشعوب القديمة شعوب عربية، إلا إنها لم تعد من العرب لأن اللفظة لم تكن علما على جنس قبل الميلاد.
و إذا ما أخذنا بنظرية القائلين إن جزيرة العرب هي مهد الساميين، جاز لنا أن نقول عندئذ إن معظم أهل الخصيب والبادية هم من معمل تفريخ الجنس السامي الكائن في تلك الجزيرة، وان ذلك المعمل هو الذي أمد هذه الأرضين الممتدة من إيران إلى البحر المتوسط بسلالات الساميين. فصلة جزيرة العرب بالهلال الخصيب صلة قديمة ترجع إلى الأيام الأولى من أيام الساميين، على هذه النظرية، وربما ترجع إلى أقدم س تلك الأيام.

(1/560)


--------------------------------------------------------------------------------

وسنرى فيما بعد أن حكام العراق كانوا قد استولوا على العروض في الألف الثالثة أو قبلها قبل الميلاد، وانهم نزلوا في البحرين وفي جزر أخرى من جزر الخليج، وان أصل الفينيقين هو من البحرين في رأي كثير من العلماء، منها هاجروا إلى أرض "فينيقية" وسواحلها، وما كان ذلك ليتم لو كانت جزيرة العرب بمعزل عن الهلال الخصيب أو عن بادية الشام، أو إن الهلال والبادية كانا بمعزل عن جزيرة العرب.
وقد ذكر إن جماعة من تجار "أور" كانوا يتاجرون في حوالي السنة 2000ق.م مع البحرين. وكانوا قد انشأوا أسطولا لنقل التجارة. ويقال إن "سرجون" الأكادي استولى في حوالي السنة "2300 ق. م." على البحرين وقطر، وان البحرين كانت في حوالي السنة "1750 ق. م." في يد قبيلة اسمها "كاروم" "أجارم" "Agarum"، وهو اسم قريب من "أجرم"، و إنها كانت تدفع الجزية إلى الملك "اسرحدون". وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن "Agarum" هم أهل مدينة "هجر" التي هي الأحساء.
وقد كانت العلاقات التجارية مستمرة دوما بين البحرين وبين العراق. إذ كانت "دلمون" محطة مهمة جدا للتجارة بين المهند وإفريقية وسواحل الخليج والعراق. تستورد الأخشاب من الهند ومن إفريقية كما تستورد الحاصلات الأخرى وتنقل النحاس من عمان، فتبيع ذلك إلى جنوب العراق، وربما حملت تلك التجارات بسفن يملكها أهل "أور" أو غيرهم خلال نهر الفرات، لنقلها من
هناك إلى بلاد الشام ومنها إلى البحر المتوسط لبيعها إلى أهل اليونان وبقية أرجاء "أوروبة". وقد تبين من الأخبار التي تعود إلى أيام الأسرة الثانية من أسر "أور" إن سفن ذلك الوقت "2200 - 2100 ق. م" كانت تقوم برحلات منتظمة فيما بين البحرين و "أور"، وذلك نقل ما يرد إلى هذه الجزيرة من نحاس ومن أحجار ثمينة من عمان، و من ذهب وأخشاب وأفاويه ومواد أخرى ثمينة من الهند.

(1/561)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد نزلت جاليات عراقية في البحرين، كما هاجرت جاليات من البحرين إلى العراق فسكنت به. وما الإله "انزاك" "Inzak" الذي عبد في جنوب العراق وشيدت المعابد بأسمه، إلا علامة على هجرة أهل البحرين إلى العراق، وتأثر أهل العراق به. فهذا الإله هو إله أصله من آلهة أهل إلبحرين. و إنتقال عبادته إلى العراق دليل على تأثر العراقيين بثقافة أهل البحرين، ونقل أهل البحرين له معهم إلى وطنهم الجديد.
وقد كانت البحرين ترتاح كثيرا عند انشغال أهل العراق بالتحارب فيما بينهم، أو بانشغال الحكومات المهيمنة عليه بمحاربة جيران العراق من الدول القوية الكبرة، إذ تلهيهم تلك الحروب عن التفكير في السيطرة على البحرين وابتزاز الأموال من أهل الجزيرة، وتكون مل هذه الظروف فرصة ثمينة للدلمونيين، إذ يجدون أسواقا رائجة تشتري منهم ما يأتون به إلى جنوب العراق، كما يجدون الحكومات مشغولة في معالجة مشكلاتها فلا تشتط كثيرا في أخذ الضرائب من أولئك التجار.
والكتابات الآشورية،هي أقدم سجل، لا شك في ذلك، يشير إلى وجود "العرب" في الأرضين الواسعة الممتدة من الفرات إلى مشارف بلاد الشام. ولكن العرب فيه هم أعراب، لا أقل من ذلك ولا أكثر: أعراب متنقلون في الغالب، هائمون في البادية حيث الماء والكلأ والارتزاق من الغارات على الآشوريين وعلى غيرهم. وإلى هذه الغارات يعود، ولا شك، فضل اضطرار الآشوريين إلى الإشارة إليهم في تلك الكتابات، ولولاها لما ذكروا فيها ولا أشير إليهم. وقد وجد هؤلاء الأعراب قبل زمان هذا التسجيل بأمد طويل من دون ريب، و من يدري? فقد يعثر على كتابات جديدة من زمن سحيق، يسبق زمن الكتابات الآشورية، يرد فيها شيء من الأعراب فترتفع بذلك معارفنا عنهم إلى زمن أبعد من هذا الزمن المنصوص عليه في كتابات الآشوريين.

(1/562)


--------------------------------------------------------------------------------

أما الموارد الإسلامية، فقد اضطربت في تعيين الزمن الذي ظهر فيه العرب في بادية الشام ومشارقها وفي العراق، ولكنها كلها لا تعرف تأريخا يسبق التاريخ المذكور في النصوص الآشورية. وما ذكروه عن ظهور العرب في هذه البلاد، فهو مأخوذ من قصص إسرائيلي. ويظهر من رواية "لهشام بن محمد الكلبي" أن العرب كانوا في أرض العراق في أيام "بختنصر"، وانهم كانوا تجارا يقدمون العراق للتجارات، وذلك في أيام "معد بن عدنان"، وان "بختنصر" جمع ذمن كان في بلاده من العرب حين هم " بغزو العرب في جزيرتهم، إذ نزل وحي من الله على "برخيا"، فبنى لهم "حيرا" على النجف وحصنه، ثم ضمهم فيه، ووكل بهم حرسا وحفظة، ثم نادى في الناس بالغزو. وانتشر الخبر فيمن يليهم من العرب، فخرجت إليه طوائف منهم مسالمين مستأمنين، فأنزلهم "بختنصر" السواد على شاطئ الفرات، فابتنوا عسكرهم بعد، فسموه "الأنبار". وخلى عن أهل الحرة، فاتخذوها لهم منزلا. فهذا كان مبدأ نزول العرب في العراق.
ويظهر من رواية أخرى "لابن الكلبي" كذلك إن الذي أنزل العرب في العراق هو "تبع"، فالعرب الذين نزلوا الحرة و الأنبار هم قوم يمانون.

(1/563)


--------------------------------------------------------------------------------

و "تبع" هذا حكم - على زعمه - بعد "ياسر أنعم"، الذي حكم بعد بلقيس، وهو "تبان أسعد"، وهو "أبو كرب بن ملكي كرب بن تبع ابن زيد بن عمرو بن تبع"، وهو "ذو الأذعار بن أبرهة تبع ذي المنار ابن الرائش بن قيس بن صيفي بن سبأ"، وكان يقال له "الرائد". وقد خرج من اليمن حتى نزل على جبلي "طيء" "جل شمر"، ثم سار يريد "الأنبار". فلما انتهى إلى "الحيرة" ليلا، تحير فأقام مكانه، فسمي ذلك الموضع "الحيرة". ثم سار، وخلف به قوما من "إلأزد" و "لخم" و "جذام" و "عاملة" و، "قضاعة"، فبنوا وأقاموا به، ثم انتقل اليهم بعد ذلك ناس من طيء وكلب والسكون و "بلحارث بن كعب" و "إياد"، ثم توجه إلى "الأنبار" ثم إلى "الموصل"، ثم إلى "أذربيجان"، فلقي الترك، ثم انكفأ راجعا إلى اليمن. وأقام العرب في العراق. " ففيهم من قبائل العرب كلها من بني لحيان وهذيل وتميم وجعفي وطيء وكلب". فهذا كان مبدأ نزول العرب السواد من أرض العراق.

(1/564)


--------------------------------------------------------------------------------

وحكى "الطبري" رواية أخرى عن "ابن الكلبي" متممة للرواية الأولى عن نزول العرب أرض العراق، خلاصتها: أن العرب الذين أسكنهم "بختنصر" الحيرة، انضموا بعد وفاة هذا الملك إلى أهل "الأنبار"، و بقيت الجزيرة خرابا. فلما كثر أولاد "معد بن عدنان" ومن كان معهم من قبائل العرب، وملأوا بلادهم من تهامة وما يلهم، فرقتهم حروب وقعت بينهم، وأحداث حدثه فيهم، فخرجوا يطلبون المتسع والريف فيما يليهم من بلاد اليمن ومشارف الشام، وأقبلت منهم قبائل حتى نزلوا البحرين، وبها جماعة من "الأزد" كانوا نزلوها في دهر "عمران بن عمرو" من بقايا "بني عامر"، فاجتمع بالبحرين جماعة من قبائل العرب، فتحالفوا على "التنوخ"، وهو المقام، وتعاقدوا على التآزر و التناصر، فصاروا يدا على الناس، وضمهم اسم "تنوخ". وتطلعت أنفس من كان بالبحرين من العرب إلى ريف العراق، وطمعوا في غلة الأعاجم على ما يلي بلاد العرب منه، أو مشاركتهم فيه، واهتبلوا ما وقع بين ملوك الطوائف من الاختلاف، فأجمع رؤساؤهم على المسير إلى العراق، ووطن جماعة ممن كان معهم على ذلك، فكان أول من طلع منهم "الحيقار بن الحقيق" في جماعة قومه وأخلاط من الناس ثم أعقبتهم موجات أخرى استقرت في الحيرة و الأنبار وغيرها من الأماكن بعد أن تغلبوا على "الأرمانيين".
وروي عن "ابن الكلبي" أن "أردشير" لما استولى على الملك بالعراق، كره كثير من "تنوخ" أن يقيموا في مملكته، وان يدينوا له، فخرج من كان منهم من قائل "قضاعة" الذين كانوا أقبلوا مع "مالك وعمرو ابني فهم" و "مالك بن زهر" وغيرهم، فلحقوا بالشام إلى هنا ا من قضاعة. ثم وصلت إليهم جموع أخرى من قبائل العرب، فكونوا ممالك وأمارات، سوف أتحدث عنها.
هذا ما وصل إليه علم الأخباريين عن العرب في الهلال الخصيب وهو علم لا يستند بالطبع إلى نصوص عربية جاهلية، و إنما أخذ من روايات شفوية، وأخبار وردت على ألسنة الإخباريين ومن روايات أهل الكتاب.

(1/565)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن الخطأ بالطبع أن نتصور أن وجود العرب في بادية الشام وشاطئ الفرات وأطراف دمشق يرتقي إلى أيام الآشوريين، أو قبل ذلك بقليل. فوجود العرب في هذه الأرضين هو أقدم من هذا العهد بكثير. و إذا كنا قد أشرنا إلى وجودهم في المواضع المذكورة في هذا العهد، فلان الكتابات الآشورية هي أقدم كتابة وصلت إلينا ووردت فيها إشارة إلى العرب،وإلا فإن العرب هم في هذه الأرضين قبل هذا العهد بكثير. في عهد لا نستطيع بالطبع تعيين ابتدائه، لأن هذه الأرضين هي امتداد لأرض جزيرة العرب، والتنقل بينها وبين جزيرة العرب هو تنقل حر ليس له حاجز ولا حدود، فلا نستطيع إذن أن نقول متى سكن العرب بادية الشام.
وقد لاقت القبائل العربية مقاومة شديدة وعنتا شديدا من الحكومات التي حكمت العراق والحكومات التي حكمت بلاد الشام، فقد وقفت تلك الحكومات منذ الدهر الأول لها بالمرصاد، وأبت أن تسمح لهه بالتوغل في داخل أرضها التي نحكمها حكما فعليا، ذلك لأنها كانت كاب الأعراب و تخشى من البداوة، إذ لم يكن من السهل على البدو تغيير سنهم و اقتباس سنن الحضر، ثم إنهم كانوا يغيرون على الحضر وعلى الحدود لأخذ ما يجدونه أمامهم. وقد ترك غزو الأعراب للحدود أثرا سيئا راعبا في نفوس الحكام جعلهم لا يتسامحون في دخول البدو إلى أرض الحضارة، ما دامت للحكام قوة، ولم يتماهلوا معهم إلا بالوصول إلى حدود الحضارة ومشارفها، وذلك لأنهم نصبوهم حرسا لهم، يمنع القادمين الجدد من البادية من الدنو من أرض الحضارة، ويدافع عن الحدود ساعة الخطر، ويهاجم مع القوات النظامية للحكومة الحاكمة أرض العدو في الحروب، وفي أيام السلم لإلقاء الرعب والفزع في نفس العدو وإكراهه على تنفيذ مطلب يراد منه.

(1/566)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد اضطرت الحكومات إلى دفع أ د وطعم وهبات وعطايا سخية لسادات القبائل الحراس في مقابل قيامهم بحراسة الحدود. إذ لم يكن في استطاعة تلك الحكومات القيام بها بنفسها، ولا سيما في تعقب الأعراب وملاحقتهم في البوادي وغزو أعراب العدو، فصارت لسادات القبائل جعالات سنوية وهدايا وألطاف وبعض امتيازات لاسترضائهم وإسكاتهم ما داموا أقوياء أعزاء، وجعلت معهم في بعض الأحيان حاميات من قوى تلك الحكومات عليها سياسيون وقادة لمراقبة اعمال سادات القبائل والحد من غلوائهم، ولمساعدتهم عند ظهور سيد آخر قوي منافس في الميدان يريد مهاجمة الحدود أو انتزاع الرئاسة من سيد القبيلة صاحب الامتيازات.
والحكومات هم عادة إلى جانب سادات القبائل ما دام السادات أقوياء أعزاء. فإذا بدا الوهن عليهم، وتبين أن الأمر قد أفلت من أيديهم، وان سادات جددا أصحاب كفايات وقدر ورؤساء أقوى من رؤساء القبائل القديمة قد برزوا في الميدان، وقد أخذوا على أيدي السادات القدامى، وأن المصلحة تقتضي الآن التحول من القديم إلى الجديد، تحولت تلك الحكومات إلى السادات الجدد، واتفقت معهم على شروط مرضية، للقيام بأداء المصالح والواجبات المذكورة حتى يظهر منافس جديد، يتطاول على القديم فيأخذ مكانه. وهذا هو سر تعدد حكم سادات القبائل، وانتزاع قبيلة الحكم من قبيلة أخرى، و تغير حكم "آل فلان" و "آل فلان"، وحلول حكم قبلي محل حكم قبلي سابق.

(1/567)


--------------------------------------------------------------------------------

وسادات القبائل هم على هذه السنة أيضا، فكانوا إذا وجدوا ضعفا في الحكومة المهيمنة على العراق أو على بلاد الشام وأدركوا إنها في وضع حرج، تقدموا إليها بمطالب جديدة وبشروط جديدة، تكون متناسبة مع حراجة الموقف. فإذا لم تجب قام سيد القبيلة بتهديد مصالح الحكومة وبغزو أرضها أحيانا، وقد يفاوض العدو للاتفاق معه عليها، وقد يثور ويخرج عن طاعتها، ويظل هذا شأنه حتى تجاب مطالبه، أو يتفق معها على شروط يرضى عنها. وبنطبق هذا الوضع على الأعراب الذين يجاورون الحضر، فعلى الحضر دفع جعالة إلى سيد الأعراب في مقابل حمايتهم لهم ومنع القبائل الأخرى المجاورة من الإغارة على أولئك الحضر. ويتقيد هؤلاء السادة بعهودهم مع الحضر ما دامت في مصالحهم.
أما إذا رأوا أن الحضر في وضع حرج وأن الحكومة التي ترعاهم، أو حكومة المدينة ضعيفة غير قادرة على الدفاع عن نفسها، فإن الأعراب يفرضون على الحضر مطالب جديدة، ويأخذون منهم امتيازات إضافية مثل حق الارتواء من الآبار ومن مجاري الماء، وحق رعي ماشيتهم في زرع الحضر، إلى غير ذلك من شروط، يضطر الحضر إلى الموافقة عليها للمحافظة على حياتهم وأموالهم، وإلا تعرضوا للغزو ولكوارث أخرى قد تنزل بهم أضرارا تزيد على ما يطلبه الأعراب منهم بكثير.
وللسيطرة على حركات الأعراب ولضبطهم، أقامت حكومات العراق وبلاد

(1/568)


--------------------------------------------------------------------------------

الشأم لما "مسالح"، أي مواضع حصينة تعسكر فيها قوات نظامية في البادية، يترأسها ضباط، وضعت فيها كل ما يحتاج إليه من سلاح ومؤن وذخائر وقوات كافية للقيام بمثل هذه المهمات الخطيرة في البوادي. وقد حفرت لها آبارا للارتواء منها ونصب ضباط هذه الحصون أنفسهم حكاما يتحكمون في البوادي التي يشرفون عليها، يفضون مشكلات القبائل، ويحافظون على الأمن، ويراقبون تحركات الأعراب وتنقلاتهم، ليكونوا على حذر منهم و من غزواتهما المفاجئة للحدود. وقد بقيت هذه "المسالح" إلى أيام فتوح المسلمين للعراق و لبلاد الشام. وكان من واجبات هذه الحصون توزيع الأرزاق على الأعراب أيام الشدة والضيق، والتقرب إلى سادات القبائل، وعقد صداقات معهم ليستفاد منهم في كبح جماح أتباعهم، و يحولوا دون تحرشهم بهم، ولئلا يقوموا بمهاجمة الحدود.
وكان أقصى مكان سمح للعرب بالوصول إليه هو الشاطىء الغربي لنهر الفرات، وحدود الحضارة لبلاد الشام وأعالي البادية، أي قصر البادية الأعلى. أما ما وراء. ذلك، فكان من الصعب على العرب الوصول إليه، لتشدد الحكومة في منعهم من الدنو منه، وتصلب الحضر تجاههم. ولم يدخله من العرب إلا أفراد أو جماعات تنكرت للبادية ولسننها، وكفرت بسنة الغزو، ورأت في الزراعة وفي احتراف الحرف شرفا لا يقل عن شرف رعي الإبل والتنقل بها من مكان إلى مكان. أما الذين وتفوا عند هذه الحدود، وهم السواد الغالب، فقد يقوا على سنن البادية، مخلصين لها مؤمنين بحق الغزو والقوة، إلا من اشتم رائحة الحضارة وتنفس قليلا من ريح الحضارة، وجاور الفرات ومشارف الشام، حيث تلوح معالم الحضر، فقد طور نفسه بعض التطور، واستقر في الأرض بعض الشيء وصار وسطا بين الحضارة و البداوة، لا هو حضري كل الحضري، ولا هو أعرابي تام الأعرابية، و إنما وسط بين بين، ومنزلة بين المنزلتين.

(1/569)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم يكن من الممكن للأعرابي أن يدرك قيمة الزرع والغرس وحياة الاستقرار لأن الماء وهو جوهر الزرع غير متوافر لديه، ولأن الأمن غير موجود عنده، فهو متى زرع واستقر وكون مجتمعا حضريا صغيرا، هاجمه من هم على شاكلته من أهل البادية وسلبوه كل ما لديه. و مجتمعه مجتمع صغير لا يستطيع الاعتماد على نفسه والركون إلى قوته في صد عادية الغزاة، لذلك حالت هذه الظروف دون السكنى والزرع والاستقرار. إلا في الأماكن التي وجدت فيها مياه، وتوافرت لديها القوة، كما لم يكن من السهل على سادات القبائل. إكراه أتباعهم على الاستيطان والسكنى في بيوت من مدر، ذلك لأفهم هم أنفسهم أبناء بادية، وآراؤهم آراء أعرابية ولا يفكر في هذه الشؤون إلا من كان حضريا مستقرا ومن ولد ونشأ وتثقف في أرض الحضارة. ثم إن تنفيذها يستدعي وجود مال وأمن وقوة رادعة تمنع الأعراب من إفساد ما تقوم به الحضري من عمل مجهد، ولم تكن هذه متوافرة عند سادات القبائل، ولم يكن في وسع سيد القبيلة الذي يجب أن يكون محترسا يقظا حتى لا يفاجئه منافس طامع من آهل البادية فيأخذ مكانه، أن يأمر قومه بالاستيطان، ووضعه على هذه الحالة من القلق وعدم الاستقرار. لذلك قضت طبيعة هذه البيئة على غالبية الأعراب التي جاءت إلى هذه الأماكن بان تعيش عيشة أعرابية أو عيشة رعي، تعيش على ماشيتها بدلا من الاستقرار استقرارا دائما والاشتغال بالزراعة والاتجار بالزرع.

(1/570)


--------------------------------------------------------------------------------

لقد كانت القبائل العربية قد توغلت في "طور سيناء." منذ القدم. ولا بد أن تكون هذه القبائل قد نزلت مصر أيضا، فمن يصل إلى "طور سيناء" يكون قد طرق أبواب مصر. ذهبت تلك القبائل إلى مصر تحمل إليها ما عندها من سلع، وفي جملتها البخور والمر والحاصلات الأخرى التي عرف العرب بالاتجار بها، غير أننا لا نملك و يا للأسف نصوصا تأريخية نستطيع أن نعتمد عليها في إثبات ذلك الاتصال. نعم، عثر على صور ومدونات مصرية للسلالات الملكية الأولى، تشير إلى البدو، والبدوي هو "عمو" في اللغة المصرية. غير أننا لا نستطيع أن نؤكد أن أولئك البدو، هم أعراب من أعراب طور سيناء، أو . من بدو مصر أو من أعراب جزيرة العرب.
والذين يتحدثون اليوم عن صلات السلالات الملكية المصرية القديمة بالعرب وببلاد العرب، إنما يتحدثون عن حدس وتخمين، لا عن وثائق ونصوص أشير فيها صراحة إلى العرب وإلى بلاد العرب، وإن كنا لا نشك كما قلنا بوجوب وجود صلات قديمة جدا ربطت بين مصر وبلاد العرب، لا سيما أن مصر متصلة فعلا بجزيرة العرب من ناحية البر عن طريق "طور سيناء"، ثم إنها على الساحل المقابل للجزيرة، فلا بد أن يكون هناك اتصال بري وبحري قديم بين العرب والمصريين. ولا يستبعد احتمال عثور المنقبين في المستقبل على آثار قد تتحدث عن هذا الاتصال.
يظهر من أقوال "هيرودوتس" و "بلينيوس"، وغيرهما من "الكلاسيكيين"، إن الأقسام الشرقية من "مصر"، ولا سيما المناطق المتصلة ب "طور سيناء" كانت مأهولة بقبائل عربية. وقد ذكرت أسماء عدد منها في كتب هؤلاء. ولم تستقر هذه القبائل في أيام هؤلاء "الكلاسيكيين"، بل سكنت قبلهم بأمد طويل كما يظهر ذلك من كتبهم. وقد أطلق "الكلاسيكيون" على البحر الأحمر اسم "الخليج العربي" "Arabici Sinus" "Sinus Arabicus"، وفي هذه التسمية معنى يشير إلى نفوذ العرب وهيمنتهم على هذا البحر.

(1/571)

admin
12-26-2010, 12:54 PM
ومعارفنا بصلات العرب بالحكومات العراقية القديمة، مثل حكومة السومريين والأكديين "الأكادبين"، لا تزيد على معارفنا المذكورة بصلات المصريين بالعرب، فهي حتى الآن قليلة ضئيلة، ولكن ضآلة ما لدينا من معلومات لا يمكن أن تكون سببا في الحكم بعدم وجود صلات وثيقة بين سكان الخليج و سكان العراق ولا سيما القسيم الجنوبي منه في أيام السومريين، بل وقبل أيامهم أيضا، فالعراق هو امتداد طبيعي لتربة ساحل الخليج، وهو جزء طبيعي من جزيرة العرب. وهو من ثم لا يمكن أن يكون بمعزل عن أرض الساحل وعن بقية أرض جزيرة العرب.
وقد يكون لاسم أرض "دلمون"، وهي ارض السلامة والنظافة، والأرض التي لا تعرف الموت ولا الأمراض والأحزان، والتي لا ينعب فيها غراب، ولا ترفع الطيور أصواتها بعض مما فوق بعض، والتي لا تفترس أسودها، ولا يأكل ذئب فيها حملا، الجنة في الأسطورة السومرية، علاقة ب "دلمون" التي هي جزيرة البحرين في لغة قدماء أهل العراق. وقد حول الخيال السومري، أو خيال من عاش قبلهم على تلك الأرض إلى أرض مسالمة مثالية لا قتال فيها ولا موت ولا حزن، استمده من تلك الجزيرة المسالمة الواقعة في الخليج.
ويحدثنا نص كتب عن فتوحات "لوكال - زبهه - سي" "Lugal-Zagge -Si" "2400 -2371 ق. م."، وهو من رجال السلالة الثالثة من ملوك "الوركاء" "Uruk"، أن فتوحاته كانت قد امتدت من "البحر الأسفل" "الخليج العربي" إلى "البحر الأعلى" "Upper Se"، أي البحر المتوسط. ومعنى هذا إن حكمه كان قد شمل الخليج العربي.
و في أخبار "سرجون" الاكدي، المعروف ب "شروكين" "Sharru-kin" "3371 - 2316 ق.م "، أي العادل، أن فتوحاته بلغت "البحر الجنوبي" "البحر التحتاني" "البحر الأسفل"، أي الخليج العربي، وأنه استولى على مواضع منه. و "سرجون"، هو أقدم ملك أكدي، يقص علينا خبر وصول الأكديين إلى تلك الجهات.

(1/572)


--------------------------------------------------------------------------------

ويلاحظ أن قدماء العراقيين كانوا يطلقون على البحر المتوسط "البحر الأعلى"، و على الخليج العربي "البحر الجنوبي" "The lower sea". وذهب بعض العلماء إلى أن المراد من "البحر الأعلى بحيرة "وان".
وقد أرسل الملك الأكدي "منشتوسو" "Manishtusu" "2306 - 2292 ق. م" حملة عسكرية بحرية، يظهر أنها ر كبت السفن من الجزء الجنوبي الغربي من إيران من "شريكم" "Shirikum"، فعبرت الخليج "البحر الأسفل" إلى الساحل المقابل، أي الساحل الشرقي لجزيرة العرب. ولما وصلت سفنه الساحل، تجمع ملوك "المدن"، وبلغ عددهم "32" ملكا، وقرروا محاربة جنوده، غير أن جنوده انتصروا -كما يقول ملك أكد- على جنود ملوك المدن، واندحر اهل الساحل، واضطروا إلى الاستسلام والخضوع، وسلمت تلك المدن له. وبذلك فرض، سلطان "أكد" عليها إلى موضع "مناجم الفضة". وقد استولى على الجبال جنوب "البحر الأسفل" و أخذ ما وجد فيها من أحجار، فصنع منها تماثيل قدمها نذرا للإله "انلبل" "Enlil".
وأغلب الظن أن مراد الملك من الجبال أسفل "البحر الأسفل" هي ارض عمان، وهي أرض متصلة من البحر بالبحرين وبالعراق من البر والبحر، كما أن تحرك السفن من جنوب غربي إيران، أي من الأرض العربية المسماة بي "عربستان" في الزمن الحاضر إلى الساحل المقابل، أي ساحل جزيرة العرب الشرقي، يحمل الذهن إلى إن الجبال التي ذكرها الملك هي جبال عمان، و إذا صح هذا الرأي، يكون هذا الملك الاكدي قد و صل في فتوحاته إلى أرض عمان.
و جاء في كتابة مدونة على تمثال الملك "نرام سن" "نارام سن" "نارام سين" "2291-2255 ق.م". أنه أخضع موضع "مكان" مجان "مفان" "Magan"، و تغلب على ملكه "مانو" "مانيوم" "Manium" "ماندانو" "Mannu-Dannu" و أسره.

(1/573)


--------------------------------------------------------------------------------

يظهر أن أهل "مجان" "مكان"، وهم قوم لم يشر إلى اسمهم "منشتوسو" والد "نارام سن" "Naram-Sin"، و هم أهل عمان في رأي أكثر العلماء -كما سأتحدث عن ذلك بعد قليل- كانوا قد ثاروا على العرقيين الأكديين الذين أخضعهم لحكمه والد "نارام سن"، وذلك في أيامه أو في أواخر أيام والده، فارسل لذلك "نارام سن" حملة تأديبية قضت على ثورتهم وأعادتهم إلى حكم الأكديين، وعاد بذلك ساحل الخليج العربي من عمان إلى أعلاه، إلى مملكة أكد.
وقد ورد اسم "مكان" "مجان" في خصوص سومرية وأكادية، نشر بعضها العلماء، منها نص للملك "شلجي" أو "دلجي" أو "ونجي" الملقب ب "ملك سومر وأكاد" أفاد وجود صناعة بناء السفن في هذا المكان. والواقع إن أهل الساحل الشرقي لجزيرة العرب عرفوا بناء السفن منذ القدم، وقد ركبوا البحار، وتاجروا، وتوسطوا في نقل التجارة من مختلف السواحل، ولا تزال صناعة بناء السفن الشراعية معروفة حتى اليوم مع قلة ربحها، وعدم تمكنها من منافسة البواخر، إلا إنها على كل حال مورد رزق لأصحابها لاقتناعهم بالقوت القليل.
ويدل، عثور المنقبين على أختام ومواد أخرى من عمل الهند، في "اور" وفي "كيش" و "البحرين" ومواضع أخرى من الساحل العربي الشرقي على أن الاتصال التجاري بالبحر. كان معروفا في الألف الثالثة قبل الميلاد، وأن حركة الاتصال هذه كانت مستمرة عامرة، وان بعض مواضع الخليج مثل "البحرين" كانت من مراسي السفن الشهيرة في تلك الأيام، تقصدها السفن القادمة من العراق في طريقها إلى الهند، والسفن القادمة من الهند في طريقها إلى العراق.

(1/574)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد دعيت "مكان" "مجان" في نصوص أخرى "Matu-Ma-Gan-Na" أي "أرض مجان". ويظهر إن الملك "مانيوم" "مانئوم" "مانوم" هو الملك "منودنو" "Mannu-Dannu" نفسه الذي ورد في نص آخر. وقد كتبت على التمثال لفظة "بلو" "Belu" بمعنى "سيد"، أي سيد "مجان"، وهو "مانيوم". وقد جيء بحجر التمثال من "مجان". وتعني كلمة "دنو" "المقتدر"، ولذلك يرى بعض الباحثين إنها صفة ألحقت بالاسم، فهي لقبه، وليست جزءا من الاسم.
وفي أنباء "جوديا" "غوديا" "Godea"، و هو "باتيسي" مدينة "لكش"، إنه جلب الحجر من "مجان"، وذلك لصنع التمائيل، كما جلب الخشب منه ومن "سلون". وذكر مع موضع "مجان" اسم موضع آخر هو "ملوخا". وقد ذكر "جوديا" "غوديا" إنه جلب كميات كبيرة من "حجر أحمر" من "ملوخا". وقد اخذ العلماء في تقصي هذين المكانين اللذين أخذ منهما هذا ال "باتيسي" أحجاره وأخشابه، وكذلك أسماء مواضع أخرى ذكرت مع المكانين.
وقد بحث "ونكلر" عن موضع "مجان"، ويقع على رأيه في الأقسام الشرقية من جزيرة العرب. وقد نبه على اقتران اسم "ملوخا" باسم "مجان" في الغالب " ويرى انهما اصطلاحان يقصد بهما في البابلية القديمة بلاد العرب، فيراد من "مجان" القسم الشرقي من الجزيرة من أرض "بابل" إلى الجنوب. وآما "ملوخا"، فيراد بها القسم الشرقي من جزيرة العرب. ويرى أيضا إن ما وقع في جنوب المنطقتين عرف باسم "كوش" أي الحبشة، وان البابليين لم يكونوا يتصورون بلاد العرب شبه جزيرة تحيط بها البحار من الشرق والجنوب والغرب، بل تصوروها منطقة واسعة تمتد من الحبشة إلى الهند، وان "كوش" تقابل مصر التي هي القسم الشمالي من جزيرة العرب. فما ذكر عن "كوش" ومصر في التوراة، لا يقصد به الحبشة ومصر، بل يقصد به جزيرة العرب وشمالها. وقد جاء على ذلك بأمثلة من العهد العتيق، ذكر أن من الصعب إن يكون المراد بها مصر والحبشة.

(1/575)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ألف "ونكلر" رسالة سماها "مصري وملوخا ومعين" بين فيها رأيه في أن "مصري" هي أرض عربية شمالية، وأن مصر المذكورة في التوراة هي في بلاد العرب، لا في إفريقية. وقد أثارت نظرية "ونكلر" هذه جدلا بين العلماء وقوبلت بنقد شديد، لأنها تعارض ظاهرة نصوص التوراة.
وذهب آخرون إلى أن "مجان" هي في المنطقة المسماة "Gerrha" عند "الكلاسيكيين"، وهي الأحساء، وأما "ملوخا" فتمتد من المنطقة الواقعة إلى الجنوب من البحرين إلى عمان. وقد اشتهرت "ملوخا" بوجود الذهب فيها. ومنها حصل "جوديا" "Gudea" "غوديا" على الذهب، كما اشتهرت بالخشب الثمين المسمى "Uschhu". وأما "هومل"، فيرى أن "مجان" في الأقسام الشرقية من جزيرة العرب، وأن "ملوخا" تقع في وسط جزيرة العرب، أو في القسم الشمالي الغربي منها.
وذهب "جيسمن" إلى احتمال وقوع "مجان" على مقربة من ساحل الخليج، في موضع في الرمال جنوب "يبرين"، فيه بئر جاهلية، قال إن اسمها قريب من "مجان" "Magan"، ويعرف هذا المكان باسم "مجيمنة".
وقد عارض "فلبي" رأي "جيسمن" هذا، لأن الموضع المذكور يقع في منطقة صحراوية بعيدة عن ساحل البحر، ولا توجد فيه آثار عاديات تشعر إنه كان من المواضع الجاهلية العتيقة، ولا صخور من نوع "الديوريت" الذي صنع منه تمثال "نرام - سين"، ولا أي نوع آخر من الصخور، يبعث على الظن إنه المكان الذي نقلت منه الحجارة إلى العراق. وقد رأى "فلبي" أن موضع "مجن"، الواقع على مقربة من الساحل عند مصب في وادي "شهبة"، هو أقرب إلى "مجان" من الموضع الذي اختاره "جيسمن"، ولهذا ظن إنه هو المكان المقصود.

(1/576)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرى "موسل" أن من الصعب جدا الاتفاق على تعيين موضعي "مجان" و "ملوخا"، لأن مدلولي الاسمين قد تغيرا تغيرا مرارا. فالذي يفهم من نصوص الألف الثالثة قبل الميلاد، أنهما يقعان في جزيرة العرب على سواحل الخليج و على سواحل المحيط الهندي. ف "مجان" في نص "نرام-سين" أرض تحد إقليم "بابل"، أو هي لا تبعد عنه كثيرا. وهي كذلك في كتابة "جودية" "جوديا" "غوديا". و في بعض النصوص التي عثر عليها في "أور" حيث أشير إلى طريق قوافل يوصل من "السوس" إلى "مجان".
و هذا مما يبعث على الظن أن أرض "مجان" و "ملوخا" المذكورتين في نصوص الألف الثالثة قبل الميلاد تقع على الخليج، في الارضين التي سكن فيها ال "Gerrhaens". وقد كان سكان هذه السواحل يتاجرون منذ القديم مع الهند و ايران و السواحل العربية الجنوبية، و مع إفريقية أيضا. و يرى احتمال شمول اسم "ملوخا" منطقة واسعة تشمل ما يسمى "كوش" في التوراة، و السواحل العربية الجنوبية التي كانت تعرف ب "كوش" كذلك.
و يرى "موسل" أن مدلول "مجان" قد توسع في الألف الأول قبل الميلاد فشمل منطقة كبيرة شملت مصر أيضا، في النصوص الآشورية التي ترجع إلى الألف الأول قبل الميلاد ب "مجان" طور سيناء و الأقسام المتخامة لها من مصر، و إلى هذا الرأي ذهب "مايسنر" كذلك. أما "ملوخا"، فقد قصد بها الحبشة و السودان. و قد توسع مدلول "حويلة" المذكور في التوراة أيضا، فشمل المنطقة التي تقع غرب "بابل" إلى طور سيناء و السواحل الشرقية الواقعة على خليج العقبة. و لهذا ظن بعض العلماء أنها صارت تعني "ملوخا".

(1/577)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذهب "كيتاني" إلى إن "مجان" هي "مدين"، لأن أرض "مدين" كانت في حوالي خمسة الألف سنة قبل الميلاد كثيفة الأشجار، و كانت تصدر الأخشاب التي تصلح لبناء السفن. و من مدين أخذ البابليون الذهب و النحاس والأخشاب. أما "موسل"، فيعارض هذا الرأي، ويرى أن من الصعب تصور نقل الأكديين والسومرين والبابليين الأخشاب والصخور الثقيلة من مدين على ظهور الجمال إلى بلادهم مع اتساع الشقة وبعد الطريق، ويرى أن من الصعب تصور نقلها في البحر الأحمر فالبحر العربي فالخليج، فإن ذلك يستدعي زمنا طويلا ومتاعب كثيرة، ثم إن النصوص لم تشر إلى ذلك. فمن المعقول إن تكون "مجان" في العربية الشرقية على ساحل الخليج.
ويرى "كلاسر" أن "Magon Kolpos" الذي ذكره "بطلميوس" لا يعني "خليج المجوس" "Magorum Sinus" حتما، إذ يجوز أن يكون المراد منه "مجان" "Magan"، أي موضع "مجان" الذي نتحدث عنه. ويقع -في رأيه- على ساحل الخليج، وربما كان عند "القطن" "قطن". ويحتمل -في رأيه أيضا- أن يكون "Maka" المذكور في نص "دارا".
ويرى "أوليري" أن "مجان" هي "Gerrha"، وتمثلها الأحساء في الزمن الحاضر. أما "ملوخا" "Meluhha"، فتقع - في رأيه - جنوب الأحساء، في عمان. وقد استدل على ذلك بنص دون في عهد "سرجون" "722 -705 ق. م"، جاء فيه أن مملكته بلغت مسيرة 120 "بيرو" من سقي نهر الفرات إلى "ملوخا" على ساحل البحر، وآن موضع "دلمون" "Dilmum" يقع على مسافة 30 "بيرو" من رأس الخليج. فيجب أن يكون موضع "ملوخا" إذن بعد موضع "دلمون". ولما كان موضع "دلمون" هو "تيلوس" "Tylus" في رأي أكثر العلماء، أي البحرين، فإذن تكون أرض "مجان" وأرض "ملوخا" في العرض، وفي المواضع المذكورة. وذهب بعض آخرون إلى احتمال أن يكون "مجان" "مكان" في العربية الشرقية في موضع عمان.

(1/578)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذكر الملك "شروكين" "Sharrukin" ملك آشور أن في جملة الأرضين التي خضعت لحكمه أرض "تلمون" "Tilmum" و "مجانا" "مجان" "مجنا" "Maganna"، وتقع في البحر الجنوبي، ويريد به الخليج. ويشر إلى إنه فتح هذه الأرضين بيده، وذلك قبل الميلاد بمئات السنين "1985 ? - 948 1 ? ق. م.". وقد رأى "ينسن" "P. Jensen" أن المراد ب "تلمون" جزيرة "قشم"، على الرغم من ذهاب كثر الباحثين إلى إنها البحرين. وأما "مجان" فإنها في نظره أرض "عمان".
وجاء اسم "ملوخا" "ملوخه" "Melluhha" واسم "تلمون" "Tilmun" في جملة أسماء الأرضين التي كان يحكمها ملك آشور "توكولتي نينورتا" "Tukulti-Ninurta"، وقد نعت نفسه ب "ملك كردونيش" "Karduniash" وملك سومر وأكاد، وملك سيبار "Sippar" وبابل، وملك تلمون وملوخا، وملك "البحار العالية" و "البحار التحتية"، وقصد بجملة "البحار التحتية" "بحيرة وان" على ما يظهر، وتقع أعلى آشور، وبجملة "البحار التحتية" البحر الذي يقع أسفل مملكة آشور، أي في جنوبها، ويظهر انه أراد به إن الخليج العربي. و معنى ذلك إنه حكم منطقة واسعة امتدت رقعتها من "بحيرة وان" حتى الخليج، وفي ضمنها "البحرين" والسواحل الواقعة إلى غربها، وهي سواحل، "ملوخا" "ملوحا".
دلمون

(1/579)


--------------------------------------------------------------------------------

وجبرنا الحديث عن "مجان" و "ملوخا" إلى الحديث عن موضع آخر ورد في النصوص "الأكدية" و "السومرية" و "الآشورية"، هو موضع "ني-تك" "Ni-Tuk" "Ni-Tuk-Ki" و هو "دلمون" "Dilmun" أو "تلمون" "Tilmun". وقد اشتهر بتمره وخشبه وبمعادنه مثل النحاس والبرنز، وكانت فيه مملكة يرأسها ملوك. وقد رأينه إن "جوديا" "Gudea" كان قد أشار إليه وإلى موضع "مجان"، وقد ذكر إنه استورد الخشب منه، كما رأينا اسم هذا المكان في ضمن الأماكن المذكورة في نص "سرجون"، وقد ورد أيضا في نص للملك "آشور بانبال". وفي نص للملك "سنحاريب" "سنحريب"، وقد ذكر هذا الملك إنه بعد أن تمكن من "بابل" ودكها دكا، عزم على ضم "دلمون" إلى مملكته، فأرسل وفدا إلى ملكها يخبره أمرا من أمرين: إما الخضوع ل "آشور" وإما الخراب والدمار. فوافق ملك الجزيرة على الاعتراف بسيادة "سنحاريب" عليه، وأرسل إليه بجزية ثمينة. وكذلك كانت هذه الجزيرة في عداد الأرضين التي خشعت ل "آشور بانبال".
ويظهر من النصوص أن "دلمون" كانت جزيرة تتمتع بقدسية خاصة، كانت تعد من الأماكن المقدسة، وقد رويت عنها أساطير دينية، وعبدت فيها آلهة تعبد لها أهل العراق، مما يدل على الاتصال الثقافي المتين الذي كان بين العراق والبحرين. ووجد اسم الإله "انزاك" في كتابة عثر عليها في البحرين، وتشير أسطورة "أنكي" وزوجه "ننخرساك" وملحمة "كلكمش" "جلجامش" "جلجمش"، وأسطورة "ارض الحياة" وغير ذلك من م القصص الشعبي، إلى هذا الاتصال الطبيعي الذي كان بين جنوب العراق والعروض.

(1/580)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر "هومل" أن من كبار آلهة "دلمون": "لخامو" "لخامون"، وهو إلهة أنثى. وأشار أيضا إلى نص أرخ في السنة السابعة من سني "فيلبس" "Philippus" "فيلفيوس" و تقابل سنة "317 ق.م."، و هو نص "بابلي" و رد فيه اسم أرض دعيت "برديسو" "Pardesu"، و تقابل هذه الكلمة "Pildash" "Pardes" بالعبرانية و "فردوس" بالعربية، %563 و تقع في القسم الشرقي من جزيرة العرب، بين "مجان" و "بيت نبسانو" "Bit Napsanu" التي هي جزيرة "دلمون". و قد حملت هذه التسمية بعض العلماء على التفكير في أن ما ورد عن "جنة عدن" في التوراة، إنما أريد به هذه المنطقة التي تقع في القسم الشرقي من جزيرة العرب و على سواحل الخليج.
وقد ذهب أكثر العلاء إلى أن أرض " دلمون" هي جزيرة البحرين، أو جزيرة البحرين والساحل المقابل لها، وذلك لأن المسافة التي ذكرت في نص "سرجون" تكاد تساوي بعد البحرين عن فم نهر الفرات، وهذا مما حملهم على القول إن موضع "دلمون" هو جزيرة البحرين. ثم إن الصلات بين العراق والعروض كانت قوية، والأرض هي على امتداد واحد، فلا مواقع ولا حواجز، ولهذا رجحوا كون "دلمون" هي البحرين.
وعرفت "دلمون" أو البحرين في الكتب "الكلاسيكية" باسم "تيلوس" "Tylus"، و يرى بعض الباحثين إنه حرف عن "تلوون" "Tilwun"، وهو "Dilmun" في الأصل، وورد معه اسم "أرادوس" "Aradus". وقد ذكر "بلينيوس" "Pliny" أن جزيرة "Tylos" "Tylus" معروفة باللؤلؤ، وبها مدينة عرفت بهذا الاسم كذلك. وعلى مقربة منها جزيرة صغيرة. وهي تقابل الساحل الذي يسكنه الي "الجرهائيون" "Gerrhaens"، نسبة إلى مدينتهم "جرها" "Gerrha". و ينطبق وصف "بلينيوس" لجزيرة "Tylos" "Tylus" على جزيرة البحرين كل الانطباق.

(1/581)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ورد في بعض نصوص "أور" "Ur" إنها صدرت الصوف في السفن . إلى "تلمون" "Tilmun"، كما أشير إلى قوافل كانت تذهب من "أور" إلى هذا الموضع، وقد عادت بأرباح كبيرة. ويظهر من هذه النصوص ومن نصوص أخرى أن الاتجار بين "تلمون" و "أور" كان متصلا مستمرا، وأن جماعة من تجار "أور" كانوا يرسلون قوافل من السفن إلى "تلمون" للاتجار، تحمل إلى هذا الموضع ما بها حاجة إليه من حاصلات العراق ومن الأموال الواردة إلى العراق من الأسواق الخارجية مثل إيران وبلاد الشام وآسية الصغرى وربما من اليونان وأسواق أوروبة، فتبيعها هناك، وربما يشتريها تجار "تلمون" أو غيرهم لتصديرها إلى أماكن أخرى بعيدة مثل الهند،أو إفريقية، أو قلب جزيرة العرب. فإذا انتهى هؤلاء التجار من بيع تجارتهم، يعودون ببضائع من البحرين، هي، في الغالب من تجارة الهند أو إفريقية، في جملتها المعادن والأخشاب والعطور والأشياء النفيسة الأخرى التي كانت تباع بأثمان باهظة، فيربح هؤلاء التجار من هذه التجارة ربحا كبيرا.
وقد كان تجار "تلمون" يأتون بسفنهم إلى "أور" يحملون ما استوردوه من تجارات من الهند أو إفريقية أو جزيرة العرب، لبيع في أسواق "أور" ثم يعودون بسلع أسواق أور، من حاصل العراق وما جلب إلى أور من الخارج. وقد كان هؤلاء التجار يدفعون العشر، ضريبة عن هذا الاتجار.
وقد عثر على نصوص تبين من دراستها إنها عقود واتفاقيات عقدت بين تجار للاتجار بين "أور" و "تلمسون"، وبينها وثائق تتعلق بتجارة تجار قاموا بأنفسهم. بالاتجار مع "تلمون". ويظهر من دراستها إن أولئك التجار كانوا يستوردون النحاس بمقياس واسع من "تلمون"، لأنه مطلوب في العراق، ولأن أسعاره هناك أرخص بكثير من سعره في أور، وكان في جملة السلع التي استوردوها من "تلمون" الفضة و "عين السمك"، أي اللؤلؤ على ما يظن.

(1/582)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا بد أن يكون هذا النحاس من جملة المواد المستوردة من مواضع أخرى إلى "تلمون". وقد تكون أرض عمان في جملة الأماكن التي أمدت هذا الموضع به. فقد عثر في عمان على آثار منجم عند مكان يسمى "جبل معدن" يقع على مسافة "75" ميلا إلى الشمال الغربي من الجبل الأخضر. فلعل هذا المنجم القديم كان مستغلا في تلك الأيام يستخرج النحاس منه.
ولقد عثر في البحرين على مقابر قديمة كثيرة كما ذكرت قبل. وقد وجد بعد فتحها إنها خططت على نمط واحد، وتتجه مداخلها نحو الغرب، وذلك مما يبعث على الظن إن هذا الاتجاه علاقة بشعائر دينية عند" القوم أصحاب المقابر. وقد وجدت فيها كما سبق أن قلت عظام بشرية، منها جمجمتان بشريتان، وعظام حيوانات يظهر إنها دفنت وهي حية مع أصحابها وفق العقائد الدينية التي كانوا يدينون بها. وضر على مصوغات من الذهب وعلى خرز وأحجار زينة. غير إن هذه الأشياء لم تعط الباحثين حتى الآن فكرة يقينية عن تأريخها وعن أيام أصحابها، والرأي الشائع بين الذين عنوا بدراستها وفحصها إنها مقابر "فينيقية"، لأن البحرين كانا الموطن القديم للفينيقيين،وان لم يصدر حتى الآن رأي جازم في هذا الشأن.
وقد ضر كما ذكر "ولسن" "Wilson" في مقبرة من هذه المقابر على حجر اسود مكتوب بكتابة تشابه الكتابات المسمارية.
ويستشهد العلماء الذين يذهبون إلى أن تلك المقابر هي مقابر "فينيقية"، وان سكان البحرين هم فينيقيون، بما ذكره "سترابون" من أن في جزيرتي "Tylus" "Tyrus" و "Araus"، مقابر تشابه مقابر الفينيقيين، وان سكان الجزيرة يرون إن أسماء جزائرهم ومدنهم هي أسماء فينيقية.

(1/583)

admin
12-26-2010, 12:59 PM
وقد قامت بعثة آثارية دانماركنية بالبحث عن الآثار في البحرين، وقد نبشت الأرض في ثلاث مواضع لاستنطاقها والاستفسار منها عن ماضيها القديم. وقد تأكدت البعثة من أن الأماكن التي نقبا فيها تعود إلى مستوطنات العصر البرنزي. وكان في جملة ما عثرت عليه تمثالين صغيرين لثورين، وفخارا، وأشياء أخرى.
وقد عثر المنقبون على آثار معابد في مواضع. من جزر البحرين، تبين من فحصها إنها خربت مرارا، وان الأيدي لعبت بها، وقد انتزعت أحجارها للاستفادة منها في تحويلها إلى أبنية جديدة. وفي جملة ما عثر عليه في أنقاضها بعض التماثيل وبعض الأحجار المثقوبة، وكانت مذابح تذبح عليها القرابين، فتسيل دماؤها من هذه الثقوب إلى حفرة تتجمع فيها الدماء. وقد تبين أن هذه المعابد، هي من معابد العصر النحاسي والعصر البرنزي، وأن تأريخ بعضها يعود إلى ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد.
و يرى كثير من الباحثين في التأريخ القديم أن أصل الفينيقين الساكنيين في "فينيقية" بلبنان هو من هذه المنطقة، أ من البحرين و الساحل المقابل له.و قد ذكر "هيرودوتس" إن المشهور في أيامه أن أصلهم من البحر الأحمر. و لكن العلماء يرون أنه قصد الخليج العربي "Sinus Persicus" لا البحر الأحمر.
%567 و يذكرون أن الفينيقين تركوا ديارهم هذه، و هاجروا منها سالكين الساحل، ثم وادي الفرات، و من وداي الفرات يتمموا لبنان، حيث استقروا على الساحل في المنطقة التي عرفت بأسمهم، أي "فينيقية" "Phoenicia".

(1/584)


--------------------------------------------------------------------------------

إننا لا نستطيع أن نتحدث الآن عن حكومة العروض أو حكومات العروض في عصور ما قبل الميلاد فما لدينا من أخبار هو نزر يسير. نعم، من الجائز أن يكون أهل هذا الساحل قد كونوا لهم حكومة واحدة، ومن الجائز أن يكونوا قد أقاموا حكومات عديدة، حكومات مدن، أو حكومات قبائل، على نحو ما نعرفه عن هذه المنطقة إلى عهد ليس ببعيد. وكما نرى في مشيخات وإمارات الخليج في هذا الزمان. ومن الجائز أن يكون أهل العراق قد أخضوا ذلك الساحل وأقاموا حكومات فيه. ونحن لا نستطيع التحدث الآن عن "أرض البحر" "Mat-Tamtim"، هل كانت حكومة قوية عاشت في الألف الثالث قبل الميلاد، حكمت كل الساحل إلى أن غزتها حكومات من العراق أو كانت إمارة أو "مشيخة" في اصطلاح هذا اليوم? ولكن ما نراه من سرعة تغلب الأكاديين والسومريين والآشوريين على أهل الساحل، يثير إلى انهم لم يكونوا أصحاب حكومة قوية وانهم إنما كانوا في أغلب الظن رجال بحر وتجارة، لهم حكومات صغيرة أي إمارات و "مشيخات"، وهذا يفسر لنا سر استسلامها لحكومات العراق بسهولة ويسر وأدائها الجزية لها.

(1/585)


--------------------------------------------------------------------------------

وهناك من يزعم أن "السومريين" إنما جاءوا إلى العراق من البحرين، جاءوا إليه في حوالي السنة "3100 ق. م". وقد عرفت البحرين باسم "دلمون" "تلمون" "Dilmun" في نصوص السومريين وقد كانت البحرين محطة مهمة ينزل فيها الناس في هجراتهم نحو الشمال، كما كانت محطة للاتجار مع الهند والبلاد البحرية الأخرى. والرأي الغالب اليوم بين علماء التاريخ القديم أن الكلدانيين الذين سكنوا الأقسام الجنوبية من العراق، إنما جاءوا إلى هذه الأرضين من العربية الشرقية، من ساحل الخليج، وذلك في أواخر الألف الثانية قبل الميلاد، ثم زحفوا نحو الشمال حتى وصلوا إلى بابل، وقد وجد بعض الباحثين كتابات كلدانية تشبه حروفها الحروف العربية الجنوبية القديمة، أي حروف المسند، واستدلوا من ذلك على أن أولئك المهاجرين الذين ربما كان أصلهم من عمان هاجروا إلى ساحل الخليج، ثم انتقلوا منه إلى العراق، ونقلوا معهم خطها القديم، الذي تركوه بعد ذلك حيا استقروا في العراق، لتأثرهم بالمؤثرات الثقافية العراقية. والنماذج القديمة من كتاباتهم التي عثر عليها الباحثون، وإن لم تتحدث عن أصل أصحابها، إلا أن خطها المذكور يشير إلى إنه من العربية الشرقية.
وقد ذهب "سترابو" إلى أن "Gerrha" التي تقع عند "العقير" كانت في الاصل موضعا للكلدانيين "Chalaer"، وكانت ذات تجارة مع أهل بابل مزدهرة.

(1/586)


--------------------------------------------------------------------------------

على كل فالذي يتبن لنا من الأخبار السومرية والأكدية والآشورية وغيرها أن أهل العربية الشرقية كانوا قد كونوا لهم حكومات مدن وذلك قبل الألف الثالثة قبل الميلاد، صرفت جل عنايتها نحو التجارة وركوب البحار للاتجار، والاستفادة من البحر لاستخراج ما فيه من سمك و "لؤلؤ"، واستغلال ما في أرضها من ماء للزراعة عليه. والطبيعة هي التي فرضت على أهل هذا الساحل هذا الشكل من الحكم، لأنها لم تمنحهم أمطارا وافرة نمكنهم من استغلال أرضهم، ولم تعطهم أنهارا كبيرة طويلة تساعد في نشوء العمران عليها وتكوين حكومات مطلقة، كما في العراق أو في وادي النيل، لذلك انحصرت السكنى في مواضع متناثرة من الساحل، فصعب على السكان تكوين حكومة مطلقة واحدة يكون الحكم فيها حكما مركزا في أيدي الملوك، لتباعد المدن بعضها عن بعض، لذلك صار الحكم فيها حكم مدن، على المدينة "ملك" أو رئيس يدير شؤون الجماعة، إلا أن هذا الوضع جعلهم عرضة للغزو إذ طمعت فيهم الحكومات الكبيرة كالذي رأيناه من غزو السومريين والأكديين لهم، وكالذي سنراه فهيما بعد من غزو الآشوريين واليونانيين وغرهم لهذه الأرضين.
لقد استورد السومريون والأكديون الذهب والحجارة الصالحة لصنع التماثيل، والأخشاب لبناء المعابد، والأشياء النفيسة الأخرى من "دلمون" ومن "ملوخا" ومن "مكان" "مجان"، وهي أماكن يرى كثير كل من العلماء إنها في العربية الشرقية، وقد تكون تلك المواد من الأموال المستوردة من الهند. على كل حال، فقد توسطت تلك الأماكن في استيرادها وإيصالها إلى العراق، بفضل مهارة سكانها في تسخير البحر وتيسيره، وقد ترك الفتح العراقي فيها أثرا كبيرا يظهر في الآثار العراقية التي استخرجت من باطن الأرض وفي فن العربية الشرقية المتأثر بالفن العراقي.

(1/587)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد اثر انتقال ثقل الحكم من "أور" ومن القسم الجنوبي من العراق إلى وسطه تأثرا كبيرا في ثراء "اور" واقتصادها، فقد كان في هذه المدينة تجار كونوا لهم شركات بحربة لنقل التجارة بين هذه المدينة ومدن الخليج، وربما إلى %570 مدن الهند أيضا. وقد أثر ذلك فيهم بصوره خاصة حين وضع "حمورابي" أنظمة تحدد الاتجار البحري في ذلك العهد. وقد افتخر ملك "آشور"، الملك "تكولتي - ننورتا" "Tukulti-Ninurta" "1244- 1208ق. م."، بأنه وسع حدود مملكته في الجنوب، بأن استولى على "سومر" و "أكد"، وثبت حدودها الجنوبية عند "البحر الأسفل حيث مشرق الشمس". ويعني بذلك الخليج، غير إنه لم يشر إلى الأرضين التي استولى عليها في هذا الخليج.
هذا كل ما نعرفه اليوم عن تأريخ العرب في العهود القديمة. و هو كما رأينا نزر يسير،أخذ من بحوث أفراد ومن بحوث عرضية حصل عليها عند البحث عن البترول، وأملنا في زيادة علمنا بتلك العهود هو في قيام بعثات علمية بالبحث عن الآثار والعاديات لاستنطاقها عن أحوال تلك العهود. وليس أمامنا بعد هذه المقدمة إلا الدخول في العصور المعروفة التي وصل إلينا بعض أخبارها في الكتابات وفي الموارد الأخرى.
وقد كان لأعمال الحفر التي قامت بها شركة "دانماركية" أرسلها متحف ما قبل التأريخ في "Aarhus" بالدانمارك فضل كبير في الكشف عن صفحات مطوية من تأريخ سواحل الخليج. فقد تمكنت هذه البعثة من العثور على آثار من عهود ما قبل العصور التأريخية في البحرين وقطر و "أبي ظي"، كما تعقبت آثار السكنى القديمة في البحرين وعمان وبقية الساحل، وعثرت على معابد قديمة مثل معبد "بربر" "باربار" في البحرين و "تل قلعة البحرين" في البحرين، وتوصك بذلك إلى نتائج قديمة جدا رجعت بتأريخ هذه البلاد إلى عصور بعيدة جدا عن الميلاد، وكان من أعمالها الكشف عن آثار "فيلكا" في الكويت.

(1/588)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد تبين من دراسة البعثة الدانماركية لآثار معبد "بربر" "باربار" في البحرين، إنه معبد عتيق: يرجع عهده إلى حوالي السنة "3000 ق. م." أو اقدم من ذلك. وأنه كان معبدا كبيرا به "بئر" مقدسة يستقي منها المؤمنون للتبرك بمائها ولتطهير أجسامهم و لإجراء الشعائر الدينية، ويلاحظ أن الباحثين تمكنوا من العثور على آبار مقدسة في بيوت العبادة الكبرى عند الجاهليين، وهذا يدل على أن معابدهم الكبيرة كانت ذات آبار مقدسة يشربون منها للتبرك والشفاء ولتطهير أجسامهم، شأنهم في ذلك شأن أهل مكة و "زمزم".
لقد وجدت هذه البعثة تحت أنقاض "تل القلعة" في البحرين بقايا مدينة قديمة يمكن أن تعد من مدن الجزيرة الكبيرة أو عاصمتها، يرجع تأريخها إلى حوالي السنة "2500 ق. م.". وكانت مسورة بسور ارتفاعه "16" قدما عن سطح الأرض، بني باحجارة، وقد بنيت به قلعة لحمايته من هجوم الأعداء، وعثر على باب المدينة، وقد زينت ببناء مربع الشكل. ويقال إن الملك "سرجون" الأكادي كان قد أمر بإحراقها سنة "2300 ق. م."، حتى صارت ركاما، وبقيت على ذلك طوال أيام "الكاسيين" "الألف الثانية قبل الميلاد"، حتى أعيد بناؤها في القرن السابع قبل الميلاد، فازدهرت وتوافد عليها السكان، وأخذت تتاجر مع العراق. وكانت مزدهرة في أيام "الأخمينيين" و"السلجوقيين"، إلا أن النحس حل بها بعد سقوط الحكومة السلجوقية، ولازمها ولم يتركها حتى هجرها الناس.
وفي جملة ما عثرت عليه تلك البعثة آثار مدينة يرجع عهدها إلى منتصف الألف الأولى قبل الميلاد، في مكان يعرف بي "مرب" في القسم الغربي من "قطر".
الفصل الرابع عشر
العرب في الهلال الخصيب

(1/589)


--------------------------------------------------------------------------------

ليس من السهل علينا التعرض في الوقت الحاضر للصلات التي كانت بين العرب الشماليين وبين حكومات الهلال الخصيب في أقدم العهود التأريخية المعروفة التي وقفنا على بعض ملامحها ومعالمها من الآثار، فبينها وليننا حجب كثيفة ثخينة لم تتمكن الأبصار من النفاذ منها لاستخراج ما وراءها من أخبار عن صلات العرب في تلك العهود بالهلال الخصيب.
ولعل خبر "نرام - سن" "نرام - سين" "Naram-sin" الأكادي "2270-2223 ق.م."، عن استيلائه على الأرضين المتصلة بأرض بابل والتي كان سكانها من العرب "Aribu" "Arabu"، هو أقدم خبر يصل إلينا في موضوع صلات العرب بالعراق. وهو خبر ينبئك بان عرب أيام "نرام -سن"، كانوا في تلك المنازل قبل أيامه بالطبع؛ وهي منازل كونوا فيها "مشيخات" و "امارات" مثل امارة "الحيرة" الشهيرة التي ظهرت بعد الميلاد.
ويحدثنا سفر " القضاة" بأن "المدينيين" والعمالقة وبنو المشرق، كانوا ينتزعون ما بأبدي الإسرائيليين من غلة زراعة، وما عندهم من ماشية، ويغيرون عليهم. كانوا يأتون إليهم بخيامهم "كالجراد في الكرة، وليس لهم ولجمالهم عدد" حتى ذل الإسرائيليون. وأصل المدينيين من جزيرة العرب، استقروا بأرض "مدين" جاءوا إليها من الحجاز، وأخذوا يغزون العبرانيين، ومنها هذه الغزوات التي يرجع بعض الباحثين تاريخها إلى النصف الأول من القرن الحادي عشر قبل الميلاد. أما العمالقة وبنو المشرق، فانهم مثل المدينيين من قبائل العرب.
العرب والآشوريون

(1/590)


--------------------------------------------------------------------------------

إن أول إشارة إلى العرب في الكتابات الآشورية، هي الإشارة التي وردت في كتابات الملك "شلمنصر الثالث" "شلمناسر" ملك آشور. فقد كان هذا الملك أول من أشار إلى العرب في نص من النصوص التأريخية التي وصلت إلينا، إذ سجل نصرا حربيا تم له في السنة السادسة من حكمه على حلف تألف ضده، عقده ملك "دمشق" وعدد من الملوك الإرميين الذين كانوا يحكمون المدن السورية وملك إسرائيل ورئيس قبيلة عربي، اسمه "جندب". وقد كان هذا النصر في سنة "853" أو "854 ق. م". وقد قصد "شلمنصر" بلفظه "عرب" الأعراب، أي البدو، كما شرحت ذلك في الفصل الأول. أما العرب الحضر، أهل المدر، أي المستقرون، فقد كانوا يدعون كما ذكرت ذلك أيضا بأسماء الأماكن التي يقيمون فيها أو التسميات التي اشتهروا بها. ذلك لأن لفظة "العرب"، لم تكن قد صارت علما على جنس، من بدو ومن حضر، بالمعنى المفهوم من اللفظة عندنا. ولم يكن هذا الاستعمال مقتصرا على الآشوريين بل كان ذلك عاما حتى بين العرب أنفسهم وقد أدى ذلك إلى جهلنا بهويات شعوب ذكرت في النصوص الآشورية وفي النصوص الأخرى وفي التوراة، دون أن يشار إلى جنسيتها، فلم نستطع أن نضيفها إلى العرب للسبب المذكور.

(1/591)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان ملك "دمشق" "بيرادري" "Bir-Idr"" "Birdri"، المعروف باسم "بنهدد" "Benhaddad" في التوراة، قد هاله توسع الآشوريين وتدخلهم في شؤون الممالك الصغيرة والإمارات، ولم سيما بعد تدخلهم في شؤون مملكة "حلب"، وخضوع هذه المملكة لهم بدفعها الجزية واعترافهم بسيادة آشور عليها. فعزم على الوقوف أمام الآشوريين، و ذلك بتأليق حلف من الملوك السوريين وسادات القبائل العربية، لدرء هذا الخطر الداهم. وقد انضم إليه "آخاب" ملك إسرائيل، وأمراء الفينيقيين، فكان مجموع من استجاب لدعوته اثنا عشر ملكا من ملوك سوريا، "وجنديبو" ملك العرب"، وقد أمد الحلف بألف جمل وبمحاربين، وكل هؤلاء كانوا قد أصيبوا بضربات عنيفة من الآشوريين وتعلموا بتجاربهم معهم مبلغ قوتهم و غلظتهم على الشعوب التي غلبوها على أمرها، فأرادوا بهذا الحلف التخلص من شرهم و الانتقام منهم والقضاء عليهم.
وعند مدينة "قرقر"، الواقعة شمال "حماة" وعلى مقربة منها، وقعت الواقعة، وتلاقى الجيشان: جيش "آشور" تسيره نشوة النصر، وجيوش الإرميين والعرب و الفينيقيين ومن انضم إليهم، تجمع بينهم رابطة الدفاع عن أنفسهم، وبغضهم الشديد للآشوريين. لقد تجمع ألوف من جنود الحلفاء في "قرقر" على رواية ملك آشور، لمقاومة الآشوريين و صدهم مم التوسع نحو الجنوب، واشتركت في المعركة مئات من المركبات. أما النصر فكان حليف "شلمنصر"، انتصر عليهم بيسر و سهولة، وأوقع بهم خسائر كبيرة، وغنم منهم غنائم كثيرة، و تفرق الشمل، وهرب الجميع، وانحل العقد، ورجع ملك آشور إلى بلده منتصرا، مخلدا انتصاره هذا في كتابة ليقف عليها الناس.

(1/592)


--------------------------------------------------------------------------------

وإليك بعض ما جاء في نص "شلمنصر" عن معركة "قرقر"، لتقف على ما قاله عنها: "قرقر: عاصمته الملكية، أنا أتلفتها، أنا دمرتها، أنا أحرقتها بالنار، 1200 عجلة، 1200 فارس، 20000 جندي لهدد عازر صاحب إرم... ألف جمل لجندب العربي... هؤلاء الملوك الاثنا عشر الذين استقدمهم لمساعدته، برزوا إلى المعركة والقتال، تألبوا علي 000".
ويلاحظ كثرة عدد العجلات المستخدمة في المعركة بالنسبة إلى تلك الأيام. وهذه الأرقام ليست بالطبع أرقاما مضبوطة، فقد عودنا الملوك الأقدمون المبالغة في ذكر العدد، والتهويل في تدوين أخبار المعارك والحوادث، للتضخيم من شأنهم وللتعظيم، وتلك عادة قديمة، نجدها عند غير الآشوريين أيضا.
و "جنديبو" اسم من الأسماء العربية المعروفة، هو "جندب". ويكون هنا الاسم أول اسم عربي يسجل في الكتابات الآشورية. ولم يشر "شلمنصر" إلى أرضه والمكان الذي كان يحكم فيه. غير إن القرائن تدل على انها كانت في أطراف البادية، ويرى "موسل" إنها كانت تقع في مكان ما جنوب مملكة "دمشق". وأرى إنه كان ملكا على غرار الملوك سادات القبائل مثل ملوك الحيرة والغساسنة، حكم على قبائل خضعت لحكمه وسلطانه، وكان يتناول الإتاوات من الحكومات الكبيرة مقابل حماية حدودها من الغارات والاشتراك معها في الحروب.
وقد أبلغنا "شلمنصر" الثالث "858 - 824 ق. م." أيضا، إنه زحف في الجنوب، نحو أرض "كلدو"، أي أرض الكلدانيين، فاستولى عليها وتوغل بعد ذلك نحو الجنوب حتى بلغ "البحر المر" "البحر المالح" "Nar Marratu" أي الخليج العربي، فقهر كل السكان الذين وصلت جيوشه إليهم. ويظهر إنه بلغ حدود الكويت فاتصل بذلك جزيرة العرب وبقبائل عربية ساكنة في هذه الأرضين.

(1/593)


--------------------------------------------------------------------------------

و في السنة الثالثة من حكم "تغلث فلاسر" "تغلاتبلاسر الثالث" "Tiglath Pileser" "745- 727 ق.م." تقريبا، دفعت ملكة عربية اسمها "زيبي" الجزية إلى هذا الملك. و كانت تحكم "أريبي"، أي العرب. و لم يتحدث النص الذي سجل هذا الخبر عن مكان الاعراب أباع "زبيبي".
%577 و قد ذهب "موسل" إلى انه "أدومو" "Adumu"، أي "دومة" "دومة الجندل"، و ذهب أيضا إلى إن الملكة كانت كاهنة على قبيلة "قيدار" "Kedar". و "زبيبي"، هو تحريف لأسم "زبيبة"، و هو من الاسماء العربية المعروفة.
و يحدثنا هذا الملك أيضا أنه في السنة التاسعة من ملكه، قهر ملكة عربية أخرى اسمها "سمسي" "شمسي" "Shamsi"، و اضطرها إلى دفع الجزية له بعد أن تغلبت عليها جيوش آشور. و يدعي أنها حنثت بيمينها وكفرت بالعهد الشي قطعته للإله العظيم "شماش" "Schamash" بألا تتعرض للآشوريين بسوء، وبأن تخلص لهم، فانتصر عليها، واستولى على مدينتين من مدنها، وتغلب على معسكرها، فلم يبق أمامها غير الخضوع والاستسلام وتأدية الجزية إبلا: جمالا ونوقا.
والظاهر إنها انضمت إلى ملك دمشق في معارضته للآشوريين، وتعرضت لقوافل آشور، فجهز الملك عليها حملة عسكرية تغلبت عليها. ولضمان تنفيذ مصالح الآشوريين، قرر الملك تعيين "قيبو" أي مقيم أو مندوب سام آشوري لدى بلاطها، لإرسال تقاريره إلى الحاكم الآشوري العام في سورية عن نيات الملكة واتجاهات الأعراب، وميول قبيلتها، ولتوجيه سياسة الملكة على النحو التي تريده "آشور".
وقد ذكر النص الآشوري أن الملكة أصيبت بخسائر فادحة جدا، وهي ألف و مئة رجل، وثلاثون ألف جمل، وعشرون ألف من الماشية، وهي أرقام بولغ فيها جدا، ولا شلك.

(1/594)


--------------------------------------------------------------------------------

ويذكرنا اسم الملكة "شمسي" "سمسي" باسم عربي هو "شمس" أو "شمسة". و "شمسة" من الأسماء العربية القديمة التي ما تزال حية. وقد كان في المدينة امرأة نصرانية اسمها "شمسة"، أسلمت على يدي الحسن بن علي بن أبي طالب فحرف الآشوريون الاسم وفق لطقهم وكتبوه على هذا الشكل. وقد صور على اللوح الذي ورد فيه خبر الانتصار المذكور، منظر فارسين آشوريين يحملان رمحين، يتعقبان أعرابيا راكبا جملا، وتحت أعقاب الفرسين وأمامهما جثث الأعراب الذين خروا صرعى على الأرض. وصور شعرهم طويلا وقد عقد إلى الوراء، وأما اللحى فكثة، وأما أجسامهم فعارية إلا من مئزر شد بحزام. وقد حرص الفنان على تصويره الأعرابي الراكب قريبا جدا من الفارسين" مادا يده اليمنى اليهما متوسلا ومسترحما ومستسلما، وصورت الملكة "سمس" "شمسي" "سمسي" حافية، ناشرة شعرها، تحمل جرة من الجرار الاحدى عشرة المقدسة، بعد أن أضناها الجوع والتعب في فرارها إلى "بازو"، وقد خارت قواها المعنوية.
وورد في الكتابة الآشورية أن الملكة أرسلت وفدا إلى ملك آشور لمصالحته واسترضائه، ضم عددا من سادات قبيلتها وأتباعها، منهم "يربع" "يربأ" "Jarapa"، وكان رئيس الوفد، و "تمرنو" "حترنو" "Hataranu" و "جنبو" "Ganabu"، و "تمرنو" "Tamranu".وهي أسماء عربية لا غبار عليها، كتبت بحسب النطق الآشوري. ف "Jarapa" مثلا، يمكن أن يكون أصله "يرفع" أو "يربع" أو يربوع، و "Hataranu" جائز إنه "خاطر" أو "خطر"، و "Ganabu" جائز إنه جناب أو "جنب"، و "Tamranu" جائز إنه "يمر" أو "تمار" أو ما شابه ذلك. ولا أرى بنا حاجة إلى ذكر أمثلة عديدة وردت فيها أسماء من مثل "يربوع" "جناب" و "جنب" وأمثال ذلك لدى الإسلاميين.

(1/595)


--------------------------------------------------------------------------------

وبعد أداء "شمس" الجزية إلى ملك آشور، دفعت عدة قبائل وشعوب عربية الجزية إليه. وقد جعل بعض الباحثين ذلك في حوالي سنة "738 ق م" وجاء في الترجمة العربية لكتاب "حتي" إن ذلك كان في عام "728 ق م" و إذا كان أداء العرب المذكورين الجزية في السنة التاسعة من حكمه، فيجب أن تكون السنة سنة "736 ق.م." تقريبا، لأن حكم الملك كان في "745 ق.م.". وقد ذكر الملك إنه تسلم الجزية ذهبا وفضة وإبلا وطيوبا من "مساى" "مسأى" "Mas'a" و "تيما" و "سبأ" "سبا" و "خيابة" "خيابه" "Hajappa" "Hayapa" "Hajappa" و "بطنه" "Batana" "Badana" و "خطي" "Hatta" "Hatti" و "أدبئيل" "Ibida'il". و قد ورد إنها كانت تقطن في أرضين تقع في الغرب في أماكن بعيدة. ويقصد إنها كانت غرب آشور، والغالب إنه كان يريد من قوله: في مواضع بعيدة، البادية حيث يصعب الوصول إليها.

(1/596)

admin
12-26-2010, 01:00 PM
ويرى بعض الباحثين إن "مسأى" "مسا" "Mas'a" هي قبيلة "مسا" "Massa" المذكورة في التوراة. وهي قبيلة إسماعيلية كانت منازلها في شرق "مرآب"، أو في جنوب شرقيها. ويظهر إنها لم تكن بعيدة جدا عن فلسطين. ورأى "ذورمه" "Dhorme" إنها قبيلة من قبائل العربية الجنوبية، وهو رأي بعيد الاحتمال، فلا يعقل وصول نفوذ الآشوريين في ذلك الزمن إلى تلك المواضع. ثم إن "مسا" وهو أحد أبناء "إسماعيل" كما ورد في التوراة. والقبائل الإسماعيلية لم تكن تسكن العربية الجنوبية، بل المواضع التي ذكرتها في أثناء حديثي عنهم. ثم إن أحد المقيمين الآشوريين كان قد كتب تقريرا إلى ملكه، يذكر فيه إن "ملك قهرور" "مالك قهرو"، وهو ابن "عم يثع" "عم يطع" "عمى يطع" "Amme'" من قبيلة "مسا"، غزا، بعد خروج الملك وارتحاله عن قبيلة "نبأ أتى" "نبي أتي" "Nabi'ati"، هذه القبيلة وذبح أفرادها، وسرقها وقد تمكن أحدهم من النجاة بنفسه، فبلغ الملك وأخبره بالحادث. ويشير المقيم السياسي الآشوري في تقريره هذا إلى الحادث، ليكون ملكه على علم به. وقبيلة "نبي أتي" "نبأ أتى" "Nabi'ati" هي قبيلة "نبايوت" "Nabajot" "Nebaioth" المذكورة في التوراة. وهي مثل "مسا" إحدى القبائل الإسماعيلية. ولهذا تكون منازل قبيلة "مسا" في الشمال أو في الشمال الغربي من منازل "نبايوت".
وأما "تيما" "Tema"، فإنها "تيماء" المذكورة في التوراة، والمعروفة حتى في الإسلام. وتقع على الطريق التجاري الخطير الذي يربط العربية الجنوبية والحجاز وللشام والعراق و مصر، ثم بموانئ البحر المتوسط، كما عرف التيمائيون باشتغالهم بالنجارة، فلعلهم دفعوا الجزية إلى آشور حفظا، لمصالحهم التجارية ولكي يسمح لهم الآشوريون بمرور تجارتهم في الطرق التي تخترق العراق وبلاد الشام وموانئ البحر المتوسط بعد أن أصبحت تحت سيطرتهم.

(1/597)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذكرت "تيماء" مع "ددان" في مواضع من التوراة. وذكرت مع "ددان" و "بوز" كذلك. ومعنى هذا أن هذه المواضع كانت متقاربة لا يبعد بعضها عن بعض كثيرا، وأشير إلى "قوافل تيماء" و "سيارة سبأ"، ويدل ذلك على اتصال تجاري كان بين الشماليين والسبئيين في ذلك العهد.
ويدل ورود اسم "سبأ"، بعد "تيما" في نص "تغلث فلاسر"، على أن السبئيين المقصوديين كانوا يعيشون على مقربة من التيمائيين ومن بقية من دفع الجزية للآشوريين. ويرى "موسل" أنهم كانوا يقيمون إذ ذاك في "ددان" "ديدان"، وأنهم من السبئيين الذين أخذوا مكان المعينيين، وكانت لهم قوافل تنقل التجارة على الطرق البرية كما كانوا يقومون بتربية الإبل والماشية لمه.
وأما "خيابه" "Hajapa"، فإننا لا نعرف عنهم اليوم شيئا غير الاسم. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أنهم "عيفة"، المذكورون في التوراة. ومن هؤلاء "فرديش دلمج" و "شرادر" و "موسل" وآخرون. وهو على رواية نسابي العهد العتيق من نسل "مديان" "مدين"، ومن حفدة "إبراهيم" من زوجه "قطورة". ويفهم من "أشعياء"، أنهم كانوا يتاجرون مع "شبا" مثل "مديان" يحملون الذهب واللبان، ويظهر أنهم كانوا يقطنون منطقة "حسمي".
ومن الصعب تشخيص قبيلة "بطنه" "بطنا" "بدنه" "Batana" "Badana". ولم يرد في التوراة ما يقابل الاسم أو ما يقاربه. وقد قرأ "موسل" الاسم "بدنه" "Badana"، وذهب إلى إنه اسم قبيلة "بدون" أو "مدون"، بإبدال "الياء" ميما"، وهذا أمر مألوف. وتقع منازلها في "العلا"، أي في "ددان" "ديدان" القديمة. ويعتقد أفرادها أنهم من سلالة قديمة جدا، و ليست لهم صلات قربى بالقبائل الأخرى. وتسكن بطون منهم عند "البتراء" "Petra" أي الرقيم.

(1/598)


--------------------------------------------------------------------------------

وأشار "موسل" أيضا إلى اسم موضع ذكر إنه ورد في كتاب "بلينيوس"، وهو "Badanatha". غير إنه لاحظ أن هذا الاسم مشكوك في صحة ضبطه،فإن بعضهم قد قرأه "Baclanaza".فإذا كانت القراءة "Badanatha" صحيحة، فمن الممكن إذن أن يكون هذا الاسم علاقة ب "بدون"، أو "مدون" وبي "بطنه" "Batana"، الوارد في نص. ملك آشور. والموضع الذي ذكره "بلينيوس"، قريب من "Domata"، أي "دومة الجندل"، ومن "ثمود"، فهو في هذه المنطقة التي دفع أصحابها الجزية إلى الآشوريين.
وتقع ديار "خطي" "Hatti" على مقربة من "أدوم"، على رأي "موسل". وأما "كلاسر"، فيذهب إلى إنها كانت تسكن "الخط"، سيف البحرين، أي على ساحل الخليج. وهي منطقة قريبة من العراق، يرى أن من السهل الاستيلاء عليها. وقد ذكر "بلينيوس" موضعا دعاه "خطيني" "Chateni" يقع على ساحل الخليج، ولهذا رجح "كلاسر" أن "Hatti" هم "خطيني" هؤلاء. و قد ذكر "ياقوت الحموي" جبلا بمكة دعاه الخط".
%583 وقد يكون سكان المنطقة المجاورة له عرفوا ياسم "الخطيون"، وقد مارسوا التجارة، وبعثوا كالقبائل الأخرى بتجاراتهم إلى اليمن وبلاد الشام والعراق، ولذا دفعوا الجزية إلى الآشوريين ليسمحوا لقوافلهم باجتياز الطرق البرية التي خضعت لسلطانهم وللاتجار في أسواق مملكة آشور.

(1/599)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر إن "ادبئيل" "ادبعيل" "Idiba'il"، القبيلة المذكورة في نص "تغلث فلاسر"، هي قبيلة "ادبئيل" "Adabeel" في التوراة. وهي إحدى القبائل الإسماعيلية على حسب رواية نسابي العبرانيين. وكانت منازلها في جنوب غربي البحر الميت على مقربة من غزة وإلى جنوب غربها عند حدود مصر، وفي طور سيناء. وكان يسكن إلى الشرق منهم ومن قبيلة "خطي" وكذلك إلى الجنوب الشرقي وشرقي "بئر السبع" "Beersheba"" "مبسام" "Mibsam" و "مشماع"، وهما ولدان من ولد "إسماعيل"، ويمثلان قبيلتين من القبائل الإسماعيلية. ويظهر من "أخبار الأيام الأول" أن بني "مبسام" و "مشماع" كانوا من بني "شمعون"، وكانوا من بطون "الشمعونيين" القوية ولهم أرضون واسعة. ويشير هذا إلى أن "المبساميين" و "المشماعيين" كانوا قد توسعوا وتصاهروا مع "الشمعونيين" واختلطوا بهم، فاختلط الأمر، وعد الذين تصاهروا مع الشمعونيين واختلطوا بهم منهم، مع إن أصلهم من الإسماعيليين، أي من العرب الشماليين.

(1/600)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عين "تغلث فلاسر" في سنة "734 ق. م." عربيا "Arubu" اسمه "ادبئيل" "Idiba'il" في وظيفة "قيبو" "Kepu"، أي واليا على "مصري"، ليدير شؤونها. بالنيابة عنه، وجعل تحت تصرفه خمسة وعشرين موضعا من "عسقلان". ويحتمل أن يكون هذا الرجل - على رأي "موسل" - شيخا من قبيلة "ادبئيل"، كان مقيما مع قبيلته "في "طور سيناء"، وكان له سلطان. واسع بلغ حدود مدينة "غزة". ولم يكن هذا الشيخ الذي اعتمد طليه ملك آشور فعينه واليا عنه، إلا سيد قبيلة كلف حماية الحدود وحفظ مصالح الآشوريين بحفظ الأمن والسلامة ومنع الغزو والتحرش بالحدود. ولما كان من الصعب على الجيوش النظامية ولوج البوادي وتعقب أثر الأعراب، فكرت الحكومات القديمة والحكومات الحديثة في القرن العشرين في حماية مصالحها بدفع، جعالات شهرية وسنوية وهدايا إلى سادات المشايخ، وتعيين بعضهم في مناصب كبيرة، ليولوا حماية الحدود، وكبح جماح البدو ومنعهم من الغزو، والاستفادة منهم في إزعاج خصومهم بغزوهم ومحاربتهم أو محاربة القبائل المتحالفة معهم، كالذي فعله الفرس واليونان والرومان والدول المستعمرة في القرن التاسع عشر والقرن العشرين.
ويظهر إن بلوغ جيوش "تغلا تبلاسر الثالث" غزة كان في حوالي السنة "738 ق. م.". فسيطر الآشوريون بذلك على هذا الميناء المهم، الذي كان نهاية طرق القوافل التجارية الآتية بصورة خاصة من الحجاز، وهو ميناء كان مقصد تجار يثرب ومكة حتى عند ظهور الإسلام.

(1/601)


--------------------------------------------------------------------------------

ويحدثنا "سرجون الثاني" "724 -705 ق.م" إنه في السنة السابعة من حكمه، سنة "715 ق م" أدب "تمودي" "Tamudi" و "اباديدي" "عباديدي" و "مرسماني" "Marsimani" و "خيابه" "Hajapa"، وهزمهم، ونقل من وقع في يديه منهم إلى ""السامرة" "Samaria". ثم يذكر يعد هذا الخبر إنه تلقى الجزية من "سمسي" "Samsi" ملكة "اريبي" و من "برعو" "Pir'u" ملك "مصر ي" "Musuri" و من "يتع أمر" "It'amra" السبئي. وذكر أن الجزية كانت من الذهب وحاصلات الجبل والحجارة الكريمة والعاج وأنواع البذور والنبات والخيل والإبل.
ويتبين من أسماء المواضع والقبائل التي ذكرها "سرجون"، أن تلك المعارك كانت قد وقعت في أرضين تقع في الشمال الغربي من جزيرة العرب، وفي المنطقة الواقعة فيما بين خليج العقبة و "تيماء" والبادية. ولا بد وأن تكون الجيوش الآشورية قد هاجمتها من الشمال أي من فلسطين.
وقد ورد في بعض ترجمات نص "سرجون" إنه نقل الأعراب الذين ينزلون في مواضع نائية من البادية، ولم يعرفوا حاكما رسميا ولا موظفا ولم يدفعوا جزية إلى أي ملك سابق، نقلهم إلى "السامرة" وأسكنهم فيها. ويظهر أن هذه الجملة لا تخص الجملة السابقة التي ذكر فيها "ثمود" وبقية الأسماء، وليست معطوفة عليها، لأنه وصف هؤلاء الأعراب بأنهم سكان بواد نائية، ولم يدفعوا الجزية لأحد من قبل، على حين يقيم المذكورون في أرض معروفة ولمنازلهم أسماء، وهي ليست من البوادي.
وورد في هذه الترجمات بعد جملة "ويثع أمر السبئي" "ومن هؤلاء الملوك ملوك على الساحل، ومنهم ملوك في البادية. تسلمت منهم جزية: تبرا، وأحجارا كريمة... الخ"، م! ا يدل على أن أولئك الملوك كانوا يحكمون أرضين واسعة تمتد من البادية إلى البحر الأحمر.

(1/602)


--------------------------------------------------------------------------------

ووردت في نص "سرجون" المشار إليه أسماء مواضع هي "Uaidaue" و "Bustis" و "Agazi" و "Ambanda" و "Dananu"، ووردت معها جملة: "اريبي الساكنيين في مشرق الشمس" "اريبي مطلع الشمس". ولهذا ذهب بعض الباحثين إلى آن الأسماء المذكورة هي أسماء مواضع في أرض "اريبي"، أي البادية. وهو رأي يعارضه باحثون آخرون، لغموض العبارة، ولتعذر القول إن أسماء هذه المواضع تعود إلى "أريبي الساكنين في مشرق الشمس".
أما "تمودي" "Tamudi"، فإنهم "ثمود"، الذين سبق أن تحدثت عنهم. وأما "أباديدي" "Ibadidi"، فشعب لا نعرف من آمره شيئا. وقد ذهب "موسل" إلى احتمال كونهم "أبيداع" "Abida" المذكورين في التوراة. وهو فيها ابن "مديان"، أي "مدين". ويرى أن مساكنهم كانت في جنوبي شرقي "أيلة" "Elath" أي العقبة، على الطريق التجارية المهمة التي تربط ديار الشام بالحجاز.
ورأى "كلاسر" أن "الاباديدي" هم "Apataei" المذكورون في جغرافيا "بطلميوس"، وكانوا يقيمون في مكان يقال له "وادي العبابيد" أو "العباديد" على مقربة من العقيق، أو أن فرعا منهم كان يقيم في هذا المكان. وذهب "فورستر" إلى أن شعب "Apataei"، هم شعب آخر، وأن الكلمة هي في الأصل "Nabataei"، وهو شعب كانوا يقيمون في موضع "نبت" على ساحل الحجاز.
ولا نعرف من أمر "مرسماني" "Marsimani" شيئا يذكر، ولم يرد لهذه القبيلة اسم في التوراة. غير أن بعض الكتبة "الكلاسيكيين" ذكروا قبيلة عربية يظهر إنها كانت تقيم في جنوب شرقي "العقبة" سموها "Batmizomaneis" "Banizomaneis"، وقد كانت في جوار قبيلة "Thamudenoi" أي ثمود. ويرى "موسل" احتمال كون هذه القبيلة هي "مرسماني"، تحرف اسمها في النص الآشوري أو حرفه الكتبة "الكلاسيكيون" حتى صار على نحو ما نرى. وعلى كل حال فإن على لفظة "Marsimani" طابع العروبة، فلا يستبعد أن تكون من "مرسم"، أو أسماء أخرى عربي قريبة منها.

(1/603)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر أن كراهية الأعراب للآشوريين كانت شديدة جدا، لم تخفف من حدتها لا سياسة القوة والعنف ولا سياسة التودد واللبن. لقد حملت هذه الكراهية القبائل على مد بد المساعدة إلى كل مبغض للآشوريين، أو متمرد عليهم، فقسمت المعونة إلى "مردخلبلدان" "مردخ بلذان" "مردخ بلادان" "Merodachbaladan" ملك بابل خصم وعدو "سنحاريب" "سنحريب" وأرسلت "ياتيعة" "يثعة" "يطيعة" "Ja'it'e"، ملكة "اريبي" جيشا لمساعدته ومناصرته في كفاحه هذا مع الآشوريين وضعته تحت قيادة أخيها "بسقانو" "يصقانو" "Basqanu"، إلا إنه لم يتمكن من الوقوف أمام الآشوريين، فنزلت به خسارة فادحة، وأسر "بسقانو" وأسر معه معظم جيشه، وكانت هذه الهزيمة في موضع "كيش" "Kish". وقد كانت في حوالي سنة "703" أو "752" قبل الميلاد على رأي بعض الباحثين.
ويظهر أن لفظة "Iati'e" هي تحريف لاسم عربي من أسماء النساء لعله "بطبعة" أو ما يشابه ذلك. وقد كانت ملكة إذ ذاك، أي إنها كانت مثل "زبيبة" و "شمس" المذكورتين. وأما اسم "بسقانو" "Basqanu"، فالظاهر إنه "الباسق" فإنه قريب منه.

(1/604)


--------------------------------------------------------------------------------

ويحدثنا "مرجون" في كتاباته عن أيامه وعن أعماله المجيدة أن الملك "أبيري" "Uperi" ملك "دلمون" سمع بقدرة آشور وبعظمتها فأرسل هداياه إليه. ومعنى هذا أن البحرين كانت إذ ذاك تحت حكم ملك اسمه "أبيري"، لعله "أبير"، وان الصلات السياسية كانت وثيقة بين آشور والبحرين في ذلك العهد. وقد ذكر "سرجون" إن "أبيري"، "ملك دلمون"، "كان يعيش كالسمكة في وسط بحر الشروق، البحر الذي تشرق عليه الشمس، وعلى مسافة ثلاثين ساعة مضاعفة، وكان قد سمع بجلال عظمتي فأرسل بالهدايا إلي". وفي هذا الخبر اشارة واضحة إلى استقلال البحرين، أي جزيرة "دلمون" وخضوعها لحكم ملك لعله كان من أهلها. ولما كان القسم الجنوبي من العراق تحت حكم الآشوريين في هذا العهد. وللبحرين علاقات تجارية متينة مع هذا القسم، لذلك أرسل هدايا ثمينة إلى ملك آشور.
ويظهر من خبر آشوري يعود عهده إلى أيام الملك " سنحاريب" "سنحربب"، وهو ابن "سرجون"، أن ملك البحرين لما سمع خبر اجتياز هذا الملك نهر الفرات ودخوله الخليج ووصوله أرض جزيرة "دلمون"، أسرع فاعترف بسيادة ملك آشور عليه. وكان هذا الملك قد دك أرض بابل في حوالي السنة "689 ق.م."، وسار منها متوجها نحو ارض الخليج. وفي هذا الخبر إشارة إلى أن علاقة الآشوريين بالبحرين كانت وثيقة في هذا العهد أيضا، وان ملك البحرين كان يخشى ملك آشور، لذلك اعترف بسيادته الاسمية عليه.

(1/605)


--------------------------------------------------------------------------------

وأخبرنا "سنحاريب" "سنحريب" "705 - 681 ق. م." إنه تسلم هدايا من "كرب ايل" "كريبي - ايلو" "Karibi-ilu" ملك سبأ "Saba'i"، إذ بنى بيتا أو معبدا "بيت اكيتو" "Bit-Akitu"، للاحتفال فيه بعيد رأس السنة والأعياد الأخرى. وكان من جهلة هذه الهدايا أحجار كريمة وأنواع من افخر الطيب ذي الرائحة الزكيه الطيبة "Rikke Tabutu"، وفضة وذهب وأحجار ثمينة أخرى، وهي أمور اشتهرت بها العربية الجنوبية، كما عرفت بتصديرها هذه المواد إلى الخارج، وقد تحدثت عنها التوراة في مواضع من الأسفاره.
وقد ذهب "هومل" إلى أن "كريبي - ايلو"، هذا هو "كرب ال" "كرب ايل" أحد "مكربي" "مقربي" سبأ، أي الكهان الحكام، ولم يكن ملكا على عرش سبأ وان دعاه "سنحاريب" ملكا، ذلك لأن الآشوريين لم يعرفوا لقبه الرسمي، أو لأنهم لم يهتموا بذلك فجعلوه ملكا. وهذه الهدايا لم تكن جزية فرضه عليه، بل كانت هدية من حاكم إلى حاكم، وقد بعث بها إليه مع القوافل الذاهبة إلى الشام بطريق غزة، أو طريق مكة، فالبادية إلى العراق. وعندي إن من الجائز أن يكون "كريبي - ايلو" هذا سيد قبيلة أو أميرا من الأمراء الذين كانوا في العربية الشمالية، من المجاورين لتلك القبائل التي تحدثت عنها وسبق لها أن قدمت هدايا لآشور، وكان من السبئيين النازحين إلى الشمال الذين حلوا محل المعينيين.

(1/606)


--------------------------------------------------------------------------------

ولما قضى "سنحاريب" على مقاومة البابليين وعين عليهم ملكا منهم، كان قد تربى في قصور الآشوريين فأخلص لهم، سار إلى بلاد الشام لإخضاع العمونيين والمؤابيين والأدوميين والعرب والعبرانيين، فقد كان هؤلاء قد انتهزوا فرصة قيام البابليين وقبائل إرم والعرب والعيلاميين على الآشوريين للتخلص منهم، فألفوا حلفا بين هم في جنوب بلاد الشمام، أي في فلسطين والأردن، وانحدرا لمحاربة "سنحاريب". فلما وصل إلى ساحل البحر المتوسط، أخذ جيشه يستولي على المدن، الفينيقية والفلسطينية، ويتقدم نحو الجنوب حتى بلغ "عسقلان" "Ashkelon". ولما وصل إلى موضع "التقه" "علتقه" "Eltenkeh" "Altenkeh"، اصطدم بالعرب وبالمصريين، غير إنه تغلب عليهم واستولى على "التقه" و على "تمنة" "تمنث" "ثمنة" "Timnath" و "عقرون" "عاقر" "Ekron".
وفي أنباء الانتصارات التي سجلها "سنحاريب" لنفسه إنه قام في حوالي السنة "689 ق. م." بحملة على الأعراب التابعين للملكة "تلخونو" "Telhunu" ملكة العرب "Arabi"، أي أعراب البادية، وعلى الملك "خزا ايلي" "حزا ايلي" "Haza-ili"، ملك "قيدري" "Qidri"، أي القيداربين، فسارت جيوشه في اتجاه "أدوماتو" "دومة" "Adummatu"، فتغلبت على العرب وعلى القيداريين. ويقصد بي "أدوماتو" "دومة الجندل". وقد كانت "أدوماتو" "Adummatu" من مواضع "أريبي" "عريبي" الحصينة.
وهي في موضع بعيد عن عواصم الدول الكبرى، إلا إنها لم تنج مع ذلك من غزوات تلك الدول. وقد ذكرها "بطلميوس" باسم "Doumatha" "Adomatho".
وقد جاء في نص آشوري إن الملك "سنحريب" أرسل حملة إلى الخليج، فانتصرت وحققت رغباته، وقد فر ملك " أرض البحر" إلى أرض "عيلام". ويظهر إنه بني أسطولا قويا حمل جنوده إلى تلك الأنحاء، فلم يتمكن أهل الخليج من مقاومته و أضطر إلى الخضوع لآشور.

(1/607)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر إن "سنحريب" كان قد تمكن فعلا من إخضاع الأعراب له، ومن السيطرة عليهم، ويرى بعض الباحثين في نعت "هيرودوتس" له بأنه "ملك العرب والآشوريين" تعبيرا عن إخضاع "سنحريب" الأعراب لحكمه وان كان ذلك قد وقع لأمد محدود، وفي نص دونه "أسرحدون" "680-669 ق. م." عن أعماله وعن أعمال والده إن أباه "سنحاريب"، أخضع "أدومو" "Adumu" "معقل أريبي"، واستولى على أصنامها، وحملها معه إلى عاصمته، وأسر ملكتها "Iskallatu" التي كانت كاهنة للإله "دلبات" "Dibat"، وأسر الأميرة "تبؤة" "Tabua" كذلك. فهو يؤيد بذلك ما ذكره أبوه من انتصاراته على العرب.
ولم يتحدث النص الآشوري عن الجهة التي هاجم منها "سنحاريب" "دومة ا لجندل" أي "Adummatu" "Adumu". و ير ى "موسل" إنه هاجمها من إقليم "بابل"، وبرى أيضا أن سلطان الملكة "تلخونو" كان يشمل منطقة واسعة نمتد من "أدومو" إلى حدود بابل. وقد كان أعرابها يمتازون ويبتاعون الطحين والملابس والمواد للضرورية الأخرى من بابل، فيسلكون البادية، ومن هذه البادية وصلت إمداد الملكة وقوامها إلى بابل لمساعدتها في مقاومة آشور، فاشتركت مع البابليين في الحرب، على حين هاجم فريق آخر من اتباع الملكة المقاطعات الآشورية في بلاد الشمام. فلما تغلب "سنحاريب" على بابل وانتصر عليها في سنة 689 ق. م، تفرغ لمحاربة الملكة والانتقام منها، فأمر قواته بالضغط على أتباع الملكة، وتعقبهم في البادية لحفظ الحدود. ثم حاصر "أدومو"، حتى تغلب عليها، وانتصر على هذا المعقل الذي التجأ إليه أتباع هذه الملكة وغيرهم للخلاص من الآشوريين.

(1/608)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من النصوص الآشورية أن خلافا وقع بين الملكة "تلخونو" والملك "خزا ايلي"، قد تكون أسبابه الهزيمة التي حاقت بهما ومحاصرة "سنحاريب" لهما في "دومة الجندل". وقد كان "خزا ابلي" على ما يظهر هو الذي تولى قيادة الجيش، وتنظيم خطط الدفاع والهجوم. فسببت الهزائم التي حلت بهما غضب الملكة عليه وعلى سوء قيادته "فغضبت تلخونو على خزا ايلي ملك ارببي". ولعلهما اختلفا أيضا بسبب محاصرة "دومة الجندل" والدفاع عنها أو عدمه. ومهما يكن من شيء، فقد استسلمت الملكة "تلخونو" للآشوريين، وتغلبت جيوش "سنحاريب" على هذا المعقل، وأخذت الأصنام أسرى إلى "نينوى" كما أخذت الأميرة "تبؤة" "Tabua" أسرة إلى عاصمة آشور، لتربى هناك تربية يرضى عنها الآشوريون، ولتهذب تهذيبا سياسيا خاصا يؤهلها أن تكون ملكة على "أريبي".
أما "خزا ايلي"، فقد تكن من خرق حصار الآشوريين على "دومة الجندل" ومن الاعتصام مع أتباعه بالبادية، حيث لم يكن في قدرة "سنحاريب" مطاردتهم و إيقاع خسائر بهم، وبقي في هذه البادية طول حياة "سنحاريب". فلا توفي هذا الملك، وانتقل الملك إلى ابنه "أسرحدون"، وزالت أسباب الجفاء، قصد نينوى لمقابلة الملك الجديد، ومعه هدايا كثرة، سر" بها الملك واستقبله بلطف ورعاية، وسلمه الأصنام الأسرة السيئة الحظ التي كان عليها أن تشارك أتباعها الحياة الأرضية المزعجة، وتمكنت كل من "عتر سماين" "عثتر السماء" و "دبلات" و "دايا" "ديه" "Daja" و "نوهيا" "نهيا" "نهى" "Nuhaia" و "ابيريلو" "Ebirillu" و "عثتر قرمية" "عثر قرمي" "Atar Kurumaia"، وهي الآلهة التي كتب عليها أن تسجن، من استنشاق ربح الحرية ثانية، ومن استعادة مقامها بين عبادها، فوضعت في أماكنها، وسر أتباعها ولا شك بهذه العودة.

(1/609)

admin
12-26-2010, 01:02 PM
وفي أثناء وجود تلك الأصنام في الأسر، أصيبت ببعض التلف، فمن "أسرحدون" عليها بالأمر باصلاح ما أصابها و إعادتها إلى ما كانت عليه، ثم تلطف فأمر بإرجاعها إلى "خزا ايلي" "خزائيل"، بعد أن نقشت عليها كتابة تفيد تفوق إله آشور على تلك الأصنام، وبعد أن نقش عليها اسم الملك.
وأراد "أسرحدون" تنصيب "تبؤة" "Tabua"، التي تربت تربية آشورية، ملكة على أشورية"، ليضمن بذلك فرض سلطان آشور على الأعراب.
وهو حلم تحقق، ولكنه لم يدم طويلا، لأن العداء بين الآشوريين والعرب كان عميقا، لا يقضي عليه منح تاج، ونصب ملك أو ملكة.
واعترف "أسرحدون" بعلا خزا ايلي" ملكا على قبيلة "قيدار"، في مقابل إتاوة يدفعها، قدرها خمسة وستون جملا. فلما توفي "خزا ايلي"، سنة "675 ق. م" اعترف "اسرحدون" بابنه "يايتع" "يايطع" "يطع" "يثع" "Uaite'" ملكا مكان أبيه،على أن يدفع إتاوة سنوية كبيرة مقدارها ألف "من" "Minae" من الذهب، وألف حجر كريم و خمسون جملا، وطيب، أي أكثر مما كان يدفعه أبوه. وقد رضي الابن بذلك على أمل أن ينعم عليه بتاج كيفما كانت الشروط. غير أن حسابه هذا لم يكن دقيقا، فقد ثار عليه شعبه الذي أبى أن يخضع لرجل فرض عليه فرضا، وأبى قبوله ملكا عليه. وقام - وعلى رأسه الزعيم "اوبو" "وهبو" - "وهب"، "أوب" "Uabo" "Uaba" بثورة عامة للتخلص منه، ومن سلطان الآشوريين.

(1/610)


--------------------------------------------------------------------------------

وأسرع الآشوريون فأرسلوا جيشا لإخماد هذه الثورة، فاطفأها، وأسر "أوبو" "Uabo" وأخذ إلى "نينوى"، إلا أن الانتصار عله لم يقض على مقاومة العرب للآشوريين و ثورتهم عليهم، فقاد "يابتئ" "يثع" "Uaite'" الثورة هذه المرة، ورفع راية الحرب على الآشوريين، وغزا هو وأتباعه حدود الإمبراطورية الآشورية المحاذية للبادية، واضطر الآشوريون إلى تجهيز حملة جديدعة انتصرت عليه، وهاجمت مضاربه، و قبضت على أصنامه، وأخذتها معها أسرى للمرة الثانية. أما "يايتئ"، فقد فر "وحيدا إلى أصقاع بعيدة" على ما جاء في النص. والأصقاع البعيدة، هي البادية ولا شك، حيث يصعب على الآشوريين التوغل فيها للتوصل إليه. لذلك صارت مأوى لكل ثائر تحل به خسارة. فإذا نجا بنفسه، وتمكن من الفرار من ساحة الهزيمة إلى البادية، صار في حصن أمين،لا تمتد إليه الأيدي بسوء إلا إذا كان المهاجمون من أبناء جنسه، الأعراب.

(1/611)


--------------------------------------------------------------------------------

وقام "أسرحدون"، بعد هذه الحملة، بحملة أخرى على قبائل عربية تنزل أرض "بازو" "Bazu" و "خازو" "Hazu". وقد ابتدأ بها في اليوم الثاني من شهر "تشرى" من السنة الخامسة من سني حكمه. وهي تقابل سنة "676 ق. م.". وقد قتل فيها ثمانية ملوك، هم: "كيو" "Kiau" "قيسو" "Kisu" و "Ki-I-su" ملك "خلديلي" "Haldilli". و "اكبرو" "Agbaru" "Ak-baru"، وهو ملك "ال بياتي" "البياتي" "ايل بباتي" "Ilpiati" "Na-pi-a-te"، و "منسكو" "منساكو" "منسك" "Mansaku" "Ma-an-sa-ku"، ملك "مجل اني" "مجلاني" "Magal'ani" "Ma-ga-a-ni"، و الملكة "يافأ" "ايفع" "يفع" "Iapa'" "Ja-pa'"، ملكة "دخراني" "دحراني" "دخر" "Dihrani" "Didhrani" و "حبيصو" "حابصو" "جيبسو" "Habisu" "Kha-bi-su" ملك "قدابأ" "Qadab'"، و "نخارو" "نيخرو" "نحارو" "نحر" "Niharu" "Ni-kha-ru" ملك "جأباني" "جعباني" "جعفاني" "Ga'pani"، و الملكة "با ايلو" "بائلة" "Ba'ilu" "Ba-i-lu" ملكة "اخيلو" "Ihilu" و "خبن امرو" "خبن عمرو" "حبن امرو" "حبان امرو" "Habanamru" "Kha-ba-zi-ru" ملك "بداء" "بدع" "Buda".
%595 و أسر خلقا من اتباعهم أخذهم إلى أرض آشور كما حمل آلهتهم معه. و تمكن أحد الملوك، و هو الملك "ليلى" "Laili" "ليلة" "Laiale" ملك "يادئ" "ياديا" "يدع" "Idai" "Jadi'" من النجاة، غير انه ذهب إلى نينوى بعدئذ، حيث طلب العفو و الصفح عما بدر منه، فقبل "اسرحدون" منه ذلك، و تآخى معه، وأعاد إليه أصنامه، وعينه ملكا على أرض "خازو" و "بازو" "بازي" على أن يدفع الجزية إليه.

(1/612)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ورد في التوراة اسم "بوز" و "حزو". أما "بوز"، فهو ابن ناحور أخي إبراهيم، ويظن إن لاسمه صلة باسم أرض "بوز". وأما "حزو" فانه أحد أولاد "ناحور". وقد ذكرت كلمة "بوز" بعد "تيماء" في سفر "إرميا"، حيث ورد: "وكل اللفيف وكل ملوك أرض عوص، وكل ملوك أرض فلسطين وأشقلون وغزة وعقرون وبقية أشدود، وأدوم ومؤاب وبني عمون، وكل ملوك صور، وكل ملوك صيدرن، وكل ملوك الجزائر التي في عبر البحر، وددان وتيماء وبوز، وكل مقصوصي الشعر مستديرا، وكل ملوك العرب وكل ملوك اللفيف الساكنين في البرية".ف "بوز" في التوراة اسم موضع، واسم شعب، وقد ورد في التوراة اسم رجل من "بوز" سمي "اليهو" "Elihu" البوزي، وهو ابن "برخئيل"، وكان صديق "أيوب" وحكما في المحاورة التي جرت بين أيوب وأصحابه الثلاثة الذين أتوا ليعزوه في المصائب والبلايا التي نزلت به. وأيوب كان من سكان أرض "عوص"، وهو عربي على رأي عدد من علماء التوراة.

(1/613)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم يحدد موقع "بوز" في التوراة. ولكن ورود "بوز" بعد ددان وتيماء في الموضع الذي ذكرته من إرميا، وقبل جملة "وكل مقصوصي الشعر مستديرا"، يحملنا على التفكير في أن أرض "بوز" كانت في جوار تيماء، وليست بعيدة جدا عن "ددان" "ديدان"، وقريبة من الأعراب الذين كانوا يحلقون شعور رؤوسهم إلا دائرة تبقى في أعلى الرأس، أي غير بعيدة عن البادية وعن الأعراب الإسماعيليين. ولهذا ذهب "كلاسر" و "دلج" "F. Delitzsch" وغيرها إلى أن بوز، هي "بازو" الواردة في نص "سنحاريب"، وتقع في العربية الشمالية. ورأى "ذورمة" "Dhorme"، إنها في منطقة تقع في جنوب شرقي الجوف. وأما "موسل"، فيستند أيضا إلى الوصف الذي جاء في النص الآشوري عن "بازو" التي تقع في موضع قاص، ويبدأ من السباخ وبادية مجدبة، "140 بيرو من الرمال"، وليس فيها غير الشوك ونوع من حجر يعرف ب "حجر فم الغزال"، ثم سهل فيه الأفاعي والعقارب مثل "إلزربابو" الجراد. تليه "خازو"، وهي أرض جبلية اتساعها " 20 بيرو" من حجر ال "Saggilmut". ويرى من هذا الوصف أن موضع "بازو" في غرب وفي جنوب "تدمر" وفي "وادي السرحان"، وأن الملوك الثمانية الذين قتلهم "اسرحدون" كانوا يقيمون في وادي السرحان عند الحدود. الشرقية لحوران وفي "الرحبة" و "قطة" إلى وادي "القطامي". ويرى أيضا أن "يدىء" "ياىء" "يدي"، وهو موضع الملك "ليلى"، هو "الجاف"، أو "الودي" وذلك بإبدال الحرف الأول من كلمة "يدي" بحرف الواو. وهو أمر يرى إنه كثير الحدوث، فمن المحتمل أن يكون موضع "الودي" - على رأيه - هو "يدي" أو "يدىء" مقر الملك "ليلى" "Laili".
فرأي "موسل" أن "بازو" تعني النصف الشمالي من "وادي السرحان". وأما الأرض الواقعة في شرق "السرحان" وفي شمال السرحان في المنطقة الجبلية، فإنها "خازو" "حازو"،وقد سلك الجيش الآشوري كما يقول الطريق التجارية المارة من الحافات الشرقية لحوران إلى دمشق.

(1/614)
وقد صيرت أرض "بوز" و "بوزي" ب "أرض أوسيتس" "Ausitis" في الترجمة السبعينية للتوراة "العهد العتيق"، ولذلك رأى بعض العلماء أن المراد بها اسم "Aisetai" "ايسايتاي" "ايسايته"، وهو اسم موضع ذكره الجغرافي "بطلميوس" في داخل بادية بلاد العرب. ورأوا أن بوز هي هذا المكان.
ورأى آخرون إن "بازو" هي نجد، وأن البادية التي تحدث عنها "أسرحدون" هي "النفود". وأما "خازو" فإنها الأحساء. وذهب "رولنسن" إلى احتمال كون هذه المنطقة هي أرض ملكة الحيرة، وما يتصل بها إلى جبل شمر، لأن الوصف المذكور ينطبق - في رأيه - على هذا المكان.
وذهب "كلاسر" في مكان آخر من بحوثه المستفيضة عن "بازو" و"خازو" إلى أن "خازو" هي "حزو"، وإلى أن "بازو" و "حازو" في الأقسام الشرقية والجنوبية من "اليمامة" إلى أرض "مأكن" "Maken" إلى مرتفعات "رأس الخيمة". وأشار أيضا إلى "حزوى"، وهي "السدوسية" لبني سعد في اليمامة، وقد ذكرها "الهمداني"، ويرى أن هذه اللفظة قريبة جدا من "حزو" التوراة ومن "خازو" النص الآشوري. وعلى هذا تكون أرض "خازو" في اليمامة، وهي أرض ذات آثار قديمة وعاديات وخرائب تقع بين وادي "ملهم" و "وادي حنيفة".
ورأى بعض الباحثين المحدثين إن أرض "بازو" هي الساحل المقابل لجزر البحرين، أي جزيرة "تلمون" كما كانت تعرف عند القدامى. وأما "خازو" أي "حازو" في قراءة، فهي "الأحساء". ونرى بين اللفظتين "حازو" و "أحساء" تقاربا كبيرا.

(1/615)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم يذكر "أسرحدون" كيف رجع إلى بلاده بعد حملته الطويلة هذه، ومن أي سبيل رجع إلى ملكه? غير إن بعض الباحثين يرون إنه سلك طريقا غير الطريق الأول الذي سلكه في حملته على الشعوب والأرضين المذكورة. يرون انه سلك طريقا موازيا لساحل الخليج، فاخترق أرض "بازو" و "خازو"، "حاسو"، ثم سار شمالا إلى إقليم بابل. و "حاشو" عندهم هي الأحساء، وهي بين "نجد" والخليج، وكان "أسرحدون" قد سلك في حملته الأولى كما يروون طريقا اخترق "نجدا". فلما قرر العودة سلك الطريق الثاني.
ويرى "موسل" إن اسم "دخراني" "Di-ih-ra-ani" هو "Dacharenoi" المذكور عند "اصطيفان البيزنطي" "Stephen of Byzantium". أما "كلاسر" فيرى إن قبيلة "Dachareni"، التي ذكرها "بطلميوس" بعد اسم قبيلة "Malangite" هي القبيلة المذكورة في نص "أسرحدون"، وان قبيلة "Malangite" هي قبيلة "Ma-gal-a-ni" المذكورة في نص "أسرحدون". ورأى احتمال كون "Gauuani" هي "جوجان" و "Ikhilu"، هي "أجلة" أو "أخلة"، وهما عند الخرج.
ويرى "كلاسر" احتمال وجود علاقة بين "Bi-i-lu"، وهو اسم الملكة، و "باهلة"، وهو اسم القبيلة المعروفة التي تقع منازلها منذ القديم في هذه المنطقة. وعنده أن حملة "أسرحدون" قد كانت في اليمامة، حيث ينطبق وصف هذه المنطقة على وصف الأماكن المذكورة في حملة "أسرحدون" أحسن انطباق. وبعد وفاة "أسرحدون" رأى "يثع" "يطبع" "يايطع" "Uaite'" أن من الأصلح مصالحة الآشوريين، فذهب إلى "آشور بانبال"، "آشور بنبال" وقابله وأرضاه، فأعاد إليه أصنامه، ومنها الصنم "عثتر السماء"، "أتر سمائين" "Atarsamain" "A-tar-sa-ma-a-a-in"، أي "عثتر السماوات"، وهو الإله "عثتر" إله السماء، الذي سأتحدث عنه عند كلامي على ديانة العرب قبل الإسلام، ورضي عنه وأعاده إلى منصبه.

(1/616)


--------------------------------------------------------------------------------

ويذكر "آشور بانبال" أن "Uaite'" حنث بيمينه، وخالف عهده وميثاقه معه، لما أعلن "شمش - شوم - أوكن" "Schamaschschumukin"، شقيق آشور بانبال العصيان عليه، وخاصمه، فانضم إليه، وأيده بمدد يساعده، جعله تحت قيادة "اب يثع" "أب ينع" "Abjate'" و "ايمو" ابنا "تارى" "ثأر" "تور"، "Te'ri". وقام على رأس أتباعه بغزو الحدود الغربية لأرض بلاد الشام التي سبق أن استولى عليها الآشوريون، وأصبحت من المقاطعات الخاصة لهم، من "أدوم" "Adom" في الجنوب إلى جنوب "حماة" في الشمال. غير إن السعد لم يحالف "Uaite" في هذه المرة أيضا، فتصدت الجيوش الآشورية للمدد الذي أرسل لمساعدة "شمش - شوم - اوكن"، وشتت شمله قبل وصوله إلى "بابل". أما الذين تمكنوا من العرب والوصول إلى "بابل"، فقد أبيد أكثرهم كذلك. وقد اضطر "اب يتيء" "اب يتع" "Abjate" أن ينجو بنفسه بالهرب إلى البادية خشية إن يقع في الأسر، وذهب من ثم إلى "نينوى" حيث مثل أمام الملك طالبا منه العفو وللصفح، وقبل الملك عذره وصفح عنه، ثم أصدر أمره بتعيينه ملكا في مكان "Uaite'" الذي كان مشغولا بغزو حدود الشام وفلسطين الشرقية المتاخمة للصحراء أي حدود أرض "أمورو" "Amurru" على رأي بعض العلم، وذلك بعد هزيمة "Uaite'" وتغلب الآشوريين عليه في حوالي سنة "648 ق. م.". وقد وافق "اب يتيء" "Abjate" أن يدفع جزية إلى الاشوريين، تتالف من ذهب وأحبار كريمة وجمال وحمير.

(1/617)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم يتمكن "Uaite'" من الثبات طويلا والاستمرار على مهاجمة الآشوريين، إذ كلف الملك "آشور بانبال" حرس الحدود والقوات الآشورية التي كانت هناك مهاجمة أتباعه، ومعاقبة "Uaite'" الذي نسي الجميل، وخاس بعهده على حد قول "آشور بانبال". وبعد مصادمات ومعارك وقعت بالقرب من "ازريلو" "Azarilu". و "خير اتكاسي" "Khiratakasi" و "ادومه" "Udume" في ممر "يبردو" "Jabrudu" في "بيت أماني" "بيت عماني" "Bit Ammani" في منطقة "خوينه" "Khaurina" و "موابه" "Mu'aba" و "ساري" "Sa'ari" و "خرجه" "Kharge" و "صوبيتي" "Subiti"، اضطر أتباع "اويتي" "Uaite'" إلى الرجوع إلى البادية للأحتماء بها. ويظهر أنهم أصيبوا في أثناء ذلك خسائر فادحة. وقد اكره "اويتيء" بعد هذه الخسائر على الالتجاء إلى الملك "نتنو" "Natnu" ملك "نبيتي" "نبيطي" "Nabaitai" "Nabaiti" تاركا زوجته بين أتباعه من قبيلة "قيدار" "Qidri" "Kedar".
ولما هاجم "امولاتي" "عمولاطي" "امولاطي" "Ammulati" ملك قبيلة "قيدار" "قيدري" أرض مملكة "مؤاب" "Moab" أصيبت جيوشه بخسارة كبيرة، وسقط أسيرا - ومعه "اديا" "عادية" "عدية" "Adija" زوجة "Uaite'" ملك "اريبي" في أيدي الملك "Kamashkalta" "Kamaskhalta" ملك مؤاب "648 ق. م". فارسلا أسيرين إلى نينوى حيث سلما إلى "آشور بانبال". وكان "، قد ساعد "شمش - شوم - أوكن" في ثورته على أخيه، وهاجم أرض المغرب "أمورو" "Ammurru"، لذلك سر "آشور بانبال" ؛ بهذا الانتصار الذي أحرزه "مؤاب". وشد رسم منظر غلب "آشور بانبال" وأسر "Ammulti و "Adija" على جدار إحدى غرف قصر الملك "آشور بانبال".

(1/618)


--------------------------------------------------------------------------------

لقد أثرت الانتصارات التي أحرزتها جيوش "آشور" في نفس "نتنو" "ناتنو" "Natnu" ملك "Nabaiti"، فأخذ يتقرب إلى "آشور بانبال"، ومن جملة ما فعله في التقرب إليه إنه أرسل "Uaite'" - الذي كان قد التجأ إليه - إلى نينوى حيث سلم إلى الملك الذي أمر بوضعه في قفص، ليعرض على الناس عند أحد أبواب المدينة. وذكر "آشور بانبال" في كتابه أن منازل "Nabaiti" قبيلة "Natnu" بعيدة، ولم يسبق لها أن أرسلت رسلا إلى بلاط أحد من أجداده وإبائه في نينوى من قبل، وأن هذه هي المرة الأولى التي يصل فيها من هذه القبيلة رسول.
وقد وصف "آشور بنبال" موقف الأعراب وصفا مؤثرا بهذه الكلمات: "اشتدت عليهم وطأة الجوع. ولكي يسدوا رمقهم، أكلوا لحوم صغارهم.. وقد سال أهل العربية بعضهم بعضا: ما بال بلاد العرب قد أحدق بها هذا الشر? فعان الجواب: تلك عاقبة من ينكث العهد، ويخرق المواثيق التي قطعناها لآشور".
وذكر "آشور بانبال" إنه عامل "Uaite'". على هذه الصورة، وذلك في عباراته التي أمر بتدوينها في النص: "حبسته في مربط الكلاب، وضعته مع بنات آوى والكلاب، وأقمته على حراسة الباب في نينوى".
وصف حملته على الأعراب و مطاردته لهم بهذه الكلمات: "في رمضاء البادية وقيظها، حيث لا ترى طيور السماء وحيث لا يرى حمار الوحش ولا الغزال". وذلك من شدة جدب البادية، وعدم احتمالها الأحياء.

(1/619)


--------------------------------------------------------------------------------

لم تنفع الشدة التي استعملها الآشوريون في القضاء على مقاومة الأعراب شيئا.فما كاد "آشور بانبال" يشغل نفسه بقتال ملك "عيلام" وحربه في عام "640-641 ق. م." حتى ثارت القبائل العربية على آشور بزعامة "أببتأ" "أبي يثع" "Abijate" ابن "تاري" "Te're" الذي تحدثت عنه سابقا، و "اويتئ" "Uaite'" الثماني، وهو ابن "بير دادا" "Bir Dadda"، وأخذت تتحرش ثانية بحدود المقاطعات الآشورية المتصلة بالبادية. ولما أرسل الآشوريون جيوشا قوية لصد هذه الهجمات، طلبت قبيلة "قيدري" "قيدار" مساعدة "نتنو" ملك "نبتي" ، فلبى الطلب، وتحالف معهم، وأخذوا يهاجمون الحدود، ومعهم قبيلتا "يسمع" "يسمأ" "Isamme'" و "عثتر سمين" "Atarsamain". غير إن الجيوش الآشورية تمكنت - مع ذلك كما تدعي كتاباتهم - من الانتصار على "قيدار" وعلى حلفائهم، فانتصرت على حلفائهم، فأنتصرت على "Isamme'" و على "Atarsamain" و "Nabaiti" في موضع في البادية بين "ياركي" "يركي" "Jarki" "أرك" شرق تدمر، و "ازلة" "Azalla"، وشتتت شملهم. ثم انتصرت في معركة أخرى على "Atarsamain" على "قيدار" وقعت عند "Qurasiti"، وغنمت فيها غنائم كبيرة من الحمير والجمال والأغنام، كما أسرت أصنام "Uaite'" وأمه وزوجته وعددا كبيرا من أتباعه. وأخذوا إلى دمشق، وأسر"ابي يثأ" "Abjate"" وشقيقه "أيمو" "Aimnu" في المعركة التي وقعت عند "خوكرينا" "Khukkurina" "Khukruna" أما الملك "Uaite'"، فقد اعتصم مع عدد من أتباعه بالصحراء، غير أن الأمراض والأوبئة التي انتشرت بين أتباعه اكرهته على الذهاب إلى الآشوريين الذين نقلوه إلى نينوى، وعرضوه أمام الملك. وقد عوقب عقابا قاسيا،وعذب عذابا شديدا، ثم عفا عنه الملك بعد ذلك غير إنه لم يسمح له بالعودة إلى البادية، حيث أهله وأتباعه ومنازله، ولعله مات في نينوى.

(1/620)


--------------------------------------------------------------------------------

لقد وردت في أخبار حملات الآشوريين على العرب، أسماء مواضع منها ما يمكن التعرف عليه، ومنها ما ليس في الإمكان تشخيصه الان، وقد تحدثت عن بعض مما. ويرى جض العلماء إن موضع "أزريلو" "Azarliu" المذكور في أخبار انتصارات "آشور بانبال" على العرب، هو موضع يقع في بادية الشام. وأما لفظة "أدومة" "Udume"، فيرى "موسل" انهسا تعني "ادوم" "Edom" أرض "الآدوميين" من ذرية "عيسي بن إسحاق" على رواية التوراة. وهم شعب استوطن في الأصل جبل "سعير"، ثم توسع فسكن في منطقة شملت كل تخوم كنعان الجنوبية من البحر الميت إلى الخليج الشرقي للبحر الأحمر، ومن ضمنها جبل "سعير". وقد كان الأدوميون من أعداء العبرانيين.
ولما زاحم النبط الأدوميين على أرضهم، زحفوا نحو الشمال فسكنوا في "اليهودية" "Judah"، وتوسعوا حتى تجاوزا شمال "حبرون"، ولذلك دعيت هذه المنطقة باسم "الأدومية، "Idumaea". وذكر المؤرخ اليهودي "بوسفوس" إن من أصنامهم صنما يدعى "Koze"، ويذكرنا اسم هذا الصنم باسم الصنم "قزاح"، وهو صنم كان يعبد على مقربة من مكة.
وأما "Mu'aba"، فيرى "موسل" إنها "مؤاب" المذكورة في التوراة، وهي أرض المؤابيين، أبناء "مؤاب".

(1/621)


--------------------------------------------------------------------------------

وأسماء الأشخاص الواردة في النصوص الآشورية هي أقدم أسماء نعرفها وردت في نصوص تأريخية عند العرب الشماليين، مثل "زبيبة" و "شمس" و "الباسق" الذي كتب "بسقانو" "Basqanu" في النص الآشوري، و "أيم" الذي هو "ايمو" في الخصوص الآشورية، و "جندب" الذي صار "جنديبو" "Gindibu" في اللغة الآشورية "Kiau" "Kisu" "Ki-i-su" الذي يحتمل إنه "قيس"، و "Agbaru" "Akbaru" القريب من أكبر أو "أخبر" أو "أجبر"، و "خييصو" "جيصو" "Habisu" "Kha-bisu" الذي يحتمل إنه "خبيص" أو "خابص" أو "حبيس" أو "حابس" أو "قبيصة" أو ما شابه ذلك من أسماء، و "نخرو" "نحرو" "Niharu" "Ni-kha-ru" الذي يحتمل إنه "نخر"، أو "ناخر" أو "نهار"، "وليلى" "Laili" "Laiale"، الذي هو "ليلي" إلى آخر ذلك من أسماء.
وورد في جملة الأرضين التي استولى عليها "آشور بانبال" في بلاد العرب، اسم موضع دعي "انزلكرمة" "Enzailkarme" "Al-en-zi-kar-me"، وهو كناية عن واحة، يرى "ديلج" "Delitzsch" إنها تقع جنوب حوران.
وقد افتخر "آشور بانبال، الملك العظيم، الملك الحق الشرعي، ملك العالم، ملك آشور، ملك الجهات الأربع، ملك الملوك، الأمير الذي لا ينازعه منازع، الذي يحكم من البحر الأعلى إلى البحر الأسفل، والذي جعل كل الحكام الآخرين يخرون له سجدا ويقبلون أقدامه"، بأنه ملك من البحر الأعلى حتى جزيرة "دلمون" من البحر الأسفل. ومعنى هذا أن ملكه امتد من أعالي العراق إلى البحرين.

(1/622)


--------------------------------------------------------------------------------

يظهر من النصوص الآشورية الآشوريين قاموا بعدد من الحملات يزيد عددها على تسع للانتقام من الأعراب الذبن كانوا قد تعودوا التحرش بهم، ومضايقتهم عند اجتياز البوادي، ومهاجمة قوافلهم وحدود إمبراطوريتهم، تحرضهم بابل في بعض الأحيان، أو حكومة مصر، أو يدفعهم إلى ذلك أملهم في الحصول على غنائم يتعيشون منها. وقد أزعجت هذه التحرشات الآشوريين كثيرا، وأغضبت، يتجلى غضبهم هذا فيما دونوه عنهم. وفي الصور التي رسموها للعرب في قصورهم، فصوروهم يقبلون أرجل ملوك "نينوى" ليرضوا عنهم، مقدمين إليهم الهدايا فيها الذهب والحجارة الكريمة وأنواع الطيب والكحل واللبان والجمال. وصوروا الآشوريين وهم يحرقون خيام الأعراب، وهم نيام، وصوروا عساكرهم يقاتلون الأعراب ويطاردونهم، وهو على ظهور خيولهم المطهمة. أما العرب، فإنهم على ظهور الجمال لا يستطيعون الإفلات من الآشوريين. وترجع هذه الصور إلى أيام "آشور بانبال"، حيث عثر عليها في قصره ب "نينوى".
وقد صور العرب ولهم لحى وقد تدلى شعر رؤوسهم على أكتافهم ضفائر، وشد أحيانا بخيط. وأما الشوارب، فإنها محفوفة في الغالب. وقد صور العرب وهم يركبون الجمال عراة في بعض الأحيان، أو تمنطقوا بمنطقة ثخينة أو ائتزروا إزارا يمتد من البطن إلى الركبتين.ولا تصور هذه الصور كل الأعراب بالضرورة بل هي يمثل أولئك الذين تحاربوا مع الآشوريين.

(1/623)

admin
12-26-2010, 01:04 PM
لقد أقام الآشوريون لهم مسالح في أقاصي الأماكن التي بلغ نفوذهم الحربي والسياسي إليها، كما أقاموا حصونا في مفارق الطرق المؤدية إلى البادية، وذلك لحماية حدودهم من غزو أبناء البادية. كما وضعوا مراقبين آشوريين، أو مندوبين سياسيين في مواطن سكن سادات القبائل، وذلك لمراقبة حركات القبائل وأخبار حكوماتهم بنوايا وبأعمال ساداتها وللتأثير على أولئك السادات لحملهم على تنفيذ ما يريده ملوك آشور. وهي خطة قلدها من جاء بعد الآشوريين من أجانب. ولم يكن الآشوريون هم أول من ابتدع هذه السياسة، فلا بد وأن يكون من سبقهم قد سار على هذا الدرب، ومهد أرضه للآشوريين ولمن جاء بعد الآشوريين من حكام.
الفصل الخامس عشر
صلة العرب بالكلدانيين و الفرس
لا نعلم شيئا كثيرا عن صلات العرب بالكلدانيين، فلم تصل كتابات منهم تفصح عن علاقتهم بالعرب. غير إن سكوت هذه الكتابات و عدم وصولها إلينا لا يمكن أن يكون سببا يحملنا على التفكير في عدم قيام صلات بين العرب و الكلدانيين. فقد رأينا فيما مضى أنهم ساعدوا أهل بابل في نزاعهم مع أشور، ثم إن العرب كانوا يحاربون البابليين منذ القديم، و هذه المجاورة القديمة في حد ذاتها واسطة طبيعية لتكوين المباشر بين العرب و الكلدانيين.
و قد تحدث الأخباريون عن غزو "بخت نصر" "بختنصر" "604-561 ق.م." للعرب في أيام "معد بن عدنان"، و وصوله إلى موضع "ذات عرق"، كما تحدثت عن ذلك في فصل "طبقات العرب"و قد قلت إن رواته أخذوا مادته من أهل الكتاب، و أضافوا إليه مادة جديدة أنتجتها أبتداعهم له، فصار نسيجا جديدا هو المدون في الكتب. و هو حديث لا قيمة تأريخية له، و لذلك لا يمكن الاطمئنان إليه و الأخذ به. و قد قص علينا الأخباريون ألوانا كثيرة من هذا القصص الذي بان لونه و عرف أصله في القرن العشرين.
و أنا لا أريد أن استبعد احتمال قتال "بخت نصر" مع القبائل العربية، فذلك

(1/624)


--------------------------------------------------------------------------------

ممكن جدا، ولا سيما أن بابل مجاورة للعرب، وان توسع هذا الملك ودخوله فلسطين جعل البابليين يتصلون اتصالا مباشرا بالأعراب، فلا بد أن يكون "بخت نصر" قد احتك بالعرب واتصل بهم. وقد يكون حاربهم وأوقع خسائر بهم، لتحرشهم بجيوشه وبحدود إمبراطوريته التي شملت البادية الواسعة الفاصلة بين العراق وبلاد الشام. ولكن الذي نتوقف عنده وننظر إليه بحذر، هو هذا الطابع المعروف عن الأخباريين، الذي يروون به كيفية غزو ذلك الملك ل "معد ابن عدنان".
وقد يكون "بخت نصر"، قد بلغ موضع "ذات عرق" وقد يكون بلغ موضعا آخر أبعد منه، إلا أن الذي أراه أن استيلاء البابليين على الأماكن التي احتلوها من جزيرة العرب إن وقع فعلا، فإنه لم يدم طويلا، فقد كانت فتوحات الفاتحين لجزيرة العرب كالسيول، تأتي جارفة عارمة، تكتسح كل شيء تجده أمامها، ثم لا تلبث أن تزول وتختفي آثارها بعد مدة قصيرة،لأسباب منها بعد طرق المواصلات عن عواصم الغازين الفاتحين وعدم وجود مواد غذائية كافية في البلاد المفتوحة لإعاشة جيش كبير، ليستطيع ضبط القبائل والمحافظة على الأمن، ومهاجمة القبائل للقوافل التي ترد لتموين الحاميات وللحاميات نفسها، وعدم يمكن الفاتح من وضع جيش كبير جاهز في كل لحظة للقتال ليصد غارات القبائل التي تؤلف غالبية سكان جزيرة العرب في ذلك العهد. ثم إذ القسم الأكبر من الذين قاتلوا وفتحوا أناس مرتزقة سيقوا إلى القتال سوقا، خوفا أو طمعا، وقبائل اشترى الفاتحون ساداتها بأطماعهم في مغانم يجنونها أو لدوافع حقد قبلي، ومن عادة سادات القبائل أنهم مع الفاتح ما دام قويا سخيا يبذل، لهم بكل سخاء، فإذا ضعف أو أمسك أو دارت الدنيا عليه، كانوا هم أول من ينقلب عله. ولذلك صارت أمثال هذا الفتوحات غارات انتقامية سريعة، لا يلجأ إليها إلا جمد تفكير و إعداد خطط ووجود ضرورات ملحة تستوجب إرسال مثل هذه الحملات.

(1/625)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرى بعض علماء التوراة والبابليات ما جاء في كتاب "دانيال" الذي كتب بعد أيام "بخت نصر" من نبوءة ومن رسالة أرسلها النبي إلى ذلك الملك، ومن فتوحات في بلاد العرب، هو من وضع كاتب تلك الرسالة، وضعه ليثبت نبوءته، وأن ذلك الكاتب أخذ فتوحات "نبونيد" فنسبها إلى "بخت نصر". أما أنا، فلا أريد أن أثبت فتوحات "بخت نصر"، ولا أريد أن أنفيها في هذا العهد، فوصول "بخت نصر" إلى الحجاز أمر ممكن، وسوف نرى أن "نبونيد" قد وصل إلى مدينة "يثرب"،فليس بمستعبد وصول "بخت نصر" إلى الحجاز، بعد أن استولى جيشه على فلسطين، وصار في إمكانه الزحف نحو الجنوب، ولكن الذي أراه الآن هو التريث، فلعل الزمن يجود علينا بنصوص قد تتحدث عن حروب وفتوح أمر بها هذا الملك فى بلاد العرب. وكتاب "دانيال"، وإن كتب على شكل نبوءة، لا يستبعد أن يكون قد استمد خبر النبوءة من وثيقة أو خبر شائع، فصاغه في شكل نبوءة، ليثبت نبوءته لبني إسرائيل.

(1/626)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد أخبرتنا الكتابات البابلية أن "بختنصر" "Nebuchaderzzar"أرسل في شهر "كسلو" "Kislev" "Kislew" من السنة السادسة من ملكه المقابلة سنة "599ق. م." جملة على العرب الساكنين في البادية، نهبت أملاكهم وما عندهم من مواشي، وسرقت آلهتهم ثم عادت. ولم يذكر النص البابلي اسم البادية التي هاجمها الجيش البابلي ولا اسم القبائل التي هاجمها، ولم يذكر أيضا اسم المواضع التي تحرك منها الجيش لمهاجمة العرب. ويرى الباحثون احتمال مهاجمة البابليين للعرب من "حماة" "Hamath" أو "ربلة" "Riblah"، أو "قادش" "Kadesh"، فتوغل جيش "بختنصر" في البادي، ثم عاد حاملا. معه ما ذكر في النص من أسلاب ومن مواش وآلهة العرب أي الأصنام. وكانت غاية البابليين من تأسير الأصنام وأخذها، هو اكراه القبائل على الاستسلام والخضوع لهم، لما للأغنام من أثر كبير في نفوسها، وقد رأينا إن ملوك الآشوريين مثل: "سرجون" و "سنحريب" و "أسرحدون" كانوا قد أسروا أصنام العرب وأخذوها معهم إلى آشور وكتبوا عليها شهادة الأسر والوقوع في أيدي الآشوريين، ليؤثروا بذلك نفسيا في نفوس أتباعها وعبادها ويكرهوهم على الخضوع لهم وعلى مساومة الآشوريين لاستردادها في مقابل الاستسلام لهم وتأييد سياستهم وعدم التحرش بهم. ولم يذكر النص البابلي أسماء تلك الآهة.

(1/627)


--------------------------------------------------------------------------------

وكانت غاية "بختنصر" من إرسال حملته هذه على العرب، هو حماية حدود "حماة" وبقية مشارف فلسطين وبلاد الشام من الأعراب وإخضاعهم لحكمه، ثم تأديبها بعض القبائل التي تحرشت به على ما يظهر حين دخوله بلاد الشام وفي جملة ذلك فلسطين. واستنادا إلى ما جاء في "سفر إرميا" نستطيع أن نقول إن "قيدار" كانوا على رأس القبائل العربية البارزة التي غزاها جيش "بختنصر" وكذلك "بني الشرق" "أبناء المشرق" و "ممالك حاصور". ونظرا لوجود تشاب كبير بين الرواية البابلية عن حملة "بختنصر" على العرب وبين ما جاء في "سفر إرمياء"، أرى إن مدون السفر قد أخذ خبره هذا الذي صيره نبوءة من موارد بابلية ثم كيفه على النحو الذكور.
ولدينا خبر رواه لنا "اكسينوفون" "Xenophon"، يفيد أن "بختنصر" لما حمل على مصر أخضع "ملك العربية". وشد قصد بذلك حملته على مصر سنة "567" قبل الميلاد.
والخبر التأريخي الثاني الذي وصل الينا عن صلات البابليين المتأخرين بالعرب، هو ما ورد عن الملك "نبونيد" "Nanonid" "Nabonidus" "555 -538ق. م." "556-539ق. م." من اتخاذه "تيماء" مقرا له. فقي السنة الثالثة من حكمه جرد حملة على "أدومو" "Adumu" "Adummu" أي "دومة" "دومة الجندل"، وسار منها إلى "تيماء"، سالكا طريقا لم تعرف في الزمن الغابر، على رأس جيشه، جيش أرض "أكد" "أكاد" ة فلما وصل إليها، أعمل فيها السيف، وقتل أميرها وأهلها، والظاهر إن ذلك بسبب مقاومتهم له وعنادهم في الدفاع عن مدينتهم، ثم طاب له أن يستقر بها، فابتنى بها قصرا ضخما له جعلوه كالقصر الذي في يابل، وحلت "تيماء" محل بابل، أي صارت عاصمة لملك البابليين.

(1/628)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرى العلماء أن حملة "نبونيد" على "دومة الجندل" "ادومو" "Adummu" "وتيماء" "Tema" كانت في سنة "552ق. ج.". وقد جاء إليها سالكا الطريق الرية المؤدية من بلاد الشام إلى شرقي الأردن، الطريق التي يسلكها حجاج بلاد الشام في الإسلام إلى مكة. وبعد أن قضى على حكام المدينتين استقر في "تيماء" ومعه حرسه البابليون. ويظهر من أشارته في نصه المدون عن أخبار فتوجاته إنه سلك في وصوله إلى "تيماء" سبيلا لم يسلكها الأقدمون من قبل، ومن إشارته إلى قتله "ملك تيماء" وسكان المدينة أن المدينة في أيامه كانت مستقلة، يحكمها ملك من أهلها، وأن البابليين لم يكونوا قد حكموها قبله.
وقد أقام "نبونيد" سنين في عاصمته الجديدة. أما ابنه "بلشاصر" "بلشصر" "بلشسر" "Belsharrusur"" "Beksazar"، فكان ب "بابل" مع الجنود البابليين. ويظهر إنه أقام بهذه المدينة حتى السنة الحادية عشرة من حكمه، وربما أقام بها أكثر من ذلك قليلا، حتى اضطر إلى تركها والعودة إلى بابل، بظهور الفرس، الذين هددوا البابليين، ووسعو ملكهم، وصاروا على مقربة من بابل. فقد تغلب "كيرش" "كورش" "Cyrus" على العربية وأدخلها في جملة أملاكه، وعين عليها مقيما سياسيا فارسيا "ستراب" "Satrap"، ويظهر أن حملته هذه على العربية كانت حوالي سنة "540 - 539ق. م"، وأن "نبونيد" كان قد ترك "تيماء"، وجاء إلى بابل قبل تغلب "كيرش" على العربية.

(1/629)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد يتساءل المرء عن الأسباب التي حملت "نبونيد" على تراك بابل والالتجاء هذه السنين إلى "تيماء": أهي لشؤون سياسية خطيرة حملته على السكنى في هذه المدينة البعيدة عن عاصمته القديمة ، أم هي عوامل عسكرية، أو اقتصادية أو بواعث شخصية لا تتعلق بهذه ولا بتلك ? أما إجابات المؤرخين، فهي مختلفة ومتنوعة. منهم من رأى أن لتيماء أهمية كبيرة من الناحية الاقتصادية لوقوعها في ملتقى طرق تجارية عالمية بالنسبة إلى ذلك العهد، والاستيلاء عليها والبقاء فيها معناه كسب عظيم، ورح كبير بالنسبة إلى عالم السياسة في ذلك اليوم. ومنهم من رأى أن ذلك كان لأثر مزاج الملك وطبيعته ورغبته في التخلص من أمراض بابل؛ بسكناه في محل جاف مرتفع زهاء "3450" قدم عن سطح البحر.
وتيماء مركز مهم، ذكر كما رأينا في خصوص الآشوريين، وهو من الأماكن القديمة المذكورة في التوراة، وهو فيها كناية عن أحد أبناء إسماعيل، مما يدل على إنه كان من المواطن الإسماعيلية، ويقع على مسافة "200" ميل إلى الجنوب الشرقي من رأس خليج العقبة، ويمثل هذه المسافة إلى الشمال من المدينة، وعلى بعد "65" ميلا من شمالي العلا. وبها عين غزيرة المياه، هي التي بعثت الحياة في هذا المكان.. وتعد أشهر عين ماء في جزيرة العرب، تستعمل للسقي، ولإرواء المزارع التي تنبت مختلف الفواكه والتمور والحبوب. وهواؤها صحي جيد، ولا تزال مأهولة، فهي في الزمن الحاضر، كناية عن قريرة يزيد عدد سكانها على الألفين،. يسكنون في بيوت من طين وفي أكواخ.

(1/630)


--------------------------------------------------------------------------------

وعلى مقربة من "تيماء" خربة فيها أحجار ضخمة مربعة، وبقايا عمران قديم يظن بعض العلماء إنها موضع معبد عتيق. ويرى بعض من زارها إنها كانت مدينة لا تقل ضخامة عن "الحجر" وعن المدن الأخرى التي ترئ آثارها في العربية النبطية حتى الآن. ولم تفحص هذه الخربة التي يسميها الناس "توما" "Tuma" فحصا علميا. وقد يثعر فيها على كتابات آشوري وبابلية ويونانية وإرمية وعربية ترينا أثو الاتصال الثقافي الذي كان في هذه المواضع التي تعد ملتقى القوافل والتجار والثقافات.
وقد عثر في هذه الخربة على حجر مكتوب بلغة بني إرم، يرجع تأريخه إلى القرن الخامس قبل الميلاد، ورد فيه إن أحد الكهان استورد صنما جديدا إلى تيماء، وبنى له معبدا، وعبن له كهانا توارثوا خدمة "صلم هجم". و "صلم" بمعنى صنم. وقد مثل صنم "هجم" في زي آشوري، وظهر في اسفل الرسم رسم الكاهن الذي شيد ذلك النصب. وقد نشرت ترجمة الكتابة الإرمية. ويرى "سدني سمث" إن تأريخها يرجع إلى أيام "نبونيد"، فلعله صنع في ذلك الزمن بتأثير البابليين.
ولطول إقامة "نيونيد" في "تيماء"، لا يستبعد أن يجيء يوم قد يعثر فيه على كتابات أو آثار أخرى ترجع إلى هذا الملك. فلا يعقل إن تذهب ذكريات أيامه كلها من هذه المدينة، وينطمس أثر قصره عنها، ذلك القصر الذي بالغ الملك في وصفه وأراد أن يجعله في مستوى قصور بابل. وقد يعثر فيها على مراسلاته مع مدينته بابل ومع الحكومات الأجنبية التي كانت في أيامه ومع الأعراب. وإذا حدث ذلك، فقد نجد شيئا جديدا لا نعرفه عن أيام تيماء في عهد نبونيد.

(1/631)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن "تمياء" التي استقر بها "نبونيد" هي تيماء أخرى تقع في العروض على ساحل الخليج، وحجتهم في ذلك أن المسافة بين تيماء الحجاز وبابل، كبيرة واسعة، تجعل من الصعب تصور إقامة "نبونيد" في هذا المكان. أما العروض فإنه على اتصال ببابل، ولا يفصل بينهما حاجز أو فاصل أو عائق، ولهذا ذهبوا إلى احتمال وقوع "تيماء" في العروض، كما ذهب بعض آخر إلى احتمال كون "تمياء" "تيمان" الذكورة في التوراة. وهي أرض "أبناء الشرق"، وملتقى طرق القوافل القادمة من بلاد الشام ومصر والعراق والجنوب. غير أن الباحثين في هذا اليوم متأكدون من أن "تيماء" "نبونيد" هي "تيماء" الحجاز، في المملكة العربية السعودية.
فقد عثر في "حران" على كتابة مهمة جدا في بحثنا هذا، دونها الملك "نبونيد"،عثر عليها في سنة "1956 م"،وكانت مدفونة في خرائب جامع حران الكبير، وترجما إلى الإنكليزية، وإذا بها تتحدث عن تأريخ أعمال ذلك الملك، ومما جاء فيها: إنه لما ترك "بابل" وجاء إلى "تياء"، أخضع أهلها، ثم ذهب إلى "ددانو" "ديدان" و "بداكو" و "خبرا" و "ايدنخو" حتى بلغ "اتريبو". ثم تحدث بعد ذلك عن عقده صلحا مع "مصر" و "ميديا" "ما - دا - ا - ا" "مادا ا" "Ma-da-a-a "Mdees" ومع "العرب "مات ا -را -بي - او" "Mat Ara-di-u". وقد ختم العمود الذي جاء فيه هذا الخبر بأسطر تشمت جمل منها ؛ يفهم من مآلها أن العرب المذكورين أرسلوا إليه رسلا، عرضوا عليه عقد صلح معه، واستسلامهم له، فوافق على ذلك، بعد إن كبدهم جيشه خسائر فادحة، وأسر منهم، ونهب. ولم تذكر تلك الأسطر المواضع التي حارب فيها جيش "نيونيد" أولئك الأعراب. وقد يفهم من هذه السطور الأخيرة أيضا إن بعض هؤلاء العرب هاجموا البابليين، ونهبوا المناطق الخاضعة لهم بالرغم من عقدهم الصلح كل معه، وموافقتهم على إن يسالموه، وهذا ما دعاه على إرسال حملات تأديبية عليهم، أنزلت بهم خسائر فادحة.

(1/632)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم يكن نص "نبونيد" معروفا بين العلماء يوم اختلفوا في تعيين موضع "تيماء" 0 أما اليوم وقد نشر النص وترجم ترجمة دقيقة صحيحة، وعرفنا منه "فدك" و "خيبر" و "يثرب"، وهي مواضع معروفة مشهورة حتى اليوم وتذكر مع "خيبر"، فقد أجمع العلماء على أن "تيماء" "نبونيد" هي "تيماء" الحجاز من درن أي شك، وان موضع إقامة. ملك بابل وقصره كان في هذا المكان من الحجاز.
ولما كان استيلاء "نبونيد" على "تيماء" في حدود سنة "551 - 552ق. م." وجب أن يكون زحفه على الأماكن المذكورة بعد ذلك، والظاهر إن الذي حمله على التوغل في الجنوب، رغبته في السيطرة على اخطر طريق برية لتجارة، تربط بلاد الشام بالعربية الجنوبية، وهي طريق قديمة مسلوكة، تسلكها القوافل التجارية المحملة بأنفس التجارات المطلوبة في ذلك العهد، ثم السيطرة على البحر الأحمر، وذلك بالاستيلاء على الحجاز وعسير واليمن وربما على العربية الجنوبية كلها. ولو تم له ذلك، لكان ملكه قد بلغ المحيط الهندي . ومن يدري? فلعل اختياره "تيماء" مقرا له، وتجوله في الأرضين الواقعة بينها وبين "يثرب" كان لهذا السبب، أي لتنفذ تلك الفكرة الخطرية، فكرة السيطرة على جزيرة العرب وبلوغ المياه الدافئة للوصول إلى إفريقية والهند والعربية الجنوبية! إلا أن فكرته هذه لم تتحقق كما يتبين من النص، فكان أقصى إليه "يثرب"، ثم توقف عند ذلك.

(1/633)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرى بعض الباحثين الذين درسوا كتابة "حران" هذه أن الصلح الذي أشار إليه، الملك يجب أن يكون قد عقد في حوالي سنة "548ق. م." في مدينة "تيماء" عاصمة الملك الجديد، وأن الصلح الذي عقد مع الأعراب قد وقع في "تيماء" أيضا، وأن الهجمات التي هاجم بها بعض الأعراب البابليين وقعت إبان وجوده في هذه العاصمة وقبل رحيله عنها إلى "بابل"، ولكن من هم العرب الذين عقدوا الصلح مع "نبونيد"? ومن هم العرب الذين هاجموا جيشه والأرضين التي خضعت له? إن النص لم يشر إليهم، ولم يتحدث عنهم، وهم بالطبع قبائل عديدة، قد يكون منها قبائل سالمت البابليين وحالفتهم، ومنها قبائل عارضتهم وكرههم، ثم إن بين القبائل منافسة وأحقاد وحسد، فإذا حالفت قبائل حكومة ما، حسدتها القبائل المنافسة، فهاجمتها وهاجمت الحكومة التي عقدت معها الحلف، لإثبات نفسها، ولإظهار وجدودها، ولأخذ الزعامة منها، وهذا داء القبائل منذ كان النظام القبلي.
والذي أراه أن الحجاز لم يكن آنذاك تحت حكومة واحدة يرأسها ملك واحد، وإنما كان على نحو ما كان عليه عند ظهور الإسلام، حكومات قرى ومدن وقبائل. ويؤيد ذلك ما جاء في النص البابلي عن "تيماء" أن "نبونيد"، "فتل بالسلاح ملك تيماء" "ملكو". ومعنى هذا إنها كانت في حكم حاكم يلقب نفسه بألقاب الملوك. ولا أستبعد أن يكون حال "ديدان" و "خير" م و "فدك" و "يديع" و "يثرب" مثل حال هذه المدينة، أي عليها حكام يلقبون أنفسهم بألقاب الملوك. ولا أستبعد أيضا أن يكون حالها أو حال بعضها على نحو حال هذه المدن يوم ظهور الإسلام أي تحت حكم سادات المدينة والأشراف يشتركون معا في الحكم ويتشاورون فيما بينهم عندما يحدث حادث ما في مدينتهم أو قريتهم في أمور السلم وفي أمور الحرب.

(1/634)


--------------------------------------------------------------------------------

ووضع سياسي على هذا النحو، لا يمكن أن يقاوم جيشا لجبا قويا عارما كجيش بابل المدرب على القتال، والذي يعيش على الحروب، ولذلك انهار بسرعة وسلم أمره إلى البابليين. ومن هنا نشتم من نص "نبونيد" رائحة الاستخفاف بأسلحة "العرب"، أي الأعراب سكنة هذه المواضع، وبأسلحة تلك المدن التي استسلمت له. وكل ما فعله الأعراب أنهم تراجعوا إلى البوادي، وصاروا يشنون منها غارات على البابليين ليأخذوا منهم ما يجدونه أمامهم، فإذا تعقبهم البابليون عادوا إلى معاقلهم وحصونهم: الصحراء.
وقد عثر على كتابة ثمودية وردت فيها جملة: "رمح ملك بابل"، وعلى كتابة ثمودية أخرى جاء فيها: "حرب دون" "حرب ديدان". وقد فسر العلماء الجملتين المذكورتين بأنهما إشارة إلى الحرب التي نشبت بين البابليين وأهل ديدان في أيام "نبونيد"، وان أهل تلك المناطق صاروا يؤرخون بها لأهميتها عندهم كحادث تأريخي. فالكتابتان أذن تحددان وقت تلك الحرب، وتعينان مبدأ تقويم يؤرخ بموجبه عند أهل ثمود. غير أننا لم نتمكن من الوقوف على ذلك المبدأ من الكتابتين المذكورتين، لقصرهما ولعدم وجود مفتاح معهما يفتح لنا الباب لنصل منه إلى الموضع الذي حفظ فيه صر ذلك التأريخ.
أما موضع "Da-da-nu"" "دادانو"، فإنه "ديدان"، وهو موضع معروف مشهور، ورد ذكره في "العهد القديم"، وفي عدد من الكتابات وتحدثت عنه في مواضع من هذا الكتاب، فكان إذن في جملة الأرضين التي خضعت لحكم "نبونيد".
وأما "Pa-dak-ku" "بداكو"، فهو موضع "فدك"، ولم يكن مشهورا في الأخبار القديمة، و إنما اشتهر في أيام الرسول، إلا أن عدم اشتهاره لا يمكن أن يكون دليلا على عدم وجوده في أيام "نبونيد". وربما لا يستبعد أن يعثر في خرائبه على آثار من عهد "نبونيد" وقبل عهده، إذ كان كل معروفا قبل أيامه، بدليل ذكره في جملة المواضع التي استولى عليها هذا الملك.

(1/635)

admin
12-26-2010, 01:05 PM
وأما "Hi-ib-ra-a" "خي - ا ب - ر ا - ا" "خيبرا"، فهو موضع "خيبر". وهو موضع معروف وقد كان من مواطن يهود في أيام النبي. وهو موضع "خيبر" الذي أرخ بحرب وقعت فيه في حوالي سنة "568م" "بعد مفسد خيبر بعام".
وموضع "Ia-di-hu-u" "Iadihu"، وهو موضع "يديع"، ويقع بين "فدك" و "خيبر"، وقد ذكره "ياقوت الحموي" والهمداني.
وأما "Iatribu" "ايتريبو" ، فهو موضع "يثرب" أي المدينة. وقد ذكر في جغرافيا "بطلميوس"، فيكون نص "حران" إذن أقدم نص ذكر اسم هذا المكان.
و "يثرب" إذن آخر موضع استولى عليه البابليون في الحجاز وألحقوه بمملكتهم مملكة بابل. لسكوت النص عن ذكر مواضع أخرى تقع في جنوبها ولو كانوا قد تجاوزوها لذكروا اسم الأماكن التي استولوا عليها من دون شك.
وقد استطعنا بفضل هذا النص التأريخي الخطير من العثور على خبر "يثرب" في وثيقة تعود إلى ما قبل الميلاد بكثير، فعلمنا منه إنها كانت مدينة عامرة قديمة، وإنها كانت أقدم بكثير مما تصوره أهل الأخبار عن نشوئها، ثم استطعنا أن نفهم إن العراقيين كانوا قد استولوا على منطقة مهمة من الحجاز في ذلك العهد، وان بعد المسافات بين الحجاز أو العربية الجنوبية لم يحل بين الآشوريين والبابليين من التوغل مسافات شاسعة في جزيرة العرب من طرفيها ومن اجتياز نجد أيضا، كما رأينا من وصولهم إلى جنوب البحرين على الخليج وإلى سبأ وإلى يثرب في هذا العهد.
وقد تنقل "نبونيد" مدة عشر سنوات في هذه المنطقة التي فتحها من الحجاز، في أرض يبلغ طولها حوالي "255" ميلا من "تيماء" إلى "يثرب" وحوالي "100" ميل عرضا، يراجع أهلها وينزل بين قبائلها، ويختلط بها، ثم يعود إلى عاصمته تيماء، حيث يسير منها أمور الدولة. ويظهر أنه تطبع من خلال أقامته هذه المدة بين العرب ببعض طباعهم، واقتبس بعض.مصطلحاتهم حيث وردت في النص.

(1/636)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرى بعض من عالج هذا النص ودرسه أن الملك البابلي نقل معه خلقا من العراق، وأسكنهم في هذه الأماكن الحجازية، في المواضع المذكورة وكان يأتي إليهم من تيماء، ليتفقد أحوالهم، وليرى بنفسه سبل الدفاع عنهم وحمايتهم من غارات الأعداء. ويرون أيضا أن في جملة ما جاء بهم إلى هذه الأماكن اليهود: يهود من بابل، ويهود من فلسطين، كما رأوا أن اليهود كانوا قد سكنوا هذه المواضع من قبل، وربما كان ذلك منذ جاء اليهود إلى فلسطين، فأقامرا بها إلى أيام النبي.
ويظهر أن الملك "نيونيد" كان قد وضع خطة للهيمنة على الأرضين فكلحاقها نهائيا ببابل، وذلك باسكان أتباعه بها وإجبارهم على الإقامة فيها. وقد نفذ خطته هذه فعلا، ووزع من كأن قد جاء بهم معه على هذه المواضع بأن انتزع الأملاك من أصحابها العرب وأعطاها للمستوطنين لجدد، وحماهم بجيش وضعه في كل مكان لصد غارات الأعراب عليهم. ولتقوية معنوياتهم ولتثبيت قلوبهم في البقاء في هذه الأرضين الجديدة. صار يتفقد شؤونهم بين الحين والحين ويزورهم. ولكن الخطة لم تنجح، لأن الظروف السياسية والعسكرية أكرهته على العودة إلى بابل، فمات مشروعه مع عودته، فلم تلحق تلك الأرضين قي بابل، غير أن أكثر المستوطنين الجدد بقوا في هذا الأماكن، وفي جملتهم اليهود الذين ازداد عددهم بمرور الأيام وكونوا مستعمرات يهودية وصلت "يثرب" في الجنوب.

(1/637)


--------------------------------------------------------------------------------

لقد ترك فتح "نبونيد" لهذه الأرضين من الحجاز وبقاء بعض من نقلهم إلى هذه المواضع فيها للاستيطان بها أثرا كبيرا من الناحية الثقافة والاقتصادية والحضارية، وهي نواح لم تدرس حتى الآن، ولم يهتم بها أحد. ولكن وجود ألفاظ عراقية قديمة في لغة أهل "يثرب" والمناطق الأخرى التي تقع إلى الشمال منها، وخاصة في الزراعة، يدل دلالة واضعة على أثر العراق في أهل هذه المواضع، فقد يكون قسم منه من بقايا أثر أولئك العراقيين الذين نقلوا إلى هذه الأماكن، وقد يكون قسم منه من مؤثرات أخرى وقعت قبل هذا الحادث. قد يكون في أيام "بخت نصر" أو قبله، وقد يكون بعضه من مؤثرات حوادث وقعت بعد ذلك.
وفي نسخة "قمران" الحاوية لبعض الإصحاحات من العهد القديم، وقد عثر عليها في نفس الوقت الذي عثر فيه على نص "حران" أخبار قد تساعدنا في توضيح أسباب سوق "نبونيد" لليهود وأخذهم معه، وإرسائهم بهذه الأرضين الجديدة من أعالي الحجاز، إرساء أقرهم فيها وأبقاهم حتى جاء الإسلام فأبعدهم عن الحجاز.
إننا لا نملك نصوصا بابلية عن مدى بلوغ سلطان البابليين السياسي في جزيرة العرب وعن صلاتهم بالقبائل العربية، لذلك. انحصر علمنا بعلاقة بابل بالعرب في الأمور التي ذكرتها. وقد عثر على نص في مدينة "عانة"، يثبت وجود صلات تجارية بين بابل والبلاد العربية كما يشير إلى أثر بابل في الحياة العربية.
أما علاقات البابليين بأهل الخليج، فلا نعرف من أمرها شيئا، فلم يرد في النصوص البابلية التي تتحدث عن هذه الحقبة شيء ما عن الفتوحات البابلية في هذه الأرضين. وقد يعثر على شيء من الكتابات في المستقبل، تتحدث عن الصلات التي كانت بين حكومة "بابل" وأهل الخليج في هذا العهد.
وكل ما نعرفه عن علاقة البابليين بالخليج، إن البابليين كانوا قد ضموا جزيرة "دلمون" أي البحرين إلى أملاكهم، وعينوا عليها حاكما بابليا، وذلك بعد سنة "600 ق. م." بقليل.

(1/638)


--------------------------------------------------------------------------------

ومعارفنا بصلات العرب بالأخمينيين " "Achaemenianوبالبارثيين "الفرث" "Parthians" قليل جدا. ويرى بعض المؤرخين أن العرب كانوا في أيام "الأخمينيين" قد تقدموا في زحفهم نحو الشمال،فدخلت قبائل منهم إلى العراق، ووسعت مساحة الأرضين التي كان العرب قد استوطنوها سابقا، كما تقدموا في هذا العهد نحو الغرب، فتوسعوا في بلاد الشام وفي طور سيناء إلى شواطئ نهر النيل، حيث كانوا قد استوطنوها، وقد قاموا بخدمات كبيرة نحو ملوك الفرس في زحفهم على مصر.
ولم يلاق العرب أية مقاومة كانت في أثناء حركاتهم وتنقلاتهم ودخولهم الأرضين التي كان الأخمينيون قد استولوا عليها، ولكن وجدوا أنفسهم في حرية تامة، لهم الحق في الذهاب إلى أي مكان شماءوا، وهذا مما مكنهم من الدخول إلى أرضين جديدة وإلى توسيع هجرتهم في الأرضين التي كان الأخمينيون قد بسطوا سلطانهم عليها.
لقد ذكر "اكسنوفون" "Xenophon" العرب في جملة أتباع الملك "كيرش" "Cyrus" "Kyros" الثاني "557 -529ق. م." "559- 529ق.م"، وذكر أن هذا الملك عين واليا عنه على "العربية" "Arabiai" "Arabioi" ويظهر من ورود لفظة "Arabiai" بعد "Kappadokia" أن المراد بها "الجزيرة"، أي "Mesopotamia"، أو جزء منها. ويظهر من موضع آخر أن "العربية" هي المنطقة الواقعة في شرق "Araxes" أي "الخابور.
وقد من العرب في أخبار حملة "كيرش" على "بابل" أن جماعة من العرب كانت تحارب معه. وكانت تلك الجماعة من الأعراب الراكبين للجمال. وذلك في سنة "539" قبل الميلاد.

(1/639)


--------------------------------------------------------------------------------

ويتبين من مراجعة الموارد اليونانية التي تعرضت لتاريخ وجغرافية العراق، أن اليونان آخذوا يطلقون لفظة "Arabioi" من هذا الوقت فما بعده بمعنى "العرب" و "عرب"، أي علما لقوم وشعب على نحو ما كانوا يطلقون من أسماء على الشعوب الأخرى. وقد ذكروهم في جملة شعوب الجزيرة،أي "Mesopotamia". وقد أخذوا ذلك من "الأيونيين" "Ionien". وعلى هذا فيكون مراد "اكسينوفون" وغيره من العربية الأرض التي غلب عليها العرب. ومعنى هذا توسع العرب في زحفهم وتقدمهم نحو الشمال وتغلبهم على أرضين جديدة كان سكانها من بني إرم وغيرهم، وتعرب كثير من بني إرم وتكوين طبقة عربية مستعربة.
ولما قام "قمبيز" الثاني "قمباسوس" "Cambyses" بغزو مصر سنة "525ق. م."، وطلب معونة العرب، أمدوه بالجمال، وبالماء، وساعدوه مساعدة كبيرة لولاها لما تمكن من الوصول إلى مصر. ويزعم "هيرودوتس" أن "فانس" "Panes"، الذي خان سيده فرعون مصر، فهرب منه وذهب خلسة إلى "فمبيز" وحثه على فتح مصر، أشار على الملك بأن يستعين بالعرب ليساعدوه في اجتياز الصحراء. وكان الملك يفكر في الصعوبات التي ستعترض جيوشه في قطع تلك الفيافي والقفار، ومن أهمها قلة الماء. فلما اقتنع الملك بصواب رأي "فانس" وصدقه، أرسل رسولا إلى مللك العرب ليتفاوض معه في هذا الأمر، فوافق العرب على تقديم المساعدات فهيأوا قربا كثيرة ملؤوها بالماء، وحملوها على ظهور جمالهم حيث قدموها إلى الفرس.
ولم يشر "هيرودوتس" إلى اسم الملك العربي الذي وافق علي تموين الجيش الفارسي بما يحتاح اليه في حملته على مصر بالماء، ولم يشر أيضا إلى الأرض التي كان يحكمها. وقد يكون هذا الملك أحد ملوك النبط الذين كانوا يحكمون في أعالي الحجاز وفي الأقسام الجنوبية من الأردن وطور سيناء، وقد يكون أحد كبار سادات القبائل العربية الكبيرة في طور سيناء، حيث كان له سلطان واسع كبير على اللأعراب الساكنين في هذه الأرضين.

(1/640)


--------------------------------------------------------------------------------

وأشار "هيرودوتس" في معرض كلامه على تزويد العرب فمبيز بالماء، إلى وجود نهر عظيم في بلاد العرب، دعاه: "كوريس" "قوريس" "corys"، زعم إنه صعب في "البحر الأرتيري" "البحر الأرتيري" "Ertythreean Sra" أي البحر الأحمر، قائلا: إن هاك من زعم إن ملك العرب عمل انبوبا من جلود الثيران والحيوانات الأخرى لنقل المياه من النهر إلى صهاريج، أمر بحفرها وعملها في الصحراء لخزن الماء فيها، وان هناك ثلاثة خطوط من هذه الأنابيب تنقل الماء إلى ممسافة اثني عشر يوما من النهر إلى موضع هذه الصهاريج.
ولا يعقل إن يكون في بلاد العرب نهر على الوصف الذي ذكره "هيرودوتس" في ذلك العهد. كما إن الأنابيب المذكورة الممتدة إلى تلك المسافات المذكورة، هي من مخيلات القصاص الذين أخذ منهم ذلك المؤرخ خبره. والظاهر إن الذين حدثهوه عن ذلك النهر، كانوا قد سمعوا أو شاهدوا السيول التي تصب في البحر الأحمر في مواسم الأمطار الشديدة، فتصوروها أنهارا عظيمة تجري طاول السنة. اما الصهاريج، فإنها معروفة في بلاد العرب، ولا سيما شمال العربية الغربية، تأتي إليها مياه الأمطار فتملؤها، وتغطي فتحاتها، فلا يعرف مواضعها إلا أصحابها، فإذا داهمهم عدو، سدوا منافذها، فلأ يصل إلى مائها أحد. والظاهر ان الذين أمدوا الفرس بالماء، كانوا يأخذونه من الصهاريج المنتشرة في مختلف الأماكن، ومن هنا ظهرت أسطورة نقل الماء اليها من ذلك انهر في ثلاثة خطوط من الأنابيب المصنوعة من الجلود.

(1/641)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكه "هيرودوتس" في أثناء الكلام على "دارا" "داريوش" "داريوس" "Darius"، إن جميع سكان آسية الذين أذلهم "كيرش" "كورش" ثم "فمبيز" بعده، قد اعترفوا بسلطانه، الا العرب. فهؤلاء لم يخضعوا كالرقيق البتة لسلطان الفرس، و إنما كانوا قد تحالفوا معهم، وأصبحوا حلفاء وأصدقاء لهم منذ مهدوا الطويق لقمبيز للوصول إلى مصر. ولو كانت علاقاتهم غير ودية معهم، لما تمكن الفرس من القيام بذلك الغزو. وأثنى هذا المؤرخ على إباء العرب، وعلى شهامتهم، وعلى محافظتهم على الوعد والعهود.
وذكر "هيرودوتس" أن الأرضين بين "Phoenicia"، أي "فينيقية" ومدينة "Cadytis"، كانت تابعة للسريان الفلسطينيين "Palaestine Syrian". أما الأرضون بين مدينة "Cadytis" وموضع "Jenysus" "Ienysos"، فقد كانت تابعة للملوك العرب، ويريد بهم عددا من سادات القبائل ولا شك، ويرى "جميس رنل" "James Rennell" أن مدينة "Cadytis" هي القدس ويرى آخرون إنها "غزة". وأما "Jenysus"، فهي "خان يونس" في جنوب غربي "غزة" على رأي "جيمس رنل".
يتبين من قول "هيرودوتس" هذا إن العرب كانوا في أيام "فبيز" أي قبل الميلاد بعدة قرون، في هذه المنطقة من فلسطين. وانهم كانوا قد انتشروا في "طور سيناء"، ونزلوا المناطق الشرقية من مصر، حتى ضفة نهر النيل. ولهذا السبب أطلق عليها اسم "العربية" دلالة على توغل العرب فيها.

(1/642)


--------------------------------------------------------------------------------

لقد كانت "غزة" مدينة عربية يحكمها ملوك عرب. وقد كانت في حكم ملك عربي في أيام "هيرودوتس"، وكانت كل الأرضين الواقعة بين "غزة" وبين "Rhinokolura" تحت حكم العرب أيضا وذلك منذ أيام الفلسطينيين. وقد كان يحكم "غزة" في أيام "هيرود الكبير". ملك من أهل غزة. وقد كانت "غزة" قبيل الإسلام وعند ظهوره فرضة العرب، يقصدها أهل العربية الغربية للبيع والشراء. ولا أستبعد أن تكون "غزة" فرضة عرب العربية الغربية في هذا الوقت أيضا. وقد كان تجار العربية الشرقية يقصدونها أيضا على الرغم من بعد المسافة واتساع الشقة، فقد كان أهل "الجرعاء" "جرها" "Gerrha"، يقصدونها، حاملين معهم تجارة الهند وما وراء الهند، فتأخذهم إبلهم عن طريق الواحات والآبار إلى "دومة الجندل" ومنها إلى جنوب فلسطين فغزة حيث يبيعون ما عندهم ويشترون ما يحتاجون إليه من حاصلات البحر المتوسط ثم يعودون بأموالهم الجديدة إلى بلادهم ليبعها هناك، أو لشحنها إلى ما وراء الخليج من أرضين.
وفطن "دارا" لخطورة المشروع القديم، مشروع ربط البحر المتوسط بالبحر الأحمر عن طريق نهر "النيل" فاحتفره. وقد وضع أساس هذا المشروع "رامسيس الثاني"، غير إنه امتلأ بعد ذلك بالرمال مرارا، فاحتفره من جاء من بعده من الملوك. وذكر "هيرودوتس" أن الفرعون "نخو" "Necos" كان قد أرسل بعثة دخلت الخليج العربي، أي البحر الأحمر في اصطلاح اليونان عن طريق القناة التي حفرت بين النيل وهذا البحر، وكانت هذه البعثة من الفينيقيين للبحث عن أعمدة "هرقل" "Hercules".
ويرى بعض الباحثين احتمال كون الملك التي حكم "غزة" في هذا العهد، ملك من ملوك اللحيانيين.

(1/643)


--------------------------------------------------------------------------------

واهتم "دارا" بأمر التجارة البحرية، فامر "Skylax" من اليونانيين بالذهاب إلى البحر الأحمر والمحيط الهندي لكشف تلك المناطق وتكوين صلات تجارية معها، فوصل هذا المكتشف اليوناني - على رواية هيرودوتس - إلى الهند. وهو بذلك أول يوناني يبلغنا خبره حتى الآن، يدخل البحر الأحمر، ويطوف حول جزيرة العرب للوصول إلى الهند. ويفخر "دارا" في كتابته التي أشار فيها إلى مشروع القناة، بأنه استطاع أن يسير السفن عبرها من مصر إلى أرض فارس. وقد كانت هذه الخطوة من أعظم الخطوات في تأريخ العالم،ولاشك.
وقد أثرت تأثرا خطيرا في التجارة العربية في البحار، إذ فتحت البحر الأحمر والبحر العربي والمحيط الهندي لمنافسين أقوياء، صار بإمكانهم شراء تجارة أفريقية والهند وسواحل جزيرة العرب بأسعار رخيصة، لبيعها في الأماكن التي تريدها والتي كانت تشتريها بأثمان عالية، وبذلك أخذت من التجار العرب جزءا كيرا من أرباحهم، وألحقت بتجارتهم مع البحر المتوسط ضررا لا يستهان به.
ولما تحدث "دارا" عن الأرضين التي خضعت لحكمه، أدخل "عرباية" "أرباية" "Arabaya" في جملة تلك البلاد. وقد دعاها ب "ماتو أريبي" "Matu A-ra-bi" في النص البابلي. ولم يقصد "دارا" ب "عرباية" كل البلاد العربية، أي جزيرة العرب وبادية الشام، وإنما أراد بها بادية الشام، كما تحدثت ذلك في شرح المراد من "ماتو أريري" في الكتابات المسمارية. وقد كانت هذه البادية مثل جزيرة العرب موطنا للأعراب منذ وجد العرب.

(1/644)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذكر "هيرودوتس" إن بلاد العرب كانت تقدم جزية سنوية من الطيب إلى "دارا"، إلا إنه لم يحدد مكان البلاد العربية، ولم يشر إلى العرب الذين دفعوا هذه الجزية. ولما كانت هذه الجزية طيبا، فأنها تحطنا على التفكير في أن الغرب الذين دفعوها كانوا من رجال القوافل المتاجرة التي تأتي، بتجارة العربية الجنوبية ليبيعها في بلاد الشام ومصر، وكان الطيب والبخور من أهم المواد الرائجة في أسواق تلك البلاد. وهذه الجزية لم تكن بالمعنى السياسي المفهوم الذي يدل على خضوع العرب للفرس، وإنما كانت جعالة سنوية تدفع للسلطات الحاكمة على تلك الأسواق مقابل السماح لها يالاتجار، أو إن "هيرودوتس" عنى ببلاد العرب الأرضين التي كان يسكنها العرب ودخلت تحت حكم الفرس، وعنى بالعرب الذين دفعوها بعض القبائل العربية التي كانت تقيم في مصر أو طور سيناء أو بادية الشام.
ويلاحظ إن "هيرودوتس" كان قد ذكر، كما بينت قبل قليل، إن العرب لم يخضعوا للفرس في أيام كورش ولا في أيام فمييز، و إنما كانوا حلفاء للفرس. فيظهر من كلام "هيرودوتس" الأخير إن العرب الذين خضعوا للفرس ولدارا، هم من أعراب بادية الشام، ومن كانت منازلهم وديارهم في فلسطين وفي طور سيناء. ويرى بعض المؤرخين إن "العربية" التي خضعت لحكم "دارا" لم تكن جزيرة العرب، و إنما منطقة الجزيرة الواقعة بين "بابل" وآشور، مثل منطقة "سنجار" "Singara" و "الحضر"، وكان العرب قد توغلوا فيها.

(1/645)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ورد في خبر للمؤرخ "اكسينوفون" "Xenophpn" وفي كتابة ل "كيرش الثاني" "Kyros II" "Kyrush II"، ما يفيد إن العرب كانوا قد خضعوا الأخمينيين. فورد في كتابة "كيرش" مثلا: "ملوك الأرضين الغربية الذين يقطنون في الخيام"، وذلك في جملة من اعترف بسلطان الملك عليهم. غير إن هذه الإشارات لا تفيد إن العرب كانوا قد خضعوا لهم مدة طويلة، كما إنها لا تدل على خضوع حقيقي لهم، ولا سيما وقد ذكرنا إن "هيرودوتس" قد صرح إن العرب لم يخضعوا لحكم الفرس.
وأشار "هيرودوتس" إلى وجود فرقة عسكرية من العرب في الجيوش الفارسية التي كانت بمصر، كان على رأسها قائد فارسي دعاه "ارسامس" "Arsames"، وقال إنه أحد أولاد "دارا". ويظهر إن هؤلاء الجنود هم من عرب مصر، أي من العرب القاطنين هناك، ولعلهم من سكان الأرضين المحصورة بين النيل والبحر الأحمر. وقد كان العرب ينزلون هذه المنطقة والمنطقة شرقي النيل وجنوب البحر المتوسط والمتصلة بطور سيناء منذ القديم. فالعرب كانوا من قدماء سكان مصر، لا كما يتصور بعضهم من انهم دخلوا مصر الفتح، وانهم لذلك غرباء لا صلة هناك بينهم وبين المصريين قبل الإسلام. والمعروف إن "الهكسوس" الذين حكموا مصر كانوا من العرب في رأي كثر من العلماء، بل في نظر قدماء المصرين، كما حكى ذلك الراهب المصري المؤرخ "مانيتو" "Manetho" في كتابه المؤلف باليونانية في القرن الثالث قبل الميلاد. وقد ذهب بعض الباحثين إلى إن "هيرودوتس" قصد ب "العرب" النبط، غير إن بعضا آخر يخالف هذا الرأي ويعترض عليه، فيرى إن النبط لم يظهروا ظهورا بينا إلا في أواخر أيام الأخمينيين، وكان ظهورهم في "بطرا" "Patra" وما حولها. أما مملكتهم فلم تقم إلا في القرن الثاني قبل الميلاد. ولهذا فإن العرب الذين قصدهم المؤرخ اليوناني، هم عرب آخرون، وان الأرض التي أرادها ذلك المؤرخ هي: طور سيناء حتى شواطئ نهر النيل.

(1/646)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من الإشارات الواردة في التوراة، أن عرب الضواحي، كانوا يقيمون في مستوطنات، عرفت ب "حاصير" "حازير" "حاصور" "حصور" "Haser" في العبرانية. ومعناها: "محاط". وقد كانوا أشباه بدو في الواقع. أناخوا في هذه المواضع واستقروا بها وامتهنوا الرعي.
وكان الجنود العرب يلبسون كما يقول "هيرودوتس" نوعا من الثياب يسمى "زيرا" "Zeria"، وهي ثياب طويلة تشد عليها الحزم، ويحمل مرتدوها على أكتافهم اليمنى قسيا طوالا. أمها في حاله عدم استعمالها، فيلقونها على ظهورهم. والظاهر أن هذه الكلمة هي تحريف "السيرا". و"السيرا": "ضرب من البرود، وقيل: ثوب مسير، فيه خطوط تعمل من القز كالسيور. وقيل: برود يخالطها حرير. وقيل: هي ثياب اليمن لا. ويلاحظ أن الثياب المخططة كانت ولا تزال شائعة بين شعوب الشرق اللأدنى، فلا تستبعد أن تكون كلمة "Zeira" تصحيفا أو تحريقا للسيراء، وهي أقرب إليها من لفظة "إزار" أو مئزر على ما أرى.
وقد ألف الفرس - بالإضافة إلى الجنود الغرب المشاة كتائب عربية من الهجانة، تقاتل على الإبل، يلبسون ملابس المشاة، ويحملون أسلحتهم. يقول "هيرودوتس": إنهم كانوا يرضعون في مؤخرة الفرسان، تجنبا لانزعاج الخيل إذا ما سارت مع الإبل.
وقد استعملت دول أخرى كتائب عربية من الهجانة في جملة القوات المحاربة، للعمل في البوادي خاصة ، حيث يصعب على المشاة والفرسان اجتيازها وتعقيب الأعراب. ولا تزال كتائب الهجانة محافظة على حياتها بين القوات المحاربة، ولحماية الحدود الصحراوية حتى الآن.
وقد ألف العرب فرقة محاربة من الرماة بالسهام ومن المقاتلين، اشتركت في جيش "احشوبرش" "Xerxes" "485 -465 ق. م 0".
وقد أدخل الملك "احشوبرش" "العربية" "Arabia" في جملة البلاد التي كانت قد خضعت لحكمه، وذلك في نص من أيامه، عثر عليه. وقد ذكر "العربية بعد موضع "Maka" وقبل موضع "Gandara".
الفصل السادس عشر
العرب والعبرانيون

(1/647

admin
12-26-2010, 01:12 PM
لم تذكر التوراة "العرب" في مواليد بني نوح: سام، وحام، ويافث. ولكنها ذكرت أسماء قبائل لا شك في أصلها العربي، وفي سكناها في جزيرة العرب. وهذا يؤيد ما ذهبت إليه من أن كلمة "العرب" لم تكن تعني قومية خاصة، ولم تكن تؤدي معنى العلمية، و إنما ترادف "الأعراب والبدو، أي سكان البادية، ولهذا لم تذكر في جدول الأنساب، وذكرت في مواضع أخرى من التوراة، لها علاقة بالبادية والتبدي والأعرابية. والا لم تسكت عن ذكر العرب بين الشعوب المصنفة في الجدول المذكور، وقد كان العرب يجاورون العبرانيين وكانوا على اتصال بهم دائم، فكان ينبغي ذكرهم في ذلك الجدل، لو كانت هذه التسمية تعني العلمية في الأصل، وتعني جميع سكان جزيرة العرب من حضر وبدو. إما وهي لم تكن تعني إلا قسما من العرب، وهم الأعراب أي حالة خاصة من الحالات الاجتماعية، فلذلك لم تذكر، ومن ذكر في الجدول كلهم حضر مقيمون يعرفون بأسمائهم، وهم معروفون، أو قبائل أعرابية عرف العبرانيون أسماءها فذكروها، فمن طبع العبرانيين إطلاق لفظة "العرب" على الأعراب الذين لا يعرفون أسماءهم وعلى البدو عامة دون تخصيص.
والبدو هم طبقة عاشت عيشة خاصة، ولم تكن قبيلة واحدة أو قبائل معينة محدودة يمكن حصرها وإرجاعها إلى نسب واحد، على نحو ما نفهم من كنعانيين وفينيقيين، ثم إن الأعراب لم يكونوا ينتسبون إلى جد واحد ولا إلى أب معين، لذلك لم تدخلهم التوراة في عداد الشعوب.

(1/648)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذهب جماعة من المستشرقين إلى إن العبرانيين هم قوم أصلهم من جزيرة العرب، هاجروا منها وارتحلوا عنها على طريقة الأعراب والقبائل المعروفة نحو الشمال. وجزيرة العرب لذلك هي الوطن الأم الذي ولد فيه العبرانيون. ودليلهم على ذلك هو الشبه الكبير بين حياة العبرانيين وحياة الأعراب، وان ما ورد في التوراة وفي القصص الإسرائيلي عن حياة العبرانيين، ينطبق على طريقة الحياة عند العرب أيضا، ثم إن أصول الديانة العبرانية القديمة وأسسها ترجع إلى أصول عربية قديمة. أضف إلى ذلك إن العرب والإسرائيليين ساميون، وجزيرة العرب هي مهد الجنس السامي، فالعبرانيون على رأيهم هم من جزيرة العرب، وهم جماعة من العرب إذن إن صحت هذه التسمية، بطرت على أمها وعاقتها وهربت منها إلى الشمال.
و إذا جارينا التوراة في قولها بالأنساب، نرى أن العرب والعبرانيين هم على رأيها من أصل واحد، هو سام بن نوح، ونرى أيضا إنها تعترف ضمنا بقدم "اليقطانيين"، أي القحطانيين على الإسرائيليين. فاليقطانيون هم أبناء يقطان ابن عابر بن شالح بن أرفكشاد بن سام. وعلى ذلك فهم أقدم عهدا من بني إسرائيل، وأعرق حضارة ومدنية منهم، ولا سيما إذا ما عرفنا أن كلمة "عبري" على رأي كثير من العلماء تعني التحول والتنقل، أي البساوة، أي انهم كانوا بدوا أعرابا "يتنقلون في البادية قبل مجيئهم إلى فلسطين واستقرارهم بها وتحضرهم، على حين كان القحطانيون متحضرين مستقرين أصحاب مدن وحضارة. كذلك جعلت التوراة الفرع العربي الآخر الذي وضعته في قائمة أبناء "كورش" أقدم عهدا من الإسرائيليين.

(1/649)


--------------------------------------------------------------------------------

لقد كان العرب ، بدوا وحضرا على اتصال بالعبرانيين، فأينما عاش العبرانيون عاشوا مع العرب. ولعل هذا الاتصال هو الذي حمل نسابيهم على عد العرب ذوي قربى لليهود، ومن ذوي رحمهم. وكان العرب حتى في أيام تكوين العبرانيين حكومة في فلسطين يؤثرون تأثيرا خطيرا في الوضع السياسي هناك. وقد كانوا يقطنون بكثرة في الأقسام الشرقية والجنوبية من فلسطين وفي طور سيناء وغزة. بل وكانوا يقطنون في القدس كذلك.
ومن علماء التوراة من يرى أن "أيوب"، صاحب السفر المسمى باسمه، أي "سفر أيوب" وهو من أسفار التوراة، هو رجل عربي، إذ كانت كل الدلائل الواردة في سفره تدل على إنه من العرب، فقد كان من أرض "عوص" Uz"" و "عوص" وإن اختلف العلماء في مكانها، فالراجح عندهم إنها في بلاد العرب في "نجد"، أو في بلاد الشام في "حوران"، أو في "اللجاة"، أو على حدود "ادوم" "Idumaea"، أو في العربية الغربية في شمال غربي "المدينة". ويرى بعضهم إنه كان يسكن في شرق فلسطين أو في جنوب شرقيها، أي في جزيرة العرب، أو في بادية الشام.
وسبب هذا الخلاف، هو أن التوراة لم تحدد مكان ارض "عوص"، فبينما نرى أن سفر "أيوب" يتحدث عن هجوم "أهل سبأ" على ملك "أيوب" واستياق بقر كانت له تحرث الأرض وأتن ترعى، مما يشعر أن أرض "أيوب" التي هي "عوص"، كانت على مقربة من السبئيين. نرى هذا السفر يذكر. بعد آية واحدة هجوم ثلاث فرق من الكلدانيين على ابل "أيوب"، مما يجعلنا نتصور أن أرض "عوص" كانت على مقربة من الكلدانيين، أي في البادية. القريبة من الفرات،. والرأي عندي أن "أيوب" كان رجلا. غنيا يملك ابلا وبقرا وأتنا، وأملاكا، وربما كان سيد قبيلة، وله رعاة يتنقلون بماشيته في بادية الشام ما بين العراق وفلسطين وأعالي الحجاز، فأغار "أهل سبأ" على بقر له كانت تحرث أرضه وعلى أتن كانت ترعى في أرضه، وأخذوها من رعاته وحراسه.

(1/650)


--------------------------------------------------------------------------------

وهؤلاء السبئيون، هم من السبئيين النازحين إلى الشمال والساكنين في أعالي الحجاز وفي الأردن. فالغارة كانت في هذه المنطقة. أما غارة الكلدانيين فكانت في العراق على مقربة من أرض الكلدان، وذلك لأن رعاة إبله كانوا قد تنقلوا إلى هناك على عادة الأعراب حتى اليوم في التنقل بإبلهم من مكان إلى مكان طلبا للماء والكلأ، فاستولى الكلدانيون عليها وأخذوها، ولا علاقة لهاتين الغارتين بموطن أيوب.
وقد ذكر في سفر "أيوب" إنه "كانت قنيته سبعة آلاف من الغنم وثلاثة آلاف من الإبل وخمس مئة فدان بقر وخمس مئة أتان. وله **** كثيرون جدا، وكان ذلك الرجل أعظم أبناء المشرق جميعا". وتدل هذه الأرقام والأوصاف المذكورة لثروته إنه كان من أعاظم الأغنياء في أيامه، وأنه كان من "أبناء الشرق"، هي ترجمة لجملة "ببي قيديم" "Bene Kedem" العبرانية، وليس في التوراة تحديد لمكان "بني قيديم" "بني قديم"، ولا تعريف لهم، ولكن التسمية العبرانية هذه، تشير إلى أن المراد منها من كان يقيم في شرق العبرانيين ولا سيما في البادية الواقعة شرق فلسطين. فهم إذن في نطر لعبرانيين، الساكنون في شرقهم. ولما كان أيوب من "بني قيديم"، ومن أرض "عوص"، فيجب أن تكون أرض "عوص" في البادية في شرق فلسطين، أي في منازل "بني قديم" الممتدة إلى العراق، وهي مواطن الأعراب. وقد عرف واشتهر بعض "بني قيديم" بالحكمة عند العبرانيين.
ويستبدل من يقول بعروبة "أيوب" بالأثر العربي البارز على "سفر أيوب". ومن قدماء من قال بوجود أثر للعروبة في سفره، العالم اليهودي "ابن عزرا" "بن عزرة" "Idn Ezra" "Ben ezra" من رجال القرن الثاني عشر. وقصد تبعه في ذلك جماعة من الباحثين الذين وجدوا في الكلمات والتعابير والأسماء الواردة في ذلك السفر ما يشر إلى وجود أثر عربي عليه، حتى ذهب بعضهم إلى أن%)633( ذلك السفر هو ترجمة لأصل عربي مفقود.

(1/651)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي أثناء حديث التوراة عن أيام "داوود" وملكه، أشارت إلى رجل كان من شجعانه وأبطاله الذين تباهى بهم وافتخر، دعته "أبيل" العربي "Abiel" وكان من أهل "بيت عرابة" "بيت عربة" "Beth-Arabah" في تيه " "يهودا". ويدل لقبه هذا والموضع المذكور إنه كان من العرب، وأشارت إلى رجل آخر، ذكرت إنه كان على جمال "داوود"، دعته ب "أوبيل الإسماعيلي" "Obil"، فهو من العرب الإسماعيليين. ولا يستبعد أن يكون هذا الرجل من وجوه الأعراب، ولذلك أوكل إليه أمر إبله، وهي حرفة من صميم عمل أبناء البادية.
وقد أشر في سفر "يوئيل" إلى السبئيين، فورد فيه: "ها أنا ذا أنهضتهم من الموضع الذي بعتموهم إليه، وأرد عملكم على رؤوسكم، وأبيع بنيكم وبناتكم بيد بني يهوذا ليبيعوهم السبئيين لأمة بعيدة، لأن الرب قد تكلم". وقد ورد هذا التهديد لأن الصوريين والصيدونيين وجميع دائرة فلسطين كانوا قد استولوا على فضة الهيكل في "أورشليم" وذهبه ونفائسه، وباعوا "بني يهوذا" و "بني أورشليم" لبني "ياوان"6 أي اليونان. فورد هذا التهديد على لسان "يهوه" إله إسرائيل متوعدا أولئك الذين نهبوا الهيكل وأسروا "بني يهوذا" و "بني أورشليم"، أي سكان القدس، وباعوهم لليونان، بمصير سيئ، وبانتقام الرب منهم، وبقرب ورود يوم، يبيع فيه "أبناء يهوذا"، أي العبرانيين أبناء المذكورين إلى السبئيين.
وتدل جملة "للسبئيين، لأمة بعيدة" على إن السبئيين المذكورين كانوا يسكنون في منازل بعيدة عن العبرانيين. ويظهر إنها قصدت السبئيين أهل اليمن، فهم بعيدون عن فلسطين. وكان تجار سبأ يأتون أسواق اليهود لشراء ما فيها من بضاعة بشربة لاستخدامهم في سبأ.
%)645( وفي التوراة خبر زيارة ملكة "سبأ" لسليمان، وقصة هذه الزيارة، وان دونت فيما بعد، كتبها كتبة التوراة بعد عدة قرون، إلا إنها تستند إلى قصص قديم كان متداولا ولا شك بين العبرانيين، فدونه هؤلاء الكتاب.

(1/652)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد رأى بعض نقدة التوراة إن هذه القصة قد كتبها أولئك الكتبة لاثبات عظمة سليمان، وسعة دولته، وشهرة حكمه. غير إن هذا لم يبت به حتى الآن. ورأى آخرون إن هذه الملكة لم تكن ملكة "سبأ" في اليمن، لعدم ورود أسماء ملكات في النصوص العربية الجنوبية، بل كانت ملكة تحكم في العربية الشمالية، تحكم جماعة من السبئيين الذين كانوا قد نزحوا إلى هذه المناطق منذ عهد بعيد، وكونوا مستوطنات سبئية في الأردن وفي أعالي الحجاز.
وتعلل التوراة سبب زيارة ملكة سبأ. لسليمان بقولها: "وسمعت ملكة سبأ بخير سليمان لمجد الرب، فأتت لتمتحنه بمسائل، فأتت إلى أورشليم بموكب عظيم جدا. بجمال حاملة أطيابا وذهبا كثيرا جدا وحجارة كريمة، وأتت إلى سليمان وكلمته يكل ما كان بقلبها". فلما سألته ورأت "البيت الذي بناه وطعام مائدته ومجلس ****ه وموقف خدامه وملابسهم وسقائه ومحرقاته التي كان يصعدها في بيت الرب، لم يبق فيها روح بعد، فقالت للملك: صحيحا كان الخبر الذي سمعته في أرضي عن أمورك وعن حكمتك، ولم أصدق الأخبار حتى جئت وأبصرت عيناي ". وأعطت "سليمان" " مئة وعشرين وزنة ذهب وأطيابا كثيرة جدا وحجارة كريمة لم يأت بعد مثل ذلك الطيب في الكثرة الذي أعطته ملكة سبأ للملك سليمان".

(1/653)


--------------------------------------------------------------------------------

وجاء في سفر "الملوك الأول" حكاية عن الذهب الذي وصل إلى سليمان: "وكان وزن الذهب. الذي أتى سليمان في سنة واحدة ستمئة وست وستين وزنة ذهب، ما عدا الذي ورد من عند التجار وتجارة التجار وجميع ملوك العرب وولاة الأرض ". ولا تعني جملة "وجميع ملوك العرب" و " كل ملك ها عرب" في رأيي ونظري ملوك جزيرة العرب، كما يفهم ذلك من ظاهر النص، و إنما تعني رؤساء أعراب كانوا يقيمون على مقربة من فلسطين، وفي فلسطين نفسها، دفعوا إليه هدايا وضرائب، لأنهم كانوا يتاجرون مع العبرانيين، فقدموا إليه هدايا على قاعدة ذلك اليوم. وقد رأينا إن الآشوريين كتبوا مثل ذلك عن العرب وعن غيرهم في نصومهم، إذ لا يعقل خضوع كل ملوك جزيرة العرب لسليمان. فلم يكن ملكه قد جاوز حدود العقبة، كما نجد في التوراة، وقد ذكرنا إن لفظة "ها عرب"، أي "العرب" إنما كانت تعني الأعراب والبدو في العبرانية، ولذلك فجملة "وكل ملوك العرب" تعني " وكل رؤساء الأعراب"، وهم كثيرون. فقد كانوا قبائل وعشائر، ولكل قبيلة وعشرة سيد ورئيس. وقد كان منهم عدد كبير في فلسطين وفي طور سيناء.

(1/654)


--------------------------------------------------------------------------------

ووجه "سليمان" أنظاره نحو البحر، ليتجر مع البلاد الواقعة على البحار، وليستورد منها ما يحتاج العبرانيون إليه، فأنشأ أسطولا تجاريا في "عصيون جابر" "Ezion Geber" على خليج الققبة بجانب "أيلمة" "أيلوت" "Eloth" "ايلات" "Elath"، من أرض "أدوم". وقد عرف خليج العقبة بي "بحر سوف"، "يم - سوف" "Yam-Soph" في العبرانية. ولما كان العبرانيون لا يعرفون البحر، استعان سليمان ب "حيرام" ملك "صور" في تستير الأسطول وتدريب العبرانيين على ركوب البحر. فأمده بخبراء من صور، تولوا قيادة السفن، يخدمهم رجال سليمان. فمخروا البحر حتى وصلوا إلى "أوفير"، وأخذوا من هناك ذهبا، زنته أربع مئة وعشرون وزنة، أتوا بها إلى سليمان. ويظن إن "عصيون جيبر" "عصيون جمبر" "عصيون جابر" "Ezion Geber" كانت عند "عين الغديان" في قعر وادي العربة، على رأي بعض الباحثين،أو "تل الخليفة" على رأي بعض آخر. وقد عرفت ب "Bernice" فيما بعد، وتقع إلى الغرب من العقبة. وقد قامت بعثة أمريكية بحفريات علمية بين 1938 و1940 في هذا الموضع، وظفرت - فيما عثرت عليه من الآثار- بأدوات مصنوعة من النحاس ومن الحديد. والظاهر إن سكان هذا الموضع كانوا يحصلون على النحاس من مناجمه الغنية في "طور سيناء".
وفي جملة ما عثر عليه من آثار في "تل الخليفة" جرتان، عليهما كتابات بأحرف المسند، وقد قدر أن تاريخ صنعهما لا يقل عن القرن الثامن قبل الميلاد. وتدل أحرف المسند هذه على إن صانعيها كانوا يكتبون بهذا القلم، وقد رأى بعض الباحثين، إنها من صنع أهل مدين. و إذا صح هذا الرأي فإنه يكون دليلا على آن المدينيين كانوا يكتبون به. ويرى "ريكمنس" "G. Ryckmans" أن لهذه الكشوف صلة بالمعينيين الذين كانوا في العلا وتبوك.

(1/655)


--------------------------------------------------------------------------------

وترى طائفة من علماء التوراة أن "أوفير" التي اشتهرت بوفرة ذهبها، والتي أرسل "سليمان" إليها سفنا مع سفن "حيرام" في طلب الذهب وخشب الصندل والحجارة الكريمة، هي أرض في بلاد العرب. ونظرا إلى ورود اسمها بين "شبا" و "حويلة" في الإصحاح العاشر من التكوين، ذهب بعضا لعلماء إلى وقوعها في الأقسام الشرقية أو في الأقسام الجنوبية من جزيرة العرب. ورأى "كلاسر" إنها المنطقة الواقعة على ساحل خليج عمان والخليج العربي. وذهب نفر آخر من علماء التوراة إلى وقوع "أوفير" في إفريقية أو في الهند. ولكن الرأي الغالب إنها في العربية على ما ذكرت. وذلك، لما ورد في التوراة من أن "أوفير" ابن من أبناء "يقظان"، وقد ذكر بين "شبا" و "حويلة"، ونظرا إلى أن مواطن اليقطانيين هي ما بين "ميشا وأنت آت نحو سفار جبل المشرق". و "ميشا" وإن تباينت آراء العلماء في تعين مكانه فمنهم من ذهب أنه "ميسيني" "ميسان" "Mesene" على رأس الخليج، "خليج البصرة"، أو "ماش" "ماشو" "Mashu" الأرض المذكورة في الكتابات الآشورية، والتي تعني بادية الشام. أو أنه موضع "موزح" أ, "موسح" في نجد. إلا أنك ترى من كل آرائهم انه اسم مكان في بلاد العرب، أو اسم قبيلة عربية، وأن "سفار" وهي الحد الآخر من حدود منازل اليقطانيين هي ظفار" "Zafar" ، عاصمة مملكة حضرموت القديمة على رأي علماء التوراة. وما كانت أسماء أبناء يقطان المذكورين, والذين قد تحققنا من هويتهم كناية عن أسماء مواضع في جزيرة العرب، وجب إن تكون "أوفر" في جزيرة العرب كذلك.
ومن الباحثين من يرى إن "أوفير" هي "عسير"، ورأى آخرون إنها ارض "مدين" وقد رجح أكثرهم كونها على سواحل جزيرة العرب الغربية او الجنوبية، لأن الأماكن هي اقرب إلى الوصف الوارد في التوراة من الأماكن الأخرى.

(1/656)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذكر الهمداني في "معادن اليمامة" موضعا سماه "الحفير"، قال:" ومعدن الحفير بناحية عماية ، وهو معدن ذهب غزير". وصلة وجود الذهب فيه بغزارة، تنطبق على هذا الموضع أحسن انطباق، الا إن هذا الموضع بعيد عن البحر، ولكن من يدري? فلعل كتاب التوراة لم يكونوا يعرفون مكان "أوفير"، وإنما سمعوا بذهبه، الذي يتاجر به العرب الجنوبيون، من الموانئ الساحلية، فأرسل سليمان سفنه إلى مواضع بيعه في سواحل جزيرة العرب لشرائه ومن هنا ظن كتاب "العهد القديم" إن "أوفير" على ساحل البحر. و "الحفير" كما ترى اسم قريب جدا من "أوفير".
وقد ضرب المثل بكثرة تبر "آوفير"، وبحسن سبائك ذهبها، فورد في سفر "أيوب" على لسان "اليفاز التيماني" مخاطبا "أيوب"، داعيا إياه إلى توجيه وجهه لله:" فانك إن تبت إلى القدير، يعاد عمرانك وتنقي الإثم عن أخبيك، فتجعل التبر مكان التراب وسبائك أوفر مكان حصى الأودية" وأنشأ سليمان خطا بريا آخر ينتهي بأرض اشتهرت بالذهب كذلك، سميت في التوراة "ترشيش". وقد استعان سليمان بمدربين وملاحين من "صور"، أمده بهم "حيرام" ملك "صور". وكان الأسطول مختلطا إسرائيليا وحيراميا، يذهب مرة في كل ثلاث سنوات. وأما البضاعة التي يعود بها من "ترشيش" فهي ذهب وفضة وعاج وقردة وطواويس. ولم يتفق العلماء حتى الآن على تعيين موضع "ترشيش"، فرأى بعضهم إنه مكان في إفريقية، ورأى بعض آخر إنه في مكان ما من سواحل آسية الجنوبية، ورأى آخرون إنه في أسبانية. وكانت سفن صور تتاجر مع ترشيش وتربح من هذه التجارة ربحا فاحشا، كما جاء ذلك في التوراة.

(1/657)


--------------------------------------------------------------------------------

وعلى أثر وفاة "سليمان" في حوالي سنة "937 ق. م." انشطرت حكومته شطرين: إسرائيل "Israel" و "يهوذا" "Judah". وقد أثر هذا الانقسام على أعمال العبرانيين التجارية الحرية، لذلك لا نسمع لها ذكرا في التوراة إلى أيام "يهوشافاط" "Jehoshaphat" ابن الملك "آسا" "Asa"، الذي حكم فيما بين "876" و "851" ق. م. تقريبا فتحدثنا التوراة إنه اتفق مع "أخزيا".ملك "إسرائيل" على بناء أسطول جديد في "عصيون جابر" ليسير إلى "ترشيش"، غير أن مأربهما لم يتحقق، إذ. تكسرت السفن، ولم تستطع السير إلى "ترشيش". ويظهر إنه أراد إحياء، فكرة "سليمان" القديمة في الاتصال بالبحر الأحمر والمحيط الهندي وبإفريقية وبسواحل جزيرة العرب الجنوبية وبسواحل آسية، إلا إنه لم ينجح. والظاهر أن العبرانيين لم يكونوا قد أتقنوا بناء السفن والسير بها في البحار، فأخفقوا، وأن نجاح "سليمان" في الوصول إلى "أوفير" و "ترشيش." مرده إلى خبرة ومهارة البحارة الصوريين الفينقيين.
ويظهر من سفر "الملوك الأول" إن "يهوشافاط" قام بنفسه منفردا ببناء السفن لإرسالها إلى "ترشيش"، غير إنها تكسرت في "عصيون جابر" فعرض "أخزيا بن آخاب" ملك إسرائيل عليه أن يبنيا أسطولا مشتركا، يشترك فيه ملاحون من إسرائيل وملاحون من يهوذا، إلا إنه رفض ذلك. ولم نعد نسمع بمحاولات أخرى للعبرانيين ترمي إلى إعادة فكرة "سليمان" في بناء سفن بحرية للاتجار بها مع البلاد الواقعة على البحر بمسافات بعيدة عن إسرائيل.
نعم، لقد كون "المكابيون" أسطولا تجاريا لهم جعلوا مقره في "يافا" "Jappa" ولكنهم لم يتمكنوا من بناء أسطول لهم يخترق مياه البحر الأحمر، ليزاحم العرب أو غيرهم فيه. فلم يكن الإسرائيليون من عقات البحر على شاكلة الفينيقيين أو العرب الجنوبيين أو سكان العروض. ولولا المساعدة الثمينة التي قدمها ملك صور لسليمان، لما استطاع العبرانيون أن يصلوا إلى "ترشيش ! أو "أوفير".

(1/658)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد انصرف "يهوشافاط" على ما يظهر إلى إقرار الأمن في حدود مملكته، وتحسين علاقاته مع "أخاب" ملك إسرائيل، ومع جيران "يهوذا"، حتى تمكن من عقد محالفات معهم، أدت إلى الاستقرار والهدوء، فلم يحاربوا "يهوشافاط"، وهذا مما جعل علماء يهود على التجول في مدن "يهوذا" لتعليم الناس أحكام دينهم. وحمل إليه "الفلسطينيون" هدايا وجزى دفعوها فضة، كما جاء في التوراة، ودفع إليه "العرب" كما تقول التوراة أيضا "7700" كبش و "7700" تيس. ويظهر إن "العرب" المذكورين، هم من الأعراب النازلين في "يهوذا" ومن الأعراب الذين يفدون عليها للاتجار ة وإلا فلم يدفع الأعراب الساكنون في خارج "يهوذا" جزى أو هدايا لملكها، وليس له سلطان عليهم? وقد ترجمت لفظة "عربايم" العبرانية بلفظة "عربان" في ترجمة "جمعية التوراة الأمريكانية" للتوراة إلى العربية. أما "الترجمة الكاثوليكية" فقد ترجمتها بلفظة "العرب". أما المراد من النص العبراني، فهو "الأعراب لأن لفظة "عرب"، لم تكن تعني يومئذ غلا هذا المعنى.
وتولى "يهورام" "Jahoram" "851-843 ق.م."، الحكم على مملكة "يهوذا" بعد "يهوشافاط". وتذكر التوراة أنه قتل جميع اخوته وبعض رؤساء إسرائيل بالسيف. وأنه أغضب إله "إسرائيل" بأفعاله المنكرة لذلك "أهاج الرب على يهورام روح الفلسطينيين والعرب الذين بجانب الكوشيين، فصعدوا إلى يهوذا وافتتحوا وسبوا كل الأموال الموجودة في بيت الملك مع بنيه ونسائه أيضا, ولم يبق له ابن إلا يهوحاز أصغر منه". وتذكر بعد ذلك أن الله ابتلاه بمرض في أمعائه وبأمراض رديئة "فذهب غير مأسوف عليه، وذفنوه في مدينة داوود، ولكن ليس في قبور الملوك".

(1/659)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر أن هجوم أيوب على "أورشليم" كان "هجوما شديدا عنيفا كاسحا، بدليل ما جاء في الآية التي أشرت إليها في التوراة، وفي الآية الأولى من "الإصحاح التالي" للإصحاح المذكور: "وملك سكان أورشليم أخزيا ابنه الأصغر عوضا عنه، لأن جميع الأولين قتلهم الغزاة الذين جاءوا مع العرب إلى المحلة". وفي هذا الهجوم الماحق دلالة على ضعف مملكة "يهوذا" وتضعضع الأمن فيها وعلى التناحر الشديد الذي كان بين السكان حتى أننا لنجد الشعب فرقا غير متثقفة، وأكثرها تخاصم الحكام.
ويرى "مرغيلوث" "Margoliouth" أن المراد بالعرب الذين بجوار الكوشيين. العرب الجنوبيين، أي سكان اليمن. وذلك لأنهم في جوار "ا لكوشيين" آي الحاميين، السودان، وهم سكان إفريقية، لا يفصلهم عنهم إلا مضيق "باب المندب". ويرى أيضا أن ذلك الهجوم كان بحرا، مستدلا على رأيه هذا بأن العرب المذكورين سرعان ما تراجعوا إلى منازلهم بغنائمهم وبما حصلوا عليه من أموال، دون أن يكلفوا أنفسهم البقاء في "أورشليم" والاستيلاء على "يهوذا"، وبمساعدة الفلسطينيين للعرب في هجومهم على يهوذا، وقد كان الفلسطينيون يسكنون سواحل فلسطين.
أما "موسل"، فيرى أن "العرب الذين بجانب الكوشيين"، هم العرب النازلون في الأقسام الغربية من "طور سيناء" وعلى حدود مصر، وفي الأقسام الجنوبية من "طور سيناء" وعلى مقربة من "أيلة". وقد كانت "طور سيناء" موطنا قديما للعرب، وقد أشير في الكتابات المسمارية إلى ملوك عرب، حكموا هذه الأرضين.

(1/660)

admin
12-26-2010, 01:13 PM
ويحدثنا الإصحاح السادس والعشرون من "أخبار الأيام الثاني" أن "عزيا" "Uzziah" ملك "يهوذا" "779 -740ق. م.". كان مستقيما في أول أمره مطبعا لأوامر الكهان، لذلك وفقه الله، فخرج "وحارب الفلسطينيين وهدم سورجت وسور يبنة وسور أشدود، وبنى مدنا في أرض أشدود والفلسطينيين وساعده الله على الفلسطينيين وعلى العرب الساكين في جوربعل والمعونيين. ويفهم من هذه الآيات أن الفلسطينيين والعرب كانوا جبهة واحدة متحدة ضد ملكة "يهوذا". وقد كبدوها خسائر فادحة كما رأينا. فلما تولى هذا الملك، أراد رمي صفوف أهل مملكة "يهوذا" ووقاية مملكته، وقد نال تأييد شعبه له، فحارب الفلسطينيين وتغلب عليهم، وحارب العوب الساكنين في "جوربعل" والمعونيين، وهدم أسوار المدن التي عرفت بعدائها ل "يهوذا"، وبنى مدنا جديدة في "أشدود" وفي الأرضين الساحلية المعروفة بفلسطين.
ومدينة "جث"، هي مدينة قديمة في تخوم "دان"، وبها ولد "جليات" "كلياث" "Goliath" جبار الفلسطينيين كما أنها إحدى مدنهم الخمس. وكانت في أيام داوود في يد الفلسطينينن، وكان عليها ملك اسمه "أخيش" "Achish"، ولم يعرف مكانها بالضبط. وأما "يبنة"، وتعرف أيضا ب "يبنئيل"، فإنها من مدن الفلسطينيين كذلك. وهي "بينة" في الزمان الحاضر، وتقع على بعد "2 ا" ميلا جنوب "يافا" و "3" أميال شرقي البحر، أو "يمنة" على مسافة 7 أميال جنوبي "طبرية".

(1/661)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم يتمكن علماء التوراة من تثبيت موضع "جوربعل". وتعتي لفظة "جور" "مسكن"، فكون تفسر "جوربعل" "مسكن بعل". ويظهر من ذكر الفلسطينيين والعرب الساكنين بهذا المكان والمعونيين بعضهم مع بعض أن أرضيهم كانت قريبة بعضها من بعض، وأنهم كانوا يدا واحدة على "يهوذا". ويرى "موسل" أن الزاوية الشمالية الغربية من أرضى "حسمى" هي "جوربعل". وتقع في رأيه على مقربة من جبل "إرم" الذي يعرف اليوم باسم "رم"، وهو "Aramaua" في "جغرافية بطلميوس"، ويكون حد ا من الحدود الشمالية للحجاز. وذهب بعض الباحثين إلى أن "جوربعل" تعني "صخرة بعل"، في بعض النصوص الإغريقية، ولهذا فسروها بي "بطرا". ولذلك قالوا إن العرب المذكورين كانوا العرب الساكنين عند "بطرا" "سلم" "Petra".
وأما "المعونيون"، فان آراء علماء التوراة متباينة كذلك في تعيين هويتهم. وقد ذهب.بعضهم إلى انهم جماعة من "المعينيين"، الذين كانوا في "ديدان"، وكونوا مملكة معينية شمالية. وذهب بعض آخر إلى انهم سكان "معين مصران".
وقد استعاد "عزيا" "أيلة" "ايلات" "Eloth" "elath"، وبنى ميناءها، وتقع في أرض "آدوم"، وهي فرضتها الشهيرة، ويقع على مقربة منها ميناء "عصيون جابر" الذي تحدثت عنه. وقد بقيت في ملك "يهوذا" إلى إن استولى عليها ملك "أرام". وقد حاول "عزيا" ومن جاء بعده، جعل "ايلات" "أيلة" ميناء "يهوذا" الجنوبي، وذلك للاستفادة منه في الاتجار مع إفريقية والبلاد العربية وسواحل آسية الجنوبية، تطبيقا لخطة "سليمان"، إلا إن هذا الأمر لم يتحقق، إذ لم تكن مملكة "يهوذا" قوية متمكنة في هذه المناطق الجنوبية، التي كانت هدفا للغارات والحروب.
ويظهر إن مينماء "عصيون جابر" كان قد خرب أو امتلا يالرمال، فلم يصلح للاستعمال، فرأى "حمزيا" استبدال مين اء "أيلة" به، وقد يكون ماء هذا الميناء أعصق وأصلح للملاحة وللمواصلات من ذلك المين اء، لذلك وخ اخنيار ملك "يهو ذ ا" عاث * ?.

(1/662)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي أخبار حملة "سنحاريب" التاسعة ما يفيد إن "حزقيا"- ملك "يهوذا" استخدم ال "الأريبي"، أي الأعراب، فيمن استخدمهم للدفاع عن القدس "أورشليم"، حينما حاصرها ملك آشور. ولم يكن هؤلاء العرب، إلا أعرابا من سكان "يهوذا"، ومن سكان الأرضين الأخرى في فلسطين.
وعلى عاتق هؤلاء الأعراب وقعت مسؤولية الدفاع عن القدس، حيث قاموا بدور كبير في الدفاع عنها وفي مقاومة الآشوريين.
ولما سمح الفرس ليهود بابل الذين كانوا في الأسر بالعودة إلى بلادهم، توسل "نحميا" إلى "ارتحشبا"، ملك الفرس، بالسماح له بالعودة إلى القدس، وكان "تحميا" نديما للملك، يسقيه الخمر ويؤانسه، فسمح له. ولما وصل إليها، وجد المدينة خربة، وقد تهدمت أسوارها واقتلعت أبوابها، فجمع سكانها وأمرهم بإعادة بناء الأسوار وإصلاح الثغر والثلم التي فيها، وعمل أبواب جديدة. ولكنه، لقي معارضة شديدة من "سنلبط الحوروني" و."طوبيا العبد العموني" و "جشم العربي"، إذ عارضوا في إعادة بناء الأسوار والأبواب وهددوه بالزحف على المدينة. ونجد في "سفر نحميا" وصفا لموقفهم من "نحميا"، فيه استهزاء وسخرية به وازدراء بأمر سكان "أورشليم" وبالسور الذي أخذني بنائه، وبين المستهزئين أناسمن العبرانيين. " ولما سمع سنبلط إننا آخذون في بناء السور، غضب واغتاظ كثيرا، وهزأ باليهود، وتكلم أمام اخوته وجيش السامرة، وقال: ماذا يعمل اليهود الضعفاء ? هل يتركونهم ? هل يذبحون ? هل يكملون في يوم ? هل يحيون الحجارة من كوم التراب وهي محرقة ? وكان طوبيا العموني بجانبه، فقال: إن ما يبنونه إذا صعد ثعلب فانه يهدم حجارة حائطهم". وقد تأثر "نحميا" من هذا الازدراء الشائن كثيرا، فتراه يوجه وجهه لربه ونخاطبه قائلا: "اسمع يا إلهنا لأننا قد صرنا احتقارا ورد تعييرهم على رؤوسهم واجعلهم نهبا في أرضي السبي".

(1/663)


--------------------------------------------------------------------------------

وصمم "نحيا" كما يقول على الاستمرار في البناء حتى إكماله " فلما سمع سنبلط وطوبيا والعرب والعمونيون والأشدوديون إن أسوار أورشليم قد رممت، والثغر ابتدأت تسد، غضبوا جدا، وتآمروا معا أن يأتوا ويحاربوا أورشليم ويعملوا بها ضررا". ولكنهم كما يفهم من "نحميا" لم ينفذوا تهديدهم بالهجوم على القدس، بل بقوا يتكلمون ويهددون، يرسلون الرسل إلى "نحميا" للاجتماع به "، ويذكر "نحيا" انهم لم يكونوا يريدون من هذا الاجتماع إلا الفتك به، فرفض. وعندئذ تراسل "سنبلط" و "طوبيا" مع أحد رؤساء "أورشليم" وهو "شمعيا بن دلايا"، ليدخل "نحميا" الهيكل، ثم يعلن للناس إنه دخل الهيكل خائفا هاربا، فتسقط منزلته من أعند الناس. وقد أحس "نحيا" بالمؤامرة، فرفض الدخول كما يقول.
وكان "جشم" العربي، من أشد المعارضين لبناء السور،ولتحصين القدس، وذلك لأنه كان يرى في هذا العمل إعادة لدولة "يهوذا" ولتنصيب "نحميا" ملكا على "أورشليم". وقد صرح برأيه هذا إلى "نحميا" في رسالة وجهها إليه نقل "نحميا" منها هذه الكلمات: "وجشم يقال: أنلك أنت واليهود تفكرون إن تتمردوا، لذلك أنت تبني السور لتكون لهم ملكا بحسب هذه الأمور. وقد أقمت أيضا أنبياء لينادوا بك في أورشليم قائلين في يهوذا ملك".
وما كان "جشم"، ليعارض بناء أسوار القدس ووضع الأبواب لها، وإعادة حكومة "يهوذا" التي قضى عليها البابليون إلى الوجود لو لم يكن صاحب سلطان وحكم في أرضين تجاور القدس، وهذا رأى في إعادة الملكة إلى القدس عاصمة ملكة "يهوذا" المنقرضة، تهديدا له ولمن تحالف معهم على مقاومة هذا المشروع.

(1/664)


--------------------------------------------------------------------------------

و "جشم" "Geschem" اسم من الأسماء العربية المعروفة. وفي القبائل العربية قبيلة يقال لها "جشم"، وهي من قبائل "بني سعد"، وهو أيضا "جشم" من أسماء الرجال. ويرد بصورة: "جشم" في الكتابات النبطية. ولم يشر "نحميا" إلى موطنه ومكانه، ولذلك لا ندري أين كان. وقد ذهب بعض الباحثين في التوراة إلى إنه كان من أهل "السامرة" "Samaria"، وذهب بعض آخر إلى إنه كان من أهل المناطق الجنوبية من "يهوذا" وأنه كان رئيس قبيلة فيها.
وذهب بعض، الباحثين إلى أن "جشم بن شهرو" "جشم بن شهر"، هو "جشم" المذكور في التوراة. وهو أحد ملوك قبيلة "قيدار" "قدار" "قدرو". وهو الذي عارض "نحميا" في سنة "444" قبل الميلاد في إعادة بناء سور "أورشليم". وقد كانت "قيدار" ملكة تسيطر على أرض تمتد من "دلتا" النيل إلى حدود مملكة "يهوذا" فجنوب "ديدان" بحوالي "21" كيلومترا نحو الجنوب في الحجاز، أما في الغرب فتصل حدودها بالبادية. فملك "قيدار" وهو "جشم بن شهر"، كان إذن هو المعارض لبناء السور، وفي معارضته هذه دلالة ولا شك على مقاومته لمحاولة إعادة دولة إسرائيل،من بعد السبي.
ويظن أن الإناء الذي عثر عليه بصير في موضع يقع على مسافة اثني عشر ميلا إلى غرب الإسماعيلية، وقد دون عليه اسم شخص يدعى "قينو بن جشم ملك قيدار"، هو ابن "جشم" المعاصر "لنحميا". وعلى ذلك يكون أحد ملوك "قيدار".
وقد كانت "طور سيناء" منذ القديم أرضا يسكنها العرب، حتى في أيام داوود وسليمان. ونجد أن رسالة "القديس بولس" إلى أهل غلاطية تجعل جبل سيناء في ديار العرب، وتذكر أن "طور سيناء" موطن أبناء هاجر، أي العرب. كما تجد أن النقب ووادي عربة كانا من مواطن الأعراب. وقد كان أعراب "جشم" وغيره ينتقلون وينزلون في هذه المواطن وعلى مقربة من القدس.

(1/665)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي هذا العهد وصل الاتجار بين فلسطين وبين العربية ذروته. فعثر على مواد كثيرة في مواضع متعددة من فلسطين استوردت من العربية الجنوبية. كما عثر في حضرموت على آثار تدل على إنها استوردت من فلسطين وبلاد الشام. وقد كانت حاصلات العربية الجنوبية هي من أهم السلع المطلوبة في فلسطين. ترسل، إليها عن طريق البر على ظهور الجمال.
ومنذ عهد "نحميا" أي أوسط القرن الخامس قبل الميلاد، أخذ العبرانيون ينظرون نظرة عداء إلى العرب، ويعدونهم في الجماعات المعادية لهم. وذلك مما يدل على اتخاذهم موقفا موحدا ضد العبرانيين وعلى توغلهم في فلسطين في المناطق التي حكمتها حكومتا "إسرائيل" و "يهوذا"، ولهذا اشتدت مقاومة العرب للعبرانيين واتحدوا مع الشعوب الأخرى في. قاومتهم، وفي منعهم من إعادة تكوين حكومة يهودية في هذه البلاد.
ولما تولى "يهوذا المكابي" مؤسس أسرة "المكابيين" "Maccabees" "166-161ق.م." الحكم، حارب أعداء العرانين، وكان من بينهم "تيموتاس" "Timotheus" رئيس "العمونيين"، "الذي استأجر جيشا من العرب ومن الغرباء يحارب به "يهوذا"، غير إنه أصيب كما يقول "سفر المكابين" بخسائر في كل المعارك التي خاضها مع "يهوذا"، ولم يتمكن من الانتصار علية.
وقد تحدث سفر المكابيين الثاني عن "تيموتاس" هذا، فقال: "ثم ساروا "أي اليهود" من هناك تسع غلوات زاحفين على تيموتاس، فتصدى لهم قوم من العرب يبلغون خمسة آلاف، ومعهم خمس مئة فارس، فاقتتلوا قتالا شديدا، وكان الفوز لأصحاب يهوذا بنصرة الله، فانتصر عرب البادية، وسألوا يهوذا إن يعاقدهم على أن يؤدوا إليهم مواشي ويمدوهم بمنافع أخرى". ولعل هؤلاء العرب، هم العرب المذكورون، الذين ذكر السفر الأول من المكابيين أن "تيموتاس" كان قد استأجرهم لمقاتلة اليهود. وقد كانوا من أعراب البادية، كما نرى ذلك في هذا النص.

(1/666)


--------------------------------------------------------------------------------

وورد في "سفر المكابيين الأول" اسم سيد قبيلة عربية هو "زبديئيل" "زبدايل" "زبديل"، وكان يقطن في "ديار العرب"، كما جاء ذلك في السفر المذكور. ذكر السفر اسم هذا الرئيس وهو يتكلم على فرار "اسكندر بالس" "Alexander Balas" إلى "ديار العرب"، وكان قد مني بهزيمة أوقعه بها "بطلميوس" "بطلماوس" "Ptolemy"، عمه أي والد زوجته. وكان قد تخاصم معه. فلما وصل "إسكندر بالس" إلى "ديار العرب"، قبض عليه "زبديئيل"، وقطع رأسه، وأرسله إلى "بطلماوس".
ولم يتحدث السفر المذكور عن منزل "زبديئيل"، ولم يحدد مكان "ديار العرب"، وعندي أن المراد ب "ديار العرب" بادية الشام، والأرضيين التي دعاها الأشوريون ب "أريبي" "Aribi"، وهي موطن آمن لمن يصل إليه، إذ يصعب للجيوش النظامية أن تقاتل فيها. وقد كان "زبديئيل" من رؤساء البادية في هذا الزمن. وهو حوالي منتصف القرن الثاني قبل الميلاد. وكان الحاكم على اليهود هو "يوناتان" من المكابيين.
ويذكر "سفر المكابيين" أيضا أن "تريفون" "Tryphon"، وهو أحد قواد "إسكندر بالس" ومن جماعته، ذهب إلى رجل عربي اسمه "ايملكوئيل"، وكان يربي "أنطيوخس بن الإسكندر"، فألح عليه أن يسلمه إليه ليملكه مكان أبيه، ومكث عنده أياما. وقد تمكن عربي مع حقد العبرانيين المتزايد على العرب من حكم اليهود وهن تأسيس أسرة حاكمة حكمتهم ? ذلك الرجل هو "انتيباتر" "Antipater" الأدومي، نسبة إلى "أدوم" "Edom" "Idumea" "Idumaea"، وهم سكان جيل سعير، الذين دعاهم "اويسبيوس" "Eusebius" باسم "Gabelene" أو "Gabalen" أي الجبليين.

(1/667)


--------------------------------------------------------------------------------

فقد تمكن هذا الرجل الذي لم يكن من أسرة ملكية ولا من أسرة معروفة بفضل شخصيته وبقوته من فرض نفسه حاكما على "ادوم" "Idumaea"، ثم تمكن من جل نفسه حاكما "Procurator" على اليهودية "Iudaea" "Judaea"، وذلك في حوالي السنة "33" قبل الميلاد. وفي خبر إن "يوليوس قيصر" "Julius Caesar"، اعترف به "Procurator" على اليهودية في حوالي السنة "47" قبل الميلاد.
ولما وقعت الحرب بين "يوناتان" المكابي "161 - 143 ق. م." و "ديمترتوس الثاني"، ضرب "يوناتان" العرب المسمين بالزبديين "Zabadaeans" وأخذ منهم غنائم كثيرة. حدث ذلك في سنة "144 ق. م.". ويرى بعض علماء التوراة إن هذه القبيلة العربية قبيلة "زبد" "زبيد" كانت تنزل في موضع في شمال غربي "دمشق"، ويرى بعض آخر احتمال إن ذلك المكان هو "الزبداني"، الذي يبعد عشرين ميلا من الشام على طريق دمشق بعلبك. وأرى إن من المحتل أن يكون هؤلاء "الزبديون" هم سكان "زبد"، وهو خرب في الزمن الحاضر، يقع بن قنسرين ونهر الفرات. وقد اشتهر عند المستشرقين بالكتابة التي عثر عليها في هذا الموضع، وقد كتبا باليونانية والسريانية والعربية، ويرجع تأريخها إلى سنة "511م". وقد أدخلهم "يوسفوس" في عداد النبط.
و "أرتاس زعيم العرب" الذي طرد "ياسون" من بلاده حينما التجأ إليه فارا من الملك "أنطيوخس"، هو "الحارث" أو "حارثة" وهو من ملوك النبط، ولا شلك. وقد ذكر اسمه في سفر المكابيين الثاني.
وفي أيام "سترابون" كان العرب في جملة سكان مدن فلسطين، مثل القدس و "يافا" و "الجليل". وذكر "سترابون" إن "ا لأدوميين" "Idumaens" كانوا يقطنون الأقسام الغربية من "اليهودية" "Iudaea"، وهم على حد قوله من "النبط". ولما كان "سترابون" قد نقل كلامه من موارد أخرى قديمة، فما ذكره يفيد إن العرب كانوا يقيمون في فلسطين قرونا عديدة قبل الميلاد.

(1/668)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذكر العرب في جملة الشعوب الساكنة في "أورشليم" يوم مرور الخمسين يوما على المسيح. ويظهر من أعمال الرسل إن أهل القدس كانوا خليطا في تلك الأيام من معظم شعوب العالم المعروفة يومئذ.
وقد أطلق العبرانيون اسم "طيعة" و "طيابة" على العرب، محاكاة لبني إرم. فتجد اللفظة في "التلمود" وفي كتابات العبرانيين المدونة في القرون الأولى لميلاد. وقد أخذ الاسم "طيعة" و "طيابة" من "طيء" اسم القبيلة المعروفة، على فى ما ذكرت في الفصل الأول.
وقد ذكرت في "المدراش" قبيلة عربية عرفت ب "سوجي"، لعله "سواجر"، أو ما شابه ذلك من أسماء.
وفي التوراة مصطلحات يرى العلماء إنها كناية عن العرب. ففيها مصطلح "بني قديم" "Bene Kedem"، ومعناه: "أبناء الشرق"، ويقصد به الساكنون شرق العبرانيين، أي سكان بادية الشم، وهو في معنى "شركوني" "شرقوني"، أي الساكنون في المشرق. وهم كما نعلم قبائل عديدة من العرب سكنت هذه البادية قبل الميلاد بمدة لا يعلمها إلا الله. وقد يكون من بين هؤلاء أقوام من الآراميين.
وقد وصفت التوراة بعض عادات العرب ورسومهم، كما تعرفت لتجارتهم. ولما كانت "فلسطين" امتدادا طبيعيا لجزيرة العرب، وجزء منها، وكانت على طريق مصر وبلاد الشام وعلى ساحل البحر المتوسط، صارت سوقا مهمة للتجار العرب وللأعراب، يأتونها لبيع ما عندهم من سلع، وأهمها أنواع الطيب والذهب والحجارة الكريمة والأغنام والأعتدة وحاصلات بلاد العرب الأخرى، كما كانوا يشترون من أسواقها ما فيها مما يحتاجون إليه من حاصلات حوض البحر المتوسط وبلاد الشام وفي جملة ذلك الرقيق.

(1/669)


--------------------------------------------------------------------------------

وورد في "التلمود" اسم صنم عربي دعي "نشرا"، ويقصد به "نسر" ولاشك. وهو من أصنام العرب المعروفة. وقد ذكر "ابن الكلبي" إن حمير تعبدت لنسر. كما إنه ذكر في "التلمود" أيضا "حج الأعراب"، وذكر إن مواسم حجهم كانت تتغير بتغير فصول السنة. وقد تعرض للأحكام الشرعية. الخاصة بدخول البيوت، فذكر إنها لا تنطبق على خيام العرب، لأنها متنقلة، فلا تستقر في مكان واحد. كما ذكر إن من عادة نساء العرب التحجب عند خروجهن إلى المحال العامة. ولعله يقصد بذلك نساء المدن، وذكر إن من عادة الرجال وضع اللثام على وجواهم في أثناء السفر لوقايتهم من الرمال، وأشار إلى أن للعرب مقدرة فائقة في معرفة مواضع المياه في الصحراء بمجرد شم الرمال. وورد في "المشنة" "المشنا" إن أغلب طعام العرب من اللحوم.
وقد ورد في "السنهدرين"، أن أحد اليهود قص على الحبر "حية" "R. Hiyya"، إنه رأى مسافرا عربيا أخذ سيفا بيده فقطع به جملا قطعا، ثم أخذ "جرسا" فدق به، فنهض الجمل حالا، وكأنه لم يقطع إربا، فقال له الحبر، إن ما حدث هو نوع من الخداع.
ونجدا "السنهدرين" كلاما ل ""ربه بن برحنه" "Rabbah B. Bar Hana" يروي فية "، أنه كان مسافرا، وفي أثناء سفره التقى به عربي، فقال له: تعال معي وسأري ك الموضع الذي انشقت به الأرض وابتلعت جماعة "القورحيين" "قورح" "Korah". فذهب معه إليه، ورأى به دخانا. ثم أخذ العربي قطعة من صوف وبلها بالماء، ثم وضعها على رمح له، ثم أدخلها الموضع فاستشاطت بالنار. ثم قال للعربي أصغ إلى المكان، لعلك تسمع شيئا فيه. فسمع أصواتا تقول:"موسى وتوراته على الحق، أما القورحيون فهم كذابون" ثم قال له في كل ثلاثين يوما يتحول هؤلاء في جهنم "Gehenna"، تحول اللحم في القدر، وهو يقولون: "موسى وتوراته على حق، أما هم، فهم كذابون".

(1/670)


--------------------------------------------------------------------------------

ونجد قصة هذا الحبر في "بابا بثرا" "Baba Bathra" حيث يقول: لقد كنت في سفر في صحراء، فالتقى بنا تاجر عربي، وكان ممن يستطيع التنبؤ يمواضع المياه وبالأبعاد وبالطرق من شم التربة، فأردنا الاستفسار منه عن أقرب مكان إلينا فيه ماء. فقال لنا: أعطوني رملا فأعطي، فشمه ثم قال أقرب مكان اليكم فيه ماء هو على بعد ثمانية فراسخ "Parasangs" ثم سرنا وأردنا الاستفسار ثانية منه، فقدمنا له رملا، شمه ثم قال لنا الماء على بعد ثلاثة فراسخ من هذا المكان. ثم حاول هذا الحبر اختباره لمعرفة مدى صدقه من كذبه، فأبدل الرمل، فلما قدم إليه رملا آخر. لم يستطع أن يقول شيئا.
ويقص علينا قصة أخرى يزعم أنها وقعت له مع هذا التاجر العربي، حيث يقول إنه قال له: تعال م ثي أريك "أموات التيه"، أي الإسرائيليين الذين ماتوا في التيه، في طريقهم إلى أرض الميعاد. فذهب الحبر معه، ورأى الأموات وكأنهم في حالة فرح وسرور، وقد رقدوا على أظهرهم، ثم يقول: وقد رفع أحد هؤلاء الأموات ركبته، ومر التاجر العربي من تحت تلك الركبة، وقد كان حالملا رمحه راكبا بعيره، ومع ذلك فإن رمحه لم يمس رجل الميت. ثم يقول وقد ذهبت إلى أحد الأموات الراقدين فقطعت جزءا من ذيل ردائه الأزرق العميق، وعندما حاولت الرجوع، لم أتمكن من الحركة وبقيت ثابتا في مكاني، فقال له العربي: إذا أخذت شيئا من هؤلاء فأرجعه إلى محله، وإلا فإنك ستبقى ملتصقا في مكانك،لأن من يتطاول على حرمة الراقدين فيأخذ شيئا منهم، يجمد في مكانه، ولا يستطيع التحرك. فذهبت وأرجعت القطعة وتمكنت عندئذ من السير.

(1/671)


--------------------------------------------------------------------------------

ثم يذكر أن هذا التاجر العربي أخذه إلى جبل الطور "جبل سيناء" "Mount of Sinai" فأراه إياه، ثم أخذه إلى الموضع الذي انشق بالقورحيين، جماعة "قورح"، فأراه شقين في الأرض، ووجد الدخان لا يزال يخرج منهما، ثم يذكر إنه اخذ قطعة الصوف وادخلها هو بنفسه، ثم أخرجها و إذا بها وقد علقا بها النار، ثم يقص باقي القصة على نحو ما جاء في "السنهدرين".
ونجد في "مينحوت" "Menahoth" فتوى تتعلق في نجاسة أو طهارة قرب الماء. وقد ورد في هذه الفتوى، أن القرب التي تشد وتعقد بعقدة تكون طاهرة، إلا إذا عقدت بعقدة عربية. فإنها تكون نجسة ولا يحل الشرب منها.
ونجد هذا البحث مرة أخرى في" مكان آخر من "المشنة" في كتاب ال "قليم" "Kelim"، أي "كتاب الأواني والأوعية" من "كتاب الطهارة"، حيث عرضت آراء الأخبار قي قرب الماء وفي كيفية عقد عقدتها لمدة طويلة أو لمسة قصيرة، ومن حيث شدة العقدة أو رخاوتها، وتأثر ذلك في طهارة الماء. فأشير إلى قرب ماء العرب وموقفهم من الشرب منها أو من الاستفادة من مائها وهل يعد ماؤها طاهرا أو نجسا في الشريعة اليهودية ? وقد جاءت آراء الأخبار متباينة في ذلك. ويظهر إن اتصال العرب باليهود اتصالا وثيقا بالعراق، وسكن اليهود بين العرب في بلاد العرب، أثار أمام اليهود هذه المشكلة الفقهية، فهم مضطرون دائما إلى الاتصال بالعرب وإلى شرب الماء منهم، فظهرت من ثم عندهم هذه المشكلة، وكان على الأحبار بيان رأيهم في طهارة ماء القرب، وقرب العرب مشها بوجه خاص، لما في ذلك من علاقة بقضية الطهارة والنجاسة ومكانتها في فقه يهود.
وفي موضع آخر من كتاب "الأواني والأوعية" "Kelim"، بحث عن جواز أو عدم جواز ارتداء بعض الأردية وموقف الشريعة من أكسية الرأس وأغطية الوجه والجسم، فبحث في جملة ما بحث عنه، عن القناع الذي يصنعه العرب على أوجههم وعن تلثمهم به، فهل يجوز لليهودي شرعا إن يفعل فعل العرب أم لا.

(1/672)

admin
12-26-2010, 01:15 PM
وقد استثنت "المشنه" في كتاب "أو حولت" أي "الخيام"، عشرة مواضع من تطبيق أحكام الشرع عليها، بخصوص طهارتها أو نجاستها لكون ساكنيها من الوثنيين. وقد ذكرت مضارب خيام العرب على رأس. هذه المواضع العشرة التي لا تخضع لحكم الشريعة في موضوع حكم طهارتها أو نجاستها. وذلك لأن مضارب البدو غير مستقرة، إذ إن الأعراب يتنقلون من مكان إلى آخر. لذلك لا يمكن تطبيق الأحكام الشرعية التي تطبق على العقار الدائم عليها في موضوع نجاسة الأثاث والأواني كل شيء يكون تحت الخيمة التي يموت فيها إنسان، ولأن أصحابها غير يهود.
وقد أشير في "مينحوت" "Menahoth" إلى موضوع تقديم طعام مطبوخ في موقد عربي، هل يقبل أو يرفض. فأشار بعض فقهاء الشريعة اليهودية إلى عدم جواز الأكل من ذلك الطبيخ.
ونجد في "بابا بثرا" "Baba Bathea"، إن الحبر "ماير" "R. Meir" يسثني النبط والعرب والسلمونيين "Salmoeans" من الوعد الذي أعطاه الله لموسى حين أراه الأرض الموعودة. ويظهر إن "السلمونيين"، هم قبيلة من القبائل العربية الشمالية. لعل لاسمهم علاقة ب "سلمان".
وقد ورد ذكر العرب في كتاب الحيض "نده" "Niddah" من كتاب "الطهارة" في الفقه اليهودي. وذلك في موضوع العبدة وهل يجوز الاتصال بها، أو لا يجوز، على اعتبار إنها خصصت لأداء الأعمال لا للاتصال الجنسي. وقد أجاز الحبر "شيشت" "R. Shesheth" إيداع العبدة أي المملوكة إلى العرب، على إن يقال لهم احترسوا من الاتصال بالإسرائيليات.
وفي التلمود والمشنه والكمارة مسائل، فقهية أخرى عديدة يخرجنا ذكرها هنا من حدود هذا الموضوع تتعلق بموضوع صلات العرب واليهود. في مثل موقف الشريعة اليهودية من ذبائح العرب، وهي التي يذبحها اليهود للعرب في مقابل إعطائهم اللحم ليقدم العرب دمها وشحمها للأصنام.

(1/673)


--------------------------------------------------------------------------------

وموقف الشريعة من المرأة التي يأسرها الأعراب ثم تعاد بعد ذلك إلى أهلها بعد فك أسرها، هل يجوز للحبر أو لغيره التزوج منها أو لا? أو موقف الشريعة من المملوكة اليهودية التي تكون في أيدي العرب، من حيث احتمال دخول العرب بها. أو موقف الشريعة من الحبوب أو المواد الأخرى التي تقع بين روث ماشية العرب، أو دخول إبل العرب في "كثوبة" "Kethubah" يهودي. أو موقف اليهودي من المرأة. أو موضوع نظر اليهودي إلى عضو كل جسم امرأة عربية، مثل صدرها حينما يمر في مكان ويراها وقد كشفت عن صدرها لترضع رضيعها، أو موقف الشريعة اليهودية من المختتنين العرب.
ونجد في باب "الشهادات" "الوثائق" "كظين" "خطين" "Gittin" قولاء لأحد الأحبار يقول: إن امرأة عربية جاءت إلى أحد اليهود تحمل كيسا فيه تعاويذ لبيعها، فقال لها اليهودي أعطيك تمرتين عن كل تعويذتين. فاغتاظت المرأة ورمت ما حملته في النهر. فندم اليهودي وقال وددت لو لم أكن قد أعطيتها هذا العرض الرخيص.

(1/674)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد نشأت هذه المعضلات الفقهية من اختلاط اليهود بالعرب في فلسطين وفي الأماكن التي هاجروا إليها من بلاد العرب من جراء ضغط الرومان عليهم، وعدم تمكنهم من ممارسة عبادتهم في البلاد الخاضعة للحكم الروماني بسهولة وبحرية تامة، فهاجر كثير منهم إلى أعالي الحجاز وإلى العراق حيث اختلطوا بالعرب وعاشوا بينهم في مثل "الأنبار" و "فومبديثة" و "زقونية" "زكونية" "Zekonia"، وهو موضع على مقربة من "فومبديثة". وموضع "بمكسه" "Be-Mikes"، "نهردعة" "Nehardea" وسورا "Sura" وأماكن أخرى من العراق. وقد كان ليهود الفرات اتصال وثيق بالعرب وكانوا يعيشون معهم في كثير من الأماكن ويتاجرون معهم. وكون اليهود لهم "كالوتا" أي "جالبة" عاشوا فيها متمتعين بشبه استقلال ذاتي، يدير رؤسائهم "كالوتاتهم"، ويكونون هم المثلين لأتباعهم أمام السلطات صاحبة النفوذ الفعلي، كما كانوا يعقدون أحلافا مع الأعراب على طريقة أهل المدن والحضر في عقد مواثيق مع سادات القبائل لمنع الأعراب من غزوهم ومن التحرش بأملاكهم وتجاراتهم.
وأود إن أشير هنا إلى أهمية "المتلمود" و "المشنه" و "الكماره"، بالنسية لتأريخ العراق، ففي أبوابها بحوث قديمة عن موطن العراق وجغرافية العراق في عهد تدوين هذه الكتب، وهي يمتد لمئات من السنن. ففي "القبدوشين" مثلا، أسئلة وأجوبة عن "إقليم بابل" وعن "ميسان" "Mesene" وعن "ميديا"، وقد وردت فيها أسماء مدن وأنهار وقرى وغير ذلك مما يساعد كثيرا في فهم جغرافية العراق في عهود ما قبل الميلاد وما بعده.

(1/675)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد تساهل الفرس في الغالب مع اليهود، فمنحوهم استقلالا ذاتيا واسعا في إدارة شؤون مستوطناتهم وفي ممارسة طقوسهم الدينية وفي الاتجار، حتى صارت كل مستوطنة تدير شؤونها بنفسها وتختار حاكمها بنفسها، حتى إن بعضها وضعت على رأسها حاكما يهوديا لقبته بلقب "ملك"، أدار شؤون الجالية طبقا لأحكام يهود. وكان هؤلاء الحكام هم الصلة بين اليهود وبين الفرس. وقد صارت بعض هذه المستوطنات من أهم المراكز العملية ضد اليهود في العالم، وفي ضمن ذلك فلسطين. وفي هذه المواضع دون "التلمود البابلي"، دونه أحبارهم الذين استقروا في العراق. وهو يعد من أثمن التراث العبراني الذي ظهر عند اليهود. وقد تأثر بالروح العراقية حتى امتاز بها على التلمود الأورشليمي، أي التلمود الذي كتب في فلسطين.
وقد لاقى اليهود مساعدة حسنة من العرب، وعوملوا معاملة طيبة. وبظهر من مواضع في التلمود والمشنه، إن العبرانيين فروا إلى جزيرة العرب منذ أيام "بخت نصر". وقد تأثر اليهود النازحون إلى جزيرة العرب بعادات العرب ورسومهم. ويحدثنا "أبا أريخا" من الأحبار وكبار علماء التلمود في القرن الثالث الميلادي، إن اليهود كانوا يؤثرون حكم الإسماعيليين، ويقصد بهم العرب، على الرومان، ويؤثرون حكم الرومان على حكم المجوس. ومع ذلك، فقد حدث خصام بين العرب واليهود، فنجد في "التلمود" مواضع يظهر فيها حقد اليهود على العرب وكراهيتهم لهم. كالذي يظهر من كلام "الحبر يشوعه بن ليفي"4 "يشوعه بر ليفي"، حين رأى أكواما من العنب مكدسة، فقال: "يا للبلاد يا للبلاد". لمن هذه، لأولئك العرب "الوثنيين" الذين ثاروا علينا لخطيئتنا. وكالذي يظهر من كتاب "قدوشيين" "Kiddushin"، حيث ورد، "أعطي العالم عشرة "قابات" من الوقاحة، خص العرب بتسع منها". وفي هذا الكلام دليل على تطاول العرب على اليهود في المواضع التي كانوا يعيشون بها معا. وحقد لليهود عليهم من أجل ذلك.

(1/676)


--------------------------------------------------------------------------------

ونجد في الأخبار السريانية والعبرانية أخبار غارات وغزوات قام بها عرب العراق على الجاليات اليهود التي انتشرت من "بابل" وما جاورها حتى جاوزت شمال "عانه" على نهر الفرات. وقد أزعجت هذه الغارات لليهود الذين حولوا هذه الأرضين إلى أرض سادتها وغليتها حتى صيرتها على شاكلة "وادي القرى" عند ظهور الإسلام. فاضطروا تحصين مستوطناتهم وأحاطتها بأسوار وإلى تشكيل قوات تقوم بحمايتها ليل نهار حتى في أيام السبت والأعياد اليهودية، مع تحريم الشريعة اليهودية العمل يوم السبت. وأباح الأحبار لهذه القوات حمل السلاح في أيام السبت وفي أيام العطل حتى تكون على استعداد للدفاع عن تلك المستوطنات في أية لحظة يشن فيها الأعراب غاراتهم عليها، إذ يحتمل إنها تقوم بقتل اليهود.
وقد ترض الرعاة اليهود الذين كانوا يخرجون بماشيتهم من مستوطناتهم إلى البنية أو إلى ضواحي مستوطناتهم إلى غارات الأعراب عليهم، وسلبهم ماشيتهم، كما تعرض اليهود إلى الأسر، فأسر عدد منهم، نساء ورجالا. حتى سلبوا. وأسروا بعض الأحبار، لذلك كانت الجاليات اليهودية تخشى من الأعراب كثيرا. وقد تعرضت مدينة "نهر دعة "Nehardea" إلى الغزو وذلك سنة "570" من للتقويم السلوقي الموافقة لسنة "259" للميلاد 1 فقد غزاها كما تقول الأخبار اليهودية سيد قبيلة عربية، اسمه "بابابر نصر" "بابا بن نصر" "Papa Bar Nasr"، وألحق بها أضرارا فادحة، وخرب بعض أماكنها، وقد هرب منها بعض أحبارها إلى مستوطنات يهودية أخرى. وقد ذهب المؤرخ اليهودي "كريتس" "Graetz" إلى أن هذا الأمير العربي المهاجم هو "أذينة" ملك تدمر وزوج الملكة الزباء. غير أن اشتهار ملوك الحرة عند العرب ب "آل نصر" وقرب الحيرة من مدينة "نهر دعة" واتصال عربها بالجاليات اليهودية يحملنا على التفكر في أن المهاجم هو أمر من أمراء "آل نصر". ملوك الحيرة، وهم حلفاء الفرس.

(1/677)

وورد في الأخبار أيضا إن مدينة "فومبديثة" "Pumbaditha" تعرضت للغزو أيضا، وهي من أمهات مدن الجاليات اليهودية. هاجمها جيش جاءها من "عاقولاء" ويظهر إنه من قوات "آل نصر" ملوك الحيرة.
وقد كانت مدينة "فومبديثة"، محاطة بالأعراب. ولذلك كانوا يتعاملون معهم، ويأتون إليهم ويذبحون عندهم. وقد جاء في الأخبار أن أحبارها قد أباحوا لأهلها التعامل مع الأعراب في أيام أعيادهم، أي أعياد الأعراب. وذلك لأن أعياد الأعراب لم تكن ثابتة، تحل في وقت معين وفي مواسم مثبتة، لذلك جوزوا لهم البيع فيها. لأن أحكام التلمود تمنع اليهود من التعامل مع الغرباء في أيام أعيادهم إذا كانت تلك الأعياد أعيادا دينية.
ولما كانت الشريعة اليهودية لا تعتبر العيد عيدا مقدسا دبنيا إلا إذا كان يقع في أوقات ثابتة معينة لا تتغير ولا تتبدل في التقويم، لذلك أفتى الأحبار بعدم اعتبار أعياد الأعراب أعيادا دينية، وأباحوا لأهل المدينة التعامل مع المعيدين في أيام أعيادهم.
وإلا فما كان يحل لهم بيع الأعراب شيئا في أيام تعييدهم. وقد باعوا لهم خمرا وحبوبا. أما بالنسبة إلى أعياد الفرس والروم، فقد منع التلمود اليهود من التعامل مع الفرس أو الفرس فيها، لأنها أعياد ثابتة وقد نص على مواعيدها، وأشهر إليها في التلمود، لذلك طلب من اليهود الامتناع عن بيع الفرس والروم شيئا في أعيادهم.
ويذكر التلمود إن الأعراب "طيعه" "طيية" "طيايه"، المجاورين لموضع "صقونية" "SIkunya"، طلبوا من أهله وهم يهود أن يذبحوا لهم ذبائح في مقابل إعطائهم لحومها وجلودها، أما دمها فيجمع ويعطى للأعراب وذلك التقديمه لأربابهم. وكانت عادتهم تلطيخ أصنامهم بدم القرابين.

(1/678)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عرف الأعراب ب "طييعه" في التلمود. أما السريان والموارد اليهودية الأخرى المدونة بالسريانية، فقد أطلقوا وأطلقت على الأعراب لفظة "طييه" "طيايا"، وذلك بإسقاط حرف العين من الكلمة: "طييعه" والكلمتان من أصل واحد، هو "طيء" اسم القبيلة العربية المعروفة. وقد كانت في أيام تدوين التلمود من أقوى وأشهر القبائل العربية، حتى غلب اسمها سائر أسماء القبائل، فأطلق على كل عربي كائن ما كان.
وأطلقت لفظة "عربايه" في كتاب من كتب التلمود، على العرب المزارعين الذين استقروا على مقربة من "فومبديثة". وذكر التلمود إن اولئلك العرب المزارعين كانوا قد انتزعوا مزارع اليهود بما فيها من أبنية وأملاك، وأقاموا بها، ولهذا السبب، فقد ذهب اليهود إلى حبرهم وقاضيهم "ابيه" "Abaya"، وطلبوا منه إعطاءهم وثائق تملك أخرى، حتى يكون في إمكانهم مراجعة السلطات لاثبات ملكيتهم لأملاكهم التي انتزعت بالقوة منهم.
وقد نزح يهود من فلسطين إلى الحجاز، فسكنوا وادي القرى حتى نزلوا "يثرب"، وذهب قسم منهم إلى اليمن، كما سأتحدث عن ذلك فيما بعد.
الفصل السابع عشر
العرب و اليونان
أقدم من سجل اسمه من اليونان في سجل العلاقات العربية اليونانية هو "الإسكندر الكبير" "356 - 323 ق. م."، فبعد إن سيطر هذا الرجل الجبار الغريب الأطوار الذي توفي شابا، على أرضين واسعة، وأسس إمبراطورية شاسعة الأرجاء ذات منافذ على البحر الأحمر و الخليج العربي، وبعد إن استولى على مصر والهلال الخصيب، فكر في السيطرة على جزيرة العرب، وفي جعلها جزءا من إمبراطوريته، ليتم له بذلك الوصول إلى سواحل المحيط الهندي، والسيطرة على تجارة إفريقية وآسية، وتحويل ذلك المحيط إلى بر يوناني.

(1/679)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد شرح الكاتب "أريان" Flavius Arrianus المولود سنة "95 ب. م." والمتوفى سنة "175 ب. م."، الأسباب التي حملت الإسكندر على التفكير في الاستيلاء على جزيرة العرب وعلى بحارها، في الكتاب السابع من مؤلفه Anabasis Alexandri. فذكر إن هنالك من يزعم إن الإسكندر إنما جهز تلك الحملة البحرية، لأن معظم القبائل العربية لم ترسل إليه رسلا، للترحيب به ولتكريمه، فغاظه ذلك. أما "أريان"، فانه يرى إن السبب الحقيقي الذي حمل الاسكندر على إرسال هذه الحملة، يكمن في رغبته في اكتساب أرضين جديدة.

(1/680)


--------------------------------------------------------------------------------

وأورد "أريان" في كتابه قصة أخرى، خلاصتها: إن العرب كانوا يتعبدون لآلهين هما: "أورانوس" Uranus، و "ديونيسوس" Dionysus، وجميع الكواكب وخاصة الشمس. فلما سمع الإسكندر بذلك، أراد إن يجعل نفسه الإله الثالث للعرب. وذكر أيضا إنه سمع ببخور بلاد العرب وطيبها، وحاصلاتها الثمينه، وبسعة سواحلها التي لا تقل مساحتها كثيرا عن سواحل الهند، وبالجزر الكثيرة المحدقة بها، وبالمرافئ الكثيرة فيها التي يستطيع أسطوله إن يرسو فيها، وببناء مدن يمكن إن تكون من المدن الغنية، وسمع بأشياء أخرى، فهاجت فيه هذه الأخبار الشوق إلى الاستيلاء عليها، فسير إليها حملة بحرية للطواف بسواحلها إلى ملتقاها بخليج العقبة. وعندي إن التعليل الأخير هو التعليل المعقول الذي يستطيع إن يوضح لنا سر اهتمام "الإسكندر" بجزيرة العرب، و تفكره في إرسال بعثات استكشافية للبحث عن أفضل السبل المؤدية إلى الاستيلاء عليها. ولم يكن "الإسكندر الأكبر" أول من فكر في ذلك، فقد سبقه إلى هذه الفكرة حكام كان منطقهم في الاستيلاء على بلاد العرب و على غير بلاد العرب من أرضين، هو سماعهم بغنى من يريدون الاستيلاء عليه، فهو إما إن يتصادق معهم، فيقدم ما عنده من ذهب وفضة وأحجار كريمة وأشياء ثمين آ إليهم ويرضى بان يكون تابعا لهم، وإما إن يمتنع فيكون عدوا ويتعرض للغزو وللسلب والنهب والقتل والإبادة. بهذا المنطق كتب ملوك آشور إلى ملك "دلمون" وغير دلمون، وبهذا المنطق كتب "أوغسطس قيصر" إلى ملوك اليمن فيما بعد.

(1/681)


--------------------------------------------------------------------------------

أرسل الإسكندر بعثات استطلاعية تتسقط له المعلومات اللازمة لإرسال أسطول كبير يستولي على سواحل الجزيرة، يتجه من الخليج فيعقب سواحلها، ثم يدخل البحر الأحمر إلى خليج العقبة، حيث ينفذ أسطوله إلى سواحل مصر. وقد هيا الأسطول، وجاء بأجزاء السفن وبالأخشاب اللازمة لبنائها من "فينيقية" Phoenicia "وقبرس" Cyprus، وأتخذ "بابل" قاعدة للإشراف على تنفيذ هذه الخطة. وممن أرسلهم الإسكندر لإكتشاف الطريق، القائد البحري "أرشياس" "أرخياس" Archias، وقد كلف السير في اتجاه السواحل، فبلغ جزيرة سماها "أريان" "تيلوس" Tylus ، وهي "البحرين"، ولم يتجاوزها، والقائد "أندروستينيس" Androsthenes، وقد بلغ مكانا قصيا لم يصل إليه القائد "أرشياس"، "وهيرون" Hieron، وقد وصل مكانا بعيدا لم يصل إليه القائدان المذكوران، وكان قد كلف أن يطوف حول جزيرة العرب حتى "هيروبوليس" Heroopolis أي السويس. وقد عاد فأخبر الإسكندر. بما حصل عليه من معلومات وبما يتطلبه المشروع من جهود. ولم يذكر "أريان" المكان الذي بلغه "هيرون"، ويظن "أرنولد ولسن" A.. Wilson أنه لم يتجاوز موضع "ماكيته" Maketa وهو موضع "رأس الخيمة"، أي "رأس مسندم" Ras Musandam كما يسميه الأوروبيون، وهو "مونس اسبو" Mons Asabo، عند "بلينيوس"، أي "رؤوس الجبال".

(1/682)


--------------------------------------------------------------------------------

ويصف "أريان" جزيرة "تيلوس" Tylus، بأنها جزيرة تبعد عن مصب نهر الفرات، بمسيره سفينة تجري مع الريح يوما وليلة. وهي جزيرة واسعة وعرة، لا يوجد بها شجر وافر، غير أنها خصبة و يمكن غرسها بالأشجار المثمرة كما يمكن زرعها بنباتات أخرى، وذكر "أريان"، آن مخبري "الإسكندر" كانوا قد أخبروه بوجود جزيرة أخرى غير بعيدة عن مصب نهر الفرات، إذ لا تبعد عنه أكثر من "120" "استاديونا، و هي صغيرة نوعا ما، غير أنها ذات شجر من كل نوع و بها معبد للإله "أرطميس" Artimus=Artemis يعيش الناس حول معبده وتمرح الحيوانات وتسرح دون أن يمسها أحد بسوء، لأنها في حمى المعبد، فهي حرام على الناس وقد سمي هذه الجزيرة باسم "ايكاروس" Ikaros، نسبة إلى جزيرة "ايكاروس" من جزر البحر الايجي Aegaein Sea. ويظهر أن الإسكندر عرف الصعاب التي ستواجهه في إقدامه على اقتحام الجزيرة من البر: من مقاومة القبائل، وصعوبة قطع الفيافي، وقلة المياه، فعزم على تحقيق المشروع من البحر، وكلف "هيرون" Hieron متابعة السواحل، ودراسة أحوال سكانها ومواضع المرافئ وأماكن المياه والمنابت و مواضع الشجر فيها، وعادات العرب وأحوالهم، لتكون جيوشه على بينة من أمرها، إذا أقدم أسطوله على تحقيق هذا المشروع الخطير.
واعد "الإسكندر" كل ما يلزم إعداده، غير إن موته المفاجئ، وهو في مقتبل عمره، ثم تنازع قواده وانقسامهم، وما إلى ذلك من شؤون، صرف قواده عن التفكير فيه، فأهمل ومات بموته مشروعه الخفير.
ويرى بعض الباحثين إن الإسكندر لم يكن يقصد فتح جزيرة العرب، ولكن كان يرغب في الاستيلاء على بعض الموانئ والمواضع المهمة على ساحل الجزيرة وبذلك يكون قد أدرك الغايات التي قصدها من هذا الفتح.

(1/683)


--------------------------------------------------------------------------------

ولما أراد الإسكندر احتلال "غزة" في طريقه إلى مصر، قاومت المدينة، ودافع عنها رجل سماه "أريان" "باتس" Betis=Baetis=Batis، مستعينا بجيوش عربية قاومت مقاومة شديدة اضطرت الإسكندر إلى نصب آلات القتال. إلا إن العرب هاجموها لإحراقها، كما هاجموا المقدونيين الذين كانوا متحصنين في مراكز القيادة وراء تلك العدد. وقد اضطر المقدوينون إلى مغادرة مواضعهم هذه إلى أماكن جديدة، وكادوا ينهزمون هزيمة منكرة لو لم يأتهم الإسكندر بمساعدات قوية في الوقت المناسب. وقد أصيب بجراح. وظلت تقاومه مدة خمسة شهور "332 ق. م.". ويذكر "هيرودوتس" إن المنطقة الواقعة من "غزة" إلى موضع Jenysus، كانت مأهولة بالقبائل العربية المتصلة بطور سيناء منذ القديم. وقد حكمها ملك عربي لم يذكر اسمه.
ويرى بعض الباحثين إن "باتيس" Batis هذا الذي وقف بوجه جيوش الإسكندر وقاومها هذه المقاومة العنيفة، في حوالي سنة "332 ق. م." كان رجلا عربيا اسمه "باطش" أي الفاتك. ويستدلون على ذلك بورود اسم رجل في الكتابات النبطية، هو "بطشو"، أي "باطش". وقد حرف ذلك الاسم فصار Batis. وهم يرون إن غالبية سكان "غزة" كانت من العرب منذ زمن طويل قبل الميلاد. وإنها كانت نهاية طرق القوافل البرية التجارية التي كان يسلكها التجار العرب القادمون من اليمن والحجاز ومن مواضع أخرى ولا يعقل لذلك إن يكون حاكمها ايرانيا، كما ذهب إلى ذلك بعض المؤرخين. فرجعوا لذلك رأي من يقول إن "الباطش" Batis ، كان من العرب.
لقد كانت "غزة" المركز الرئيسي للتجار العرب على البحر المتوسط، فاليه تنتهي التجارة العربية، ومنه يتسوق التجار العرب البضائع التي ترد إليه من موانئ هذا البحر. ولما فتحت المدينة أبوابها لجيش الإسكندر بعد ذلك الحصار الشاق، وجد اليونان فيها مقادير كبيرة من المر واللبان وحاصلات العربية الجنوبية، فاستولوا عليها. فخسر التحار العرب بذلك خسارة فادحة.

(1/684)

admin
12-26-2010, 01:17 PM
ونجد في كتاب "تأريخ الإسكندر" ل "كوينتس كورتيوس" Quintus Curtius ، خبرا يفيد إن "الإسكندر" أخذ من أرض العرب المنتجة للبخور كمية من البخور لإحراقها للآلهة تقربا إليها. غير إننا لا نستطيع تصديق هذه الرواية، لأن جيوش الإسكندر لم تتمكن من دخول جزيرة العرب، ولم تصل إلى أرض البخور. إلا إن يكون حكامها قد أرسلوا البخور المذكور هدية إليه، أو ضريبة من التجار العرب في مقابل السماح لهم ببيعه في الأسواق التي استولى عليها اليونان.
وقد توسع مؤلف الكتاب المذكور في إطلاق لفظة العرب Arabum والعربية أي أرض العرب Arabia في أثناء حديثه عن العرب وعن أرضهم فأدخل في العرب جماعة ليسوا منهم مثل "بني إرم". ولما تحدث عن فتح الإسكندر للبنان، ذكر إنه ذهب بعد ذلك إلى العربية، أي أرض العرب وعنى بها البادية الواسعة التي تفصل بلاد الشام عن "ما بين النهرين"، وكل الأرضين على ضفة الفرات الغربية.
هذا ولا أظن إن إنسانا يقول إن "الإسكندر" المذكور كان قد حصل على علمه بثراء العرب و بنفاسة ما يبيعونه في أسواق البحر المتوسط من تجارات عن طريق الوحي والإلهام، وبنباهة فكره، إن علما من هذا النوع لا يمكن إن يحصل عليه إنسان إلا من علم الماضين ومن علم السياح والتجار بصورة عامه في لأنهم كانوا ولا زالوا منذ خلق الإنسان يفتشون عن الأسواق وعن المنتجات ويتعارفون فيما بين هم على اختلاف ألوانهم وأديانهم للحصول على معارف تجارية تخولهم الحصول على ما يبتغون بأرخص الأسعار.

(1/685)


--------------------------------------------------------------------------------

من هذه الموارد ولا شك حصل "الإسكندر" على علمه بأحوال الهند وبأحوال جزيرة العرب وبالأسواق التي كانوا يرتادونها. وعلمه هذا هو الذي حمله على إن يوجه حملته على بلاد العرب - على ما أرى - من البحر لا من البر، لأنه أدرك إن حملة بحرية تمكنه من السيطرة على مفاتيح الجزيرة وعلى النقط الحساسة فيها بسهولة ويسر وبدون تكاليف باهظة، وبذلك يقبض على خناقها ويقطع عنها إن تيسر له النجاح اتصالها بأسواق إفريقية والهند وما وراء الهند، وهي الأسواق الرئيسية التي مونت العرب بالثراء وبذلك يقطع عنهم موارد الثراء.
أما من البر فقد كان على علم أكيد من خلال تجارب الماضين ومن علمه وعلم قواد جيشه بصعوبة الاستيلاء عليها من البر ومن الاحتفاظ بها أمدا طويلا، والمحافظة على طرق المواصلات الطويلة وإيصال المؤن إلى قواته، لذلك لم يفكر في الاستيلاء علها من البر. ثم إن ثراء سكان الجزيرة المشهور لم يكن من ثراء حاصلاتها وإنتاجها وإنما كان من أسواق إفريقية والهند في الغالب، ولهذا رجح خطة السيطرة على موانئ جزيرة العرب بوضع قوات بها على خطة السيطرة على الجزيرة من البر، وأغلب الجزيرة بحار من رمال. وبذلك وضع خطة سار عليها من جاء بعده من الغربيين حتى العصر الحديث باستثناء "أغسطس قيصر" الذي لاقت حملته البرية الفشل والهزيمة لأنها بنيت على جهل فاضح بحال جزيرة العرب، وبحقيقة صعوبة السيطرة عليها من البر.
وقد ورد في بعض الموارد إن العرب قدموا الأسلحة والملابس إلى الجيش المقدوني، وأن الإسكندر تمكن من قهر العرب. كما ذكر إن عربيا انقض على الإسكندر وفي يده اليمنى سيف مسدد نحو رقبته، قاصدا قتله في أثناء معركة حامية، غير إن الإسكندر تجنب الضربة بسرعة فاثقة فنجا. وكان هذا العربي في جيش "دارا" "داريوس" Darius.

(1/686)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر "كونيتوس كورتيوس" إن "الإسكندر" بعد إن سار مع مجرى نهر Pallacopas وصل إلى مكان أعجبه، فأمر بإنشاء مدينة فيه، أسكنها العجزة والمسنين من رجاله، وذلك في أرض العرب. وسوف يأتي الكلام على ذلك في أثناء الحديث عن "بلينيوس" وما عرفه من بلاد العرب.
وكان مما تحدث به المؤرخ المذكور عن حملة الإسكندر إن أحد قواده كان قد تنكر في زي الأعراب وأخذ معه اثنين من العرب ليكونا دليلين في سيره، ووضعا زوجيها وأطفالهما لدى الملك الإسكندر ليكونوا رهائن عنده، لئلا يصيب القائد أي سوء ومكروه. فلما وصل إلى الموضع الذي قصده، وابلغ من أرسله إليه عاد ومعه الأعرابيان، فأثابهما.

(1/687)


--------------------------------------------------------------------------------

ليست فتوحات الإسكندر التي قذفا بالإغريق والرومان إلى مساحات واسعة من آسية، حدثا سياسيا حسب، إنما هي فصل من فصول كتاب التأريخ البشري، نقرأ فيه أخبار التقاء العالمين الشرقي والغربي وجها لوجه على مساحات واسعة مهن وجه هذه المسكونة. ونزعة الغرب في السيطرة على الشرق وتأثر الحضارات و الثقافات بعضها لبعض. وحصول علماء اليونان والرومان على معارف مباشرة عن أحوال أمم كانوا يسمعون أخبارها من أفواه التجار والسياح والملاحين فإذا وصلت إليهم كان عنصر الخيال فيها الذي يميل إلى التفخيم والتجسيم قد انتهى من عمله وأدى واجبه. فصححت فتوحات الإسكندر هذه للهلال الخصيب ولمصر، بعض تلك الأوهام، وجاءت بعلماء من اليونان إلى هذه البلاد، ولا سيما مصر فأفادوا واستفادوا، وصارت "الإسكندرية" بصورة خاصة، وبعض مدن بلاد الشام، ملتقى الثقافات، الثقافات الشرقية والثقافات الغربية، ومركز الاتصال العقلي بين الغرب والشرق وبقيت الإسكندرية محافظة على مكانتها هذه حتى ظهور الإسلام. وقد حملت فتوحات الإسكندر والحروب، التي وقعت بين الروم والفرس إلى الشرق الأدنى، دما جديدا هو دم الإغريق ومن دخل في خدمة الإسكندر واليونان والرومان من الجنود والمتطوعة والمرتزقة من سواحل البحر المتوسط الشمالية وما صاقبها من أصقاع أوروبية. لقد بنى الإسكندر الأكبر مدينة Charax على ملتقى نهر "كارون" بدجلة، وأسكنها أتباعه وجنوده ومواطني المدينة الملكية، كما بنى مدنا أخرى، وقد كان من المحبين المولعين ببناء المدن، وبنى خلفاؤه مدنا جديدة في الشرق، وكذلك من أخذ تراثهم من اليونان والرومان. وحمل الفرس عددا من أسرى الروم، وأسكنوهم في ساحل الخليج وفي مواضع أخرى. وطبيعي إن ترك سكنى هؤلاء في الشرق أثرا ثقافيا في الأماكن التي أقاموا فيها وفي نفوس من جاورهم أدرك قيمته المؤرخون المعاصرون.

(1/688)


--------------------------------------------------------------------------------

والمؤرخ "بلينيوس"، هو أول من أشار إلى مدينة Charax هذه المدينة التي أنشأها الإسكندر، في جملة المدن التي أنشأها في الشرق، ويظن إنها "المحمرة". بنيت هذه المدينة - كما يقول "بلينيوس" - في النهاية القصوى من الخليج العربي أي الخليج الذي يسمى اليوم باسم "خليج البصرة" أو "خليج فارس" كما يسميه "الكلاسيكيون" Sinus Persicus ، عند خط ابتداء العربية السعيدة Arabea Eudaemon أي جزيرة العرب، ويقع نهر دجلة على يمينها. وقد دعيت "الإسكندرية" نسبة إلى الإسكندر. وقد خربت هذه المدينة مرارا من فيضان الأنهر وإغراقها لها، ثم بناها "انطيوخس الرابع" Antiochus Epiphanes IV "175 - 163 ق. م." ودعيت باسمه، ثم تحربت أيضا، فرممها و أعاد بناءها الملك "سباسبنس" HyspaosinesSpasines ملك العرب المجاوربن، وأنشأ لها سدا لحمايتها، وسماها باسمه. وقصدها التجار اليونان والعرب.
وقد ذكر إن والد الملك "سباسينس" HyspaosinesSpasines كان ملكا يحكم العرب المجاورين لهذه المدينة. وقد عرف ب Sagdodonacus . وهو اسم لم يتفق الباحثون على أصله. ولما وجد "سياسينس" إن الخراب قد حل بالمدينة المذكورة، بنى لها سدأ، أنقذها من الغرق، وأعاد بنائها فعرفت بأسمه. ويظهر إن حكم هذا الملك كان في النصف الأول من القرن الثاني قبل الميلاد. ويرى بعضهم إنه حسكم بابل و "سلوقية" Seleukeia في حوالي سنة "127 ق.م."، وانه كان يحكم مقاطعة Charax في حوالي سنة "130 ق.م." أو "129". وقد عثر على نقود ضربت بأسمه. ويظهر إن حكم هذه المملكة الصغيرة بقي إلى أيام المك "أردشير" الساساني، حيث قضى عليها في حوالي سنة 224 أو 227 م.
وقد عرفت Charax ب Charakene، وهي "ميسان" Mesene. Charax، هي "كرخا"، وعرفت أيضا بي "كرخ ميسان".

(1/689)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد تحدث "سترابون" بشيء من الإيجاز يكن الساحل العربي المشرف على الخليج، مستمدا له من "ايراتوستينس" على الأكثر، إذ استند إلى وصفه وأخباره. أما "ايراتوستينس"، فقد جمع مادته من أقوال رجال، عرفوا الخليج وعركوه، وكانت لهم أيام فيه. منهم "نيرخس" Nearchus قائد الإسكندر الشهير وأمير أسطوله، و "أندروستينس" Androsothenes من أهل "ثاسوس" Thasos، كان في صحبة القائد "نيرخيس"، ثم كلف قيادة الأسطول الذي أمر بالسير بمحاذاة ساحل الجزيرة للكشف، وللحصول على معارف جديدة عن بلاد العرب. ومنهم "أرسطوبولس" Aristobulus وكان أيضا من رجال البحر، و "أورثاغوراس" Orthagoras الذي كان من هذا الصنف كذلك. وأخذ "سترابون" من مورد آخر يرفع سنده إلى "نيرخس"، إلا إن "سترابرون" لم يذكر رجال السند، وإنما ذكر جملة "قال نيرخس". في فجوز إن يكون هذا المورد من وضع القائد نفسه، أو من وضع مرافقيه، حكوا عنه، أو من وضع أناس جاءوا بعدهم، استندوا إلى روايات وأقوال مرجعها "نيرخس" أخذ منه "سترابون".

(1/690)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد اقتصر "سترابون" على ذكر "جرها" Gerrha، و "تير" Tyre، و "أرادوس" Aradus و "ماكه" Macae، وهي مواضع تقع على ساحل العروض، أي الساحل الشرقي لجزيرة العرب المطل على ا الخليج، ولم يذكر أماكن أخرى غيرها تقع في هذه المنطقة، وفي ذلك دلالة على قلة علمه بأحوال ذلك الخليج.، اما "جرها"، فمدينة تقع، على حد قوله، على خليج عميق أسسها مهاجرون "كلدانيون" من أهل بابل، في أرض سبخة، بنوا بيوتهم بحجارة من حجارة الملح، ترش جدرانها بالماء عند ارتفاع درجات لمنع قشورها من السقوط. وتقع على مسافة "200" "اسطاديون" Stadia من البحر. وهم يتاجرون بالطيب والمر والبخور، تحملها قوافلهم التي تسلك الطرق البرية. و يذكر "ارسطوبولوس" Aristobulus أنهم ينقلون تجارتهم بالبحر إلى بابل ثم إلى مدينة Thapascus، ومنها يعاد نقلها بالطرق البرية إلى مختلف الانحاء و "تباسكوس" Thapascus، هي: الدير، أو "الميادين" في رأي كثير من الباحثين.

(1/691)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد أشار إلى "جرها" كتاب آخرون، عاشوا بعد "ايراتوستينس" صاحب خبر هذه المدينة المدون في جغرافية "سترابون" أشار اليها مثلا "بوليبيوس" Polybius "204- 122 ق. م."، و "أغا ثرسيدس" المتوفى سنة "145" أو "120 ق. م."، و "أرتميدورس" Artemidorus من أهل مدينة "أفسوس" Ephesus "حوالي 100 ق. م."، و "بلينيوس". وخلاصة ما أوردوه عنها إن المدينة كانت مركزا من المراكز التجارية الخطيرة، وسوقا من الأسواق المهمة في بلاد العرب، وملتقى طرق تلتقي القوافل الواردة من العربية الجنوبية والواردة من الحجاز والشام والعراق، كما إنها كانت سوقا من أسواق التجارة البحرية تستقبل تجارة إفريقية والهند والعربية الجنوبية، وتعيد تصديرها إلى مختلف الأسواق بطريق القوافل البرية حيث ترسل من طريق "حائل" - "تيماء" إلى موانئ البحر المتوسط ومصر، أو من الطريق البري إلى العراق ومنه إلى الشام. وقد ترسل في السفن إلى "سلوقية" Seleucia، أو بابل Thapascus ومنها بالبر إلى موانئ البحر المتوسط. وما بي حاجة إلى إن أقول إنها كانت تستقبل تجارات البحر المتوسط والعراق والأسواق التي تعاملت معها، لتتوسط في إصدارها إلى العربية الجنوبية إفريقية والهند، وربما إلى ما وراء الهند من عالم ينتج ويستهلك. فهي سوق وساطة، والوسيط يصدر ويستورد و بعمله هذا يكتنز الثروة والمال.

(1/692)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر القدماء إن الجرهائيين تاجروا مع حضرموت، فوصلت قوافلهم إليها في أربعين يوما. وكانت تعود وهي محملة بحاصلات العربية الجنوبية، وحاصلات إفريقية المرسلة بواسطتها وهي بضاعة نافقة ذات أثمان عالية في الأسواق التجارية لذلك العهد. وتاجروا مع النبط بإرسال قوافلهم التي قطعت الفيافي مارة بمواضع الماء والآبار إلى "دومة الجندل" Dumatha ، و منها إلى "بطرا" عاصمة النبط. والنبط هم مثل بقية العرب تجار ماهرون نشيطون. فإذا وصل تجار "جرها" إلى أرض النبط باعوا ما عندهم للنبط واشتروا منهم ما محتاجون إليه من حاصل بلاد الشام والبحر المتوسط. أما التجار الذين يريدون أسواقا أخرى غير أسواق النبط، فكانوا يتجهون نحو الشمال، فيدخلون فلسطين قاصدين "غزة"، أو يتجهون وجهة أخرى هي وجهة بصرى وبقية بلاد الشام. وقد اكتسبت."جرها" شهرة بعيدة في عالم التجارة في ذلك الزمان، بسبب مركزها التجاري الممتاز، وذاع خبر ثراء أهلها وغناهم، حتى زعم إنهم كانوا يكنزون الذهب والفضة والأحجار الكريمة، وأنهم اتحذوا من الذهب آنية وكؤوسا وأثاثا، وجعلوا سقوف بيوتهم وأبواب غرفهم به وبالأحجار النفيسة الغالية، وغير ذلك مما يسيل له لعاب الجائعين إلى المال. وهذا الصيد البعيد، هو الذي أثار الطمع في نفس الملك "إنطيوخس الثالث" Antiochus III، فجعله يقود أسطوله في عام "205 ق. م."، للاستيلاء على المدينة الغنية الكانزة للذهب والفضة واللؤلؤ وكل حجر كريم، وإذلال القبائل المجاورة، وإلحاقها بحكومته فإما إن تذعن وتستسلم بغير قتال، وتقدم ما عندها هدية طيبة إليه، وإما القتل والنهب ودك المدينة في دكا.

(1/693)


--------------------------------------------------------------------------------

وتقول الرواية التي تتحدث عن طمع هذا الملك وجشعه للمال إن المدينة المسالمة التاجرة، أرسلت رسولا إلى الملك يحمل رجاءها إليه إلا يحرمها نعمتين عظيمتين أنعمتهما الآلهة عليهم: نعمة السلام، ونعمة الحرية. و هما من أعظم نعم الآلهة على الإنسان. فرضي من حملته هذه بالرجوع بجزية كبيرة من فضة و أحجار كريمة، فأبحر إلى جزيرة "تيلوس"، ومنها إلى "سلوقية" "255-204 ق. م.". وهكذا اشترت المدينة سلمها وحريتها من هذا الطامع بالمال، وصدق أهل المدينة. إن كانت الرواية صادقة، فالسلم والحرية من أعظم نعم الله على الإنسان.
وفي رواية إن الملك المذكور لما عاد من حملته على الهند اتجه نحو الغرب، أي السواحل الشرقية لجزيرة العرب؛ ساحل العروض. فنزل في أرض دعتها "خطينة" Chattenia. وهي أرض من "جرها". وعندئذ أرسل الجرهائيون رسلا إليه يفاوضونه على الصلح على نحو ما ذكرت، فوافق على إن يدفعوا إليه في كل سنة جزية من فضة ولبان وزيت مصنوع من البخور.
ويظهر من هذه الرواية إن مجيء الملك إلى أرض الجرهائيين، كان من الهند، وكان قد رجع بعد إن قاد جيشه إليها، وانه نزل في ساحل عرف بإسم Chattenia و هو الخط.
يتبين من وصف "سترابون" للحجارة التي بنيت بها المدينة على زعمه ومن ادعاء "بلينيوس"، إن أبراج المدينة وسورها قد بنيت بقطع مربعة من صخور الملح. يتبين من ذلك إنها بنيت في أرض سبخة. وان هذا السبخ هو الذي أوحى إلى مخيلة "الكلاسيكيين" ابتداع قصة حجر الملح الذي بنيت به دور المدينة وسورها. وفي التأريخ قصص من هذا القبيل عن قصور ومدن شيدت بحجارة من معدن الملح.

(1/694)


--------------------------------------------------------------------------------

يظن ان Gerra أو Garraei أو Gerrei على حسب اختلاف القراءات، "وهو موضع ذكره "بطلميوس""، هو هذه المدينة "جرها". وذكر "بلينيوس" إنها تقع على خليج يسمى بأسمها Sinus Gerraicus ويبلغ محيطها خمسة أميال "خمسة آلاف خطوة". وعلى مسافة خمسين ميلا من الساحل، "أي خمسين ألف خطوة"، تقع منطقة تدعى "أتنه" Attene، وفي مقابل مدينة "جرها" من جهة البحر وعلى مسافة خمسين ميلا تقع جزيرة "تيلوس" Tylos المشهورة باللؤلؤ. والمدينة التي ذكرها "بلينيوس" هي المدينة التي، قصدها "سترابون".
وبعد، ف "جرها" إذن، مدينة تقع في العربية الشرقية على ساحل الخليج
على مسافة منه، أو عليه مباشرة. وقد رأى "شبرنكر" إنها "العقر"، وتدعى "العجير" في لهجة الناس هناك. ويرى هذا الرأي "فلبي" و طائفة من الباحثين. ومنهم من رأى إنها "القطيف"، أو الخرائب المعروفة باسم "أبو زهمول" مع "العقير"، وتكون هذه الخرائب الطرف النائي من "جرها" الذي يكون الميناء، ودعاها بعضهم "الجرعاء". وظن أخرون إنها "سلوى" الواقعة على ساحل البحر.
ومن رجح "الجرعاء" رأى إنها في لفظها قريبة جدا من "جرها" "جرهاء"،
وموضعها قريب منها. ولسبب آخر، هو ورود اسم ThaimonThaemae مع Gerraei عند "بطلميوس"، و Thaemae هو "تميم" في نظر الباحثين. وقد اقترن اسم "الجرعاء" بتميم. فقد ذكر "الهمداني" "الجرعاء"، فقال: "ثم ترجع إلى البحرين فالأحساء منازل ودور لبني تميم ثم لسعد من بني تميم، وكان سوقها على كثيب يسمى الجرعاء تتبايع عليه العرب". وقد كانت "جرها" سوقا تتبايع فيه الناس. ويرى "كلاسر" إن GerrhaGerra ليست "العقير" أو الجرعاء، وإنا هي موضع يقع في الطرف الجنوبي الغربي من خليج "القطن".

(1/695)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر إن "جرهاء" كانت قد بلغت أوجها في هذا العهد، وقد بقيت على ذلك مدة. غير إننا لا ندري إلى متى بقيت على هذه الحال. والظاهر إن مدنا أخرى أخذت تنافسها، مثل مدينة Charax، فأثرت هذه المنافسة فيها، وذلك بتحول الطرق البحرية عنها، وتحسن وضع صناعة السفن مما أدى إلى تمكنها من قطع مسافات واسعة من غير حاجة إلى التوقف في موانئ كثيرة فلم تعد تقف في موانئ الجرهائيين أو أن الجرهائيين لم يتمكنوا بذلك من مزاحمة السفن الأخرى فأخذ تجمعها في الأفول بالتدريج. ولعل لتحول طرق القوافل البرية دخلا في ذلك أيضا. فقد كانت الطرق البرية تتحول دوما، لعوامل سياسية واقتصادية وعسكرية، وبتحسن وسائل المواصلات، فيؤدي هذا التحول إلى اندثار مدن وظهور مدن، ولا نزال نرى أثر هذا التحول في حياة قرى جزيرة العرب.
وأما جزيرة TyreTyrus، التي أشار "سترابو" إليها، فإنها جزيرة "تيلوس" TylusTylos، التي ذكرها "بلينيوس". ويلاحظ وجهود شبه بين "تيلوس" Tylus و "تلمون" أو "دلمون" الواردة في النصوص الآشورية، عملنا على التفكير بوجود صلة بين الاسمين. وقد أشرت إلى ذهاب الباحثين إلى إن "تيروس" Tyrus هي جزيرة من جزر البحرين. أما "كلاسر" فيرى إنها ليست من جزر البحرين، ولكنها جزيرة أخرى تدعى "دلمة" أو "بليجرد"، و قد رجح هذه الجزيرة على الأولى، لأن موقعها أقرب في نظره إلى المسافات التي أشار إليها "سترابون" من "دلمة"، ومن جزر الحرين. وقد ذهب "فورستر" إلى إن "تيروس" Tyrus، هي "أوال". وأما Aradus، فإنها "أرد" "أراد"،.أي جزيرة "المحرق" من جزر البحرين. وقد تكون لتسمية "خليج مراد" بهذا الاسم علاقة بلفظة "أرد" "عرد" القديمة.

(1/696)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم يعثر المنقبون حتى الآن على كتابات يونانية تشير إلى مدة حكم قواد الإسكندر للبحرين ولكنهم عثروا على فخار يوناني يعود عهده إلى أواخر القرن الرابع قبل الميلاد، وعلى فخار يوناني مصنوع في البحرين عليه أسماء يونانية وفي ذلك دلالة على سكن اليونان في البحرين لأغراض سياسية أو حربية أو تجارية. قد يكون ذلك منذ عهد الإسكندر فيما بعد إلى انتهاء ملك خلفائه "السلوقيين"، وقد يكون من عهد السلوقيين فما بعد حتى أيام "البارثيين" Parthians.
وأما موضع Macae المقابل ل "هرموزي" "هرمز" Harmozi ، فيعرف أيضا بإسم MaketaMaceta، وهو مضيق Make لدى "بطلميوس"، وهو "رأس الخيمة" الرأس البارز في مضيق "هرمز" Harmoze، وربما الرأس وكل شبه الجزيرة المتصل بها. ويعرف هذا الرأس عند العربيين بإسم "رأس مسندم" Ras Musanam. وهو موضع يظهر إنه أحد المواضع الواردة في كتابة "دارا" التي تشير إلى الأماكن التي كانت خاضعة لحكمه. ونجد شبها في النطق بين MakaMakeMacae و "مجان" "مكان" يحملنا سلى تصور إن الاسمين هما لشيء وحد، وأن الاختلاف الذي نجده بين التسميتين هو من التحريف الذي يقع في النقل من لغة إلى لغة أخرى. و إذا صح هذا التصور كانت أرض "مكان" "مجان"، في هذه البقعة من جزيرة العرب.

(1/697)


--------------------------------------------------------------------------------

لقد قام تجار الخليج بالتوسط في نقل البضائع من الهند وإفريقية إلى العراق، يوصلونها إلى موانئ العراق أو إلى موانئ الخليج، ثم تنقل إما بالطرق المائية إلى إيران والعراق وإما بالطرق البرية. فقد تنقل التجارة إلى مدينة "كاركس" "خاراكس" Charax، وهي "المحمرة" في الزمان الحاضر، ثم توزع منها إلى مختلف الأنحاء، وإما إلى ميناء "أبولوكس" Apologus، ومنه بالنهر إلى الأمكنة المقصودة مثل "سلوقية" على دجلة مقابل "طيسفون"، أي "المدائن"، الموضع المعروف اليوم. "سلمان بلك"، وكانت عاصمة "السلوقيين." آنذاك؛ أو إلى مواضع على نهر الفرات، حيث تنقل منها برا إلى بلاد الشام.
و "أبولوكس" Apologus هي "اوبولم" Ubulum في الكتابات الأكادية. وقد ورد في نص أيام الملك "تغلت فلاسر" الثالث اسم قبيلة U-bu-lu ، كما ورد هذا الاسم على هذه الصورة: U-bu-lum في جملة أسماء القبائل التي انتصر عليها "سرجون الثاني". ويرى "كلاسر" صلة بين Apologus و "أبلة"، واسم هذه القبيلة التي تقع مواطنها على رأيه في جنوب العراق.
وقد ذكر صاحب كتاب "الطواف حول البحر الأريتري" إن مدينة "أبولوكس"، هي في "بارئيا"، أي في بلاد "الفرث"، وأنها تصدر اللؤلؤ والتمر والذهب ومواد أخرى إلى العربية السعيدة، وكانت تستورد بضاعة ثمينة منها كذلك، منها بضاعة من العربية الجنوبية:ومنها بضاعة إفريقية الأصل كما كانت تتجر مع الهند، فهي "ميناء البصرة" بالنسبة إلى العراق في هذا اليوم.

(1/698)

admin
12-26-2010, 01:20 PM
وفي الحرب الرابعة التي قام بها "أنطيوخس الثالث" Antiochus III "219 - 217 ق. م." اشترك في جيوشه زهاء "218" قبيلة عربية. وفي الأردن هاجم العرب مدينة "ربة عمان" - "فيلادلفيا"، ونهبوها. وفي ابتداء سنة "217 ق. م." كان في جيش هذا الملك زهاء عشرة آلاف عربي بإمرة "زبديديلوس" "زبدايل" Zabdidelos. وهو اسم يظهر إن صاحبه كان عربيا، إذ هو "زبدايل" على ما يظهر، حرف فصار على هذا النحو. وقد اشترك العرب مع هذا الملك في حصاره لمدينة "غزة" كما اشتركوا معه في حربه الخامسة التي أججها في بلاد الشام، حيث أشر إليهم أيضا في معركة Magnesia.
وقد ذهبت Pirenne إلى إن الكتابة المعينية التي أمر بكتابتها كبير "مصران" "كبر مصرن" و "معين مصران" وسمها العلماء ب Res 3022، هي كتابة تشير إلى هذه الحروب التي نشبت بين "أنطيوخس الثالث" وخصومه البطالمة، وأدت إلى احتلال "غزة" سنة "217 ق. م.". وترى من دراسة الكتابة المذكورة إنها تعود إلى ما بين سنة "220 ق. م." و "205 ق. م."، وأن لفظة "مذى" التي تعني "الماذيين" "الميديين"، هي كناية عن السلوقيين الذين احتلوا بلاد "الميديين" وورثوا ملكهم منذ عهد الإسكندر.
و ورد في الأخبار إن فرقة من العرب من ركبان الإبل، كانت في جيش "أنطيوخس" وذلك في حوالي السنة "190 ق. م.". ويظهر انها كانت تقوم بحماية حدود الدولة السلوقية وحفظها من غزو الأعراب لها، وبالحرب في الصحراء ومساعدة الجيش السلوقي في البادية عند اضطراره إلى اجتيازها.

(1/699)


--------------------------------------------------------------------------------


هذا ويلاحظ إن معظم القبائل كانت قد أيدت "أنطيوخس" ضد "بطلميوس" والبطالمة الذين ورثوا القسم الغربي من تركة "الإسكندر". ولعل سبب ذلك هو إن ملك "أنطيوخس" لم يكن قد مس أرض العرب والأعراب، ولذلك لم يكن له إشراف مباشر عليهم يستوجب إثارتهم. أما البطالمة، فقد كانوا يمتلكون أرضين، أصحابها عرب، وتعيش في أرضهم فبائل عربية من قديم الزمان، ولذلك لم تستطع هضم "البطالمة" فأرادت التخلص منهم بالانضمام إلى منافسيهم في الجزء الشرقي من إمبراطورية "الإسكندر".
ويحدثنا الكتاب "الكلاسيكيون" إن "بطلميوس ساطر" "322 - 283 ق. م." أرسل جيشا إلى "سلوقس نيقاطور" "312 - 280 ق. م." فخرج من مصر واجتاز "سيناء" إلى غزة، ومنها إلى "بطرا"، فركب الجمال، وتمون بالماء، واجتاز البادية، فكان يقطعها بسرعة كبيرة ليلا، لشدة الحرارة في النهار، إلى إن بلغ العراق أما البادي التي اجتازها هذا الجيش، فهي بادي السماوة. وأما الطريق التي سلكها فهي الطريق المألوفة التي تسلكها القوافل، وهي من أهم الطرق الموصلة إلى العراق وأقصرها، وقد أرسل "سلوقس نيقاطور" Seleucus Nicator "ميكستينس" Magastenes إلى الهند.

(1/700)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان "بطالمة" مصر أنشط من السلوقيين في مجال الاشتغال بالتجارة البحرية الجنوبية، والاستفادة من البحر، إذ وجهوا آنظارهم نحو البحار الجنوبية، فأرسلوا بعثات استكشافية عدة لدراسة أحوال البحار والسواحل والشعوب،لتطبيق ما تتوصل إليه من معارف في مقاصدها العملية التي أرادت تنفيذها في تلك البحار. ولعل لوضع مصر الجغرافي الممتاز الذي يكون قنطرة بين البحرين وسوقا تلتقي به التجارات الأتية من الشمال ومن الجنوب، من أوروبة وحوض البحر المتوسط ومن السودان والحبشة وبقية أنحاء إفريقية ثم من جزيرة العرب والهند دخلا في هذا الاهتمام بالبحر الأحمر والمحيط الهندي الذي أظهرته حكومة البطالمة، فقد سبقهم إليه قدماء المصريين ثم الفرس ثم الإسكندر، فاهتمامهم هذا هو في الواقع استمرار لتنفيذ تلك المقاصد القديمة المذكورة.
وأمر "بطلميوس الثاني فيلادلفوس" "285 - 246 ق. م." "284 - 247 ق م."، إعادة حفر القناة القديمة بين النيل والبحر الأحمر، "المشروع" الذي بدأ به المصريون لربط البحرين وبتوسيع التجارة مع سواحل إفريقية وسواحل جزيرة العرب والهند، وبتكثير الأصناف التي كانت تستورد من المناطق الحارة، وبذلك اتخذت تجارة مصر والبلاد العربية وإفريقية شكلا لم تعهده من قبل.
وذكر "ديودورس" أن آخر محاولة جرت لوصل البحر الأحمر بالنيل كانت

(1/701)


--------------------------------------------------------------------------------

في أيام "بطلميوس الثاني فيلادلفوس" حيث عزم على شق قناة منه إلى خليج السويس عند مدينة "أرسينو" Arsino. وقد أطلق على القناة التي أمر بشقها اسم "قناة بطلميوس". وقد شقت في حوالي سنة "269 ق. م."، كما حصنت المدينة بسور حصين لحمايتها من الغارات. وقد قد بذلك غارات الأعراب الذين كانوا في الأرضين منذ أمد طويل. ولعل هذا الملك هو الذي أرسل " أرستون" "أرسطون" Ariston للكشف عن سواحل البحر الأحمر من السويس إلى المحيط الهندي، ولعله أيضا الملك الذي ساعد أهل "مليتيوس"، وهم يونان، أسسوا مستعمرة AmpeloneAmpelonaea في مكان ما من الساحل العربي للبحر الأحمر وأمدهم برعايته. وهي مستعمرة أشار إليها الكتبة "الكلاسيكيون". والظاهر إنها واحدة من مستعمرات مشابهة، أسسها الروم على سواحل البحر الأحمر، لحماية سفنهم وتجارهم و إمدادها بما تحتاج إليه من معاونة ومساعدة ولشراء ما يرد إليهم من بر جزيرة العرب.

(1/702)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عاد "ارسطون" من أسفاره البحرية، فقدم تقريرا إلى ملكه ذكر فيه قوم "ثمود" في جملة من ذكرهم من الشعوب ولعله أول إغريقي ذكرهم. وفي أيام "بطلميوس فيلادلفوس" كذلك، أسست موانئ جديدة على سواحل البحر الأحمر، لرسو السفن فيها وللمحافظة على الطرق البحرية من لصوص البحر، بلغت مداها جزيرة "سقطرى" Dioscorida، حيث أنشئت فيها جملة مستعمرات يونانية. وقد بقي، اليوناييون فيها عصورا غير إن نزولهم فيها لا يدل على احتلالهم لها. وفي أيام صاحب كتاب "الطواف حول البحر الأريتري" كانت الجزيرة على حد قول المؤلف في حكم "اليعزوز" Eleazus ملك "سباتا" Sabbatha، أي "شبوة". ويدل هذا على إنها كانت تابعة للعربية الجنوبية. ويظهر إن "بطلميوس فيلادلفوس" قصد أيضا الالتفاف حول السواحل العربية وضرب الفرس وإلحاق الأذى بهم، بأسطول كونه لهذه الغاية. وقد كانت جزيرة "سقطرى" "سقطرة" ذات أهميه في ذلك العهد، وإن ا فقدت أهميتها في الزمن الحاضر فلا يعرفها ولا يذهب إليها اليوم إلا القليل. وذلك لأنها كانت تنتج حاصلات لها أهمية كبيرة في أسواق العالم إذ ذاك مثل البخور والصبر والصبغ وغير ذلك وهي سلع لها قيمة، تشبهه قيمة البترول في القرن العشرين ثم لأنها محطة مهمة لاستراحة رجال السفن ومفتاح يؤدي إلى مغالق المحيط الهندي من جميع النواحي، ولما كانت السفن في ذلك العهد صغيرة، تسيرها الرياح، وليس في مقدورها إن تحمل مقادير كبيرة من الماء العذب والأكل، كان لا بد لها من الوقوف في منازل عديدة، ومنها هذه الجزيرة، التي يعني اسمها "جزيرة السعادة"، إذ يذكر الباحثون إن تسميتها جاءتها من السنسكريتية "دفيبا سوخترا" Dvipa Sukhatara وهي تسمية إن صح إنها من هذا الأصل، فإنها تدل على صلة أهل الهند بها منذ عهد قديم.

(1/703)


--------------------------------------------------------------------------------

وأهلها خليط من عرب وروم و إفريقيين وهنود يتكلمون بلهجات متداخلة، وهذا الاختلاط نفسه أمارة على الأهمية التي كانت للجزيرة في ذلك الزمن. وقد ذكر "ياقوت الحموي" إن أكثر أهلها نصارى عرب، وان اليونانيين الذين فيها يحافظون على أنسابهم محافظة شديدة وقد وصلوا إليها في أيام الإسكندر، ويزعم بعض الأخباريين إن "كسرى" هو الذي نقل اليونانيين إليها، ثم نزل معهم جمع من "مهرة" فساكنوهم وتنصر معهم بعضهم. وفي الروايات العربية عن الروم الذين بجزيرة "سقطرى" شيء من الصحة.
والذين يزورون هذه الجزيرة في هذه الأيام، يرون آثار ذلك الاختلاط وتشابك الشعوب والثقافات فما زالت الآثار النصرانية باقية فيها، تتحدث عن انتشار النصرانية فيها، و عن وجود جالية رومية، أنساها الزمن أصلها فدخلت في أهل "سقطرى"، وأخذت لسانا جديدا مزيجا من ألسنة آرية وسامية وحامية. ولا يزال كثير من أهلها يسكنون الكهوف والمغاور ويعيشون عيشة بدائية، لانعزال الجزيرة عن بقية العالم.
لقد صرف البطالسة مجهودا كبيرا في سبيل السيطرة على البحر الأحمر و التوسع في المحيط الهندي، وقد تابع البطالسة الذين خلفوا "بطلميوس الثاني فبلادلفوس" خطته في التوسع في السواحل الإفريقية وفي المحيط الهندي، وأخذوا يرسلون الرجال المغامرين إلى تلك الأماكن للكشف عنها بغية الوقوف على أحوالها والاستفادة مما يحصلون عليه في سياسة التوسع التجاري والسياسي التي وضعوها للبلاد التي تقع في المناطق الحارة. وقد جمعت التقارير وكانت مهمة ولا شك، ووضعت في خزائن الإسكندرية، وقد وقف على بعضها الكتبة، "الكلاسيكيون".

(1/704)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد أخرجت أيام البطالمة جماعة من المغامرين الإغريق جابوا البحر الأحمر وسواحله، ودخلوا بسفنهم المحيط الهندي حتى بلغوا الهند. غير إن نجارة الهند، والبحار، بقيت في الجملة في أيدي العرب. ولم يحاول البطالمة تغير الوضع وتبديل الحال. وقد انحصرت كل محاولتهم في توجيه التجارة من الموانئ العربية إلى سواحل مصر. لقد كان بحارة العربية الجنوبية أصاب كفاية ودراية، وما زالوا ملاحين أكفاء حتى الآن. فلم يكن من السهل على البطالمة إخراجهم من البحر و إبعادهم عنه.. ولقد حاول البرتغاليون من بعدهم بعدة قرون إقصاء العرب عن تجارة الهند وإفريقية، ومنع سفنهم من الظهور في المحيط الهندي، فباءت محاولاتهم بالإخفاق، وبقوا في البحر بالرغم من انف البرتغاليين.
وقد وجه "بطلميوس أورغاطس الثاني" Ptolemy Euergetes "146 - 117 ق. م."، انتباهه نحو البحر الأحمر والمحيط الهندي والهند، فكون أسطولا قويا من البحر الأحمر، قام برحلات منتظمة إلى قبلة أنظار التجار: الهند. ويظهر من بعض الكتابات إنه خصص موظفين بإدارة أعمال السفن والسهر على سيرها وإدامتها وتنميتها. أناط بهم حماية السفن التجارية وحراستها حتى لا يتحرش بها لصوص البحار، الذين كانوا يهاجمون السفن المحطمة و يأخذون ما فيها ويتعرضون للسفن المحملة بالأثقال يأخذون ما فيها وينقلونه إلى الساحل. وقد ألف تحقيق هذه المهمة حرسا بحريا أخذ دور شرطة بحرية، واجبها تقديم المساعدات لمن يصليها وتعقب اللصوص.

(1/705)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد برز اسم قائد محنك من أهل CyzicusKyzikus استطاع إن يبلغ الهند وأن يتاجر معها، وأن ينشء خطا ملاحيا منتظما بين مصر والهند. وقد استطاع هذا القائد المسمى ب "يودوكسوس " Eudoxus إن يتعلم أشياء كثيرة من أسرار الملاحة البحرية وأخطارها ومجازفاتها ومن معارفها والأماكن التي يجب النزول بها، ولعل ادراك "هيبالس" "هيبالوس" Hippalus لأهمية الرياح الموسمية واستعماله لها، هو ثمرة من ثمرات الرحلات التي قام بها "يودوكسوس" للهند. و إذا لم يكن "هيبالوس" من رجال ذلك القائد، فانه لم يكن بعيد عنه على كل حال.
وكان الساحل الشمالي الغربي لجزيرة العرب، أي القسم الجنوبي من المملكة الأردنية الهاشمية في الزمان الحاضر وأعالي الحجاز للنبط. لهم حكومة تحكمهم، إلا إنها كانت تخضع لنفوذ البطالمة و قد تأثرت مصالحهم كثيرا، ولا شك بتدخل البطالمة في أمور البحر و بوضعهم اليونان في أماكن متعددة من الساحل لحماية سفنهم، ولاتجارهم مباشرة مع موانئ جزيرة العرب، حيث أثر ذلك على القوافل التجارية البرية التي كانت تحمل تجارات إفريقية والهند العربية الجنوبية فتأتي بها على ظهور الجمال إلى بلاد الشام مخترقة أرض النبط وبذلك تدفع لهم حق المرور.
ولم يتأثر النبط وحدهم بسيطرة البطالمة على البحر الأحمر، بل تأثر بهذه السيطرة عرب الحجاز و العربية الجنوبية كذلك. أخذت سفن البطالمة تصل بنفسها وبحراسة السفن الحربية إلى الموانئ المشهورة، فتشتري ما تحتاج إليه وتبيع ما تحملة من سلع، و حرمت بذلك التجار العرب من موارد رزقهم التي كانوا يحصلون عليها، من الاتجار بالبحر. وقد اضطر التجار العرب على ترك البحر للمنافسين الأقوياء و على الاقتصار على إرسال تجارتهم بطرق البر نحو بلاد الشام.

(1/706)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر إن عرب البحر الأحمر، لم يكونوا يميلون إلى ركوب البحار وبناء السفن قبل أيام البطالمة وبعد أيامهم كذلك. ولهذا لم تكن لديهم سفن مهمة مذكورة في هذا البحر. ولم يكن لهم سيطرة عليه. بل يظهر انهم كانوا يتخوفون من ركوب البحر، وفي المثل المنسوب إلى "أحيقار": "لا تر العربي البحر، ولا ساكن صيدا البادية"، تعبير عن وجهة نظر عرب العربية الغربية وأعراب البادية بالنسبة إلى البحر، والتجارة البحرية.
وقد كان ميناء "ايلة" AlianaEloth في أيدي البطالمة في هذا العهد. وهو ميناء مهم تراسل منه تجارة فلسطين إلى موانئ البحر الأحمر وإفريقية. كما كان يستقبل السفن القادمة من إفريقية ومن المحيط الهندي. فهو اذن من الأسواق التجارية المعروفة في ذلك ا لعهد.
لقد كان ميناء "لويكة كومة" Lueke Kome، أي "المدينة البيضاء" من أهم الموانئ التجارية على سواحل الحجاز على عهد البطالسة، منه تتجه السفن إلى الساحل المصري لتفرغ شحنتها هناك، فتنقل إما بواسطة القوافل، وإما بالسفن من القناة المحفورة بين البحر الأحمر ونهر النيل لتتابع طريقها إلى موانئ البحر المتوسط، وقد كان من موانئ النبط، ذكره "سترابون" في معرض كلامه على حملة "أوليوس غالوس" على جزيرة العرب، ففيه نزلت جيوش الرومان القادمة من مصر للاتصال بحلفائهم النبط، ولا يعرف موضعه الآن معرفة تحقيق، وإنما يرى بعضهم إنه "الحوراء"، مرفأ سفن مصر إلى المدينة، ويظهر إن "الحوراء" كان من المواضع الجاهلية القديمة وقد وجدت فيه آثار قصور.
ورأى "ونست" Vincent إن "لويكة كومة" هو "المويلح" في الزمان الحاضر، وهي قرية بها بساتين ومزارع ونخيل، ومياهها من الآبار، لها طريق قوافل إلى المدينة وإلى تبوك. ورأى آخرون إنها "عينونة" أو "الخريبة" وهي تابعة لإمارة "ضبا" على ساحل البحر الأحمر، وهي من إمارات الحجاز.

(1/707)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر إن تجارة هذا الميناء كانت عامرة جدا، فكانت القوافل التي تنقل البضائع بين "بطرا" Petra وبين ضخمة جدا حتى كأنها قطع كبيرة من الجيوش، تقوم بنقل الأموال من الميناء إلى "بطرا" ومنها إلى الأسواق، أو بنقل التجارة الواصلة إلى "بطرا" من العراق أو الخليج أو اليمن، ومنها إلى ذلك الميناء لتصديره إلى مصر وحوض البحر المتوسط ويتبين من إهمال الكتب اليونانية أو اللاتينية ذكر هذا الميناء بعد الميلاد إن شأنه أخذ في الأفول منذ ذلك العهد. ولعل ذلك بسبب تحول خطوط سير السفن في البحر الأحمر بعد استيلاء الرومان على مصر، و إنشائهم أسطولا تجاريا كبيرا في هذا البحر قام بالاتجار مباشرة مع إفريقية والهند ومصر، فلم تبق له حاجة إلى النزول في هذا الميناء.
و Leuce KomeLeuke Kome، اسم اعجمي بالطبع، ورد في الكتب "الكلاسيكية"، لا ندري أهو ترجمة لمسمى عربي، أم هو اسم حقيقي لذلك الميناء أطلقه عليه مؤسسوه في زمن البطالمة، أو قبل ذلك، وكانوا من اليونان، ولوجود خرائب عديدة على ساحل الحجاز "ترجع إلى ما قبل الإسلام، بها آثار يونانية ورومانية، لم تدرس دراسة علمية دقيقة، ولم تمسها أيدي المنقبين"، لا يمكن القطع في موضع هذا الميناء وفي اسمه الحقيقي الذي كان يعرف به.
والميناء الآخر المهم الذي تاجر البطالمة معه، ونزل فيه رجالهم هو ميناء MuzaMauza وهو "مخا". وهو ميناء قديم، وقد عثر على مقربة منه على كتابة وسمت ب Ry.598. وقد قدر زمان كتابتها حوالي سنة "300" أو "250 ق. م.". وكان في أيام صاحب كتاب "الطواف حول البحر الأريتري" تابعا لملك سماه Charibael ملك Sapphar. و Charibael هو "كرب ايل." وكان ملكا على "سبأ". ويستنتج من الكتاب المذكور إن حكم هذا الملك كان قد امتد على أرض Azania وعلى أرضين أخرى مجاورة لها في إفريقية، أي إن تلك الأرضين كانت خاضعة لحكام اليمن في ذلك العهد.

(1/708)


--------------------------------------------------------------------------------

وتعامل البطالمة مع ميناء آخر يقع على السواحل العربية هو ميناء Arabeae Eudaemom ، فكان تجارهم يأتون بسفنهم إليه، فيشترون من تجاره ما يحتاجون إليه، كما إنهم اتخذوه محطة للاستراحة وللتزود بالماء والزاد، وللقيام منه برحلات بعيدة إلى سواحل إفريقية، أو الذهاب إلى الهند. وهذا الميناء هو "عدن" الشهير، الذي لا يزل محافظا على كيانه وعلى أهميته في العالم السياسي والحربي والاقتصادي. وذلك بفضل مكانه الحصين وإشرافه على المحيط في مكان مشرف على باب المدب مفتاح البحر الأحمر وعلى الساحل الإفريقي.
وقد كان هذا الميناء موجودا ومعروفا قبل البطالمة، بدليل اشتهاره عندهم واتخاذه محطة لهم. ولكننا لا نعرف من تأريخه القديم شيئا كثيرا، وقد عثر فيه على كتابات بالمسند إلا إن العلماء لم يستطيعوا حتى الآن التحدث بشيء من التفصيل عن تأريخ عدن قبل هذا العهد. وقد ازدادت عناية الغربيين به منذ حملة "أوليوس كالوس"، كما ساتحدث عنه فيما بعد.
ويرى بعض الباحثين إن ما ذكره بعض "الكلاسيكيين" من وجود مدن أو جاليات يونانية مثل ARETHUSA "أرتوسه" و "لإريسا" Larissa و"خلقس" Chalkis في بلاد العرب، إنما يراد بها مواضع يونانية أقيمت في أيام "البطالمة" على الساحل الجنوبي لجزيرة العرب في مواضع لا تبعد كثيرا عن "عدن". وقد بقيت حية عامرة إلى سقوط حكم "البطالمة" فضعف أمر تلك المستوطنات ولم يسعفها أحد من اليونان أو الرومان بالمساعدة فدمرت، دمرتها القبائل العربية الساكنة في جوارها.
أما موضع "اتينه" AtheneAthenaeAttene، الذي ذكره "بلينيوس" مع المواضع المذكورة فقد ذهب أكثر الباحثين إلى إنه "عدن". وهو موضع كان معروفا عند اليونان والرومان معرفة جيدة، وكانت سفن البطالمة تأتي إليه للاتجار.

(1/709)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذهب "تارن" W. W. Tarn إلى إن مستعمرة "أمبلونه" Ampelone وهي إحدى المستعمرات اليونانية التي أقيت على ساحل البحر الأحمر، إنما هي مستعمرة أنشئت في أيام "بطلميوس الثاني"، وقد استوطنها قوم من أهل Miletos، لغرض ابحار السفن منها إلى البحار الجنوبية واستقبال السفن القادمة منها.
لقد أحدث دخول اليونان البحار الجنوبية من الخليج العربي ومن البحر الأحمر احتكاكا مباشرا بين الثقافة اليونانية والثقافات الشرقية، وقد عثر على كتايات يونانية في مواضع متعددة من الخليج ومن السواحل الإفريقية تتحدث عن وجود اليونان في هذه الأماكن، فقد عثر على كتابات من أيام السلوقيين في جزيرة "فيلكا"، وكتابات ل "بطلميوس الثالث" "أورغاطس" Euergetes "247 - 221 ق. م." في "أدولس" Adulis عند "مصوع"، وعثر على نقود في مواضع متعددة من السواحل الجنوبية لجزيرة العرب والسواحل، الإفريقية ومنذ هذا العهد دخلت المؤثرات الثقافية اليونانية إلى الحبشة وإلى مواضع أخرى من إفريقية.
وقد عثر في خرائب مدينة "تمنع" على كثير من الأشياء "الهيلينية" الأصل أو المتأثرة بالهيلينية: من تماثيل، وتحف فنية، وفخار، وما شابه ذلك، هي من نتائج التبادل التجاري، والاتصال الذي كان بن حوض البحر المتوسط والعربية الجنوبية. وقد ترينا الحفريات في المستقبل آثارا أخرى تتحدث عن أثر الثقافة اليونانية في جزيرة العرب في نواح أخرى عديدة لم نعرفها بعد.
وكان من نتائج دخول اليونان إلى الخليج العربي والبحر الأحمر، دخول النقود اليونانية إلى جزيرة العرب، وظهور دور ضرب السكة فيها. وقد عثر في مواضع من الجزيرة على نقود ضرب بعضها على طراز نقود "الإسكندر الأكبر" وضرب بعض آخر في أيام خلفائه، كما عثر على نقود محلية ضربت في العربي الجنوبية، وقد تبين من دراستها وفحصها إنها ضربت على الطريقة اليونانية، ويظهر الأثر اليوناني واضحا فيها. وسأتحدث عن ذلك في الموضع الخاص بالنقود.

(1/710)


--------------------------------------------------------------------------------

هذا و قد كشفت جزيرة صغيرة من جزر الخليج العربي، هي جزيرة "فيلكا" ضمن جزر الكويت عن بعض أسرارها التاريخية القديمة، فقدمت بعض الهدايا والعطايا لبعثة أثرية "دانماركية" نبشت الأرض في مواضع منها،و إذا بها تتحدث إليها بتحفظ وبحرص عن أيامها الأولى، في "العصور البرنزية" ثم في "العصور الحديدية"، ثم عن صلاتها بالعراق حيث نزل بها الأكاديون والآشوريون،. وعن صلاتها بالجزر الأخرى مثل البحرين، وعن صلاتها بالفرس ثم باليونان في أيام "الإسكندر الكبير" وخلفائه، حيث نزل بها جنوده وقوم من أتباعه وأتباع من جاءوا بعده من حكام.
وفي جملة ما عثر عليه في هذه الجزيرة مما هو من أيام خلفاء الإسكندر، كتابة يونانية على حجر، عثر عليه سنة "1937 م"، أي قبل قيام البعثة الدانماركية بأعمال الحفر، احتفظ به أحد الإنكليز و إذا به تقدمة قدمها أحد المواطنين الأثينيين، واسمه "سوتيلس" Soteles والجنود إلى "زيوس المخلص" Zeus Sotore وإلى "بوزيدون" Poseidon وإلى "أرتيمس المخلصة" Artemis Soteira. فيظهر منها إن حامية يونانية كانت في هذه الجزيرة،لعلها من بقايا الجيش الذي بعث به الإسكندر للسيطرة على الخليج ولفتح الهند والجزر المقابلة لبلاد العرب ولسواحل جزيرة العرب.
وعثر على قوالب كثيرة من الآجر لصنع التماثيل، منها قالب ظهر إنه حفر حفرا ليوضع في داخله مادة تتحول إلى تمثال، وقد تبين من صنع تمثال فيه إنه يمثل وجها له شبه كبير بوجه الإسكندر، فلعله كان قد صنبع ليمثل وجه ذلك الرجل، كما عثر على تماثيل يظهر عليها أثر الفن اليوناني، وعلى أنواع من الفخار والأختام والآجر تمثل عهودا مختلفة أقدم من عهود اليونانيين، ترجع بتأريخ الجزيرة إلى حوالي الألف الثالثة قبل الميلاد.

(1/711)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن الأثار المهمة النفيسة التي عثرت البعثة الدانماركية عليها، كتابة مدونة على حجر في "44" سطرا، تفيد إن الملك بعث برسالة إلى أهل "ايكاروس" Ikarus في شأن عزمهم على إقامة معبد في تلك الجزيرة، و تعيين كهان لها وتبين موافقة الملك عليه، وتحدد الأجور والنفقات التي تدفع، وحقوق الحكومة من الواردات وكيفية الجباية، و.ما شاكل ذلك.. وهي رسالة لم تحل رموزها حلا تاما حتى الآن، لوجود كسور في الحجر وذهاب حروف بعض الكلمات.
ويظن إنها من أيام "سلوقيوس الثاني" المعروف ب "كلينيكيوس"، دونت في حوالي سنة "239 ق. م.".
ويعود عهد النقود التي عثر عليها في هذه الجزيرة إلى هذا الزمن أيضا، فقد وجد نقد ضرب في أيام "سلوقس الأول" باسم الإسكندر الأكبر حوالي "310 - 350 ق. م."، فهو لا يبعد كثيرا عن أيام الإسكندر المتوفى سنة "323 ق. م.". ووجد نقد ضرب في أيام "أنطيوخس الثالث"، الذي حكم المملكة "السلوقية" ما بين "223" و "187ق. م.".
ولاكتشاف هذه النقود شأن تاريخي كبير لأنها تشير إلى تدحل اليونان في أمور ا الخليج في هذا العهد، وحكمهم لسواحله العربية من "جرها" إلى جنوب العراق، كما إنها ستعين في التوصل إلى تثبيت تواريخ حكم السلوقيين لهذه المنطقة. وسيكون لما سيكتشف من نقود في الكويت، أو في مواضع أخرى مهن الخليج، فائدة كبيرة في توسيع معارفنا بالسلطان الاقتصادي والسياسي للسلوقيين في هذه الجهات وفي تعيين صلاتهم بالشعوب العربية الساكنة على بقية ساحل الخليج وفي الأرضين البعيدة عن منطقة سلطان السلوقيين.
ويعد اكتشاف آثار إلى "اكروبولس" Akrropolis وكذلك المعبد. في جزيرة "فيلكا" التي هي جزيرة "ايكاروس" Ikaros عند اليونان ذا أهمية كبيرة، من ناحية دراسة الأثر الذي تركه اليونان في الخليج.

(1/712)

admin
12-26-2010, 01:21 PM
أما في الساحل المقابل للجزيرة وفي الأماكن الأخرى من الخليج، فلم يعثر حتى الآن على مثل هذا المعبد اليوناني أو البيوت اليونانية فيها، وهذا لا نستطيع إن نتحدث عن أثر اليونان فيها، وقد يكون وجود المعبد والبيوت اليونانية في هذه الجزيرة بسبب إبقاء حامية الإسكندر فيها وسكناهم في الجزيرة وبقائهم بها بعد زوال حكم اليونان عن العراق. وقد اختار الإسكندر أو قواده هذه الجزيرة، لأهميتها من الوجهة العسكرية من حيث رسو سفن الجيش اليوناني بها و إمكان تأديب سكان السواحل منها و إخماد معارضتهم لليونان وتعقب "القراصنة" والهيمنة على مصب دجلة والفرات في الخليج والدفاع عن جنوب العراق.
لم يتمكن السلوقيون من الهيمنة على الخليج والاتجار به، لأن حكومتهم في العراق لم تكن حكومة قوية، ثم سرعان ما قضى عليها الفرس، فزال حكم اليونان عن العراق. أما في مصر، فقد قضى الرومان على حكم البطالمة، وانتزعوا الحكم منهم، وورث الرومان اليونان في البحر الأحمر، وولوا أنظارهم نحو سواحله ونحو المحيط الهندي، على حين انتزع الخليج من الروم ومن الرومان، وصار بحرا شرقيا، السلطان الأول فيه للعرب والفرس.
لقد كافح البطالمة أعمال اللصوصية "القرصنة" في البحر الأحمر، وأمنوا بذلك لسفنهم السير في هذا البحر، إلا إنهم لم يتمكنوا من السيطرة على العربية الغربية، ولم يتمكنوا من المساهمة مع العرب في الاتجار برا مع اليمن وبقية العربية الجنوبية. لقد كانت التجارة في أيدي العرب. وكان المهيمن على النهاية القصوى لهذه الطرق البرية "النبط" الذين تكتلوا في أعالي الحجاز، وكونوا لهم مملكة النبط، وأخذ نجمهم في الصعود منذ أيام "الإسكندر الأكبر" وقد ساعد في صعوده الحروب التي نشبت بين البطالمة والسلوقيين، فوجد النبط لهم فرصة مؤاتية فأخذوا يوسعون أرضهم، ويتقدمون نحو الشمال متوغلين حتى بلغوا أرضين تقع شمال "دمشق".

(1/713)


--------------------------------------------------------------------------------

وأدت الحروب التي نشبت بين السلوقيين، والبطالمة إلى تقددم القبائل العربية وزحفها من الجنوب نحو الشمال، وزاد من توسعها تفتت ملكة السلوقيين وتقلص سلطانها، مما أفسح في المجال للقبائل بالنزوح بكل حرية إلى أرضين جديدة في العراق، وتكوين إمارات من قبائل متحالفة. كذلك أدى ضعف حكومة البطالمة إلى توسع القبائل العربية وتوغلها في طور سيناء وفي المناطق الشرقية من مصر الواقعة على الضفاف الشرقية لنهر النيل، مما حمل يعض الكتبة "الكلاسيكين" على إطلاق لفظة "العربية" عليها دلالة عد توغل القبائل العربية فيها بالطبع.
وإلى عهد البطالمة ترجع الكتابات العربية المدونة بالمسند التي عثر عليها في الجزيرة بمصر. وقد كتبت في السنة الثانية والعشرين من حكم بطلميوس بن بطلميوس، ويصعب تعيين زمان هذه الكتابة و زمان بطلميوس بن بطلميوس الذي في أيامه كتبت، لأن هنالك عددا من البطالمة حكموا أكثر من اثنين وعشرين عاما، فأيهم المقصود? ويرى "وينت" F.V.Winnet إنها لم تكتب على أي حال بعد سنة "261 ق. م.". وعثر على كتابات أخرى في موضع "قصر البنات" على طريق "قنا" وفي منطقة "أدفو"، ووجود كتابات المسند في مصر يدل على الصلات الوثيقة التي كانت بين العربية ومصر.
وقد دون إحدى هذه الكتابات رجل اسمه "زد ال بن زد" "زيد ال بن زيد"

(1/714)


--------------------------------------------------------------------------------

"زيد ايل بن زيد" من "آل ظرن" "آل ظيران" "آل ظيرن"، وقد كان كاهنا في معبد مصري، وقد اعترف بوجود دين عليه وواجب هو تزويد "بيوت آلهة مصر" "معابد آلهة مصر" "ابيتت الالت مصر" ب "المر و القليمة" "امرن وقلمن". ويقصد ب "قلمتن" ما يقال له: Calamus في الإنكليزية و Kalmus في الألمانية، ويراد به ما ي قال له قصب الذريرة أو قصب الطيب وقد عبر عن لفظة "ورد" واستورد بلفظة "ذ سعرب". وذكر إن ذلك كان في عهد "بطلميوس بن بطلميوس"، "بيومهر تلميث بن تلميث"، أي "بيوم أو بأيام بطلميوس بن بطلميوس". وقد عبرت عن لفظة "بطلميوس" ب "تلميث".
وقد استحق عليه تسديد الدين، وصار نافذا في شهر "حتحر". وعبر عن ذلك بهذه الجملة: "ويفقر زبدال بورخ حتحر ". و "فقر" بمعنى أصبح مستحقا نافذا، ومعنى الجملة: "واستحق تسديده على زيد ايل بشهرحتحر". وقد وفى بذلك دينه، لكل معابد آلهة مصر. وقسمت إليه في مقابل ذلك، وربما على سبيل المقايضة، أنسجة وأقمشة أو أكسية بز "كسو بوص"، أخذها إلى سفينة تجارية، ربما كانت سفينته. وقد أخذ عليه عهد واعترف مقابل ذلك بالدين الذي عليه وبوجوب تسديده عند استحقاقه لمهبد الإله "أثر هب" "أثر هف". ويقصد بذلك الإله Osarapis، وذلك في شهر "كيحك" من السنة "خرف" الثانية والعشرين من حكم الملك "بطلميوس بن بطلميوس".
وقد ذهب "رودوكناكس" ناشر النص إلى احتمال كون "زيد ايل" كاهنا في معابد مصر، ولو كان من أصل غير مصري، فقد كان المصريون تساهلوا في هذا العهد - كما يرى -، فسمحوا للغرباء بالانخراط في سلك الكهان وخدمة المعابد، وتساهلوا مع "زيد ايل" هذا فأدلخوه في طبقة "أويب" Ueeb انتخبوه كاهنا، ليضمن لهم الحصول على المرور والقليمة بأسعار رخيصة، لاستيراده إياها بأسمه ومن موطنه مباشرة من غير وساطة وسيط.

(1/715)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذهب "رود كناكس" أيضا إلى إن "زيد ايل" كان يستورد المر والقليمة لا لحسابه الخاص ومن ماله، بل لحساب المعابد المصرية ومن أموالها. فلم يكن هو إلا وسيطا وشخصا ثالثا يتوسط بين البائع والمشتري، يشتري تلك المادة ويستوردها باسمه، ولكنه يستوردها للمعابد ولفائدتها. وهو لا يستبعد مع ذلك احتمال اشتغاله لنفسه وعلى حسابه في التجارة، يستوردها ويبيعها في الأسواق ويتصرف بالأرباح التي تدرها كما يريد. وهو لا يستبعد أيضا احتمال مساعدة المعابد له بتجهيزه بالمال تقوية رأس ماله، أو انتشاله من خسارة قد تصيبه.
وقد أصيب هذا التاجر، كما يظهر من هذا النص، بخسارة كبيرة في شهر "حتحر" ربما أتت على كل ما كان يملكه، فهبت المعابد المصرية لإنقاذه، وإعادة الثقة به، بإسناده بتقديم أكسية البز "بوص" إليه. و قد أخذها وصدرها في سفينته التي يستورد بها المر والقليمة إلى الأسواق، فربح منها، واستورد المر والقليمة و أعاد إلى المعابد ما أخذه منها من تلك السلعة، وأدى ديونه في شهر "كيحك". وقد أعادت إليه الثقة به، وأنقذ من تلك الضائقة المالية التي حلت به، بمدة قصيرة لا تتجاوز شهرا كما يرى ذلك "رودوكناكس".
الفصل الثامن عشر
العرب و الرومان
انتهز حكام "رومة" فرصة ضعف خلفاء الإسكندر، وانحلال المملكة العظيمة التي كونها ذلك الفاتح، فاستولوا على مقاطعة "مقدونية" Macedonia وعلى جزر اليونان وآسية الصغرى وبلاد الشام وإفريقية وفي ضمنها مصر،فأصبحوا بذلك كما كان شأن البطالمة على اتصال بالعرب مباشر. وبهذا الاتصال بدأت علاقات العرب بالرومان.

(1/716)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد كان العرب يقيمون في لبنان وفي سورية قبل الميلاد بزمن طويل. وقد اشتغل قسم منهم بالزراعة وتحولوا إلى مزارعين مستوطنين، وتولى قسم منهم حماية الطرق وحراسة القوافل ولا سيما القوافل التي تجتاز طريق الشام - تدمر - العراق. وقد أشير إلى العرب "السكونيين"، أي سكان الخيام Arabes Skynitai الذين كانوا ينزلون البوادي وهم من الأعراب الشماليين.
استطاع "بومبيوس" Pompeius القائد والقيصر إن يضم بلاد الشام إلى الأملاك التي استولت عليها روما، ويجعلها مقاطعة من المقاطعات الرومانية، فكان من نتيجة ذلك اتصال الرومان بالعرب، وبالأعراب الذين كانوا قوة لا يستهان بها على أطراف الشام. وقد وجد الرومانيون بعد استيلائهم على الشام ما شجعهم على الزحف إلى فلسطين، انتهازا لفرصة النزاع الداخلي الذي كان بين "هركانوس الثاني" Hyrkanus II وأخيه "أرسطو بولس الثاني" Aristobulus II. وكان "هيركانوس" قد ذهب إلى "الحارث" Aretas ملك العرب، أي النبط، فارا من أخيه، ليحميه وليساعده مقابل تنازله عن بعض الأرضين وعن المدن الإثنتي عشرة التي كان "الإسكندر ينايس" Alexander Jennaeus "104- 78 ق. م." قد استولى عليها. كما ذكرت من قبل، فرأى الرومان في هذه الفوضى فرصة مواتية للتوسع نحو الجنوب.

(1/717)


--------------------------------------------------------------------------------

وقبل إن يجتاز "سكورس" Scaurus بجيوشه حدود أرض "يهوذا"، ومهلت إليه رسل "أرسطو بولس" Aristobulus تطلب منه مساعدة صاحبهم وتمكينه من أخيه، كما وصلا إليه رسل "هيركانوس" Hyrkanus لترجو منه معاونته لصاحبهم، ومساعدته على شقيقه. فتعهد كل طرف من الطرفين بتقديم ما قدمه الآخر. ووافق "سكورس" على تأييد "أرسطو بولس" فكتب إلى "الحارث" ملك العرب، يخيره من البقاء في القدس والدفاع عنها وعداوة الرومان و بين تركها وترك الدفاع عنها و صداقة القائد. فرأى "الحارث" Aretas الارتحال عنها، وفي أثناء ارتداده حصلت مناوشات بن أتباع الأخوين قرب الأردن، كان النجاح فيها حليف "أرسطوبولس".
وفي سنة "64 ق. م." شخص "بومبيوس" نفسه إلى سورية للإشراف على إخضاع جميع أجزائها، وقد طلب منه الأخوان إن يتدخل في حل هذا النزاع، وأن يكون حكما بينهما، وقدما له هدايا ثمينة حملته على التفكير في احتلال فلسطين. وقد حضرا إلى مقره، وأظهرا له من الضعف والضعة ما دعاه إلى الإسراع في إرسال حملة إلى أرض Aretas ملك العرب، الذي قاوم مقاومة عنيفة، وبعد هذه الحملة احتل القدس وأرض يهوذا وسائر فلسطين، وأمر بإلحاقها بالمقاطعة الرومانية السورية، ونصا عليها "سكورس" حاكما، وانتزع من يهوذا مدنا وقرى ألحقها بهذه المقاطعة. أما مملكة "يهوذا" الصغيرة، فقد أصبحت، من عملها هذا، في حماية الإمبراطورية الرومانية. وأخذ "أرسطوبولس" وأكثر جنوده أسرى، نقلوا إلى "رومة"، وسير بهم في موكب الأسرى الذين جيء بهم من الشرق، للاحتفال بالانتصار العظيم الذي انتصره "بومبيوس"، وذلك في عام "61 ق. م.".

(1/718)


--------------------------------------------------------------------------------

وعقد "سكورس" الحاكم الروماني اتفاقية مع "الحارث"، حسما للنزاع وحدا لتحرشات العرب بحدود الإمبراطورية، وافق بموجبها "ملك العرب"، أي العرب النبط، على المحافظة على الأمن، وعلى التهاون مع الرومان في هذا الشأن. وقد عثر على نقد ضرب في أيامه، وجدت عليه صورة رمزية تشير إلى هذا الاتفاق.
وقد ساعد العرب "كاسيوس" Cassius في حوالي السنة "53ق. م."، وساعدوا "كراسوس" Crassus، وذلك في حروبهما مع "الفرث" "البارثيين" Parther.
وقد عين "يوليوس قيصر" Julius Caesar في حوالي سنة "47 ق. م." "انتيباتر" Antipater بمنصب Procurator على "اليهودية"، وهو من أصل "أدومي"، والأدوميون عرب في رأي كثير من العلماء. وهو والد الملك "هيرود الكبير" Herod ملك اليهود، ومؤسس أسرة معروفة في تأريخ اليهود، كما عين رجلا اسمه Cypros، وهو عربي من أسرة كبيرة.
وقد استندت سياسة الرومان ثم سياسة الروم من بعدهم إلى قاعدة الاستفادة من العرب في حماية المواضع التي يصعب على الرومان أو الروم حمايتها والدفاع عنها، وذلك مثل تخوم الصحارى، وفي صد هجمات الأعراب المعادين أو الذين يدينون بالولاء للفرس، وفي مهاجمتهم أيضا ومهاجمة حلفاء أولئك الأعراب المعادين لهم وهم الفرس.

(1/719)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي أيام "بومبيوس، "بومبي" كان أحد سادات القبائل العربية متحكما في البادية المتاخمة لبلاد الشام. وقد ذكر "سترابون" إن اسمه هو Alchaidamos وجعله ملكا على قبيلة دعاها باسم Rhambaei. وقد كان من حلفاء الرومان ثم انقض عليهم وعبر إلى العراق، وذلك لإهانة لحقته من الحاكم الروماني أو من القواد الرومان. ويظهر إنه اجتاز الفرات في سنة "46 ق. م." والتجأ إلى "البارثيين". وقد ذكر بعض المؤرخين إنه كان في السنة "53" قبل الميلاد فيما بين النهرين، وأنه كان يقوم بغارات على حدود بلاد الشام. ويظهر أسمه ترك البارثيين بعد ذلك وعاد إلى خلفائه الرومان. وقد نعته "ديوكاسيوس" Dio Cassius بالتذبذب وبالانتهازية، وقال عنه إنه كان يتنقل دائما إلى الجانب ا لقوي.
وكان "الخديموس"، قد استولى على مدينة "أريتوسه" Arethusa، وهي مدينة "الرستن"، وجعلها مقرا لحكمه، وتقع على نهر "الميماس"، وهو نهر "العاصي"، ويسمى ب Orontes عند الكتبة اليونان والرومان. ولا ندري اليوم منى دخلت في حكمه، ويظهر إن حكمه دام طويلا إذ كان لا يزال في الحكم في الفترة الواقعة فيما بين السنة "46" والسنة "43" قبل الميلاد. وذكر أنه كان هذا الملك ولد اسمه "ايامبليخوس" Iamblichos=Jamblichus وكان عاملا على شعب Emesener. وقصد "سترابو" بشعب "ايميسنر"، الناس الساكنين في أطراف المدينة. أي أطراف مدينة Emesa: Emessa ؛ وهي حمص.
وقد ساعد "ايامبيليخوس" "المتوفى سنة 31 ق. م."، حكام "رومة" ضد "البارثيين "البرث" "الفرث" Parther كل فقدم لهم مساعدات مهمة، ولا سيما بالنسبة إلى "أوكتافيوس أغسطس" Octavianus Augustus.

(1/720)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ساعد الملك "اكبروس" "أكبر" Acbarus الذي حكم "حمص" بعد هذا الملك بأمد، الرومان أيضا في كفاحهم للبارثيين، و ذلك سنة "49" بعد الميلاد. ولم يكن لهؤلاء الملوك من خيار في سياستهم سوى الانحياز إلى الرومان لأنهم كانوا أقوياء، وقد هيمنوا على بلاد الشام.
ولا نعرف في الوقت الحاضر شيئا عن الملك "الخديموس"، ولا عن قبيله Rhambaei. أما عن اسم الملك فيظهر إنه محرف عن أصل عربي هو "الخدم" أو "جديمة" أو "خضم" أو "الخضم"، وهي من الأسماء المعروفة التي ترد في كتب أهل الأخبار. أو "الخطيم"، وهو اسم معروف أيضا، ورد في أسماء العرب، أو اسما عربيا آخر ابتدأ ب "ال" أداة التعريف? وأما عن اسم Rhambaei ، فيظهر إنه محرف عن تسمية عربية هي: "رحبة"، أو "رحاب" أو ما شاكل ذلك، وترد لفظة "رحبة" كثيرا في العربية اسم موضع من المواضع، فلعل هذه القبيلة كانت تقيم في موضع اسمه "رحبة" فعرفت به.
ويظهر من هذا الخبر إن القبيلة المذكورة كانت في جملة القبائل العربية التي كانت قد زحفت قبل الميلاد إلى بلاد الشام، واستوطنت في أطراف "حمص"، وتقدمت بعضها نزلت في أماكن أبعد من هذا المكان إلى الشمال، حيث المراعي والكلأ والماء، وكانت كلما وجدت ضعفا في الحكومات الحاكمة لبلاد الشام، انتهزت فرصته فتقدمت إلى مواضع أخرى في الشمال، حيث يكون العشب والماء. وأنقذ العرب "يوليوس قيصر" Julius Caesar من المأزق الحرج الذي وقع فيه، وهو يهم بالقبض على ناصية الحال في الإسكندرية عام "47 ق. م."، إذ أرسل الملك "مالك" Malchu، وهو "مالك الأول بن عبادة"، نجدة مهمة، ساعدته على إنقاذه من الوضع الحرج الذي كان فيه، كما أنجدوا "هيركانوس" الذي فر من القدس إلى "بطرا" حينما ظهرت أمام العاصمة طلائع الفرثيين.

(1/721)


--------------------------------------------------------------------------------

ولما استولى "أغسطس" على مصر، وجعلها تابعة لحكم قياصرة "رومة"، أمر بإصلاح ما كان قد فسد بسبب الأوضاع السياسية والاقتصادية السيئة التي حدثت في أيام البطالسة، فأصلحت الطرق، وطهرت القناة، وعني بالتجارة البحرية وبمياه البحر الأحمر التي غصت بلصوص البحر، وأوعز إلى حاكم مصر "أوليوس غالوس" Aelius بغزو جزيرة العرب، للاستيلاء عليها و على ثروتها العظيمة التي اشتهرت بها من الاتجار بالمر واللبان والبخور والأفاويه، وللقضاء أيضا على لصوص البحر الذين كانوا يحتمون بسواحل الحجاز واليمن، وللهيمنة على البحر. وقد أمر بوضع حراس على ظهر السفن التي نجتاز البصر الأحمر، لحماية من أولئك اللصوص.
لم تكن الأوضاع في القرن الأول حسنة في "مصر"، فقد كان البطالمة حكما ضعيفا هزيلا، ألهاهم عن التجارة البحرية وعن الاهتمام بالبحار، فقل عدد السفن الذاهبة إلى المحيط الهندي، وتزايد عدد لصوص البحر، كما إن الصراع الذي كان في "رومة" على أثر في مستوى مشترياتها من مصر. وقد أثر ذلك بالطبع في الوضع الاقتصادي في مصر، وفي مستوى الأسعار، ولا سيما في "الإسكندرية" "بورصة" العالم في ذلك العهد. لذلك أحدث فتح "يوليوس قيصر" لمصر تغييرا في الأوضاع هناك نراه بارزا في هذا "المشروع" الضخم الذي أراد "أوغسطس" "31 ق. م. - 14 ب. م." القيام به، وهو الاستيلاء على جزيرة العرب و ضمان مصالح "رومة" في ذلك الجزء من العالم، وجعل البحر الأحمر بحرا رومانيا.

(1/722)


--------------------------------------------------------------------------------

ولو تم ذلك "المشروع" على نحو ما حلم به "اغسطس"، كان حكم "رومة" الفعلي قد بلغ العربية الجنوبية، وربما سواحل إفريقية أيضا، إلا إن سوء تقدير الرومان له، واستهانتهم بطبيعة جزيرة العرب، وعدم إدخالهم في حسابهم قساوة الطبيعة هناك، وعدم تمكن الجيوش النظامية من المحاربة فيها وتحمل العطش والحرارة الشديدة، كل هذه الأمور أدت إلى خيبته منذ اللحظة التي شرع فيها في تنفيذه، فكانت انتكاسة شديدة في هيبة "رومة" وفي مشاريعها التي رسمتها و أرادت تنفيذها في جزيرة العرب.
وقد،وصل إلينا وصف تلك الحملة لكاتب جغرافي شهير اسهم فيها في رأي بعض الباحثين، فحصل على معارفه عن العرب وعن بلادهم من مشاهداته أيضا مضلا عما سمعه، وأعي به "سترابون" الذي قال في مطلع وصفه للحملة التي قام بها الرومان على بلاد العرب، بقيادة "اوليوس غالوس"، أشياء كثيرة عن خصائص تلك البلاد. لقد أرسله "أغسطس قيصر" للبحث عن الشعوب والأماكن التي فيها، وعن حدود بلاد الحبش، وأرض Troglodytes المقابلة لبلاد العرب، والأقسام المجاورة من الخليج العربي التي يفصلها عن العرب مضيق ضيق، لعقد معاهدات معها أو احتلالها. لقد سمع إنها غنية جدا، لأنها تقايض التوابل بالذهب والفضة والأحجار الكريمة? و إنها لا تحتاج إلى استيراد الأشياء من الخارج فأراد إما إن يكون منهم أصدقاء أغنياء، و أما إن يحتل بلد أعداء أغنياء، فهده هي الأغراض التي توخاها قيصر "رومة" من توجيه حملته إلى جزيرة العرب في القرن الأول للميلاد، و "رومة" جائعة نهمة تريد المزيد من تجارة البحار الجنوبية بالمجان أو بأرخص الأسعار.

(1/723)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد وضع القيصر آماله في تحقيق هذا المشروع على النبط الذين كانت تربطهم بالرومان معاهدة تحالف منذ احتل الرومان بلاد الشام، ومن جملتها فلسطين، فأصبحوا بذلك على اتصال بالنبط، وكان ملكهم إذ ذاك "عبادة الثاني" Obadas II "28 - 9 ق. م." وقد وعد الرومانيين خيرا، وعدهم بتقديم كل المساعدات لهم، وبإرسال المرشدين إليهم لإرشادهم إلى أهدافهم، وبتقديم الرجال لشد أزر الرومانيين، وبوضع وزيره المدعو Syllaeus تحت تصرفهم ليكون لهم دليلا ومستشارا.
وبعد إعداد الحملة و تهيئة السفن التي كان ينبغي إن تنقل رجالها و عدتهم عشرة آلاف جندي، جمعوا من مصر من المصريين والرومانيين ومن لفيف غيرهم، أركبوها من ميناء على الساحل المصري للبحر الأحمر،لتتجه بهم إلى ميناء "لويكة كومة" حيث ينظم إليهم نبط وغيرهم، ثم يتجهون برا إلى اليمن. إلا إن الحملة لم تكن منظمة منسقة مدروسة دراسة دقيقة إذ تحطم عدد كبير من سفنها في أثناء محاولة قطعها البحر مص ن الجانب المصري إلى الساحل العربي المقابل له، لعدم ملاءمتها لمثل هذه المهمة التي أوكلت إليها، وبعد مشقات وأهوال وصلت السفن السالمة بعد خمسة عشر يوما إلى "لويكة كومة"، تحمل على ظهرها جنودا منهوكين من قطع البحر على سفن لم تكن ملائمة لمثل هذا النقل. وقد عزا "سترابون" هذه الخسارة التي لحقت برجال الحملة إلى "صالح" Syllaeus الذي غش - على زعمه - القائد، فأعلمه بتعذر الوصول من البر، لعدم وجود عدد كاف من الجمال، ولعدم وجود طرق برية صالحة لمرور هذا الجيش.. والذي أراد بذلك أضعاف الرومان وإذلالهم، وإضعاف القبائل ليكون سيد الموقف فيدبر الأمور بنفسه، ويكون السيد المتصرف وحده في الأمور.

(1/724)


--------------------------------------------------------------------------------

ولما وصل "أوليوس غالوس" بجيشه إلى ميناء "لويكة كومة"، كان المرض قد فتلك به، لأسباب عديدة منها فساد الماء والطعام، وسوء الغذاء فاضطر إلى قضاء الصيف والشتاء فيه، حتى استراح الجيش وتعافى من المرض الذي ابتلي به.
ويظهر إن الرومان كانوا قد هيمنوا على هذا الميناء أمدا، أو احتلوه إذ ورد في الأخبار إنهم وضعوا فيه حامية رومانية Centurio، لحماية السفن مش لصوص البحر، ولحماية الطرق البرية من قطاع الطرق واللصوص في الر، كما أنم أنشأوا لهم فيه دائرة لجباية المكس من السفن والتجار، وقد تقاضوا ما مقداره "25%" من أثمان البضائع التي تدخل الميناء.
وميناء "لويكة كومة"، ميناء النبط الأعظم، منه تنقل البضائع الواردة بطريق البحر إلى "بطرا" "بترا" Petra، ومنها إلى موضع "رينوكولورا" Rhinocolura في "فينيقية" على مقربة من مصر، ثم إلى الشعوب الأخرى.
ومنه أيضا إلى سواحل مصر على البحر الأحمر حيث تنقلها القوافل إلى نهر النيل ثم إلى الإسكندرية. فهو ميناء مهم لتصدير التجارات، و استيرادها في أرض النبط.
وميناء Leuke Kome "لويكة كومة" هو "الحوراء" أو "ينبع" على ساحل الحجاز، وقد كان من الموانئ المهمة في تلك الأيام. وسوف أتحدث عنه في موضع آخر من هذا الكتاب.
وقد ظن "أوليوس غالوس"، إنه سيلاقي من العرب مقاومة شديدة في البحر، لذلك قرر بناء أسطول قوي يتألف من ثمانين سفينة كبيرة محاربة، ومن عدد من السفن الخفيفة، وشرع بإعداده في ميناء "قفط" "قفطس" ب Kleopatis على قناة النيل القديمة. ولما تبين له من الاستخبارات، إن العرب لم يكونوا يملكون أسطولا، وأنهم لا يستطيعون مقاومة الرومان، أسرع فنقل جيشه على ظهر "130" سفينة نقل إلى ميناء "لويكة كومة". وكان في هذا الجيش الذي بلغ عدده عشرة آلاف محارب، ألف من النبط و "500" من اليهود.

(1/725)

admin
12-26-2010, 01:23 PM
وفي ميناء "لويكة كومة" تجمع جيش الحملة، ومنه تقدم "أوليوس غالوس" نحو اليمن، فدخل أولا أرضا لم يذكر "سترابون" اسمها، وإنما ذكر إنها كانت أرض ملك يدعى Artasأي "الحارث"، وكان من ذوي قرابة "عبادة" Obadas ملك النبط. وقد استقبل الرومان استقبالا حسنا، ورحب بهم. ومنها سار في أرض وعرة قليلة الزرع والأشجار مدة ثلاثين يوما إلى أرض مأهولة بالأعراب تدعى "أرارين" "عرارين" Ararene، عليها،ملك اسمه Sabos. قطعها "غالوس" في خمسين يوما حتى بلغ مدينة تدعى "نجراني" Negrani، ومنطقة خصبة مزروعة آمنة، هرب ملكها، وأخذ الرومان مدينته. وبعد مسيرة ستة أيام عنها بلغ نهرا جرت عنده معركة خسر فيها المهاجمون عشرة آلاف رجل. أما الرومان، فلم يخسروا غير رجلين، ومرد ذلك، في زعم "سترابون" إلى تفوق الرومان في أساليب القتال وفي عدد الحرب التي لديهم، في حين تعوز أصحاب الأرض المالكين الخبرة في القتال، والتمرين في استعمال ما عندهم من أسلحة تتألف من السهام والرماح والسيوف وآلات القذف والفؤوس ذوات الراسين.

(1/726)


--------------------------------------------------------------------------------

وأعقب هذه المعركة سقوط مدينة "أسقه" Asaca، التي سلمها الملك، ومدينة "اترله" Athrula التي سلمت من غير مقاومة، فوضع فيها حامية، واشتغل بجمع الحبوب والثمر. ثم توجه إلى مدينة Marsybae=Marsiaba، مدينة ال Rhammanitae الخاضعين للمك Iiassarus، وقد حاصرها ستة أيام ثم دخلها، غير إنه تركها لقلة المياه فيها. وعلم من الأسرى إنها تبعد مسيرة يومين فقط عن أرض التوابل. وكان هذا الموضع أخر ما بلغه الرومان في الجنوب. وقد قطع الجيش الطريق بين "لويكة كومة" ومدينة Marsiaba في أشهر. أما في عودته، فقد قطعها في مدة أقل من ه ذ المدة بكثير، فبلغ مدينة Negrana في تسعة أيام، وهناك نشبت معركة بين الرومان والعرب، وغادرها "أوليوس غالوس"، فبلغ بعد مسيرة أحد عشر يوما موضعا يعرف ب "الأبار السبع"، لوجود آبار فيه. ثم قطع بادية فوصل إلى موضع Chaalla، وموضع أخر يدعى Malothas يقع على نهر وقطع بادية أخرى، قليلة المياه، وانتهى إلى قرية Egra من قرى "عبادة" Obadas، وتقع على ساحل البحر. وقد قطع هذه المسافة كلها في ستين يوما. ومن مدينة Negra=Egra عاد "أوليوس غالوس" برجاله إلى مصر، فبلغ "ميوس هورمس" Myus Hormus في أحد عشر يوما، وسار بمن بقي من رجال هذه الحملة على قيد الحياة، من هذه المدينة على ساحل مصر الشرقي إلى مدينة "فقط" Captus=Koptus، ومنها إلى الإسكندرية.

(1/727)


--------------------------------------------------------------------------------

نرى من خبر "سترابون" عن حملة "أوليوس غالوس" إن أول موضع نزل فيه الجيش الروماني في بلاد العرب، هو فرضة "لويكة كومة" ففي هذه الفرضة أنزل الجيش، و فيها استراح، ومنها اتجه في سيره لتحقيق الغاية التي من أجلها جاء. وأما الميناء الذي أبحرت منه هذه الحملة المخفقة، فكان ميناء "أكرا" Egra أو "نيكرا" Negra "نيرا" Negra Kome Nera Nera Kom بحسب اختلاف القراءات. ويرى "فورستر" إن Negra هي "ينبع" ألفرضة الشهيرة، وفيها عيون عذاب غزيرة. وهو الميناء الثاني في الحجاز في الزمن الحاضر، وميناء "المدينة". ويرى إن كلمة "نيرا" اليونانية تعني "يشع" في العربية، و ذلك يعني Nera Kome في العربية "مدينة ينبع"، وأن Nera Kome التي أبحر منها اليونان هي ينبع، لا مكان آخر، في رأي هذا الباحث. وأما "كلاسر"، فلم يتأكد من موضع Egra. أما "شبرنكر": فيرى إنه "عويند" الواقع على خط عرض "27" درجة وخمس ثوان. وأما "فلبي" فيرى احتمال كونه "مدائن صالح". وهو رأي يتعارض مع قول "سترابون" إن Egra هي في أرض "عبادة" وعلى ساحل البحر، ومنها أبحر رجال الحملة إلى مصر.
ويذهب البعض إن قرية Egra، هي "الحجر". وهي بعيدة بعض البعد عن ساحل البحر، ويرى إنها كانت متصلة بميناء عرف باسمها أيضا. كما إن ميناء "مدين" عرف باسمها أيضا. ويرى إنه "الوجه" في الوقت الحاضر. ويزعم "سترابون" إن الإصابات التي أصابت الرومانيين، إنما هي من الأمراض والأوبئة ومشقات الطرق. أما من المعارك فلم يتكبدوا فيها إلا سبع إصابات. وفي زعم "سترابون" المذكور مبالغات ولا شك، إذ كيف يعقل عدم تكبد الرومان خسارة ما، مهما قيل في تنظيم الجيش وحسن تدريبه? وقد أشار في كلامه على إحدى المعارك، التي هاجم فيها العرب والرومان، إلى إنهم تكبدوا عشرة آلاف قتيل على حين خسر الرومان قتيلين اثنين فقط. وفي هذا القول وحده ما فيه من مبالغة ظاهرة.

(1/728)


--------------------------------------------------------------------------------

لم يذكر "سترابون" - وهذا أمر يؤسف عليه جدا - من أسماء المواضع التي مر بها الرومان، أو من أسماء القبائل التي اتصلوا بها، أو اصطدموا بها، غير ما ذكرت، وهو شيء قليل جدا، لا يتناسب أبدا مع أهمية تلك الحملة التي قضت أشهرا في بلاد العرب، خاصة إذا ما تذكرنا إن الرجل كان سائحا وكاتبا وجغرافيا ومؤرخ، وكان صديقا لقائد الحملة، ومدافعا عنه، وقد كان نفسه من المشاركين في الحملة، في رأي بعض الباحثين. وما ذكره في الجملة عن بلاد العرب، يدل على إن معارفه عن جزيرة العرب محدودة، وقد استقاها من كتب من تقدمه من المؤلفين أو من السياح والملاحين والتجار من غير تدقيق أو نقد. وأعتقد إن أقدامه لم تطأ أرضا في جزيرة العرب. وليس هنالك من شاهد يثبت اشتراكه في هذه الحملة، ولست أعتقد إن لدى القائلين باشتراكه فيها دليلا قويا يثبت ذلك الرأي. ولعله نقل ما قصه عن الحملة من تقرير قسمه إليه صديقه "أوليوس غالوس" أو أحد الذين اشتركوا فيها.
وترتب على قلة أسماء المواضع التي ذكرها "سترابون" في خبر هذه الحملة صعوبة إدراك الطرق التي سار عليها "أوليوس غالوس" إلى موضع وصوله Marsiaba، وهو آخر ما وصل إليه، ثم الطرق التي سلكها في رجوعه حتى موضع ابحاره إلى مصر. وابرز اسم بين هذه الأسماء التي ذكرها "سترابون": Negrani=Negrana أي "نجران" في رأي اكثر الباحثين.

(1/729)


--------------------------------------------------------------------------------

وبين "لويكة كومة" و "نجران" مواضع كثيرة، وأرضون واسعة، لم يذكرها "سترابون"، وكل ما ذكره هو إن الجيش دخل بعد تركه ميناء "لويكة كومة" أرض ملك يعرف ب "الحارث" Aretas، ثم أرضا يقطنها الأعراب، وهي صحراوية في الأكبر، تعرف باسم "أرارين" Ararene وقد ذهب "الحارث" إلى ربه، وذهب معه "سترابون"، فأي أرض قصدها صاحب خبر هذه الحملة التي تعود إلى "الحارث" ? وأي أرض هي Ararene?. لقد ورد في الكتب الإسلامية اسم قبيلة تعرف ب "بني الحارث ابن كعب"، وذكرها الهمداني وذكر مواضعها، وتقع شمال "نجران" إلى وادي تثليث، ويرى "كلاسر" إنها الأرض التي قصدها "سترابون" وان "الحارث" Aretas هو "الحارث بن كعب"، وهو كناية عن جد هؤلاء الذين أصبحوا في الإسلام يسمون "بني الحارث بن كعب".
وأرى إن Aretas هو اسم ملك كان يحكم منطقة نزل فيها الرومان، وانه رجل كان حقا من ذوي قرابة "عبادة" ملك النبط، وان الرومان عرفوا اسمه ولم يعرفوا اسم أرضه الواسعة فنسبوها إليه، فقالوا: أرض Aretas كما يقول العوام في العراق عن نجد والمملكة السعودية: "أرض ابن سعود" أو "قيعان ابن سعود" أو كما يقولوا حتى اليوم لأرض قبيلة من القبائل "أرض فلان"، ويذكرون اسمه، لاشتهاره ولقوة شخصيته.
وقد ذهب "كسكل" إلى إن المراد بأرض Aretas "الحارث" مملكة لحيان. وقد كانت هذه المملكة لا تزال - على رأيه - قائمة في هذا العهد، فجاء إليها الرومان وذهبوا منها نحو الجنوب في اتجاه اليمن. غير إن بعض الباحثين يعارضون رأيه هذا، لأنهم يرون إن مملكة لحيان لم تكن قائمة موجودة في هذا الوقت، أي في حوالي السنة "25 ق. م،".

(1/730)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرى "كلاسر" إن Ararene، هي "عراعران" "عراعرين"، وهو موضع ذكره "الهمداني" في كلامه على "سروم" من ديار جنب قبل "القرحاء" وأن Sabus هو تحريف "شعب" أي قبيلة. و أما النهر التي نشبت عنده معركة قتل فيها على زعم "سترابون" عشرة آلاف قتيل، فهو "غيل الخارد" في الجوف. وعلى هذا يكون الروماني قد دخل الجوف وسار إلى مدن Nescus
Asaka=Asca=Nesca، وهي "نشق" المعينية القديمة. و Atroula، و Marsiaba Athrulla. والجوف هو موطن المعينيين "، فلا غلبهم السبئي ون على أمرهم، أصبحت السيادة عليه لسبأ قبل مدة طويلة من وصول الرومان إليه. ويظهر إن السبئيين كانوا يتصورون إن الرومان يسلكون الطريق التي هي إلى الغرب. فلما سمعوا إنهم سلكوا طريقا تقع إلى الشرق، أسرعوا إلى الجوف، لمنعهم من الزحف إلى العاصمة. ويرى "كلاسر" إن الرومان سلكوا في مسيرهم إلى اليمن طريقا تقع على حافات "السراة" الشرقية، وذلك ليتجنبوا الاحتكاك بالقبائل الساكنة على الطريق التجارية التي تسلكها القوافل التجارية. ويعارض رأي "شبرنكر" الذي يذهب إلى إنهم سلكوا طريق وادي إضم إلى المدينة، ومنها إلى نجد فالفلج، ومنه إلى نجران. أما "فورستر"، فيرى إن الرومان بعد إن نزلوا "لويكة كومة"، وهي في نظره "الحوراء"، سلكوا طريق "يثرب"، ثم اتجهوا إلى "القصيم" حيث دخلوا قلب نجد، ثم عقبوا بعد ذلك الطريق المؤدية إلى اليمن، فساروا في اتجاه نجران، ومنها دخلوا اليمن، فاصطدموا باليمانيين على نحو ما قصه علينا "سترابون" و "بلينيوس". ولما عادوا، سلكوا طريقا أخرى أقصر، وفرت عليهم بعض الزمن. مروا بنجران، ومنها إلى "الآبار السبع" "العيون السبع" وهي "الحصبة"، وهو موضع يقع على مسافة "150" ميلا إلى الغرب من نجران، ومنه إلى موضع Chaalla، وهو "خولان" في بلد "خولان"، ومنه إلى Malotha، وهو مدينة تقع على نهر هو وادي "ضنكان". ويرى إن Malotha هي "تبالة"، ومن "تبالة" إلى "ينبع" حيث

(1/731)


--------------------------------------------------------------------------------

أبحر من بقي حيا من الرومان إلى مصر.
وذكر "سترابون" إن موضع "الآبار السبع" إنما دعي بهذا الاسم لوجود آبار فيه. ومن الصعب جدا في الزمن الحاضر البت في موضع هذا المكان. أما "فلبي"، فيرى إنه أرض "خيبر" التي اشتهرت بكثرة مياهها، أو موضع "بيشة". وأما Chaalla و Malothas، فيرى "فلبي" انهما موضعان غير معروفين، يصعب تعيين هما في الزمن الحاضر. وتفصل بين "الأبار السبع" و Chaalla صحراء. و Chaalla قرية تليها قرية أخرى هي وتقع على نهر.
ويرى "كلاسر" احتمال كون Chaalla، موضع "كهالة"، أو موضع ما يدعى ب "حوالة"، وهو - في نظره - موضع Acholi، في تأريخ "بلينيوس". وأما Malothas ، القرية التي تقع على نهر، فيرى إن من الصعب تعيين موضعها، ولكنها تقع على وادي "بيمشة" على كل حال. و "كهالة" موضع من المواضع المعروفة في اليمن، وبه مياه. ولا يمكن إن يكون المكان الذي قصده "سترابون"، لأن ذلك المكان بعيد عن "الآبار السبع"، وتقع "الآبار السبع" على مسيرة أحد عشر يوما عن Negrana، أي "نجران"، فيقع مكان Chaalla ، اذن شمال "الآبار السبع"،أي أبعد منه عن "نجران". فهو إذن من الأماكن التي يجب البحث عنها في الحجاز.
وسجل خبر حملة "أوليوس غالوس" على اليمن باختصار رجل آخر مات بعد "سترابون" "المتوفى عام 24 ب. م." بمدة قصيرة، هو "بلينيوس" المتوفى سنة "79 ب. م.". وقد أشار في مطلع حديثه عن الحملة إلى إن "أوليوس غالوس" كان الروماني الوحيد الذي أدخل محاربي "رومة" جزيرة العرب. وقد خرب مدنا، لم يرد ذكرها في كتب من تقسمه من المؤلفين، ولذلك ذكرها، وهي: Negrana و Nestus و Nesca و Magusus و Caminacus و Labaetia و Mariba التي يبلغ طول محيطها ستة أميال، و Caripta، وهي أبعد موضع بلغه "غالوس". و أما "ديوكاسيوس" Dio Cassi، فيرى إن مدينة Adula هي آخر موضع بلغه الرومان.

(1/732)


--------------------------------------------------------------------------------

و Negrana، هي نجران كما ذكرت سابقا. أما Asca و Nesca، Neska فمدينة "نشق" وتعرف اليوم ب "اليضاء". واما Magusum=Magusa، فيرى "كلاسر" إنها قريبة من "مجزر"، وهو موضع يقع جنوب "البيضاء" أو "مجزع"، أو "مجزأة". وأما "كروهمن" Grohmann فيرى أنها قرية "مجزرة" المعروفة حتى هذا اليوم. وهي في موضع في مياه، وقد كان مأهولا وما زال. لذلك رأى انه ذلك المكان الذي قصده "بلينيوس".
وأما Camminacum، فهو قريب من "كمنة" "كمنهو" الواردة في المسند. و "كمنا" في الزمن الحاضر، و تقع شرق "البيضاء" وشمال شرقي "مجزر". وأما Carpeta، فيرى "كلاسر" أن هذه التسمية قريبة من من "خربة" العربية، وان "بلينيوس" الذي أوردها إنما أراد احدى المدن التي كانت خربة في ذلك العهد. ويذهب "فلبى" إلى هذا الرأي ايضا، ويرى احتمال كون Caripeta موضع "خربة سعود". وذهب بعض آخر إلى إنها موضع "حريب" ويسمى ب "اساحل" في "رغوان".
ويرى "شبرنكر" أن Labetia أو Labecia إنما هي "لقبق" 0 أما "كلاسر"، فيرى إنها "لوق"، وهو موضع خربة في "شحاط" ضد جبل "قدم" على مسيرة ساعتين من شمال شرقي معين، أو قاع "لبة" غرب البيضاء، وان Nestumهي "نسم"، أو "وادي وسط"، الواقع بين الخب والجوف، أو "وادي وسطر"، أو "نشان" "نشن"، المدينة المعينية القديمة، إن Marsiaba ، أو Mariva، إنما هي Mariba لدى "سترابو" أي "مأرب" في رأي بعض الباحثين. أما "كلاسر" فيرى إن الرومان لم يتمكنوا من الوصول إلى مأرب، وان Marsiaba أو Mariva أو Mariba ،لا يقصد بها مأرب عاصمة سبأ، وإنما هي موضع آخر في الجوف. فلو كانت هي عاصمة سبأ، لما ذكر "سترابون" إنها عاصمة شعب يعرف باسم Rhamanitae، كما يحكمه ملك، يسمى Ilasros، وفي ذلك دليل على إنها مأرب أخرى، لا مأرب السبئيين.

(1/733)


--------------------------------------------------------------------------------

و Ilasros من الأسماء العربية، ولا شك، وقد صحف على ما يظهر، فصار بهذا الشكل. والظاهر انه "الشرح" "اليشرح" في الأصل. و قد رأينا إن عددا من ملوك العرب الجنوبيين عرفوا باسم "الشرح". وقد يكون سيد قبيلة من القبائل الكبيرة، اسمها على حد قول "سترابون".
ولسنا نعلم على وجه التحقيق من هم Rhamanitae الذين كان يحكمهم "الشرح" وقد رأى "فلبي" احتمال كونهم "ردمان" أو "ريمان". و إذا أخذنا بهذا الرأي، وجب القول إن Marsiaba هي مدينة أخرى،لا "مأرب" عاصمة سبأ كما ذهب "فلبي" إلى ذلك. و "ردمان" من الأسماء المشهورة المعروفة. وقد ورد في الحديث: "أملوك ردمان"، أي مقاولها. وقد ورد اسم "ردمان" في مواضع عديدة في كتاب "صفة جزيرة العرب". كما إن "ريمان" من الأماكن الشهرة كذلك وهو مخلاف باليمن وقصر. وأما"كلاسر" فقد سبق إن ذكر جملة أسماء تخمل في رأيه إن تكون لها علاقة باسم هذه القبيلة. وهو يرى أيضا احتمال كون الاسم Rambanitae بدلا من Rhamanitae. وأما الأسماء التي ذكرها، فهي: "رغوان"، و "رابن" "رأبان" "ربان" و "رحبة" "رحابة"، و "ريمان"، و "غيمان"، و "ردمان". أما "رابان" "رب إن" و "ردمان"، فمن أسماء القبائل أيضا. ويرى إن موضع "ردمان" هو إلى الجنوب من الأماكن التي بلغها الرومان، ولذلك استبعد اسم "ردمان" من هذه الأسماء، ثم استبعد كذلك "غيمان"، و "وريمان" و "رحبة" أيضا. فلم يبق لديه من هذه الأسماء إلا "رغوان" و "رابن" "رابان". أما موضع "رغوان"، فيرى إن مكانه ملائم تمام الملاءمة، إلا إنه لم يثبت عنده إنه اسم قبيلة، فرجح اسم "رأبان" عليه، وهو اسم قبيلة ورد في نصوص المسند، ورد مثلا في نص: "Glaser 302"، و يعود إلى أيام "ملوك سبأ" وكانوا من المعاصرين لمملكة "سمعي"، ويرى إن الرأبانيين كانوا قد حافظوا على استقلالهم، فكانت لهم مملكة في أيام "أوليوس غالوس" والظاهر إنها حلت محل "سمعي"، غير إن هذا لا يعني إنها كانت

(1/734)


--------------------------------------------------------------------------------

مملكة بالمعنى المفهوم، بل كانت مشيخة أو إمارة يتمتع ساداتها بلقب "ملك"، وكانت تابعة لمملكة "سبأ وذي ريدان".
وفد ذهب بعض الباحثين إلى إن Ilasaros هو "الشرح يحضب" وكان إذ ذاك في نزاع وصراع مع "ذي ريدان" أي الحميريين الذين كانوا قد ظهروا للوجود، وأخذوا ينازعون الأسرة السبئية الحكم منذ حوالي سنة "100 ق. م." وذلك في عاصمتهم "ظفار" ومن مقرهم في حصن "ريدان". فكان غزو "اوليوس غالوس" لليمن في وقت ملائم جدا للرومان، ولكن ظروفا أخرى عاكستهم فاضطرتهم إلى التراجع وللعودة فتمكن بذلك "الشرح" من التغلب على خصومه.
وقد ذهب "فون وزمن" إلى إن مدينة MarsaibaMarsiba هي "مأرب"، وقد حرفت وتحولت من Mariaba، حتى صارت على الشكل المذكور. وقد ذكر "سترابون" إن "أوليوس غالوس" حاصرها مدة ستة أيام، ثم رفع الحصار عنها لقلة مياه الشرب، واضطر بذلك إلى الراجع.
وأما شعب RhamanitaiRamanitai "ريمان". وريمان قبيلة عربية ورد اسمها في عدد من كتابات المسند. ويرى "فون وزمن" إن الرومان أخطأوا في اسم الشعب، وذلك لأن قبلا من أقيال هذه القبيلة كان هو المدافع عن "مأرب" في ذلك الزمن وقد سمعوا بإمكانه، فظنوا إن ريمان اسم أهل مأرب، ولذلك جعلوا "مرسيابة" عاصمته وصيروا Ilassaros ملكا من ملوكهم من جراء وقوعهم في هذا الوهم.
وذهبت "بيرين" Pirenne إلى إن Marsiabe والصرر الأخرى للكلمة، إنما حدث من تحريف وقع في اليونانية، وان الأصل "مأرب سبأ". فحرفها اليونان إلى Marsiabe. وقد استدلت على صحة رأيها بما ورد في المؤلفات العربية "من مأرب سبأ".

(1/735)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذكر "بطلميوس" شعبا سماه Rabanitai أو Arabanitai، تمتد مواضعه إلى جبل Klimax، أي الجبل المدرج، والظاهر إنه يقصد سلسلة "السراة" التي يعمل الناس فيها مدرجات لغرس الكروم، وغيرها. وذكر بعدهم شعبا آخر هو Masonitai. يرى "كلاسر" إنه "مأذن"، ويسكنون في أعالي "الخارد" أي في جوار "رأبان"، وهو يطابق قول "بطلميوس" وواقع الحال.
وقد وردت جملة كتابات ذكرت اسم "ريمان" منها كتابة من أيام "الشرح يحضب". وقد تبين من تلك الكتابات إن "آل ريمان" كانوا من الأسر المعروفة في هذا العهد، ومنهم من تولى مناصب دينية وحكومية، ولذلك رأى بعض الباحثين إنهم هم Rhamanitae الذين ذكرهم "سترابو". ويرون إن سترابو إنما سمى مدينة Marsiaba أي "مأرب" بمدينة ال Rhamanitae لأن الذي حارب الرومان وقاتلهم ودافع عن المدينة قائد "ريماني"، أي من "ريمان"، فظن "سترابو" إنها مدينة من مدنه فنسبها إليه..
ومن طريق "صراوح" تراجع "أوليوس غالوس"، على طريق "اترلة" Athrulla إلى "نجران، سالكا وادي مذاب، ثم "وادي دماج" 02 أما "الآبار السبع" التي ذكرها "سترابون"، فتتهم، في رأي "كلاسر"، في "عسير". و أما موضع "Chaalla"، فهو "كهالة" أو "حوالة"، ومنه إلى Malothas الواقع على نهر، لعله "وادي بيشة"، إلى موضع قفر، اوصلهم إلى تهامة عسير فالحجاز فمدينة Egra حيث أبحر منها إلى مصر. وما ذكرته آنفا عن تشخيص هذه المواضع التي ذكرها "سترابون" أو "بلينيوس" أو "ديو كاسيوس"، إنما هو مجرد آراء حدس. لعدم وجود كتابات أو أدلة لدينا ترشدنا إلى تعيين تلك المسميات على وجه مقنع صحيح.

(1/736)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذهب "ديو كاسيوس" Dio Cassius إلى إن مدينة AthrulaAthoulaAthulula، كانت آخر موضع بلغته جيوش "اوليوس غالوس" في العربية الجنوبية، وهو يخالف بذلك "بلينيوس" الذي ذكر إن مدينة Caripeta هي آخر المواضع التي بلغها جيش الرومان. ومدينة AthrulaAthloulaAthlula هي مدينة "يثل" على رأي بعض الباحثين الذين يرون إن الروم حرفوا الاسم العربي حتى صيروه على الشكل المذكور ليستقيم بذلك مع لسانهم.
ولم ترد في النصوص العربية الجنوبية إشارة ما إلى غزو قام به الروم أو غيرهم لبلاد العرب. وقد تساءل "كلاسر" عن سبب سكوت المساند وعدم إشارتها إلى حملة "أوليوس غالوس"، هذه الحملة المهمة التي لا بد إنها قد تركت أثرا بعيدا في نفوس السبئيين وغيرهم من القبائل الساكنة في اليمن والحجاز، ورأى احتمال كون المراد من حملة "ذشامت" "ذشمت" الواردة في النص Halevy 535 الرومان المسيطرين على الشام، وجملة "ذيمنت" السبئيين. وعلى ذلك يكون هذا النص كما يقول قد تعرض لخبر الحرب التي نشبت بين الرومان والسبئيين. أما أنا فأستبعد جدا هذا الرأي، بل هذا الاحتمال،وأرى إن الجواب عن هذا السؤال هو إننا لم نعثر حتى الآن على جميع المساند، فنذهب إلى أمثال هذه الفرضيات، وما عثرنا عليه هو شيء يسير بالقياس إلى ما قد يعثر عليه في المستقبل،ولا سيما إذا ما علمنا إن هذه المساند إنما عثر عليها على ظاهر الأرض، وان العلماء لم يقوموا بحفريات علمية في أعماق الأرض. ولنا وطيد الأمل بالعثور على كتابات كثيرة مطمورة تحت الأنقاض، قد تأتي لنا بوثائق خطيرة عن تأريخ العرب الجنوبيين، وقد تضع بين أيدينا أصول مكاتبات ومعاهدات و وثائق كل جانب كبير من الأهمية، كما يحدث في سائر الحفريات والتنقيبات، و إذ لم يقم العلماء حتى الآن بحفريات علمية على نطاق واسع، فلا داعي إذن لإثارة سؤال في الزمن الحاضر كهذا السؤال.

(1/737)

admin
12-26-2010, 01:31 PM
لقد ظن "هاليفي" إن الحظ سيسعده في أثناء سفره إلى اليمن، فيظفره بآثار تشير إلى تلك الحملة الرومانية المخفقة، غير إن الحظ لم يحالفه، ولم يكتب له التوفيق. كذلك لم يكن الحظ حليفا ل "فلبي" ولا لغيره من السائحين. فلم يستطع أحد منهم حتى الآن الاهتداء إلى كتابة عربية أو أعجمية أو اثر يشير إلى تلك الحملة المشؤومة. حملة الرومان، للاستيلاء على العربية السعيدة على أرض الطيب واللبان والمر والبخور.
وأشار "سترابون" إلى إن ارض الطيب والبخور، تتألف من أربعة أقسام، هي: Minaei أي معين، ومدينتهم الكبرى هي: Carna أو Carnan أو Sabaea وهم سبأ، وعاصمتهم هي Mariaba، و Chattabanae وهم "قتبان"، وعاصمتهم Tamna، وتقع بلادهم على ساحل البحر العربي، و Chatramotita، وهم حضرموت وعاصمتهم Sabata، وهم أبعد هذه الشعوب إلى الشرق. وقد نقل "سترابون" كلامه هذا من "ايراتوستينس" الذي عاش قبله كما هو معلوم، فهو يتحدث إذن عن الحكومات الكبرى التي حكمت العربية الجنوبية، وعن الشعوب التي وصل علمها إلى مسامع اليونان والرومان.
وتطرق "سترابون" بشيء من الإيجاز إلى الناحية الاجتماعية التي كانت عليها اليمن في ذلك العهد، فذكر إن الحياة كانت طبقات، لكل طبقة واجب ووظيفة، وراثية تنتقل من الآباء إلى الأبناء. فهناك طبقة المحاربين ووظيفتهم الدفاع عن الطبقات الأخرى، وطبقة المزارعين وشغلهم تهيئة القوت والطعام لإعاشة سائر الشعب، وطبقة ثالثة وظيفتها التجارة، والتجارة لا تنتقل من أسرة إلى أخرى، و على كل فرد إن يمارس حرفة أبيه. وذكر أشياء أخرى يظهر إن طبيعة أكثرها من نوع قصص التجار والسياح، لا يعتمد على التدقيق والتمحيص.

(1/738)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر إن تلك الانتكاسة لم تؤثر في خطة "أغسطس" في السيطرة على البحار، إذ نرى "سترابون" المعاصر لهذا القيصر، يشير إلى إن الرومان كانوا يرسلون سفنا إلى الهند، لم يتعودوا إرسال أمثال عددها فيما مضى، كما عثر على نقود رومانية في الهند، وأقيم في ساحل "مالابار" معبد كرس باسم ذلك القيصر، مما يدل على وجود جالية رومانية فيه. ويظهر إن أسطول الرومان كان قويا وقد استعمل سفنا كبيرة، وضع فيها محاربين من رماة السهام ومهن المقاتلين المدربين، وبذلك تمكن من الوصول إلى الهند ومن الرجوع منها بانتظام وبحرية.
لم تصل إلينا أخبار مفصلة عن مشروعات الرومان في جزيرة العرب بعد هذه الحملة. والطاهر إنهم غيروا خططهم السياسية، وكيفوها تكيفا جديدا يوائم التطور الذي حدث في الموضع العالي في القرن الأول للميلاد، ويناسب للدروس التي تعلموها من حملتهم المخفقة المذكورة. فلم يفكروا في فتح عسكري مباشر لجزيرة العرب يكون متجها من الشمال للجنوب، مخترقا الطرق البرية، بل رأوا تقوية أسطولهم في البحر الأحمر، وتحسين علاقاتهم السياسية بالإمارات العربية وبسادات القبائل، للمحافظة على مصالحهم الاقتصادية، وتوجيه أنظارهم نحو ساحل إفريقية وحكومة الحبشة. فعقدوا اتفاقيات صداقة ومودة مع حكام "أكسوم"، كونوا حلفا معهم، وبذلك أخذوا يضغطون منذ ذلك العهد على السبئيين.
ويحدثنا صاحب كتاب "الطواف حول البحر الأريتري" إن الرومان عقدوا معاهدة تحالف مع ملك "ظفار"، وهو ملك Homeritae، وتدل هذه الإشارة الغامضة على وجود صلات بين الرومان وبين رئيس حمير في هذا العهد. وفي هذا التحالف ما فيه من شرح للعلاقات السياسية الجديدة التي حدثت بين الرومان والعربية الجنوبية، ومن محاولات الرومان، ثم البيزنطيين من بعدهم، التدخل في شؤون البلاد العربية الجنوبية بأسلوب جديد.

(1/739)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا ندري متى احتل الرومان ميناء "عدن" الذي يسمونه Eudamon=Emproion والذي دعاه "بلينيوس" Athene=Athenae=Athaene، إذ يحدثنا مؤلف "كتاب الطواف حول البحر الأريتري" إن "القيصر" Kaisar استولى عليه في زمن غير بعيد عن زمانه ودمره. وقد تصور بعضهم إن ذلك وقع في أيام "كلوديوس" "41 - 54م" أو قبلها بقليل. ولعل لمساعدات "الأكسوميين" لحكام "رومة" فضلا في هذا الاحتلال. ولا بد إن يكون هذا الاستيلاء قد حدث من البحر، إذ لا يعقل وقوعه من البر. فقد كان البر في أيدي السبئيين والقبائل العربية الأخرى. وقد رأينا قبل قليل إخفاق الرومان في الاستيلاء على اليمن، ورجوعهم عنها خائبين. ولأهمية "عدن" من جميع الوجوه نستطيع إن نتصور إنهم قد حصلوا على فوائد عظيمة من هذا الاحتلال الذي لا فعرف منتهاه وخاتمته، وكيف حدثت تلك النهاية.
ويرى يعض الباحثين إن استيلاء الرومان على عدن" كان بعد حملة "أوليوس غالوس" على اليمن، وربما بعد الميلاد بقليل. وذلك بعد إخفاق تلك المحاولة الرامية إلى بلوغ المحيط الهندي من البر والاستيلاء على العربية الجنوبية، تعويضا عن تلك الخطة الخائبة، فنجح الرومان في الاستيلاء على الميناء من البحر، وذلك في حوالي السنة "24" بعد الميلاد، وهو زمن غير بعيد عن حملة "أوليوس غالوس".
وقد ذهب."مومسن" Mommsen، إلى إن الاستيلاء على عدن كان قد وقع في أيام "كايوس قيصر" Caius Caesar، إذ ورد في الأخبار إن أسطوله في البحر الأحمر كان قد استولى على جزء صغير من بلاد العرب، فيحتمل على رأي "مومسن" إن يكون المكان الذي استولى عليه هو عدن. ويحتمل على رأيه أيضا إن يكون هذا الاحتلال قد وقع بعد قليل من هذا الوقت. بينما ذهب آخرون إلى إنه وقع في أيام "كلوديوس" Claudius، أو "نيرون" "نيرو" Nero.

(1/740)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذهب بعض الباحثين إلى إن القيصر المقصود هو "كركلا" "كر كلا" ، وذلك لأنه كان قد هاجم العرب ال "سكينيته" Scenties في أثناء الحروب الثانية التي أعلنها القيصر "سبتيميوس سويروس" Septimius Severus على "البارثيين" Parthians، "197 - 199 م". وذهب بعض آخر إلى إن في خبر مؤلف كتاب "الطواف حول البحر الأريتري" بعض الوهم في تثبيت لفظة "قيصر" Kaiser، وذلك لأن العادة لم تكن قد جرت في ذلك الوقت بتلقيب ملوك "رومة" بلقب "قيصر". لذلك رأى إن في الكلمة تحريفا، و إنها قد تعني شيئا آخر. وقد يكون تحريف Elisar أو Ilaisar، أي "الأشعر"، وهم Elisar عند "بطلميوس". ويرى من يذهب إلى إن المراد ب Kaiser "اليزر" Elisar، أي "الأشعر" "اشعرن"، إن الاستيلاء على ميناء "عدن" وتخريبه كان بعد إخراج الحبشة عن العربية الجنوبية، وان أرض "الأشعريين" غير بعيدة عن عدن. لذلك فلا تستبعد مهاجمتهم لعدن في وقت غير بعيد عن أيام مؤلف الكتاب، وان المؤلف ذكرهم، ولكن تحريفا وقع في الاسم فحوله إلى Kaiser.
وقد ذهب بعض الباحثين إلى إن لفظة Kaiser هي كلمة Ilsaro أو Ilasar المذكورة في خبر "سترابون" عن حملة "أوليوس غالوس"، وقصد بها "الشرح يحضب".. وهو يرى إن ميناء "عدن" قد خرب في ابان حروب "الشرح يحضب" مع قتبان وحضرموت، وان مؤلف ذلك الكتاب أراد "الشرح" Ilasar، ثم حرف النساخ اللفظة حتى صارت Kaiser .
وقد صار في إمكان السفن الرومانية بعد الاستيلاء على عدن الاستراحة فيها والإقلاع منها إلى الهند وإلى السواحل الإفريقية والعودة إليها. وقد وضع الرومان فيها حامية رومانية لضمان سلامة الرومان في هذه المنطقة، كما وضعوا سفنا تحمل رماة من الرومان لمقاومة لصوص البحر من التحرش بالسفن، وقد كان أولئك اللصوص يملأون البحار.

(1/741)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي عون عند ال Crater "الكريتر" صهريج كبير لخزن الماء، من عهد ما قبل الميلاد على رأي بعض الباحثين، يتسع لزهاء عشرين مليون "غالون" من الماء، تأتي إليه من الأمطار، يظهر إنه استعمل في ذلك العهد لتموين هذا الميناء المهم بماء الشرب، لعدم وجود موارد كافية من الماء، تسد حاجة أهله به.
وقد حصل ميناء "عدن" على شهرة بعيدة منذ هذا الزمن، وظل محافظا عليها وعلى أهميته حتى اليوم. ولا ندري متى اضطر الرومان إلى ترك هذا الميناء، على وجه صحيح مضبوط. ولكن الذي نعرفه إن الرومان، ثم الروم من بعدهم، بقوا يقيمون وزنا له، ويهتمون بشأنه، لأته كان أسهل طريق لهم توصلهم إلى سواحل إفريقية والهند والعربية الجنوبية، ولذلك كانت فيه دائما جالية كبيرة من أصحاب السفن والتجار. ولعل هذا الاهتمام هو الذي حمل القيصر "قسطنطين الثاني" على إرسال بعثة نصرانية تبشيرية إلى عدن، بلغتها سنة 356 للميلاد. ويفهم من كلام مؤلف "كتاب الطواف حول البحر الأريتري" إن ميناء عدن Eudaimon Arabia كان الموضع الذي تقصده السفن القادمة من مصر ومن الهند، ففيه تفرغ حمولات تلك السفن لتنقل منها إلى مصر أو إلى الهند، فميناء عدن كان ذا شأن خطير في التجارة العالمية إذ ذاك، وكان الموضع الذي تتبادل فيه السفن الحمولات.
و يعرف ميناء عدن ب Arabia Emporion عند "بطلميوس"، وكان "أورانيوس" Uranius أول من سماه بي "ادنه" Adana، أي "عدن"، وذلك كما جاء في كتاب "اصطيفانوس البيزنطي" الذي عاش في القرن الثالث بعد الميلاد. وذكر اسم Adane في أخبار تنصر الحمريين في أيام القيصر "قسطنطين الثاني" "337 - 361 م". وقد سمي ميناء عدن ب Athana عند "بلينيوس" و ب "Adana"، عند "فيلوستورجيوس" Philostorgius. وكان قد خرب وتعطل أيام حملة "أوليوس غالوس"، فجل ميناء Muza على البحر الأحمر محله، ولكنه مع ذلك لم يفقد منزلته، وعادت إليه مكانته بعد مدة قصيرة من هذه الكارثة.

(1/742)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذكر "بليني" بعد اسم "عدن" Athana=Athenae اسم قبائل جعل ارضها على مقربة من "عدن". فذكر اسم Chorranitae و Caunaravi و Cesani=Chani. وفيي هذه الأرضين، وجدت كما يفهم من أخبار "بليني" وغيره، مدن يونانية سكنها يونان، منها: Larisa و Arethusa و Chalcis. وهي مدن خربتها ودمرتها الحروب.
ويظن بعض الباحثين إن المدن اليونانية التي أشير إليها، والتي ذكر "بليني" إنها خربت ودمرت بالحروب، هي من المستوطنات التي أنشأها وأقامها "البطالمة" على السواحل العربية، لإيواء السفن اليونانية والتجار والجنود الذين زرعوا في هذه الأماكن لحماية تجارة البطالمة والسيطرة منها على السواحل العربية وعلى البحار. فلما ضعف أمر البطالمة، هاجمت القبائل العربية هذه المواضع واستولت عليها، لخربت تلك المدن، أو غلب عليها العرب، وتبدلت أسماؤها إذ تحولت إلى أسماء عربية.
وميناء Qena "قنا" الذي يقع على المحيط الهندي، كان أيضا من الموانئ المعروفة التي يقصدها التجار في هذا الزمن فتصل إليه السفن للإبحار وللخروج منه إلى الهند. وشهرته هذه قديمة، ويغلب على الظن إنه ميناء "كنة" الذي ذكر مع "عدن" ي سفر "حزقيال"، لأن القرائن تدل على إنه هو المقصود من الآية في هذا السفر: "حران وكنة وعدن تجار شبا وآشور وكلمد تجارك".
وقد ذكره "بلينيوس" في جملة الموانئ المقصودة التي كانت السفن الرومانية تصل إليها وهي قادمة من ميناء Berenice بمصر. وهذه الموانئ هي: Muza، أي "موزع" عند "مخا" و Ocelis عند باب المندب، و Cane "قنا" الميناء الذي نتكلم عنه.

(1/743)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر مؤلف كتاب "الطواف حول البحر الأريتري" هذا الميناء أيضا، كما ذكر ميناء Mousa=Muza وعدن، و Ocelis=Okylis. وقد ذكر إن هذا الميناء الأخير كان قرية. أما ميناء "قنا" "كنا" "كانه" Kany=Kana "كان" فكان في أرض الملك Eleazoz، أي "العزيلط" ملك حضرموت، وذكر إن في مقابل هذا الميناء جزيرتين، تسمى إحداهما جزيرة الطيور Ogneun، وتسمى الأخرى جزيرة "القباب"، والجزيرة الأولى هي جزيرة "سيخا" في الزمن الحاضر، وأما الثانية فهي جزيرة "براقة". وذكر مؤلف الكتاب المذكور إن اللبان والمر وبقية الأفاويه تحمل من منابتها إلى ميناء Kany وقد تحمل على وسائل النقل المائية المصنوعة من قرب منفوخة بالهواء" مشدودة إلى جذوع أو أخشاب بحبال تربط بينها، لتوصل تلك المواد الثمينة إلى الميناء المذكور. ثم توزع من هذا الميناء على التجار أو ترسل في السفن إلى الأسواق العالمية، كما ذكر إن السفن تذهب من هذا الميناء إلى الهند و إلى الخليج وتذهب منه إلى موانئ الساحل الأفريقي كذلك.
وبعد إن كون "تراجان" ما يسمى ب "المقاطعة العربية" "الكورة العربية" Provencia Arabaea في سنة "105 م" أو "106 م"، أحدث تغييرات مهمة في الإدارة وفي طرق المواصلات وأصول الجباية، فأنشأ طريقا مهمة من "أيلة" على رأس خليج العقبة مارة بالبتراء فبصرى إلى "دمشق"، وصارت "بصرى" محطة مهمة جدا للقوافل القادمة من اليمن والحجاز، وأصلح القناة القديمة التي تصل النيل بالبحر الأحمر، وقوى الأسطول الروماني، وأمده بسفن أحدث وأقوى من السفن القديمة، وذلك لمقاومة لصوص البحر وللسير بحرية في البحر الأحمر، ولاحتكار التجارة البحرية التي هي مصدر كل غنى وثراء.

(1/744)

ولا تزال آثار الطريق الرومانية باقية تشاهد حتى اليوم. تشهد بأهمية الطريق وبحسن هندستها بالنسبة إلى ذلك الزمن. وهي تمر بمدن وقرى عديدة وتربط بينها: منها "ام الجمال"، وهو موضع مهم كأن ذا أهمية خاصة في العهد الروماني، وفي أيام النبط، حيث عثر فيه على كتابات نبطية عديدة، وموضع "خربة سمرا" وهو موضع اشتهر في العهد الروماني وفي العهد البيزنطي الذي تلاه. وقد عثر فيه على آثار رومانية وبيزنطية ونبطية. ويظهر من مخازن المياه ومن آثار الآبار التي عثر عليها في هذا الموضع إنه كان مركزا من مراكز تجمع القوافل التجارية، وموضعا من مواضع تربية الماشية.
وقد اكتسحت فتوحات "تراجان" مناطق واسعة من الشرق الأدنى، ويقال أنه وصل إلى جنوب العراق، وإنه دخل مدينة "كاراكس" "كركس" Charax، وإنه نظر سفينة قاصدة اشد، فتحسر وتنهد، لأنه بلغ من العمر مبلغا لا يسعفه على ركوب تلك السفينة واستنشاق هواء ذلك البحر، وقد غبط الإسكندر الذي سبقه إلى هذا المكان بمئات من السنين، وكان أصغر منه سنا، فبلغ مبلغا لم يصل إليه ملك هذا الإمبراطور.
وقد كان على مقربة من "الرها" Edessa سيد قبيلة عربية اسمه "معنو" Ma'nu أي "معن". وكان يحكم العرب المجاورين. ولما طلب القيصر "تراجان" حضوره إليه لمكالمته لم يلب طلبه بالرغم من علامات الود التي أظهرها له. ذلك لأن القيصر كان يشلك في نياته، فخاف إن يقبض عليه، وتراجع إلى مواضع بعيدة، فاستولى الرومان على "سنجار" Singara وكانت تابعة له. وقد نزل العرب فيها واختلطوا بسكانها الأصليين.

(1/745)


--------------------------------------------------------------------------------

لقد كان البخور رأس بضائع العالم الثمينة المطلوبة في ذلك العهد. كان سعره يساوي سعر الذهب والبترول في هذه الأيام. ولم يكن يشتريه لغلائه هذا إلا رجال الدين، لاستعماله في الشعائر الدينية التي تستنزف القسم الأكبر منه،والملوك والأثرياء، وذلك لحرقه في المناسبات الدينة وفي اجتماعاتهم. ونجد المؤرخ الكاتب "بلينيوس" يشتكي من تبذير "نيرون" عاهل "رومة" "54 - 68 م" ومن إسرافه في حرق البخور واللبان لاجراء شعائر جنازة زوجه المتوفاة. فقد كلف حرق تلك المادة الضرورية في مثل هذه المناسبات خزينة الدولة ثمنا باهظا لارتفاع أسعارها في ذلك الزمن.
وآخر ما يقال عن تدخل الرومان في شؤون جزيرة العرب، هو إن القيصر "سبتيموس سفيروس" Septimus Severus، أرسل حملة عسكرية في سنة "201 م" توغلت في "العربية السعيدة"، غير إن معارفنا عنها قليلة، فلا نعلم إلى أين وصلت وكيف انتهت. ولعلها كانت قد تقدمت من "المقاطعة العربية"، وهي المقاطعة الجديدة التي أوجدها الإمبراطور "تراجان" على حطام مملكة النبط. وكان الذي قاد الحملة العسكرية على "العربية السعيدة" Eudaimon Arabia ابن القيصر "سبتيموس سفيروس". وقد اشتهر فيها، غير إن معارفنا عنها لا تزال قليلة. وقد وردت أخبار هذه الحملة في موارد لم تشر إلى اسم القيصر الذي أمر بتجريد تلك الحملة على "العربية السعيدة"، إذ اكتفت بذكر لفظة "قيصر". ويظهر منها إن جيوش القيصر أنزلت خسائر فادحة أولا بالعرب الساكنين في البادية وقد دعتهم تلك الموارد ب Skenitae، أي "سكان الخيام" ويراد بهم الأعراب، ثم سارت تلك الجيوش حتى بلغت "العربية السعيدة"، وذلك في السنة "196 - 198 ب. م.". ولا نعلم إلى أي مدى وصل إليه القيصر أو ابنه في هذه الغزوات.

(1/746)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذهب بعض الباحثين إلى إن "كره كالا" Caracalla الذي خلف والده "سبتيميوس سفيروس" Septimus Severus ، هو الذي قاد الجيش الروماني الذي زحف على العرب الساكنين في أعالي "العربية السعيدة" Arabia Eudaimon كما يسميها "بطلميوس"، وانه في ذلك العهد كانت حروب "سبتيميوس" مع "البارثيين" Parthians "197 - 199 م". ويرون إن الرومان لم يتوغلوا جيدا في جزيرة العرب، وربما كان أقصى ما بلغوه ديار ثمود.
وفي كتاب "بحث في القضاء والقدر" Dialog Uber das Atom وهو المسمى أيضا ب "كتاب قوانين البلاد" Buch der Gesetze der Lander ل "برد يصان" Bardeanes الذي عاش فيما بين السنة 154 والسنة 222 للميلاد إشارة إلى إن الروم لما استولوا على العربية Arabia من عهد غير بعيد عن أيامه، أبطلوا قوانين أهلها البرابرة. ويقصد بالبرابرة الأعراب على ما يظهر. ويظهر إنه قصد بذلك الحملة الرومانية المذكورة. وفي تأريخ الإمبراطورية الرومانية أسماء رجال يرى بعض المؤرخين إنهم كانوا من أصل عربي، من هؤلاء "يوليا دومنا" Iulia Domina "يوليا ميا" Julia Maesa، و "ايلاكبل" Elagabal "218 - 222 م"، و "يوليا مامية" Julia Mammaea و "سيفيروس الكسندر" Severus Alexander "222 - 235 م"، وكانوا في رأيهم من أسرة دينية عربية. أما "فليب" Phi;ippus "244 - 249 م" الذي تولى عرش "رومة"، فقد عرف ب "فليب العربي"، وقد برز نفر من أسرة "الزباء" ملكة تدمر، ونالوا مراكز ممتازة في الامبراطورية الرومانية.
وقد سعى القيصر "سفيروس الكسندر" "سويروس الكنسندر" للوصول إلى الخليج، و ذلك في حروبه مع الفرس سنة "232 م"، وقد تمكنت بعض قواته الزاحفة عن طريق نهر الفرات من بلوغ "البطائح"، ولكنها جوبهت بمقاومة عنيفة من الفرس، حتى اضطرت إلى العودة من حيث أتت، ولم تتمكن من تحقيق هدفها المنشود.

(1/747)


--------------------------------------------------------------------------------

وحاول "فيليب العربي" Philipus Arabus،جاهدا الوصول إلى اشد والسيطرة على الخليج، غير إن الحظ لم يكن في جانبه في حروبه مع الفرس، واضطر إلى ترك ذلك المشروع الخطير.
وقد انتهز الأعراب فرصة الكارثة التي نزلت بالقيصر "فاليريان" Valerianus "253 - 260 م"، بتغلب للفرس عليه، فأخذوا يهاجمون الخطوط الرومانية الدفاعية، ويباغتون مدنها بغزوهم لها، مما حمل من جاء بعده من حكام "رومة" على تقوية الحصون و إعادة ترميم استحكاماتها، ومن هذه مدينة Adraha، وهي "درعه" "درعا" "الدرعة". لتصمد أمام غارات الأعراب التي تكاثرت عليها.
وقد كون الرومان كتائب من الجنود العرب ألفوها لحماية الطرق وللدفاع عن حدودهم الطويلة المتصلة بالبوادي، وهي حدود يصعب على الجيوش النظامية حمايتها، ولذلك عمدوا إلى تكوين هذه الكتائب. وفي في الكتابات "الصفوية" كتابات دونها أصحابها يذكرون فيها فرحهم وحمدهم لآلهتهم لأنها ساعدتهم في فرارهم من الخدمة في الجيش الروماني، ورجوعهم إلى أهلهم سالمين، بعد إن قتل غيرهم في أثناء فرارهم على أيدي من كان يتعقبهم من عساكر الروم أو البيزنطيين لإجبارهم على الرجوع إلى ثكناتهم. والظاهر إن كثيرا من هؤلاء كانوا من الجنود المرتزقة أو المسخرة التي أكرهت على الخدمة في الجيش. فنجد في إحدى الكتابات إن رجلا اسمه "حنين بن حنين بن أياس" اتخذ سنة فراره من "نمارة السلطان"، مبدأ أرخ به، دلالة على أهمية تلك المناسبة بالنسبة إلى حياته، وذكر إنه شاد قهرا على مرقد أخته "وبنى هرجم" "وبنى الرجم"، والرجم القبر. والظاهر إن "السلطان"، أي "سلطان" الروم تعبير عن حكومة كانت قد أقامت مركزا أو حامية أو معسكرا "نمارة"، وكان حنين أحد من كان في ذلك المعسكر ففر منه، وفرح لنجاته بنفسه.وتعبر "السلطان" من التعابير العربية القديمة التي لا تزال حية حتى اليوم.

(1/748)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي رجلا آخر اسمه "مغير بن محلم"، يؤرخ بسنة هرب رجل اسمه "جر" "جور" من "قصر نقات" "قصر نقأت". والطاهر إن "قصر نقأت" كان ثكنة من ثكنات الروم، وقد حشد فيها جمع من العرب لأداء ا الخدمة العسكرية للسلطات الرومانية، ففر منها "جور". وفي هذه السنة جاء "مغير" إلى قبور جماعة ذكر أسماءهم قتلوا فوضع رجما أي حجارة فوق قبورهم تعبيرا عن تكريمه لذكراهم. وقد وردت في النص جملة "طر هسموي"، أي "طير السماء". وقد ذهب "ليتمان" E. Littmann إلى احتمال كون "طير" اسم رجل، و "هسموى" بمعنى "السماوي"، أي نسبة إلى بادية السماوة، أو اسم موضع "سمه" "سامه" يقع جنوب شرقي "بصرى".
ونجد شخصا اسمه "تيم ايل" يذكر في كتابة له هذه الجملة "ونفر من رم"، أي "ونفر من الروم"، و "نفر" بمعنى "فر" في الصفوية. ولم يذكر "تيم ايل" سبب فراره من الروم، ولعله كان من الكتائب العربية، ففر منها طلبا للحرية والراحة والمعيشة مع الأهل، أو إنه كان قد غزا حدود الروم، فقبض عليه وسجن ففر من سجنه. ونجد رجلا آخر يذكر إنه "نفر من الروم" وذلك في سنة ثلاث. ويقصد بسنة، مرور ثلاث سنوات على تأريخ احتلال الرومان لبلاده، وقد وقع ذلك في السنة "105" أو "106" للميلاد، أي في عهد تكوين المقاطعة العربية وسقوط "بصرى" في أيدي الرومان على نحو ما ذكرت. فتكون أذن سنة هربه مساوية لسنة "108" أو "109" بعد الميلاد.

(1/749)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عبر شخص آخر عن هربه من الروم ورجوعه إلى اهله ناجيا سالما بعبارة "ونجى من رم"، أي "ونجا من الروم". فيظهر إنه كان أيضا في أيدي الرومان لسب نجهله فاهتبل الفرص، وهرب منهم، ونجا بنفسه، حيث وصل إلى منزل جده وأقام عنده يرعى ماعزا له. و أما "سواد بن يسلم"،فقد كان يشعر إن الرومان كانوا يراقبونه ويتعقبون آثاره لسبب لم يذكره، وقد عبر عن ذلك بقوله " وخرص ال روم" أي "وخرص الروم"، بمعنى إنه راوغهم وخلص منهم. ولم يذكر سبب مراقبة الرومان له فلعله كان قد اغار على ارض الروم، أي الأرضين المحتلة الخاضعة لهم ليغنم منها شيئا فتعقبه حرسهم، ولكنه راوغهم "وخرص" منهم ونجا.
وقد أزعجت القبائل الرومان بغارتها على الأرضين التي استولوا عليها و أخضعوها لحكمهم، فأوجد الرومان جيشا مرتزقا من آهل البلاد التي تحكموا في امرها، وضعوه تحت إمرة جماعة من الضباط الرومان، وجعلوا واجبه حماية الحدود والدفاع عنها،و أقاموا له ثكنات على طول تلك الحدود، ورد أسماء بعضها في الكتابات الصفوية وغيرها. ومع ذلك كانت القبائل و تهتبل الفرص، فتهاجم الحدود و تتوغل في الأرضية الخاضعة للرومان تستولي على ما تجده أمامها من مال وحيوان، ثم تعود سرعة إلى مضاربها في البادية حيث يصعب على الرومان محاربتها هناك.

(1/750)


--------------------------------------------------------------------------------

كانت الإسكندرية منذ تأسيسها إلى الفتح الإسلامي، المنبع الذي أمد رجال السياسة والحرب والعلم يما احتاجوا إليه من علم عن بلاد الشرق وإفريقية. فيها تجمع التجار أصحاب المال يبحثون عن البضاعة وعن منشئها وأسعارها في المنشأ وفي كيفية الحصول عليها بأسهل السبل وبأرخص الأسعار، منهم من ذهب بنفسه إلى مواطن البضاعة وإلى الأسواق الرئيسية المجهزة، فتمون منها ما احتاج إليه، ومنهم مهن تسقط أخبارها من تجار الإسكندرية أو التجار الوطنيين الوافدين على الإسكندرية، أو من رجال السفن. وفي الإسكندرية كانت في الغالب نهاية مطاف ربابنة السفن الذين خبروا البحر وعركوه، ووقفوا على أحوال البلاد الغريبة العحيبة: علم إفريقية و آسية، ومن أفواههم تلقف التجار والعلماء أخبار البحار وما وراءها من أرضين، وفي مكتبتها ودوائرها الرسمية حفظت تقارير قادة الأساطيل والجواسيس الذين كانوا يتجسسون الأخبار عن أحوال حكومات وشعوب تلك البلاد. وهي تقارير لابد إن تكون على غاية من الخطورة و الأهمية عند خلفاء الإسكندر ثم الرومان فالبيزنطيين، ويحدثنا "أغاثر شيدس" "أغاثر خيدس" الذي عاش في الإسكندرية في حوالي "110 ق. م." إنه اخذ علمه بأحوال البحر الأحمر من أفواه أناس قاموا هم أنفسهم بأسفار إلى البحر الأحمر وإلى ما وراءه، كما أخذه من وثائق ملكية وسجلات كانت محفوظة، سمح له بالوقوف عليها، وفي جملتها تقرير "أرسطون" "أرستون"، و هو أحد رجال البحر الذين كلفهم "بطلميوس الثاني، أو "بطلميوس" آخر كشف البحر الأحمر، فلما أنجز عمله وخبر أمر الساحل العربي بحر، قدم تقريره المذكور. فحفظ في جملة الوثاثق الخطيرة المهمة في خزانة وثائق الإسكندرية ومن هذا المنبع أخذ بقية الكتاب. ومنهم من قام نفسه بركوب البحر وبأسفار في الشرق، ثم عاد إليها ليضع ما حصل عليه في كتاب.

(1/751)


--------------------------------------------------------------------------------

والخلاصة إن هذه التطورات والأحداث السياسية والعسكرية التي وجهت أنظار الغرب منذ أيام "الإسكندر الأكبر" نحو الشرق، قد أدت إلى نزول اليونان والرومان بأنفسهم إلى البحار الدافئة لمنافسة العرب في تجارتهم، في بحارهم وفي البحار الأخرى، فبنوا سفنا أقوى وأكبر وأوسع، وأخذوا يقومون أنفسهم بالتدريج، ويضلون الموانئ المهمة أو يقيمون لهم قواعد قوية عسكرية على السواحل لحماية خطوط مواصلاتهم البحرية، وبذلك أصابوا التجارة العربية إصابة مباشرة وأنزلوا بها ضررا بالعا، إذ أخذوا يشترون منتجات البلاد الحارة من مواضع إنتاجها، وصاروا يزاحمون السفن العربية التي لم تتمكن من تطوير نفسها تطويرا يناسب الزمن وروح العصر، فتغلبت سفن الروم والرومان عليها كما تغلب البرتغاليون فيما بعد ثم من جاء بعدهم من الغربيين على السفن العربية في عصور الاستكشاف، واضطر التجارة العرب إلى اعتزال البحر والانسحاب منه تدريجا والاكتفاء بشحن ما محصلون عليه بطرق البر، إلى أسواق تفرض ضرائب مرتفعة على التجار والتجارات. وقد أدى هذا التطور إلى إضعاف مركز العرب الجنوبيين إضعافا كبيرا، وإلى إلحاق الأذى بثرائهم، وصار الروم والرومان يتدخلون في شؤون العربية الجنوبية تدخلا مباشرا أو غير مباشر بتحريض الجيش والقبائل العربية على حكومات العربية الجنوبية على نحو ما سنراه مفصلا فيما بعد.
الفصل التاسع عشر
الدولة المعينية
تعد الدولة المعينية من أقدم الدول العربية التي بلغنا خبرها، وقد عاشت وازدهرت بين "1350 - 630 ق. م." تقريبا على رأي بعض العلماء. وقد بلغتنا أخبارها من الكتابات المدونة بالمسند و الكتب الكلاسيكية. أما المؤلفات العربية الإسلامية فلا علم لها بهذه الدولة. ولكنها عرفت اسم "معين" على إنه محفد من محافد اليمن وحصن ومدينة، وذكرت إنه هو و "براقش" من أبنية التبابعة.

(1/752)


--------------------------------------------------------------------------------

وأقدم من ذكر المعينيين من الكتاب "الكلاسيكيين" "ديودورس الصقلي" و "سترابون" "سترابو"، وقد سماهم Minae=Meinaioi وقال: إن مدينتهم العظمى هي Carna=Karna، وذكر نقلا عن كاتب أقدم منه هو "يراتوستينس" Eratosthenes، إن بلادهم شمال بلاد سبأ وشمال أرض "قتبان". و أما حضرموت، فتقع شرق بلاد معين. أما "ثيوفراستوس" Theophrastos فقد ذكر السبئيين والقتبانيين والحضارمة، وذكر أرضا اخرى دعاها Mamali، ويرى، "أوليري" إنه قصد "معين" Menaioi=Minaea، وأن تحريفا وقع في نسخ الكلمة، فصارت على الشكل المذكور، أي Mamali. وقد ذكرهم "بلينيوس" Pliny أيضا، فأشار إلى إن بلادهم تقع على حدود أرض "حضرموت" Atramitae. وآخر من ذكرهم الجغرافي الشهير "بطلميوس".
ولم بتي حدث أحد من الغربيين بعد الجغرافي المذكور عن "معين"، حتى دخل السياح االأوروبيون بلاد العرب بعد نوم طويل، فبعث عندئذ اسم "معين"، وكان في مقدمة من نشر خبر هذا الشعب "يوسف هاليفي" Joseph Halevy و "أدورد كلاسر" Eduard Glaser و "أويتنك" Euthing و "جوسن" Jaussen و "ساوينه" Sasignac، وغيرهم ممن سترد أسماؤهم، حصلوا على نقوش معينية نشرت ترجمات بعضها، ونشر بعض آخر بغير ترجمة، ولا يزال بعض آخر ينتظر النشر.
وقد ظهرت هذه الدولة في الجوف، والجوف منطقة سهلة بين نجران وحضرموت، أرضها خصبة منطقة. وقد زارها السائح "نيبور" Niebuhar ووصفها. وذكر الهمداني جملة مواضع فيها، ولم يعرف شيئا عن أصحابها.
ومن هذه: معين، ونشق: وبراقش، وكمنا وغيرها. وقد كانت عاصمة تلك الدولة "القرن" "قرن" "قرنو"، وهي: "قرنة" "قرنا" Carna=Karna عند بعض الكتبة الكلاسيكيين.

(1/753)

admin
12-26-2010, 01:34 PM
وقد حصل "هاليفي" على عدد كبير من الكتابات المعينية اكتشفها في أثناء سياحته في الجوف، دعيت ورقمت باسمه، حصل على الكتابات المرقمة برقم Halevy 187 حتى رقم Halevy 266 مجموعها ثمانون كتابة من خرائب "معين" وحصل على الكتابات المرقمة من رقم "424" حتى رقم "578" من "يثل"، ويبلغ مجموعها "155" كتابة، كما حصل على صور عدد آخر من الكتابات من "كمنا" ومن "السوداء". ويبلغ مجموع الكتابات المعينية التي استنسخها زهاء "750" كتابة، أغلبها قصيرة، وبعضها يتضمن بضع كلمات، ما خلا "50 - 60" كتابة تتألف من بضعة أسطر.
وزار الجوف بعد ذلك السيد محمل توفيق وقد ندبته "جامعة فؤاد الأول" الجامعة المصرية لدراسة هجرة الجراد الرحال والكشف عن مناطق تولده، ودخله مرتين، المرة الأولى سنه "1944 م" والمرة الأخيرة سنة "1945 م"، وقد انتهز الفرصة فدرس سطح تلك المنطقة وخرائبها وآثارها، وأخذ صورا "فوتوغرافية" لزخارف وكتابات، نشرها في البحث الذي نشره له "المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة"، وذلك سنة "195 م" بعنوان: "آثار معين في جوف اليمن".
ورحل "الدكتور أحمد فخري" الأمين بالمتحف المصري، إلى اليمن، وزار سبأ والجوف في مايس سنة "1947 م.
وليس في كل بلاد العرب على حد قول "هاليقي"، مكان ينافس الجوف في كثرة ما فيه من آثار وخرائب عادية. ولذلك، فان الباحثين عن القديم يرون فيه أملا عظيما وكنزا ثمينا، وقد يكشف لهم عن صفحات مطوية من تأريخ تلك البلاد وربما ي كشف عن تأريخ بلاد أخرى كانت لها صلات وعلاقات باليمن. وفيه مدن مهمة، كان لها شأن وصيه في تأريخ العالم القديم، كالمدن التي مر ذكرها، وكمدينة "مأرب" عاصمة سبأ، التي بلغ صيتها اليونان والرومان.

(1/754)


--------------------------------------------------------------------------------

والجوف أرض خصبة ذات مياه، تسقيه مياه "الخارد"، الذي يبلغ عرضه مترين وعمقه مترا، كما تتساقط عليه الأمطار، فتروي أرضه، وتكون سيولا تسيل في أوديته، ويبلغ ارتفاعه "1100" فوق سطح البحر، وتحيط به الجبال من ثلاث جهات، ونطرا لوجود مزايا كثيرة فيه تساعد على تكون الحضارة فبه، لذلك صار مخزنا للحضارة القديمة في اليمن، وموقعا يغري علماء الآثار يقصدونه للبحث في تربته عما كان فيها من أسرار وآثار. وسيكون من الأماكن المهمة في اليمن في الزراعة وفي التعدين بعد تطور اليمن ودخول الأساليب العلمية الحديثة إلى تلك الأرجاء.
وقد أمدتنا الكتابات التي عثر عليها في الجوف وفي "ديدان"، التي كانت مستوطنة معينية في طريق البلقاء من ناحية الحجاز، والكتابات المعينية التي عثر عليها في مصر في "الجيزة"، والكتابات المعينية الأخرى التي عثر عليها في جزيرة "ديلوس" Delos من جزر اليونان، والتي يعود عهدها إلى القرن الثاني قبل الميلاد، بأكثر معارفنا التي يعود عهدها هنا، ومنها استخرجنا في الأغلب أسماء ملوك معين. ولولاها لكانت معارفنا عن المعينيين قليلة جدا. ويرى جماعة من العلماء إن "ماعون" "معون" Maon أو "معونم" "معينيم" Me'inim=Me'unim الواردة في التوراة إنما يقصد بها "المعينيون"، وهم سكان "النقب" إلى طور سيناء، أو هم سكان "معان" الواقعة إلى الجنوب الشرقي من "البتراء" Petra، أو هم أهل "العلا" "الديدان". وقد ذكروا في موضع من التوراة في جملة سكان "النقب" Negev، وذكروا في موضع آخر مع قبائل من العرب.

(1/755)


--------------------------------------------------------------------------------

وليس بين الباحثين في تأريخ المعينين اتفاق على تأريخ مبدأ هذه الدولة ولا منتهاه، ف "كلاسر" مثلا يرى إن الأبجدية التي استعملها المعينيون في كتاباتهم ترجع إلى الألف الثانية أو الألف الثالثة قبل الميلاد، وهذا يعني إن تأريخ هذا الشعب يرجع إلى ما قبل هذا العهد، فالمعينيون على هذا هم أقدم عهدا من العبرانيين. ويعارض هذا الرأي "هاليقي" و "ميلر" D.H. Muller و "موردتمن" Mordtmann و "ماير" E. Meyer و "شبرنكر" Sprenger و "ليدزبارسكي" Lidzbarski وغيرهم. ويرون إن نظرية "كلاسر" هذه مبالغة، وأن مبدأ هذه الدولة لا يتجاوز الألف الأولى قبل المسيح بكثير. ويرى "هومل" Hommel إن من الممكن إن يكون بدأ تأريخ دولة "معين" ما بين "1500 - 1200 ق. م." ونهاية حكومتها في عام "705 ق. م.". وجعل "فلبي" مبدأ حكم أول ملك من ملوكها في عام 1120 ق. م. وحكم آخر ملك نعرفه من ملوكها في عام 630 ق. م.
ويعارض "ونت" Winnett رأي "كلاسر" و "نكلر" و "هومل" في تقدير مبدأ تأريخ دولة معين، ويرى إن في ذلك التأريخ مبالغة، وأن "شبا" أي "سبأ" وكذلك "ددان" "ديدان"، أقدم الدول العربية مستدلا على ذلك بما ورد في التوراة من قدم "شبا". ويرى إن مبدأ دولة "معين" لا يمكن إن يتجاوز عام "500ق. م."، و أما نهايتها، فقد كانت بين عام "24 ق. م." وعام "50ب. م.".

(1/756)


--------------------------------------------------------------------------------

وبعض معارضو نظرية "كلاسر" عن قدم الدولة المعينية إن هذه النظرية لا تستقيم مع ما هو معروف بين العلماء عن تأريخ ظهور "الألفباء" عند البشر، فإن إرجاع تأريخ معين إلى الألف الثانية أو الألف الثالثة قبل الميلاد معناه إرجاع "المسند" إلى أقدم من ذلك، وهذا يتعارض مع النظريات الشائعة عن قدم الخط عند البشر، فان الخط "الفينيقي" لا يتجاوز عهده ألف سنة قبل الميلاد وليس "المسند" كما يظهر من أشكاله وصوره الهندسية أقدم عهدا منه.واستند "هوارت" إلى هذه الحجة أيضا في معارضه رأي من يرجع تأريخ معين إلى سنة 1500 قبل الميلاد. وبرى "أوليري" هذا الرأي أيضا، ويرى أيضا إن كتابات المسند كافة معينية أو سبئية، لا تتجاوز البتة السنة 700 قبل الميلاد، وذلك لأن هذا القلم قد أخذ من القلم "الفينيقي"، وهذا لا يمكن إن يطاوله، وأن يرجع في تأريخه إلى أكثر من القرن الثامن قبل الميلاد.
وقد ثبت "ملاكر" في كتابه في تأريخ التشريع والتوريخ عند العرب الجنوبيين مبدأ قيام دولة معين بسنة "725" قبل الميلاد، وسقوطها بالقرن الثالث قيل الميلاد.
وتناول "البرايت" موضوع ترتيب حكام معين بالبحث، وذلك في النشرة التي تصدرها المدارس الأمريكية للبحوث الشرقية. وهو يختلف أيضا مع المتقدمين في موضوع تواريخ أولئك الحكام،ويحاول جهد الإمكان الاستفادة من الدراسات الأثارية للكتابات وللآثار التي. يعثر كليها في تقدير حكم المكربين والملوك. وقد ذهب في أحد أبحاثه عن "معين" إلى تقسيم ملوك دولة معين إلى ثلاث مجموعات جعل الملك "اليفع يثع" وهو ابن الملك "صدق ايل" ملك حضرموت على راس هذه المجموعات، وجعل حكمه في حوالي السنة " 400 ق. م." وجعل نهاية هذه الدولة فيما بين السنة "50" والسنة "25 ق. م.".

(1/757)


--------------------------------------------------------------------------------

وهو يرى إن التاريخ الذي وضعه لمبدأ قيام حكومة معين ولنهايتها وسقوطها، هو تأريخ في رأيه مضبوط، لا يتطرق إليه الشك، غير إنه يرى إن ما ذكره عن رجال المجوعات الثلاث يحتمل إعادة النظر فيه، ولا سيما المجموعة الأولى حث يمكن إجراء بعض التغير فيها.
وذكر "البرايت" في.وضع آخر إنه يرى إن قيام مملكة معين كان قبل السنة "350 ق. م."، وقد استمر حكمها إلى ما بعد السنة "50ق. م." أو السنة "100 ق. م.".
وذهب آخرون إلى إن نهاية مملكة معين كانت في حوالي السنة المئة بعد الميلاد. وهكذا في الباحثين في العربيات الجنوبية مختلفين في بداية الدولة وفي نهايتها، ويلاحظ إن القدماء منهم كانوا يرفعون مبدأ الدولة ونهايتها عن الميلاد، أي يبعدون المبدأ والنهاية عنه، أما المتأخرون فهم على العكس، لا يذهبون مذهبهم في البعد عن الميلاد، ويخاولون جهدهم جعل نهاية المملكة في حوالي الميلاد. وما زال الجدل بين علماء العربيات الجنوبية في تقدير عمر الدولة المعينية مستمرا. فهناك صعوبات تعترض نظرية من يقول إن الدولة المعينية سقطت قبل الميلاد بمئات من السنين في أيدي حكام سبأ، والقائلون بها "كلاسر" وأتباعه. وقد رأى "كلاسر" أيضا إن المعينيين قد تضاءل أمرهم وضعفوا كل الضعف وغلبت عليهم البداوة في نهاية القرن الأول قيل الميلاد، على حين إن الموارد الكلاسيكية ومنها مؤلفات "سترابو" و "بلينيوس" و "ديودورس الصقلي" تعارض هذا الرأي بإشارتها إلى المعينيين وإلى تجارتهم، بل تجد إن "بطلميوس" الذي هو من رجال القرن الثاني للميلاد يقول فيهم " إنهم شعب عظيم". ثم إن الكتابات المعينية التي عثر عليها في الجيزة يمصر، تؤيد هذا الرأي أيضا، إذ نشير إلى اشتغالهم في التجارة، تجارة استيراد البخور للمعابد المصرية، في القرن الثالث أو الثاني بعد الميلاد. ومن هنا قال "أوليري" وغيره إن المعينيين بقوا نشطن عاملين إلى ما بعد الميلاد، وربما كان ذهاب حكمهم في

(1/758)


--------------------------------------------------------------------------------

أيام "البطالمة" أو في أيام الرومان، ومهما يكن من أمر فليس في الإمكان البت في تعيين ذلك العهد.
والذين يقولون بتقدم دولة معين على سبأ، ويرون إن حكام "سبأ" من دور "المكربين"، أي دور الملوك الكهنة هم الذين قضوا على حكم دولة معين فانتزعوا الحكم من ملوك معين، وأخضعوا المعين بين إلى حكم سبأ. غير إننا لا نعرف في ف تم ذلك، ومن هو الملك المعيني الذي تغلب عليه السبئيون.
ولا يمكن تقريب وجهة الخلاف هذه إلا بالاستعانة بالحفريات العلمية العميقة المنظمة، وبما سيستخرج من جوف الأرض من آثار وكتابات، ودراستها دراسات علمية متنوعة. دراستها من ناحية تطور الخط Paleography وأسلوبه، ومقارنته بالخطوط الأخرى التي عثر عليها في جزيرة العرب وفي خارجها، لمعرفة عمرها، ودراستها من ناحية تحليلها قليلا مختبريا لمعرفة زمانها ووقت نشوئها، حيث يمكن التوصل بهذا التحليل إلى نتائج يكون مجال الشك والجدل غير كبير Radiocarbon، ودراستها من ناحية علم الآثار، إلى غير ذلل من طرق توصل إلى نتائج إيجابية أو قريبة من حدود الإيجاب.
ملوك معين

(1/759)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد حصل قراءة الكتابات المعينية على أسماء ملوك حكموا دولة معين، أحصوها وجمعوها، وحاولوا الاستفادة منها بتنسيقها و تبويبها لتكوين قائمة منظمة مرتبة بمن حكم عش تلك الدولة حكما زمنيا متسلسلا بقدر الإمكان. غير إنهم لقوا صعوبات كبيرة حالت بينهم وبين الاتفاق على وضع قائمة موحدة متفقة. فذهبوا في ذلك جملة مذاهب، ووضعوا تواريخ متباينة مختلفة، وكيف يمكن الاتفاق وقد ذكرت إنهم مختلفون اختلافا كبيرا من حيث تعيين مبدأ ظهور تلك الدولة، وأنهم مختلفون أيضا في تأريخ سقوطها وفي الدولة التي أسقطتها. يضاف إلى ذلك إن الكتابات المعينية عفا الله عنها، لم ترد مؤرخة على وفق تقويم من التقاويم، ولم تتحدث عن حكم أي ملك من أولئك الملوك ولم تذكر ترتيبهم في الحكم، وهي أكثرها في أمور شخصية لا علاقة لها بسياسة ولا بدولة و ملوك. فليمس من الممكن إذن اتفاق الباحثين على وضع قوائم صحيحة لملوك معين، ولا لمدد حكمهم ما دام الوضع على هذا الحال والمنوال، والرأي عندي هو أن ذلك لن يتم، ما تجر حفريات علمية عميقة في مواضع المعينيين في اليمن وخارج اليمن، تمكننا من الحصول على كتابات جديدة لها صلة ب سياسة الحكومة وبأخبار الملوك وبعلاقاتهم مع الدول الأجنبية. فإذا تم ذلك أمكن وضع مثل هذه القوائم مستعينين بهذه الكتابات وبالكتابات الأجنبية التي قد تشير إلى ملوك معين وبأمثال هذه الدراسات نطمئن إلى هذه القوائم، ونستطيع اعتبارها ذات قيمة في تثبيت الحوادث وتواريخ حكومة معين.

(1/760)


--------------------------------------------------------------------------------

والملوك الذين وردت أسماؤهم في الكتابات المعينية، ليسوا هم كل ملوك معين، بل هم جمهرة منهم. ولا استبعد احتمال حصول المنقبين في المستقبل على عدد آخر من أسماء ملوك جدد لا نعرف من أمرهم اليوم شيئا، قد يزيد عددهم على هذا العدد المعروف. وقد يبلغ أضعافه. فتصبح القوائم الموضوعة التي رتبها علماء.اليوم غير ذات خطر بالنسبة للقوائم الجديدة، وسيتغير في ما كل شيء من أسماء ملوك، ومن أرقام مدد حكم وتواريخ.
ومع ذلك فأنا لا أريد إن اكون جدليا سوفسطائيا، سلبيا غير بناء،وسأجاري الحال فأعرض على القارئ نتائج جهود أولئك العلماء في وضع قوائمهم بأسماء ملوك معين، فأقول: جعل "هومل" من أسماء ملوك معينة التي عرفها ثلاث طبقات، كل طبقة تتألف من أربعة ملوك، وطبقة أخرى تتألف من ملكين. ورتب "كليمان هوار"، هؤلاء الملوك سبع طبقات، الطبقة الأولى، تتألف من أربعة ملوك، والطبقة الثانية من خمسة، والطبقة الثالثة من أربعة، والرابعة من اثنين، والخامسة من ثلاثة، وأما الطبقتان السادسة والسابعة فتتألف كل واحدة منها من ملكين. ويبلغ مجموع ملوك هذه الطبقات السبع اثنين وعشرين ملكا. وينقصن هذا العدد أربعة ملوك عن قائمة "مولر" الذي حقق هوية ستة وعشرين ملكا. وقد رتب "أوتوويبر" و "موردتمن" أولئك الملوك في طبقات أيضا أما "فلبي"، فقد ذكر اثنين وعشرين ملكا، نظمهم خمس سلالات، وجعل على رأس السلالة الأولى "اليفع وقه"، وفي آخر السلالة الخامسة الملك "تبع كرب" الذي حكم على رأيه من سنة 650 إلى سنة 630 ق. م.

(1/761)


--------------------------------------------------------------------------------

وعند "هومل" إن السلالة التي في أولها الملك "اليفع وقه"، هي اقدم اسر ملوك معين. وأما "مورد تمن"، فيقدم الأسرة التي جعل على رأسها الملك "يثع ايل صديق". وشد فعل ذلك "كليمان هوار" أيضا أما "ونست"، فيرى إن الأسرة التي فيها "أب يدع يثع" هي أقسم عهدا من الأسرتين. والخلاصة إن هذه الأسر أو السلالات لا تعني إنها كل الأسر التي حكمت "معينا" أو إن الأسرة الأولى منها هي أول أسرة حكمت ذلك الشعب فقد يكون هنالك عدد آخر من الأسر والملوك حكموا قبلها سنن كثيرة ربما بلغت قرونا.
ويرى "البرايت" إن ملوك حضرموت كانوا هم الذين أسسوا مملكة معين، أسسوها في حوالي السنة "400 ق. م." أو بعد ذلك بقيل. ويرى إن أول ملك من ملوكها كان الملك "اليفع يثع"، وكان ابنا للملك "صدق ايل" ملك حضرموت. ويرى من عدم وصول كتابات سبئية ما بين السنة "350" والسنة "100" قبل الميلاد، أي إن السبئين كانوا في خلال هذه المدة أتباعا لحكومة معين.
فأول ملك من ملوك "معين" إذن على رأي "البرايت"، هو الملك "اليفع يثع" 0أما "هومل"، فجعل "اليفع وقه" أقدم ملك معيني وصل خبره إلينا، وقد جاراه في رأيه هذا "فلبي" وآخرون. وهناك كما قلت قبل قليل من قدم ملكا آخر على هذين الملكين.
وقد ورد اسم الملك "اليفع وقه" في كتابة عثر عليها في موضع "السوداء"، وهو مكان مدينة "نشن" "نشان" القديمة في الكتابات المعينة، ورد فيها: إن الملك "اليفع وقه" ملك معين، وشعب معن، قدما بأيديهم إلى معبد الإله "عم" ب "راب" "رأب" من "ذي نيط" نذورا وهه ايا وقرابين، تقربا إليه. وقد تسلم ال "رشو"، أي "كاهن" المعبد والقيم عليه تلك الهدايا، وتقبلها باسم المعبد. ولم تذكر الداعية التي دعت الملك وشعبه إلى تقديم تلك النذور والقرابين إلى الإله "عم" رب "رأب"، ولعلها كانت مذكورة في المواضع التي أصيبت بتلف في الكتابة.

(1/762)


--------------------------------------------------------------------------------

و ورد اسم هذا الملك في كتابة أخرى عثر عليها في "براقش"، وهي مدينة "يثل" من مدن معين، دونت عند بناء بناية في عهده، فذكر هو وابنه "وقه آل صدق" "وقه ايل صديق" فيها، تيمنا باسمها و تثبيتا لتأريخ البناء.
وعثر على اسم الملك "وقه آل صدق" "وقه ايل صديق" ابن الملك "اليفع وقه" في كتابة وجدت في "قرنو" "قرن" "القرن".
أما الذي حكم بعد "وقه ايل صدق" "وقه ايل صديق"، فهو ابنه الملك "اب كرب يشع" "أبكرب يشع". وهو في نظر "البرايت" مثل والده و "اليفع وقه" من رجال المجموعة الثانية من مجموعات ملوك معين. وقد حكم - على حسب رأيه - في حوالي السنة "150" قبل الميلاد.

(1/763)


--------------------------------------------------------------------------------

وجاء اسم الملك "ايكرب يثع" "اب كرب يثع" في كتابة عثر عليها في "العلا"، أي في "الديدان" وتعود لذلك إلى المعينيين الشماليين، وصاحبها رجل من "آل غريت" "غرية"، كتبها عند شرائه ملكا من شخص اسمه "اوس بن حيو" "اوس بن حي". وتيمنا بذلك قدم نذورا إلى الإله "نكرح" وآلهة معين، وجعل الملك في رعايتها وحمايتها لتقيه أعين الحساد كل من محاول الاعتداء عليه. ودعا آلهة معين إن تنزل نقمتها على كل من يحاول رفع. تلك الكتابة، أو يتلفها، أو يلحق بها أذى، وقد تيمن باسم تلك الآلهة، وذكر بهذه المناسبة اسم الملك "ايكرب يثع"،وذكر بعده اسم "وقه آل صدق" "وقه ايل صديق". وقد وجد فراغ بين الاسمين،بسبب تلف أصاب الكتابة رأى ناشر الكتابة إنه واو العطف، فصير الجملة على هذا النحو: "ابكرب يثع ملك معن ووقه آل صدق"، "أبكرب يثع ملك معين ووقه ايل صديق"، وعندي إن هذا الفراغ يمثل حرفين، هما "بن"، أي "ابن" فتكون الجملة: "ابكرب يثع معن بن وقه آل صدق"، "أيكرب يثع ملك معن ابن وقه ايل" وبذلك ينسجم المعنى، إذ إن "وقه آل صدق"، هو والد "أيكرب يثع" فاذا ذكر اسم الأب بعد لفظة "ابن"، انسجم المعنى. أما إذا وضعنا حرف العطف "الواو"، بين الاسمين، نكون قد قدمنا اسم الابن على اسم الأب، وفي ذلك نوع من سوء الأدب، أو دلالة على إن الابن هو الملك الحقيقي، وان والده لم يكن شيئا يومئذ، أو كان ملكا بالاسم فقط. على إنه حتى في هذه الأحوال والاحتمالات، لا يوضع اسم الأب بعد اسم الابن.
وقد أرخت الكتابة بأيام تولي "اوس" من "آل شعب" منصب "كبير" تلك المنطقة التي كان يقيم فيها صاحب تلك الكتابة.
وعثر على كتابة في مدينة "يثل" "براقش"، وجاء فيها اسم ملك يدعى "عم يثع نبط" "عميثع نبط" "عمى يثع نبط". وهو ابن الملك "ابكرب يثع" المذكور.

(1/764)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ورد اسم الملك: "عم يثع نبط بن ابكرب" "عميثع نبط بن أبكرب" في كتابة دونت لمناسبة حبس أرض لآلهة معين، لتكون وقفا على معبد الإله "عثتر شرقن"، أي "عثتر الشارق" بمدينة "يثل".
أما "البرايت"، فقد وضع اسم "عم يثع نبط" في المجموعة الأولى من مجموعاته الثلاث التي كونها لملوك معين. وقد جعل حكمه في حوالي السنة "300 ق. م.". وذكر إنه رجل اسمه "اب كرب" "أيكرب". وقد أشار إلى إن "اب كرب" هذا هو غير "اب كرب يثع" الذي هو ابن الملك "وقه ايل صدق"، الذي كان "حكمه - على رأيه - في أواخر القرن الثاني لما قبل الميلاد.
ويرى "فلبي" وجود فترة قدرها بنحو عشرين سنة، لا يدري من حكم فيها بعد "عم يثع نبط"، وقد كانت في حوالي السنة "1040 ق. م."، وقد انتهت في حوالي السنة "1020 ق. م." بتولي الملك "صدق ايل" عرش معين. وهو ملك من ملوك حضرموت. فيكون بذلك قد جمع في شخصه بين عرش حضرموت وعرش معين، ثم انتقل العرش إلى "اليفع يثع"، وهو ابنه، وقد حكم - على رأي "فلبي" - في حوالي السنة "1000 ق. م.". وكان له شقيق اسمه "شهر علن" "شهر علان"، انفرد بحكم حضرموت. وبذلك انفصل عرش حضرموت عن عرش معين.
وبين تقدير "فلبي" هذا لحكم "صدق ايل" ولحكم ابنه "اليفع يثع" وتقدير "البرايت" الذي جعل حكم "صدق ايل" في حوالي السنة "400 ق. م." فرق كبير. كذلك نجد بين ترتيب "فلي" وترتيب "البرايت" للملوك فرقا كبيرا. ف "اليفع يثع" وهو ابن "صدق ايل" هو أول ملك ملك عرش معين على رأي "البرايت"، على حين أخره "فلبي" على نحو ما رأيت، إلا انهما يتفقان في إن "صدق ايل" والد "اليفع يثع" كان ملكا على حضرموت. ثم يعودان فيختلفان أيضا، ذلك إن "فلبي" جعله ملكا على حضرموت ومعين، أما "البرايت" فلم يدخلل اسمه في قائمته لملوك حضرموت.

(1/765)


--------------------------------------------------------------------------------

وحكم بعد "اليفع يثع" ابنه "حفن ذرح" وكان حكمه في حوالي السنة "980 ق. م." على تقدير "فلبي". وكان له شقيق اسمه "معدكرب" "معد يكرب"، ولي عرش حضرموت. ولم يذكر "البرايت" اسم هذا الملك في قائمته لملوك معين.
وقد ذكر "فلبي" إنه كان لي "حفن ذرح" شقيق، اسمه "معد كرب" "معد يكرب"، ولي عرش حضرموت.
أما الذي ولي عرش "معين" بعد "حفن ذرح"، فهو "اليفع ريم" "اليفع ريام". وقد حكم في حوالي السنة "965 ق. م." على تقدير "فلبي" وهو ابن "اليفع يثع". وقد حكم حضرموت أيضا، وذلك لأن ولد "معد يكرب" لم يحكموا عرش حضرموت.
ثم انتقل حكم معين إلى "هوف عث" "هوفعشت" "هو عشت" من بعد "اليفع ربام"، وهو ابنه. وقد ولى الحكم سنة "950 ق. م." - على رأي "فلبي" - ودون ذلك بمئات من السنين على رأي "البرايت".
وانتقل العرش إلى "أب يدع يشع" "أبيدع يشع" بعد "عوف عثت" وقد كان حكمه في حوالي السنة "935" قبل الميلاد أما "البرايت" فيرى إن زمان حكمه كان في حوالي السنة "343" قبل الميلاد. وهو ابن "اليفع ريمام".

(1/766)


--------------------------------------------------------------------------------

admin
12-26-2010, 01:35 PM
وجاء في الكتابة المرقمة برقم: Glaser 1150 و Halevy 192 وهي كتابة تتألف من جملة أسطر ومصدرها مدينة معين، اسم الملك "اب يدع يثع" ورد لمناسبة قيام جماعة من أشراف مدينة "قرنو" "قرن" "القرن" بإصلاح خنادق هذه المدينة وترميم أسوارها وإنشاء محلة جديدة فيها. وصاحب هذه الكتابة والآمر بتدوينها، هو "علمن بن عم كرب" من أسرة "ذي حذار" "ذي حذأر"، أي "آل حذار" ورئيس "كبأن" "جبأن" وصديق ومكتسب عطف ومودة "موددت" ملك معين "اب يدع يثع"، و والد عدد من الأولاد ساعدوه في هذا العمل، هم "ياوس آل" "ياوس ايل" "يأوس ايل"، و "يذكر آل" "يذكر ايل"، و "سعد آل" "سعد ايل" و"هب آل" "وهب ايل"، و "يسمع ايل" "يسمع آل". وقد قاموا بهذا العمل تقربا إلى آلهة معين: "عثتر ذ قبضم" "عثتر ذو قبض". و "ود" و "نكرح" و إلى ملك معين. وقد جرى العمل في ربع "ربعن" المدينة، المسمى "رمشو" "رمش"، وقد امتد إلى موضع "شلوث". وبعد الانتهاء من هذا العمل ذبحت القرابين على عادتهم للآلهة "عثتر" "رب" "قبض" "عثتر ذ قبضم" و "ود". وذكرت الكتابة تفاصيل الأعمال التي تمت ومواضعها ومقدارها وغير ذلك مما يذكر عادة في وثائق البناء.
وهناك كتابة أخرى عثر عليها في "قرنو"، وهي الكتابة التي أشير إليها بعلامة Halevy 193، ورد فيها اسم الملك "اب يدع يبع"، وهي من الكتابات المهمة التي تشير إلى الصلات السياسية التي كانت في هذا العهد بين مملكة معين ومملكة حضرموت. وقد جاء فيها إن "معد يكرب" ملك حضرموت وقف حصن "خرف" للإله "عثتر ذ قبضم"، وقد بنى ذلك الحصن "شهر علن بن صدق آل" ملك "حضرموت" ونذره للإله "عثتر ذ قبضم" و "عثتر شرقن" و "ود" و "نكرح"، وقدمه إلى ابن أخيه "اب يدع يثع" ملك )معين(، و شعب معين.

(1/767)


--------------------------------------------------------------------------------

وورد اسم الملك "معد يكرب بن اليفع يثع" في الكتابة الموسومة ب: Halevy، وهي من الكتابات التي عثر عليها في خرائب مدينة "يثل"، و تتحدث عن إنشاء بناء في مدينة "وكل"، كما ورد اسم الملك "اب يدع يثع" واسم "معد يكرب بن اليفع" في كتابة أخرى عثر عليها في "يثل" أيضا. وورد اسم "اب يدع يثع" في ثلاث كتابات أخرى. وورد في اثنين منها اسم ابنه "وقه آل ريم" "وقه ايل ريام" معه.
وتشير هذه الكتابات إلى إن "معد يكرب بن اليفع يثع"، أي ابن أخي "أب يثع بن اليفع ريام" كان معاصرا ل "اب يدع" وان الصلات بين ابني الشقيقين كانت وثيقة وحسنة. وهي كتابات تفيد المؤرخ بالطبع كثيرا في محاولاته لوضع قائمة بأسماء ملوك حضرموت وملوك معين، إذ إنها جعلتنا نتفق في إن حكمي الملكين كانا في زمن واحد تقريبا، ومكنتنا.ذلك من تثبيت أسماء بقية أسرتيها على هذا الأساس بحيث لا يبقى هنا موضع للجدل في موضع ترتيب أسماء رجال هذه الأسرة الحاكمة في حضرموت وفي معين.

(1/768)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن الكتابات المعينية المهمة، كتابة رقمت برقم Glaser 1115=Halevy 535، Halevy 578، ترجع أيامها إلى أيام الملك "اب يدع يثع". وهي تتحدث عن حرب وقعت بين "ذيمنت" و "ذ شامت"، أي بين الجنوب والشمال، ولا يعرف مقصود الكتابة من الجنوب ومن الشمال على وجه أكيد. وقد ذهب "ونكلر" إلى إن المراد ب "الجنوب" حكومة معين، وان المقصود من الشمال حكومة عربية، هي حكومة "أريبى" التي كان يمتد سلطانها على زعمه، إذ ذاك إلى ارض دمشق. وقد دونت هذه الكتابة لمناسبة نجاة قافلة كبيرة ضخمة من غزو تعرضت له بين موضع "معن" أي "معين" على قراءة، أو موضع "ماون" "ماوان" على قراءة أخرى: وبين موضع "ركمت" "ركمات". و إذا صح إن الموضع الأول المذكور هنا هو "معن"، فبكون الهجوم على القافلة المذكورة قد و.قع ف!ما بين "مص ين" العاصمة وموضع "رممت". و إذا كان الموضع "مون" أو "ماوان"، يكون الهجوم قد وقع عليها في المنطقة التي بين "مون" "ماوان" و "ركمت".
ولا نعلم من أمر "مون" "ماوان" شيئا على وجه التأكيد، وقد ذكر "ياقوت الحموي" اسم موضع دعاه "ماوان"، قال عنه: "واد فيه ماء بين النقرة والزبدة، فغلب عليه الماء، فسمي بذالك الماء ماوان.

(1/769)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد أمر بتدوين هذه الكتابة "عم صدق" "عميصدق" "عم يصدق"، "عم صديق" ابن "حم عثت"، "ذو يفعن" و "سعد بن ولك" "ذو ضفكن"، و كانا "كبر" كبيرين على "مصر" وعلى "معن مصون" "معين مصران". وقد أمر بتدوينها، شكرا لآلهة معين: "عثتر ذو قبض" و "ود" و "نكرح"، لأنها نجت القافلة وأنقذتها من الوقوع في أيدي الغزاة، كما قاما بتزيين معبد "تنعم"، وذلك في عهد ملك "معين" "أب يدع يثع". وقد ورد في الكتابة ذكر حرب وقعت بين "مذى" و "مصر" في وسط "مصر". وقد!شكر الآلهة على إن سلمت أموال المعينيين في هذه المنطقة أيضا، وحفظت أرواح رجال القافلة وشملتها برحمتها وحمايتها إلى إن أبلغتها حدود مدينتهم "قرنو"، شكرا وتسبيحا بحمد "عثتر شرقن" "عثتر الشارق" و "عثتر ذو قبض" و "ود" و "نكرح" و "عثتر ذي يهرق" "وذات نشق" كل آلهة معين، و "يثل"، وملك معين "أب يدع يثع" و بابني "معد يكرب بن اليفع"، وشعبي معين و يثل.
ولم يرد في الكتابة ذكر الجهة التي كانت تقصدها هذه القافلة، أكانت متجهة من معين نحو الشمال، أي من اليمن نحو بلاد الشام، أم كان اتجاهها على العكس من "معين مصران" نحو الجنوب قاصدة اليمن، ولكن القرائن تدل إنها كانت راجعة عائدة أي متجهة نحو اليمن، نحو العاصمة "قرنو"، وقد تعرضت لأخطار كثيرة بسبب الحرب المذكورة وبسبب الغزو الذي تعرضت له، وهي في طريها إلى وطنها.

(1/770)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد كانت مثل هذه القوافل هدفا ممتازا للقبائل والعشائر وقطاع للطرق، لما تحمله من أموال. وهي وان أمنت على نفسها باتفاقات تعقدها الحكومات ويعقدها أصحاب الأموال مع سادات القبائل الذين تمر الطرق من مناطق نفوذهم، إلا إن مثل هذه الاتفاقات لم تكن كافية لحماية الأموال المغرية التي تحملها الجمال من طمع الطامعين فيها. وقد يقع الاعتداء من قبائل أخرى معادية لسادات القبائل الذين يحمون تلك الطرق. ولهذا كانت أموال التجار معرضة دائما للأخطار، وعلى التجار أيضا زيادة أسعار أموالهم، بسبب الضرائب المستمرة التي يدفعونها لسادات الطرق، وبسبب الزيادات التي يفرضونها في إتاواتهم هذه، وإلا تعرضت القوافل للسلب والنهب. ولهذا لا غرابة إن نذر التجار لآلهتهم وحمدوها وسبحوا بأسمائها عند عودتهم سالمين من تجارتهم، أو عادت قوافلهم سالمة، فيوم العودة هو في الواقع يوم فرح وعيد.
واختلف الباحثون في تعيين الحرب التي نشبت في وسط مصر بين "مذى" و "مصر" اختلفوا في تعيين زمن وقوعها كما اختلفوا في تثبيت هوية المتحاربين. فذهب بعضهم إلى إن المراد من "مذى" "الماذيين"، ويراد بهم "الماديون" "الميديون"، وهم طبقة من طبقات الايرانيين، ورأوا إن المعينيين كانوا قد أطلقوا "مذى" علهم محاكاة لبني إرم، وكانوا على اتصال وثيق بهم. ولهذا دعوا ب "مذى" في هذه الكتابة. ومن بني إرم تعلم المسلمون نسبة "الماذيين" "الميذيين"، فقالوا إنهم من نسل "ماذي بن يافت بن نوح". وقد ذكر الطبري اسم "كيرش الماذوي".ف "مذى" و "ماذي" اذن بمعنى "مادي" و "ميديا" Media. و "ماذي" هو "مادي" الابن الثالث ليافت في التوراة ومن نسله تسلسل الماديون.

(1/771)


--------------------------------------------------------------------------------

وذهب "فلي" إلى إن "مذي" هم "المدينيون"، أهل مدين "المديانيين" الذين عرفوا بتحرشهم بالعبرانيين. وهم سكان ارض "مديان" "مدين"، وهي أرض واسعة تمتد من خليج العقبة إلى موآب وطور سيناء. ويرى إن الحرب المذكورة قد وقعت بينهم وبين أهل "معن مصرن" أي "معين المصرية". وراى "هومل" إن "مذي" هم جماعة من بدو طور سيناء.
ونجد "فلبي" نفسه، يخالف نفسه في مناسبات أخرى، فقد ذهب مرة إلى إن "مذي" هم جماعة عرفوا به "مذوي" Madhoy أو Maroe أو Maziou، وبين هؤلاء وبين "مصر" وقعت تلك الحرب.
و اختلفوا في زمن وقوع تلك الحرب، فذهب "ونت" إلى إن الحرب المذكورة في هذا النص، حرب "مذي" و "مصر" هي الحرب التي وقعت بين "الميديين" والمصريين في سنة "343 ق. م.". وقد استولى فيها "أرتحشتا أوخوس" "أرطخشت أوخوس" Artaxerxes Ochus على مصر. وإلى هذا الرأي ذهب "البرايت" Albright كذلك أما "ملاكر" K. Mlaker إن هذه الحرب، هي الحرب التي وقعت في حوالي سنة "525ق. م." فادت إلى فتح "قمبيز" "كمبيس" Cambyses لمصر. ومن اختلافهم في قدير زمن وقوع هذه الحرب، اختلفوا في زمن حكم "اب يدع يثع" ملك معين، وفي حكم سائر ملوك معين، من مبدأ أول ملك إلى س آخر ملك من ملوك هذه الدولة.
وقد ذهبت "بيرين" J. Pirenne إلى إن الحرب المذكورة وقعت في الفترة الواقعة فيما بين "210" إلى "205 ق. م."،وأن المراد من "مذي" "السلوقيون" ومن "مصر" البطالمة، وأنها قد تشير إلى الاستيلاء على "غزة" في سنة "217 ق. م." تقريبا، وإلى المعركة التي تلتها ووقعت عند موضع Rapheia.

(1/772)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرى البعض إن لفظة "مذي" إنما كانت تعني الحكومة التي تحكم العراق، ولو لم تكن من "الماذويين" "الجديين"، وأن "مصر" تعني الحكومة التي تحكم مصر من غير تقيد بجنسية الحاكمين لها. ويستشهد على هذا بورود لفظة "مذي" "همذي" في نص "صفوي" من سنة "614" للميلاد، وقد قصد بهم "الفرس". ويرى إن اطلاق لفظة "همذي" أي "الميذيين" على الفرس لا يثير اعتراضا كبيرا مثل الاعتراض الذي يثار حول تفسير "مذي" ب "سلوقيين"، إذ إن الساسانيين هم فرس، والماذيين فرس كذلك، وان كانوا من جيلين مختلفين، أما "السلوقيون"، فقد كانوا يونانا، وليست لهم علافة يالفرس، ثم من يدرينا إن أهل ذلك العهد من العرب كانوا يطلقون على كل من يحكم العراق، "ميذيين" "مافويين"، وفي جملتهم هؤلاء السلوقيون.
هذا وقد ورد في النص اسم أرض دعيت "ااشور" "ااشر"، ووردت معها لفظة "مصر". وقد ذهب بعض الباحثين فبه إلى إن الكبيرين المذكورين كانا يمثلان ملك معين في "مصر"، أو في "صور" على بعض القراءات وعند ملك "ااشر" "ااشور" و "عبر نهران". وذهبوا إلى إن "ااشر" "ااشور" هي "آشور"، أو البا دية. أما "هومل" و "كلاسر" فذهبا إلى إن المراد من "ااشور" أرض تقع على حدود مصر، سكنها شعب دعي في التوراة ب "اشوريم" Asshurim، وهم "ولطوشيم" Lutushim و "لويميم" Leummim قبائل عربية جعلتها التوراة من نسل "ددان" Dedan "ديدان" من إبراهيم من زوجه "قطورة". وقد ورد في "التركوم" Taegum إن معنى "اشوريم" سكان الخيام. وقد وردت اللفظة "ااشور" "اشور" Ashur في كتابتين معينيتين.
وعلى راي "هومل" و "كلاسر" يكون الكبيران المذكوران في الكتابة، وهما أصحابها، قد حكما ومثلا ملك معين في معين المصرية" وفي أرض "ااشور" أي في منطقة تمتد من مصر إلى "بئر السبع" Beersheba و"حبرون" Hebron. وهي طور سيناء عند "هومل"، والأرض الواقعة بين السويس إلى "غزة" وجنوب فلسطين عند "كلاسر".

(1/773)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما الميغرون على القافلة والذين أرادوا الاستيلاء عليها، فهم قوم من "سبأ" و "خولان على رأي الباحثين. وقد ورد اسم الخولانيين في نصوص عربية جنوبية مما يدل على إنهم كانوا من القبائل المعاصرة للسبئيين.
ويتبين من هذا النص إن حربين قد نشبتا قبل تدوينه، حرب نشبت بين "ذيمنت" و "ذ شامت"، أي بين سادة الجنوب وسادة الشمال، وحرب أخوى هي الحرب التي نشيت ببن "مذي" و "مصر". وقد أصاب المعينيين من هاتين الحربين خسائر كبيرة. أما متى نشبت الحربان وكم كانت المدة بينهما، وبين الهجوم على القافلة المعينية المذكورة، فليس من الممكن تقديم أجوبة عنها مقنعة ومقبولة، لقلة ما لدينا من كتابات ووثائق، وقد رأينا اختلاف أهل العلم في تقدير تأريخ هذا النص، بسبب أخذهم بالحدس والتخمين، لذلك أرى إن من الصواب ترك هذه الإجابة إلى المستقبل.
وقد رأينا إن هذا النص دون في أيام الملك "اب يدع يثع"، وقد أشير فيه إلى ابني "معديكرب بن اليفع" إلا إنه لم يذكر اسميهما ولا نعتهما فجعلنا بذللك بجهل من أمرهما. وهذا لم يتمكن الباحثون من وضعهما في قائمة ملوك حضرموت. إلا إن "فلبي" ذكر انهما لم يتربعا على عرش تلك المملكة لأنها ضمت إلى معين وبقيت مدة قدرها بحوالي ثلاثة قرون مندمجة فيها إلى حوالي السنة "650" قبل الميلاد حين انفصلت عن معين، وتولى الحكم عليها - على رأيه - الملك "السمع ذبيان بن ملككرب".

(1/774)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر اسم الملك "ابيدع يثع"، واسم ابنه "وقه آل ريم" "وقه أيل ريام" في النص الذي وسم ب Rep. Epig., 3535، وهو نص دونه "سعد ابن هوفعثت" من "آل ضفجن" "آل ضفجان" "آل ضفكان" عند بنائه "مذبا" "مذابا"، وصاحب هذه الكتابة هو من العشيرة التي ينتمي إليها صاحب الكتابة Glaser 1155 المذكورة. وقد كان "كبيرا" كذلك. تولى إدارة مقاطعة "معن مصرن" "معين مصران"، أي "مصين المصرية"، وقد دعيت، بذلك لأن سكانها من المعين الساكنين في الشمال في العلا وما جاورها على الحدود المتاخمة لشرق "مصر". وقد تيمن بهذه المناسبة على عادة العرب الجنوبيين بذكر آلهة معين ثم ملك معين وابنه، مما يدل على إن ابنه كان يشاركه يومئذ في تدبر الأمور، كما شكر "مجلس معين" و "مشود معن" "مزود معين".
وجاء بعد "اب يدع يثع" "أبيدع يثع" على عرش معين الملك "وقه آل ريم" "وقه ايل ريام" ابن الملك "أبيع يثع" "أب يدع يثع". وابن "هوف عث" "هو فعث" على رأي "فلبي". أما "البرايت"، فقد جعله في موضع ابن "هو فعث"، غير إنه عاد في مواضع أخرى، فجعله ابنا من أبناء "أب يدع يثع".
وانتقل الحكم إلى "حفن صدق" "حفن صديق" بعد "أب يدع يثع"، وهو ابن "هوفعث" على رأي "فلبي"، وابن "وقه آل ريم" "وقه ايل ريام" على رأي "البرايت". وكان "البرايت" قد جعله في بحث آخر نشره من قبل شقيقيا ل "وقه ايل ريام"، أي إنه جعله أحد أبناء "أب يدع يثع".
ثم صار الحكم إلى "اليفع يفش" بعد "حفن محدق"، وهو ابنه على رأي "فلبي" أما ! البرايت" فقد ذكر في بعض من بحوثه إنه ابنه، غير إنه وضع أمام قوله هذا علامة استفهام إشارة إلى إنه غير واثق برأيه كل الوثوق، ووضع في بحث له أخر في ملوك المعينيين جملة اشترك مع "حفن صدق في الحكم"، من غير إن يشير إلى علاقته به.

(1/775)


--------------------------------------------------------------------------------

ووضع "فلبي" فراغا بعد اسم "اليفع ي فش"، لا يدري من حكم فيه، قدره على عادته بعشرين عاما، ويقابل ذلك حوالي السنة "870 ق. م."، وجعل نهايته في سنة "850 ق. م."، ثم وضع بعده أسرة جديدة، زعم إنها -حكمت معينا على رأسها "يثع أيل صديق" "يثع آل صدق" ولا نعرف الآن من أمره شيئا إلا ما ورد في كتابة من الكتابات من أنه بنى حصن "يشبم" "يشبوم"، وأنه والد "وقه آل يثع" "وقه أيل يثع" ملك معين. و "وقه آل يثع" هو والد "اليفع يعشر" الذي ضعفت في أيامه حكومة معين كما يظهر ذلك من كتابة كتبها أهل "ذمرن" "ذمران" لمناسبة وقفهم وقفا على معبد، إذ ورد: "في أيام سيدهم، وقه آل يثع وابنه اليفع يشر، ملك معين، وباسم سيدة شهر يكل يهركب ملك قتبان". ويظهر منها إنها كتبت في أيام "وقه آل يثع"، وكان ابنه "اليفع" يحمل لقب "ملك"، كذلك وأن حكومة قتبان كانت أقوى من حكومة "معين"، ولهذا اعترف ملك معين بسيادة ملك قتبان عليه.
وقد ورد اسم "اليفع يشر" في كتابات أخرى، منها الكتابة الموسومة Glaser 1144=Halevy قد دونت بأمر جماعة م ن أهل "نيط" لمناسبة قيامهم بترميمات و إصلاحات في الأبراج وحفر قنوات ومسايل للمياه تقربا إلى آلهة معين. ومنها كتابة دونت في "نشن" "نشان"، وكتابة دونت في "قرنو"، ويظهر من هذه الكتابة الأخيرة ما يؤيد رأي القائلين إن حكومة قتبان كانت اقوى من حكومة معمين إذ ذاك، و إنها فرضت نفسها لذلك عليها إلا إن هذا لا يعني إنها فقدت استقلالها وصارت خاضعة لحكومة قتبان فإننا نرى إنها بقيت مدة طويلة بعد هذا العهد محافظة على كيانها، وعلى رأسها ملوك منهم الملك "حفن ريم" "حفن ريام" وهو ابن "اليفع يشر" وشقيقه "وقه آل نبط" و "كه ايل نبط".

(1/776)


--------------------------------------------------------------------------------

وورد اسم "اليفع بشر" في كتابتين عثر عليهما في "الديدان" "ددن" "ددان" "العلا"، أمر بتدوين إحداهما "وهب آل بن حيو ذعم رتنع" "عمى رتنع" من أعيان المعينيين في الشمال ومن "الكبراء". وأما الكتابة الأخرى فتعود ل "يفعن" "يفعان" من رؤساء "ددان" كذلك. وقد كان هذان الرجلان من أسرتين كبيرتين عرفتا في أيام معين المتأخرة وفي عهد اللحيانيين، وورد اسم الأسرتين في عدد آخر من الكتابات.
وورد في النص الموسوم ب Rep. Epigr., 3707 اسم الملك "وقه آل نبط" وورد فيه اسم المدينة "قرنو" العاصمة. وهذا النص دون في أيام "هنا فامن" "هانىء فأمان" الذي كان كبيرا على هذه المنطقة التي دون فيه النصر، وهي منطقة "الخريبة" في أرض مدين أي في الأرضين التي سكنها المعينيون الشماليون. والملك المذكور هو ابن الملك "اليفع بشر" وشقيق الملك "حفن ريام".
أما "البرايت"، فقد وضع هذه الأسرة التي يرأسها "يثع ايل صدق"، في نهاية الأسر الحاكمة لحكومة معين. وتتألف عنده من "يثع ايل صدق"، ومن "وقه ايل يثع" ابنه، ومن "اليفع بشر"، ومن "حفن ريام"، ومن "وقه ايل نبط"، وقد كان حكم "وقه ايل صدق" - على رأيه - في حوالي السنة "150 ق. م.". وكان تابعا للملك "شهر يبل يهرجب" "شهر يكل يهركب" ملك قتبان.
وترك "فلبي" بعد اسم "حفن ريام" و "وقه ايل نبط" فراغا لا يدرى من حكم فيه، قدره بعشرين عاما، ويبدأ - على رأيه - من سنة "770" وينتهي بسنة "750 ق. م."، ثم وضع بانتهائه ابتداء أسرة أخرى جديدة، جعلها الأسرة الرابعة من الأمر التي حكمت حكومة معين. وقد ابتدأها بي "ابيدع ريام"، ثم بابنه "حل كرب صدق" "خال كرب صديق". وقد ورد اسمه في كتابة وجدت في "قرنو" لمناسبة "تدشين" معبد "لعشتر ذ قبض" "عثتر ذو قبض"، وكان له ولدان، هما: "حفن يثع" و "أوس" وقد تولى "حفن يثع" عرش "معين" بسد وفاة أبيه"، ومن الجائز - على رأي "فلبي" - إن يكون شقيقه "أوس" قد اشترك معه في الحكم.

(1/777)


--------------------------------------------------------------------------------

وورد عهد الملك "خلكرب صدق" "خالكرب صديق" "خالكرب صادق" في الكتابة المرقمة ب Glaser 1153=Halevy 243، وذلك لمناسبة تقديم جماعة ذكرت أسماؤهم في الكتابة نذرا إلى الآلهة "عثتر ذ فبض" في معبده بي "رصف" "رصاف" "رصفم" لقبيلة "هورن" "هوران". فذكروا إن ذلك كان تيمنا بآلهة "معين" و "يثل" في عهد هذا الملك. وأما الرجال الذين قدموا ذلك النذر، فهم: "مشلك بن حوه" من "خد من" "خدمان" "آل خدمان" من قبيلة "زلتن" "زلتان"، و "أوس بن بسل" "باسل من "آل وكيل" "ذو كل" و "متعن بن حمم" "متعان بن حمام" من "آل وكيل"، "ذو كل" و "باسل بن لحيان". من "آل وكيل" و "ثني بن أيانس". من قبيلة "معهرم" "معهر"، و "مذكر بن عمانس" من "حرض" وآخران. وقد ذكر بعل اسم الملك اسم "الكبير" "كبر" 6 الذي كان يحكمهم، وهو "مشك" من "آ ل خد من" "آل خدمان".
ويرى "فون وزمن" إن الملك "خل كرب صدق"، "خال كرب صديق"، هو الذي بنى معبد "رصف"، "رصفم"، المعبد الشهير عند المعينيين. ويقع هذا المعبد خارج سور "قرنو" العاصمة، على مسافة حوالي "750" مترا من المدينة. وقد عثر في أنقاضه على عدد من الكتابات.
وتيمن من بذكر الملك "خالكرب صديق" ملك معين في نص آخر، دونه "مشك بن حوه" من "آل خدمان" من قبيلة "زلتان" أي الشخص الذي مر ذكره في الكتابة السابقة بالاشتراك مع أناس آخرين، هم: "حيوم بن هوف" و "وينان" 2 و "مأوس" ابن عمه من "آل كزيان"، "جزيان" و "هبان" "وهب" وأخوه "اكر" ابنا "صبح" من "آل جزيان"، و "اوسان"، وجماعة آخرون سقطت أسماؤهم من الكتابة. وقد ذكر بعد اسم الملك اسم "الكبير" الذي في عهده كتبت الكتابة وهو "مشك ذ خدمان" أي "مشك" من "آل خدمان" أو "كبير خدمان" "ذو خدمان" وهو الكبير المذكور في الكتابة السابقة.

(1/778)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ورد اسم هذا الملك في الكتابة الموسومة ب Halevy 241+242. وقد أمر صاحبها بتدوينها لمناسبة تبحيره بئره المسماة "ثمر" "ثمار" على مقربة من معين وتوسيعها وطيها "أي بنائها"، وتسويره مزارعه وقد قوى وحصن البرج المشرف عليها. وتيمنا بهذه المناسبة، ذكر اسم "عثتر ذ قبض" و "ود" و "نكرح" و "عثتر ذ يهرق" آلهة سعين، والملك "خالكوب صديق" وشعب معين.
أما "البرايت"،فكان قد ذكر في نهاية بحث له نشره في سنة "1950 م" عن ملوك معين إن هناك ما لا يقل عن خمسة ملوك نعرفهم إنهم من ملوك معين غير إننا لا نستطيع إن نعرف مواضعهم التي يجب إن يوضعوا فيها بين ملوك معين. و هؤلاء الملوك هم: "أبيدع ريام"، ثم ابنه "خلكرب صدق" "خليكرب صديق" "خال كرب صديق"، ثم ابنه "حفنم يثع" "حفن يثع"، ثم "يثع ايل ريام" وابنه "تبع كرب".
ثم عاد "البرايت" فغير رأيه في بحث نشره في سنة 1953 م في هذا الموضوع أيضا: موضوع ترتيب ملوك معين. فقد وضع اسم "يثع ايل ريام" بعد اسم "عم يثع نبط" وهو ابن "اب كزب" "أبكرب". وقد حكم - على رأيه - بعد "اليفع يفش" وذلك في حوالي السنة "300 ق. م."، ثم وضع بعده اسم "تبعكرب" "تبع كرب"، وهو ابن "يثع ايل ريام" ثم ذكر اسم "خليكرب صدق" "خاليكرب صديق" "خال كرب صديق" من بعده، وهو ابن "أبيدع ريام"، وقد كان حكمه في حوالي السنة "250 ق. م."، ثم جعل اسم "حفن يثع" من بعده وهو ابنه. وبذلك قدم هذه الأسماء في هذا البحث بأن جعلها في المجموعة الأولى من المجموعات الثلاث التي حكمت مملكة معين.

(1/779)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ختم "فلبي" قائمته لأسماء ملوك معين بان وضع فراغا مقداره عشرون عاما، لا يدرى من حكم فيه، أنهاه بسنة "670 ق. م."، ثم تحدث عن أسرة خامسة زعم إن أعضاءها هم: "يثع ايل ريام"، وقد حكم في حوالي السنة "670 ق. م."، ثم "تبع كرب " وهو ابنه وقد كان حكمه من سنة "650 ق. م." حتى سنة "630 ق. م.". وكان له شقيق اسمه "حيو" "حي" ربما كان قد شاركه في الحكم. وبذلك أنهى "فلبي" قائمته لملوك "معين".
وقد وضع "البرايت" قائمة رتب فيها ملوك معين، نجعل أولهم "اليفع يثع"، وقد حكم على رأيه حوالي سنة "400 ق. م."، وابن "صدق ايل" ملك حضرموت. وعندي إن البدء بهذا الملك على إنه أقدم ملوك معين، يدل على إن مملكة معين كانت في أقدم عهودها خاضعة لمملكة حضرموت، وهو يحتاج إلى دليل، ولم يرد في نص إن حكومة معين كانت خاضعة في بادئ الأمر لحكومة حضرموت، ثم استقلت عنهما، بل يذهب أكثر علماء العربيات الجنوبية إلى تقدم معين على حضرموت في القدم. ويلاحظ أيضا إنه جعل الملك "يدع ايل" على رأس قائمة ملوك حضرموت وقد كان هذا الملك على رأيه أيضا معاصرا للملك "كرب آل وتر" "كرب ايل وتر"، وقد حكم على رأيه حوالي سنة "450 ق. م.".

(1/780)

admin
12-26-2010, 01:37 PM
والواقع إننا لا نستطيع التحدث عن صلة "صدق ايل" ملك حضرموت بمعين بصورة جازمة، وان كان الغالب على الظن إنه كان ملكا على شعب معين وشعب حضرموت. ولكننا لا نستطيع إن نؤكد إنه كان حضرميا، كما إننا لا نستطيع إن نقول جازمين إنه من معين. وقد سبق إن تحدثت عنه، والظاهر إنه كان ملكا أيضا على معين، وقد سبقه بالطبع جملة ملوك حكموا دولة معين كانوا من المعينيين. أما ابنه "اليفع يثع"، الذي جعله "البرايت" أول ملوك معين، فقد ورث عرش معين من أبيه على نحو ما رأى "فلبي"، على حين ورث شقيقه "شهر علن" "شهر علان" عرش حضرموت. وهذا يدل على إن رابطة دموية كانت تربط بين حكام الشعبين، يؤيد ذلك إن "معد يكرب ابن اليفع يثع" هو الذي تولى عرش حضرموت بعد "شهر علن" أي بعد وفاة "عمه"، وأبوه كما رأيت ملك معينا.
وجعل "البرايت" "حفن ذرح" بعد "اليفح يثع"، وهو ابنه ولعله الابن الأكبر، وهو شقيق "معد يكرب" ملك حضرموت، أي إن ولدي "اليفع يثع" كانا قد اقتسما تاج معين وتاج حضرموت.

(1/781)


--------------------------------------------------------------------------------

وتولى عرش معين بعد "حفن ذرح" "اليفع ريام"، وقد تولى أيضا عرش حضرموت على رأي "البرايت"، ثم تولى بعده "هوف عث"، ثم "اب يدع"، وهو شقيقه وابن "اليفع ريام"، وإلى ايامه يعود النص المعروف ب Halevy 535 +578،الذي يتحدث عن حرب نشبت بين "مدي" "ماذي" و "مصر". ويرى "البرايت" استنادا إلى هذا النصر إن حكمه يجب إن يكون في حوالي عام "343 ق. م." أما "فلبي" فقد جعل حكمه في حوالي عام "935 ق. م."، وجعله العاشر بحسب تسلسل الملوك. وتتشابه قائمة "البرايت" وقائمة "فلبي" في تسلسل المجموعة التي تولت حكم معين هي والتي تبدأ ب "اب يدع يثع" وتنتهي ب "اليفع يفش"، ثم تختلف قائمته عن قائمة "فلبي"، إذ يذكر "فلبي" أسرة جديدة، يرى إنها حكمت بعد تلك الأسرة بمدة قدرها بزهاء عشرين عاما، على عادته في تقدير متوسط مدة حكم كل ملك من الملوك وتبدأ على رأيه ب "يثع ايل صديق" ثم بابنه "وقه ايل يثع". ثم ب "اليفع يشر" ثم ب "حفن ريام" ابن "اليفع يشر"، ثم "وكه ايل بنت" "وجه ايل نبط". أما "البرايت" فيذكر، قبل هذه السلالة التي تبدأ ب "اليفع وقه"، ثم ب "وقه ايل صديق" ثم ب "اب كرب يثع"، ثم تنتهي ب "عم يثع نبط" "نبط". وقد حكم "اليفع وقه" على رأي "البرايت" في حوالي سنة "250 ق. م.". على حين قدم "فلبي" هذه السلالة وجعلها في رأس قائمة ملوك معين. وقد حكم "اليفع وقه" على رأيه حوالي سنة "1120 ق. م.".
وذكر "البرايت" بعد الأسرة المتقدمة أسرة أخرى جعل على رأسها "يثع آل صدق"، ثم "وقه آل يثع"، وهو ابن "يثع آل صدق"، وقد ذكر أنهما كانا تابعين للملك "شهر يجل يهرجب"، ملك قتبان الذي حكم على تقديره في حوالي سنة "150 ق. م."، وجعل بعد "وقه آل يثع" ابنه الملك "اليفع يشر" وقد ورد اسمه في كتابة عثر عليها في "ددان" "ديدان"، ثم جعل من بعده ابنه "حفن عم ريام"، ثم شقيقه "وشه آل نبط". وقد ورد اسمه في كتابة "ديدان".

(1/782)


--------------------------------------------------------------------------------

و ذكر "البرايت" إنه لا يستطيع تعيين زمن حكم الملوك "اب يدع ريام" وابنه "خلكرب صدق"، وابنه "جفن عم يثع"، و "يثع آل ريام"، ويرى "فون وزمن" احتمال كون "اليفع يشر الثاني" هو آخر ملك من ملوك معين. وقد لقب "البرايت" هذا الملك "بالثاني"، أيضا ليميزه عن ملك آخر عرف بهذا الاسم وضعه في الجمهرة الثانية من الجمهرات الثلاث التي صنعها لملوك معين، لهذا دعاه ب "الأول". وقد جاء في الكتابة الموسومة ب REP. Epig. 3021 اسمه واسم "شهر يجل يهرجب" ملك قتبان، كما سبق إن ذكرت. وهذا مما يدل على إنه كان معاصرا لملك شبان المذكور. وقد حكم فيما بين السنة "75 ق. م." والسنة "50ق. م." أما "فون وزمن"، فيرى إن حكمه كان في حوالي السنة "45 ق. م.".
وقد عاد "البرايت" كما قلت سابقا فأعاد النظر في قائمته المذكورة التي وضعها لملوك معين، فقدم وأخر ووضع تواريخ جديدة، أثرت إلى بعضها فيما سبق وسأنقل قائمته نقلا كاملا في نهاية هذا الفصل.
وقد جل "البرايت" زمان حكم المجموعة الأولى من حكام معين بين السنة "400 ق. م." والسنة "200 ق. م.". أما زمان حكم المجموعة الثانية فقد جعله بين السنة "200 ق. م." والسنة "100 ق. م." إلى ال "57ق. م.". وأما زمان حم المجموعة الثالثة فمن أوائل القرن الأول قبل الميلاد إلى النصف الأخر منه، فما بين السنة "50ق. م." والسنة "25 ق. م.".
غير إنه بين إنه لا يريد إن يؤكد إن قائمته هذه قائمة ثابتة لا تقبل تعديلا ولا إصلاحا. فقد يجوز إن تعدل في المستقبل في ضوء الاكتشافات الجديدة، كما عدلت قائمته السابقة تعديلا كبيرا. وقد رتب قائمته الثانية في ضوء دراسة تطور الخط و شكل الكتابة عند العرب الجنوبيين بحسب العصور. ولكن هذا لا يكفي وحده بالطبع في إبداء إحكام قاطعة صحيحة بالنسبة إلى السنين.

(1/783)


--------------------------------------------------------------------------------

أما قائمة "كليمان هوار"، فتتألف من سبع مجموعات. رجال المجموعة الأولى الملك "يثع ايل صديق" والملوك "وقه ايل يثع" و "اليفع يشر" و "حفن عم ريمم" "حفن ريام". ورجال المجموعة الثانية الملوك: "اليفع يثع" و "اب يدع يثع" و "وقه ايل ريام"، و "حفنم صديق" "حفن صديق" "حفن صدق"، و "اليفع يفش". ورجال الجمهرة الثالثة هم الملوك: "اليفع وقه" و "وفه ايل صدبق" و "اب كرب يثع"، و"عم يدع نبط" "عمى يدع نبط"، ورجال الجمهرة الرابعة الملوك: "اليفع ريام" و "هوف عثت". وأما الجمهرة الخامسة، فتتألف من "أب يدع" ولم يذكر لقبه، ومن "خال كرب صديق" ومن "حفن يثع". وأما المجموعة السادسة، فتتكون من "يثع ايل ريام"، و "تبع كرب". وأما المجموعة السابعة، فعمادها "اب يدع"، ولم يذكر لقبه و "حفنم".
ويلاحظ إن ملوك معين، وكذلك ملوك سائر الحكومات العربية الجنوبية، كانوا يحملون ألقابا مثل "يثع" بمعنى المنقذ أو المخلص، و "صدق" "صدوق" أي "الصادق" و "العادل" و "الصدوق"، و "ريم" "ريا م" بمعنى "العالي" و "نبط" بمعنى "المضيء"، و "وقه" بمعنى "المجيب" و "المطيع"، و ربما بمعنى "الآمر" و "يفش"، بمعنى "الفخور" و "المتكبر" أو "المتعالي"، و "يشر" بمعنى "المستقيم" و "فرح"، بمعنى "الوضاح"، أو "لمنير" أو "المشرق"، و "وتر"، بمعنى "المتعالي"، و "بين" بمعنى "الظاهر" والبين. إلى غير ذلك من ألقاب ترد في الكتابات المعينية و السبئية والقتبانية والحضرمية والكتابات الأخرى.
ومما يلاحظ أيضا إن ملوك الروم والرومان والفرس، كانوا أيضا يتلقبون بمثل هذه الألقاب. وقد تلقب الخلفاء والملوك بمثل هذه الألقاب في العصور ألعباسية. أما الخلفاء الراشدون والأمويون، فلم يميلوا إلى استعمالها، ولعل استعمال العباسيين لها كان تشبها بفعل الملوك المذكورين، وبتأثير الموالي الذين نقلوا إلى المسلمين كثيرا من رسوم الملك عند الفرس واليونان.

(1/784)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ورد في الكتابة الموسومة ب Halevy 208، وهي من "معين" اسم ملك من ملوك معين، هو "اليفع يثع"، وذكر بعده اسم "ابيدع" "أبي دع" ولم يلقب أي واحد منهما بلقب "ملك"، وإنما ذكرا بعد ذكر أسماء آلهة معين. و جاء بعد ذلك في جملة تالية "وملوك معين". ويظهر بوضوح من هذا النص إن "اليفع يثع" و "أبيدع" كانا ملكين من ملوك مدين. وأن في عهدهما دونت هذه الكتابة، تيمنا باسمهما، وتخليدا لتأريخها، وقد لاحظت إن الباحثين في حكومة معين لم يشيروا إلى اسميهما في ضمن القوائم التي وضعوها لحكام تلك الحكومة.
حكومات عدن
انقرضت حكومة "معين" و حلت محلها حكومة "سبأ" غير إن هذا لا يعني انقراض شعب معين بانقراض حكومته، وذهابه من عالم الوجود، إذ ورد اسم المعينين في عدد من الكتابات المعينية التي يرجع عهدها إلى ما بعد عهد سقوط حكومتهم، كما ورد اسمهم في المؤلفات الكلاسيكية التي تعود إلى القرن الأول للميلاد. وقد سبق إن ذكرت رأي المتخصصين في العربيات الجنوبية في هذا الموضوع. أما متى خفي اسمهم من عالم الوجود خفاء تاما، فذلك سؤال لا تمكن الإجابة عنه الآن، إذ يتطلب ذلك التأكد من إننا قد وقفنا على جميع الكتابات العربية الجنوبية والمؤلفات الكلاسيكية، و لا أخال إن في استطاعة أحد إثبات هذا الادعاء.
أعود فأقول: تباينت آراء العلماء في تعيين الزمن الذي ظهرت فيه مملكة "معين" الوجود، كما تباينت في نهايتها. كذلك ذهب "البرايت" إلى إن النهاية كانت في حوالي سنة "100 ق. م.". ثم عدل عن ذلك فجعلها في النصف الأول م ن القرن الأخير قبل الميلاد، بين سنة "50" وسنة "25" قبل الميلاد. وجعلت "بيرين" نهايتها في حوالي سنة "100 ب. م.". والذي أرجحة إن نهايتها كانت بعد الميلاد، لوررد اسمها مملكة إلى ما بعد الميلاد.

(1/785)


--------------------------------------------------------------------------------

و قد جعل "البرايت" في أحد رأييه في سقوط حكومة معين سنة "115" قبل الميلاد، وهي مبدأ التقويم السبئي، هي سنة زوال حكم معين، فلأهمية هذه الحادثة اتخذت مبدأ لتقويم يؤرخ به. وذهب آخرون إلى إن نجم معين أخذ في الأفول صة بين سنة "125" وسنة "75 ق. م.".
وفي خلالة الفترة التي انصرمت بين أواخر أيام حكومة معين و اندماجها ا نهائيا في مملكة "سبأ"، ظهرت حكومات صغيرة يمكن إن نشبهها بحكومات المدن، انتهزت فرصة ضعف ملوك معين، فاستقلت في شؤونها، ثم اندمجت بعد ذلك في سبأ. ومن هذه الحكومات "هرم" "الهرم" و "نش" "نشان" و "كمنت" "كمنه" "كمنهو"، "كمنا" وغيرها. و يمكن اعتبار مملكة "لحيان" التي كان مركزها في "الديدان" "ددن"، أي "العلا" من الحكومات التي استقلت في أيام ضعف المعينين، وقد كانت في الأصل جزءا من أرضي هذه المملكة يحكمها كبير.
وقد عرفنا من الكتابة الموسومة ب Halevy 154 ملكا من ملوك "هرم" سمي "يذمر ملك". وقد غزا مدينة "نشن" "نشان". ودمرها تنفيذا لطلب الملك "كرب أيل وتر" ملك سبأ، الذي كان معاصرا له، وقد وهب له "كرب ايل وتر" في مقابل هذه الخدمة جزءا من ارض "نشن" عرف بخصبه وبوجود الماء فيه. وقد ورد اسمه في عدد آخر من الكتابات.
وكان له،لد اسمه "بعثتر" جلس على عرش "هرم"، وشقيق اسمه "وروال ذرحن" "وروايل ذرحان".
وقد ورد في النص الموسوم ب Glaser 1058 اسم ملك آخر من ملوك "هرم" هو "معد كرب ريدن" "معد يكرب ريدان"، وأبوه هو "هوتر عثت".

(1/786)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد تبين من فحص الكتابات المدونة في مملكة "هرم" أن لها خصائص صرفية و نحوية تستحق العناية والدرس، ويظهر أن هذه الخصائص إنما نشأت من موقع هذه المدينة ومركزها السياسي والأحداث السياسية التي طرأت عليها، ومن الاختلاط الذي كان بين سكانها، فاثر كل ذلك في لهجة السكان. ويرى "هارتمن" أن لهجة كتابات "هرم" من اللهجات التي يمكن ضمها إلى الجمهرة التي تستعمل حرف "ه" في المزيد مقابل حرف "س" في الجمهرة التي تستعمل هذا الحرف في الفعل المزيد.
?مملكة كمنه
ومن ملوك مملكة "كمنه" "كمنهو"، الملك "نبط علي"، وقد ورد اسمه في بعض الكتابات. وورد في كتابة يظن إنها من كتابات "كمنهو" مكسورة سقطت منها كلمات في الأول وفي الآخر، جاء فيها: و بمساعدة عثتر حجر "هجر" و "نبط علي". والمقصود ب "عثتر حجر" "هجر" الإله عثتر سيد موضع يقال له "حجر" "هجر"، وربما كان في هذا المكان معبد لعبادة هذا الإله. وجاء قبل ذلك: "نبعل دللن" "نبعل الدلل"، وهذه الجملة ترد لأول مرة في الكتابات، ويظهر إن معناها "بعل الدلل" أو "الدليل"، ويظهر إن "الدلل" أو "الدليل" من الصفات التي أطلقها شعب "كمنه" "كمنهو" على عثتره.
وكان ل "نبط علي" ولد أصبح ملك "كمنه" "كمنهو" بعد والده، هو: "السمع نبط". وقد وصلت إلينا كتابة، جاء فيها: "السمع نبط بن نبط علي ملك كمنهو وشعبهو كمنهو لالمقه ومريبو ولسبا"، أي "السمع نبط بن نبط على ملك كمنه وشعبه شعب كمنه، لألمقه ومأرب ولسبأ". وهذه العبارة تظهر بجلاء إن مملكة "كمنو" "كمنهو" كانت مستقلة في هذا الزمن استقلالا صوريا، و إنها كانت في الحقيقة تابعة كومة "سبأ" ولمأرب العاصمة يدل على ذلك قربها إلى "المقه"، وهو إله السبئيين ولمأرب العاصمة، أي لملوكها ولشعب سبأ. وكان من عادة الشعوب القديمة إنها إذا ذكرت آلهة غيرها فمجدتها وتقربت أليها، عنت بذلك اعترافها بسيادة الشعب الذي يتعبد لتلك الآلهة عليها.
حكومة معين

(1/787)


--------------------------------------------------------------------------------

حكومة معين حكومة ملكية يرأسها حاكم يلقب بلقب "ملك"، غير إن هذه الحكومة وكذلك الحكومات الملكية الأخرى في العربية الجنوبية، جوزت إن يشترك شخص أو شخصان أو ثلاثة مع الملك في حمل لقب "ملك"، إذا كان حامل ذلك اللقب من أقرباء الملك الأدنين، كأن يكون ابنه أو شقيقه. فقد وصلت إلينا جملة كتابات، لقب فيها أبناء الملك أو أشقاؤه بلقب ملك، وذكروا مع الملك في النصوص. ولكننا لم نعثر على كتابات لقب فيها أحد بهذا اللقب، وهو بعيد عن الملك، أي ليس من أقربائه المرتبطين به برابطة الدم. كما إننا لا نجد هذه المشاركة في اللقب في كل الكتابات، وهذا مما حملنا على الظن بأن هذه المشاركة في اللقب، كانت في ظروف خاصة وفي حالات استثنائية، وهذا خصصت بأبناء الملك أو بأشقائه، وهذا أيضا لم ترد في كل الكتابات، بل وردت في عدد منها هو قلة بالنسبة إلى ما لدينا الآن من نصوص.
ولم تبح لنا أية كتابة من الكتابات العربية الجنوبية بسر هذه المشاركة أكانت مجرد مجاملة وحمل لقب، أم كانت مشاركة حقيقية، أي إن الذين اشتركوا معه أيضا في تولي أعمال الحكم كلية، أو بتولي عمل معين مهن الأعمال، بأن يوكل الملك من يخوله حمل اللقب القيام بوظيفة معينة ? ولم تبح لنا تلك الكتابات بأسرار الدوافع التي حملت أولئك الملوك على السماح لأولئك الأشخاص بمشاركتهم في حمل اللقب، أكانت قهرية كأن يكون الملك ضعيفا مغلوبا على امره، ولهذا يضطر مكرها إلى إشراك غيره معه من أقربائه الأدنين لإسناده ولتقوية مركزه،أم كانت برضى من الملك ورغبة منه، فلا إكراه في الموضوع ولا إجبار ?.

(1/788)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من الكتابات المعينية أيضا إن الحكم في معين، لم يكن حكما ملكيا تعسفيا، السلطة الفعلية مركزة في أيدي الملوك، بل كان الحكم فيها معتدلا استشاريا يستشير الملوك أقربائهم ورجال الدين وسادات القبائل ورؤساء المدن، ثم يبرمون أمرهم، و يصدرون أحكامهم على شكل أوامر ومراسيم تفتتح بأسماء آلهة معين، ثم يذكر اسم الملك، وتعلن كتابة ليطلع عليها الناس.
وقد كانت المدن حكومات، لكل مدينة حكومتها الخاصة بها، وهذا كان في استطاعتنا أن نقول إن حكومة معين هي حكومات مدن، كل مدينة فيها حكومة صغيرة لها آلهة خاصة تتسمى ب اسمها، وهيئات دينية، و مجتمع يقال له: "عم"، بمعنى أمة وقوم وجماعة. و لكل مدينة مجلس استشاري يردير شؤونها في السلم وفي الحرب، و هو الذي يفصل فيما يقع بين الناس من خصومات وينظر في شؤون الجماعة "عم".
وكان رؤساء القبائل يبنون دورا، يتخذونها مجالس، يجتمعون فيها لتمضية الوقت وللبت في الأمور و للفصل بين أتباعهم في خلافاتهم، ويسجلون أيام تأسيسها وبنائها، كما يسجلون الترميمات والتحسينات التي يدخلونها على البناية. وتعرف هذه الدور عندهم بلفظة "مزود". ولكل كل مدينة "مزود"، وقد يكون لها جملة "مزاود"، وذلك بأن يكون لشعابها وأقسامها مزاود خاصة بها، للنظر فيما يحدث في ذلك الشعب من خلاف. ويمكن تشبيه المزود بدار الندوة عند أهل مكة، وهي دار ة قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمرا إلا فيها، يتشاورون فيها في أمور السلم والحرب.
وتتألف مملكة معين من مقاطعات، على رأس كل مقاطعة ممثل عن الملك، يعرف عندهم ب "كبر"، أي "الكبير". يظهر إنه كان لا يتدخل إلا في السياسة التي تخص المسائل العليا المتعلقة بحقوق الملك وبشعب معين. ويرد اسم الكبير بعد اسم الملك في النصوص على عادة أهل معين وغيرهم من ذكر آلهتهم أولا ثم الملوك ثم الكبراء في كتاباتهم التي يدونونها ليطلع عليها الناس.

(1/789)


--------------------------------------------------------------------------------

ودخل الحكومة من الضرائب ومن واردات الأرضين الحكومية التي تستغلها أو تؤجرها للناس بجعل يتفق عليه. أما الضرائب فتؤخذ من التجار والزراع وسائر طبقات الشعب الأخرى، يجمعها المشايخ، مشايخ القبائل والحكام والكبراء بوصفهم الهيئات الحكومية العليا، وبعد إخراج حصصهم يقدمون ما عليهم للملك. وأما الواردات من المصادر الأخرى، مثل تأجير أملاك الدولة، فتكون باتفاق خاص مع المستغل، وبعقد يتفق عليه.
ومن الضرائب التي وردت أسماؤها في الكتابات: كتابات العقود ووفاء الضرائب والديون، ضريبة دعيت ب "فرعم"،أي "فرع" وضريبة عرفت ب "عشرم" أي "عشر"، وتؤخذ من عشر الحاصل، فهي "العشر" في الإسلام.
وكان للمعابد جبايات خاصة بها، وأرضون واسعة تستغلها، كما كان لها موارد ضخمة من النذور التي تقدم أليها باسم آلهة معين، عند شفاء شخص من مرض ألم به، وعند رجوعه سالما من سفر، وضد عودته صحيحا من غزو أو حرب، وعند حصول شخص على غلة وافرة من مزارعه أو مكسب كبير من تجاراته، وأمثال ذلك. ولهذا كانت للمعابد ثروات ضخمة و أملاك واسعة ومخازن كبيرة تخزن فيها أموالها. و يعبر عن النذور والهبات التي تقدم إلى المعابد بلفظتي "كبودت" و "اكرب"، "أقرب" أي ما يتقرب به إلى الآلهة. وتدون عادة في كتابات تعلن للناس، يذكر فيها اسم المتبرع الواهب واسم الإله أو الآلهة التي نذر لها، واسم المعبد، كما تعلن المناسبة، وتستعمل بعض الجمل والعبارات الخاصة التي تتحدث عن تلك المناسبات مثل: "يوم وهب" و "بذماد بن يدهس"، أي "بذات يده" وأمثال ذلك من جمل ومصطلحات. وقد وصلت إلينا خصوص كثيرة من نصوص النذور، وهي تفيدنا بالطبع كثيرا في تكوين رأينا في النذور والمعابد واللغة التي تستعمل في مثل هذه المناسبات عند المعينيين وعند غيرهم من العرب الجنوبيين.

(1/790)


--------------------------------------------------------------------------------

ويقوم "الناذر" أو الشخص الذي استحقت عليه الضرائب أو القبيلة بتقديم ما استحق عليه إلى المعبد، وكانت تعد "ديونا" للآلهة على الأشخاص. فإذا نذر الشخص للآلهة بمناسبة مرض أو مطالبة بإحلال بركة في المزرعة أو في التجارة أو إنقاذ من حرب وصادف أن مرت الأمور على وفق رغبات أولئك الرجال، استحق النذر على الناذر، فردا كان أو جماعة، ولذلك يعبر عنه ب "دين"، فيقال "دين عثتر" أو "دين".
وقد يفوض الملك أو المعبد إلى رئيس أو سيد قبيلة أو غني استغلال مقاطعة أو منجم أو أي مشروع آخر في مقابل شروط تدون في الكتابات، فتحدد الحدود، وتعين المعالم، وينشط المستغل للاستفادة منها وأداء ما اتفق عليه من أداء للجهة التي تعاقد معها، ويقوم بجباية حقوق الأرض إن كان قد أجرها لصغار المزارعين وبدفع أجور الأجراء وبتمشية الأعمال، ويكون هو وحده المسؤول أمام الحكومة أو المعبد عن كل ما بتعلق بالعمل، وعليه وحده أن يحسب حساب خسائره وأرباحه.
ويتعهد الكبراء وسادات القبائل والحكام عادة بجمع الضرائب من أتباعهم ودفع حصة الحكومة، كما يتعهدون بإنشاء الأبنية العامة كإنشاء المباني الحكومية وإحكام أسوار المدن وبناء الحصون والأبراج والمعابد وما شاكل ذلك، مقابل ما هو مفروض عليهم من ضرائب وواجبات أو تفويض التصرف في الأرضين العامة. فإذا تمت الموافقة، عقد عقد بين الطرفين، يذكر فيه إن آلهة معين قد رضيت عن ذلك الاتفاق، وان المتعهد سيقوم بما اتفق عليه. و إذا تم العمل وقد يضيف إليه المتعهد من جيبه الخاص،ورضي عنه الملك الذي عهد إليه بالعمل أو الكهنة أرباب المعبد أو مجلس المدينة، كتب بذلك محضر، ثم يدون خبره على الحجر، ويوضع في موضع ظاهر ليراه الناس، يسجل فيه اسم الرجل الذي قام بالعمل، واسم الآلهة التي بإسمها عقد العقد وتم، واسم الملك الذي تم في اياهمه المشروع، واسم "الكبير" الحاكم إن كان العقد قد تم في حكمه وفي منطقة عمله.

(1/791)


--------------------------------------------------------------------------------

وتعهد المعابد أيضا للرؤساء والمشايخ القيام بالأعمال التي تريد القيام بها، مثل إنشاء المعابد و صيانتها وترميها والعناية بأملاكها وباستغلالها بزرعها و استثمارها نيابة عنها. وقد كان على المعابد كما يظهر من الكتابات أداء بعض الخدمات العامة للشعب، مثل إنشاء مباني عامة أو تحصين المدن ومساعدة الحكومة في التخفيف عن كاهلها، لأنها كانت مثلها تجبي الضرائب من الناس وتتلقى أموالا طائلة من الشعب وتتاجر في الأسواق الداخلية والخارجية، و كانت تقوم بتلك الأعمال في مقابل إعفائها من الضرائب. وقد كانت وارداتها السنوية ضخمة قد تساوي واردات الحكومة.
وتخزن العابد حصتها من البخور واللبان والمر والحاصلات الأخرى في خزائن المعبد، وتأخذ منها ما تحتاج إليه مثل البخور للأعياد وللشعائر الدينية و تبيع الفائض، وقد ترس مع القوافل لبيعه في البلاد الأخرى، وقد تعود قوافله محملة ببضائع اشترتها بأثمان البضائع المبيعة، و لذلك كانت أرباحها عظيمة، وكان أكثر الكهان من البيوتات الكبيرة ومن كبار الأغنياء.
نقود معينية
تعامل قدماء المعينيين مثل غيرهم من شعوب العالم بالمقايضة العينية، وبالمواد العينية دفعوا للحكومة و للمعابد ما عليهم من حقوق، وبها أيضا دفعت أجور الموظفين والمستخدمين و العمال و الزراع. وقد استمرت هذه العادة حتى في الأيام التي ظهرت فيها النقود، وأخذت الحكومات تضرب النقود، وذلك بسبب قلة المسكوكات، و عدم تمكن الحكومات من سك الكثير منها كما تفعل الحكومات في هذه الأيام.

(1/792)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عرف المعينيون النقود، وضربوها في بلادهم. فقد عثر على قطعة نقد هي "دراخما" أي درهم، عليها صورة ملك جالس على عرشه، قد وضع رجليه على عتبة، وهو حليق الذقن متدل شعره ضفائر، وقد أمسك بيده اليمنى وردة أو طيرا وأسمك بيده اليسرى عصا طويلة، وخلفه اسمه وقد طبع بحروف واضحه بارزة بالمسند، وهو "اب يثع" و أمامه الحرف الأول من اسمه، وهو الحرف "أ" بحرف المسند، دلالة على إنه الآمر بضرب تلك القطعة. و لهذه القطعة من النقود أهمية كبيرة في تأريخ "النميات" في بلاد العرب وفي دراسة الصلات التجارية بين جزيرة العرب والعالم الخارجي.
ويظهر من دراسة هذه القطعة ومن دراسة النقود المشابهة التي عثر عليها في بلاد أخرى، إنها تقليد للنقود التي ضربها خلفاء الإسكندر الكبير، سوى شيء واحد، هو أن عملة "أب يثع" قد استبدلت فيها الكتابة اليونانية بكتابة اسم الملك "اب يثع" الذي في أيامه، تم ضرب تلك القطعة بحروف المسند. أما بقية الملامح والوصف، فإنها لم تتغير ولم تتبدل، ولعلها قالب لذلك النقد، حفرت عليه الكتابة بالمسند بدلا من اليونانية. ويعود تأريخ هذه القطعة إلى القرن الثالث أو القرن الثاني قبل الميلاد.

(1/793)

admin
12-26-2010, 01:40 PM
وقد كانت نقود "الإسكندر الكبير" والنقود التي ضربها خلفاؤه من بعده مطلوبة مرغوبة في كل مكان، حتى في الأمكنة التي لم تكن خاضعة لهم، شأنها في ذلك اليوم شأن الجنيه أو الدولار في هذا اليوم، وتلك النقود لا بد أن تكون قد دخلت بلاد العرب مع اتجار ورجال الحملة الذين أرسلهم لاحتلال بلاد العرب، فتلقفها التجار هناك وتعاملوا بها، وأقبلت عليها الحكومات، ثم أقدمت الحكومات على ضربها في بلادها بعد مدة من وصول النقود أليها. وأسست بذلك أولى دور ضرب النقود في بلاد العرب. ولا بد أن يكون نقد "اب يثع" قد سبق بنقد آخر، سبق هو أيضا بالنقد اليوناني الذي وصل بلاد العرب، لأن درهم "اب يثع" مضروب ضربا متقنا، وحروفه واضحة جلية دقيقة دقة تبعث على الظن بوجود خبرة سابقة ودراية لعمال الضرب، أدت بهم إلى إتقان ضرب أسماء الملوك على تلك النقود.
الحياة للدينية
كان في كل مدينة معبد، وأحيانا عدة معابد خصصت بآلهة شعب معين. وقد خصص معبد بعبادة إله واحد، يكرس المعبد له، ويسمى باسمه، وتنذر له النذور، ويشرف على إدارته قومة ورجال دين يقومون بالشعائر الدينية ويشرفون على إدارة أوقاف المعبد. ويعرف الكاهن والقيم على أمر الإله عندهم ب "شوع"، وقد وردت اللفظة في جملة نصوص معينة.
وقد تجمعت لدينا من قراءة الكتابات المعينية أسماء جمهرة آلهة معين، وفي مقدمتها اسم. "عثتر" "عثتار"، ويرمز إلى "الزهرة"، ويلقب في الغالب ب "ذ قبضم"، فيقال "عثتر ذ قبضم"، أي "عثتر القابض"، "عثتر ذو قبض"، كما ورد أيضا "عثتر ذ يهرق" "عفتر ذو يهرق". ويهرق اسم مدينة من مدن معين، فيظهر أنه كان في هذه المدينة معبد كبير خصص بعبادة "عثتر".

(1/794)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن آلهة معين "ود" و "نكرح"، وترد أسماء هذه الآلة الثلاثة في الكتابات المعينية على هذا الرتيب: "عثتر"، "ود" و "نكرح" في الغالب، وترد بعدها في بعض الأحيان جملة: "الالت معن"، أي "آلهة معين" أما "نكرح"، فيظهر إنه يرمز إلى الشمس، وهو يقابل "ذات حمم" "ذات حميم" في الكتابات السبئية.
وقد ورد في عدة كتابات عثر عليها في "براقش" وفي "أبين" وفي "معين" وفي "شراع" في "أرحب" ذكر معبد سر للإله "عثتر" دعي ب "يهر". كما ورد اسم حصن "يهر" و قد خصص ل "عثتر وقبض". وورد في كتابة أخرى اسم "يهر" على إنه بيت، وربما قصد به بيت عبادة. وورد في كتابة همدانية ذكر "يهر" إنه بيت الإله "تالب" "تألب" إله همدان. وورد اسم "يهر" على إنه اسم موضع واسم شعب. وذكر "الهمداني" إن "يهر" هو حصن في "معين". ويتبين لي من اقتران "يهر" بي "عثتر"، ومن تخصيص بيت للتعبد به سمي باسمه إن "يهر" جماعة كانت تتعبد لهذا الإله وتقدسه ولهذا دعي معبده باسمها، كما إنه اسم مدينة نسبت تلك الجماعة إليها.
وأما "ود"، فقد ظلت عبادته معروفة في الجاهلية إلى وقت ظهور الإسلام، وقد ورد اسمه في القرآن الكريم. وقد تحدث عند ابن الكلبي في كتابه "الأصنام". وذكر إن قبيلة "كلب" كانت تعبد له بدومة الجندل. ووصفه فقال: "كان تمثال رجل كأعظم ما يكون من الرجال، قد ذبر عليه حلتان، متزر بحلة، مرتد باخرى، عليه سيف قد تقلده، وقد تنكب قوسا، وبين يديه حربة فيها لواء ووفضة فيها نبل.. ". وقد نعت "ود" في بعض الكتابات بنعوت، مثل: "الاهن" "الهن" أي "الإله"، و "كهلن" "كاهلن" "كهلان"، أي "القدير" "المقتدر". وكتب اسم "ود" بحروف بارزة على جدار في "القرية" "قرية الفأو"، وذلك يدل على عبادته في هذه البقعة.

(1/795)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرمز "ود" إلى القمر، بدليل ورود جملة: "ودم شهرن"، "ودم شهران"، أي "ود الشهر" في ب ضر الكتابات. ومعنى كلمة "شهرم" "شهر" "الشهر"، القمر. وضل هذه الالهة المعينية ثالوثا يرمز إلى الكواكب الثلاثة: الزهرة، والشمس، والقمر.
ويلاحظ إن الكتابات المعينية الشمالية، آي الكتابات المدونة بلهجة أهل معين التي عثر عليها في أعالي الحجاز، لا تتبع الترتيب الذي تتبعه الكتابات المعينية الجنوبية نفسه في إيراد أسماء الآلهة، كما يلاحظ أيضا أن للمعينيين الشماليين آلهة محلية لا نجد لها ذكرا عند المعينيين الجنوبيين، ولعل ذلك بتأثير الاختلاط بالشعوب الأخرى.
مدن معين
ومن أشهر مدن معين، مدينة "قرنو"، وهي العاصمة، وقد عرفت أيضا ، ب "م ع ن" "معن"، أي "معين"، وب Carna و karana و Karna عند بعض الكتبة "الكلاسيكيين". وتقع على مسافة سبعة كيلومترات ونصف كيلومتر من شرق قرية "الحزم"، مركز الحكومة الحالي في الجوف. و قد وصف خرائبها "محمد توفيق" في كتابه "آثار معين في جوف اليمن"، فقال: إنها تقع على اكمة من الطين منحدرة الجوانب، تعلو على سطح أرض الجوف بحمسة عشر مترا، وهي مستطيلة الشكل، واستطالتها من الغرب إلى الشرق وطولها 400 متر، وعرضها 250 مترا، ولها بابان أو مدخلان، أو مدخل ومخرج، أحدهما في جانبها الغربي والآخر في الجهة المقابلة من الجانب الشرقي، وليس لها أبواب أخرى. وسورها الذي كان يحيط بها، وقد قدر ارتفاعه بخمسة عشر مترا، و قد وجد في بعض أقسامه فتحات المزاغل التي استعملت للمراقبة ولرمي السهام، كما تعرض لبحث البناء والزخرفة في هذه المدينة، وقد حصل على تسع عشرة كتابة، نقل تسعا منها بكتابة اليد، ونقل عشرا منها الباقية بالتصوير الفوتوغرافي.

(1/796)


--------------------------------------------------------------------------------

ويقع معبد "رصفم" "رصف" "رصاف" الشهير، الذي طالما تقدم إليه المؤمنون بالهدايا والنذور وتوسلوا إليه لأن يمن عليهم بالعافية والبركة،خارج سور "قرنو". ونشاهد آثار سكن في مواضع متناثرة من المدينة. و قد كانت "قرنو" "القرن" مأهولة حتى القرن الثاني عشر ثم هجرت وتحولت إلى خراب.
وقد أشار الأخباريون إلى معين، وروى بعض منهم إنها من أبنية التبابعة، و أنها حصن، بني بعد بناء "سلحين"، بني مع يراقش في وقت واحد. ومن مدن حكومة معين "يثل"، وهي من المراكز الدينية، وعرفت به "براقش" فيما بعد. وكانت قائمة في أيام "الهمداني"، ووصف الهمداني الآثار والخرائب التي كانت بها. وقد ورد في إحدى الكتابات أن جماعة من كهنة "ود"، قاموا ببناء ثلاثين "أمه" أي ذراعا من سور "يثل" من الأساس حتى القمة. والظاهر أن هذا العمل الذي قاموا به، هو الجزء الذي كان خصص بهم عمله على حين قام أناس آخرون، وفي ضمنهم مجلس يثل، ببقية السور.
وللاخباريين قصص عن "براقش". وقد زعم بعض منها إنها و "هيلان" مدبنتان عاديتان، وكانتا للأمم الماضية. وزعم بعض آخر إنها من أبنية التبابعة فهي من الأبنية القديمة إذن في نظر الأخبارين. وقد كان يسكنها "بنو الأدبر ابن يلحارث بن كعب" ومراد في الإسلام.
ولهم سكن سبب تسمية "براقش" ببراقش قصص. فزعم بعض منهم إنها إنما سميت بذلك نسبة إلى كلبة عرفت ببراقش. وزعم بعض آخر إنها امرأة، وهي ابنة ملك قديم، ذهب والدها للغزو، وأودع مقاليد بلاده أليها، فبنت مدينة براقش ومعين، ليخلد اسمها؛ فلما عاد والدها غضب، وأمر بهدمها. وزعم فريق منهم، إنها بإسم براقش امرأة لقمان بن عاد. ومصدر القصص مثل مشهور هو: "على أهلها تجني براقش". و " على اهلها براقش تجني "، وقد أشير في الشعر إليه.

(1/797)


--------------------------------------------------------------------------------

و "يثل"، هي مدين شم Athlula , Athrula المذكورة في أخبار حملة "أوليوس غالوس" على اليمن، والتي زعم إنها آخر موضع بلغه الرومان في حملتهم هذه. و زعم القائلون من المستشرقين بهذا الرأي إن لفظة "يثل" لفظة صعبة على لسان الرومان واليونان، ولذلك حرفت فصارت إلى الشكل المذكور.
ومن بقية مدن معين: "نشق"، و "رشن" "ريشان" و "هرم" "هريم" "خربة هرم"، و "كمنه" "كمنهو" "خربة كمنه"، "كمنا"، و "نشن" "نشان" وهي "الخربة السوداء" "خربة السودا" في الوقت الحاضر.
وقد ورد في بعض الكتابات إن "يدع آل بين" مكرب سبأ، كان قد استولى على مدينة "نشق"، غير إننا لا نعرف اسم الملك المعيني الذي سقطت هذه المدينة في أيامه في أيدي السبئيين.
ويوجد موضع عادي خرب، يعرف بي "كعاب اللوذ" وب "خربة نشان" "خربة نيشان"، يحتمل في رأي بعضهم أن يكون مكان "نشان" "نشن". ويعارض بعض الباحثين ذلك، ويرون إنه بعيد بعض البعد عن مكان "نشن" المعيني، ويذهبون إلى إن هذا المكان هو بقايا معبد أو قبور قديمة، وانه يشير إلى وجود مسكن فيه قديم لا نعرف اسمه.
وقد تبين الباحثين في موضع "الخربة السوداء" التي هي موضع "نشن" "نشان" إن تلك المدينة كانت مدينة صناعية، لعثورهم بين أنقاضها على خامات المعادن، وعلى أدوات تستعمل في التعدين وفي تحويل المعادن إلى أدوات للاستعمال.
و "نشن" "نشان"، هي "نستم" NESTUM في كتاب "بلينيوس".
ويظن أن خرائب "مجزر"، هي من بقايا مدينة قديمة، لعلها المدينة التي سماها "بلينيوس" "مكوسم" Magusum، ويظهر من موقعها ومن بقايا آثارها إنها كانت ذات أهمية لعهدها ذاك، وأنها كانت عامرة بالناس لخصب أرضها ووفرة مياها.
وفي الجوف أماكن أخرى، مثل "بيحان" و "سراقة" و "ابنه" و"مقعم" و "بكبك" و "لوق"، وهي خرائب كانت مواضع معمورة في أيام المعينيين ومن جاء بعدهم فأخذ مكانهم.

(1/798)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذهب "كلاسر" إلى أن موضع "لوق"، هو Labecia الذي ذكره "بلينيوس" في جملة الأماكن التي استولى عليها "أوليوس غالوس". وذهب "فون وزمن" إلى أنه "لبة" Labbah.
ويرى علماء العربيات الجنوبية أن "نشق" هي Nesca , Nescus في كتب المؤلفين اليونان واللاتين القدماء. وهي Aska، Asca في "جغرافيا سترابون". وقد ذكرها "سترابون" في جملة المدن التي استولى عليها "أوليوس غالوس" إبان حمته على اليمن.
المعينيون خارج أرض معين
وعثر على كتابات معيننة خارج اليمن، ولا سيما في موضع "العلا"، وبينها عدد من كتابات "لحيانية" متأثرة باللهجة المعيننة. وقد وردت فيها أسماء معينية معروفة، شائعة بين المعينيين، مثل: "يهر" و "علهان"، و "ثوبت" و "يفعان"، كما وردت قبها أسماء آله معين، وذلك يدل على نزول المعينيين في هذا الموضع وفي الأرضين المجاورة أمدا، وتركهم أثرا ثقافيا فيمن اختلطوا بهم أو جاوروهم و فيمن خلفهم من خلق.
وقد جاء هؤلاء المعينيون من معين بالطبع، أي من اليمن، فنزلوا في هذه الأرضين التي تقع البوم في أعالي الحجاز وفي المملكة الأردنية الهاشمية وفي جنوب فلسطين. ومنهم من تاجر مع بلاد الشام والبحر المتوسط ومصر، بدليل عثور المنقبين على كتابات معينية في جزيرة "ديلوس" من جزر اليونان، وفي مصر: في "الجيزة" وفي موضع "قصر البنات". وظهر من كتابة "الجيزة" المؤرخة بالسنة الثانية والعشرين من حكم "بطلميوس بن بطلميوس"، أن جالية معينية كانت في مصر في هذا الزمن، ولعلها من أيام حكم "بطلميوس الثاني" وكان المعينيون يتاجرون في القرن الثالث أو الثاني قبل الميلاد بتجهيز معابد مصر بالبخور. ويرجع بعض الباحثين تأريخ هذه الكتابة إلى السنة "264 - 263 ق.م.".

(1/799)


--------------------------------------------------------------------------------

و موضع "العلا" المذكور، هو موضع "ديدان" "الديدان" "علت" Ulat في التوراة. وقد قصد به فيها شعب عربي من الشعوب العربية الشمالية، يرجع نسبه إلى "كوش" كما جاء في موضع من "التكوين". والى "يقشان" من إبراهيم من "قطورة" Keturah في موضع آخر منه. وقد جعلت "الديدان" متاخمة لأرض أدوم Edom، وتقع في الجنوب الشرقي منها. وذكر في التوراة إن الديدانيين كانوا من الشعوب التي ترسل حاصلاتها إلى سوق "صور" Tyre.
ويرى أكثر الباحثين في دولة معين إن هذه المنطقة منطقة "الديدان" وما صاقبها من أرض، كانت جزءا من تلك الدولة وأرضا خاضعة لها، وان ملوك معين كانوا يعينون حكاما عليها باسمهم، وان درجتهم هي درجة "كبر" أي "كبير" على طريقتهم في تقسيم مملكتهم إلى "محافد" أي أقسام، يكون على كل محفد أي قسيم من المملكة "كبير"، يتولى الحكم بإسم الملك في المسائل العليا وفي جمع الضرائب التي يبعث بها إلى العاصمة وفي المحافظة على الأمن. وقد عثر على كتابات ذكرت فيها أسماء "كبراء" حكموا باسم ملوك معين.
ومعنى هذا إن دولة معين، كانت تحكم من معين كل ما يقال له الحجاز في عرف هذا اليوم إلى فلسطين، وان هذه الأرضين كانت خاضعة لها إذ ذاك. ولكننا لا نجد في النصوص الآشورية أو العبرانية مثل التوراة ولا في الكتب الكلاسيكية ما يشير إلى ذلك. ولكن القائلين بالرأي الذكور يرون إن حكم سين كان في أوائل عهد معين، أي قبل أكثر من ألف سنة قبل الميلاد فلما ضعف ملوكها تقلص سلطان المعينيين عن الحجاز و بقي نافذا في المنطقة التي عرفت بر "معن مصرن"، "معن مصران"، أي "معين المصرية"، ثم ضعف سلطان المعينيين الشماليين عن هذه الأرض أيضا بتغلب السبئيين على معين، ثم بتغلب اللحيانيين في القرن الرابع أو الثالث قبل الميلاد، حيث استقلوا وكونوا "مملكة لحيان".

(1/800)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد أثارت "معن مصرن" "معين مصران"، جدلا شديدا بين العلماء، ولا سيما علماء التوراة، فذهب بعضهم إلى أن "مصر" "مصرايم" Mizraim الواردة في التوراة ليست مصر المعروفة التي يرويها نهر النيل، بل أريد بها "معين مصران"، وهو موضع تمثله "معان" في الأردن في الزمن الحاضر. وان لفظة "برعو" Per'o التي ترد في التوراة أيضا لقبا لملوك مصر، والتي تقابلها لفظة "فرعون" في عربيتنا، لا يراد بها فراعنة مصر، بل حكام "معين مصران"، وان عبارة "هاكرهم مصريت" Hagar Ham-Misrith، بمعنى "هاجر المصرية"، لا تعني "هاجر" من مصر المعروفة، بل من مصر العربية، أي من هذه المقاطعة التي نتحدث عنها "معن مصرن" وان القصص الوارد في التوراة عن "مصر" وعن "فرعون"، هو قصص يخص هذه المقاطعة العربية، وملكها العربي.
وقالت هذه الجمهرة: إن ما ورد في النصوص الآشورية من ذكر ل Musri لا يعني أيضا مصر المعروفة، بل مصر العربية، وأن ما جاء في نص "تغلاتبلسر الثالث" الذي يعود عهده إلى حوالي سنة "734" قبل الميلاد، من أنه عين عربيا Arubu واسمه "ادبئيل" "ادب ال" "ادب ايل" "Idiba'il" حاكما على "مصري" "Musri"، لا يعني أنه عينه حاكما على "مصر" الإفريقية المعروفة، بل على هذه المقاطعة العربية التي تقع شمال "نخل مصري" أي "وادي مصري". ويرى "وينكر"، أن "سبعة" "Sib'e" الذي عينه "تغلاتبلسر" سنة "725 ق. م." على مصري، والذي عينه "سرجون" قائدا على هذه المقاطعة، إنما عين على أرض "مصر" العربية ولم يعين على "مصر" الإفريقية.

(1/801)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ورد في أخبار "سرجون" أن من جملة من دفع الجزية إليه "برعو" Pir'u وقد نعت في نص "سرجون" ب "برعو" شاروت مصري"، أي "برعو ملك أرض مصري". وورد ذكر "برعو" هذا في ثورة "أسدود" التي قامت سنة "711 ق. م.". وورد ذكر "مصري" في أخبار "سنحريب" ملك آشور، وكان ملك "مصري" وملك "ملوخة" قد قامة بمساعدة اليهود ضد "سنحريب"، و ذلك في عام "700 ق. م."، وقد انتصر "سنحريب". ويرى "ونكلر" أن كل. ما ورد في النصوص الآشورية عن "مصري" مثل: "شراني مت مصري" "Sharrani Mat Musri"، أي "ملوك أرض مصر" إنما قصد به هذه المقاطعة العربية.
ويشير هذا الرأي مشكلات، خطيرة لقائليه ولعلماء التوراة، فرأي "شرادر" و "ينكلر" وأضرابهما المذكور يتعارض صراحة مع الرأي الشائع عند اليهود وعند التوراة والتلمود والمنشا والكتب اليهودية الأخرى في هذا الموضوع، ويتعارض كذلك مع رأي أهل الأديان الأخرى في الموضوع نفسه، ولم يلق هذا الرأي رواجا بين الباحثين، وهم يرون أن وجود أرض عربية عند "معان" في الزمن الحاضر، تسمى "مصري" وهي تسمية "مصر" في اللغات السامية، ووجود حاكم عليها اسمه "برعو"، و "برعو" لقب ملوك "مصر"، ويقابل "فرعون" في لغتنا، لا يحتم علينا التفكر في هذه الأرض العربية، ومن الجائز على رأيهم أن يكون الآشوريون قد استولوا على هذه المقاطعة وحكموها ونصبوا حكاما عليها على حين كانت الحوادث الأخرى قد وقعت في مصر الإفريقية. وبناء على ذلك فليس هناك أي داع للادعاء أن الإسرائيليين لم يكونوا في مصر، وأن فرعون لم يكن فرعون مصر، بل فرعون مصري التي هي "معين المصرية"، وليستبعد أيضا إن تكون تسمية "مصري" العربية قد أخذت من مصر، فقيل "معين مصرن" لقربها من مصر، ولتمييزها عن "معن" أي "معين" اليمن.

(1/802)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذهب بعض الباحثين إلى إن "معين مصران" "معين المصرية"، لم تكن جزءا من حكومة معين، بلى كانت مستوطنة مستقلة من مستوطنات المعينين. وذلك منذ القرن الخامس حتى القرن الأول قبل الميلاد. وان لقب "كبر" الوارد في نصوص هذه المستوطنة لا يعني إن حامله كان موظفا في حكومة معين بل هو مجرد لقب حمله صاحب هذه المقاطعة باعتبار إنه كبير قومه وسيدهم والحاكم عليهم. وقد بقيت هذه المستوطنة مستقلة إلى القرن الأول قبل الميلاد، وحينئذ زال استقلالها بزوال حكومة المعينين الجنوبيين.
وتعد الكتابات المعينية التي عثر عليها في جزيرة "ديلوس" Delos=Delus ذات أمية كبيرة كذلك، في بحثنا هذا، فأنها ترينا وصول المكلين بين الجزر اليونانية و إقامتهم فيها، و اتجارهم مع اليونان. ومن جملة هذه النصوص، نص مكتوب بالمعينية وبالخط المسند و باليونانية وبالحروف اليونانية، ورد فيه: "هنا" أي "هانئ" و "زيد ايل من ذي خذب نصب مذبح ود وآلهة معين بدلث" أي: ب "ديلوس". وورد في اليونانية: "يا ود إله معين يا ود". وفي هذا النص دلالة على وجود جالية معينية في هذه الجزيرة وسكناها فيها، وعلى تعلقها بدينها وبآلهتها وعدم تركها لها حتى في هذه الأرض البعيدة عن وطنها. ومن يدري? فلعلها كانت تتصل ببلادها، وتتاجر وتتراسل معها، تصدر إليها حاصلات اليونان، وتستورد منها حاصلات اليمن والعربية الجنوبية و إفريقية والهند وتعمل مع اليونان شركة أو تعاونا في أسواق التجارة العالمية ذلك العهد.
قوائم بأسماء حكام معين
قائمة "البرايت"
وقد رتب "البرايت" قائمة لملوك معين على النحو الآتي: 1 - اليفع يثع، وهو ابن الملك "صدق ايل" ملك حضرموت. وقد حكم في حوالي السنة "400" قبل الميلاد.
2 - حفن ذرح، وهو ابن اليفع يثع.
3 - اليفع ريام، وهو ابن اليفع. وقد كان أيضا ملكا على حضرموت.
4 - هوف عثتر "هوفعث". "هوفعثتر"، وهو ابن اليفع ريام.

(1/803)


--------------------------------------------------------------------------------

5 - أب يدع يثع "أبيدع يثع"، وهو شقيق هوف عثتر. و قد كان يحكم في حوالي السنة 343 قبل الميلاد.
6 - وقه آل ريم "وقه ايل ريام"، وهو ابن هوفعثتر.
7 - حفن صدق "حفن صديق"، وشقيق وقه ايل ريام.
8 - اليفع يفش وهو ابن حفن صديق.
...................................
1 - اليفع وقه، وقد كان حكمه في حوالي السنة250 قبل الميلاد.
2 - وقه ايل صديق "وقه آل صدق"، وهو ابن اليفع وقه.
3 - اب كوب يثع "أبكرب يثع" "أبيكرب يثع"، وهو ابن "وقه آ ل صدق". وقد ورد اسمه في كتابات "ددان" "ديدان" وذلك في الأيام اللحيانية المتأخرة.
4 - عم يثع نبط "عمى يثع نبط" "عميثع نبد"، وهو ابن "ابكرب يثع" "أب يكرب يثع".
.................................
1 - يثع ايل صدق "يغ آل صدق" "يثع ايل صديق".
2 - وقه آل يثع "وقه ايل صديق". وكان تابعا للملك "شهر يجل يهرجب" ملك قتبان.
3 - اليفع يشر، وهو ابن "وقه ايل يثع".
4 - حفن ريام "خضم ريمم"، وهو ابن اليفع يشر.
5 - وقه آل نبط "وقه ايل نبط".
...................................
وذكر "البرايت" أسماء ما لا يقل عن خمسة ملوك، قال إنه غير متأكد من زمان حكمهم ومن مكان ترتيبهم في هذه القائمة، وهم: أب بدع "ريام?" وابنه "خلكرب صدق" "خاليكرب صديق". و "حفنم يثع"، وهو ابن "خلكرب صدق" و "يثع ايل ريام" و "تبع كرب" "تبعكرب"، وهو ابنه.
وقد أعاد "البرايت" النظر في قائمته السابقة، وأخرى عليها تعديلات على ضوء دراسة صور الكتابات وتغير أسلوبها بمرور العصور، ثم انتهى إلى وضع قائمة جديدة تتألف من ثلاث مجموعات هي:
المجموعة الأولى
1 - اليفع يثع، وهو ابن صدق ايل ملك حضرموت حوالي 400 ق. م.
2 - اليفع ريام.
3 - حفن عثت، وهو ابن اليفع ريام.
4 - أبيدع يثع 343 ق. م.
5 - وقه آل ريام.
6 - حفن صدق، وهو ابن وقه ايل ريام.
7 - اليفع يفش.
8 - عميثع نبط، "عم يثع نبط"، وهو ابن "ابكرب".
9 - يثع ايل ريام.

(1/804)


--------------------------------------------------------------------------------

10- تبع كرب "تبعكرب"، وهو ابن يثع ايل ريام.
11- خلكرب صدق، وهو ابن أب يدع "ريام?".
12-حفن يثغ 250 ق. م.
المجموعة الثانية
1 - وقه ايل نبط 200 ق. م.
2 - اليفع صدق 3 - وقه ايل صدق 150 ق. م.
4 - أبيكرب يثع "أبكرب يثع".
5 - اليفع يشر الأول 100 ق. م.
6 - حفن ريام.
المجموعة الثالثة
1 - يثع آل صدق "يثع ايل صديق".
2 - وقه آل يثع "وقه ايل يثع" 75 ق. م.
3 - اليفع سر الثاني.
نهاية مملكة معين بين السنة 50 والسنة 25 قبل الميلاد.
قائمة "ريكمنس"
وقد دون "ريكمنس" "J. Ryckmans" أسماء ملوك معين على النحو الآتي: أب يدع "ملك? = أب يدع ريام ?".
خلكرب صدق.
..............
اليفع وقه.
وقه ايل صدق.
أب كرب يثع.
عم يثع نبط.
..............
يثع ايل ريام.
تبع كرب.
..............
اليفع ريام.
هوف عثت.
..............
اليفع يثع = معد يكرب ملك حضرموت.
..............
أب يدع يثع "343 قبل الميلاد = يثع ايل "بين?".
وقه ايل ريام.
حفن صدق.
..............
اليفع فش.
..............
يثع ايل صدق.
وقه ايل يثع اليفع يشر شهر يكل يهركب ملك قتبان حفن ريام.
..............
وقه ايل نبط.
..............
خلكرب.
..............
حفن يثع.
..............
يغ ايل حيو.
حفن ذرح.
الفصل العشرون
مملكة حضرموت
وعاصرت ملكة "معين" مملكة أخرى من ممالك العربية الجنوبية، هي مملكة "حضرموت"، وقد ظهرت قبل الميلاد أيضا ، وما زال اسمها حيا لطلق على مساحة واسعة من الأرض، فلها أن تفخر بهذا على الحكومات العربية الأخرى التي عاشت قبل الميلاد، ثم ماتت أسماؤها، أو قل ذكرها قلة واضحة.

(1/805)

admin
12-26-2010, 01:42 PM
وقد قطع اسمها مئات من الأميال قبل الميلاد، فبلغ مسامع اليونان والرومان، وسجله كتابهم في كتبهم لأول مرة في القارة الأوروبية، وكتب لذلك التسجيل الخلود حتى اليوم. ولكن سجلوه بشيء من التغير والتحريف، اقتضته طبيعة اختلاف اللسان، أو سوء السماع، أو طول السفر، فرواه "ايراتوستينس" "Chatramotitae"، ورواه "نبوفراستوس" "Hadramyta"، وأما "بلينيوس" فقد رواه و"Chatramotitae" . وقد ورد عند "بطلميوس" "Chatramitae" = "Adramitae" وقد تحدث مؤلف كتاب "الطواف حول البحر الأريتري" عن سواحل حضرموت الجنوبية، فذكر إن فيها مناطق موبوءة، يتجنبها الناس، ولا يدخلونها إلا لضرورة، ولذلك لا يجمع التوابل والأفاويه إلا خول ملك حضرموت، وأولئك الذين يراد إنزال عقوبات صارمة عليهم. وهذا بدل على إن الروم والرومان كانوا قد سمعوا من ملاحيهم ومن غيرهم من ركاب البحر أخبار السواحل، وهي أخبار مهمة بالطبع بالنسبة إلى أصحاب السفن في ذلك العهد.
وكلمة "هزرماوت" "حزرماوت" "Hazarmaveth" الواردة في التوراة على إنها الابن الثالث لأبناء "يقطان"، تعني "حضرموت" ومعناها اللغوي "دار الموت" ولعل لهذا المعنى علاقة بالأسطورة التي شاعت عند اليونان أيضا عن "حضرموت"، و إنها "وادي الموت"، وعرفت في الموارد الإسلامية كذلك. وقد وصلت في الإسلام من طريق أهل الكتاب، قال ابن الكلبي: "اسم حضرموت في التوراة حاضر ميت، وقيل: سميت بحضرموت بن يقطن ابن عابر بن شالخ".
وقد ذهب أكثر من بحث في أسباب التسمية من العلماء العرب إلى إن حضرموت هو اسم "ابن يقطن" أو "قحطان"، و"نه كان إنسانا وبه سميت الأرض، وما بنا حاجة إلى إن نقول مرة أخرى إن هذه النظرية ليست عربية، و إنما تسربت إلى الأخباريين من التوراة، إذ جعلت حضرموت اسم رجل هو "ابن يقطان".

(1/806)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ورد اسم "حضرموت" في الكتابات العربية الجنوبية، كما عثر على كتابات حضرمية ورد فيها أسماء عدد من ملوك حضرموت، وأسماء اسر حضرمية ومدن كانت عامرة زاهية في تلك الأيام. وبفضل هذه الكتابات حصلنا على معلومات لا بأس بها عن مملكة حضرموت وعن علاقاتها بالدول العربية الجنوبية الأخرى. ولما كانت أكثر هذه الكتابات قد عثر عليها على وجه الأرض، أو هي من نتائج حفريات لم تتعمق كثيرا في باطن العاديات، فإننا نأمل أن يقوم المستقبل باقناع المحبين للتأريخ العربي، بالقيام بحفريات علمية منتظمة وعميقة في مواطن الاثار، لاستنطاق ما فيها عن تأريخ العرب الجاهليين، وأنا على يقين من أن في باطن الأرض وبين الأتربة المتراكمة على" هيأة أطلال و تلول أسرارا كثيرة ستغير من هذا الذي نعرفه اليوم عن تأريخ حضرموت وعن تأريخ غيرها من حكومات، وستزيد العلم به اتساعا.
لقد قامت بعث بريطانية صغيرة بأعمال الحفر في موضع يقال له "الحريضة"، فاكتشفت فيه آثار معبد الإله "سين"، وهو يرمز إلى القمر، وعثرت على عدد من الكتابات تبين إن بعضها سبئية، كما عثت على قبور عثر فيها على عظام في حالة جيدة تمكن من دراستها، وعلى أواني ومواد من الفخار والخرف وخرز ومسابح يظن إنها من القرن السابع أو الخامس قبل الميلاد. وعثر في خرائب "شبوة" وفي "عقلة" وفي مواضع أخرى على عدد من الكتابات الحضرمية، كما استنسخ نفر من السياح صور بعض الكتابات التي نقلها الناس من مواضع العاديات إلى المواضع الحديثة جث استعملوا حجارتها في البناء.

(1/807)


--------------------------------------------------------------------------------

وتشاهد في مباني "الحريضة" الحديثة، وهي لا تبعد كثيرا عن الموضع القديم، أحجار مكتوبة أخذت من تلك الخرائب، شوهت بعضها أيدي البنائين وقضت على أكثرها معاولهم، ومحت آلاتهم كثيرا من تلك الكتابات، ولا يستبعد وجود عدد آخر من الأحجار أوجهها المكتوبة في داخل البناء، فلا يمكن الوقوف عليها، أو إنها كسيت بطبقة من "الجبس" أو مادة أخرى تجعل الجدران صقيلة ملسا.
ولم تتوصل جهود من بحث في الآثار التي استخرجا من معبد "سن" "سين" في "الحريضة" إلى نتيجة قطعية لتأريخ هذا المعبد، ويظن إن المقابر التي عثر عليها وبعض واجهات المعبد تعود إلى أواسط القرن الخامس فما بعد إلى القرن الرابع قبل الميلاد، وان قسما من بناء المعبد يعاصر العهد "السلوقي". ويعرف موضع الحريضة في الكتابات الحضرمية باسم "مذب" "مذبم" "مذاب"، وفي هذه المدينة الحضرمية القديمة، معبد خصص بعبادة "سين"، وموف عندهم باسم معبد "سن ذ مذبم" "سين ذو مذاب"، كان الناس ينذرون له النذور، ويتقربون إليه، ليمنحهم العمر الطويل والخير والبركة.
وليس علمنا بأحوال حكام "حضرموت" بأحسن من علمنا بأحوال حكام الحكومات العربية الجنوبية الأخرى، مثل معين أو قتبان أو سبا، فلا نزال لا نعرف شيئا يذكر عن حكامها الأول وعن عددهم وعن مدد حكمهم وعن أمور أخرى من هذا القبيل، ولا نزال نجد الباحثين في أحوالها غير متفقين لا على مبدأ قيام حكومة حضرموت ولا على منتهاها وسقوطها فريسة في أيدي السبئيين، ثم لا نزال نراهم يختلفون أيضا في عدد الحكام وفي مدد حكمهم.
والحكام الذين يذكر العلماء أسماءهم ليسوا بالطبع هم جميع حكام حضرموت، بل هم جمهرة الحكام الذين وصلت أسماؤهم إلينا مدونة في الكتابات، ولذلك لا نستبعد إن تزيد أسماؤهم في المستقبل، زيادة قد تكون كبيرة، وهي ستتوقف بالطبع على مقدار ما يعثر عليه من كتابات.

(1/808)


--------------------------------------------------------------------------------

لقد تبين من بعض الكتابات الحضرمية إن عددا من المكربين حكموا شعب حضرموت، وذلك قبل أن يتحول هذا الشعب إلى مملكة. و قد ذكر "فلبي" بعضهم في آخر القائمة التي رتبها بحسب رأيه لحكام حضرموت. ومن هؤلاء المكربين المكرب "يرعش بن أبيشع"، "يرعش بن أب يشع"، "يهرعش بن أب يشع" "يسكر ايل يهرعش بن أب يسع" "يشكر ايل يهرعش بن أببع" الذي ورد اسمه في كتابة سجلها "شكمم سلحن بن رضون" "شكم سلحان بن رضوان"، والظاهر إنه كان من الموظفين أو الأعيان البارزين في حكومة حضرموت. وقد كلفه المكرب بناء سور وباب وتحصينات لحصن "قلت" الذي يهيمن على واد تقطعه الطريق القادمة من مدينة "حجر" والمؤدية إلى ميناء "قانه" "كانه" "قنا"، كما كلف إنشاء جدر وحواجز في ممرات الوادي المهمة لحماية منطقة "حجر" والمناطق الأخرى من المغيرين ومن كل عدو يريد غزو حضرموت، ولا سيما الحمريين الذين صاروا يهددون المملكة، ويتدخلون في شؤونها. وقد وضع تحت تصرفه موظفين و معماريين للإشراف على العمل، وعمالا يتولون أعمال البناء الذي تم في خلال ثلاثة أشهر تقريبا، وكان ذلك في السنة الثانية من سني "يشرح آل" "يشرح ايل" من آل "عذذ" "ذ عذذم"، ولسنا نعرف اليوم هذا التقويم: "تقويم يشح آل" الذي أرخت به الكتابة.

(1/809)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد أنجز "شكم سلحان" "شكم سلحن" العمل الذي كلف انجازه، فبنى الجدار والباب لحصن "قلت"، وبنى الحواجز والمواقع الأخرى للمواضع الخطيرة الرئيسية الواقعة في ممرات الوادي ومعابره، لتصد الأعداء والغزاة عن عبوره، وأنشأ استحكامات ساحلية لحماية البر مهن الهجوم الذي قد يقوم به العدو من جهة البحر. ويظهر إنه أقام حصونا على لسانين كانا بارزين في البحر، فحمى بذلك الخليج الذي بينهما، كما حصن المنفذ المؤدي إلى وادي "أبنة" والى مدينة "ميفعة"، حيث بنى سورا قويا لها، وبرجين هما برج "يذان"، وبرج "يذقان"، وباب "يكن"، وأماكن حماية يلتجئ أليها الجنود إذا لزم الدفاع عن المدينة فضلا عن بناء المواقع المذكورة وقد قام بهذا العمل الجنود بدليل ورود كلمة "أسدم" في النص، ومعناها الجنود.
وتوجد اليوم في "وادي لبنة" "لبنا" بقايا جدار كان يسد هذا الوادي في أيام مكربي حضرموت. ويظهر إن بانيه هو "شكم سلحن" "شكيم سلحان" المذكور، يبلغ ارتفاعها زهاء سبعة أمتار، وقد أقيم من أحجار مكعبة، قطعت من الصخر، ونحتت نحتا جيدا، ونضد بعضها فوق بعض ووضعت بين سوفها مادة من نوع السمنت، وفي وسط الجدار آثار باب عرضه خمسة أمتار لمرور الناس والقوافل منها. وقد بني هذا الجدار ليمنع المغيرين القادمين من الجنوب من الاتجاه نحو حضرموت، وذلك في ضمن الخطة العسكرية التي رسمت يومئذ لتحصين المدن المهمة و إحاطتها بأسوار وجدر قوية في الممرات المهمة والطرق المؤثرة من الوجهة الحربية لمنع الأعداء من الزحف على حضرموت. ويرى بعض الباحثين إن إنشاء هذا الجدار كان في نهاية القرن الخامس قبل الميلاد.

(1/810)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرى بعض الباحثين إن الكتابة التي دونها "شكم سلحن" "شكيم سلحان" ووضعت على جدار "لبنا" وعثر عليها في مكانها، هي أقدم كتابة حضرمية وصلت إلينا حتى الآن، وتليها في القدم الكتابة التي عليها في "عقبة عقيبة" وتخص ممر "همريان"، شرق "شبوة". ويرجع هؤلاء زمن كتابة الكتابة الأولى إلى القرن ا الخامس أو أوائل القرن الرابع قبل الميلاد.
لقد كانت الغاية من سد الأودية بإقامة جدر قوية حصينة بين طرفي الوادي بحيث تمنع الناس من المرور في الوادي إلا من باب يشرف منه الجنود عليها، هو حماية حضرموت من غزو حمير. وكانت مساكن قبائل حمير إذ ذاك تجاور حضرموت. ولهذا صار الحميريون خطرا على حضرموت. ويفهم من إحدى الكتابات إن جدار "قلت" وحصنه إنما أقيما لصد غارات الحميريين وغزوهم المتوالي لأرض حضرموت. وقد جددت تلك الجدر والحصون ورممت مرارا وقويت بالحجارة الصلدة التي قدت من الصخر، إذ لم تتمكن من الوقوف أمام سيل غزاة حمير. والظاهر إن غزوهم كان مستمرا في أيام المكرب المذكور، فاضطر إلى بناء تلك العقبات والحواجز لمنعهم من تهديد شعبه.
لقد كانت مواطن الحمريين في هذا العهد في الجنوب وفي الجنوب الشرقي من "لبنا" "لبنه" ومدينة "ميفعة". ولم ينتقل الحميريون نحو الغرب إلى المواضع التي عرفت بأسمهم إلا في القرن الثاني قيل الجلاد، أو قبل ذلك بقليل. أما دولة حمير في أرض يافع وفي رعين وفي المعافر، فقد قامت في نهاية القرن الثاني قبل الميلاد، واستمرت هجرة حمير إليها إلى ما بعد الميلاد. وقد أطلق "الهمداني" على أرض "يافع" اسم سرو حمير".

(1/811)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرى "فون وزمن" إن حمير كانت قد استولت على ميناء "قنا" "قانه" في أيام هذا المكرب. وهذا الميناء هو الميناء الوحيد لحضرموت الصالح للاتجار بحرا مع الهند و إفريقية، أخذته من حمير، وكانت تتحكم - على رأيه - بطول الساحل بين "عدن" و "قنا". ولها أسطول من السفن للاتجار مع الساحل الإفريقي الذي ربما كان خاضعا لها في ذلك الزمن.
وورد في إحدى الكتابات التي عثر عليها "فلبي" اسم مكرب آخر من مكربي حضرموت يسمى "علهان بن يرعش" "علهن بن يرعش". ويظهر إن "يرعش" والد "علهان" هذا، هو "يرعش" المكرب المتقدم. وقد دون نص "Philby 103" لمناسبة إنشاء طريق في مطر "همربان" "Hamraban" الذي يقع شرق "شبوة". وقد انهم أنشئت هذه الطريق لتسهيل وصول القوافل إلى العاصمة، ولأسباب عسكرية قد يكون منها تسجل مسيرة الجيش إلى مقر الملك للدفاع عنه.
وقد زهد آخر "مكرب" من مكربي حضرموت في لقبه هذا، فتركه إلى لقب آخر يتسمى به، يدل على الحكم الدنيوي وحده وعلى السلطان والملك، وهو لقب "ملك" فتسمى به. وانتقلت حضرموت بذلك من طور إلى طور، وصار النظام فيها نظاما ملكيا، و إذا سألتني عن اسم هذا المكرب الذي أبدل لقبه، فصار ملكا، وصار بذلك آخر مكرب وأول ملك، وأول جامع للقبين في حكومة حضرموت، فإني أقول لك إن علمي به لا يزيد على علمك به، وان العلماء الباحثين الذين آخذ علمي منهم، لا يزالون في ذلك على خلاف، بل إن علمهم به لا يزيد، ويا للأسف، على علمك وعلمي به.

(1/812)


--------------------------------------------------------------------------------

لقد وضع "فلبي" الملك "صدق آل" "صدق ايل" "صديق اي ل" طليعة ملوك مملكة حضرموت، وجعل زمان توليه العرش في حدود عام "1020 ق ? م، " أما "البرايت"، فوضع اسم الملك "يدع آل" "يدع ايل" في راس القائمة التي رتبها لملوك حضرموت، وجعله معاصرا ل "كرب آل" "كرب ايل" أول ملوك مملكة سبأ، وقد حكم على رأيه في حوالي سنة"450 ق. م."، ثم ترك فراغا بعد هذا الملك يشير إلى إنه لم يهتد إلى معرفة من حكم بعده، وذكر بعد هذا الفراغ اسم الملك "صدق آل" "صدق ايل" الذي كان ملكا على حضرموت ومعين. وقد ذكر أنه حكم في أواخر القرن الخامس قبل الميلاد. والفرق كما ترى، كبير جدا بين تقدير "فلبي" وتقدير "البرايت".
وقد وضع "هومل" الملك "صدق آل" "صدق ايل" على رأس قائمة ملوك حضرموت، وعلى هديه سار "فلبي" في ترتيبه لملوك هذه المملكة. وكان على رأيه يعاصر الجماعة الثانية من جماعات ملوك معين. وذكر بعده اسم ابنه "شهر علن" "لشهر علان"، ثم "معد يكرب بن اليفع يثع" "معدكرب بن اليفع يثع" ملك "معين". وكان ل "معد يكرب" ابنان هما:"هوف عثت" "هو فعثت"، و "أب يدع يثع" "أبيدع يثع"، لم يتوليا عرش حضرموت بعد أبيها، والظاهر إن حضرموت اندمجت بعد وفاة "معد يكرب" في مملكة "معين" مدة لا نعرف مقدارها بالضبط. ويرى "فلبى" إنها زهاء ثلاثة قرون إلى نحو سنة "650 ق. م.".

(1/813)


--------------------------------------------------------------------------------

ولدينا كتابة حضرمية من أيام "معد يكرب"، ورد فيها اسمه واسم "شهر علن بن صدق آل" ملك حضرموت، واسم "أب يدع يثع" ملك معين. وقد تقرب فبها صاحبها إلى الإله "عثتر ذ قبضم" "عثتر ذي قبض" ببناء يرج موضع "حرف"، وتيمن فبها أيضا بذكر الآلهة: "عثتر شرقن" "عثتر الشارق" و "ود" و "نكرح"، وتشر هذه الكتابة إلى الروابط المتينة التي كانت بين العرشين: عرش حضرموت وعرش معين. فقد كان "معد يكرب" ملكا على حضرموت، على حين كان شقيقه ملكا على معين. ولا ندري إلى متى دام حكم هذه الأسرة التي جمعت بين عرشي المملكتين.
وقد عثر على هذه الكتابة في "معين" وقد طمست منها كلمات واردة قبل اسم "اب يدع يثع"، ولم يبق منها غير "... خي... شو"، فلم يعرف المقصود بهذين المقطعين الباقيين. أيقصد بهما ابن أخيه "أب يدع يثع"، أم يقصد بهما أخاه "أب يدع يثع" ? أم مؤاخيه وحليفه "أب يدع يثع" ? ويعود الضمير في هذه الجملة إلى "معد يكرب" صاحب هذه الكتابة. وقد ذهب "هومل" إلى أن المقصود بذلك "ابن أخيه". وعلى هذا يكون "أب يدع يثع" الوارد في هذا النص الملك "أب يدع يثع بن اليفع ريام" شقيق "معد يكرب" ملك معين، وهو ابن أخي "معد يكرب" ملك حضرموت.
ولورود جملة: "ملك معين" بعد اسم "أب يدع يثع"، وهي جملة ترد في النصوص بعد اسم كل ملك للدلالة على أنه كان ملكا - نستنتج أن "أب يدع يثع" كان ملكا على معين زمن إلى تدوين هذه الكتابة - نعني أنه كان هو ملكا على معين في الزمن الذي كان فيه "معد يكرب" ملكا على حضرموت، وهذا يبدو غريبا ما ذهب إليه "فلبي" من أن "أب يدع يثع" حكم في حدود سنة "935 ق. م." وأن "معد يكرب" حكم في حوالي "980 ق. م." وأن مملكة "حضرموت" لم يكن عليها ملك في حدود عام "935 ق. م."، بل كانت تتبع ملكة معين، فإن هذا الرأي يخالف ما جاء في النص المذكور من تعاصر الملكين.
وقد ورد في كتابة معينية وسمت ب "Halevy 520"، اسم "معد يكرب

(1/814)


--------------------------------------------------------------------------------

ابن اليفع"، وذكرت بعده جملة: "ملك معين"، فذهب العلماء إلى أن "معد يكرب" هذا هو "معد يكرب" ملك حضرموت الذي نتحدث عنه، وجعلوه ملكا على معين وعلى حضرموت. ولكن هذا الرأي يخالف ما ذهبوا إليه في ترتيبهم لأسماء ملوك معين، وقولهم إن ملك معين كان في هذا العهد الملك "أب يدع يثع"، وهو ابن الملك "اليفع ريام بن اليفع يثع". وأعود فأكرر ما قلته مرارا من أن ترتيب الملوك يمثل آراء العلماء ويختلف باختلاف هذه الآراء، فلا مندوحة من الوقوف منها موقف المتفرج الباحث في هذا العهد.
وقد سجله هذه الكتابة لمناسبة بناء برج "ذو ملح" في مدينة "قرنو" عاصمة مملكة معين، وبرج آخر في مدينة "يثل" المعينية. وقد ورد في النص اسما مدينتي "يفعن" "يفعان" و "هرن" "هران" من مدن المعينين كذلك، كما ورد فيها اسم معبد الإله "عثتر ذو قبض".

(1/815)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر إن هذه الكتابة قد كتبت في زمن مقارب لزمن الكتابة المعينية المعروفة "Glaser 1155"، التي تحدثت عن حرب نشيت بين "مذي" و "مصر"، فصاحبها "عم صدق بن حم عثت" "عمصديق بن حم عثت"، من "ذ يفعن" "آل يفعان"، ورجل آخر اسمه "سعد بن ولج" من "ذ ضفجن" "آل ضفجان". وكانا "كبيرين" في حكومة معين. وقد ورد فيها اسم "اب يدع يثع" "أبيدع يثع" ملك "معين" و "معد يكرب بن اليفع". وأصحاب كتابتنا المتقدمة المعروفة ب "Halevy 520" ثلاثة، هم: "عم صدق" و "عم يدع" و "عم كرب" أبناء "حم عثت" من "آل يفعان" "ذ يفعن". فأحدهم، وهو "عم صدق بن حم عثت" اسهم مع صاحبه "سعد بن ولج" في تدوين الكتابة الأولى وأسهم مع اخوته في تدوين هذه الكتابة الثانية التي ورد فيها اسم "معد يكرب" ابن "اليفع" ملك معين، وقد كان معاصرا كما رأيت للملك "أب يدع يثع" ملك معين، ويكون زمن حكم "معد يكرب" في هذا الزمن الذي وقعت فيه تلك الحرب أو قبل ذلك. وقد ورد في أحد النصوص اسم "سعد" من "آل ضفجن"، و لم يذكر معه اسم أبيه، وكان "كبيرا" على "معين مصران"، وذلك في أيام الملك "أب يدع يثع" و "وقه آل ريمم" "وقه ايل ريام" ملك معين. ويلاحظ إن هذا النص قدم اسم "أب يدع يثع" على اسم "وقه آل ريام"، مع إن المعروف إن "أب يدع يثع" هو ابن "وقه ايل ريام" شقيق "معد يكرب" فهل يدل ذلك على إن "أب يدع يثع" كان شقيقا للملك "معد يكرب" و ل "وقه ايل ريام" كما ذهب إليه بعض الباحثين ? وقد ورد في النص اسم مدينة "قرنو" أي عاصمة معين، و قبيلة "ضفجن" و "مزود معين"، وان "سعدا" أنشأ "مذاب" وعملها ?. وقد تيمن في النص بذكر أسماء آلهة معين. واسم "وهب آل بن رثدال" "وهب المجل بن رثد ايل" من "آل يفعان".

(1/816)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من الأسماء الواردة في هذا النص، ومن مضمونه، ومن اسم ملك معين الوارد فبه، أن صاحب هذه الكتابة، "سعد" من "ضفجن" "ضفنكن" هو "سعد بن ولج" الذي اشترك مع "عم صدق بن حم عثت" وكان كبيرا مثله في الكتابة التي مر الحديث عنها. وقد رأيت أن "عم صدق" كان من "يفعان"، وقد ورد اسم "يفعان" في هذا النص فهو لذلك من نصوص هذا العهد.
وأشار "هومل" إلى الملك "يدع أب غيلان" بعد إشارته إلى "يدع ايل بين" "يدع آل بين" و "السمع ذبيان" ملكي حضرموت، وذكر أن الحميريين كانوا هم أصحاب الحل والعقد في ذلك الزمان. وذكر إن الذي تولى بعده هو "العز يلط" "العذيلط"، ولكنه لم يجزم أنه كان ابن "يدع أب غيلان". فأما "فلبي"، فقد جعله ابنه، غير إنه لم يضعه في هذا المكان.
وتطرق "هومل" إلى ذكر الملك "يدع آل" بعد الملك "معد يكرب" وقد جاء اسمه في النص الموسوم بي "Glaser 1000" الذي دون في مدينة "مرواح" وكان معاصرا للمكرب "كرب ايل وتيما" مكرب سبأ. وتحمل في نظره إن يكون "يدع ايل" هذا هو الملك "يدع ايل بين" الذي ذكر اسمه في الكتابة الحضومية المعروفة "SE 43". وهو ابن "سمه يفع"، وقد ذكر معه اسم الملك "السمع ذبين" "السمع ذبيان"، وهو ابن "ملك كرب" "ملكي كرب" "ملكيكرب".
و "غيلان" هو أول من تولى حكم حضرموت بعد هذه الفترة التي لم تعرف من حكم فيها بعد "معد يكرب" على رأي "البرايت". وقد حكم من بعده ابنه "يدع أب غيلان". وذكر "البرايت" إن اسم هذا الملك قد ذكر في كتابة عثر عليها في "وادي بيحان"، وهو يرى إن المحتمل إن يكون هو "يدع أب غيلان" الذي كان حليفا ل "علهن نهفن" "علهان نهفان" ملك سبأ، وقد حكم على تقديره في حوالي سنة "50ق. م.".

(1/817)


--------------------------------------------------------------------------------

وذهب "فون وزمن" إلى إن "يدع أب غيلان" المذكور كان معاصرا ل "علهان نهفان"، وان والده هو الملك "يدع ايل بين" وقد حكم على رأيه في حوالي السنة "140 ب. م.". وأما الملك "يدع أب غيلان" فقد حكم فهيما بين السنة "160 ب. م." إلى "190 ب. م.". وقد عقد صلحا مع "علهان نهفان" الهمداني.
أما "فلبي"، فقد رأى إن الذي حكم بعد هذه الفترة التي انتهت على حسب اجتهاده بحوالي سنة "650 ق. م." هو "السمع ذبيان بن ملك كرب" و "يدع ايل بين بن سمه يفع"، واندمجت حضرموت بعده في مملكة سبأ أو قتبان، ثم أصبحت جزءا من مملكة سبأ إلى حوالي سنة "180 ق. م." حيث عادت فاستقلت، فتولى الملك فيها الملك "يدع آل بين بن رب شمس" الذي كون أسرة ملكية جديدة اتخذت مدينة "شبوة" عاصمة لها.
وقد ذكر "البرايت" إن الذي حكم بعد "يدع أب غيلان" وهو ابن الملك "غيلان"، هو الملك "العذبلط" "العزيلط"، وقد نعته ب "الأول" وجعله معاصرا ل "شعرم أوتو" "شعر أوتر" ملك سبأ، وقد كان حكمه على تقديره في حوالي سنة "25 ق. م.".
وذهب "البرايت" إلى احتمال كون "العزيلط" هذا هو الملك "العزيلط بن عم ذخر" المذكور في كتابة عثر عليها في "وادي بي حان" في كتابات عليها "فلبي" في "عقلة" بحضرموت، غير إن "العزيلط بن عم ذخر" هو من المعاصرين للملك "شارن يعب يهنعم"، ولذلك لا يمكن إن يكون هو الملك "العزيلط" الذي لقبه "البرايت" بالأول، وجعله معاصرا للملك "شعرم أوتر" "شعر أوتر".

(1/818)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد وجد اسم الملك "العز" في كتابة حفرت على صخرة عند قاعدة جبل "قرنيم" "قرن"، كما عثر على اسمه في كتابات وجدت في "عقلة"، و "عقلة" موضع مهم عثر فيه على كتابات وردت فيها أسماء عدد من ملوك حضرموت، زاروا هذا المكان، وذكرت أسماؤهم فيه. وقد جاء في إحدى هذه الكتابات إن الملك "العزيلط" زار هذا الموضع، ورافقه في زيارته عدد من الزعماء والرؤساء، منهم: "شهرم بن والم" "شهر بن وائل" و "قريت ابن ذمرم" "قرية بن ذمر" و "ابفال بن القتم" "أبفأل بن القتم" و "وهب آل بن هكحد".
وسجل هؤلاء الرجال ذكرى هذه الزيارة في هذا النص الذي وسم ب "Phliby 81". وقد ذكر فيه اسم والد "العذ" "العز"، وهو "عم ذخر" "عمذخر"، ولم يدون كاتبه حرف العطف "الواو" بين الأسماء ة ورفقة الملك هؤلاء الذين صحبوه في رحلته إلى حصن "أنود"، وان كانوا لم يفصحوا عن مراكزهم ومنازلهم الاجتماعية نستطيع إن نجزم إنهم كانوا من الوجهاء والأعيان، فرفقة تصاحب الملك للاحتفال بزيارة كهذه الزيارة لا بد أن يكون لها شأن بين الناس.

(1/819)


--------------------------------------------------------------------------------

وتعد الكتابة التي وسما به "Philby 82" من الكتابات المهمة، وقد دونها رجلان من أشراف "حمير يهن"، أي من حمير، رافقا الملك في سفرته إلى حصن "أنود"، لإعلان نفسه ملكا على حضرموت ولمناسبة تلقبه بلقبه، وهي عادة كان يتبعها ملوك حضرموت عند توليهم الملك وتلقبهم بلقب جديد لم يكن يتلقبون به قبل انتقال العرش إليهم. ولسنا نعرف متى نشأ هذا التقليد عند ملوك حضرموت، ولا السبب الذي دفعهم إلى اختيار هذا المكان دون غيره. و لعله كان من الأماكن المقدسة القديمة عندهم، فكانوا يتبركون بتتويج أنفسهم قيه، أو إنه كان قلعة أو موضعا قديما فجرت العادة إن يتوج الملوك فيه. وقد كان هذان الرجلان بعثهما "ثارين يعب يهنعم" ملك "سبأ وذي ريدان" لمرافقة ملك حضرموت في هذه المناسبة. والظاهر إن ملك سبأ إنما بعثها لتهنئة ملك حضرموت ولتمثيله في هذا الاحتفال المهيب الذي بحري في "أنود"، فهما مبعوثان سياسيان من ملك إلى حليفه. وقد سجل "العذيلظ" "العزيلط" هذه المناسبة في كتابة قصيرة ورد فيها "العزيلط ملك حضرموت بن عم ذخر سيراد جندلن أنودم هسلقب"،أي "العزيلط ملك حضرموت ابن عم ذخر سار إلى حصن أنود ليتلقب بلقبه..." وقد كتبت هذه الكتابة في الزمن الذي دونت فبه الكتابتان الأخريان عن زيارة الملك لحصن "انود" عند إعلان لقبه الجديد وتوليه العرش رسميا، غير إننا لا نعرف - ويا للأسف - تأريخ هذه المناسبة.

(1/820)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر اسم الملك "العزيلط بن عم ذخر" في كتابة دونها جماعة من الأعيان عند تتويجه وتوليه العرش و إعلان ذلك للناس في حصن "أنود". وأصحاب هذه الكتابة هم: "نصرم بن نهد" "نصر بن نهد" و "رقشم بن أذمر" "رقاش بن أذمر"، و "والم بن يعللد" "وائل بن يعللد"، و "والم بن بقلن"، و "ابكرب ذو دم" "أيكرب ذو ود". وقد ورد إنهم ساعدوا الملك سيدهم "العزيلط بن عم ذخر" "العذيلط بن عم ذخر" حين ذهب إلى حصن "أنود" لإعلان نفسه ملكا. ويظهر من ذلك إنهم كانوا من جملة رجال الحاشية الملكية التي صحبت الملك إلى ذلك المكان. ووردت نصوص أخرى سجلها رجال الحاشية الملكية تخليدا لاسمهم في هذه المناسبة. وقد سجل كتابة من هذه الكتابات رجل اسمه "حصين بن ذا ييم مقتوي العزيلط ملك حضرموت"، "حصين بن ذ أييم مقتوي العزيلط ملك حضرموت"، ويظهر إن هذا الرجل كان من قواد جيش الملك وضباطه ولعله كان من مرافقيه.
وقد منح بعض علماء العربيات الجنوبية هذا الملك، أي الملك "العز بن عم ذخر" "العذ" لقب "العز الثالث"، لذهابهم إلى وجود ملكين حكما قبله عرفا بهذا الاسم. ورأى "ركمنس" إن حكمه كان في حوالي السنة "200 ب.م.".
وقد ورد في كتابة حضرمية اسم ملك دعي ب العذ" "العز" ابن "العزيلط" "العذيلط" ملك حضرموت، فيظهر من ذلك إن والد هذا الملك كان ملكا كذلك، ولم يشير أحد من الباحثين مثل "فلبي" أو "البرايت" إليه. ولعله ابن للملك المتقدم، وصاحب هذه الكتابة رجل اسمه "هبسل قرشم" وتذكرنا كلمة "قرشم" "قريشم"، أي "قريش" باسم قبيلة "قريش" صاحبة مكة.

(1/821)

admin
12-26-2010, 01:44 PM
ولم يتأكد "البرايت" من اسم الشخص الذي تولى العرش بعد "العزيلط"، فترك فراغا ذكر بعده ملكا سماه "العزيلط" "العذيلط" ميزه عن الأول بإعطائه لقبا، هو "الثاني". وقد رأى إنه كان معاصرا للملك "ثأرن يعب يهنعم" ملك سبأ. أما والد "العز الثاني" على رأيه فهو "علهان" أو "سلفان". ويرى "فلبي" إن "علهان" أو "سلفان" هو ابن "العزيلط" الأول. وقد سبق إن ذكرت إن "ثأرن يعب يهنعم" كان لحيفا للملك "العذيلط بن عم ذخر"، وأنه أرسل وفدا لتهنئته بتتويجه و إعلانه لقبه الجديد. لذلك يبدو غريبا ما ذهب إليه "البرايت" من إن "العزيلط الثاني بن علهان" أو "سلفان" هو الملك المعاصر للملك "ثأرن يعب" السبئي.
ويحتمل على رأي "البرايت" إن يكون "العزيلط" "العذيلط" الذي ورد ذكره في النص "Glaser 1619=1430" الذي عثر عليه في "وادي بيحان" ويعود تأريخه إلى سنة "144" من التقويم السبئي التي تقابل سنة "29 م" تقريبا، هو "العزيلط الثاني". ويحتمل على رأيه أيضا إن يكون هو الملك "Eleazos" الذي ذكر في كتاب ""الطواف حول البحر الأريتري" . وكان هذا الملك معاصرا لملك آخر سماه مؤلف هذا الكتاب "Karibael" = "Charibael" وهو ملك الحميرين والسبئيين، وقد أراد به الملك "كرب ايل وتر يهنعم"، وهو "ملك سبأ وذي ريدان" المذكور في النص "Glaser 483".
أما "فون وزمن"، فيرى إن كاتب النص قد أهمل الرقم ثلاث مئة فكتب مئة وأربعة وأربعين، على حين إن الصحيح هو "344" من التقويم الحميري، واذن يكون زمان تدوين الكتابة هو "299" أو "235" بعد الميلاد وهو وقت حكم "العزيلط بن عم ذخر" على تقديره.

(1/822)


--------------------------------------------------------------------------------

وجاء اسم ملك يدعى "العزيلط" "العذيلط" في كتابة سجلها رجلان، يدعى أحدهما "عذ ذم بن اب انس" "عذ ذ بن أب انس" ويدعى الآخر "رب آل بن عذم لت" "رب ايل بن عذم لات"، وهما من عشيرة "مريهن" "مريهان"، ذكر فيهما انهما قسما إلى معبد الإله "سن ذ علم" "سين ذي علم" في معبده "علم" المشيد في مدينة "شبوة"، سبعة تماثيل من الذهب "سبعة أصلم ذهبن"، كما أمرهما سيدهما الملك. ويظهر انهما كانا من حاشيته وأتباعه. وقد أهملت هذه الكتابة اسم والد هذا الملك، فلا نعرف أي ملك هو، اهو "العزيلط الأول"، أم "العزيلط الثاني" ? وقد ورد في بعض الكتابات ما يقيد استقبال "العزيلط" لضيوف وفدوا عليه من مختلف الأماكن: من الهند "هند"، ومهن "تدمر" "تذمر" ؛ وضيوف آراميون جاءوا إليه من "كشد"، بل ورد في الكتابة "Ja 919" مرافقة عشر نساء قرشيات له إلى حصن "أنود". و إذا كانت الكتابة قد قصدت من "قريش" قريش المعروفة صاحبة مكة، نكون بذلك قد وقفنا لأول مرة على اسمها في وثيقة مدونة.
و لإشارة النصين المذكورين إلى الهند وتدمر وإلى بني إرم وقريش، أهمية كبيرة ولا شك، إذ تدل على الاتصال الذي كان لمملكة حضرموت بالعالم الخارجي في ذلك الزمن، وعلى الروابط التجارية التي كانت تربط ذلك العالم بحضرموت. وقد كان اتصال حضرموت بالخارج عن طريق ميناء "قنا"، فقد كانت السفن تأتي إليه وتخرج منه لتذهب إلى إفريقية والهند وعمان وأرض فارس.
وترك "البرايت" فراغا بعد "العزيلط الثاني"، مغزاه إنه لا يدري من حكم بعد "العز" هذا، ثم ذكر بعده اسم "يدع أب غيلان بن امينم" "يدع أب غيلان بن أمين"، ثم جعل اسم ابنه من بعده، وهو "يدع ايل بين"، أي إنه هو الذي تولى الحكم من بعده. وقد بين إنه غير متأكد من زمان حكمهما، إلا إن دراسة الكتابات التي ذكر فيها اسمهاهما تدل على إنها من نوع كتابات القرن الأول للميلاد، ولذلك وضع زمانهما في هذا العهد.

(1/823)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن الكتابات التي ذكر فيها اسم "يدع ايل بين"، أي ولد "يدع أب غيلان بن أمينم" الكتابة التي وسمها العلماء بسمة "Glaser 1623"، وهي كتابة قصيرة تتألف من أربعة أسطر، ورد في جملة ما ورد في ما اسم الإله "سين ذو علم"، أي الإله "سين" رب معبد "علم". وكان معبد "علم" قد خصص بعبادة هذا الإله.
وقد وصلت إلينا كتابة أخرى ورد فيها اسم "يدع ايل بين"، إلا إنها لم تذكر لقب والده، وهو "غيلان"، وانما اكتفى فيها بتسجيل الاسم وحده وهو "يدع أب". وقد ذكر فيها إن هذا الملك بنى وحصن سور مدينة "شبوة" ابتغاء وجه الإلهتين. "ذات حشولم" "ذت حشولم" "ذات حشول" و "ذت حمم" "ذات حميم"، وذكر فيها اسم "صدق ذخر" "كبر" "كبير" حضرموت. ويظهر إن الغرض من ذكر اسم هذا الكبير "كبير" في النص، إن تؤرخ الكتابة به على في ما رأينا في الكتابات المعينية من التأريخ بأسماء الرجال.
ولم يذكر "البرايت" من حكم بعد "يدع ايل بين"، فترك فجوة تدل على إنه لا يدري من حكم فيها، ثم ذكر بعدها ملكا آخر، سماه "يدع أيل بين"، قال: إنه ابن "سمه يفع"، ثم ذكر "السمع ذبيان بن ملكي كرب" "مليكرب" من بعده، وقال إنهما كانا متعاصرين. وشد حكما حكما مزدوجا، أي إن كل واحد منهما كان يحكم بلقب "ملك حضرموت". وكان حكمهما في حوالي السنة "100" بعد الميلاد على بعض الآراء.
ثم عاد "البرايت"، فترك فراغا بعد "السمع ذبيان"، دلالة على وجود فجوة في ترتيب أسماء ملوك حضرموت، لا يدري من حكم فيها، ثم ذكر بعدها الملوك: "رب شمس" "ربشمس" ثم "يدع ايل بن" ثم "الريم يدم" ثم "يدع اب غيلان".

(1/824)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذكرت اسم "رب شمس" قبل قليل، وقدمت زمانه بعض التقديم، وذلك حكاية عن رأي بعض العلماء وفي ضمنهم "فلبي" الذي جعل حكمه في حوالي سنة "180 ق. م."، ثم عدت لأذكره هنا مجاراة لرأي "البرايت" الذي وضعه في أواخر قائمته لملوك حضرموت. وقد ذهب بعض الباحثين إلى إن حكم هذا الملك كان بعد سنة "200 ب. م."، وفرق كبير كما نرى بين التقديرين.
وقد جعل "فون وزمن" زمان "رب شمس" بين السنة "100" و "120 ب. م."، وصيره من معاصري "اوسلت رفش" "أوسلة رفشان" ملك همدان ومن معاصري الفترة الواقعة بين حكم "ذمر علي يهبر" و "ثأران يعب" الحميربين. ثم البقية التي جاءت بعده، وتتألف من "يدع آل بين" "يدع ايل بين"، ثم "الريم يدم" "الريام يدم"، ثم "يدع اب غيلن" "يدع أب غيلان"، ثم "رب شمس" "ربشمس" وقد جعل نهاية حكمه سنة "180 ب. م.".
وبعد النصر الموسوم ب "Philby 84" من النصوص المهمة بالنسبة إلى تأريخ مدينة "شبوة"، وقد كتب في عهد "يدع ايل بين بن رب شمس"، وجاء فيه إن "يدع ايل بين بن رب شمس" من "أحرار يهبأر" "أحرار يهبار" "أحرر يهبر" مر مدينة "شبوة" وأقام بها، وبنى المعبد بالحجارة، وذلك بعد الخراب الذي حل بها، وعمر ما تهدم وتساقط منها، وانه احتفالا بهذه المناسبة أمر بتقديم القرابين، فذبح "35" ثورا و "82" خروفا و "25" غزالا و "8" فهود "أفهد"، وذلك في حصن "أنود".
وقد حدثنا هذا النص حديثا صريحا بان أصل "يدع ايل بين" من أحرار "يهبأر" "أحرر يهبر" أي من صرحاء القبيلة، وحدثنا أيضا بأنه بنى مدينة شبوة، وعمر مجدها وكسا جدره بطبقة من القار أو غيره لتكون ملسا، من أساسها إلى شرفاتها، وذلك بعد الخراب الذي حل بشبوة، إلا إن الملك لم يتحدث عن سبب ذلك الخراب الذي أصاب المدينة ومعبدها معها، وهو خراب كبير على ما يظهر، فتركنا في حيرة من أمره، وتباينت آراء الباحثين فيه.

(1/825)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرى "البرايت" إن النص المذكور هو من نصوص القرن الثاني بعد الميلاد. أما "ركمنس" فيرى إنه من نصوص ما بعد السنة "200" بعد الميلاد. فهو إذن نص يكاد يجمع أكثر علماء العربيات الجنوبية على إنه من نصوص بعد الميلاد. و إذا صدق رأي هؤلاء، كان خراب شبوة إذن و إعادة تعميرها قد وقعا بعد الميلاد.
وقد ة فسر بعض الباحثين خراب "شبوة" باستيلاء أحد ملوك "سبأ وذي ريدان" عليها، فلما نهض "يدع ايل بين"، لاستردادها من السبئيين، وقع قتال شديد فيها بينه وبينهم في المدينة نفسها، لم ينته إلا بعد خراب المدينة وتدمير معبدها معبد الإله "سين". وعندئذ ارتحل عنها السبئيون، فاضطر "يدع ايل" الذي طردهم منها إلى إعادة بناء المدينة والمعبد، فلما تم له ذلك، احتفل بهذه المناسبة، أو بمناسبة تتويجه ملكا على حضرموت في حصن "أنود" وقرب القرابين إلى إله حضرموت "سين" وإلى بقية الآلهة، شكرا لها على ذلك النصر، وعلى النعم التي أغدقتها عليه. هذا في رأي فريق من علماء العربيات الجنوبية.
ورأى فريق آخر إن في خراب "شبوة" سببا من سبيين، فإما إن يكون "يدع ايل" وهو من أحرار قبيلة "يهبأر"، قد أعلن الثورة على السبئيين الحميرين الذين كانوا قد استولوا على شبوة، وقاومتهم مقاومة عنيفة أدت إلى الحاق الأذى بالمدينة، فلما تركها السبئيون الحميريون كانت ركاما، فأعلن "يدع ايل" نفسه ملكا على حضرموت، بعد إن ظلت المملكة بدون ملك. وإما إن يكون ذلك الخراب بسبب عصيان "يدع ايل" على الأسرة المالكة الشرعية ومقاومته لها، مما أدى إلى إنزال التلف في المدينة، فلما تغلب على الآسرة المالكة أعاد بناء المدينة وجددها وجدد معيدها على في ما جاء فقط النص.

(1/826)


--------------------------------------------------------------------------------

وليس في النصر شيء ما عن الطريقة التي كسب بها تاج حضرموت، إلا إن إشارة وردت في كتابة تفيد إن بعض الأعراب ورجال القبائل كانوا قد تعاونوا معه وساعدوه، فقد عاونه رجل من قبيلة "يم" "يام"، ومئة من بني أسد، ومئتان من "كلب" أو "كليب"، وعاونه ولا شك آخرون، وبفضل هؤلاء وأمثالهم من رجال القبائل تغلب على من ثار عليهم، فانتزع التاج منهم. والإشارة المذكورة على إنها غامضة، كافية في إعطائنا فكرة عمن ساعد "يدع ايل" على الظفر بالعرش.
ويظهر من كل ما تقدم إن "يدع ايل بين"، وهو من أبناء العشائر، كان قد جمع حوله جماعة من القبائل، ساعدته في عصيانه وتمرده على السلطة الحاكمة في "شبوة" فاستولى على الملك وقد جاء بعده عدد من الملوك، إلا إن الأمر أفلت زمامه منهم، إذ نجد إن الملك "شمر يرعش" "شمر يهرعش" يضيف "حضرموت" إلى الأرضين الخاضعة لحكومته، حتى صار اسم حضرموت منذ ذلك الحين جزءا من اللقب الذي يلقب به الملوك. ومعنى ذلك انقراض مملكة حضرموت ودخولها في حكومة "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت" اللقب الرسمي الذي اختاره "شمر" المذكور نفسه.
ويرى "فون وزمن" إن الكتابة الموسومة ب Jamme 629 ، من الكتابات التي تعود إلى أيام هذا الملك. وقد جاء فيها إن "مرثدم" "مرثد" و "ذرحن" "ذرحان"، وهو قائد من قواد جيش "سعد شمع أسرع" و "مرثدم يهحمد" من "آل جرت" "آل جرة"، قد حاربا الملك "يدع آل" "يدع ايل" ملك حضرموت والملك "نبطم" "نبط" ملك قتبان، و "وهب آل بن معهر" "وهب ايل بن معاهر" و "ذ اخولن" "ذو خولان" "ذ خولن" و "ذ خصبح" "ذو خصبح" و "مفحيم" "مفحى" حارباهم في أرض "ردمان" قرب العاصمة "وعلن" "وعلان".

(1/827)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرى "فون وزمن" إن هذه الحرب قد وقعت في أواخر أيام حكم الملك "نبطم" "نبط" ملك قتبان، المعروف ب "نبطم يهنعم"، وقد لقب في هذه الكتابة بلقب: "ملك قتبان"، إلا أنه كان في الواقع تابعا لحكم ملك حضرموت. وقد كانت "تمنع" - كما يرى هو أيضا - قد خربت قبل هذا العهد، و تحولت إلى قرية صغيرة. وقد التقت عساكر "سعد شمس" و "مرثد" بخصومها قرب هذا المكان. ولم تكن "أوسان" مملكة في هذا العهد، بل كانت قبيلة. وقد أذلت "شيعان" بعد هذه الحرب.
وأما "مرثد" "مرثدم" صاحب الكتابة، فهو من "ذ بن جرفم" "بني ذي جرفم" "بني ذي جرف" ب "صنعو"، أي "صنعاء". وقد عمل مع الملكين: "سعد شمس أسرع" و "مرثدم يهحمد"، وهما من ملوك مملكة "جرت" "جرة"، لتنظيم اجتماع لسادات القبائل في موضع "رحبت" "رحابة" الواقع شمال صنعاء، بأرض "سمعي". وقد حضر الاجتماع: "شرحثت"، وهو من سادات "بتع" و "الرم" "الرام" "الريام"، وهو من "بني سخيم"، و "يرم ايمن" الهمداني. ويظهر إن ملكي "جرة" كانا قد استحوذا على مرتفعات سبأ في هذا الحين.
وكان "وهب آل بن معهر" "وهب ايل بن معاهر" صاحب "ردمان" "ردمن" والأرضين المتاخمة ل "خولان" في هذا الوقت. وقصد ب "معهر" دار الحكم بمدينة "وعلن" "وعلان" من أرض "ردمان".
وأما "خصبح"، فبطن من بطون قتبان.
وتولى الملك بعد "يدع ايل بين" ابنه "الريم يدم" "الريام يدم". ونحن لا نعرف من أمره شيئا يذكر، إلا ما ورد في كتابة تذكر إنه ذهب إلى حصن "أنود"، واحتفل هناك بتوليه العرش، و إعلانه لقبه الذي اتخذه لنفسه، و إلا ما ورد في كتابة أخرى، دونها "رب شمس بن يدع أيل بين"، أي شقيق "الرم يدم"، تذكر إنه رافق شقيقه إلى حصن "أنود" عند المناسبة المتقدمة، فكان من جملة المشاهدين لحفلة التتويج.

(1/828)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا نعرف من أمر ""يدع أب غيلان" شقيق "الريم يدم" شيئا يذكر كذلك. وقد جعله "البرايت" خليفة شقيقه المذكور. وكل ما لدينا عنه، لا يتجاوز ما ذكرناه عن شقيقه. فقد جاء في كتابة إنه ذهب إلى حصن "ازود"، فاحتفل فيه بتتويجه وأعلن في الاحتفال اللقب الذي لقب نفسه به، وجاء في كتابة أخرى سجلها "رب شمس"، أي شقيقه، إنه ذهب مع أخيه "يدع أب" إلى حصن "أنود" لمشاهدة الاحتفال بتتويجه و بإعلانه اللقب.
وقد ورد في أحد النصوص إن "يدع أب غيلن" "يدع أب غيلان"، سور مدينة "ذ غيلن". و يرى بعض الباحثين، إن هذا الملك كان قد بنى هذه المدينة في أرض قتبانية فتحت في أيام والده، في مكان يقع عند فم وادي "مبلقه" "مبلقت" المؤدي إلى وادي "بيحان". ويشك بعض الباحثين في صحة قراءة اسم المدينة.
وفي الكتابة المرقمة برقم Philby 88 جملة هي: "رب شمس خير اسدن بن يدع آل بين"، ترجمها "بيستن" ب "رب شمس أمير أسد بن يدع ايل بين" على إن "أسدا" قبيلة، واستدل على ذلك بما جاء في إحدى الكتابات من إن الملك "ختن أسد"، ومعنى ذلك إنه كان ختنا ل "بني أسد". وأرى إن لفظة "اسدن" "اسد" هنا لا تعني قبيلة أسد و إنما تعني جنودا أو جيشا، وهي بهذا المعنى في العربيات الجنوبية، فان لفظة "اسدم" تعني الجندي، وان المراد من جملة "رب شمس خبر اسدن" "رب شمس أمير الجند" أو "الجيش"، أي إن لفظة "خير" بمعنى أمير أو قائد، وخير القوم سيدهم، فيكون بذلك قائدا أو أميرا لجيوش حضرموت.

(1/829)


--------------------------------------------------------------------------------

وبناء على ما تقدم نكون قد عرفنا اسم ثلاثة أولاد من أبناء "يدع ايل بين" تولى الملك اثنان منهم على وجه أكيد، أما الثالث، وهو "رب شمس" فلم تصل إلينا كتابة تذكر ذهابه إلى حصن "أنود" للاحتفال بتتويجه و إعلان لقبه. لذلك لا نستطيع إن نبت في موضوع توليه عرش حضرموت. ولم يذكر "البرايت" اسمه بين أسماء أبناء "يدع ايل بين". وقد استخرجته أنا من الكتابات التي ذكرتها، وهي الكتابات التي استنسخها "فلبي" من موضع "عقله".
وفي اللوح النحاس المحفوظ في المتحف البريطاني اسم ملك من ملوك حضرموت هو "صدق ذخر برن" "صدق ذخر بران"، ووالده "الشرح"، وقد ذكر فيه إن هذا الملك قدم نذورا إلى الآلهة: "سين" و "علم" و "عثتر" لخيره ولخير "شبوة" ولخير أولاده وأفراد أسرته، وقد وردت فيه أسماء قبائل يظهر إنها كانت خاضعة في هذا الزمن لحكمه هي: "مرشد" و "أذهن" "أذهان"، و "ينعم". ولورود اسم "شبوة" في هذا النص، يجب إن يكون هذا الملك قد حكم بعد تأسيس هذه المدينة.
وذكر "هومل" إنه وجد محفورا على الجهة الثانية من اللوح النحاس "مونكراما" Monogramm طغراء تشير إلى اسم الملك الذي كان ? حضرموت في ذلك الزمن، وقد دعاه "هومل" "سعد شمسم" "سعد شمس".
وورد اسم ملك آخر من ملوك حضرموت، هو: "حي آل" "حي ايل"، وقد ورد اسمه في نقد حضرمي. وما نعرف من أمره في الزمن الحاضر شيئا.
ولم يشر "البرايت" و "فلبي" و "هومل" وغيرهم إلى اسم ملك حضرمي ورد ذكره في النص المرقم ب رقم "948" المنشور في كتاب CIH. وهو نص متكسر في مواضع متعددة منه، أضاعت علينا المعنى. واسم هذا الملك "شرح آل" "شرح ايل" "شرحبيل".
وقد سقطت كلمات قبل هذا الاسم، لعلها تكملته. وقد وردت بعده جملة: "ملك حضر..."، وسقطت الأحرف الباقية من كلمة حضرموت وكلمات أخرى.

(1/830)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ورد في النص المذكور اسم "شمر يهرعش" ملك "سبأ وذي ريدان وحضرموت و يمنات". ويدل ورود اسم "شمر يهرعش" في هذا النص مع اسم "شرح ايل" على إن الملكين كانا متعاصرين، ويدل هذا النص على إن مملكة حضرموت بقيت إلى ما بعد الميلاد، وحتى أيام "شمر يهرعش"، يحكمها حكام منهم، يحملون لقب "ملك".
وكان آخرهم هو "شرح ايل" هذا المدون اسمه في النص المذكور. ولكنه لم ي كن مستقلا كل الاستقلال، بل كان تحت حماية "شمر يهرعش" ووصايته. ودليلنا على ذلك ذكر "شمر" في النص خ "شرح ايل" و إدخال اسم "حضرموت" ضمن أسماء المواضع الخاضعة لحكم "شمر"، أي في اللقب الرسمي الذي اتخذه "شمر" لنفسه بعد استيلائه على حضرموت.
وعثر على نص وسم ب Ja 656، جاء فيه اسما ملكين من ملوك حضرموت أحدهما "رب شمس"، الآخر "شرح أيل" "شرح آل". وليس في النص ما يكشف عن هوية الملكين، وأرى إن "رب شمس" هذا هو "رب شمس" المتقدم شقيق الملكين، وابن "يدع ايل بين". و إذا صدق رأيي هذا، يكون قد تولى الملك لمدة قليلة، تولاه بعد وفاة شقيقه "يدع أب غيلان" ثم انتقل العرش إلى "شرح ايل"، وهو في نظري "شرح ايل" الذي اعترف بسيادة "شمر يهرعش" وسلطانه عليه كما تحدثت عنه.
وقد يكون أحد أبناء "رب شمس" وقد يكون حمل لقب "ملك حضرموت" مع "رب شمس" في إن واحد. وهذا النص هو بالطبع أقدم من النص المتقدم الذي ورد فبه اسم "شمر يهرعش".
لقد جعل بعض علماء العربيات الجنوبية سقوط مملكة "حضرموت" واندماجها نهائيا في مملكة "سبأ وفي ري دان" في أيام "شمر يهرعش"، وبعد السنة "300 ب. م.". و اود إن آبين هنا إننا لم نظفر بكتابة عربي جنوبية، فيها شيء عن كيفية سقوط مملكة حضرموت، وعن كيفية استيلاء "شمر يهرعش" أو غيره من الملوك عليها، فنحن لهذا في وضع لا يسمح لنا بوصف نهاية تلك المملكة وذكر الأحداث التي أدت إلى سقوطها واندماجها في مملكة سبأ وذي ريدان.

(1/831)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذهب بع ض الباحثين إلى إن سقوط حضرموت كان في القرن الرابع بعد الميلاد، وقبل احتلال الجيش للعربية الجنوبية بقليل. وقد وقع هذا الاحتلال على رأيهم فيما بين السنة "335 ب. م." والسنة "370 ب. م.".
وقد أدت فتوحات "شمر يهرعش" لحضرموت، ولأرضين أخرى تعد من المناطق الخصبة الكثيفة بسكانها في جزيرة العرب، إلى هجرة الناس عنها إلى مناطق بعيدة نائية، وإلى نزول الخراب في كثر من القرى والمدن، إذ تهدمت بيوتها ومعابدها، و قتل كثير من أهلها، وأتت النار على بعضها حرقا ،فتحولت منازل الناس إلى خرائب، وجفت مزارعهم فآضت بوادي، فهجرها أهلوها ولم يعودوا إليها بعد هذا الخراب. فزادت مساحة الصحاري، ولم تعمر منذ ذلك الحين. وقد زاد في نكبة العربية الجنوبية هذه إن حروب "شمر يهرعش" المذكورة استمرت زمنا طويلا، وشملت أكثر اليمن حتى بلغت البحر، مما أطمع الجيش في العربية الجنوبية، فزادت قواتها في الأرضين التي احتلتها، وتوغلت في مناطق واسعة، ولا سيما بعد موت "شمر يهرعش".

(1/832)


--------------------------------------------------------------------------------

هذا، وقد انتهت إلينا كتابات عدة تعرضت لأنباء الحروب التي نشبت بين حضرموت وسبأ، وبين حضرموت وحكومات أخرى، منها كتابات لم تذكر فيها أسماء الملوك الذين وقعت في أيامهم تلك الحروب، كالكتابة المرقومة ب "4336" المنشورة في كتاب REP. EPIG . وقد قدم صاحبها إلى إلهه الشكر والحمد، وتمثالين من الذهب إلى معبده في "نعلم" لأنه نجى سيده "بشمم" "بشم" ومن عليه بالشفاء من الجرح الذي أصابه في المعركة التي نشبت في مدينة "ثبير" في أرض "يحر". وهي معركة من معارك نشبت بين "شمر ذي ريدان" و "أب أنس" من قبيلة "معهرم" "معهر" "معاهر" وأمراء "خولان" وملك سبأ وملك حضرموت. ولما كانت هذه الكتابة قد كتبت لإعلان شكر صاحبها لإلهه وإعلانه بوفائه لنشره، وهي في موضوع شخصي لم تكن متبسطة في أخبار تلك الحرب المزعجة، لذلك اكتفيت بذكرها أجمالا دون تفصيل. أما نحن العطاش إلى معرفة خبر تلك الحرب، وما كان من أمرها، فقد خرجنا بعد قراءتنا لهذا النص ونحن آسفون على بخل صاحبها علينا وتغيره في تفصيل خبر هذا الحادث المهم، وشاكرون الله مع ذلك على سلامة رجل وقاه الله شر تلك الحرب.
هذا ما وصل إلى عمنا من أسماء ملوك حضرموت و "مكربيها". ولست أرى بأسا في التنبيه مرة أخرى على إن هذه الأسماء لم ترتب إلى الآن ترتيبا زمنيا مضبوطا، وإنما رتبت على حسب اجتهاد الباحثين. ولذلك نجدهم يختلفون في هذا الترتيب وغيره، في أسماء الملوك. وسجلنا الآن إن نحاول جهد الإمكان حصر هذه الأسماء حتى يأتي اليوم الذي نستطيع فيه الترتيب والتصنيف.

(1/833)


--------------------------------------------------------------------------------

والظاهر إن حكم الحمريين لحضرموت، لم يتحقق بصورة فعلية، بل كان في اواخر أيامهم، ولا سيما في أواخر القرن الخامس وابتداء القرن السادس للميلاد، حكما شكليا، لأننا نجد أرض حضرموت وقد استقل فيها حكام المدن وسادات القبائل وأشراف الأودية، وقد لقب أكثرهم أنفسهم بلقب "ملك". وقد ذكر "ياقوت الحموي" إن بني "معد يكرب بن وليعة" وهم: مخوص، ومشرح، وجمد، و أبضعة، كانوا يسمون ملوكا، لأنه كان لكل واحد واد يملكه. والواقع إن كثيرا من سادات القبائل قبل الميلاد وبعده، كانوا يلقبون أنفسهم بلقب ملك، ولكنهم لم يكونوا غير سادات قبائل وأصحاب أرض.
?
?قبائل حضرمية
وفي حضرموت كما في كل الأماكن الأخرى من جزيرة العرب قبائل و عشائر وأسر ذوات حكم وسلطان وجاه في مواطنها، وقد ورد أسماء عدد منها في الكتابات، ومن قبائل حضرموت وعشائرها وأسرها: "شكمم" ، أي "شكم" "شكيم"، وعشير "يشبم" "يشبوم".
ويرجع نسب عشيرة "رشم" إلى قبيلة "مقنعم" "مقنع" أو "يقنعم" كما جاء في بعض الكتابات، وهو اسم قبيلة لا نعرف من أمرها شيئا في الزمن الحاضر، وكان يحكمها "أقيال" منهم: "هو فعثت" و "لحى عثت"، وهما من موضع "عليم"، أي "علب". وقد جاء في نص انهما قدما وثنا "صلمن" إلى الآلهة "عثتر" و "هبس" "هوبس" و "المقه" و "ذت حمم" "ذات حميم". وقد يفهم من ذلك إن هذه القبيلة كانت قبيلة سبئية، نزحت إلى حضرموت، واستقرت فيها، أو إنها كانت من القبائل السبئية التي خضعت لحضرموت.
و "يهبأر" "يهبر" "يهبار" من القبائل المعروفة في العربية الجنوبية، ولا يستبعد إن تكون قبيلة Iobaritai التي ذكر اسمها "بطلميوس" ? وكانت منازلها على ما يظهر من جغرافيته على مقربة من الموضع الذي سماه Sachalitai أي "الساحل" أو "السواحل"، فهي من القبائل العربية الجنوبية التي لا تبعد منازلها عن الساحل كثيرا، وقد كان "يدع ايل بين بن رب شمس" من أبنائها الأحرار.

(1/834)


--------------------------------------------------------------------------------

و قبيلة "أسد" من القبائل العربية الشمالية المعروفة بعد الميلاد. أما في نصوص المسند، فليست فيها معروفة. ويظهر إن قسما منها كان قد نزح من نبد إلى الجنوب حتى بلغ أرض حضرموت، فساعد "يدع ايل بين". ولعل نزوحها إلى الجنوب كان بسبب خلاف وقع بين عشائرها أو مع قبائل أخرى، فاضطر قسم منها إلى الهجرة إلى العربية الجنوبية.
و "يام" من القبائل المعروفة حتى اليوم، وتسكن عشائر منها حول نجران.
وأما "كلب" أو "كليب"، فإنها من القبائل التي يرجع النسابون نسبها إلى عدنان، أي إلى العرب الشماليين.
مدن ومواقع حضرمية
و "شبوة"، هي عاصمة حضرموت وهي Sabbaths=Sabotha=Sabota عند الكتبة الكلاسيكيين. وهي Sabtah المذكورة في التوراة في نظر بعض الباحثين. وزعم "هوكارت" Hogarth إنها Sawa. وذكر "الهمداني" موضع "شبوة" في جملة ما ذكره من حصون "حضرموت" ومحافدها.
وقد ظن "فون مالتزن" وآخرون غيره إنها مدينة "شبام". وزار "فلبي" "شبوة"، وعثر على آثار معابدها وقصورها القديمة، كما شاهد بقايا السدود التي كانت في وادي شبوة لحصر مياه الأمطار والاستفادة منها في إرواء تلك المناطق الواسعة الخصبة.
وتشاهد في "وادي أنصاص" وفي خرائب "شبوة" بقايا سد وأقنية للاستفادة من المياه وخزنها عند الحاجة إليها. وهناك سدود أخرى بنيت في مواضع متعددة من العربية الجنوبية للاستفادة من مياه الأمطار وللسيطرة على السيول، وتحويلها إلى مادة نافعة تخدم الإنسان.

(1/835)

admin
12-26-2010, 01:45 PM
وأما حصن "أنود" "أنودم"، الموضع الذي يحتفل فيه الملوك عند تتويجهم وإعلانهم اللقب الذي يتلقبون به بعد توليهم العرش، فإنه موضع "عقلة" في الزمن الحاضر. وهو خربة على شكل مربع. وقد زار هذا المكان جملة أشخاص من الغربيين ووصفوه، منهم "فلبي"، وقد وجد فيه خرائب عادية ووجد عددا من الكتابات الحضرية، هي الكتابات التي وسمت باسمه. ويشرف هذا الموضع على واد شد، فيتصل بتلال "شبوة". و قد كان حصنا ومعسكرا يقيم فيه الجيش، لحماية مزارع هذا الوادي، ولا بد إن يكون هنالك سبب جعل الملوك يختارون هذا المكان لإعلان اللقب الرسمي الذي يختاره الملوك لأنفسهم عند التتويج.
وقد تبين من بعض الكتابات المتعلقة بنصيب ملوك حضرموت في هذا المكان إنهم كانوا يتقربون في يوم إعلان تتويجهم في حصن "أنود" بنحر الذبائح للآلهة. و قد تبين من بعضها إن في جملة تلك الذبائح التي قدمت إلى الآلهة حيوانات وحشية مثل الفهود. وقد استمرت هذه الاحتفالات قائمة إلى القرن الثاني بعد الميلاد على رأي "البرايت"، وإلى حوالي السنة "200" بعد الميلاد على رأي "ركمنس".
ومن مدن الحضرميين مدينة "ميفعت" "ميشعة"، وكانت على ما يظن عاصمتهم القديمة. وقد ورد في بعض الكتابات ما بفيد أن "يدع ايل بن سمه علي" رمم أسوار هذه المدينة. وقد ذهب بعض الباحثين إلى إنها Mapharitis التي أشار إليها مؤلف كتاب "الطواف حول البحر الأريتيري"، ولدينا نص حضرمي يفيد إن "هبسل بن شجب" بنى سور المدينة و أبوابها، واستعمل الحجارة والأخشاب، وأنشأ فيها بيوتا ومعابد، وأتم عمله بعده ابنه "صدق يد" فأعلى سور المدينة وأحكمه.
ولم تذكر الكتابة الجهة التي أنفقت على هذا العمل الذي يحتاج إلى نفقات عظيمة ولا شك، ولعل الدولة هي التي عهدت إليهما هذا العمل على انهما مهندسان أو من المقاولين المتخصصين بأعمال البناء.

(1/836)


--------------------------------------------------------------------------------

وكانت "ميفعة" من المدن المهمة، و قد ذكرت في عدد من الكتابات، وهي Maipha Metropolis عند "بطلميوس"، ويقع عند "حصن السلامة" موضع عادي خرب، يقال له "ريدة الرشيد"، يظهر إنه كان محاطا بسور حصين، كما يتبين ذلك من أحجاره الفخمة المبعثرة الباقية. وقد كان مدينة، يرى إنها Raidaعند "بطلميوس" وقد وضعها في جنوب شرقي Maipha Metropolis أي ميفعة.
وعثر على كتابات عديدة أخرى، تتحدث عن تحصين "ميفعت" "ميفعة"، وعن تسويرها بالحجارة وبالصخر المقدود وبالخشب، وعن الأبراج التي أقيمت فوق السور لصد المهاجمين عن الدنو إليه. وذكر اسمها في كتابة "لبنة" "لبنا" التي هي من أيام المكربين في حضرموت.
ويظهر إن الخراب حل ب "ميفعة" في القرن الرابع بعد الميلاد، وحل محلها موضع آخر عرف ب Sessania Adrumetorum، أي "عيزان" ف "عيزان" اذن، هو الوليد الجديد الذي أخذ مكان "ميفعة" منذ هذا الزمن.
ومن مدن حضرموت مدينة سماها بعض الكلاسيكيين Cane Emporium، وذكر إنها ميناؤها. وأما "أريانوس"، فقال إنها الميناء الرئيسي لمللك أرض اللبان، وقد سماه Eleazus وقال إنه يحكم في عاصمته Sabatha.
وقد ذكر هذا الميناء "بلينيوس" كذلك، فقال إن السفن التي تأتي من مصر في طريقها إلى الهند، أو السفن الآيبة من الهند إلى مصر، كانت ترسو إما في ميناء Cana=Qana، وإما في ميناء Occelis على ساحل البحر عند المضيق. وذكره مؤلف كتاب "الطواف حول البحر الأريتري" كذلك فقال: Cana=Qana ميناء حضرموت، وله تجارة واسعة مع "عمان" 'Omana ، على الخليج، وعلى سواحل الهند. ومع سواحل الصومال في إفريقية. وقال إن السواحل كانت مأهولة بالأعراب، وبقوم يسمون Ichthyophogi، أي "أكلة السمك".

(1/837)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي ميناء Cana "قنا" يجمع اللبان والبخور وغير ذلك، ويصدر إلى الخارج، إما بحرا حيث تنقلها وسائل النقل البحرية، وفي ضمنها بعض الوسائط التي تطفو على سطح البحر بالقرب المنفوخة بالهواء، و أما برا حيث تنقلها القوافل. ويقع هذا الميناء إلى شرق "عدن" وعلى مسافة منه جزيرتان، جزيرة Ornenon أو جزيرة الطيور، وجزيرة Trulla. ويقع إلى الشرق من Cana ميناء آخر، يقال له Mathath Villa. ويرى "فورستر" وأكثر الباحثين الآخرين إلى إن ميناء Cana هو المحل المعروف باسم "حصن غراب" في الزمن الحاضر.
و "حصن غراب"، قد بني على مرتفع من صخر أسود على لابة بركان قديم، يشرف على المدخل الجنوبي الغربي لخليج أقيم عليه الميناء، فيحميه من لصوص البحر ومن الطامعين فيه. وقد زاره بعض السياح، مثل "ولستيد" فوصفه. وزاره B.Don سنة "1957 م" وتحدث عنه.
وقد ورد اسم هذا الحصن في الكتابة الموسومة ب CIH 728، وقد سمي فيها "عرمريت" "عرماوية". وهو الاسم القديم لهذا الحصن الذي يعرف اليوم ب "حصن غراب" "حصن الغراب". وورد في الكتابة الطويلة المعروفة ب CIH 621 التي يعود تأريخها إلى سنة "531م". وتتحدث عن ترميم هذا الحصن و تجديد ما تهدم منه، وذلك بأمر "سميفع أشوع" "السميفع أشوع".
وورد ذكره في النص Ryckmans 538 الذي يتحدث عن الحروب التي خاضتها جيوش الملك "شعرم اوتر" "ملك سبأ وذي ريدان" في أرضين لقبائل قتبائية ورومانية وقبائل مضحيم "مضحى" وأوسان فبلغت "عرمويت" "عر ماوية" وموضع "جلع" في جملة ما بلغتها من ارضين. و "جملع" قرت قرية الساحل شمال غربي "بلحاف" في الزمن الحاضر.

(1/838)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد وجد "ولستيد" Wellsted في "حصن غراب" الكتابة التي وسمت ب CIH 728. وقد جاء فيها إن "صيد أبرد بن مشن" "مشان"، كان مسؤولا عن "بدش" "باداش"، وعن "قنا"، وقد كتب ذلك على "عر مويت" "عر ماوية"، أي حصن "ماوية". و "قنا هو اسم الميناء الشهير. و أما الحصن الباقي أثره حتى اليوم، فيسمى "حصن ماوية"، وأما "باداش"، فإنه ما زال معروفا حتى اليوم، ولكن بشيء من التحريف. وفي هذا المكان يعيش قوم رعاة يعرفون بي "مشايخ باداس"، وقد جاء هذا الاسم من "باداش القديم". وهكذا حصلنا من النص المذكور عل اسم ميناء حضرموت الذي كانت الموارد "الكلاسيكية" هي أول من وافتنا به.
فحصن غراب أذن هو "عر مويت"، وهو حصن مدينة "قناة" المدينة نفسها، ولا تزال آثار مخازن مائه القديمة باقية، وهي صهاريج تملأ بالأمطار عند نزولها، لتستغل وقت انحباسها. وقد أمكن التعرف على موضع البرج الذي يجلس فيه الحرس والمراقبون لمراقبة من يريد الوصول إلى المكان. ويرى بعض الباحثين إن موقع المدينة الأصلية كان في السهل الواقع عند قدم الحصن من الناحية الشمالية، حيث ترى فيه آثار ابنية و مواضع سكنى. أما ما يسمى ب "بير علي" "بئر علي" في هذا اليوم، فانه مستوطنة حديثة بنيت بأنقاض تلك المدينة القديمة.
ومن مدن حضرموت مدينة "مذب" "مذاب"، وقد اشتهرت بمعبدها الذي خصص بعبادة الإله "سن" "سين". وتقع بقاياه اليوم في الموضع المعروف باسم "الحريضة". وقد سبق إن قلت إن بعثة بريطانية نقبت هناك، ووجدت آثار معبد ضخم هو معبد الإله "سين"، الإله الذي يرمز إلى القمر.

(1/839)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد تبين للذين بحثوا في أنقاض معبد "مذب" "مذاب" إنه بني عدة مرات. ويظهر إنه تداعى، فجدد بناؤه مرارا. وقد تبين من الكتابة الحلزونية التي عثر عليها في أنقاض هذا المعبد إنها من أيام "المكربين" وانها ترجع بحسب رأي الخبراء الذين درسوها إلى حوالي السنة "400 ق. م."، وان تأريخ المدينة ومعبدها يرجع إلى الفترة الواقعة بين القرن السادس والقرن الخامس قبل الميلاد.
وقد تبين من بعض الكتابات إن "كبير" "كبر" "مذب" كان من آل "رمي" "رامي". وكان يقيم في الموضع المسمى ب "جعدة" في الزمن الحاضر. وكان يملك جزءا كبيرا من "وادي عمد"، وله بئر في المدينة تتصل بصهريج مدرج نخزن فيه الماء، تعرف ب "شعبت" "شعية" "شعبات". ومن قبائل هذا الموضع: "عقنم" "عقن" "عقان"، و "كرب" "جرب"، و "يرن" "يارن".
وقد تبين من فحص مواضع من جدران مجد "سين" إن الحجارة التي استعملت في إقامته كانت قد قدت من الصخر، ونحتت لتنسجم بعضها مع بعض، وقد ربط بعضها إلى بعض حتى لا تفصل بسهولة. وتبين إن قاعة المعبد كانت فيها أعمدة تحمل سقفها، وربما كانت قاعة كبيرة واسعة تتسع لعدد كبير من المؤمنين المتقين الذين يؤمونها لتعبد والتقرب إلى الإله في معبده هذا.
وعثر في الأماكن التي حفرت على أدوات من الخزف، وعلى مباخر وقلائد و مسابح صنعت حباتها من الحجر والخرز، وعلى أختام خفيفة من النوع المعروف عند الفرس بين القرنين السادس والرابع قبل الميلاد. ويرى بعض الباحثين إن تأريخ "مذاب" ومعبدها يعود إلى الفترة الواقعة بين القرن الخامس والقرن الثالث قبل الميلاد.

(1/840)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذهب بعض من درس معبد "مذاب" إلى إن حضارة حضرموت وحضارة بقية العربية الجنوبية لقديمة كانت قد تأثرت بالمؤثرات الحضارية العراقية في بادئ الأمر، وذلك في أيام المكربين، ولكن تلك الحضارة كانت متماسكة وذات طابع خاص، أخذ من ظروف العربية الجنوبية، غير إنها أخذت تبتعد من بعد عن المؤثرات الحضارية العراقية منذ القرن الأول قبل الميلاد فما بعده، وتتقرب من مؤثرات حوض البحر المتوسط والمؤثرات الإيرانية، وذلك نتيجة اتصال الروم والرومان والفرس بالعربية الجنوبية، فظهرت حضارة عربية جنوبية جميلة، وأبنية حديثة، إلا إنها لم تكن في متانة الحضارة العربية الجنوبية القديمة وقوتها، وليست لها تلك الشخصية التي أسبغها الفنان العربي القديم في القرون السابقة للميلاد على أبنيته، فذهبت بذلك العناصر العربية الجنوبية الأصلية، وتراجعت، وطغى عصر التجديد أو التقليد البعيد على تلك الشخصية العربية القديمة في هذه البقاع.
ومن مواضع حضرموت، موضع عرف في الكتابات باسم "مشور"، وقد اشتهر بمعبده المسمى "سن ذ مشور"، أي "سين رب مشور"، وفي مكانه في الزمن الحاضر خرائب عادية تعرف باسم "صونة" و ب "حدبة الغصن". وقد عثر فيه على كتابات ورد فيها اسم هذا المعبد، كما عثر فيه على حجارة مزخرفة نقشت عليها صور حيوانات نقشت بصورة تدل على فن وبراعة وإتقان. ويرى بعض الباحثين إن هذه الزخارف تشبه الزخارف التي عثر عليها في معبد "حقه" "حقة"، ويقدر عمرها بحوالي القرن الثالث قبل الميلاد.

(1/841)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي أرض حضرموت مواضع قديمة حضرمية و سبئية ينسبها الناس اليوم إلى "عاد" "وثمود". فقي ملتقى "وادي منوة" بوادي ثقبة صخور مهيمنة على الوادي، وقد نقرت لتكون ملاجئ ومواضع للسكنى وربما جعلت ملاجئ للجنود يختبئون فيها ليهاجموا منها الأعداء الذين يخترقون الوادي و يرموهم بالسهام والحجارة. وعلى المرتفعات بقايا بيوت ومساكن، يظهر إنها كانت قرى آهلة قبل الإسلام، وعلى واجهة الوادي الصخرية كتابات دونت بلون أحمر، ظهر للسباح الذين رأوها انها كتابات سبئية، و إنها أسماء أشخاص، لعلها أسماء الجنود أو المسافرين الذين اجتازوا هذا المضيق.
وفي موضع "غيبون" على مقربة من "المشهد" خرائب يرى أهلها إنها من آثار "عاد". ويظن الآثاريون الذين رأوها إنها من بقايا مدينة "حميرية". وقد وجدوا فيها فنارا وزجاجا قديما وحجارة مكتوبة، وعلى مقربة منها موضع يقال له "مقابر الملوك". ونظرا إلى إنها في موقع حضرمي، يقع بين "القعيطي" و "الكثيري" "آل كثير" في الزمن الحاضر، فلا أستبعد إن يكون من القرى أو المدن الحضرمية.
وعلى مقربة من "تريم" خرائب جاهلية أيضا، ينسبها الناس إلى عاد. وهي من آثار معيد، وطريق كان معبدا يوصل إليه. وقد بني هذا المعبد على قمة تل وعنده آثار بيت وأحجار متناثرة قدت من الحجر، عليها مادة بناء توضع بين الأحجار لتشد بعضها إلى بعض.
وعند موضع "سون" "سونة" "سونه" خرائب تسمى "حدبة الغصن" تشبه خرائب "غيبون"، هي عبارة عن بقايا أبنية لعلها كانت قرى أو مدنا حجارتها متناثرة على سطح الأرض. ولا تزال بعض الأسس على وضعها، ترشد إلى معالمها. وقيل هذه الخرائب بقايا جدار كان متصلا بجانبي واد، يظهر إنه من بقايا سد بني في هذا المكان لحبس السيول والأمطار، للاستفادة منها عند انحباس المطر.

(1/842)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي حضرموت موضع آثاري، يسمى "حصن عر"، وهو بقية حصن جاسلي، لعله من حصون ملوك حضرموت، يظهر إنه أسس في هذا المكان لحماية المنطقة من الغزاة ولحفظ الأمن فيها. وقد كان الحصن عاليا مرتفعا فوق تل، ولا تزال بقايا بعض جدرانه وأواره ترتفع في الفضاء زهاء خمسين قدما. وهناك بقايا أبنية ومعالم طريق ضيقة توصل إلى ذلك الحصن الذي لا نعرف اسمه القديم.
و قد تمكن "فان دير م ويلن" Van Der Meulen و "فون وزمن" H. Von Wissmann من زيارة مواضع أثرية أخرى في حضرموت، مثل "المكنون" El-Mekenum، و "ثوبة" و "العر" وتقع آثار "مكنون" "المكنون" على مقربة من "السوم". وهناك أرض مكشوفة يزعم. المجاورون لها إنها أرض "عاد".
أما "ثوبة" أو "حصن ثوبة"، فإنه بقايا أبنية على قمة تل، يظهر إنه كان في الأصل حصنا لحماية المنطقة من الغزاة ولمنع الأعداء من الوصول إلى قرى مدن المنطقة ومدنها أو اجتياز الأودية للاتجاه نحو الجنوب. ولا تزال بقايا جدر الحصن مرتفعة عن سطح الأرض. وأما "العر"، فهو موضع حصن قديم أيضا بني لسكنى الجنود الذين يدافعون عن الأرضين التي بنيت فيها.
يظهر من آثار الحصون والقلاع الباقية في حضرموت إن مملكة حضرموت كانت قد حضت حدودها، وحمتها بحاميات عسكرية أقامت على طول الحدود لحمايتها من الطامعين فيها ولحماية الأمن الداخلي أيضا. وقد أقيمت هذه الحصون في مواقع ذات أهمية من الوجهة العسكرية، على تلال وقمم جبال ومرتفعات تشرف على السهول ومضايق الأودية حيث يكون في متناول الجنود إصابة العدو و إنزال الخسائر به، وبهذه التحصينات دافعوا عن حدود بلادهم.

(1/843)


--------------------------------------------------------------------------------

ويعد ميناء "سمهرم" المعروف ب "خور رورى"، وهو في "ظفار" عمان من الموانئ المعروفة التي كانت في القرن الأول للميلاد. ويرى بعض الباحثين إن مؤسسيه هم من الحضارمة، ولذلك كان من موانئ مملكة حضرموت. وقد عثرت البعثة الأمريكية لدراسة الإنسان على بقايا خزف، تبين لها من فحصه إنه مستورد من موانئ البحر المتوسط في القرن الأول للميلاد. ووجوده في هذا المكان يشر بالطبع إلى الاتصال التجاري الذي كان بين العربية الجنوبية وسكان البحر المتوسط في ذلك العهد.
قوائم حكام حضرموت
قائمة هومل
صدق آل "صدق ايل"، "صديق ايل"، وكان معاصرا للملك "أب يدع يثع" "أبيدع يثع"، ملك معين.
شهرم علن "شهر علن"، "شهر علان"، وهو ابن "صدق آل".
معد يكرب "معدي كرب".
.......................
سمه يفع "سمهو يفع" "سمهيفع"، ولا نعرف اسم والده.
يدع آل بين "يدع ايل بين"، وقد ورد اسمه مع اسم "السمع ذ بين بن ملك كرب "السمع ذبيان بن ملكيكرب" على انهما ملكا حضرموت.
امينم "أمينم"، "أمين".
يدع أب غيلن "يدع أب غيلان".
يدع آل بين "يدع ايل بين(،. Glaser 1623.
.......................
يدع أب غيلن "يدع أب غيلان".
العزيلط.
.......................
يدع أب غيلن "يدع أب غيلان".
.......................
سلفن "سلفان"، أو "علها ن" "الهان".
العزيلط: حكم حوالي سنة "29" بعد الميلاد.
.......................
رب شمس "ربشمس".
يدع آل بين.
.......................
نهاية حكومة حضرموت، وقد كانت في حوالي سنة "300" بعد الميلاد، في أيام "شمر يهرعش".
المكربون
اب يزع "أب يزع".
حي آل "حي ايل"، "حيو ايل".
قائمة "فلبي"
1 - صدق آل "صديق ايل"، ملك حضرموت و معن. وقد حكم على تقديره في حوالي سنة "1020" قبل الميلاد.
2 - شمر علن بن صدق آل "شهر علان بن صدق ايل"، وقد تولى الحكم في حوالي سنة "1000" قبل الميلاد.

(1/844)


--------------------------------------------------------------------------------

3 - معد يكرب بن اليفع يثع ملك معين، وقد تولى في حوالي سنة 980 قبل الميلاد.
ويرى "فلبي" إن "حضرموت" ألحقت بعد "معد يكرب" بمملكة معين، وقد ظلت تابعة إلى حوالي سنة ""650" قبل الميلاد.
4 - السمع ذ بين بن ملك كرب "السمع ذبيان بن ملكى كرب" "السمع ذبيان بن ملكيكرب".
5 - يدع آل بين بن سمه يرخ "يدع ايل بين سمهيفع"، وقد حكما من سنة "650" إلى سنة "590" قبل الميلاد.
ومنذ سنة "590" قبل الميلاد، أصبحت حضرموت على رأي "فلبي" جزءا من قتبان أو سبأ حتى سنة "180" قبل الميلاد.
6 - يدع آل بين ين رب شمس "يدع ايل بين بن ربشمس". وهو مؤسس أسرة ملكية جديدة في العاصمة "شبوة".وقد حكم في حدود سنة "180" قبل الميلاد.
7 - اليفع ريم بن يدع آل بين "اليفع ريام بن يدع ايل بين". وقد حكم في حوالي سنة "160" قبل الميلاد.
8 - يدع أب غيلن بن يدع آل بين "يدع أب غيلان بن يدع ايل بين". وقد حكم في حوالي سنة "140" قبل الميلاد.
9 - العز بن يدع اب غيلن "العز ين يدع أب غيلان" وشقيق "امينم" "امين". وقد حكم في حوالي سنة 120 قبل الميلاد.
10- يدع أب غيلن بن امينم "يدع أب غيلان ين أمين"، وقد حكم في حوالي سنة "100" قبل الميلاد.
11- يدع آل بين بن يدع أب غيلن "ي دع ايل بين بن يدع أب غيلان". وحكم في حوالي سنة "80" قبل الميلاد. وترك "فلبي" فجوة لم يعرف من حكم فيها جعلها بين سنة "60" وسنة "35" قبل الميلاد.
12- عم ذخر "عمذخر" ولم يرد في الكتابات اسم أبيه. وقد حكم في حوالي سنة "35" قبل الميلاد. وربما لم يتول الحكم.
13- العزيلط بن عم ذخر. وقد حكم في قرابة سنة "150" قبل الميلاد.
14- الهان "علهان" أو "سلفان" بن العزيلط. وقد حكم في حدود سنة "5" بعد الميلاد.
15- العزيلط بن الهان "علهان" أو "سلفان". وقد حكم من سنة "25" إلى سنة65 بعد الميلاد. وهو الملك Eleazos الذي ذكره مؤلف كتاب "الطواف حول البحر الأريتري".

(1/845)


--------------------------------------------------------------------------------

16- أب يزع "أبيزع" "أبيع" "أب يسع". وكان مكربا. من المحتمل إنه حكم في حوالي سنة "65" بعد الميلاد.
17- يرعش بن أب يزع. ربما حكم في حوالي سنة "85" بعد الميلاد.
18 - علهان "الهان" "105 -125" بعد الميلاد ?.
ويعد ميناء "سمهرم" المعروف ب "خور رورى"، وهو في "ظفار" عمان من الموانئ المعروفة التي كانت في القرن الأول للميلاد. ويرى بعض الباحثين إن مؤسسيه هم من الحضارمة، ولذلك كان من موانئ مملكة حضرموت. وقد عثرت البعثة الأمريكية لدراسة الإنسان على بقايا خزف، تبين لها من فحصه إنه مستورد من موانئ البحر المتوسط في القرن الأول للميلاد. ووجوده في هذا المكان يشر بالطبع إلى الاتصال التجاري الذي كان بين العربية الجنوبية وسكان البحر المتوسط في ذلك العهد.
قوائم حكام حضرموت
قائمة هومل
صدق آل "صدق ايل"، "صديق ايل"، وكان معاصرا للملك "أب يدع يثع" "أبيدع يثع"، ملك معين.
شهرم علن "شهر علن"، "شهر علان"، وهو ابن "صدق آل".
معد يكرب "معدي كرب".
.......................
سمه يفع "سمهو يفع" "سمهيفع"، ولا نعرف اسم والده.
يدع آل بين "يدع ايل بين"، وقد ورد اسمه مع اسم "السمع ذ بين بن ملك كرب "السمع ذبيان بن ملكيكرب" على انهما ملكا حضرموت.
امينم "أمينم"، "أمين".
يدع أب غيلن "يدع أب غيلان".
يدع آل بين "يدع ايل بين(،. Glaser 1623.
.......................
يدع أب غيلن "يدع أب غيلان".
العزيلط.
.......................
يدع أب غيلن "يدع أب غيلان".
.......................
سلفن "سلفان"، أو "علها ن" "الهان".
العزيلط: حكم حوالي سنة "29" بعد الميلاد.
.......................
رب شمس "ربشمس".
يدع آل بين.
.......................
نهاية حكومة حضرموت، وقد كانت في حوالي سنة "300" بعد الميلاد، في أيام "شمر يهرعش".
المكربون
اب يزع "أب يزع".
حي آل "حي ايل"، "حيو ايل".
قائمة "فلبي"

(1/846)


--------------------------------------------------------------------------------

1 - صدق آل "صديق ايل"، ملك حضرموت و معن. وقد حكم على تقديره في حوالي سنة "1020" قبل الميلاد.
2 - شمر علن بن صدق آل "شهر علان بن صدق ايل"، وقد تولى الحكم في حوالي سنة "1000" قبل الميلاد.
3 - معد يكرب بن اليفع يثع ملك معين، وقد تولى في حوالي سنة 980 قبل الميلاد.
ويرى "فلبي" إن "حضرموت" ألحقت بعد "معد يكرب" بمملكة معين، وقد ظلت تابعة إلى حوالي سنة ""650" قبل الميلاد.
4 - السمع ذ بين بن ملك كرب "السمع ذبيان بن ملكى كرب" "السمع ذبيان بن ملكيكرب".
5 - يدع آل بين بن سمه يرخ "يدع ايل بين سمهيفع"، وقد حكما من سنة "650" إلى سنة "590" قبل الميلاد.
ومنذ سنة "590" قبل الميلاد، أصبحت حضرموت على رأي "فلبي" جزءا من قتبان أو سبأ حتى سنة "180" قبل الميلاد.
6 - يدع آل بين ين رب شمس "يدع ايل بين بن ربشمس". وهو مؤسس أسرة ملكية جديدة في العاصمة "شبوة".وقد حكم في حدود سنة "180" قبل الميلاد.
7 - اليفع ريم بن يدع آل بين "اليفع ريام بن يدع ايل بين". وقد حكم في حوالي سنة "160" قبل الميلاد.
8 - يدع أب غيلن بن يدع آل بين "يدع أب غيلان بن يدع ايل بين". وقد حكم في حوالي سنة "140" قبل الميلاد.
9 - العز بن يدع اب غيلن "العز ين يدع أب غيلان" وشقيق "امينم" "امين". وقد حكم في حوالي سنة 120 قبل الميلاد.
10- يدع أب غيلن بن امينم "يدع أب غيلان ين أمين"، وقد حكم في حوالي سنة "100" قبل الميلاد.
11- يدع آل بين بن يدع أب غيلن "ي دع ايل بين بن يدع أب غيلان". وحكم في حوالي سنة "80" قبل الميلاد. وترك "فلبي" فجوة لم يعرف من حكم فيها جعلها بين سنة "60" وسنة "35" قبل الميلاد.
12- عم ذخر "عمذخر" ولم يرد في الكتابات اسم أبيه. وقد حكم في حوالي سنة "35" قبل الميلاد. وربما لم يتول الحكم.
13- العزيلط بن عم ذخر. وقد حكم في قرابة سنة "150" قبل الميلاد.

(1/847)


--------------------------------------------------------------------------------

14- الهان "علهان" أو "سلفان" بن العزيلط. وقد حكم في حدود سنة "5" بعد الميلاد.
15- العزيلط بن الهان "علهان" أو "سلفان". وقد حكم من سنة "25" إلى سنة65 بعد الميلاد. وهو الملك Eleazos الذي ذكره مؤلف كتاب "الطواف حول البحر الأريتري".
16- أب يزع "أبيزع" "أبيع" "أب يسع". وكان مكربا. من المحتمل إنه حكم في حوالي سنة "65" بعد الميلاد.
17- يرعش بن أب يزع. ربما حكم في حوالي سنة "85" بعد الميلاد.
18 - علهان "الهان" "105 -125" بعد الميلاد ?.
ولا نجد في الكتب العربية شيئا يستحق الذكر عن قتبان، والظاهر إن أخبارهم قد انقطعت قبل ظهور الإسلام بزمن، فلم نجد لهم من أجل هذا شيئأ في أخبار الجاهلية القريبة من الإسلام، كل ما ورد عنهم إنهم من قبائل حمير، وان هناك موضعا في عون يقال له "قتبان"، سمي بقتبان بطن من رعين من حمير، أو بقتبان بن ردمان بن وائل بن الغوث، مع إنه لا صلة في النسب بين حمير و قتبان في النصوص القتبانية أو الحمرية. وعندي إن هذا النسب إنما وقع بسب ضعف "قتبان" التي اندمجت بعد فقد استقلالها في حكومة سبأ "سبأ وذي ريدان" وهي الحكومة للتي يطلق عليها المؤرخون اسم "حمير"، وبسبب كون "حمير" القبيلة الرئيسية في اليمن عند ظهور الإسلام، وكان لها حكومة قاومت الأحباش وتركت أثرا في القصص العربية وفي قصة الشهداء النصارى الذين سنتحدث عنهم، لذلك عدت معظم القبائل التي كانت خاضعة لها من حمير،ونسبت إليها، وفي جملتها قتبان.

(1/848)

admin
12-26-2010, 01:46 PM
وقد دون اسم "قتبان" في الترجمة العربي لكتاب "حتي" "تأريخ العرب" "History of the Arabs" على هذا الشكل: "قطبان"، كما دون بهذه. الصورة أيضا في عدد من الترجمات لكتب غربية ظهرت حديثا، وهو خطأ بالبداهة فان النصوص العربية الجنوبية قد كتبت الاسم بالتاء "ق ت ب ن"، كما إن الكتب العربية قد ضبطت الاسم "قتبان"، ويظهر إن مترجمي الكتاب والكتب الأخرى قد حسبوا إن هذا الاسم أعجمي، ولا سيما بعد تردده في الكتب "الكلاسيكية"، فحاولوا جعله عربيا، فصيروا "التاء" "طاء" فصارت "قطبان" الواردة في كتابات المسند وفي الكتب العربية "قطبان". وهي هفوة لم أكن أرغب في الإشارة إليها في متن هذا الكتاب، لولا حرصي على صحة الأشياء لئلا يخطئ من لا علم له بهذه الأمور من القراء، أو الباحثين فيأخذها على الصورة التي دونت بها في هذه الترجمات.
والكتابات القتبانية تشارك الكتابات العربية الجنوبية الأخرى في إن غالبها قد كتب في أغراض شخصية، فهي لا تفيد المؤرخ في إخراج تأريخ منها. فهي في إصلاح أرض، أو شراء ملك، أو تعمير دار أو نذر، وما شابه. غير إننا نرى في الذي وصل إلينا منها إنه يمتاز عن غيره من الكتابات العربية الجنوبية بكثرة ما ورد فيه من نصوص رسمية تتعلق بالضرائب أو القوانين أو التجارة، بالقياس إلى ما ورد من مثله في الكتابات المعينية أو الحضرمية أو السبئية. وهي تشارك الكتابات الأخرى أيضا في خلوها من صيغة المتكلم أو المخاطب واقتصارها على صيغة الغائب، وتشاركها أيضا في خلوها من نصوص أدبية من شعر أو نثر، ومن نصوص دينية من أدعية وصلوات. وهو أمر يبدو غريبا، ولكننا لا نستطيع إن نحكم حكما قطعيا في مثل هذا، فما وصل الينا كثير، وما لم يصل إلينا كثير، والححكم بيد المستقبل.

(1/849)


--------------------------------------------------------------------------------

ويعود الفضل إلى السياح، وعلى رأسهم "كلاسر"، في حصول علماء العربيات الجنوبية على أخبارهم عن مملكة قتبان، فقد كانت الكتابات التي حصل عليها في رحلته إلى اليمن في سفره الرابع "1892 - 1894 م" أول كتابات قتبانية تصل إلى أوربة. و قد ذهب "هومل" في دراسته لها إلى أنها تعود إلى زهاء ألف سنة قبل الميلاد، القرن الثاني قبل الميلاد، و هو الزمن الذي انقرضت فيه مملكة قتبان على رأيه.
%175 و قد جمع منها اسم ثمانية عشر ملكا، حكموا المملكة. و أفادتنا دراسات "نيكولاوس رودو كناكس" "Nikolaus Rhodokanakis" و "دتلف نيلسن" "Ditlef Nielsen" للكتابات القتبانية فائدة كبيرة في كتابة تأريخ قتبان.
و قد ذهبت بعثة أمريكية علمية في عام 1949-1950م مؤلفة من طائفة من المتخصصين إلى "وادي بيحان" للتنقيب عن الآثار هناك، فزارت "تمنع" المدينة القتبانية القديمة، وعاصمة المملكة وبعض المواضع القريبة منها. وسوف يكون للنتائج التي تتوصل إليها بعد دراستها دراسة علمية كافية، أهمية كبيرة في توجيه تأريخ العرب قبل الإسلام.
وقد تبين من دراسة الكتابات القتبانية إن لهجتها أقرب إلى اللهجة المعينية منها إلى اللهجة السبئية، فهي تشترك مع المعينية مثلا في إضافة السين إلى أول الفعل الأصلي بدلا من الهاء الذي يلحق أول الفعل الأصلي في السبئية، ويقابل هذا في عربيتنا "أفعل" مثل "سحدث" في المعينية والقتبانية، و "هحدث" في السبئية، وفي أمور أخرى ترد في نحو اللهجات العربية الجنوبية.

(1/850)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد حاول الباحثون في العربيات الجنوبية وضع تقويم لحكومة قتبان، غير إنهم لم يتفقوا حتى الآن في تعيين مبدأ أو نهاية لهذه المملكة. ولما كانت هذه الحكومة قد عاصرت - كما جاء في الكتابات المعينية و السبئية - حكومة معين وحكومة سبأ، فقد توقف تعيين تأريخ قتبان أيضا على تثبيت تأريخ هاتين الحكومتين وعلى البحوث "الأركيولوجية" والكتابات. وقد رجع "هومل" تاريخها إلى ما قبل سنة "1000" قبل الميلاد، ووضع "البرايت" تأريخ "هوف عم يهنعم" وهو من قدماء "المكربين" في القرن السادس قبل الميلاد. وهو يلي "سمه علي" في الترتيب. و "سمه علي" هو أقدم "مكرب" يصل خبره الينا، وقد رجع "فلبي" أيامه إلى حوالي سنة 865 قبل الميلاد. وذهب "ملاكر" إلى إن ابتداء حكم "قتنان" كان في حوالي سنة "645 ق.م." وأن نهاية استقلالها ا كان في القرن الثالث قبل الميلاد.
ومن علماء العربيات الجنوبية الذين عنوا بتبويب أسماء حكام "قتبان" وتصنيفها تصنيفا زمنيا، "كروهمن"، و "دتلف نلسن". و "ويبر"، و "هارتمن" 7 و "البرايت"، و "فلبي"، وغيرهم، ويختلف هؤلاء في كثير من الأمور: يختلفون في مبدأ قيام قتبان، وفي ترتيب الملوك وفي مدد حكمهم، كما يختلفون في نهاية هذه الحكومة. فبينما يرى "كلاسر" إن نهاية هذه الدولة كانت بين "200" و "24 ق. م." وريما كان قبل ذلك. يرى غيره إن هذه النهاية كانت بعد الميلاد، وربما كان في حوالي ستة "200" بعد ميلاد المسيح. ويرى "البرايت" إن نهايتها كانت على أثر خراب مدينة "تمنع" واحراقها كما يتبين ذلك من طبقات الرماد الكثيفة التي عثر عليها في أنقاضها، وكان ذلك في حوالي سنة "50ق. م.". وقد ذهب "ريكمنس" إن نهاية مملكة "قتبان" كانت في حوالي السنة "210" أو "207" للميلاد.
أما "فون وزمن"، فذهب إلى إن نهايتها كانت في حوالي السنة "140" أو "146" بعد الميلاد.

(1/851)


--------------------------------------------------------------------------------

والرأي عندي إن الوقت لم يحن بعد للحكم بأن المكرب الفلاني أو الملك الفلاني قد حكم في سنة كذا أو قبل هذا أو ذاك، لأننا لا نزال نطمع في العثور على أخبار حكام لم تصل أسماؤهم إلينا، لعلها لا تزال في بطن الأرض، كما إن ما عثر عليه من كتابات لا يبعث أيضا على الاطمئنان، فإنها لا تزال قليلة، وقد وردت فيها بعض أسماء للحكام بدون نعوت، تهشمت نعوتها، أو سقط قسم منها، ووردت في بعض الكتابات كاملة مع نعوتها، ووردت في بعض آخر مع نعوتها، غير إنها لم تذكر اللقب الذي كان يلقب به أبو الملك أو ابنه، فأحدث ذلك ارتباكا عند الباحثين سبب زيادة في العدد أو نقصانا، و أحدث خطأ في رد نسب بعضهم إلى بعض، لهذه الأسباب أرى التريث وعدم التسرع في إصدار مثل هذه الأحكام.
وأرى إن خير ما يستطاع عمله في الزمن الحاضر هو جمع كل ما يمكن جمعه من أسماء حكام قتبان على أساس الصلة والقرابة وذلك بأن يضم الأبناء و الأخوة إلى الأباء، على هيأة جمهرات، ثم تدرس علاقة هذه الجمهرات بعضها ببعض، وترتب سلى أساس دراسات نماذج الخطوط التي وردت فيها أسماء الحكام، وطبيعة الأحجار التي حفرت الحروف عليها، والأمكنة التي وجدت فيها، أكانت من سطح الأرض أم بعيدة عنه، وأمثال ذلك لتكوين أحكامنا منطقية علمية تستند إلى دليل. ولانتفاء ذلك، أصبحت القوائم التي وضعها علماء العربيات الجنوبية لحكام قتبان أو حضرموت أو معين، قوائم غير مستقرة في نظري، ومن أجل ذلك لا أميل إلى ترجيح بعضها على بعض ما دامت غير مبوبة على الأسس التي ذكرتها، ولا يمكن إن تبنى على هذه الأسس ما دامت البعثات العلمية غير متمكنة من القيام بحفريات علمية منظمة عميقة، تدرس طبقات التربة وما يعثر عليه، دراسات آثارية دقيقة من كل الوجوه.

(1/852)


--------------------------------------------------------------------------------

و أني إذ أذكر حكام قتبان، لا أتبع في ذلك قائمة معينة، لأني لا أرى إنها قد رتبت ترتيبا تأريخيا يطمئن إليه، ولا أستطيع إن أخطئ أحدا في الأسلوب الذي اتبعه في ترتيبه. و سبيلي إن أذكر المكربين ثم الملوك، وان أشير بعد ذلك إلى الكتابات المدونة في أيامهم وما ورد فيها من أمور. فإذا قدمت أو أخرت فانما أسير برأيي الخاص، لا أتبع رأي أحد من الباحثين الذين عنوا بترتيب أسماء حكام قتبان. وقد رجحت ذكر بعض قوائمهم، ليطلع عليها القراء، وليروا ما فيها من مطابقات ومفارقات.
حكام قتبان
وجد من دراسة الكتابات القتبانية إن حكام قتبان الأول كانوا يلقبون أنفسهم باللقب الذي تلقب به حكام "سبأ" الأول نفسه وهو لقب "مكرب". وتترجم هذه الكلمة بكلمة "مقرب" في لهجتنا، وتعبر "كرب" "قرب" عن التقرب إلى الآلهة. فالمكرب هو المقرب إلى الآلهة والشفيع إليها والواسطة بينها وبين الإنسان. وهو كناية عن الكاهن الحاكم الذي يحكم باسم الآلهة التي يتحدث باسمها وتقابل "باتيسي" "Patesi" في إلاكادية و "اشاكو" "Ischschakku" في الآشورية.
وقد كان هؤلاء المكربون يحكمون في جماعتهم وطوائفهم حكما يشبه حكم "قضاة بني إسرائيل". فلما توسع سلطان "المكرب"، و تجاوز حدود المعبد، ولم يعد حكما دينيا فقط، بل انصرف الحكم إلى خارج المعبد، وصدر حكما زمنيا، لقب نفسه بلقب "ملك"، ومن هنا صارت طبقة الملوك متأخرة بالنسبة إلى طبقة المكربين، أي إن المكربين هم أقدم من الملوك.

(1/853)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن قدماء مكربي قتبان -على رأي أكثر علماء العربيات الجنوبية - المكرب "سمه علي وتر"، وابنه "هوف عم يهنعم". وقد عثر على كتابات من أيام "سمه علي وتر" كتبت بشكل حلزوني يبدأ السطر منها من جهة اليمين إلى جهة اليسار ثم يبدأ السطر الثاني من جهة اليسار وينتهي في جهة اليمين، وهكذا. فقارئ الكتابة يقرأ السطر الأول من اليمن على في ما نقرأ في العربية، غير إنه يقرأ السطر الثاني من جهة اليسار متجها في اليمين، أي على طريقة الكتابة اللاتينية، ويقال لهذا النوع من الكتابات في الإنكليزية "Boustrophedon Inscriptinas" وتعد في نظر علماء الخط و الآثار أقدم عهدا من الكتابات الأخرى التي تسير على نسق واحد من اليمين إلى اليسار، أو من اليسار إلى اليمين. ويرى "البرايت" إن هذا المكرب قد حكم في القرن السادس قبل الميلاد. وجعله "فلبي" في حوالي سنة "845 ق. م.".
ولم يذكر "فلبي" في قائمته التي صنعها ووضعها في ذيل كتابه "سناد الإسلام" اسم والد المكرب "سمه علي"، ولا كنيته، ولم يذكر "البرايت" في القائمة التي ألفها لحكام "قتبان" اسم والده أيضا، غير إن هنالك نصا قبانيا ورد فيه "هوف عم يهنعم بن سمه علي وتر، مكرب قتبان، بن عم".و"سمه علي" في هذا النص، هو هذا المكرب الذي. نتحدث عنه، ووالده إذن هو "عم" وقد سقط لقبه من النص بسبب كسر أو تلف حدث في الكتابة، لأن من عادة ملوك العرب الجنوبيين اتخاذ الألقاب.
وقد وصلت إلينا كتابات قتبانية، ورد فيها ذكر "هوف عم ينعم"، "هوفعم يهنعم"، سها الكتابات التي وسمت ب "Glaser 1117,1121,1333,1344,1345"، وهما من الكتابات المزبورة على الطريقة الحلزونية "Boustrphedon Inscription".

(1/854)


--------------------------------------------------------------------------------

وجاء بعد "هوف عم يهنعم" في قائمة "فلبي"، اسم "شهر يجبل يهرجب" "شهر يكل يهركب"، وهو ابن "هوف عم يهنعم"، و قد جعله ملكا، حكم على رأيه في حوالي سنة "825 ق. م."، وذكر إنه فتح معينا. وكان له من الأولاد "وروال غيلن يهنعم" "وروايل غيلان يهنعم"، و قد لقب بلقب "ملك". و "فرع كرب يهوضع" "يهودع". ثم ذكر "فلبي" اسم "شهر هلل" "شهر هلال" بعد "فرع كرب يهودع"، جاعلا حكمه في حوالي سنة "770 ق. م."، وقد كان ملكا على قتبان. وهو ابن "ذرأ كرب". ثم نصب "يدع اب ذ بين يهرجب" "يدع أب ذبيان يهركب"، من بعده، وقد كان حكمه - على رأيه - في حوالي سنة "750 ق. م."، وقد جعله مكربا وملكا. ثم ترك فراغا بعده، مكتفيا بالإشارة إلى إن الذي تولى بعده هو أحد أبنائه، و لم يشر إلى اسمه، وقد قدر إنه حكم من سنة "735 ق. م." حتى سنة "720 ق. م."، ثم جعل من بعده ملكا سماه "شهر هلل يهنعم" "شهر هلال يهنعم"، وهو أحد أبناء "يدع اب ذبين يهرجب" "يدع أب ذبيان يهركب"، وقد حكم - على رأيه - حوالي سنة "720 ق. م."، ثم خلفه "يدع أب ينف" أو "يجل يهنعم بن ذمر علي" وقد يكون - على حد قوله أيضا- شقيقا ل "لشهر هلال بن يدع أب ذبيان يهركب" وقد كان حكمه في حوالي سنة "680 ق. م.".

(1/855)


--------------------------------------------------------------------------------

وترك "فلبي" فراغا بعد الملك المتقدم، كناية عن حكم ملك لم يصل اسمه إلينا، حكم في حوالي سنة "660 ق. م." حتى سنة "640 ق. م." حيث دون بعده اسم ملك سماه "سمه وتر" لم يذكر لقبه الثاني ولا اسم أبيه. ثم ذكر. بعده اسم ملك آخر، سماه "وروال" "وروايل"، لم يذكر لقبه، يتصور إنه ابن "سمه وتر"، وقد جعل حكمه في حوالي سنة "620 ق.م.". ثم ترك "فلبي" فجوة قدرها بنحو من عشر سنين بين الملك المتقدم والملك الذي تلاه، ثم ذكر بعدها اسم ملك سماه "آب شبم" "أب شبم"، لم يعرف اسم أبيه، وقد حكم - على تقديره - في حوالي سنة "590ق. م."، وذكر بعده اسم "اب عم" "أبعم" "أب عم"، وهو ابن "اب شبم"، وقد كان حكمه في حوالي سنة "570ق. م." تلاه في الملك على - رأي "فلبي" - الملك "شهر غيلن" "شهر غيلان"، وهو ابن "أبشم" "اب شيم"، وقد حكم من سنة "555ق. م." إلى سنة "540ق.م.". وفي هذه السنة، أي سنة "540ق. م." كانت نهاية مملكة قتبان، فاندمجت - على رأيه - في مملكة سبأ، وصارت جزءا منها.
هذه هي قائمة حكام قتبان، من مكربين وملوك على وفق رأي "فلبي"، ويلاحظ إنه وضع مددا لحكم كل مكرب أو ملك تراوحت من خمس وعشرين سنة إلى عشر سنين. فامتد أجل هذه الحكومة بحسب قائمته من سنة "865" قبل الميلاد إلى سنة "540" فبلى الميلاد. وتقديراته هذه هي تقديرات شخصية، لا تستند إلى كتابات قتبانية ولا غير قتبانية، و إنما هي رأي شخصي واحد، ومن هنا اختلف في مذهبه هذا عن مذاهب الباحثين الآخرين في مدد حكم ملوك قتبان، وكلهم مثله يستندون في أحكامهم إلى آرائهم وتقديراتهم الشخصية، ولا يوجد بينهم من وجد نصا فيه تأريخ مرقوم ثابت لأحد من هؤلاء الحكام، يستند إليه في تثبيت حكم مكربي وملوك قتبان. ونرى مما تقدم إن "فلبي" جعل عدد من عرفهم من حكام قتبان سبعة عشر رجلا.

(1/856)


--------------------------------------------------------------------------------

أما البرايت، فقد ترك فراغا، ولم يحدد مدته بعد "هوف عم يهنعم"، ثم ذكر بعده اسم مكرب دعاه "شهر"، ولم يشر إلى لقبه ولا إلى اسم أبيه، وذكر بعده اسم "يدع أب ذبين يهنعم" "يدع أب ذبيان يهنعم"، قال إنه ابن "شهر"، وقد كان مكربا، وذكر بعده اسم ابن له يقال له "شهر هلل يهو.."، "شهر هلال يهو.."، وقد صار مكربا بعد وفاة أبيه "يدع اب ذبيان يهنعم". وقد سقط حرفان أو ثلاثة أحرف من لقب "شهر هلال" الأخير فصار "يهو"، ولعله "يهودع" أو "يهنعم" في الأصل.
وترك "البرايت" فراغا بعد "شهر هلال يهو.."، ذكر بعده اسم "سمه وتر"، قال: إن من المحتمل إن يكون هو المكرب الذي هزمه ""يثع أمر وتر" مكرب "سبأ". ثم ترك فراغا آخر ولم يحدد مدته، ثم ذكر إن من المحتمل إن يكون قد تولى الحكم بعد هذه الفترة مكرب آخر هو "وروايل" ولم يشر إلى لقبه، وقد كان تابعا ل "كرب ايل وتر" أول ملك من ملوك سبأ، وقد حكم - على تقديره - حوالي سنة "450 ق. م.".
وترك "ألبرايت" فراغا بعد اسم "وروايل" يشير إلى وجود فجوة لم يعرف من حكم فيها، ثم ذكر مكربا آخر سماه "شهر"، ولم يذكر لقبه، ثم ذكر اسم ابنه بعده وهو "يدع أب ذبيان"، قال إنه آخر مكرب وأول ملك في قتبان، و قد ترك عددا من الكتابات، ومنها كتابة عثر عليها خارج الباب الجنوبي لمدينة "تمنع"، وقد حكم - على رأيه - في نهاية القرن الخامس قبل الميلاد، وتولى ابنه من بعده "شهر هلال" "شهر هلل" ثم "نبط عم" ابن "شهر هلال". ويحتمل إن يكون "يدع أب ذبيان" هذا - حسب رأيه - هو باني ذلك الباب.
نرى إن قائمة "البرايت" قد كتبت اسم "شهر" وابنه وحفيده مرتين، وأشار هو نفسه إلى إن من الممكن إن يكون ذلك من باب التكرار، غير أنه ذكر من جهة أخرى إنه ما دامت الأدلة التي تثبت هذا التكرار غير متوافرة، فإنه يسجل هذه الأسماء على هذا الوضع، فلعل أسماء هذه المجوعة المتشابهة هي لأشخاص آخرين، إلى إن يثبت بالدليل خلاف ذلك.

(1/857)


--------------------------------------------------------------------------------

وترك "ألبرايت" فراغا بعد "نبط عم" "نبطعم"، ذكر بعده "ذمر علي"، ثم ابنه "يدع أب يبل" "يدع أب يكل"، ويرى "ألبرايت" إنه كان معاصرا لثلاثة ملوك من ملوك سبأ، عاشوا في القرن الرابع قبل الميلاد، ولم يستبعد احتمال كونهم من رجال القرن الثالث قبل الميلاد، حينما كانت سبأ مجزأة منقسمة على أمرها.
وقد كانت معظم أرض حمير خاضعة في هذا العهد للقتبانيين. وقد يكون هذا هو السبب الذي جعل الحميريين ينعتون أنفسهم ب "ولد عم"، لأن "عما" هو إله القتبانيين. و "ولد عم" تعني "أولاد عم" و "شعب عم".
وترك "ألبرايت" فراغا بعد الملك "يدع أب يكل"، ذكر بعده ملكا سماه "اب شبم"، "ابشبام" "أب شبام"، ولم يذكر اسم أبيه ولا نعوته، ثم ذكر بعده الملك "شهر غيلن" "شهر غيلان"، قال إنه ابن "أبشبام"، وإن المنقبين قد عزوا على كتابات عديدة من أيامه، منها كتابة عثر عليها عند الباب الجنوبي لمدينة "تمنع". ثم ذكر بعده ملكا آخر سماه "بعم" وهو ابن الملك السابق، أي "شهر يخلان"، ثم الملك "يدع أب يبل" "يدع أب يكل"، وهو شقيق "بعم"، ثم نصب "ألبرايت" بعده الملك "شهر يجل" "شهر يكل"، قال إنه ابن الملك "يدع أب"، وإنه صاحب جملة كتابات وفاتح معين في حوالي سنة "300 ق. م.". ثم ذكر الملك "شهر هلل يهنعم" "شهر هلال يهنعم" من بعده، وهو شقيق "شهر يجل" "لشهر يكل"، وقد تركت أيامه جملة كتابات، منها كتابة عثر عليها عند باب مدينة "تمنع" الجنوبي.

(1/858)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذهب "ألبرايت" إلى إن حكم الأسرة أو المجموعة المتقدمة قد كان فيما بين "350" و "250 ق. م.". وهو لا يدري من حكم بعد "شهر هلال" آخر ملوك هذه المجموعة، ولذلك ترك فراغا، انتقل بعده إلى مجموعة جديدة من الملوك، وضع على رأسها "ندع أب ذبين يهرجب" "يدع أب ذبيان يهركب"، وقال إنه لا يرى إن وضع هذا الملك في هذا المكان هو من قبيل التأكد، وإنما يرى إن ذلك شيء محتمل، ثم ترك فراغا آخر بعد هذا الملك يشعر إنه لا يدري من حكم فيه، ثم ذكر بعد هذا الفراغ الملك "فرع كرب" ثم ابنه "يدع أب غيلن". "يدع أب غيلان". وقد ذكر إن في أيامه بني "بيت يفش" المذكور في كتاب قتبانية، وأن ذلك كان في أواخر القرن الثاني قبل الميلاد.
وترك "البرايت"، فراغا بعد "يدع اب غيلان"، ذكر بعده الملك "هوف عم يهنعم" "هو نعم يهنعم"، وقد جعل حكمه في حوالي سنة "150 ق. م.". ثم ذكر ابنا له حكم - على رأي "البرايت" - من بعده سماه "شهر يجل يهرجب" "شهر يكل يهركب"، وإلى ايامه تعود الأسود المصنوعة من البرنز التي عثر عليها في أنقاض "تمنع"، والكتابة المتعلقة ببناء حصن الباب الجنوبي للعاصمة. وكتابة بناء "بيت يفش". ثم ذكر "وروال غيلن يهنعم" "وروايل غيلان يهنعم" من بعده "وهو ابن "شهر يكل يهركب" وقد عثر على قطعة نقد ضربت في مدينة "حريب"، تحمل اسم "وروايل غيلن"، يرى "البرايت" احتمال كونها تعود إليه. وذكر بعده الملك "فرع كرب يهودع" "يهوضع"، وهو ابن الملك "شهر يكل، وشقيق "وروايل غيلان".

(1/859)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ترك "البرايت" بعد "فرع كرب يهودع" "يهوضع" فراغا يشير إلى إنه لا يعرف من حكم بعد ذلك الملك، ثم ذكر بعد هذا الفراغ ملكا آخر سماه "يدع اب ينف" "يدع اب ينوف". وقد عثر على نقود له ضربت من ذهب في "حريب". ولا يعرف "البرايت" اسم من حكم بعده، لذلك ترك فراغا، ذكر بعده ملكا سماه "ذراكزب" "ذرأكرب"، ولم يذكر نعته ولا اسم أبيه، وقد جعل بعده ابنه "شهرو هلل يهقبض" "شهر هلال يهقبض"، ويرى احتمال كونه "شهر هلل" "شهر هلال"، الذي أمر بضرب نقد من ذهب في "حريب". وبه ضمت قائمة "البرايت" لحكام قتبان من مكربين وملوك إذ ذكر بعد اسمه خراب "تمنع" العاصمة ونهاية استقلال قتبان، وذلك في حوالي سنة "50" قبل الميلاد.
ويرى "البرايت" إن "شهر هلال يهقبض" هذا هو الذي بنى البيت المسمى "بيت يفعم" "بيت يفع"، الذي عثر على أطلاله وأسسه عند باب المدينة الجنوبي.
وتعد هذه الفترة القريبة من الميلاد هي أهم المراحل الحاسمة في تأريخ قتبان، في رأي "البرايت"، إذ فيها كان سقوط الحكم الملكي وزواله عنها، ودخولها في حكم مملكه "معين"، أو دخول قسم منها في حكم معين، وقسم آخر في حكم مملكة السبئيين.
ويرى "البرايت" إن عاصمة قتبان كانت قد تعرضت قبل الميلاد لغزو أليم، وقد استدل عليه من وجود طبقة من الرماد تغطي أرض للعاصمة، وقد فسر هذا بسقوط المدينة فريسة لنار أججها في المدينة ملك، لم نقف على اسمه حتى الآن، ولا على الأسباب التي حملته على إحراق المدينة أو إحراق أكثرها.
ويرى "البرايت" أيضا إن مملكة حضرموت كانت قد اغتصبت جزءا من مملكة قتبان، وذلك بعد سقوط "تمنع" في القرن الأول للميلاد. وقد كانت مملكة حضرموت، ومعها مملكة سبأ، من أهم الممالك في العربية الجنوبية في هذا العهد ومنذ القرن الأول للميلاد فما بعده، فقد القتبانيون استقلالهم واندمجوا في حكومة "سبأ وذي ريدان" في النهاية.

(1/860)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عثر على كتابة في "وادي بيحان"، ورد فيها "يدع اب غيلان بن غيلان ملك حضرموت بنى مدينته مدينة: ذي غيلان". وذهب شراء هذه الكتابة إلى إن مدينة "ذي غيلان"، هي مدينة بناها هذا الملك في "وادي بيحان" على مسافة عشرة أميال من موضع "بيحان القصب" في الزمن الحاضر أي في أرض قتبانية، وذلك بعد سقوط مدينة "تمنع". وقد عثر على كتابتين حضرموتيتين أخري ين في هذا الوادي، وردت فيها أسماء ملوك حضرميين.
كتابات وحوادث قتبانية
أحاول هنا تدوين الحوادث التي وقعت في قتبان في أيام المكربين وأيام الملوك مستخلصا إياها من كتابات العهدين، فابدأ بالبحث في الكتابات التي يرجع عهدها إلى المكربين. وفي جملة الكتابات أيام "المكربين" كتابة وسمها العلماء ب "Galser 1410-1681"، وقد، 1 دونت عند قيام قبيلة "هورن" "هوران" ببناء بيت في أرضها للإله "عم ذو دونم"، بنته بالخشب وبالحجارة والرخام ومواد أخرى، تقربا إلى ذلك الإله وإلى آلهة قتبان الأحرى: "عم" و "أنبي" و "ذات صنتم" و "ذات ظهران". وقد وردت في النص أسماء مواضع هي: موضع "لتلك" الواقع في منطقة "ذبحتم" "ذبحة"، و "دونم" "دون" و "إذ فرم" "إذ فر". وقد سقط منة السطر. الأول اسم "المكرب" وبقي اسمه الثاني وهو "ذبين" "ذبيان"، ولقبه وهو "يهنعم"، واسم أبيه وهو "شهر". ويظهر من عبارة: "ذبين يهنعم بن شهر، مكرب قتبن وكل ولدعم واوسن وكحد ودهسم و"تبنو بكر انبي وحوكم". أي ".. ذبيان يهنعم بن شهر مكرب قتبان وكل ولدعم واوسان وكحد ودهس وتبنو بكر أنبي وحوكم" إن قتبان وكل المتعبدين للإله "عم" الذي يمثله مكرب قتبان نفسه والأوسانيون وكحد ودهس وتبنى كانوا متحدين في ذلك العهد متحالفين، يحكمهم المكرب المذكور.

(1/861)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد رأينا إن "ألبرايت" جعل هذا المكرب في الجمهرة الثانية من جمهرة المكربين الذين حكموا قتبان، ولم يذكر شيئا عن أبيه "شهر" لعدم ورود شيء عنه في الكتابات. أما اسم المكرب الأول الساقط من النص، فهو ""يدع اب".
وفي أسماء المواضع المذكورة دلالة على إنها كانت خاضعة لحكم قتيان في أيام المكرب المذكور. وأن حدود قتبان كانت واسعة إذ ذاك أي في القرن السابع قبل الميلاد على رأي بعض الباحثين أو في النصف الثاني من القرن الخامس قبل الميلاد على رأي بعض آخر.
وقد عثر على اسم المكرب "شهر هلل بن يدع اب" "مكرب قتبان" في كتابتين، رقمتا برقم "RES 312" و،"Res 312 + SE60". و قد ورد فيهما اسم "أنبي" و "حوكم" و "عم" من أسماء.آلهة قتبان. وورد فيها أسماء مواضع مثل: "لتك"، و "ذبحتم" و "اضفرم"، وقبيلة أو جماعة تعرف به "هورن" "هوران" . و كان سبب تدوينها التوسل والتضرع إلى الإله "أنبي" ليمن على أصحاب الكتابتين فيبعث إليهم بالخير والبركة، ويقيهم شر المجاعة. والظاهر إن قحطا كان قد حدث في أيام هذا المكرب فتوسل أصحاب الكتابة إلى إلههم "أنبي" إن يمن عليهم بإنقاذهم منه.
ويلاحظ إن هذه الكتابة تحدثت عن موضع "لتك" في "ذبحة" التابعة لقبيلة "هورن" من قبائل قتبان، إلا إنها لم تذكر "قتبان وولد عم وأوسان وكحد ودهس" كما جاء ذلك في النص السابق. وقد سقط من هذه الكتابة "شهر هلل" "شهر هلال"، كما إنها لم تذكر لقب "يدع اب" مكرب قتبان وهو والد "شهر". ولا نستطيع بالطبع الادعاء لي إنه كان أقدم من المكرب السابق أو إنه جاء من بعده في الحكم لعدم وجود دليل ملموس لدينا يثبت أحد الرأيين.

(1/862)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عثر على عدد من الكتابات القتبانية، ورد فيها اسم المكرب: "يدع اب ذبين بن شهر" "يدع أب ذبيان بن شاهر" "شهر". منها الكتابة الموسومة برقم "Glaser 1600". وقد جاء فيها: إن "ي دع أب ذبين بن شهر مكرب قتبان، وكل أولاد عم وأوسان وكحسد ودهسو وتبني" فتحوا طريقا، و انشأوا "مبلقة" بين موضعي "برم" و "حرب" "حريب"، وجددوا "بيت ود" و "عثيرة"، وبنوا "مختن" في موضع "قلي". ووردت في هذه الكتابة أسماء، آلهة أخرى، هي عثتر، وعم، وأني، وحوكم، وذات صنتم، وسحرن، ورحبن.
وقد وردت في الكتابة لفظة "منقلن"، و يراد بها الطريق في الجبل. وهي بهذا المعنى أيضا في معجمات اللغة التي نزل بها القرآن الكريم. و وردت فيه لفظة "مبلقة"، و معناها فتحة وثغرة، وهي بهذا المعنى في عربيتنا كذلك، يقال انبلق الباب إذا انفتح، وأبلق الباب: فتحه كله أو أغلقه بسرعة، ومعنى الكلمة في النص عمل ثغرة في الجبل ليمر منها الطريق المار في الجبل من كان إلى مكان. وفي هذا العمل المشترك الذي اشترك فيه هذا المكرب وشعب قتبان وقبائل أخرى غير قتبانية، هي أوسان وكحد ودهس و تبني، دلالة على وجود فن هندسي راق عند العرب الجنوبيين في هذا العهد الذي لا نعرف مقدار بعده عن الميلاد، ولكننا نجزم إنه كان قبل الميلاد.

(1/863)

admin
12-26-2010, 01:47 PM
ولدينا كتابة أخرى تشبه الكتابة المقدمة، دونت في أيام هذا المكرب كذلك. ورد فيها بعد اسم المكرب جملة: "وكل ولد عم"، ثم أسماء من ساعد "ولد عم" في إباء، وهم "أوسان" و "كحد" "ودهس" "وتبني" و "يرفأ"، ثم وليت هذه الأسماء جملة "ايمنن واشامن"، أي "الجنوبيون والشماليون"، وبعبارة أخرى "أهل الجنوب وأهل الشمال"، ويقصد بذلك على ما يظهر من سياق الكلام سكان المناطق الشمالية وسكان الجنوب. أما جملة "ولد عم" فإنها كناية عن أهل "قتبان". و "عم" هو إلا "قتبان" الرئيس، ولذلك أطلق القتبانيون على أنفسهم "ولد عم". ويفهم من ذكر أسماء القتبانيين وغيرهم في هذه الكتابة إن العمل المذكور في الكتابة كان ضخما واسعا، لذلك اشترك في اتمامه و إنجازه أهل أوسان والقبائل الأخرى. ولم يتحدث النص عن كيفية اشتراك اوسان و القبائل الأخرى المذكورة في هذا العمل: أكان ذلك لأنها كانت خاضعة في وقت تدوين هذه الكتابة لحكم المكرب "يدع أب" فاضطرت إلى الاشتراك فيه، أم هي قامت به بالاشتراك مع قتبان لأنه في مصلحتها، لأنها ستستفيد منه كما يستفيد منه القتبانيون، فتعاونت مع قتبان في إنجازه و إتمامه.
والكتابة وفي ثيقة مهمة تتحدث عن عمل هندسي مهم خطير، هو فتح طريق جبلي في مناطق وعرة وفي أرضين جبلية، فاستوجب العمل تمهيد الأرض وتسويتها و إحداث ثغر في الصخور وفتح أنفاق ليمر بها الطريق. وقد كرس العمل باسم الآلهة "عم ذو شقرم" و "عم ذو ريمت" و "أنبي" و "حوكم" و "ذات صنتم" و "ذات ظهران" و "ذات رحبان"، وتقرب به إليها. وقام به وأشرف عليه رجل اسمه "أوس عم بن يصرعم" "أوسم بن يصرعم" "أوس بن يصرع"، أدار هذا الرجل العمل، ورسم الخطط وقام برصف الطريق وتبليطه ورصف ممر "ظرم" بصورة خاصة بطبقة سميكة من الحجارة. وقد قام بكل ذلك بأمر سيده المكرب "يدع اب".

(1/864)


--------------------------------------------------------------------------------

ونحن هنا أمام رجل كان له علم خاص بهندسة المطرق وله تجارب ودراية في أحداث الثغر في الصخور و إنشاء الممرات و المناقل للقوافل والمارة في المناطق الوعرة ولهذا كلفه حاكم قتبان القيام بذلك العمل، فأنجزه وأتمه على النحو الموصوف.
وكان "اوس عم بن يصرعم" من قبيلة تسمى "مدهم".
وقام المهندس المعماري المذكور بأعمال هندسية أخرى لسيده المكرب، فقد جاء في نص آخر إنه شق طرقا وثنايا في مواضع جبلية وعرة، وحفر انفاقا تمر السابلة منها، وبنى أيضا "بيت ودم"، أي معبد الإله "ود"، و "مختن ملكن بقلي"، أي "مختن الملك" بموضع "قلي". وقد سبق إن أشير إلى هذا "المختن" في النص "Glaser 1600" الذي تحدثت عنه قبل قليل، وهو من النصوص التي تعود إلى هذا المكرب نفسه. والتي تتحدث عن فتح طريق وبناء "بيت ود" و "مختن الملك بقلي"، إلا إنه لم يذكر اسم "المهندس" الذي أشرف على العمل في النصر الموسوم ب "Glaser 1600".
وليست لدينا معرفة تامة بمعنى "مختن"، الواردة في النصين المذكورين، وقد ذهب بعض الباحثين إلى انها من الألفاظ المستعملة في الشعائر الدينة، و إنها تؤدي معنى محرقة، أو الموضع الذي توضع عليه القرابين التي تقدم إلى الآلهة أو المذبح الذي تذبح فيه الضحايا، فهي بمعنى "يبحت" و "ومنطف" و "منطفت" "منطفة". وذلك لورود هذه الألفاظ في كتابات تتعلق بالقرابين، كما سأتحدث عنها في فصل "الحياة الدينية عند الجاهليين".
ويظهر إن لاسم قرية "شقير" و "حصن شقير" الموجودتين في اليمن في الوقت الحاضر، علاقة بمعبد "عم ذو شقرم" الذي تقرب صاحب النص المذكور إليه ببناء الطريق ورصفه، وقد كان "شقرم" موضع في ذلك الوقت أقيم به معبد خصص بعبادة الإله "عم". ولعل الطريق الذي في شيده "يدع أب ذبيان" كان يمر به، وأنه أوصل إليه ليسهل على المؤمنين الوصول إليه، فكرس الطريق لذلك بأسمه فذكر قبل بقية الآلهة، تعبيرا عن هذا التخصيص.

(1/865)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرى بعض الباحثين إن ملك قتبان كان قد توسع في عهد "يدع أب ذببان" هذا فصار يشمل كل "أوسان" و قتبان ومراد حتى بلغ حدود سبأ. ولحماية أرضه أقام حواجز وفتح طرقا في الهضاب والجبال ليكون في إمكان جيشه اجتيازها بسهولة في تحركه لمقاتلة أعدائه، أقامها في شمال أرضه وفي جنوبها لمنع أعدائه من الزحف على مملكته. وتعبيرا عن فتوحاته هذه في شمال وفي جنوب قتبان استعمل جملة "ايمنن واشامن" أي "الجنوبيون والشماليون"، وهو لقب يعبر عن هذا التوسع الذي تم على يديه.
ويظهر إن الذي حمل "يدع ذبيان" على الأقدام على شق الطرق في المرتفعات وفي الجبال وعمل الأنفاق وتبليط الطرق بالإسفلت، هو عدم اطمئنانه من الطرق الممتدة في السهول، إذ كانت هدفا سهلا للأعداء. فإذا اجتازتها قواته هاجمهما الغزاة ويكون من الصعب عليها الدفاع حينئذ عن نفسها، أما الطرق التي أنشأها فإنها وان كانت صعبة وفي السير بها مشقة إلا إنها آمنة لأنها تمر في أرض خاضعة لحكمه وهي أقصر من الطرق المسلوكة في الأرض السهلة. ثم إن الدفاع عنها أسهل من الدفاع عن الطرق المفتوحة. فبهذا التفكير الحربي أقدم على فتح تلك الطرق. وقد تبين من ورود لفظة "ملك" في بعض هذه الكتابات وجود لقب "مكرب" فيها، إن "ي دع اب ذبيان" هذا كان كاهنا في الأصل، أي حاكما يحكم بلقب "مكرب"، ثم تحلى بلقب "ملك" أيضا. ولعله استعمل اللقبين معا، ولهذا ذكرا معا في الكتابات المشار إليها. إلا إن الكتابات المتأخرة.
نعنته بلقب ملك فقط، وفي اكتفائها بذكر هذا اللقب وحده دلالة على أنه صرف النظر عن اللقب القديم، وجعل لقبه الرسمي ر هو اللقب "ملك" فقط.

(1/866)
ومن الكتابت التي تعود إلى أوائل حكم "يدع أب ذبيان"، أي أيام حكمه "مكربا" الكتابات: Ryckmans 390 و REP. EPIG 3550,4328. أما الكتابة: REP.EPIG. 3878، فتعود إلى أيام تلقبه بلقب "ملك". وتتناول الكتابات الأولى موضوع فتح وت**** طريق "مبلقة"، وقد عثر عليها مدونة على الطريق وفي "شقرم" "شقر" التي تقع إلى الغرب منها.
ومن كتابات أيام الملكية الكتابة الموسومة ب "Glaser 1581"، وقد دونت عند الانتهاء من بناء حصن "برم" "محفدن بوم" تقربا وتوددا لآلهة شبان. وكان العمل في أيام الملك "يدع أب ذبين بن شهر ملك قتبين" "يدع أب ذبيان بن شهر ملك شبان". وكان صاحب البناء الذي قام به "لحيعم بن ابانس" من "آل المم" و "عبد أيل بن هاني". ويظهر انهما كانا من المقربين إلى الملك المذكور، وربما كانا من كبار الموظفين، أو من أصاب الأرضين والأملاك أو من رؤساء العشائر.
وللملك "يدع اب ذبيان بن شهر"، وثيقة على جانب كبير من الأهمية لأنها قانون من القوانين الجزائية المستعملة في مملكة قتبان، بل في الواقع من الوثائق القانونية العالمية، ترينا أصول التشريع وكيفية إصدار القوانين عند العرب الجنوبيين قبل الميلاد، فيها روح التشريع الحديث وفلسفة التقنين، ترينا إن الملك وهو المرجع الأعلى للدولة هو وحده الذي يملك حق إصدار القوانين ونشرها والأمر بتنفيذها، وترينا أيضا إن مجالس الشعب، وهي المجالس المسماة ب "المزود" وتتكون من ممثلي المدن ومن رؤساء القبائل والشعاب، هي التي تقترح القوانين وتضع مسودات اللوائح، فإذا وافقت المجالس عليها عرضتها على الملك لإمضائها ولنشرها بصورة ارادة أو أمر ملي، ليطلع الناس على أحكام الأمر الملكي ويعملوا به.وسأتحدث عن ذلك في فصل "التشريع الجاهلي" بكل تفصيل وتوضيح.

(1/867)


--------------------------------------------------------------------------------

والوثيقة المذكورة هي قانون أصدره الملك في شهر "ذي مسلعت" "ذو مسلعة" من سنة "غوث آل" "غوث ايل" وقد شهد على صحتها للتعبير عن شرعيتها جماعة من الأعيان والرؤساء وهم من أعضاء "المزود" ومن أشراف المملكة ورؤساء القبائل، ذكرت أسماؤهم وأسماء الأسر والعشائر التي ينتمون إليها. وقد كانت العادة في قتبان إن ذكر عند إصدار القوانين والأوامر أسماء أعضاء المزود والرؤساء وكبار الموظفين كما تفعل الدول الحديثة في هذا اليوم من ذكر اسم رئيس الدولة الذي يصدر القانون بأمره وباسمه، واسم رئيس الوزراء والوزراء أصحاب الاختصاص، وذلك لإظهار موافقة المذكورين على القوانين، دلالة على اكتسابها للصفة القانونية بنشر أسمائهم مع اسم الملك.
وفي جملة القبائل التي ذكرت في هذه الكتابة "ردمن" "ردمان" و "الملك" "الممالك" و "مضحيم" "مضحى"، و "يسر"، و "بكلم" "بكيل" و "ضرب"، و "ذو ذرآن" "ذ درن"، و "شهران"، و "هران" "هرن"، و "غربم"، و "رشم"، و "زخران"، و "غربان"، و "جرعان"، و "نظران"، و قبائل أخرى. وقد ذكرت أسماء الرؤساء الذين أمضوا القانون وصدقوا صحته ودونت قبل أسمائهم هذه الجملة: "وتعلماي ايون.."، ومعناها: "علموا عليها بأيديهم.."، وكتب قبل اسم الملك: "وتعلماي يد"، ومعناها: "وعلم عليها بيده"، ويعود الضمير إلى الملك.

(1/868)


--------------------------------------------------------------------------------

والوثيقة التي نتحدث عنها هي قانون في عقوبات القتل العمد أو القتل الخطأ غير المتعمد وفي العقوبات التي يجب إن يعاقب بها من يصيب إنسانا بجرح أو جروح قد تحدث آفات وعطلا في الشخص. وسأتحدث عن هذا القانون وعن المصطلحات الفقهية الواردة فيه في فصل "التشريع عند الجاهليين"، ويرى "فون وزمن" إن هذه الوثيقة المهمة هي من الأوامر التي اصدرها الملك في النصف الأول من القرن الرابع قبل الميلاد. ويتبين من الوثيقة المتقدمة إن القتبانيين كانوا يحكمون الرومانيين في هذا العهد. ومخلاف "ردمان" من مخاليف اليمن المهمة، فيه قبائل كبيرة. ولهذا فان خضوعه لقتبان هو ذو أهمية كبيرة بالقياس إلى الحكومة.
ويعد موضع "جهر وعلان" حاضرة مخلاف "ردمان"، ومن أماكن "ردمان" "رداع" و "كدار"، وهو مكان قريب من "وعلان"، وقد ورد اسم "وعلان" في الكتابات إذ جاء: "وعلن ذردمن"، "وعلان ذو ردمان".
ويظن إن الملك "يدع أب ذبيان يهرجب بن شهر، ملك قتبان" الذي أمر بتدوين النص الذي وسم ب "Jamme 405+406"، هو هذا الملك الي نتحدث عنه، أي الملك المعروف في الكتابات باسم "يدع أب ذبيان بن شهر"، والفرق بين الاسمين هو في وجود اللقب "يهرجب" "يهركب" في النصين المذكورين وسقوطه من الكتابات الأخرى. ويستدل من قال بأن الأسمين هما لشخص واحد بورود أسماء قبائل في النصين وردت في كتابات دونت في عهد الملك المتقدم ثم لأنهما استعملا مصطلحات ترد في كتابات تعود إلى هذا العهد، ثم لأن أسلوب الكتابة و نموذج كتابتها يدلان على إنها كانت في أواخر القرن الخامس قبل الميلاد، أو في القرن الرابع قبل الميلاد. وفي هذا الوقت كان حكم هذا الملك على رأي بعض الباحثين. لذلك رأوا إن الكتابتين قصدتا هذا الملك.

(1/869)


--------------------------------------------------------------------------------

وخلاصة ما جاء في النصين إن الملك "يدع أب ذبيان يهرجب بن شهر ملك قتبان" وكل أولاد عم وأوسان و "كحد" و "دهسم" "دهس" و "تبنو"، بنوا "يسرن" "يسران" والأقسام التابعة لها "ريمت" "ريمة" و"رحبت" "رحبة"، وذلك من الأساس إلى القمة، ولحماية ما أمر الملك ببنائه من كل أذى وسوء وقدموا ما قاموا به إلى الآلهة "عثتر" و "عم" و "ود".
أما القبائل المذكورة في هذين النصين، فقد تعرفنا عليها في الكتابات السابقة.
ولدينا كتابة وسمها علماء العربيات الجنوبية ب "REP.EPIG. 4094"، دونها "زيدم بن آل وهب" "زيد بن أيل وهب"، و "أب عم بن شهرم" من "ذي طدام"، عند اتمامهما بناء عدة بيوت أو معابد ذكرا أسماءها، وهي: "يفش مبش"، و "اهلن"، و "شمس مبش" لملكي قتبان: "يدع أب ذبيان" وابنه "شهر". وقد ورد فيها اسم الآلهة: عثتر، وعم" وانبي، وذات صنتم، وذات ظهرن "ذات ظهران". وهي الآلهة التي ترد أسماؤها عادة في معظم كتابات القتبانيين. وجاءت بعد أسماء الآلهة، هذه الجملة "وببش واهلن"، ولا نعرف اليوم شيئا عن "مبش" ولا عن "اهلن"، اهما اسمان لإلهين من آلهة قتبان بديل ورودهما بعد أسماء الآلهة التي ورد ذكرها تيمنا في هذه الكتابة، أم هما اسمان لقبيلتين أو لمقاطعتين أولمعبدين من المعابد المشهورة التي كانت في قتبان?.
أما "طدام"، فهو اسم قبيلة أو أسرة قتبانية، و قد ورد في كتابات أخرى عديدة غير قتبانية. وأما "أبعم" "أب عم" و "زيدم" "زيد" فمن الأسماء التي ترد في مختلف الكتابات، ولكن اسم "اب عم" "أبعم" هو من الأسماء المنتشرة بصورة خاصة في قتبان.

(1/870)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد اختلف الباحثون في تعيين زمان حكمه، فذهب بعضهم إلى إنه كان في القرن الخامس قبل الميلاد، وذهب بعض آخر إلى إنه كان في القرن الرابع قبل الميلاد، أو القرن الثاني قبل الميلاد أو في أوائل القرن الأخر قبل الميلاد. وقد ذكر اسم الملك "شهر هلل" وابنه "نبطعم" في كتابة دونها رجل اسمه "نبط عم بن يقه ملك" "نبطعم بن يقهملك" إذ حفر بئرا في حصن له لإرواء أرضه وأملاكه، وجعلها في رعاية آلهة قتبان وحمايتها، لتبارك له ولذريته، وذكر إن حفر هذه البئر كان في أيام الملك المذكور وفي أيام ابنه.
وقد ذهب "ألبرايت" إلى إن "شهر هلال" المذكور وهو والد "نبطعم" هو ابن "يدع أب ذبي إن بن شهر".وقد جعله كما قلت قبل قليل آخر المكربين وأول من تلقب بلقب "ملك" في قتبان.
وجاء اسم الملك "شهر هلل بن يدع اب"، في قانون أصدره للقتبانيين المقيمين بمدينة "تمنع" أي العاصمة وللمقيمين في الخارج، وذلك لتنظيم التجارة ولتعيين حقوق الحكومة في ضرائب البيع والشراء، والأماكن التي يكون فيها الاتجار. وفي هذا القانون مصطلحات تجارية مهمة ترينا مبلغ تقدم القتبانيين في أصول التشريع التجاري بالقياس إلى تلك الأيام.
ووصلت إلينا كتابة قتبانية وسمت ب "REP.EPIG. 4325"، وهى قانون لتنظيم التجارة وفي كيفية دفع الضرائب. وقد صدر في أيام "شهر"، وقد سقط من النص لقب الملك واسم والده ولقبه، كما سقطا أسطر من القانون بسبب تلف أصاب الحجر المكتوب، فأضاع علينا فهم أكثر القانون. ولوجود جملة ملوك حكموا قتبان باسم "شهر"، لا نستطيع تعيين هذا الملك، صاحب هذا القانون، وقد يكون "شهر هلال بن يدع اب"، أي الملك المتقدم.
وذكر اسم الملك "ذمر علي" واسم ابنه الملك "يدع اب يبجل" "يدع اب يكل" في النص القتباني المعروف ب "Glaser 1693"، ولم يرد فيه اللقب الذي كان يلقب به.

(1/871)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ورد اسم ملك قتباني هو "يدع أب"، في عدد من الكتابات، دون إن يذكر لقبه أو اسم أبيه، وقد ذهب "فلبي"، إلى احتمال إنه "يدع اب بن ذمر علي" أي الملك المذكور في النص "Glaser 1693".
وفي أيام "يدع اب يبل" نشبت حرب بين "سبأ" و "قتبان" " ذكرت في النص الموسوم ب "REP.EPIG 3858". وهو نص سجله "ذمر ملك بن شهر" من "آل ذران" "آل ذرأن"، وكان واليا ولاه الملك على قبيلة "ذبحن" النازلة في أرض "حمر"، بعد إن ثارت وتمردت على ملك قتبان، فتغلب عليها، وضرب عليها الجزية وأخذ غنائم منها ومن القبائل التي عضدتها، ويظهر إن هذه القبيلة انتهزت فرصة حرب نشبت بن "سبأ" و "قتبان"، فأعلنت عصيانها على ملوك قتبان وثارت ومعها قبائل أخرى انضمت إليها،ولكنها لم تنجح، ففرضت قتبان عليها جزية كبيرة وانتزعت منها بعض أملاكها. وقد أشار النص إلى: "حرب يدع آل بين وسمه علي ينف ويثع أمر وتر ملوك سبأ، وسبأ وقبائلها وإلى ملوك رعنن وقبيلة رعن"، ويظهر من هذه الجملة إن الحرب كانت قد نشبت في أيام الملوك المذكورين، وهم ملوك سبأ، ومع "ملوك سبأ، وسبأ وأشعبها"، ويظهر إنه يقصد بجملة "ملوك سبأ" المذكورة بعد اسم "يثع امر وتر" مباشرة، ملوك سبأ آخرون، أو سادات قبائل، تلقبوا يلقب "ملك". وأما لفظة "أشعب"، فهي "الشعوب" في لهجتنا، وتعبر عن معنى القبائل. ويكون الملك "يدع اب يجل" من معاصري الملوك المذكورين إذن بحسب هذا النص.
وقد أشير إلى "ذبحن ذحمرر" "ذبحان ذو حمرو" في الكتابة: "REP.EPIG. 3550" وذكر فيها اسم "نعمن" "نعمان" و "صنع".
وقد ورد اسم هذا الملك في كتابات أخرى عثر عليها في مواضع من "وادي بيحان".

(1/872)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ورد اسم الملك "شهر غيلن بن ابشم"، وكذلك اسم ابنه "بعم"، في نص قتبان وسم ب "REP.EPIG. 3552". وقد دون هذا النص عند قيام "شرح عث بن عبد بل بن تنزب"، وهو معمار كلفه الملك المذكور انشاء "محفد عريم"، أي برج في موضع يسمى "عرب" "عربم". وقد قام بالعمل وأتمه، ووضعت "تخليده هذه الكتابة شاهدا على إتمام البناء. وقد تضمنت شكرا وحمدا لآلهة قتبان، التي سهلت العمل، ومنت على القائمين به بإنجازه واتمامه، نيمنا باسمها على عادة العرب الجنوبيين كلهم في ذكر أسماء الآلهة التي يتعبدون لها.
وورد في شابة أخرى اسم الملك "شهر غيلن بن أبشم"، أمر الملك نفسه بتدوينها، عند تجديده إحدى العمارات و إنشائه "صحفتن"، أي برجا، فخلد ذلك العمل بهذه الكتابة وشكر الآلهة "عم" و "انبي" و "عم ذيسرم"، لمنتها عليه وتسهيلها هذا العمل له.
وتعد الكتابة المرقمة برقم: "Glaser 1601" من الكتابات المهمة المدونة في أيام هذا الملك، لأنها أمر ملكي في كيفية جباية الضرائب من قبيلة "كحد ذ دتنت". وقد عقدت بين ملك قتبان ورؤساء قبيلة "كحد" النازلة في "دتنت" "دتنه"، واشهدت آلهة قتبان عليها. وقد جاء في هذا الأمر أن "كبر" أي "كبير" ليلة "كحد" هو الذي سيتولى أمر هذه الجباية والأشراف على تنفيذ الأمر وتطبيق أحكامه على كل من يخصه ويشمله، وذلك من تأريخ تعيينه "كبيرا" إلى يوم انتهاء ويخضه، على إن يقدم الوارد إلى الحكومة سنة فسنة، فإذا انتهت مدة تعيينه، تولى من يخلفه في هذا المنصب أمر الجباية، وقد جعل تأريخ تنفيذ هذا العقد من: "بن شهر و رخن ذ تمنع خرف موهبم ذ ذرحن اخرن لاخرن"، ومعناها: "من هلال شهر ذو تمنع سنة موهب ذو ذرحن" "ذرحان" آخرا فآخرا"، وتعني "اخرن لأخرن" والأشهر التي تليه إلى أمر آخر.

(1/873)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما الضرائب المفروضة، أي الجباية التي يجب إن تجبى من قبيلة "كحد": فقد حددت بهذه العبارة: "عشر سل هنام وموبلم وتقنتم وترثم وكل ثفطم بيثفط"، أي " عشر كل ربح صاف، وكل ربح يأتي من التزام أو من بيع أو من ارث يورث"، فحصر هذا القانون ضريبة "العشر" في الأرباح المتأتية من هذه المكاسب، وتجبى هذه الضرائب لخزانة الحكومة.
وقد ذكرت في هذه الوثيقة ضريبة أخرى، هي "عصم" "عصمم"، وهي ضربية خاصة تجبى للمعابد، أي إنها تذهب إلى الكهان لينفقوا منها على إدارة المعبد، فهي ضريبة مقررة تجبى كما تجبى ضرائب الدولة، وهي مصطلح يطلق على كل أنواع الجبايات التي تسمى بأسماء الآلهة والمعابد.
ويرى "رود كناكس" إن "العصم" لفظة تطلق على كل ما يسمى للإلهة أو المعابد من "زكاة" أو نذر أو صدقات تقدم في مختلف الأحوال، عند برء من سقم، أو عند حدوث زيادة في الغلات. وقد وردت في النصوص مصطلحات مثل: "ودم" و "شفتم" و "بنتم" وأمثالها، وهي تعبر عن النذور والهبات التي يقدمها المؤمنون تقربا وزلفى إلى آلهتهم، وهي غير محدودة ولا معينة ولا ثابتة، و إنما تقدم في المناسبات كما في أكثر الأديان.
وجاءت في هذه الكتابة جملة "وسطر ذتن اسطون ببيت ورفو"، أي "وسطرن هذه الأسطر ببيت ورفو "، وتؤدي لفظة "بيت" في أمثال هذا السياق معنى "معبد"، كما نقول "بيت الله"، وقد وقعها الملك في شهر "ذبرم" وأعلنها للناس وأوضح ذلك بهذه العبارة: "يد شهر و رخس ذبرم قد من خرف موهبم ذ ذرحن"، أي "وقد وقع عليها شهر بيده في شهر ذي برم الأول من سنة موهب آل ذرحن". وجعل شاهدا على صحة الوثيقة رجلا اسمه "نبط عم بن السمع" من "آل هيبر".

(1/874)


--------------------------------------------------------------------------------

وحظي معبد "بيحان" بعناية الملك "شهر غيلان"، فشد أمر بترميم أقسامه القديمة وتجديدها وبناء أقسام جديدة فيه. وقد تيمن بهذا العمل بذكر الآلهة "عثر نوفان"، أي "عئتر النائف". وسجل هذا العمل في كتابة وسمها علماء العربيات الجنوبية ب "REP.EPIG. 4932". وقد ذكر فيها أسماء آلهة أخرى تيمنا بذكر أسمائها وتقربا إليها.
وكان هذا المعبد قد خصص لعبادة "عم ذلبخ"، فهو اذن أحد المعابد التي سميا باسم الإله "عم". وقد عرفت معابده ب "عم ذلبخ". ومعبد "بيحان" هو معبد من هذه المعابد التي حملت اسمه. وكانت لها جماعة تتعبد بها، ولعلها مذهب أو طائفة خصصت نفسها بعبادة هذا الإله. وكانت هذه المعابد تجبي أموالا من أتباعها لتقيم بها المعابد، وصرف الملوك عليها كذلك.
وفي الكتابة الموسومة ب "Ryckmans 216" خلر نصر أحرزه الملك "شهر غيلان" على حضرموت و "أمر" "آمر" "أأمر". وتخليدا له أمر ببناء معبد "عثتر ذ بحن"،أي معبد الإله "عثتر" في موضع "ذبحن" "ذبحان". ويرى "فون وزمن" إن موضع "ذبحان" الذي بني فيه هذا المعبد، هو المكان المسمى "بيحان القصب" في الوقت الحاضر. و يقع عند قدم "جبل ريدان". وفي هذا المكان خرائب واسعة تدل على إنه كان مدينة أو قرية كبيرة. ويرجع "فون وزمن" زمان هذا الملك إلى أواخر القرن الرابع لما قبل الميلاد.
ويتبين من النص المتقدم إن "قتبان" كانت في عهد هذا الملك قوية، فقد انتصرت كما رأينا على حضرموت و "امر"، وكانت تحكم "دتنت" "دتنه" و "كحد"، كما كانت تحكم أرضين أخرى غير قتبانية. ولولا القوة لانفصلت تلك الأرضين عنها.

(1/875)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عثر عدد من الكتابات القتبانية ورد فيها اسم الملك "شهر بجل بن يدع أب". منها الكتابة التي وسمت ب "Glaser 1602". وهي أمر ملكي في كيفية جمع الجباية من "اربي عم ذلبخ"، أي من "طائفة معبد الإله عم في أرض لبخ"، ويظهر من هذا المصطلح ومن مصطلحات مشابهة أخرى إن العرب الجنوبيين كانوا يؤلفون طوائف تنتمي إلى إله من الآلهة تتسمى به وتقيم حول معبده. ويعر عن الطائفة بلفظة "اربي" وتقيم في الأرض تستغلها، وتسمي نفسها باسم الرب الذي تنتمي الطائفة إليه. و يجوز إنها كانت تتعاون فيها بينها في استغلال الأرض وفي تصريف الإنتاج لخير الطائفة بأسرها. وتقدم الطائفة حقوق الحكومة إلى الجباة الذين يجبون تلك الحقوق، فيقدمونها إلى "الكبير"، أي نائب الملك المعين واليا على المقاطعات ليقدمها إلى الملك.
وقد أصدر الملك "شهر يجل" أمره هذا، وأمر بتنفيذه، وذلك في معبد "عم ذلبخ"، المشيد في موضع "بن غيلم" أي "في غيل"، وذلك في شهر "ذبشم" سنة "عم علي" كما يفهم من العبارة القتبانية: "ورخس ذبشهم خرف عم علي".
وتتألف "الاربي"، أي طائفة "عم" إله معبد "ذلبخ" من أسر تجمع بينها صلة القربى، وكان لهم رؤساء يديرون شؤون الطائفة سماهم الملك، وهم: "معدي كرب" "معدي يكرب بن هيبر" و "دال" و"دايل بن رباح" "ربح"، و "اخهيسمى" أي واخوتهما. وقد قصد الملك من ذكرهما في هذه الكتابة انهما هما اللذان كانا يقومان بجمع الغلات ودفع ما على أتباعهما إلى خزانة الحكومة وإلى خزائن المعابد التي في أرض "لبخ" وفوض امر استثمارها إلى هذه الطائفة.
وهناك كتابات أخرى تبحث في الموضوع نفسه، موضوع أرض "لبخ" وطائفة "عم" "اربي عم" القاطنة بها، وعباراتها هي عبارات النص المذكور إلا في أمور، إذ تختلف فيها، في مثل أسماء الأشخاص وتواريخ عقد تلك الاتفاقيات ومواضعه، لأنها عقدت في أوقات مختلفة و مع أشخاص آخرين.

(1/876)

admin
12-26-2010, 01:51 PM
وتقدم النصوص المذكورة نماذج عن طرق كتابة العقود الرسمة بن الحكومة القتبانية والموظفين والجماعات في موضوع الالتزامات والعقود، فلها أهمية خاصة لمن يريد دراسة أصول التشريع عند الجاهليين.
والعادة كتابة هذه الوثائق وإعلانها للناس بوضعها في محال بارزة، يتجمع عندها الملأ في العادة أو يمرون عليها، مثل المعابد أو أبواب المدن، فإنها من أكثر الأماكن التصاقا بالأفراد والجماعات. وتؤرخ بالتواريخ المستعملة في أوقات عقد العهود، ليعمل بتلك الأوامر وفي الأوقات المثبتة في الكتابات.
ولدينا نص أمر ملكي أصدره الملك إلى القتبانيين أحرارهم و****هم، رجالهم ونسائهم، وإلى كل المولودين في مدينة "تمنع" في كيفية دفعهم "العصم" أي الضرائب. وقد صدر هذا الأمر و أعلن للناس في "ورخم ذبرم اخرن ذ ذران"، أي في "شهر برم الثاني من السنة الأولى من سني من آل ذرأن". وقد سقط من الكتابة اسم الرجل الذي أرخت الكتابة به.
ويرى "البرايت" إن "شهر يجل"، هذا كان قد حكم في حوالي سنة "300 ق. م." وانه تغلب على المعينيين فحكمهم.
وعثر على أمر ملكي أصدره الملك "لشهر هلل يهنعم بن يدع اب" في كيفية جباية "ابي عم لبخ"، وهو أمر يشبه الأمر الملكي الذي صدر من الملك "شهر يجل بن يدع اب" السابق. و قد ذكر الملك إنه اصدر أمره هذا تنفيذا لمشيئة معبد "حطبم" "حطب" المخصص بعبادة "عم ذ دونم" "عم ذو دونم"، ومعبد "رصفم" "رصف" "رصاف" معبد الإله "انبي" ولوحي الآلهة "شمس" و "الهلال" "ربع شمس"، وذكر أسماء وكلاء الطائفة وممثليها: طائفة "عم ذي لبخ" "اربي عم ذلبخ" في "ذي غيل". وقد نشر الأمر و أعلن على باب "شدو" من أبواب مدينة "تمنع"، وذلك في شهر "ذي تمنع" وفي السنة الثانية من سني "شهر" من عشيرة "يجر".

(1/877)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرى ألبرايت إن هذا الملك كان شقيقا للملك "شهر يجل"، وأنه كان تابعا لحكومة معين. وقد حمله على هذا الرأي اشتراك اسم الأب. وأنا مع عدم معارضتي لهذا الرأي لا أرى إن اشتراك اسم الأب يمكن إن يكون دليلا على إن شخصين أو أكثرهم إخوة، فإن أسماء الملوك في العربية الجنوبية متشابهة وتتكرر، والذي يفرق بينها هو اللقب أو الألقاب، بل إننا حتى في هذه الحالة نجد الألقاب تتكرر أيضا، وهي وان بدت وكأنها اسم شخص واحد، إلا إنها في الحقيقة لجملة أشخاص. وقد عبر المحدثون عن ذلك بالترقيم، فقالوا فلان الأول، وفلان الثاني، وفلان الثالث، وهكذا، وذلك كناية عن الاشتراك في الاسم و في اسم الأب وفي الألقاب. ويقع ذلك عند أمم أخرى أيضا: وقع ذلك في القديم، و وقع في الأيام الحديثة حتى اليوم. ونحن لجهلنا تواريخ ارتقاء الملوك العروش، ولعدم تيقننا من تقدم بعضهم على بعض، لا نستطيع لذلك ترقيم الملوك بحسب التقدم في الحكم بصورة يقينية، فليس لنا إذن إلا التربص للمستقبل فلعل الأيام تقدم. إلينا مفاتيح نفتح بها الملفات في تواريخ العرب قبل الإسلام.
وعندنا وثيقة أخرى من الوثاثق الخاصة ب "اربي عم" في "لبخ"، من أيام الملك "شهر هلل" "شهر هلال". وهي أيضا أمر ملكي أصدره الملك في كيفية جباية الضرائب من هذه المنطقة. وقد أمر بوضع هذا الأمر وتعليقه عند باب "ذي شدو" من أبواب مدينة "تمنع"، وذلك في شهر "ذو أبهى" في السنة الثانية من سني "عم شبم" من "آل يجر".
وقد مر" ذكر "آل يجر" في نص سابق، حيث أرخ أيضا برجل منها، منها يدل على إنها كانت من الأسر المعروفة المشهورة في قتبان.

(1/878)


--------------------------------------------------------------------------------

والوثيقة كما نرى هي في الموضوع السابق نفسه، موضوع جباية الضرائب من طائفة "عم" النازلين بوادي "لبخ". ولذلك لا تختلف في أسلوبها وفي الألفاظ والمصطلحات القانونية الواردة فيها عن ألفاظ ومصطلحات الوثائق السابقة. ولكنها تختلف عنها في إنها لم تذكر أسم والد "شهر هلال"، ولذلك تعذر علينا تعيين هذا الملك وغدا صعبا علينا تثبيت نسبه بالنسبة إلى الملوك المذكورين. وقد ترك "البرايت" فراغا بعد اسم "شهر هلال يهنعم" وضع بعده اسم "يدع اب ذبيان يهركب"، غير أنه بين أنه غير متأكد من أن موضعه في هذا المكان. وأنه وضعه على سيبل الظن، و ذلك اعتمادا على خط الكتابة التي ورد فيها اسمه والتي يناسب أسلوبها أسلوب كتابات هذا الوقت.
ثم عاد "ألبرايت" فترك فراغا بعد هذا الاسم، لا أدري من حكم فيه، ثم ذكر بعده اسم "فرع كرب"، ولم يذكر أي لقب له، ثم ذكر من بعده اسم "يدع اب غيلان" وهو ابنه وفي عهده بني "بيت يفش" الشهير الذي ورد اسمه في عدد من الكتابات القتبانية. ويرى "البرايت" أن ذلك كان في أوائل القرن الثاني قبل الميلاد.
وقد حصلت "البعثة الأميركية" الني نقبت في خرائب مدينة "تمنع"، على كتابة تتعلق ببيت "يفش"، وباسم الملك "يدع اب غيلان بن فرع كرب". وصاحب هذه الكتابة رجل اسمه "هوفعم بن ثونب"، ذكر فيها انه اشترى وتملك ورمم البيت المسمى "يفش" و أجرى فيه تعميرات كثيرة وفي القسم الخاص منه باستقبال الضيوف "مز ود هو"، أي المحل الذي يجلس فيه الزائرون فيتسامرون، فهو نادي ذلك البيت، وكذلك في القسم المسقوف منه، أي القسم الخاص بالمسكن إلى أعلى البناء. وبهذه المناسبة تيمن صاحب البيت بذكر أسماء آلهته: "ابني" و "التعلي" و "عم" و "عثتر" و "ذات صنتم" و "ذات ضهران"، ثم تيمن بذكر الملك الذي تم ذلك العمل في ايامه، وهو الملك "يدع اب غيلان بن فرع كرب" ملك قتبان.

(1/879)


--------------------------------------------------------------------------------

وعثر على كتابة ورد فيها اسم "يدع أب غيلان" "يدع أب غيلن"، عثر عليها عند الجدار الشمالي "لحصن الحضيري" الواقع على مسافة "كيلومتر" إلى الشق من "جبل أوراد". وقد جاء فيها أن الملك أجرى ترميمات في مدينته "ذ غلين" "ذو غيلان".
وكانت مدينة "ذغيلم" "غيلن" "غيلان" من المدن التي أنشئت في عهد الملك "يدع أب غيلان". بناها على رأي بعض الباحثين في حوالي القرن الثاني قبل الميلاد وذلك عند معبد "عم ذي لبخ" الشهير الكائن في موضع "ذغيلم"، أو إنها كانت موجودة ولكنه جدد بناءها فعرفت ب "ذغيلان". ولذلك فإن اسمها في الكتابات هو "ذغيلم" و "ذ غيلن" و "ذغيلان". وقد اشتهرت بمعبدها المذكور.
وترك "البرايت" فراغا بعد اسم "يدع غيلان"، يعني إنه لا يدري من حكم في خلاله، ثم ذكر اسم "هوف عم يهنعم" "هو فعم يهنغم" بعده. وقد حكم - على تقديره - في حوالي السنة "150 ق. م.". ثم ذكر من بعد اسم ابنه "شهر يجل يهركب".
ولدينا كتابة رقمت برقم "REP.EPIG. 4335" وقد ذكر فيها اسم "شهر يجل بهرجب بن هوفعم". وقد دونت هذه الكتابة عند اشتراك "شوشن" و "حمرم"، ابني "عم كرب" في بناء "محفد" لهما اسمه "غيلن" في أرضهم "طوب" "طوبم"، وتيمنا وتبركا بذلك ذكرا أسماء آلهة قتبان واسم الملك المذكور.

(1/880)


--------------------------------------------------------------------------------

و عثر على كتابة أخرى، فهم منها إنه في عهد الملك "شهر يجل يهرجب"، جدد بناء الباب الجنوبي لمدينة "تمنع"، وجدد بناء بيت "يفش". ويرجع "البرايت" أيام هذا الملك إلى ما بعد سنة "150 ق. م." بقليل، ويستند في تقديره هذا إلى تمثالي أسدين عثر عليهما في خرائب مدينة "تمنع"، وقد وجدت عند قاعدتها كتابات قتبانية، ورد فيها اسم الممعار "ثويبم" "ثويب"، و قد سبق إن عثر على كتابة ورد فيها اسم هذا المعمار وقد كتبت في عهد الملك "شهر يبل يهرجب"، و من اشتراك الاسمين استنتج "البرايت" إن التمثالين هما من عهد هذا الملك، ويرى "البرايت" أيضا إن هذين التمثالين صنعا على نمط صناعة التماثيل عند اليونان، ولا يرتقي عهد صناعتهما إلى أكثر من القرن الثاني قبل الميلاد، لذلك لا يمكن في نظره إن يرتقي عهد هذا الملك إلى أكثر من "150" سنة قبل الميلاد.
ويظهر من الكتابة "Jamme 119" إن "ثويبم بن يشرح عم" و "صبحم" و "هوفعم"، وهم من آل "مهصنعم" اشتروا ونقلوا اسم البيت باسمهم، أي سجلوه باسمهم، وسجلوا كل ما يتعلق به من أبنية و مسقفات في الطابق الأرضي وفي الأعلى وذلك وفقا لشريعة الإله "انبي". وتيمنا بهذه المناسبة سجلوا شكرهم للآلهة "عثتر" و "عم" و "انبي" و "ورفو ذلفن" و "ذات صنتم" و "ذات ضهران"، وكانت تلك المناسبة في أيام الملك "شهر يجلى يهرجب بن هوفعم يهنعم". وفي عهد "فرع كرب" من أسرة "ذرحن" ونائب الملك "شهر".
وقد استنتح بعض الباحثين من هذا النص إن "هو فعم" والد "شهر يجل يهرجب" كان شقيقا ل "فرع كوب" الذي كان نائبا عن الملك أو حاكما يوم دون هذا النص. وقد كان من أسرة أو قبيلة "ذرحان". وقد كان له ابن هو الملك: "يدع اب غيلان".

(1/881)


--------------------------------------------------------------------------------

ويلاحظ إن هذه الأسماء تنطبق على الأكثر على مجموعة ملوك ذكرها "ألبرايت" في بحث له بعد اسم "شهر هلال يهنعم" وقبل "يدع أب ينف". وسيأتي الكلام عنها فيما بعد. غير إن الزمان الذي قدره لحكم هذه المجموعة متأخر عن الزمان المذكور.
وقد وردت في نص من النصوص المعينية عبارة مهمة جدا لها علاقة بقتبان، و بشخص ملكها "شهر يجل يهرجب"، وبالحالة السياسية التي كانت في حكومة معين. ورد فيها ما ترجمته: "في يوم سيده وقه آل يثع وابنه اليفع يشر ملك معين، وبيده شهر يجل يهرجب ملك قتبان". وقد ذكر "هومل" إن كلمة "مراسم" في السطر الرابع من النص قد يمكن قراءتها "مرأس"، ولو قرئت على هذه الصورة لكانت تعني إن "شهر يجل يهرجب" كان رئيسا على ملك "معين" وابنه، وهذا يعني إن حكومة معين كانت خاضعة لحكومة قتبان في هذا العهد. ويرى "فلبي" إن ذلك كان حوالي سنة "820 ق. م." وان حكم "شهر يجل يهرجب" كان على رأيه أيضا من سنة "825- 800 ق. م،" وفي هذا العهد لم تكن "سبأ" قد كونت حكومتها بعد، ومن المحتمل أن قبائلها كانت يومئذ كما يرى "فلبي" متحالفة مع قتبان.
ويرى "رودوكناكس" إن نص "Halevy 504" يشر إلى أحد أمرين: تحالف بين معين وقتبان كان في عهد الملك "شهر يجل يهرجب" أو إن حكومة معين كانت حقا خاضعة لسيادة قتبان. وقد ذهب بعض الباحثين إلى إن حكم "شهر يجل يهرجب"، كان في القرن الأول قبل الميلاد، وفي حوالي السنة "75 ق. م.". و بناء على ذلك يكون خضوع معين المذكور في النص في هذا الزمن ويكون "اليفع يشر" الذي نعتوه بالثاني من هذا العهد أيضا. ويرون أيضا إن استيلاء "قتبان" على معين لم يدم طويلا، لأن السبئيين سرعان ما أخذوا زمام الأمور بأيديهم، فاستولوا على معين. ثم إن الحميريين استولوا على الأرضين الجنوبية لقتبان الممتدة إلى البحر فأضعفوا قتبان، حتى عجزت عن الهيمنة على المعينيين.

(1/882)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم يؤثر اعتراف "معين" بسيادة ملوك "شبان" عليها في استقلالها الذاتي، إذ بقي ملوكها يحكمونها كما يظهر ذلك من الكتابة المذكورة: "Halevy 504" ومن كتابات أخرى. وقد جاء في كتابة "معينية" أمر بتدوينها الملك "اليفع يشر" ملك "معين" في عاصمته "قرنو"، ذكر كاهنين من "كهلان" "كهلن" من قتبان، حضرا حفلة تتويجه، وربما يستشف من ذكر هذين الكاهنين الإشارة إلى الروابط السياسية التي كانت بين معين وقتبان، وأن حكومة "قرنو" كانت خاضعة لسيادة "قتبان" دون إن يؤثر ذلك في استقلالها الذاتي الذي كانت تتمنع به، أو إنها كانت قد تحالفت مع قتبان، أو كونت اتحادا دون إن يؤثر ذلك في الملكية في معين أو قتبان.
ولدينا نص مهم طويل، هو قانون أصدره "شهر يجل يهرجب" باسمه وباسم شعب "قتبان"، لقبائل قتبان، في كيفية الاستفادة من الأرضين واستثمارها وقد صدر هذا القانون بعد موافقة الملك عليه في اليوم التاسع، وسو يوم ذو "اجيبو" "ذ اجيبو" من شهر "ذي تمنع" من السنة الأولى من سني "عم علي" من "آل رشم" من عشيرة "قفعن". ويظهر إن رؤساء القبائل وأعيان المملكة قد عقدوا اجتماعات عدبدة، و تداولوا الرأي في استثمار الأرض وقسمتها على القبائل والعشائر والفلاحين، و بعد إن اتفقوا على الأسس رفعوها إلى الملك فأصدر أمره بإقرارها، كما أقرها الكهان، وكانت لمعابدهم أوقاف جسيمة يستغلها الفلاحون، فلا بد إن يكون لهم رأي مهم في صدور أمثال هذه القوانين.
وذكرت في نهاية نص القانون طائفة من الأسماء كتبت بعد جملة "ايد هو" وتعنى إن هؤلاء الذين سترد أسماؤهم قد قرأوا القانون، وقد شهدوا على صحة صدوره من الملك فوقعوا بأيدهم عليه. وأنهم موافقون على كل ما جاء فيه، وهم يمثلون بالطبع رؤساء القبائل وأعيان العاصمة والمملكة، وقد ذكرت مع أسمائهم أسماء الأسر والعشائر التي ينتمون إليها، فكانت لهذه الأسماء فائدة عظيمة في دراسة القبائل والأسر التي عاشت قبل الإسلام.

(1/883)


--------------------------------------------------------------------------------

وخد وردت في النص كلمة "فقد" وكلمة "بتل"، ويظهر منه إن لهاتين الكلمتين دلالة على معنى مجالس استشارية، أو ما شابه ذلك، كانت تمثل رأي طبقات من الناس، مثل سادات القبائل أو أمثالهم من أصحاب الجاه والسلطان. فقد وردتا في النص بمعنى تقديم رأي إلى الملك للموافقة عليه، وذلك في شهر "ذوبرم" وفي السنة الثانية من سني "اشبن" من عشيرة "حضرن" "حضران" من قبيلة شهر.
وإلى عهد الملك "شهر يجل يهرجب"، تعود الكتابة التي دونها "عقريم بن ثويبم" "عقرب بن ثويب" من "آل مهصنعم" من عشيرة "صويعم" وذلك لمناسبة بنائه محلا "خطبس"، وذلك بحق الإله "انبي". وقد تيمن بهذه المناسبة بذكر الآلهة "عثتر" و "عم" و "ورفو" و "ذات صنتم" و "ذات ضهران"، وكان ذلك في عهد الملك المذكور.
وإلى عهده أيضا تعود الكتابة التي وسمت ب "Jamme 874"، وهي كتابة قصيرة ورد فيها إن "شهر يجل يهرجب ملك قتبان" وضع أو قدم. ولم تذكر الكتابة شيئا بعد ذلك.

(1/884)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عثر على كتابة في "وسطى"، ورد فيها اسم "شهر يجل يهرجب بن هوفعم يهنعم"، و قد لقب فيها "مكرب"، مع إنه من الملوك وقد لقب في جميع الكنايات بلقب "ملك". وقد حكم بعد "يدع اب ذبيان بن شهر" الذي ترك لقب "مكرب" واستعمل لقب "ملك" بزمن. واستعمال كلمة "مكرب" في هذه الكتابة يلفت النظر، إذ كانت الكتابات قد تركتها منذ زمن "يدع اب"، فهل نحن إذن أمام ملك آخر اسمه نفس اسم "شهر يكل" شهر يجل" واسم والده كاسم والد هذا الملك، وقد كان مكربا، فيجب علينا إدخاله إذن في جملة المكربين، ونقله من هذا الموضع? أو هل نحن أمام خطأ وقع فيه كاتب الكتابة، إذ استعجل فكته كلمة "مكرب" موضع لفظة "ملك"? أو هل نحن أمام مصطلح فقط، يبين لنا إن الحكام وان كانوا قد تركوا لقب "مكرب"، إلا إن الناس كانوا يطلقونها عليهم فيما بينهم على اعتبار إن لهم مقاما دينيا عندهم، و إنها لا تنافي الملكية، تماما على نحو ما يفعل اليمانيون من إطلاقهم لفظة "إمام اليمن" و "ملك اليمن" على حكامهم وذلك لجمعهم بين الصفة الدينية والصفة الدينية في آن واحد?.
لقد تمكنا بفضل الكتابات المتقدمة من الوقوف على أسماء مجموعة من الملوك تنتمي إلى عائلة واحدة اسم أول ملك منها هو "هو فعم يهنعم"، غير إننا لا نعرف حتى الآن اسم والده، وكان له شقيق اسمه "فرع كرب" "فرعكرب" نهب نفسه إلى "ذرحان" "ذرحن"، فنحن نستطيع إن نقول إن هذه العائلة كانت من "ذرحان"، و ذلك في حالة ما إذا كان "هوفعم" و "فرعكرب" شقيقين تماما أي من أب واحد و أم واحدة. وكان ل "هوفعم" و قد تولى الملك من بعد والده هو "شهر يجل يهرجب"، وقد أنجب "شهر يجل يهرجب" من الولد "وروايل غيلان"، وقد تولى الملك، و "فرع كرب يهوضع" وقد ولي الملك كذلك.

(1/885)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما "فرع كرب" شقيق "هوفعم يهنعم"، فقد كان له من الولد ""دع اب غيلان"، رأى جامه "Jamme"، "يدع اب غيلان" المذكور في نص "هوفعم بن ثويبم" "Jamme 118" صاحب بيت "يفش". ولكننا لو أخذنا برأيه هذا لزم حينئذ وضع اسم "فرع كوب" بعد اسم ابن أخيه "شهر يجل يهرجب" و وضع اسم ابن "فرع كرب" بعده، بينما تدل الدلائل على إن حكم "فرع كرب" كان قبل "هوفعم يهنعم" وان ابنه "يدع اب يخلان" كان من بعده، ومعنى هذا انهما حكما قبل "شهر يجل يهرجب". وقد جعل نص "Jamme 118" "فرع كرب" وصيا على "شهر يبل" أو حاكما ولم يجعله ملكا. ولذلك أرى إن في رأي "جامه" "Jamme" تسرع يجعل من الصعب قبوله على هذا النحو.
وكان للملك "شهر يبل يهرجب" ولد تولى الملك من بعده، اسمه: "وروال غيلن يهنعم" "وروايل غيلان يهنعم"، و يرى "البرايت" إن من المحتمل إن يكون هو "وروال غيلن" "ورو أيل غيلان" الذي وجد اسمه منقوشا على نقود ذهب عثر عليها مضروبة في مدينة "حريب".
وقد وصل إلينا نص يفيد إن الملك "وروال غيلن يهنعم"، امر وساعد قبيلة "ذو هربت" الساكنة في مدينة "شوم" ببناء حصن "يخضر" "يخضور" الواقع أمام سور مدينة "هربت"، وكان قد تداعى فتساقط. وقد نفذت هذه القبيلة ما أمرت به في أيام هذا الملك، وجعلت العمل قربى إلى الآلهة "عم ذو ذ ريمتم" "عم ذو ريمة" و "ذت رحبن" "ذات رحبان" و "الهن بيتن روين" أي و "آلهة بيت روين".

(1/886)


--------------------------------------------------------------------------------

وبين أيدي العلماء كتابة دونت في عهد الملك "وروايل غيلان يهنعم" "وروايل غيلان يهنعم"، صاحبتها امرأة اسمها "برت" "برات" "برة" "برأت" من "بيت رثد ايل" "رثدال" من عشيرة "شحز"، وقد ذكرت فيها أنها قدمت إلى "ذات حميم عثتر يغل"، تقربة هي، تمثال من الذهب يمثل امرأة تقربا إلى الآلهة، و ذلك لحفظها ولحفظ أملاكها، ووفيا لما في ذمتها تجاه الإله "عم ذربحو". ويظهر إنها كانت كاهنة "رشوت" "رشوة" لمعبد الإله "عم" الكائن في "ريمت"، وكان ذلك في عهد الملك "وروايل غيلان يهنعم". فنحن في هذا النص أمام امرأة كاهنة مما يدل على إن النساء في العربية الجنوبية كن يصلن درجة "كاهنة" في ذلك العهد.
وكان للملك "وروال غيلن يهنعم" شقيق اسمه "فرع كرب يهوضع" "فرع عكرب يهوضع"، لا نعرف من أمره شيئا يستحق الذكر. وقد ورد اسمه في النصر المعروف ب "Glaser 1415" وهو نص سجله رجل عند بنائه بيتا له، وجعله في حماية آلهة قتبان، وذكر لذلك اسم الملكين: "وروال غيلن يهنعم" واسم شقيقه "فرع كرب يهوضع"، "ابنا شهر"، ولم يذكر في هذا النص لقب "شهر".
وورد اسم ملك آخر من ملوك شبان في كتابة رقمت برقم "REP. EPIG. 3962" وقد دونت هذه الكتابة عند بناء رجل من قتبان اسمه "برم" حصنا له، و إصلاحه أرضين زراعية ذات أشجار كثيرة مثمرة، فسجل على عادة آهل زمانه أسماء آلهته فيها تيمنا منا بذكر اسمها و تقربا إليها، لتغدق عليه الخير والبركة، كما ذكر الهم الملك الذي تم هذا العمل في أيامه، وهو الملك: "يدع أب ينف يهنعم" "يدع أب ينوف يهنعم".
ولا نعرف من أمر هذا الملك شيئا يذكر، لعدم ورود اسمه في نصوص أخرى، وقد وجدت نقود من ذهب ضربت في "حريب" حملت اسهم ملك قد ضربها سيم "يدع اب ينف" "يدع أب ينوف"، فلعله هذا الملك المذكور في هذه الكتابة. ولا نعرف بالطبع وقت حكمه، ولا موضع مكانه بين ملوك قتبان.

(1/887)


--------------------------------------------------------------------------------

وورد في كتابة قتبانية عثر عليها في "كحلان" اسم ملك سمي "شهر علل ابن ذراكوب" "شهر هلال بن ذرأ كرب"، ولم يذكر. فيها لقبه. وقد ذهب بعض الباحثين إلى إن "شهرا" هذا، هو الملك السابق "شهر هلل يهقبض" "شهر هلال يهقبض"، وأن أباه هو "ذرأكرب" لذلك. وقد وضعه "ألبرايت" في خاتمة قائمته لملوك قتبان. وقد افتتحت الكتابة المذكورة بما يأتي: "قانون أصدره وأمر به شهر هلال بن ذرأ كرب ملك قتبان لشعب قتبان وذي علشن ومعين وذي عثتم أصحاب أرض شدو". وقد نظم هذا القانون واجبات هذه الشعوب الأربعة في كيفية استغلال الأرض، وعين الأعمال المترتبة عليها: وانذر المخالفين بفرض العقوبات عليهم، وأشار إلى الموظف الذي خول حق تنفيذ ما جاء فيه.
وقد أمر الملك بإعلان أمره ونشره على باب "شدو" "زدو" كما يظهر ذلك من هذه العبارة: "ول يفتح هج ذن ذمحرن بخو خلفن ذ شدو و رخس ذعم خرف اب علي بن شحز قد من". أي "و ليفتح هذا الأمر، أي يعلن على طريق باب ذ شدو في شهر ذوعم من السنة الأولى من سني أب علي بن شحز أو من قبيلة شحز"، أو من آل شحز. وجاءت بعد هذه الفقرة جملة: "وتعلماي يد شهر"، أي وقد علمته، أي وقعته يد شهر، بمعنى وقد وقعه شهر بنفسه. وقد خول الملك "كبر تمنع"، أي "كبير مدينة تمنع" العاصمة بتنفيذ ما جاء في هذا الأمر الملكي.
و قد حدد هذا الأمر الوقت الذي يجب فيه على المزارعين تنفيذ التزاماتهم فيه، فذكر إنه من أول شهر "ذو فرعم" "ذو فرع" إلى السادس من "ذي فقهو"، يجب دفع الضرائب يوما فيوما وشهرا فشهرا. ويرى "رودوكناكس" إن شهر "ذو فرعم" هو الشهر الأول من السن عند زراع قتبان، وأن شهر "ذو فقهو" هو الشهر الأخير من السنة. وعلى هذا التقويم الذي يستند إلى الزراعة والبذر.والحصاد كانت تدفع الضرائب.

(1/888)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من ذكر أسماء هذه الشعوب "اشعبن" الأربعة في هذا القانون، إنها كانت تحت حكم هذا الملك، وان قسما من شعب معين بل ربما كل لشعب معين كان يخضع له. ويرى "رودوكناكس" إن في هذه الكتابة دلالة على إن شعب معين كان تابعا لحكومة قتبان في عهد هذا الملك،كما كان تابعا لقتبان في أيام الملك "شهر يجل يهرجب"، ولكن ذلك لا يعني في نظره إن شعب "معين" كان قد فقد استقلاله، ولم يكن عنده ملوك، وعنده إن هذا النص قد أقدم عهدا من النص المرقم برقم Halevy 504، وهو النص الذي ورد فيه اسم "شهر بحل يهرجب" على إنه كان صاحب سلطان على حكومة معين. ف"شهر ه تل برن ذرأ كرب" في نظر "رودوكناكس" أقدم عهدا من "شهر يجل يهرجب"، وقد حكم إذن قبله.
وعندي إن هذه الكتابة تدل على إن من المعقول وجوب تقديم هذا الملك ونقله من المكان الذي وضعه فيه "البرايت" إلى مكان آخر يقدمه في الزمان. فقد وضعه "البرايت" في آخر قائمة ملوك قتبان، وبه ختم حكومة قتبان وأشار إلى نزول الدمار بالعاصمة بعده وبسقوط حكومة قتبان وان ملكا يحكم قتبان و معين أو قسما من معين كما يفترض بعض الباحثين، لا يمكن إن يكون آخر ملك لملوك قتبان للسبب المذكور، بل لا بد من تقديمه بعض الشيء، فان سقوط المملكة دليل على ضعفها و انهيار بنيانها وليس في هذه الكتابة أثر ما يشير إلى هذا الضعف أو الانهيار.
وعثر على كتابة تحمل اسم ملك يسمى "شهر هلل يقبض" عثر عليها في بيت عرف ب "يفعم"، يقع غرب الباب الجنوبي لمدينة "تمنع". ويرى "البرايت" إن خط هذه الكتابة خط متأخر كسائر الخطوط المكتوبة على الأبنية وان المحتمل إن يكون هذا البيت قد بني قبل خراب "تنع"، بنحو عشر سنين أو عشرين سنة، ولا يزيد عمر هذا البيت في رأيه على هذا الذي قدره بكثير.

(1/889)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرى "البرايت" احتمال إن "شهر هلل" "شهر هلال" الذي وجد اسمه على سكة من ذهب ضربت في مدينة "حريب"، هو هذا الملك، أي "شهر هلل يهقبض" "شهر هلال يهقبض". ويرى "فون وزمن" إن حكم الملك "شهر هلل يقبض" "شهر هلال يهقبض" كان فيما بين السنة "90" والسنة "100" بعد الميلاد. وفي عهده أو فيما بين السنة "100" والسنة "106" وقع خراب "تمنع" عاصمة قتبان.
وقد عثر على حجر مكتوب في موضع "هجر بن حميد"، جاء فيه اسم ملك يدعى "نبط ين شهر هلال"، ومعه اسم ابن له هو "مرثد". وقد ذهب "ألبرايت" إلى إنه من الملوك الذين حكموا في "حريب" والأرضين المتصلة في المناطق الغربية من "قتبان"، وذلك بعد سقوط مدينة "تمنع" فيما بين سنة "25 ق. م." والسنة الأولى من الميلاد، فهو على رأيه من الملوك المتأخرين الذين تعود أيام حكمهم إلى أواخر أيام هذه المملكة.
والملك المذكور هو "نبط عم يهنعم بن شهر هلل يهقبض"، فهو إذن ابن الملك "شهر هلال يهقبض" الذي يعد آخر الملوك المتأخرين. ويظهر إن "نبط عم" وابنه "مرثدم" "مرثد" كانا في جملة الملوك الذين انتقلوا إلى "حرب" "حريب" بعد خراب "تمنع" فاتخذوها عاصمة لهم. فهي العاصمة الثانية لقتبان. وقد سكنوا في قصرهم بي "حريب"، ولعل هذا الاسم هو اسم القصر، أما اسم المدينة، فقد كان غير ذلك، تماما كما كان قصر ملوك سبأ الذي هو بمدينة "مأرب" يسمى "سلحين" وقصر ملوك حمير الذي هو بمدينة "ظفار" يسمى "ريدان". ولعل هذا هو السبب الذي جعل ضاربو النقود القتبانية يذكرون إن موضع الضرب هو "حريب". غير إن هذا لا يمنع من إن يكون اسم "حريب" اسم للمدينة ولقصر الملوك في إن واحد.

(1/890)

admin
12-26-2010, 01:52 PM
و يرى "فون وزمن" إن الكتابة الموسومة ب "Jamme 629" والتي تتحدث عن حرب اشتركت فيها جملة جهات، هي حرب وقعت في عهد هذا الملك: "نبط عم". وقد ورد فيها إن حربا وقعت على مقربة من "وعلان"، وأن أصحاب الكتابة وهم: "مرثدم" "مرثد" و "ذرحان" من "بني ذو جرفم" بني "ذي كرفم" "كراف"، وكان أحدهم قائدا في جيش "الملك سعد شمس أسرع" و "مرثدم يهحمد" ملكا "جرات" "جرت" "جرأت" "كرأت" قد اشتركتا في هذه الحرب ضد الملك "يدع ايل" ملك حضرموت وجيش حضرموت، وضد الملك "نبطم" "ن ب ط م" ملك قتبان، وضد "وهب ايل بن معاهر" و "ذي خولان" و "ذي خصبح" وضد "مذحيم" "مذحي"، وقد كان النصر لهم، أي لأهل الكتابة.
وقد استدل "فون وزمن" من عدم ورود كلمة: "هجرن" "هكرن"، التي تعني مدينة في العربيات الجنوبية قبل اسم "تمنع"، "عدي خلف تمنع" على إن "تمنع" لم تكن عاصمة في هذا الوقت، بل كانت موضعا صغيرا أو اسم أرض حسب.
ولا يستبعد إن تكون هذه الحرب قد وقعت في أواخر أيام "نبط عم". ويرى "فون وزمن" إن "نبط عم" وان كان قد لقب في الكتابة بلقب "ملك" إلا إنه كان في الواقع خاضعا لحكم حكومة حضرموت. وقد جعل "فون وزمن" زمان حكمه في حوالي السنة "120 م" وجعل نهاية حكم ابنه في حوالي السنة "140" بعد الميلاد. ومعنى ذلك إن الحرب المذكورة قد وقعت في خلال هذه السنين.
وبعد انتهاء هذه الحرب اجتمع صاحبا الكتابة وهما من "بني ذي كرفم" "بن ذ جرفم" وكانا يقيمان في "صنعو" أي صنعاء، وكذلك ملكا "جرات" "كرأت" و "سعد شمس" و "مرثدم" وجماعة من سادات القبائل في موضع "رحبت" "الرحابة"، شمال "صنعاء" في وسط أرض "سمعى"، وكان في جملة من حضر، سادة "ثلث سمعى" و "شرحثت" من قبيلة "بتع" و "الرم" "ايل رام" "الريام" "ريام" من "سخيمم" "سخيم" "ويرم" "يارم ايمن" من همدان. ويظهر من ذلك إن سادة "كرأت" كانوا أصحاب نفوذ في تلك الأيام.

(1/891)


--------------------------------------------------------------------------------

يتفق جميع الباحثين في دراسة تأريخ الحكومات العربية الجنوبية على إن السبئيين هم الذين قضوا على استقلال حكومة قتبان. ولا نجد أحدا منهم يخالف هذا الرأي، ولكنهم يختلفون في تعيين الزمن و تثبيت. فبينما نرى "فلبي"، يجعل ذلك في حوالي سنة "540 ق. م."، نرى "البرايت" جعل سقوط مدينة "تنع" في حوالي سنة "50 ق. م."، بينما يرى غيره إن خراب "تمنع" كان فيما بين السنة "100" والسنة "106" بعد الميلاد، ولا يعني سقوط "تمنع" وخرابها وفقدان القتبانيين لاستقلالهم، إن الشعب القتباني قد زال من الوجود، وان اسمه قد اندثر تماما واختفى، فإننا نرى إن الجغرافي الشهير "بطلميوس" يذكر اسمها في جملة من ذكرهم من شعوب تقطن في جزيرة العرب، وقد سماهم "Kottabani" و "Kattabanoi".
وقد ذهب بعض الباحثين إلى إن خراب "تمنع" كان بعد السنة العاشرة للميلاد. وربما كان ذلك في أيام "جوليو - كلوديان" "Julio-Claudian"، أو في أيام "فلافيان" "Flavian".
وقد استدل "البرايت" من طبقة الرماد الثخينة التي عثر عليها وهي تغطي أرض العاصمة "تمنع"، على إنها كانت قد أصيبت بحريق هائل ربما أتى على كل المدينة. وقد أتى هذا الحريق على استقلال المملكة. ولا نعلم علما أكيدا في الوقت الحاضر بالأسباب التي أدت إلى حدوث ذلك الحريق، ولكن لا أستبعد احتمال حرق السبئيين لها عند محاربتهم للقبانيين، فقد كان من عادتهم ومن عادة غيرهم أيضا حرق المدن والقرى إذا مانعت من التسليم و بقيت تقاوم المهاجمين. وفي كتابات المسند أخبار كثيرة عن حرق مدن وقرى حرقا كاملا إلى حدة الإفناء.
قبائل و أسر قتبانية

(1/892)


--------------------------------------------------------------------------------

وردت في ثنايا الكتابات القتبانية أسماء اسر وقبائل قتبانية عديدة، طمست أسماء أكثرها ولم يبق منها حيا إلى زمن ظهور الإسلام غير عدد قليل، هذه الأسماء تفيدنا ولا شلك، في دراسة أسماء القبائل العربية فائدة كبيرة. والقبيلة هي "الشعب" في لهجة أهل قتبان، والجمع "اشعب" "أشعب"، أي قبائل. ومن هذه الأسماء "جدنم"، أي "جدن" "بنو جدن". و "جدن" من الأسماء المعروفة قبل الإسلام أيضا. وهو اسم جد واسم موضع، فزعم إن "ذا جدن" الأكبر ملك من ملوك حمير، وهو أحد المثامنة من ولده ذو جدن الأصغر. وقد يكون لما ذكره أهل الأخبار عن "ذي جدن" علاقة ب "جدن" المذكورين في الكتابات القتبانية وفي الكتابات العربية الجنوبية الأخرى.
وكان موضع "حبب" "حباب" من أمكنة "جدنم" "جدن". وقد ذكر في عدد من الكتابات. ويقال له اليوم "وادي حباب" وفيه مواطن عديدة، منها: "حزم الدماج" و "خربة المسادر". وقد ورد اسم "ذحب" "ذو حباب" في كتابة كتبت عند إنشاء سد لخزن المياه. ويقع "وادي حباب" في غرب "صرواح".

(1/893)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي جملة القبائل أو الأسر التي ورد اسمها في الكتابات القتبانية اسم "يهر" ويظهر إن "آل يهر" كانوا من أصحاب السلطان والصيت في ذلك العهد، وقد ذكروا مع أسر أخرى. ووردت في الموارد الإسلامية إشارات إلى "ذي يهر" فذكر "الهمداني" إنه كان في محفد "بيت حنبص" آثار عظيمة من القصور، وكان قد بقي منها قصر عظيم كان أبو نصر وآباؤه يتوارثونه من زمان جدهم ذي يهر. وكان ينجارته وأبوابه من عهد ذي يهر، ولم يزل عامرا حتى سنة خمس وتسعين ومئتين حيث أحرقه "براء بن الملاحق القرمطي". وذكر "نشوان بن سعيد الحميري" إن "ذا يهر" كان ملكا من ملوك حمير، وان "أسعد تيع" قال فيه شعرا، وغير ذلك مما يدل على إن ذاكرة أهل الأخبار لم تكن تعي شبة من أمر تلك القبيلة التي يمتد تأريخها إلى ما قبل الميلاد. ويتبين من بعض الكتابات إن ناسا من "يهر" كانوا أتباعا لقبيلة همدان. وأما "كحد" فهي من القبائل التي ورد اسمها مرارا في الكتابات القتبانية، وقد نسبت إلى جملة أمكنة، مما يدل على إنها كانت تنزل في مواضع متعددة. فورد "كحد ذ دتنت"، أي "كحد" النازلة في أرض "ذي دتنت"، وورد "كحد ذ حضنم"، أي "كحد" صاحبة "حضنم" "حضن"، وورد "كحد ذ سوطم"، أي "كحد" النازلة في موضع "ذي سوط"، وهكذا. وفي انتشار هذه القبيلة في أرضين متعددة دلالة على إنها كانت من قبائل قتبان الكبيرة. وفي نص في النصين المعروفين ب "Glaser 1600" و "Glaser 1620" على إنها حانت "شعبن"، أي قبيلة.
ويظهر -إنها كانت تتمتع بشبه استقلال، فقد ذكرت باسمها مع "أوسان" و "تبني" و "دهس"، و "قتبان" في بعض النصوص، متعاونة مع "قتبان" في القيام ببعض الأعمال العامة ذات المنافع المشركة، مما يدل على إنها هي والقبائل الأخرى المذكورة، كانت تعامل معاملة خاصة، و إنها كانت تتمتع بشيء من الاستقلال، وربما كانت مستقلة ولكنها كانت في حلف مع مملكة قتبان.

(1/894)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد تحدثت عن كتابة رقمت برقم "Glaser 1601"، وقلت إنها أمر أصدره الملك "شهر غيلن بن اب شيم" "شهر غيلان بن ابشبم"، في كيفية جباية الضرائب من "كحد" النازلة في أرض "دتنت"، وان الملك المذكور كان قد كل أمر جبايتها إلى "كبر" "كبير القبيلة"، ويظهر منها إن "كحدا" هذه كانت تدفع الضرائب لقتبان، وكانت معترفة في هذا الوقت بسيادة ملك قتبان عليها.
ومن القبائل التي ورد اسمها في الكتابات القتبانية قبيلة "اهربن" وقد نعتت ب "شعبن اهربن"، أي قبيلة "اهربن" "أهرب". وكانت مواضعها في "ظفر". وقد ورد في إحدى الكتابات إنها جددت وأصلحت بناء "محندن حضرن"، أي "محفد حضر"، مما يدل على إنه كان من المحافد التي تقع في منازل هذه القبيلة.
و "ذران" "ذرأن" من القبائل التي ورد اسمها مرارا في الكتابات القتبانية. وقد رأينا إن بعض الكتابات أرخت بتأريخ هذه القبيلة.
وورد أما في كتابات عثر عليها بمدينة "تمنع" العاصمة. ومن هذه القبيلة أسرة عرفت ب "هران" "هرن"، ذكرت مع أسر اخرى، كانت قد شهدت على صحة محضر قانون في تنظيم الضرائب وكيفية جبايتها، أصدره الملك "شهر يجل يهرجب".
وورد اسم قبيلة أو عشيرة "طدام" "طدأم" في جملة كتابات قتبانية. ويرى بعض الباحثين إن اسم هذه القبيلة هو من الأسماء الخاصة بقتبان.
ومن بقية قبائل قتبان: قبيلة "هورن" "هوران"، وقبيلة "قلب" "قليب". وقد ذكر "ابن دريد" في كتابه "الاشتقاق" قبيلة تدعى "بني القليب"، و يذكرنا هذا الاسم باسم هذه القبيلة القديم. و "ردمن" "ردمان" و "الملك" و "مذحيم" و "هيبر" و "يجر"، و هم أسرة أو قبيلة أرخت بعض الأوامر والقوانين بتأريخهم. و "رشم" "آل رشم" "رشام"، وهم من "آل قفعن"، "آل قفعان"، ومنهم "عم علي" الذي ارخت به بعض الكتابات، ومن "شحز" "سمكر".

(1/895)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن أسماء القبائل القتبانية الواردة في الكتابات: "دهسم" "دهس"، و "يجر"، و "حضرم"، و "تبني"، و "ذرحن" "ذرحان"، و "بوسن" "بوسان"، و "معدن" "معدان"، و "اجلن" "أكلن" "اجلان" "اكلان"، و "شبعن" "شبعان"، و "فقدن" "فقدان"، و "ذمرن" "ذمران"، و "اجرم" "أجرم"، و "ليسن" "ليسان"، و "يسقه ملك"، و "عرقن"، "بنو عرقان" "بن عرقن"، و "برصم" "بنو برصوم" "بنو برصم"، و "قشم" "بن قشم" "بنو قشم"، و "بينم" "بنو البين"، و "يرفأ" ""رفا"، و "غريم" "غرب" "غارب"، وهم من "نشئان"، و "محضرم" "محضر" و "عبم رشوان" "عبم رشون" و "مرجزم" و "خلبان" "خلين" و "هران" من "ذرأن"، و قبائل عديدة أخرى.
ويرى بعض الباحثين إن "الملك" "المالك"، الذين كانوا في عهد الملك "يدع أب ذبيان" والذين ذكروا مع "ردمان" و "مذحي" "مذحيم" و "يحر"، هم قبيلة من القبائل الكبيرة التي كانت في قتبان في ذلك العهد. ويرون إن لهم صلة ب "العماليق" المذكورين في التوراة. وقد كانوا يسكنون في "وسر"، وهي أرض "العوالق" العالية في هذا اليوم. ونظرا إلى ما لكلمة "عوالق" و "المالك" من صلة، ذهبوا إلى إن العوالق هم "المالك" "الملك" المذكورون.
ويرى "فون وزمن" احتمال إن "الملك" "المالك من القبائل التي كانت تنزل فيها بين "ردمن" "ردمان" و "مفحيم" "مفحي"، وقد عدل بذلك رأيه السابق الذي كان قد جعل منازل تلك القبيلة في أرض "أوسان".
كما ذهب إلى إن منازل "يحر" لم تكن في أرض "مراد"، لأن "مرادا" هي "حرمتم". وذهب إلى إن "يحر" هذه، تختلف عن "يحر" القبيلة المذكورة في النص: "REP. EPIG. 4336".
وأما "شيار" "سيار"، الذين ذكروا في نص الملك "يدع اب ذبيان" بعد "وعلان" فانهم "سيار" في الوقت الحاضر على بعض الآراء. وهم عشيرة صغيرة منعزلة تعيش في أرض "العوذلة" "العوذلي"، و يرى بعض الباحثين إن موضع "حصى"، هو مكان "شيار".

(1/896)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي "حصى"، خرائب وآثار. وقد ذكر "الهمداني" انه كان ل "شمر تاران" و فيه قبره. وذكر في كتابة "الإكليل"، إن في "حصى" قصر ل "شمر تاران لهيعة" من "رعين" وفيه قبره. وذكر من زار الموضع من السياح المستشرقين، إنه رأى هناك آثار خرائب واسعة ذات حجارة ضخمة وكتابات كثيرة وتماثيل بحجم الإنسان. ولا يستبعد إن يكون هذا الموضع مدينة مهمة كبيرة من مدن تلك الأيام.
مدن قتبان
أهم مدن قتبان، هي العاصمة "تمنع"، وتعصرف حديثا ب "كحلان" وب "هجر كحلان" في "وادي بيحان" في منطقة عرفت قديما بخصبها وبكثرة مياهها وبساتينها، ولا تزال آثار نظم الري القديمة تشاهد في هذه المنطقة حتى اليوم.
%)223( و تمنع هي "Tamna" أو "Thomna" و "Thumna" عند "الكلاسيكين". و قد أختلف علماء العربيات الجنوبية المتقدمون في تعين مكان هذه العاصمة إلى بلغت شهرتها اليونان و الرومان. ثم تبين أخيرا انها الخرائب التي تسمى اليوم ب "كحلان" و ب "هجر كحلان". و قد أثبتت هذا الرأي وأيدته الحفريات التي قامت بها البعثة الأمريكية التي كونها "ويندل فيلبس"، إذ عثرت على كتابات عديدة وعلى أثار أثبت ت إن "كحلان" اليوم، هي "تمنع" أسر، سوى إن "تمنع" اليوم هي خراب وأتربة تؤلف حجابا كثيفا يغطي الماضي الجميل البعيد. أما "تمنع" أمس، فكانت مدينة عامرة ذات ذهب وتراث ومعابد عديدة، ووجوه ضاحكة مستبشرة. هذا هو وجه "تمنع" في هذا اليوم ووجهها في الماضي وفرق كبير بين هذين الوجهين.
ويرى "أوليري" إن مدينة "ثومة" "Thouma" المذكورة في جغرافية "بطلميوس" هي مدينة "تمنع". وقد ذكر. "بلينيوس" إن "Thouma" تبعد "4,436" ميلا من "غزة"، وتقطع هذه المسافة بخمس وستين يوما تقريبا على الإبل، وأنها هي ومدينة "Nagia" هما من أكبر المدن في العربية الجنوبية، وبها خمسة وستون معبدا.

(1/897)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد اختارت البعثة الأمريكية البقعة الجنوبية من مدينة "تمنع" الكائنة على مقربة من بابها الجنوبي لتكون الموضع الذي تسرق منه أخبار الماضين، وتنبش فيه الأرض لتسألها عن أخبار الملوك ومن كان يسكن هذه المدينة من أناس. وسبب اختيارها هذه البقعة وتفضيلها على غيرها من خربة هذه المدينة التي تقدر مساحتها بستين فدانا، إنها تكشف عن نفسها بين الحين والحين بتقديم إشارات تظهرها من خلال الرمال المتراكمة عليها، لتنبئ إن في بطون تلال الرمال كنوزا تبحث عن عشاق لتقدم نفسها إليهم، وعن هواة البحث عن الماضي لتبث لهم هوى أهل "قتبان"، و أخبار عاصمتهم الحبيبة ذات المعابد الجميلة العديدة التي ذهبت خ أهلها الذاهبين، كما اختارت بقعة أخرى لا تبعد عن ركام "تمنع" غير ميل و نصف ميل لتكون مكانا آخر تحفر فيه لتستخرج منه حديثا عن الماضي البعيد. وسبب اختيارها لهذا المكان إنه كان مقبرة أهل "تمنع" والمقابر من المحجات التي يركض خلفها المنقبون، لأنهم يبدون فيها أشياء كثيرة تتحدث عن أصحابها الثاوين فيها منذ مئات من السنين.
وكان موضع "هجر بن حميد"، وهو على تسعة أميال من جنوب آثار مدينة "تمنع"، مكانا آخر من الأمكنة التي اختارتها البعثة للحفر فيها. وهو عبارة عن تل بيضوي الشكل يرتفع زهاء سبعين قدما، يظهر إنه كان قرية مهمة في ذلك العهد، طمرها التراب فصارت هذا التل العابس الكئيب. وقد سبق إن عثر في هذا الموقع على آثار، منها لوح من البرنز صغير، عليه رسوم وكتابات،عثر عليه أحد الأعراب هناك. ولهذا تشجع رجال هذه البعثة الأمريكية على الحفر في هذا الموضع.

(1/898)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان من نتائج أعمال الحفر عند الباب الجنوبي لمدينة "تمنع" إن عثر على آثار ذلك الباب الذي كان يدحل منه الناس إلى المدينة و يخرجون منه من هذه الجهة، كما عثر على أشياء ثم ثمينة ذات قيمة في نظر علماء الآثار، إذ عثر على قدور كبيرة وعلى خرز وكتابات وأقراص صنعت من البرنز والحديد. وعثر على شيء آخر قد لا يلفت نظر أحد من الناس إليه، وقد يجلب السخرية على من يذكره ويتحدث عنه لتفاهته وحقارته في نطر من لا يهتم بالآثار وبالنبش في الخرائب، ذلك الشيء التافه الحقير هو طبقات من رماد وبقايا خشب محروق ومعادن منصهرة وقطع من حجارة منقوشة وغير منقوشة، وقد لبست ثوبا من السخام كأنها لبسته حدادا على تلك المدينة التي كانت جميلة فاتنة في يوم من الأيام. أما ذلك الرماد، فإنه صار في نظر رجال البعثة علامة على إن المدينة المذكورة المسكين ة كانت قد تعرضت لحريق هائل أحرق المدينة وأتى عليها، ولعل ذلك كان بفعل عدو مغير أراد بها سوءا، فقاومته وعصته ولكنه تمكن وتغلب عليها، فعاقبها بهذا العقاب الجائر المؤلم.
وفي جملة ما عثر عليه من كتابات، كتابة ورد فيها اسم الملك "شهر يجل يهرجب" "شهر يكل يهركب"، و كتابات أخرى ورد فيها أسماء حكام آخرين. كما عثر على عمودين كتب على كل واحد منهما كتابة تبلغ زهاء خمسة وعشرين سطرا، وعلى كتابات على جدار بيت "يفش"، وهو بيت معروف وقد حصل السياح على كتابات ورد فيها اسم هذا البيت، وعلى كتابة عليها على بيت "ينعم"، وقد ورد فيها اسم الملك "شهر هلل يهقبض"، وهو من البيوت المعروفة في هذه العاصمة. و ترى إن عمره لا يتجاوز عشرين سنة عن خرابها.

(1/899)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ساعد عثور البعثة الأمريكية على غرف بيوت سليمة أو شبه سليمة رجال البعثة على تكوين رأي في البيوت القتبانية. فقد وجدت في البيت الذي سمي ببيت "يفش"، ثلاث غرف ممتدة على الجهة الشرقية للبيت. وقد وجدت في إحدى الغرف مرايا صنعت من البرنز وصناديق محفورة منقوشة وعليها صور ورسوم، لها قيمة تاريخية في ثمينة من ناحية دراسة الفن العربي القديم. وسوف تقدم الحفريات في استقبل صورا واضحة ولا شك لبيوت العربية الجنوبية و تنظيم القرى والمدن فيها، وعندئذ يكون في استطاعتنا تكوين رأي واضح في الحضارة العربية في العربية الجنوبية قبل الإسلام.
وقد وجد إن الباب الجنوبي لمدينة "تمنع" كان ذا برجين كبيرين، بنيا بحجارة غير مشذبة، حجم بعضها ثماني أقدام في قدمين. وقد كانا ملجأين للمحاربين، يلجأون إليهما وإلى الأبراج الأخرى للدفاع عن المدينة ضد مهاجمة العدو. وقد وجدت نقوش كثيرة على الحجارة الكبيرة التي شيد منها البرجان. ويظهر إن زخارف من الخشب كانت تبرز فوق الباب لأعطائه جمالا ورونقا وبهاء، كما يتبين ذلك من آثار الخشب التي ظهرت للعيان بعد رفع التراب والرمال عن الباب.
وقد تبين إن مدخل الباب الجنوبي يؤدي إلى ساحة واسعة مبلطة ببلاط ناعم وضعت على أطرافها مقاعد مبنية من الحجر، لجلوس الناس عليها، ومثل هذه الساحات هي محال تلاقي الناس ومواضع اجتماعهم وتعاملهم، كما هو الحال في اكثر من ذلك اليوم.

(1/900)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي جملة الأشياء الثمينة التي عز عليها في "تمنع" تمثالا أسدين صنعا من البرنز، أثرت فيهما طبيعة الأرض فحولت لونهما إلى لون أخضر داكن، وقد ركب أحدهما راكب يظهر وكأنه طفل سمين على هيأة "كيوبيد" ابن "فينوس" إله الحب، يحل بإحدى يديه سهما وباليد الأخرى سلسلة قد انفصمت، تنتهي بطوق يطوق عنق الأسد، يشعر أنه كان متصلا بالسلسلة التي قطعها الزمان باعتدائه عليها. وأما الأسد الآخر، فقد فقد راكبه و بقي من غير فارس، إلا إن موضع ركوبه بقي على ما كان عليه يقدم دليلا على إن شخصا كان فوق ذلك الأسد. وقد وجد إن التمثالين كانا على قاعدتين، مكتوبتين، ورد فيهما اسم "ثوبم"، "ثويبم". وقد ورد هذا الاسم نفسه في كتابة وجدت على جدار بيت "يفش" كتبت في أيام الملك "شهر يجل يهرجب". وقد استدل "ألبرايت" من طريقة صنع التمثالين ومن طرازهما أنهما تقليد ومحاكاة لتماثيل "هيلينية"، ولا يمكن لذلك إن يرتقي تأريخ صنعهما إلى أكثر من "150" سنة قبل الميلاد، وذلك لأن اليونان لم يكونوا صنعوا هذا النوع من التماثيل قبل هذا التأريخ.
وقد أعلن "ثويبم بن يشرحعم" و "صبحم" و "هوفعم"، وكلهم من "آل مهصنعم"، إنهم ابتاعوا البيت المسمى ب "بيت يفش" ورمموه وأصلحوه، وعمروا سقفه و ممراته و مماشيه، بمشيئة "انبي" وباركوه بالآلهة "عثتر" و "عم" و "انبي" و "ورفو ذلفان" "ورفو ذلفن" و"ذات صنتم" و "ذات ضهران". وقد تم ذلك في عهد الملك "شهر يجل يهرجب" وقد تم "ثويبم" اسمه على قاعدة تمثال الأسد المصنوع من البرنز، وسجل معه اسم "عقربم" "عقرب". ويظهر أنهما أمرا بصنع التمثالين، أو أنهما صنعاهما ليكونا زينتين في هذا البيت.

(1/901)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرى الخبراء في موضوع تطور الخط، والمتخصصين في دراسات المصنوعات المعدنية إن هذين التمثالين لا يمكن إن يكونا قد صنعا قبل الميلاد، وان عهد صنعهما يجب إن يكون في القرن الأول للميلاد، في حوالي السنة "75" أو المئة بعد الميلاد، وذلك لعثور العلماء على عدد من التماثيل المشابهة، وهي من القرن الأول للميلاد. و يرون لذلك إن الملك "شهر يجل" الذي في أيامه صنع هذان التمثالان يجب إن كون من رجال النصف الثاني من القرن الأول للميلاد.
وقد توصل رجال البعثة الأمريكية إلى إن مدينة "تنع" كانت قد جددت مرارا، ذلك انهم كانوا كلما تعمقوا في الحفر وجدوا طبقات تشير إلى قيام بيت على بيت آخر، وان البيوت المبنية في الطبقات السفلى هي بيوت مبنية من "اللبن"، أي الطين المجفف بالشمس. وذلك يدل على إن الناس أقاموها بيوتا ساذجة بسيطة، فلما تقدم الزمن ونزح الناس إليها، ازداد عمرانها، و اتخذ من نزحوا إليها الحجر والصخور المقطوعة مادة للبناء، فظهرت البيوت العامرة، ظهرت فوق البيوت القديمة على عادة الناس في ذلك العهد في بناء البيوت الجديدة فوق البيوت القديمة وعلى أنقاضها، ومن هنا صار في إمكان عالم الآثار تقدير عمر الطبقات والاستدلال بواسطته على العهود التاريخية التي مرت على المدينة.

(1/902)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد تبين من فحص المقبرة: مقبرة أهل "تمنع" إن حرمتها كانت قد انتهكت في الماضي وفي الحاضر، وأن سراق القبور الطامعين في الذهب وفي الأحجار الكريمة وفي الكنوز كانوا قد نبشوا القبور وهتكوا أسرارها لاستخراج ما فيها، وقد تعرضت بذلك للتلف وتعرض ما فيها مما لم يؤخذ لعدم وجود فائدة مادية فيه بالقياس إليهم للكسر والتلف والأذى، كما تبين إن سراق القبور المعاصرين ما زالوا على سنة أسلافهم يراجعون هذه القبور وغيرها غير عابئين بحرمتها، لأنهم يطمعون في كنوز، سمعوا عنها إنها تغني، وأنها تجعل من المعدم ثريا. وقد زاد في جشعهم إقبال الغربيين على شراء ما يسرقونه، وان كان حجرا، بثمن مهما كان زهيدا تافها في نظري و نظرك إلا إنه شيء كثير في نظر الأعراب الذين لا يملكون شيئا. فالفلس على تفاهته ذو قيمة و أهمية عند من لا يملكه.
وقبور هذه المقرة مع تعرضها للنبش و الاعتداء لا يزال كثير منها محتفظا بكنوز ثمينة ذات أهمية كبيرة عند رجال الآثار وعشاق البحث عن الماضي. ونتيجة لبحث فريق من البعثة الأمريكية في بعض القبور على التل وفي سفوحه وفي الأرض المحيطة به، وجدت أشياء ذات قيمة، وتمكنت من تكوين رأي عن هيئة القبور و هندستها عند القتبانيين. لقد تبين لهم إن قبورهم كانت مزخرفة متينة البناء، وأن المقبرة عندهم كناية عن دهليز طويل صفت على جانبيه القبور. والقبور عبارة عن غرفتين إلى أربع غرف لها أبواب تؤدي إلى الدهليز أرى إنها بهذا الوصف قبور آسر، فمتى مات شخص من الأسرة فتح باب المقرة وأدخل الميت إلى الدهليز الشيء هو الممر، ليوضع في الغرفة التي تختار له ليثوي فيها.

(1/903)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد وجدت في غرف الأموات عظام بشرية مهشمة، ووجدت في الممرات جرار وخزف وأشياء أخرى. ولكنها وجدت مكسورة ومحطمة في الغالب ؛ ولم يعثر على هيكل بشري واحد موضوع بصورة تشعر أن عظامه كانت كلها سليمة. وهذا مما جعل البعثة ترى إن للقتبانيين عادات دينية خاصة في دفن موتاهم، من ذلك إنهم كانوا يكسرون ما يأتون به من أشياء يضعونها مع الميت، عند وضعها في القبر، وانهم كانوا يضعون ما يرون ضرورة وضعه مع الميت في الممرات التي تقع على جانبها غرف الأموات. أما الغرف، فقد كانت مستودعات تحفظ فيها العظام. ولذلك تكدست تكدسا. وهي عادة عرفت عند أمم أخرى في مختلف أنحاء العالم.
وفي جملة ما عثر عليه من أشياء ذات قيمة كبيرة من الوجهة الفنية، رأس لفتاة منحوت من رخام أبيض معرق، وقد تدلى شعرها على شكل خصلات مجعدة على الطريقة المصرية وراء رأسها. وكانت أذناها مثقوبتين ليوضع حلق الزينة فيهما، ووجد إن جيدها محلى بعقد. وكانت عيناها من حجر اللازورد الأزرق على الطريقة المصرية. وقد نحت التمثال بإتقان وبذوقي يدلان على مهارة وفن، كما عثر على بقايا ملابس وأخشاب متأكلة وعلى حلي بعضه من ذهب، و من جملته عقد من ذهب، يتألف من هلال فتحته إلى الأعلى. أما حاشيته، فإنها مخرمة، وقد زين الهلال بإسم صاحبته.
ومن مدن قتبان مدينة "شور" "شوم"، وقد كان أهلها من قبيلة "ذهربت" "ذو هربة"، وقد ذكرت في نص سبق إن تحدثت عنه، وذلك لمناسبة بنائها حصنا أمام سور المدينة، إذ كان الحصن القديم قد تهدم في عهد الملك "وروال غيرن يهنعم". وقد عرف هذا الحصن بحصن "يخضر" "يخضور".

(1/904)

admin
12-26-2010, 01:53 PM
ومن مدن "قتبان"، مدينة "حرب"، وهي "حريب". وقد ذكرت في الكتابات، واشتهرت عند الباحثين بالنقود التي تحمل اسمها لأنها فيها ضربت. وقد أشار "الهمداني" إلى "حريب"، وتقع كما يظهر من وصفه في أرض قتبان. و هناك موقع آخر يقع على خمسة و خمسين كيلومترا إلى شرقي شمالي صنعاء على طريق مأرب، يسمى "حريب". و قد عثر على نقود ضربت في "حريب"، منها نقد ضرب في عهد "يدع اب ينف" "يدع أب ينوف".
و ورد في الكتابات اسم مدينة تدعى "برم". فورد في كتابة من أيام الملك "يدع اب ذبيان بن شهر" مكرب قتبان، كتبت عند تمهيده الطريق بين هذه المدينة و مدينة "حرب" "حريب" و إنشاء مبلقة أي شق طريق جبلي، ليساعد على الوصول بيسر و سهولة بين المكانين. و ورد في كتابة أخرى عند انتهاء الملك "يدع اب ذبيان" من بناء "برج برم".
%231
و هناك واد عرف بوادي "برم" في أرض "احرم" "أحرم". وفي التقويم القتباني شهر من شهورهم عرف به "برم". و ورد كلمة "برم" اسم علم للأشخاص.
ومن الأرضين والأماكن التي ورد اسمها في النصوص القتبانية والتي يفيد ذكرها هنا، لأنها ترشدنا إلى معرفة أسماء البقاع التي كانت خاضعة لحكم قتبان، أرض "لتلك" و "ذبحتم" "ذبحة" و "دتنت" "دتنة"، و "لبخ" و "دونم" و "ورفو" و "خضنم" و "يسرم" و "غيلم" "غيل".
و "عم"، هو إله شعب "قتبان" الرئيس. وبه تسمى ذلك الشعب، حيث كانوا يعبرون عن أنفسهم ب "ولد عم". ويتقربون إليه بالنذور والذبائح. وكانت له معابد في أرض قتبان أشهرها معبد: "عم ذلبخ"، أي معبد "عم" في "لبخ" من "ذي غيل". ويرى بعض الباحثين إن هذا المعبد بني في موضع عرف ب "ذي غيل"، ثم أنشأ "يدع أب غيلان" مدينة حول هذا المعبد عرفت باسمه، فدعيت به "ذي غيلان"، وهي موضع "هجر بن حميد" في الوقت الحاضر.
قوائم بأسماء حكام قتبان

(1/905)


--------------------------------------------------------------------------------

هذه قوائم بأسماء حكام "شبان" كما وضعها الباحثون في العربيات الجنوبية. وأذكر أولا القائمة التي وضعها "فريتس هومل"، وهي تتكون من جمهرات رتبت على النسب وصلة القربى، وقد استخرجها من الكتابات: الجمهرة الأولى و تتكون من المكربين: 1-شهر.
2 - يدع اب ذبين يهنعم. "يدع أب ذبيان يهنعم" Glaser 1410=1618 الجمهرة الثانية: 3 - يدع اب "يدع أب".
4 - شهر هلل يهرحب أو يهنعم، "شهر هلال يهركب أو يهنعم"،Glaser 1404=SE 85.
الجمهرة الثالثة: 5 - سمه علي وتر.
6 - هوف عم يهنعم "هوفعم يهنعم" Glaser 1117, 1121, 1333, 1344, 1345 والكتاباتان الحلوزنيتان: Glaser 1343, Glaser 1339 الجمهرة الرابعة: 7-شهر.
8 - يدع اب ذبين "يدع أب ذبيان".
وقد ذكر "هومل" إن من الممكن اختصار هذه الجمهرات، إذ من الجائز إن يكون من الأسماء المتشابهة المتكررة ما هو لإنسان واحد.
ورتب أسماء ملوك قتبان على النحو الآتي: الجمهرة الأولى: 1 - اب شيم "أبشبم".
2 - شهر غيلن "شهر غيلان".
3 - ب عم "بعم" Glaser 1119, Glaser 1348, 1601, 1115 ? الجمهرة الثانية: 4 -يدع اب "يدع أب".
5 - شهر يجل "شهر يكل". Glaser 1602 6 - شهر هلل يهنعم "شهر هلال يهنعم" Glaser 1395, 1413 الجمهرة الثالثة: 7-شهر.
8 - "دع اب ذبين ""يدع أب ذبيان".
9 - شهر هلل "شهر هلال".
10-نبط عم "نبطعم".
وقد قال "هومل" إن من الجائز تقديم هذه الجمهرة على الجمهرة الأولى من جمهرات الملوك، أو إلحاقها بالجمهرة الأولى بحيث تكون على هذا النحو: اب شبم "أب شبم" "أبشبم".
شهر غيلن "شهر غيلان" ب عم "بعم" "بيعم" "بي عم".
يدع اب ذبين "يدع أب ذبيان".
شهر يجل "شهر يكل".
شهر هلل يهنعم "شهر هلال يهنعم".
نبط عم "نبطعم".
الجمهرة الرابعة: 11- هوف عم يهنعم "هوفعم بهنعم".
12- شهر يجل يهرجب "شهر يكل يهرجب"، Glaser 1400, 1406, 1606.

(1/906)


--------------------------------------------------------------------------------

13- وروال غيلن يهنعم "وروابل غيلان يهنعم"، Glaser 1392, 1402 14- فرع كرب يهوضع "فرعكرب يهوضع"، Glaser 1415.
الجمهرة الخامسة: 15- سمه وتر.
16 - وروال "وروايل".
الجمهرة السادسة: 17- - ذمر علي.
18- يدع اب يجل "يدع أب يكول".
الجمهرة السابعة: 19- يدع اب ينف يهنعم "يدع أب ينوف يهنعم".
20- شهر هلل بن ذراكرب "شهر هلال بن ذرأكرب".
21- وروال غيلن "يهنعم" "وروايل غيلان "يهنعم"".
قائمة "رودو كناكس"
وقد استفاد "هومل" في ترتيب قائمته المتقدمة بالقوائم التي وضعها "كروهمن" "Grohmann" و "رودوكناكس" و "مارتن هارتمن" Martin Hartmann.
وقد ذكر "كروهمن" تسعة مكربين، ولم يذكر بن الملوك الملك "سمه وتر". أما قائمة الملوك التي صنعها "رودوكناكس"، فتتألف من جمهرات كذلك. تبدأ الجمهرة الأولى بعد "يدع اب ذبين بن شهر" "يدع أب ذبيان بن شهر" آخر المكربين، وهو الذي لقب في عدد من الكتابات بلقب ملك، ولقب في عدد آخر بلقب "مكرب"، فهور مكرب وملك على قتبان. وتتألف قائمة "رردوكناكس" لملوك قتبان من الجمهرات التالية: الجمهرة الأولى: 1 - اب شبم "أب شبم" "أبشبم". و ترتيبه السابع في قائمة "كروهمن".
2 - شهر غيلن "شهر غيلان". و ترتيبه الثامن في قائمة "كروهمن".
3 - بعم "ب عم"، "بي عم" "أبي عم"، و ترتيبه التاسع في قائمة "كروهمن" Glaser 1601.
الجمهرة الثانية: 4 - يدع اب "يدع أب". ورقمه الخامس في قائمة "كروهمن".
5 - شهر يبل "يهنعم" "شهر يكل "يهنعم" " "شهر يكول "يهنعصم""، و هو السادس عند "كروهمن"، Glaser 1395, 1412, 1602, 1612 6 - شهر هلل يهنعم "شهر هلال يهنعم". ويرى إنه "شهر هلل بن ذراكرب" "شهر هلال بن ذرأكرب"، الذي يرد اسمه في المجموعة الآتية: Glaser 1395, 1412, 1413, KTB., I, 43, 11, S., 48.
الجمهرة الثالثة: 7 - ذراكرب "ذرأكرب"، ورقمه الثاني عشر في قائمة "كروهمن".

(1/907)


--------------------------------------------------------------------------------

8 - شهر هلل "شهر هلال"، وترتبه الثالث عشر في قائمة "كروهمن". Glaser 1396 الجمهرة الرابعة: 9 - هوف عم "هوفعم"، وهو الرابع عشر في قائمة "كروهمن".
10- شهر يبل يهرجب "شهر يكل يهركب" "شهر يكول يهركب". وهو الخامس عشر عند "كروهمن". Glaser 1087, Halevy 507, Glaser 1606 11- وروال غيلن يهنعم "وروايل غيلان يفعم" وترتيبه السادس في قائمة "كروهمن"، Glaser 1000A.
الجمهرة الخامسة: 12- يدع أب يجل "يدع أب يكل" "يدع أب يكول".
وذكر "رودكناكس" اسم الملكين: "سمه وتر" و "وروال" "وروايل". ورأى إن أمكنتهما بعد الجمهرة الرابعة، غير إنه لم يفرد لهما جمهرة خاصة.
قائمة "كليمانت هوار"
ذكر "هوار" أسماء حكام قتبان دون إن يشير إلى وقت حكمهم أو صفة الحاكم من حيث كونه مكربا أو ملكا. وعدتهم كلهم عشرة، هم: 1 -يدع أب ذبيان.
2 - شهر يجول "شهر يكول".
3 - هوف عم "هوفعم".
4 - شهر يجول يهرجب "شهر يكول يهركب".
5 - وروايل غيلان يهنعم.
6 - أبشبم "أب شبم".
7 - شهر غيلان.
8-بعم "بي عم".
9 - ذمر على "ذمر علا".
15- يدع اب يجول "يدع اب يكول".
قائمة "فلبي"
وقد نشرت في آخر كتاب "سناد الإسلام" "Background of Islam" وتتألف من: ا - سمه على. وهو مكرب، ولم يعرف اسم أبيه، وقد حكم على تقديره في حدود سنة "865 ق. م.".
2 - هوف عم يهنعم بن سمه على "هوفعم يهنعم بن سمه على" "سمهعلي"، و هو مكروب كذلك، حكم في حدود سنة "845 ق. م.".
3-شهر يجل يهرجب بن هوف عم "شهر يهركب بن هوفعم"، وقد جعله ملكا، حكم في حوالي سنة "825 ق. م.".
4 - وروال غيلن يهنعم بن شهر يجل يهرجب "وروايل غيلان يهنعم بن شهر يكل يهركب". وقد كأن ملكا، حكم في حوالي سنة"800 ق.م ".
5 - فرع كرب يهوضع بن شهر يجل يهرجب "فرعكرب يهوضع بن شهر يكل يهركب"، وشقيق "وروايل". وقد كان ملكا حكم في حوالي سنة "785 ق. م.".

(1/908)


--------------------------------------------------------------------------------

6 - شهر هلل بن ذراكرب بن شهر لمجل يهرجب "شهر هلال بن ذرأكرب بن شهر يكل يهركب". وقد كان ملكا، حد في حوالي سنة "770 ق. م.".
7 - يدع اب ذبين يهرجب بن شهر هلل "يدع أب ذبيان يهرجب بن شهر هلال"، وقد كان على رأيه مكربا وملكا، حكم في حدود سنة "750 ق.م.".
8 - ? ? ? بن شهر هلل "شهر هلال" وقد كان حكمه حوالي سنة "735 ق، م.".
9 - شهر هلل يهنعم بن يدع اب ذبين يهرجب "شهر هلال ينعم بن يدع أب ذبيان يهركب". وقد كان ملكا حكم حوالي سنة "720 ق. م.".
10-نبط عم بن شهر هلل "نبطعم بن شهر هلال"، حكم في حوالي سنة "700 ق. م.".
11- "يدع اب ينف أو يجل ? يهنعم بن ذمر على، أو شقيق شهر هلل بن يدع اب ذبين يهرجب. وقد حكم حوالي سنة "680 ق. م.".
12- ? ? ?. وقد حكم في حوالي سنة "660 ق. م." 13- سمه وتر بين ? ? ?. و حكم حوالي سنة "640 ق.م.".
14- وروال ? ? بن سمه وتر. وقد حكم في حدود سنة "620 ق. م.". وترك "فلبي" فجوة قدرها. نحو من عشر سنين بين الملك المتقدم والملك الذي تلاه، ثم ذكر: 15- اب شبم "أبشبم"، ولم يعرف اسم أبيه. وقد حكم على تقديره في حوالي سنة "590ق. م.".
16- اب عم بن اب شبم "أب عم بن أب شبم" "أبعم بن أب أبشبم"، و قد كان حكمه في سنة "570ق. م.".
17- شهر غيلن بن اب شبم "شهر غيلان بن أبشبم"، وقد كان حكمه من سنة "555ق. م." إلى سنة "540ق.م." وسنة"540ق. م." كانت على رأي "فلبي" نهاية مملكة "قتبان"، فاندمجت في مملكة سبأ وأصبحت جزءا منها.
قائمة "ألبرايت"
س علي وتر "سمهعلي وتر" "مكرب".
هوف عم يهغم من سمه علي وتر "هوفعم يهنعم بن سمهعلي وتر"، وكان مكربا حكم في القرن السادس قبل الميلاد. وهو ابن المكرب الأول.
....................
شهر.
يدع اب ذبين يهنعم بن شهر "يدع أب ذبيان يهنعم بن شهر" مكرب. شهر هلل به... بن "يدع اب". مكرب.
سمه وتر. يحتمل إنه كان مكربا، وهو الذي غلبه "يثع أمر وتر" مكرب سبأ.

(1/909)


--------------------------------------------------------------------------------

وروال "وروايل" يحستمل إنه كان مكربا. وكان تابعا ل "كرب آل وتر" "كرب ايل وتر" أول ملك على سبأ. وقد كان حكمه في حدود سنة"450 ق.م.".
....................
شهر مكرب.
يدع أب ذبين بن شهر "يدع أب ذبيان بن شهر" آخر مكرب في قتبان، وأول ملوكها. وقد كان حكمه في نهاية القرن الخامس قبل الميلاد.
شهر هلل بن يدع اب "شهر هلال بن يدع أب".
نبط عم "بن شهر هلل" "نبطعم بن شهر هلال".
....................
ذمر علي.
يدع اب يجل بن ذمر علي "يدع أب يكل بن ذمر علي" وقد عاصر ثلاثة ملوك من ملوك سبأ الذين حكموا في القرن الرابع قبل الميلاد، Glaser 1693.
....................
اب شبم "أب شبم" "أبشبم".
شهر غيلن بن اب شبم "شهر غيلان بن أبشبم".
بعم بن شهر غيلن "بعم بن شهر غيلان" "بي عم" "أبي عم". يدع اب "يجل ?" بن شهر غيلن، أي شقيق "بعم". "يدع أب يكل?" بن شهر غيلان".
شهر يجل "بن يدع اب" "شهر يكل بن يدع أب"، حكم حوالي سنة "300 ق.م.".
شهر هلل يهنعم "شقيق شهر يجل" "شهر هلال يهنعم".
يدع اب ذبين يهرجب "يدع اب ذبيان يهركب". "غير متيقن بمكانه هنا". فرع كرب "فرعكرب".
يدع اب غيلن بن فرع كرب "يدع أب يخلان بن فرعكرب". في النصف الأول من القرن الثاني قبل الميلاد.
هوف عم يهنعم "هوفعم يهنعم"، حكم حوالي سنة "150" قبل الميلاد.
شهر يجل يهرجب بن هوف عم يهنعم "شهر يكل يهركب بن هوفعم يهنعم".
وروال غيلن يهنعم بن شهر بن شهر يجل "ورويل غيلان بن يهنعم بن شهر يكل".
فرع كرب يهوضع بن شهر يجل وشقيق "وروال"، فرعكرب يهوضع بن شهر يكل".
يدع اب بنف "يدع أب ينوف".
ذرا كر ب "ذرأكرب".
شهر هلل يهقبض ذراكرب "شهر هلال كقبض بن ذرأكرب".
خراب "تمنع" ونهاية استقلال مملكة قتبان في حوالي سنة خمسين قبل الميلاد، ودخول قتبان في حكم ملوك حضرموت.
الفصل الثاني و العشرون
مملكتا ديدان و لحيان

(1/910)


--------------------------------------------------------------------------------

قلت في نهاية كلامي على حكومة مجن إن جالية من المعينيين كانت تقيم في "العلا" أي "ددن" "ديدان"، وان "ديدان" كانت مستوطنة معينية في الأصل، وقد استقلت بشؤونها بعد ضعف حكومة معين، إذ انقطعت صلتها بأمها في اليمن، وحكمها ملوك منهم نسميهم ملوكا ديدانيين.
وأول من لفت الأنظار إلى "ديدان"، هو السائح "جارلس مونتاكو دوتي" فقد رحلى سنة 1876 م إلى أرض مدين، ولم يبال في أثناء رحلته براحته ولا بما قد تتعرض له حياته، من أخطار، ثم زار مواضع عديدة آثارية مثل "مدائن صالح" و "الحجر" و "العلا"، وكتب رحلته هذه كتابة لا تزال تعد من خيرة ما كتب في هذا الموضوع في الأدب الانكليزي، وبذلك لفت الأنظار إلى هذه البقعة الآثارية التي حكمتها مختلف الشعوب وتكدست في أرضها آثارها متداخلة بعضها ببعض.
ثم جاء بعد "دوتي" رحالون آخرون، فزاروا هذه المواضع منهم: "يوليوس أويتنك"، و "جارلس هوبر"، و "جوسن" " و "سافينة"، و "فلبي"، وغيرهم، وصوروا بعض الكتابات، و قرأوا ما استطاعوا قراءته من كتابات الأحجار ودونوه، أو أخذوا بعضه، وبذلك تجمعت للباحثين مادة عن تأريخ "العلا"، والمواضع التي تقع في أعالى العربية الغربية، في المملكة الأردنية الهاشمية وفي المملكة العربية السعودية.
وتقع خرائب "ديدان" هذا اليوم في "وادي العلا"، وتوجد على حافتيه كتابات، كما توجد فيه وفي "وادي المعتدل" والأودية الأخرى آثار حضارات ماضية متعددة، مثل حضارة المعينيين واللحيانيين والديدانيين وغرهم.
وتعد "الخريبة" مركز الديدانيين، و قد انتزع الأهلون أحجار الآثار، فاستعملوها في مبانيهم فقضوا على كثير من الكتابات، وتشاهد جدر بعض البيوت وقد بنيت بتلك الأحجار، وبعضها لا يزال مكتوبا يحدث الإنسان باعتداء أهل المنطقة عليها وتطاولهم على التاريخ بعمد وبجهل.

(1/911)


--------------------------------------------------------------------------------

وللكتابات التي عليها في هذه الأرضين والتي سيعثر عليها شأن خاص عند من يريد دراسة تأريخ الخط وكيفية تطوره وظهوره. فإن هذه المنطقة هي عقدة من عقد المواصلات المهمة التي تربط جزيرة العرب ببلاد العراق وببلاد الشام ومصر، وفيها التقت ثقافات و حضارات هذه الأماكن، ولهذا نجد في كتاباتها مزايا الخط الشمالي والخط الجنوبي كما نجد للغتها، مركزا خاصا للهجات. ولذلك كان لدراستها شأن خاص عند من يريد الوقوف على اللهجات العربية وكيفية تطورها إلى ظهور الإسلام.
أضف إلى ذلك إنها تقع على الطريق البرية المهمة الموازية للبحر الأحمر، حيث كان أهل العربية الجنوبية ينقلون منها تجارتهم وتجارة إفريقية والهند وبقية آسية إلى بلاد الشام، ثم إنها لا تبعد أكثر من مسيرة خمسة أيام عن البحر الأحمر، حيث كان التجار يذهبون إلى موانئه لبيع ما عندهم لتجار مصر. لذلك كانت ديدان وبقية مدن هذه الأرضين ملتقى العرب: عرب الجنوب وعرب الشمال، وملتقى تجار أجانب، فلا عجب إذا ما رأينا هذا الاتصال يظهر في الكتابة وفي اللغة وفي الثقافة والحضارة والفن.
ولا نعرف اليوم من أمر مملكة "ديدان" شيئا يذكر. ويعود سبب جهلنا بتأريخ هذه المملكة إلى قلة ما وصل إلينا من كتابات عنها. ولعل الزمان يكشف لنا عن كتابات ديدانية تجلي من عيوننا هذه الغشاوة التي حالت بيننا وبين وقوفنا على شيء من أمر ملوك ديدان.
وقد ذهب "كاسكل" إلى إن ظهور ملكة "ديدان" وابتداء حكمها كان في حوالي السنة "160" قبل الميلاد، غير إنه يرى إن هذه المملكة لم تتمكن من العيش طويلا، إذ سرعان ما سقطت في أيدي اللحيانين، وكان ذلك - على رأي " - في حوالي السنة "115 ق. م.".

(1/912)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد وقفنا على اسم ملك من ملوك "ديدان" في الكتابة الموسومة ب "JS 138"، وهي كتابة ابتدأت بجملة: "كهف كبرال بن متعال ملك ددن"، ومعناها "قبر كبرابل بن متع ايل ملك ديدان". ويعير عن القبر والمثوى بلفظة "كهف" في اللهجة الديدانية. فهذه الكتابة إذن، هى شاهد قبر ذلك الملك الذي لا نعرف من أمره شيئا.
ولا يستبعد "كاسل" إن يكون "كبرايل"، أول ملك اسس مملكة "ديدان"، وآخر ملك حكمها أيضا، أي إن سقوطها على أيدي اللحيانيين كان في عهده، أو بعد وفاته، وبذلك انتهت على رأيه حياة تلك المملكة.
وقد ذهب "البرايت" إلى إن الملك "كرب ايل بن متع ايل" الذي عثر على اسمه في كتابة "ديدانية"، كان قد حكم في حوالي السنة "500 ق. م.".
وما زلنا في جهل تام لكيفية حصول الديدانيين على استقلالهم، وعلاقاتهم بالمعينيين الذين كانوا فبلهم في هذه الأرضين. ولا بد لنا من الانتظار طويلا للظفر بمزيد من المعارف عن هذه الأمور. فلعل الزمان سيجود على الباحثين بكتابات يخرجها إليهم من باطن الأرض، يكون فيها شرح واف لما نسأل عنه الآن.
وأما "لحيان" فمعارفنا عنهم مع ضآلتها و قلتها خير من معارفنا عن ديدان. و يعود الفضل في ذلك إلى ما ورد عنهم في مؤلفات بعض الكتبة اليونان و اللاتين وإلى الكتابات اللحيانية التي عثر عليها الرحالون، فإنها أكثر عددا من الكتابات الديدانية، و أكثر منها كلاما، فإننا حين نجد الكتابات الديدانية قد لاذت بالصمت أكثر فلم تذكر من ملوكها إلا ملكا واحدا، نجد الكتابات اللحيانية قد نطقت بأسم أكثر من ملك واحد، و إن لم تأت من هذه المادة كثير.

(1/913)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد وصلت إلينا أسماء ملوك حكموا مملكة "لحيان"، و هي مملكة صغيرة تقع أرضها جنوب أرض حكومة النبط، ومن أشهر مدنها: "ددان"، و هي خرائب "العلا" "الخريبة" في الزمن الحاضر، و "الحجر"، وقد عرفت ب "Hegra" و "Egra" عند اليونان واللاتين. ومن الكتابات اللحيانية والآثار التي عليها في مواطنهم، استطعنا استخراج معارفنا عن مملكة لحيان.
وقد كان شعب لحيان من شعوب العربية الجنوبية في الأصل في رأي بعض الباحثين. وقد ذكرهم "بلينيوس" في جملة شعوب العربية الجنوبية، وسماهم Laecanitae=Lechieni أو Lexianes. وقد ذهب بعض الباحثين إلى إن الحميريين استولوا على مواطن اللحيانيين في حوالي سنة "115 ق. م."، فخضعوا بذلك لحكم الحميريين.
ومما يؤيد وجهة نطر من يرى إن اللحيانيين هم من أصل عربي جنوبي، ورود اسم "لحيان" في نص عربي جنوبي قصير، هذا نصه: "أب يدع ذلحين" أي "أبيدع ذو لحيان". وفي هذا النص دلالة على إن اللحيانيين كانوا في العربية الجنوبية، ويظهر إن "أبيدع" المذكور كان أحد أقيال "لحيان" في ذلك الزمن.
ويرى "كاسل" إن اللحيانيين كانوا يقيمون على الساحل على مقربة من "ددن" "الديدان"، وكانت لهم صلات وثيقة بمصر، وتأثروا بالثقافة اليونانية التي كانت شائعة في مصر إذ ذاك، حتى إنهم سموا ملوكهم بأسماء يونانية، مثل "تخمي" Tachmi، و "بتحمي" Ptahmy، و "تلمي" Tulmi , و قد أخذت من "بطلميوس" Ptolemaios.
أما الكتابات اللحيانية أو الكتابات الأخرى مثل النبطية أو الثمودية أو المعينية وغيرها، فإنها لم تتحدث بأي حديث عن أصل اللحيانيين.

(1/914)


--------------------------------------------------------------------------------

ويعود الفصل في حصولنا على ما سندونه عن تأريخ لحيان إلى الكتابات اللحيانية. وهي، وإن كانت قليلة وأكثرها في أمور شخصية، فقد أفادتنا فائدة قمة في الكشف عن بعض تأريخ اللحيانيين. وستزيد معارفنا بالطبع في المستقبل كلما زاد عثور العلماء على كتابات لحيانية جديدة، ولا يستبعد إن يكون عدد منها ما يزال مطمورا في باطن الأرض.
وقد عالج بعض المستشرقين موضوع "لحيان"، ومنهم "كاسكل" فكتب فيهم كتابين باللغة الألمانية. " ذهب فيهما إلى إن اللحيانيين كانوا كأكثر الشعوب تجارا، وكانت تجارتهم مع "مصر" بالدرجة الأولى. وقد انتزعوا الحكم من الجاليات المعينن التي كانا تقيم في هذه الأرضين التي كانت في الأصل جزءا من مملكة من. فلما ضعف أمر حكومة معين في اليمن ولم يبق في استطاعتها السيطرة على أملاكها البعيدة عنها، طمع الطامعون ومنهم اللحيانيون في المعينيون الشماليين الساكنين في هذه الأرضين، فانتزعوا الحكم منهم وسيطروا عليهم، واندمج المعينيون فيهم حتى صاروا جزءا منهم. وكان ذلك - على رأيه - في القرن الثاني قبل الميلاد. وفي حوالي "960" قبل الميلاد تقريبا.
ويرى "كاسكل" إن المعينين كانوا قد بقوا يحكمون "ديدان" مكونين حكومة "مدينة" إلى حوالي السنة "150 ق. م."، وعندئذ أغار عليهم اللحيانيون وانتزعوا الحكم منهم، ويرى إن من المحتمل إن الملك الأول الذي حكم اللحيانيين كان من أهل الشمال، وربما كان من النبط غير إن الذين جاءوا بعده كانوا من اللحيانيين.
وقد كان المعينيون يسيطرون على أعالي الحجاز في القرن الخامس قبل الميلاد، مكونين مستوطنات معينية غايتها حماية الطرق التجارية التي تمر من بلاد الشام إلى العربية الجنوبية. وقد عرفت تلك المستعمرة التي تحدثت عنها سالفا باسم "معين مصران"، وعاصمتها مدينة "علت"، وهي "العلا" في الزمن الحاضر. ومن مدنها الأخرى "ديدان"، و "الحجر" وغيرهما.

(1/915)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد اختلف الباحثون فيمن سكن هذه الأرضين أولا ومن حكم قبلا: الديدانيون، أم المعينيون أم اللحيانيون? فذهب بعضهم إلى إن اللحيانيين إنما جاءوا بعد المعينيين، وهم الذين قضوا عيهم وانتزعوا منهم الحكم وألفوا مملكة لحيانية، و ذهب بعض آخر إلى إن اللحيانيين كانوا قد سبقوا المعين بين في الحكم، وان حكمهم هذا دام حتى جاء المعينيون فانتزعوه منهم في زمن اختلفوا في تعيينه، وذهب آخرون إلى تقديم الديدانيين على المعينين و اللحيانيين وقد اختلفوا كذلك في زمان نهاية حكم كل حكومة من هذه الحكومات.
ويرى بعض الباحثين إن مملكة لحيان ظهرت في أيام "بطلميوس الثاني"، بتشجيع من البطالمة وبتأييدهم ليتمكنوا من الضغط على النبط حتى يكونوا طوع أيديهم. وقد جعل بعضهم ذلك الاستقلال فيما بين سنة "280 ق. م." وسنة "200 ق. م.". و يرى غيرهم إن ذلك كان قبل هذا العهد.
وقد كان اللحيانيون يكرهون النبط، لأنهم كانوا يطمعون في بلادهم ويعرقلون تجارتهم التي كان لا بد لها من المرور بأرض التي النبط، ولهذا لجأوا إلى "البطالمة" يحتمون بهم، ويتوددون إليهم ليحموهم من تحكم النبط في شؤونهم. بقوا على ذلك طوال أيام "البطالمة"، فلما حل الرومان محلهم، توددوا إليهم كذلك للسبب نفسه.
ويرى بعض الباحثين إن النبط هم الذين قضوا على ملكة لحيان، باستيلائهم على "الحجر" سنة "65 ق. م." وعلى ديدان سنة "9 ق م."، على حين يرى آخرون إن نهاية مما كانت في القرن الثاني بعد الميلاد. وذهب "كاسكل" إلى إن النبط قضوا على مملكة "لحيان"، و ذلك بعد السنة "24 ب. م."، إلا إن حكم النبط لم يدم طويلا، لأن الرومان كانوا قد استولوا على مملكة النبط سنة "106 م"، وكونوا منها ومن أرضين عربية أخرى مجاورة اسم "المقاطعة العربية" "الكورة العربية" وبذلك انتهى حكم النبط على لحيان.

(1/916)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا نعرف ماذا كان عليه موقف اللحيانيين من احتلال الرومان لأرض النبط ومن تكوين الرومان لما يسمى ب "الكورة العربية"، التي جاورت أرضة اللحيانيين. ويرى "كاسكل" إن موقف اللحيانيين من الرومان كان موقفا وديا، لأنهم أنقذوهم من سيطرة النبط عليهم، ويرى احتمال تكوين اتصال سياسي بينهم وبين الرومان.
وقد استدل "كاسكل" من شاهد قبر يعود زمنه إلى حوالي السنة التاسعة قبل الميلاد، عثر عليه في "العلا" أرخ بحكم الملك "الحارث الرابع" Aretas IV. على إن اللحيانيين كانوا يومئذ تحت حكم ملوك النبط. واستدل على رأيه هذا بعدم إشارة "سترابون" إلى مملكة لحيانية في أثناء حديثه عن حملة "أوليوس كالوس" "أوليوس غالوس" على اليمن التي وقعت في حوالي سنة "25 م"، وكلامه على ملوك النبط، وكأن ملكهم قد شمل أرض لحيان، حتى بلغ مكانا لا يبعد كثيرا عن "المدينة" "يثرب". و رأى في ذلك علامة على إن ملوك النبط كانوا قد استذلوا اللحيانيين وقضوا على استقلالهم زمانا لم يحدد بالضبط.
ويظن إن النص اللحياني الموسوم ب JS 349، من نهاية القرن الثاني قبل الميلاد على رأي بعضهم، هو من أقدم النصوص اللحيانية، دونه رجل اسمه "نرن بن حضرو" "ناران بن حاضرو" "نوران بن حاضر"، وذلك بأيام "جشم بن شهر" و "عبد" الذي كان واليا على "ددان" يومئذ. وقد ذكر في النص اسم الملك الذي كتب النص في عهده، إلا إن الزمان عبث به، إذ أصيب بكسر فسقط تمام الاسم منه.
وقد تجسست بعض النصوص اللحيانية على ملوك لحيان، فقدمت للباحثين بعض أسمائهم، وأعلمتنا بذلك إن اللحيانيين كانوا قد كونوا لهم مملكة حكمت أمدا، ثم زالت من الوجود كما زال غيرها من ممالك. و إذ لم يقم العلماء في "العلا" وفي الأرضين اللحيانية الأخرى بحفريات منتظمة، فليس بمستبعد إن يعثر فيه يوما ما على نصوص لحيانية أخرى تكشف النقاب عن أسماء عدد أخر. من ملوك لحيان.

(1/917)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن الملوك الذين عرفنا أسماءهم من النصوص المذكورة، ملك اسمه: "هنوس بن شهر" "هانوس بن شهر" "هانواس بن شهر". وقد ذكر معه في النص اسم 5لك آخر شاركه في الحكم، إلا إنه سقط منه بعبث حدث له، فأضاع علينا اسمه. وقد أصيب النص بتلف في مواضع منه، فأضاع علينا المعنى، والطاهر إنه دون مناسبة إنشاء الملكين طريقا يمر بجبل، فشقا الأرض، ورصفا وجهها وكسوها بمادة تملسها ليسهل السير عليها.
وعرفنا من تلك النصوص ملكا آخر عرف ب "ذ اسفعن تخمي بن لذن" "ذو اسفعين نحمي بن لوذان". وقد قدر "كاسكل" زمان حكمه في النصف الأول من القرن الأول قبل الميلاد. وإلى أيامه تعود الكتابة الموسومة ب: JS 85 وقد دونت لمناسبة إنشاء "بيت" للإله "ذو غابت" "ذو غابة" إله لحيان، وذلك في السنة الأولى من حكم هذا الملك.
وورد اسم الملك "شمت جشم بن لذن" "شامت جشم بن لوذان" في الكتابة الموسومة ب "JS 85". وقد دونت لمناسبة تقديم شخص نذرا إلى الإله "ذو غابة"، وذلك في السنة التاسعة من حكم هذا الملك. وقد قدر "كاسكل" زمان حكمه فيما بين السنة "9 ق. م." والسنة "56 ق. م.".
وذكر في الكتابة الموسومة ب JS 83 ملك يسمى "جلتقس" "جلت قوس" "ملتقس". وقد أرخت بأيامه، إذ دونا في السنة التاسعة والعشرين من حكمه، ودونت لمناسبة تقديم شخص نذرا "ذنذر" "نذر" إلى الإله "عجلبن" "عجل بون" "عجل بن"، وهو "صلم"، أي صنم، قدمه إلى معد ذلك الإله.
وورد اسم الملك "منعى لذن بن هناس" "منعى لوذان بن هانؤاس" في الكتابة الموسومة ب JS 82. وقد دونت في السنة الخامسة والثلاثين من حكم هذا الملك، لمناسبة "قديم نذر، هو "صلم" أي "صنم" إلى الإله "عجلبن" صنعه "هصنع" رجل اسمه "سلمى"، وخط الكتابة "هسفر" كاتب اسمه "خرج". وقد كان حكمه - على حد قولي "كاسكل" - فيما بين السنة "35 ق. م." و السنة "30 ق. م.".

(1/918)

admin
12-26-2010, 01:54 PM
وفي عهد هذا الملك أصيبت "ديدان" بهزة أتت على المعبد ومن كان فيه، إذ سقط سقفه على أعضاء مجلس المدينة "هجبل" "ها - جبل"، فقتل أكثرهم، ثم أعيد بناؤه بين السنة "127 ب. م." و "134 ب. م.".
و يظهر من بعض النصوص اللحيانية المتأخرة إن إعادة بناء المعبد قد استغرقت زمنا طويلا. وهذا مما يدل على إن الحالة الاقتصادية لم تكن حسنة في ذلك العهد، وان الأمور لم تكن جارية على وفق المرام، وأن الحكومة كانت ضعيفة فلم تتمكن من إعادة بنائه بالسرعة المطلوبة.
ويرى "كاسكل" إن النبط هيمنوا على اللحيانيين في القرن الأول قبل الميلاد، وأخذوا يضايقونهم، ثم حكموهم، و قد امتد حكمهم للحيانيين إلى ما بعد الميلاد. فقبل سنة "65 ق. م." استولى النبط على "الحجر"، ثم ساروا منها إلى "تيماء". ثم قطعوا كل اتصال للحيان بالبحر، واستولوا على ميناء "لويكة كومة" وكان تابعا للحيان، و تقدموا منه إلى مواضع أخرى، حتى أحاطوا. لجان من جميع الجهات وحكموهم.
ويظن "كاسكل" إن حكم النبط للحيان قد وقع بين الس.شلا25 - 24 ق. م" والسنة "9 ق. م.".
ويظن "كاسكل" إن حكم النبط للحيان دام منذ ذلك الزمن حتى حوالي السنة "80 ق. م." هذا العهد كان حكم النبط نفسه يتدهور بتزايد سلطان الرومان في بلاد الشام وبدخول حكومة "المكابيين" اليهودية في حماية الإمبراطورية الرومانية. والنبط هم في جوار المكابيين في الجنوب. ولما قهر جيش "تراجان" النبط، و قضى على استقلالهم، خلصى اللحيانيون من حكم النبط وعادوا فاستقلوا في إدارة شؤونهم فحكمتهم أسرة منهم، يظهر إنها من الأسرة الملية القديمة التي كانت تحكمهم قبل استيلاء النبط عليهم.

(1/919)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان جلاء حكم النبط عن لحيان في عهد الملك "رب آل" "رب ايل" آخر ملوك النبط الذي انتزع الرومان الأقسام الشمالية من مملكته في سنة105 للميلاد، ثم أخذوا الأقسام الجنوبية من مملكته بعد سنة تقريبا، أي سنة 106 الميلاد، وبذلك زال حكم النبط عن اللحيانيين، فاستعادوا استقلالهم برئاسة الملك "هناس بن تلمي".
وقد عثر الباحثون على كتابتين، ورد في إحداهما: "مسعودو: ملك لحيان" وورد في الأخرى: "ملك لحيان"، وقد سقط منها اسم الملك لتلف أصاب الكتابة. وقد ذهب "كاسكل" إلى إن الكتابتين من عهد استيلاء النبط على لحيان و ذهب أيضا إلى إن الملك "مسعودو" أي "مسعود" لم يكن ملكا بالمعنى الحقيقي، و إنما كان ملكا اسما، وان الملك الآخر الذي أزال العطب اسمه من الكتابة الثانية، هو الملك "مسعود" نفسه، ولم يذكر كيف جوز صاحب الكتابة لنفسه نعت مسعود، بنعت "ملك لجان" على حين كانت مملكة لحيان تابعة لمملكة النبط.
و يرى "كاسكل" إن في جملة من حكم اللحيانيين في هذا العهد، عهد تدهور حكم النبط وزوال سلطانهم عن لحيان، ملكا اسمه "هناس بن تلمي" "هانؤاس بن تلمي". وقد ورد اسمه في كتابة دونت في السنة الخامسة من حكمه، دونها "عقرب بن مر"، صانع تماثيل "هصنع" لمناسبة تحته طرفي صخرة قبره، و صيرهما يمثلان الإله "أبي أيلاف" "أبا لف"، وذلك في السنة المذكورة من حكم هذا الملك.
وقد جعل "كاسكل" حكم الملك المتقدم "هناس بن تلمي" مبدأ لحكم أسرة جديدة، أو حكومة جديدة، تولت الحكم بعد زوال حرج هيمنة النبط عن اللحيانيين. وكان الملك "لوذن بن هنواس" "لوذان بن ه - نواس" آخر من حكم من الحكومة القديمة في لحيان، أي آخر من حكم قبل استيلاء النبط على لحيان كما يرى "كاسكل". وكان حكمه في حوالي السنة "30 ق. م." على تقدير "كروهمن".

(1/920)


--------------------------------------------------------------------------------

وورد اسم الملك "تلمي بن هناس" "تلمي بن ها - نؤاس" في كتابة أرخت بالسنة الثانية من سني حكمه، لمناسبة شراء رجل اسمه "عبد خرج" أرضا، بنى عليها ضريحا "هكفر" ليكون مقبرة "همثبرن" "ها- مثبرن"، يدفن فيها هو و أهله.
وأورد "كاسكل" اسم الملك "سموي بن تلمي بن هناس" بعد اسم الملك المتقدم. و هو ملك ورد اسمه في كتابة سجلها "وهب لاه" "وهبله" "وهب الله" وكان قيما "قيمه" على "نعم" أنعام الإله "ذغبت" "ذو غابة" لمناسبة قيامه باتمام بناء معبد "ديدان" الذي كان الزلزال قد عبث به.
وورد اسم ملم أخر من ملوك لحيان، في كتابة دونت في السنة الخامسة من سني حكمه، دونها "أبو ايلاف حيو(، وكان "كبير هشعت" "ها - شعت" أي كبير الجماعة، وهو نعت يدل على إنه كان وجيه القوم ووجههم، و قد أشار فيها إلى مجلس القوم "هيجل"، وكان ذلك في السنة الخامسة من سني حكم "راى" "رأى" الملك "عبدن هناس" "عبدان بن ها - نؤاس". ويرى "كاسكل" إن حكمه كان في حوالي السنة "110 ب. م.".
ووضع "كاسكل" ملكا اسمه "سلح" "سليح" "سالح" بعد اسم الملك "عبدان هانؤاس". وقد حكم - على رأيه - في حوالي السنة "125" بعد الميلاد. وقد ورد اسمه في كتابة دونت قبل ثلاثة أيام "تلا ايم: قبل راي سلح" من تولي "سليح" الحكم، وأرخ ذلك بسنة عشرين من ظهور عتمة، أي حدوث ظلام "سنت عشرين عتم". والظاهر إن كسوفا وقع فأظلمت الدنيا وعتمت، وذلك قبل عشرين سنة من تولي هذا الملك الحكم، فأرخ الناس عندئذ بحدوثها، وفي جملتهم صاحب هذه الكتابة.
وحكم في حوالي السنة "127 ب. م." ملك اسمه "تلمي هناس" "تلمي ها - نؤاس" على رأي "كاسكل". وقد جاء اسمه في كتابة دونت لمناسبة دفع دية "وديو" عن قتيل قتل في السنة الثانية والعشرين من حكم هذا الملك.

(1/921)


--------------------------------------------------------------------------------

ووضع "كاسكل" الملك "فضج"، بعد الملك "تلمي بن ها نؤاس"، وجعل حكمه في حوالي السنة "134 ب. م.". ويظهر من كتابة ورد فيها اسمه إنه حكم اكثر من تسع وعشرين سنة.
ويرى "كاسكل" إن الملوك اللحيانيين المتأخرين لم يكونوا على شاكلة الملوك اللحيانيين الأول من حيث المكانة والشخصية، ويرى إن الحل والعقد صارا في يد "الجبل" "هجيل"، أي مجلس الشعب، أو مجلس الأمة بتعبير قريب من تعبر هذا الزمان في الغالب، وان الناس لم يعودوا يحفلون بكتابة لقب "ملك لحيان" بعد اسم الملك، وفي هذا الإهمال تعبر عن نظرة التساهل وعن عدم الاهتمام بأمر الملوك.
و يتبن من النصوص اللحيانية المتأخرة إن هذا الدور الثاني، أي الدور المتأخر من حكم حكومة لحيان، لم يكن حكما مستقرا وطيد الأركان، لذلك تفشت السرقات، وكثرت حوادث القتل فيه. ويرى "كاسكل" من ورود أسماء في بعض هذه الكتابات اللحيانية المتأخرة يشعر منها إن أصحابها من إفريقية ومن جنس حائي، احتمال مهاجمة الحبش لساحل البحر الأحمر الواقع فيما بين "لويكة كومة" وحسود مملكة سبأ ونزول الحبش في هذه الأرضين.
ويرى "كاسكل" إن الكتابات المشار إليها، هي من زمن يجب إن يكون محصورا بين السنة "150" والسنة "300" بعد الميلاد، وفي هذه المدة يجبها إن يكون وقوع غزو الحبش للسواحل العربية المذكورة. ويرى باحثون آخرون إن ملك الحبشة الذي ممكن إن يكون قد غزا هذه السواحل، هو الملك Sembruthes، وهو من ملوك "أكسوم"، وقد عثر الباحثون على طائفة من الكتابات مدونة باليونانية تعود إلى أيامه، ويجب إن يكون غزوه لتلك السواحل قد وقع بين نهاية القرن الرابع للميلاد وبين النصف الأول من القرنة الخامس للميلاد.

(1/922)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرى "كاسكل" إن الرومان الذين استولوا على مملكة النبط لم يبلغوا أرض لحيان، بل وقفوا عند حدود النبط، أو عند أرض تبعد مسافة عشرة كيلومترات عن "ديدان"، بديل انقطاع الكتابات التي كان يكتبها الجنود الرومان ويتركونها في الأماكن التي ينزلون بها عند الحد المذكور، فلم يعثر السياح على كتابة يونانية بعد البعد المذكور.
ويظهر من كتابة لحيانية وسمت ب M 28 إن رجلا من لحيان كان قد زار المواضع: "صار" "صوأر"، و "نشور"، و "ربغ" "رابغ". والكتابة غامضة وزاد في غموضها وعسر فهمها سقوط كلمات مشها، لذلك لا يدرى ما المراد من ذكر هذه المواضع. هل أريد به استيلاؤه عليها وضمها إلى النبط ? أو أريد به توليه الجباية فيها ? أو هو زارها وتاجر معها ? وقد يستنتج منها إن هذه المواضع كانت من مدن اللحيانيين في ذلك العهد.
و "صار" "صاور"، موضع على الطريق بين الحجر ويثرب، وهو الموضع الذي ذكر في جغرافية "بطلميوس" باسم Assara=Asavara. وهو موضع لا يبعد كثيرا عن "الحجر". ويقع عند موضع "البدائع" الذي يبعد زهاء واحد وعشرين كيلومترا جنوبي شرقي "العلا". وأما "نشأر" "نشير" فهو موضع ذكره "ياقوت الحموي" في معجم البلدان، ولم يعن مكانه، وأما "رابغ"، فموضع لا نستطيع إن نؤكد إنه "رابغ" الحالية، وان كانت التسمية واحدة.
ولسنا نعلم بعد كيف كانت نهاية حكومة لحيان، و من قضى عليها، وإلى أين ذهب اللحيانيون بعد سقوط مملكتهم الذي كان بعد الميلاد كما رأينا.
ويظهر إن قوما منهم هاجروا إلى الجنوب، وأن قوما منهم هاجروا إلى العراق فاستقروا بالحيرة، إذ نزلوا في موضع عرف باسمهم. وقد كانوا يتاجرون معها في أيام استقلالهم. ويظن إن موضع "السلمان" المعروف في البادية منسوب إلى الإله "سلمان" إله لحيان ورب القوافل عندهم. وقد كان اللحيانيون ينزلون في طريقهم إلى العراق.

(1/923)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا يستبعد إن يكون القسم الأعظم منهم قد عاد إلى البادية، واندمج في القبائل، مفضلا حياة البداوة على حياة العبودية و الفوضى، فاندمج في القبائل الأخرى على نحو ما حدث لغيرهم من الناس.
وقد عثر مزهرية في "تل أبو الصلابيخ" في جنوب العراق، وجدت عليها كلمة "برك آل" "برك ايل" "بارك ايل"، مدونة بقلم ذهب بعض الباحثين إلى إنه قلم لحياني. وذهب بعض آخر إلى إنه من قلم "المسند"، وأن أصحابها من العرب الجنوبيين.
وقد نسب أهل الأخبار "أوس بن قلام بن بطينة بن جميهر" إلى "لحيان" وهو من مشاهير أهل الحيرة، حكم الحرة أمدا. وقد يكون للحيان الذين ينسب "أوس" إليهم علاقة باللحيانيين الذين أتحدث عنهم.
وقد يكون "بنو لحيان" الذين يذكرهم أهل الأخبار، من بضة ذلك الشعب الساكن في "الديدان" أما اللحيانيون، فهم من "بني لحيان بن هذيل بن مدركة بن الياس بن مضر"، فهم عدنانيون، وقد كانوا ينزلون في شمال شرقي مكة. والظاهر إنهم لم يكونوا من القبائل القوية عند ظهور الإسلام، ولذلك لا نجد لهم ذكرا في أخبار ظهور الإسلام وفي أيام صدر الإسلام.
وكانت منازل "لجان" عند ظهور الإسلام في أرض جبلية. وقد غزاهم الرسول بغزوة عرفت بي "غزوة بني لحيان"، فاعتصموا برؤوس الجبال، وهجم الرسول على طائفة منهم على ماء لهم، يقال له الكدر، فهزموا، وغنم المسلمون أموالهم، وأرسل الرسول عليهم سرية بقيادة "مرثد بن كنان الغنوي" إلى "الرجيع"، فلقي بني لحيان، وقد قتل مرشد في المعركة، وذلك في السنة الرابعة من الهجرة.
وقد هجاهم "حسان بن ثابت" فرماهم بالغدر، وذكر موضعهم وهو "الرجيع"، و ذكر إنهم تواصوا بأكل الجار، فهم من أغدر الناس، و "دار لحيان" هي دار الغدر.

(1/924)


--------------------------------------------------------------------------------

ويذكر الأخباريون إن "تأبط شرا" أتى جبلا في "بلاد بني لحيان" " ليشتار منه عسلا، ومعه جماعة، فخرج عليهم اللحيانيون، فهرب من كان مع "تأبط شرا"، فحاصره اللحيانيون، إلا إن "تأبط شرا" أزلق نفسه على جدران الجبل، فلم يلحقوا به، وهرب.
وقد عثر السياح في حوالي السنة 300 بعد الميلاد فما بعدها على كتابات عبرانية ونبطية في وادي "ديدان" تدل على إن قوما من يهود وقوما من النبط أو من جماعة كانت تتكلم النبطية كانت قد استوطنت في هذه الأرضين. وكان اليهود قد زحفوا إلى هذه الأرضين وأخذوا يستقرون فيها حتى وصلوا إلى يثرب. فلم ظهر الإسلام، كان معظم سكان وادي القرى إلى يثرب من اليهود.
وقد وجدت في الكتابات اللحيانية أسماء آلهة تعبدوا لها، في طليعتها الإله
"ذو غابت" "ذو غابة". وقد عثر على أنقاض معبد له في وسط خرائب المدينة. ووجد فيه آثار حوض للماء، يظهر إن المؤمنين كانوا يتوضأون به أو يغسلون مواضع من أجسامهم للتطهر قبل أداء الشعائر الدينية، كما عثر على اسم إله آخر عرف عندهم بي "سلمان"، ويظهر إنه كان يكنى "أبا ايلاف"، ويرى بعض الباحثين إنه إله القوافل، أي الإله الذي يحمل القوافل ويحرسها في ذهابها وإيابها، وذلك لأن إيلاف القوافل كان من واجب الآلهة، كما يقول هؤلاء الباحثون، مستدلين على ذلك بوضع "قريش" قوافلهم في حماية الآلهة، كما يفهم من آية: )لإيلاف قريش، إيلافهم رحلة الشتاء والصيف، فليعبدوا رب هذا البيت، الذي أطعمهم من جوع و آمنهم من خوف(.
وعثر على اسم إله هو "هانىء كاتب" "هني كتب" ومعناه "عبد كاتب" واسم إله آخر هو "ه -محر" "ها - محر" أي "المحر". وقد ذهب "كاسكل" إلى إن الإله "كاتب" هو في مقابل الإله "توت" Thot عند المصريين، إله الحكمة.
الفصل الثالث و العشرون
السبئيون

(1/925)

admin
12-26-2010, 01:55 PM
لورود اسم سبأ في القرآن الكريم فضل ولا شك في جميع أهل الأخبار ما بقي في أذهان المسنين عن سبأ و السبئيين، فقد اضطر المفسرون إلى التقاط ما كان ورد عنهم من قصص وحكايات. وما كان القرآن ليشير إلى سبأ، لو لم تكن لهم قصة عند الجاهليين.
وسبأ عند الأخباريين اسم جد أولد أولادا نسلوا، و كانت من ذرياتهم شعوب، و والده هو "يشجب بن يعرب بن قحطان"، و من أولاده قبائل كثيرة انتشرت في كل مكان من جزيرة العرب، قبل الاسلام و بعده، و إليه نسب نسله السبئيون. و قد زعموا أن اسمه الحقيقي ، هو "عبد شمس". و أما سبأ، فلقب لقب به، لأنه أول من سبأ، أي سن السبي من ملوك العرب و أدخل اليمن السبايا، و ذكر بعضهم أنه بنى مدينة "سبأ" و سد مأرب، و أدخل اليمن السبايا، و ذكر بعضهم أنه بنى مدينة "سبأ" و سد مأرب، و غزا الاقطار، و بنى مدينة "عين شمس" بإقليم مصر، و ولى ابنه "بابلون" "بابليون"، و قالوا أشياء أخرى من هذا القبيل .
وليس في النصوص العربية الجنوبية شيء عن نسب سبأ وعن هويته، وليس فيها شيء عن اسمه أو عن لقبه المزعوم، وكل ما ورد فيها إن سبأ اسم شعب، كون له مملكة، وترك عددا كبيرا من الكتابات. وكان يتعبد لآلهة خاضعة به، وله حكام حاربوا غيرهم، إلى غير ذلك من أمور سوف يأتي الكلام عليها.
نعم، نشرت في كتاب REP. EPIG. صورة كتابة، ذكر أنها حفرت على نحاس، وهي في مجموعة P. Lamare، جاء فيها: "عبد شمس، سبأ بن يشجب، يعرب بن قحطان".
ولم تنشر الصورة "الفوتوغرافية" لأصل الكتابة، و انما نشرت كتابتها بالأحرف اللاتينية والعبرانية، ولم يبد المتخصصون رأيا في هذا اللوح وفي نوع كتابته وزمان الكتابة، لذلك لا أستطيع إن أبدي رأيا فيها، ما لم أقف على ذلك اللوح.

(1/926)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما حظ سبأ في الموارد التاريخية، فانه لا بأس به بالقياس إلى حظ الشعوب العربية الجاهلية الأخرى، فقد ورد ذكر السبئيين في التوراة وفي الكتب اليونانية واللاتينية وفي الكتابات الآشورية ، ويظن إن كلمة SA-Ba-A-A=Sabu الواردة في نص سومري يعود إلى Aradnanar "باتيسي" "لجش" Lagash "تلو" معاصر آخر ملوك "أور"، أي من رجال النصف الثاني من الألف الثالثة قبل المسيح، تعني أرض سبأ. ويرى "هومل" إن كلمة Sa-bu-um=Sabum التي وردت عند ملوك "أور" في حوالي سنة "2500 ق. م." إنما تعني Seba الواردة في العهد العتيق. و إذا صح إن Saba و Sabum سبأ و السبئيين، صارت هذه النصوص السومرية أقدم نصوص تأريخية تصل إلينا وفيها ذكر "سبأ"، ويكون السبئيون أول شعب عربي جنوبي يصك خبره إلينا، و نكون بذلك قد ارتقينا بسلالم تأريخهم إلى الألف الثالثة قبل الميلاد.
وقد ذهب "مونتكومري" Montgomery إلى إن السبئيين المذكورين في النصوص السومرية كانوا من سكان "العربية الصحراوية"، أي البادية، وهذه البادية هي مواطنهم الأصلية الأولى، ومنها ارتحلوا إلى اليمن. أما متى ارتحلوا عنها، فليس لدى هذا المستشرق علم بذلك. و يرى بعض الباحثين إن مجيء السبئيين إلى ديارهم التي عرفت باسمهم، إنما كان في ابتداء العصر الحديدي، أي في القرن الحادي عشر قبل الميلاد، وذلك بعد مئات من السنين من هجرة المعينيين و القتبانيين إلى اليمن.
ورأى بعض آخر احتمال هجرة السبئيين إلى اليمن في حوالي السنة "1200" قبل الميلاد، أما هجرة المعنيين و القتبانيين وأمل حضرموت، فقد كانت في حوالي السنة "1500 ق. م.". وقد مارس السبئيون الزراعة والتجارة، فكانت قوافلهم التجارية تصل إلى بلاد الشام، وذلك في حوالي السنة "922 ق. م." على ما يستنبط من التوراة.

(1/927)


--------------------------------------------------------------------------------

وذهب "هومل" إلى إن السبئيين هم من أهل العربية الشمالية في الأصل، غير إنهم تركوا موطنهم هذه، وارتحلوا في القرن الثامن قبل الميلاد إلى جنوب جزيرة العرب، حيث استقروا في منطقة "صرواح" و "مأرب" وفي الأماكن السبئية الأخرى. كانوا يقيمون على رأيه في المواضع التي عرفت ب "أريبي" "عريبي" "أريبو" في الكتابات الآشورية و ب "يارب" Jareb=Jarb في التوراة. ومن "يرب" "يارب" على رأيه جاء اسم "مأرب" عاصمة "سبأ". ويؤيد رأيه بما جاء في النص: Glaser 1155 الذي سبق إن تحدثت عنه من تعرض السبئيين لقافلة معينية في موضع، يقع بين "معان" و "رجمت" الواقع على مقربة من "نجران". وعنده إن هذا النص يشير إلى إن السبئيين كانوا يقيمون في أيام ازدهار حكومة معين في أرضين شمالية بالنسبة إلى اليمن، ثم انتقلوا إلى اليمن. ويرى في اختلاف لهجتهم عن لهجة بقية شعوب العربية الجنوبية دليلا آخر على إن السبئيين كانوا في الأصل سكان المواطن الشمالية من جزيرة العرب، ثم هاجروا إلى الجنوب.
وقد ذكر العهد العتيق "شبا" "سبأ" تارة في الحاميين، وذكرهم تارة أخرى في الساميين. ففي الآية السابعة من الإصحاح العاشر من التكوين، وفي الآية التاسعة من الإصحاح الأول من أخبار الأيام الأول: إن "شبا" من "كوش بن حام"، فهم من الكوشيين، أي من الحاميين، على حين إننا نرى في الآية الثامنة والعشرين من الإصحاح العاشر من التكوين إنهم من الساميين. وبين الحاميين والساميين، فرق كبير كما هو معلوم. ثم إننا نرى إن التوراة قد جعلت "شبا" من ولد "يقطان" في موضع، وجعله من ولد "يقشان" في موضع آخر، و يقطان هو ولد من ولد "عابر" Eber. أما "يقشان" فهو ولد من أولاد "إبراهيم" من زوجه ""قطورة"، وفرق بين الاثنين.

(1/928)


--------------------------------------------------------------------------------

و يرى علماء التوراة إن ذكر "شبا" و "سبا" تارة في الكوشيين أي الحامين، وتارة أخرى في اليقطانيين، أو في "اليقشانيين"، هو تعبير وكناية عن انتشار السهبئيين، ونزوح قسم منهم إلى السواحل الإفريقية المقابلة، حيث سكنوا قبها، وكونوا مستوطنات بها في "الأريتريا" وفي الحبشة وفي أماكن أخرى. ولهذا ميزتهم التوراة عن بقية السبئيين المقيمين في العربية الجنوبية بجعلهم من أبناء "كوش"، وميزت السبئيين المختلطين بقبائل "يقشان" برجع نسبهم إلى "يقشان"، وبذلك صار السبئيون ثلاث فرق بحسب رواية التوراة، لإنتشارهم و إقامة جماعات منهم في مواضع غريبة عن مواضهعهم، وذلك قبل الميلاد بالطبع بمئات من السنين.
وقد وصفت أرض "شبا" في التوراة بأنها كانت تصدر "اللبان"،وكانت ذات تجارة، وأن تجارها كانوا يتاجرون مع العبرانيين: "تجار شبا و رعمة هم تجارك، بأفخر أنواع الطيب، و بكل حجر كريم والذهب أقاموا أسواقك. حران وكنة وعدن تجار شبا وأشور وكلمد تجارك". واشتهرت قوافلها التجارية التي كانت ترد محملة بالأشياء النفيسة، وعرفت بثروتها وبوجود الذهب فيها. وقد قيل لذهبها "ذهب شبا". و يتبين من المواضع التي ورد فيها ذكر السبئيين في التوراة إن معارف العبرانيين عنهم قد حصلوا عليها من اتصالهم التجاري بهم، وهي محصورة في هذه الناحية فقط، فلا نجد في التوراة عن السبئيين غير هذه الأمور.

(1/929)


--------------------------------------------------------------------------------

وقصة زيارة "ملكة سبأ" لسليمان، المدونة في التوراة، هي تعبير عن علم العبرانيين بالسبئيين، وعن الصلات التجارية التي كانت بينهم وبين شعب سبأ. ولم تذكر التوراة اسم هذه الملكة، ولا اسم العاصمة أو الأرض التي كانت تقيم بها. وقد ذهب بعض نقدة التوراة إلى إن هذه القصة هي أسطورة دونها كتبة التوراة، الغرض منها بيان عظمة ثروة سليمان وحكمته وملكه. ورأى آخرون إن هذه المملكة لم تكن ملكة على ملكة سبأ الشهيرة التي هي في اليمن، وإنما كانت ملكة على مملكة عربية صغيرة في أعالي جزيرة العرب، كان سكانها من السبئيين القاطنين في الشمال. ويستدلون على ذلك بعثور المنقبين على أسماء ملكات عربيات، وعلى اسم ملك عربي، هو "يثع أمر" السبئي في النصوص الآشورية، في حين إن العلماء، لم يعزوا حتى الآن على اسم ملكة في الكتابات العربية الجنوبية، ثم صعوبة تصور زيارة ملكة عربية من الجنوب إلى سليمان و تعجبها من بلاطه وحاشيته وعظمة ملكه، مع إن بلاط "أورشليم" يكون إلا يكون شيئا بالقياس إلى بلاط.، ملوك سبأ، ولهذا لا يمكن إن تكون هذه المملكة في نظر هذه الجماعة من علماء التوراة، إلا ملكة مملكة عربية صغيرة لم تكن بعيدة عن عاصمة ملك سليمان، قد تكون في جبل شمر أو في نجد، أو الحجاز.
وذهب بعض العلماء أيضا إلى إن الغرض من هذه الزيارة لم يكن مجرد البحث عن الحكمة وامتحان سليمان، وإنما كان لسبب آخر على جانب كبير من الأهمية بالقياس إلى الطرفين، هو توفيق العلاقات التجارية وتسهيل التعامل التجاري بينهما.
وقد ذهب المؤرخ اليهودي "يوسفوس" إلى إن هذه الملكة كانت ملكة "أثيوبية" الحبشة ومصر، زاعما إن Saba اسم عاصمة الأحباش، وأن اسم هذه المملكة Naukalis.

(1/930)


--------------------------------------------------------------------------------

ونجد زعم "يوسفوس" هذا شائعا فاشيا بين أهبل الحبشة، فهم يذهبون حتى اليوم إلى إن أسرتهم المالكة هي من سلالة سليمان وزوجه ملكة "شبا"، ويدعونها "ماقدة" Makeda. ولا أظن إن "يوسفوس" قد اخترع نفسه تلك القصة، بل لا بد إن يكون قد أخذها من أفواه قومه العبرانيين.
وقد وصف هذا المؤرخ زيارتها لقصر سليمان في "أورشليم"، وذكر إنها عادت إلى مملكتها بعد إن استمعت إلى حكم هذا الملك النبي. وهو يردد بذلك صدى ما جاء في التوراة من إن زيارة تلك الملكة إنما كانت لالتماس الحكمة منه.
ومهما قيل في أصل هذه القصة، وفي خبر المؤرخ "يوسفوس" عن الملكة، فإننا نستطيع إن نقول إنها ترجمة وتعبير عن الصلات التأريخية القديمة الاقتصادية والسياسية التي كانت بين سبأ والحبشة، وعن أثر السبئيين في الأحباش من جهة وبين هذا الفريق والعبرانيين من جهة أخرى، رمز إليها بهذه القصة التي قد تكون زيارة في حقا، أدهشت العبرانيين، أدهشتهم من ناحية ما شاهدوه من ثراء الملكة وثروتها، حتى أدخلوها في التوراة للإشادة بعظمة سليمان وما بلغه من مكانة وثراء وسلطان.
لقد أدهشت هذه المملكة السبئية "سليمان" حين جاءت مع قافلة كبيرة من الجمال تحمل هدايا وألطافا من اثمن المواد الثمينة بالقياس إلى ذلك العهد، و إذا كانت هذه الزيارة قد تمت من العربية الجنوبية حقا، فلا بد إنها تكون قد قطعت مسافة طويلة حتى بلغت مقر "سليمان" في حوالي السنة "950 ق. م.".

(1/931)


--------------------------------------------------------------------------------

و إذا أخذنا بحديث التوراة عن تجار "شبا" "سبأ"، وعن قوافل السبئيين التي كانت تأتي بالذهب وباللبان وبأفخر أنواع الطيب إلى فلسطين، وذلك في أيام "سليمان" وقبل أيامه أيضا، وجب رجع زمان هذه القوافل إذن إلى الألف الثانية قبل الميلاد، وذلك لأن زيارة الملكة: ملكة سبأ لسليمان، كانت في حوالي السنة "950 ق. م."، ومعنى هذا إن السبئيين كانوا إذ ذاك من الشعوب العربية الجنوبية النشيطة في ذلك العهد. وقد كانوا أصحاب تجارة وقوافل وأموال لا يبالون ببعد الشقة وطول المسافة، فوصلوا بتجارتهم في ذلك الزمان إلى بلادة لشام.
وقد قص القرآن الكريم قصة زيارة ملكة "سبأ" لسليمان دون إن يذكر اسم المملكة، غير إن المفسرين والمؤرخين وأهل الأخبار ذكروا إنها "بلقيس" وأنها من بنات التبابعة، وقد صيرها بعضهم "بلقيس بنت ايليشرح"، أو "بلقمة ابنة اليشرح"، أو "بلقيس بنت ذي شرح بن ذي جدن بن ايلي شرح بن الحارث بن قبس بن صيفي بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان"، وهي "بلقيس ابنة الهدهاد بن شرحبيل"، إلى غير ذلك من أقوال. وأرى إن الذين جعلوا اسم والدها الهدهاد، إنما أخذوا ذلك من "الهدهد" الطير الذي ورد ذكره في القرآن الكريم، والذي نقل نبأ ملكة سبأ إلى سليمان. وقد كان الهدهاد على زعمهم في عداد ملوك اليمن، وجعلوا سليمان ملكا على اليمن كذلك، جعلوا ملكه على إليمن ثلاثمائة وعشرين سنة، وجعلوا لملك "بلقيس" وحدها مئة وعشرين سنة، إلى غير ذلك من أقوال.
وقد صير "ابن دريد" اسم بلقيس "بلقمة"، وأوجد تعليلا لهذه التسمية فقال: إنها من "اليلمق"، و اليلمق القباء المحشو، ويقال إنه فارسي معرب.
وذكر بعض أهل الأخبار إن "بلقيس" لم تكن متزوجة حين قدمت على سليمان، فقال لها "سليمان": لا تصلح امرأة بلا زوج، فزوجها من "سدد بن زرعة"، وهكذا صيروا أمر مملكة سبأ كله بيد سليمان، حتى أمر اختيار زوج لها.

(1/932)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرى بعض الباحثين إن ما جاء في التوراة عن السبئيين، لا يعتمد على موارد أصلية ومنابع موثوقة، بل أخذ من موارد ثانوية، ولهذا فإن في الذي جاء في مما عنهم يحملنا على اعتباره مادة كدرة، ليس فيها صفاء.
وقد ذكر السبئيون في المؤلفات اليونانية واللاتينة، وأقدم من ذكرهم من اليونان "ثيوفراستس". والمعلومات التي أوردها عنهم وعن جزيرة العرب وان كانت ساذجة ذات طابع خرافي في بعض الأحيان، إلا إن بعضا منها صحيح، وقد أخذ من أقوال التجار، ولا سيما تجار الإسكندرية الذين كانوا يستقبلون السلع من العربية الجنوبية وإفريقية، ومن قصص النوتيين الذين كانوا يسلكون البحر الأحمر، و يصلون إلى العربية الجنوبية وسواحل إفريقية والهند للاتجار. وهي قصص سطحية تميل إلى المبالغات. غير إن هذه المعلومات، على الرغم من هذه النقائص و أمثالها مما تتصف به، هي ذات فائدة كبيرة لمن يريد الوقوف على حالة جزيرة العرب في ذلك العهد، وقد تحسنت الأخبار اليونانية واللاتينية منذ الميلاد فما بعد تحسنا عظيما، ومرد ذلك إلى الاتصال المباشر الذي تم منذ ذلك العهد وما بعده بين اليونان و اللاتين والعرب، وإلى الأطماع السياسية التي أظهروها تجاه جزيرة العرب، تلك الأطماع التي جعلتهم يسلكون مختلف الطرق لحصول على معلومات عن بلاد العرب، وحالة سكانها ومواطن الضعف التي لديهم للولوج منها في بلادهم، ولتحقيق مطامع استعمارية رمت ابتلاع جزيرة العرب. ولذلك اعتبروا ما يحصلون عليه من أخبار عن هذه البلاد من أسرار الدولة التي لا يحوز إفشاؤها ولا عرضه للناس، وهي قد جمعت أضابير وخزنت في الإسكندرية، لم يسمح إلا لبعض الخاصة من العلماء الثقات الاستفادة منها.

(1/933)


--------------------------------------------------------------------------------

ويعود غالب عمنا بأحوال السبئيين إلى الكتابات السبئية التي عثر عليها في مواضع متعددة من العربية الجنوبية، ولا سيما في الجوف مقر السبئيين. وهي أكثر عدد من الكتابات المعينية و القتبانية والحضرمية وغيرها. وهي تشاركها في قلة عدد المؤرخ منها. وقد أرخ قسم من النصوص المؤرخة بأيام حكم سبأ أو بأيام أصحاب الجاه والنفوذ. ولذلك صعب على الباحثين تثبيت تواريخها حسب التقاويم الحالية المستعملة عندنا، لعدم علمهم بأيام حكمهم و بشخصياتهم، وصار تقديرهم لها تقديرا غير مؤكد ولا مضبوط، بتقويم حمير الذي يبدأ عادة بحوالي السنة "115" قبل الميلاد، أو السنة "109" قبل الميلاد على بعض الآراء. فان من السهل علينا تثبيت زمنها بالنسبة لسني الميلاد، وذلك بطرح الرقم "115" أو "109" من التقويم الحميري، فيكون التأريخ من السنين التأريخ حسب التقويم الميلادي بصورة تقريبية.
ومبدأ تقويم حمير هو السنة التي تلقب بها ملوك سبأ بلقب جديد، هو لقب
"ملك سبأ وذو ريدان". وهو لقب يشير إلى حدوث تطور خطر في حكم ملوك سبأ، إذ يعنى ذلك إن ملوك سبأ أضافوا إلى ملك سبا ملكا. جديدا، هو أرض "ذو ريدان"، أرض الريدانيين، وهم الحميرين، فتوسع بذلك ملكهم، وزاد عدد نفوسهم، فأرخوا بسنة التوسع هذه، واعتبروها مبدأ لتقويم. والعلماء الباحثون في تأريخ سبأ، هم الذين استنبطوا إن هذا المبدأ هو في حوالي السنة "115" أو "109" قبل الميلاد.

(1/934)


--------------------------------------------------------------------------------

ويلاحظ إن السبئيين لم يهملوا بعد أخذهم بمبدأ التقويم الحميري، التوريخ بالطريقة القديمة المألوفة وأعني بها التوريخ بالأشخاص وبالحوادث الجسام بالسبة لأيامهم. حتى الملوك أرخوا بعض كتاباتهم على وفق هذه الطريقة، وأرخوا البعض الآخر وفقا للتقويم الحميري الجديد. مما يدل على إنهم لم يتمنوا من اهمال الطريقة القديمة لشيوعها بين الناس. ولدينا أسماء عدد من الأسر والأشخاص أرخت بهم الكتابات السبئية المؤرخة. مثل: "آل حزفر" "حزفرم" و "آل يهسحم" "يهسحم" و "سالم بن يهنعم" و"آل خليل" وغيرهم. وهي تواريخ محلية، لذلك تنوعت وتعددت، ويؤيد ذلك أنا نجد الملك يؤرخ بجملة أشخاص. ولما كان من الصعب الاستمرار بالتأريخ على وفق هذه الطريقة، إذ الحوادث الجديدة تطمس ذكر الحوادث القديمة، كانت التواريخ تتبدل بهذا التبدل، فينسى الناس القديم ويؤرخون بالجديد، وهكذا. وقد حرمنا هذا التغير الفائدة المرجوة من تأريخ الحوادث.
وقد تبين من الكتابات السبئية إن لقب حكام سبأ، لم يكن لقبا ثابتا مستقرا بل تبدل مرارا، وأن كل تبدل هو لتبدل الحكم في سبأ ودخوله في عهد يختلف عنوانه عن العهد القديم. ولذلك صار الحكم أدوارا، واضطر المؤرخون المحدثون إلى التأريخ بموجبها، فدور أول، وهو أقدم أدوار الحكم لقب حكامه فيه: "مكرب سبأ"، ثم دور تال له صار اللقب فيه: "ملك سبأ". ثم دور. آخر تغير فيه عنوان الملك فصار: "ملك سبأ وذو ريدان". وقد وقع في حوالي السنة "115" أو "109" قبل الميلاد. جاء بعده دور جديد صار اللقب الرسمي فيه على هذا النحو: "ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت واليمن و أعرابها في المرتفعات وفي التهائم"، وهو آخر دور من أدوار الحكم في سبأ و خاتمة الأدوار.

(1/935)


--------------------------------------------------------------------------------

وبفضل الكتابات السبئية حصلنا على شيء من العلم بأصول الحكم في سبأ وبما سأكتبه و بما كتبه غيري عنهم. وبفضل البقية الباقية من آثار خرائب مدنهم وقراهم ومستوطناتهم استطعنا تكوين إلمامة عن فنهم وعن العمران عنهم، وعن نظم الري والزراعة لديهم وغير ذلك مما سأتحدث عنه. ولولا تلك الكتابات ولولا هذه البقية من الآثار لما صار في إمكاننا الكلام عنهم إلا بإيجاز نحل. وكلنا أمل بالطبع في إن تتبدل الأيام، فتنعم العربية الجنوبية بالاستقرار، وبرجال ذوي عقول مستقلة نيرة، تفهم روح الوقت و تبدل الزمن فتأمر بنبش الأرض لاستنباط ما هو مدون في باطنها من كنوز روحية ومادية، وعندئذ يستطيع من يأتي بعدنا إن ينال الحظ السعيد بالكتابة عن تلك البلاد كتابة تجعل كتابتنا الحالية شيئا تافها قديما باليا تجاه ما سيعثر عليه من جديد. و إني أرجو له منذ الآن الموفقية والنجاح، لأني وان كنت قد دخلت إذ ذاك في باطن الأرض، فصرت ترابا ضائعا بين الأتربة، غير إن لي رجاء وأملا لا ينقطعان ولا ينتهيان بموت، هو رجاء الكشف عن الماضي الميت و بعثه ونشره وحشره من جديد.
إننا لا زلنا مع ذلك في جهل بنواح عديدة من نواحي الحياة في الممالك العربية الجنوبية التي تكونت في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية. نواح تتعلق بالقوانيين و لأصول التشريع، و بالحياة الاجتماعية و بالحياة الدينية أو الفنية، بل و في عدد من حكم تلك الممالك و في ترتيبهم و أعنالهم و ما قاموا به، و بصلات أولئك الحكام ببقية جزيرة العرب الجنوبية الجاهلي و ان تقدمت في خلال السنين المتأخرة، و لكنها لا تزال مع ذلك في بدء مراحلها و هي تجري ببطء و تؤدة.
المكربون
لقب أقدم حكام سبأ، بلقب "مكرب" في الكتابات السبئية، و في هذا اللقب معنى "مقرب" في لهجتنا، و تدل اللفظة على التقريب من الآلهة، فكان "المكرب" هو مقرب أو وسيط بين الآلهة و الناس، أو واسطة بينها و بين الخلق.

(1/936)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد كان هؤلاء "المقربون" "المكربون" في الواقع كهانا، مقامهم مقام "المزاود" عند المعينين و "شوفيط" Shopet، و جمعها "شوفيطيم" عند العبرانيين، أي "القضاة". و جاء في كتب اللغة: "كرب الامر يكرب كروبا: دنا، يقال كربت حياة النار، أي قرب انطفاؤها، و كل شيء دنا، فقد كرب.
قال أبو ****: كرب، أي دنا من ذلك وقرب، وكل دان قريب فهو كارب. وورد: الكروبيون سادة الملائكة، منهم جبريل وميكائيل، و اسرافيل هم المقربون، والملائكة الكروبيون أقرب الملائكة إلى العرش. فللفظة معنى التقريب حتى في عربيتنا هذه: عربية القرآن الكريم.
و قد قدر "ملاكر" Mlaker حكم المكربين بحوالي قرنين ونصف قرن، إذ افترض إن حكم المكرب الأول كان في حوالي السنة "800 ق. م،"، وجعل نهاية حكم المكربين في حوالي السنة "650 ق. م.". وفي حوالي هذا الزمن استبدل - على رأيه - بلقب مكرب لقب "ملك"، وانتهى بهذا التغيير في اللقب دور المكربين.

(1/937)


--------------------------------------------------------------------------------

وقدر غيره حكم المكربين بزهاء ثلاثة قرون، فجعل مبدأ حكمهم في حوالي السنة "750 ق. م."، ونهاية حكمهم في حوالي السنة "450 ق. م."، وجعل بعض آخر في مبدأ حكم المكربين في القرن العاشر أو القرن التاسع قبل الميلاد. وقد تمكن العلماء من جمع زهاء سبعة عشر مكربا، وردت أسماؤهم في الكتابات العربية الجنوبية، وكانوا يقيمون في عاصمة سبأ القديمة الأولى مدينة "صرواح". وقد رتب أولئك العلماء أسماء المكربين في مجموعات، وضعوا لها تواريخ تقريبية، لعدم وجود تواريخ ثابتة تثبت حكم كل ملك بصورة قاطعة، ولذلك تباينت عندهم التواريخ وتضاربت، فقدم بعضهم تأريخ الآسرة الأولى، بأن وضع لحكمها تأريخا يبعد عن الميلاد أكثر من غيره، و قصر آخرون في التأريخ، و اخروا، و كل آرائهم في نظري فرضيات لا يمكن ترجيح بعضها على بعض في هذا اليوم. و قد يأتي يوم يكون في الامكان فيه تثبيت تواريخهم بصورة قريبة من الواقع، استنادا إلى الكتابات التي سيعثر عليها و علاى دراسة الخطوط و تقدير أعمار ما يعثر عليه و تحليل محتوياته بالأساليب الآثارية الحديثة التي تقدمت اليوم كثيراو ستتقدم أكثر من ذلك في المستقبل من غير شك.
ويعد المكرب "سمه على" أقدم مكرب وصل إلينا اسمه. ولا نعرف اللقب الذي كان بلقب به، ومن عادة حكام العربية الجنوبية من مكربين وملوك اتخاذ ألقاب يعرفون بها، ومن هذه الألقاب نستطع التفريق بينهم. ولا نعرف شيئا كذلك من أمر والده. وقد جعل "فلبي" مبدأ حكمه بحدود عام "800" قبل الميلاد في كتابه "سناد الإسلام" وبحدود سنة "820" قبل الميلاد في المقال الذي نشره في مجلة Le Museon.
وتعد الكتابة الموسومة ب Glaser 1147، من كتابات أيام هذا المكرب. وهي كتابة قصيرة مكتوبة على الطريقة الحلزونية Boustrophedon كأكثر كتابات أيام المكربين، ولقصرها ونقصها لم نستفد منها فائدة تذكر في الوقوف على شيء من حياة هذا المكرب.

(1/938)

admin
12-26-2010, 01:55 PM
وقد عد "كلاسر" الكتابة الموسومة ب Glaser 926 من كتابات أيام هذا المكرب، وتابعه على ذلك "فلبي". وهي من الكتابات المدونة على الطريقة الحلزونية Boustrophedon، وقد كتبت عند إنشاء بناء، وصاحبها "صبحم بن يثع كرب فقضن". وقد ورد فيها اسم "سبأ" و "مرب" أي مدينة "مأرب" و "فيش" "فيشان"، ووردت فيها لفظة "فراهو" أي "سيدة"، قبل اسم "سمه على" الذي كان يحكم شعب "سبأ" في ذلك العهد، ودونت في النص أسماء الآلهة: عثتر، و "المقه" و "ذت بعدن"، على العادة المألوفة في التيمن بذكر أسماء الآلهة في الكتابات، ثم التيمن بذكر اسم الحاكم من مكرب أو ملك يوم تدوين الكتابة.
والنص المذكور ناقص يكمله النص الموسوم ب CIH 955، على رأي بعض ا لباحثين.
%271 1
و للمكرب المذكور و لد اسمه "يدع آل ذرح"، حكم على رأي "فلبي" حوالي سنة "800 ق.م." و قد عثر عدد من الكتابات من أيامه، منها الكتابة التي وجدت في "حرم يلقيس" "محرم بلقيس"، وميزت عن غيرها بعلامة: Glaser 484 وقد ورد فيها إن هذا المكرب أقام جدار معبد "أوم" "أوام" المخصص بعبادة "المقه" "اوم بيت المقه" إله "سبأ". وقد قدم القرابين لهذه المناسبة إلى الإله "عثتر"، وذكر الإله "هبس" "هوبس"،وتشبه هذه الكتابة شبها كبيرا كتابة أخرى وسمت ب Glaser 901 ل "يدع آل ذرح" أيضا، وقد أخبر "يدع آل ذرح" فيها إنه سور "بيت المقه" وهو معبد الإله بمدينة "صرواح"، وأنه قر ب ثلاثة قرابين لهذه المناسبة إلى الآلهة "حرمتم" "حرمة" "حرمت" "حريمت". و يرى "هومل" إن هذه الإلهة هي زوج الإله "المقه" إله سبأ.
والنصان: Glaser 1109 و Glaser 1108، يرجعان إلى المكرب "يدع آل ذرح" كذلك، وقد أخر فيها إنه عني بتعمير معبد "المقه" وأضاف أجزاء جديدة إليه، وذكر في أحدهما الإلهان المقه و عثتر، و ذكر في الأخر الآلهة: عثتر، والمقه، وذات حميم.

(1/939)


--------------------------------------------------------------------------------

وعثر على كتابة أخرى في موضع "المساجد"، بمأرب، تبين منها إن هذا المكرب تقرب إلى إله سبأ الإله "المقه" ببناء معبد له.
وتعود الكتابات AF. 17 , AF. 23 , AF. 24 , AF. 38 إلى هذا المكرب كذلك، وهي من الكتابات التي عليها أحمد فخري المصري الذي أم اليمن عام "1917 م". وتعود الكتابة CIH 633 إلى أيامه أيضا.
وتدل هذه الكتابات على إن "المكرب" المذكور قد اهتم كثيرا ببناء معبد "أوام" في مأرب، المعبد الذي يعرف بين أهل المنطقة باسم "محرم بلقيس" و بإضافة زيادات عليه وبترميمه أيضا. وأغلب الظن إنه لم يكن هو الباني له، و إنما كان موجودا ومبنية قبله، غير إن الباحثين لم يتمكنوا من العثور على اسم بانيه حتى الآن، لأن أعمال الحفر فيه لم تتم بصورة علمية واسعة فيه حتى الآن. والكتابة التي سجلها المكرب الذكور لم تشر إلى بناء المعبد كله، بل أشارت إلى أجزاء معين منه وهي لا تزال تحمل اسمه، وهناك كتابات أخرى تحمل اسمم حكام سبأ من مكربين و ملوك ووجهاء من أضافوا أبنية جديدة إلى هذا المعبد، أو قاموا بإصلاح ما حدث فيه من خلل بمرور السنين.
وقد ذهب "فلبي" إلى إن هذا المكرب كان قد حكم في حوالي سنة "800 ق. م.". و ذهب "فون وزمن" إلى إن حكمه كان في حوالي القرن الثامن قبل الميلاد. أما "البرايت"، فيرى إن حكمه كان في أواسط النصف الثاني من القرن السابع قبل الميلاد، أو في أوائله، وثبت آخرون حكمه بحوالي السنة "750 ق. م.".

(1/940)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان ل "يدع آل فرح" ولد اسمه "سمه علي ينف"، ورد اسمه في الكتابة CIH 636، وهي كتابة ناقصة سقط أعثر ما دون فيها. ولم يذكر "هومل" اسمه في القائمة التي صنعها لمكربي "سبأ". ولم يذكره "فلبي" كذلك في كتاب 9"سناد الإسلام". غير إنه ذكر اسمه في القائمة التي نشرها في مجلة، Le Museon، وجعله المكرب الثالث، أي إنه وضعه بعد "يدع آل ذرح" والده مباشرة، وجعله مكربا. ولم ترد في النص المذكور كلمة "مكرب" بعد اسم "سمه علي ينف" و إنما ذكرت بعد اسم "يدع أل ذرح"، وهذا يعني إن هذه الكلمة، وهي "مكرب"، ليست ل "سمه على"، و إنما تخص الأقرب إليها، وهو "يدع آل ذرح".
قد ورد اسم "سمهه علي" بعد اسم "يدع آل" و قبل اسم "يثع أمر" في الكتابة المعروفة. ب Glaser 694. ولم ترد فيها نعوتهم، و لا كلمة "مكرب" التي هي الدلالة الرسمية المنبئة بتبوئهم الحكم.
وقد وضع "فلبي" الكتابتين المرقمتين CIH 368 و CIH 371 في جملة الكتابات من أيام المكرب "سمه علي ينف"4 أما الكتابة الأولى، فصاحبها "عم أمر بن أب أمر ذيبرن"، أي من عشيرة "يبرن" "يبران"، ولعله كان سيدا من ساداتها. وكان من المقربين ل "سمه علي" ولشقيقه "يثع أمر" ولعله كان من ندمائها، بدليل ورود جملة "مودد سمه علي ويثع أمر" في النص، أي أنه كان من المتوددين اليهما، وتعبر لفظة "مودد" عن منزلة رفيعة عند السبئيين تضاهي منزلة "نديم" عند العرب الشماليين.

(1/941)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد دون "عم أمر" تلك الكتابة عند بنائه بيته "مردعم" "مردع" في مدينة "منيتم" "منيت" "منية". وأما الكتابة الثانية فصاحبها "عم أمر بن أب أمر"، وهو من عشرة أخرى اسمها "ذ لخدم" "لخد"، ويظهر انه كان من أشرافها، فهو شخص آخر يختلف عن الشخص الأول، وان اشتركا في الاسم. ولم يرد في هذه الكتابة الثانية اسم أي مكرب من المكربين. لذلك لا أستطيع أن أضيف هذه الكتابة الثانية إلى أيام "سمه على". والذي حمل "فلبي -" على إضافتها إلى أيام هذا المكرب هو كون اسم صاحب الكتابتين واحدا، فطن انهما رجل واحد، وان صاحب الكتابتين واحد أيضا، ولورود اسم "سمه على" و "يثع أمر" في النص الأول، أضاف النص الثاني إلى stop النصوص من ايام المكربين. ولو انتبه إلى إن كل واحد منهما هو من قبيلة تختلف عن القبيلة الأخرى، لما أضاف الكتابة الثانية إلى أيام المكربين المذكورين.
وأشار "فلبي" إلى اسم ولد من أولاد "سمه على ينف" سماه "يدع آل وتر" ولم يشر إلى انه كان مكربا، وذكر انه حصل على اسمه من النصوص AF. 86, 91 92.

(1/942)


--------------------------------------------------------------------------------

ونب "فلبي" زمن تدوين النصوص: CIH495, CIH 493, CIH 492, CIH490 إلى عهد "يثع أمر وتر"2 أما النص CIH490 فقد وضع ناشره و محققه لفظة "ملك" بعد اسم "يثع أمر"، وذلك بإكمال الحرفين الباقيين من الكلمة المطموس آخرها، الواردة بعد "وتر"، وهما "الميم" و "اللام". فإذا كانت القراءة صحيحة، انصرف الذهن عن "يثع أمر وتر" هذا إلى "يثع أمر" آخر يجب أن يكون ملكا على سبأ. وان كانت القراءة مغلوطة، كان يكون أصلها المطموس لفظة "مكرب"، جاز حينئذ أن يكون "يثع أمر" هو "يثع أمر وتر" المذكور الذي قصده "فلبي". وتتضمن هذه الكتابة خبرا يفيد إن "يثع أمر وتر بن يدع ايل ذرح" جدد بناء معبد الإله "هبس" "هوبس". وقد عثر عليها في الموضع المسمى ب "الدبر" "دبر" في الزمن الحاضر. و يرى "هومل" إن "دبر" "دابر"، هو اسم قبيلة، و قد بنت معبدا بأسمها، و قد جدد بناءه هذا المكرب:يثع أمر وتر".
وقد ورد اسم "دبر" في كتابات أخرى، ولهذا ذهب "هومل" إلى أنه اسم المعبد المذكور: معبد الإله "هوبس"، و هذه الكتابة من القرن الثامن قبل الميلاد في رأي بعض الباحثين، ومعنى هذا أن حكم هذا المكرب السبئي "يثع أمر وتر" كان قد بلغ ارض معين في هذا في هذا العهد.
وأما النص CIH 492، فهو نص قديم أيضا، كتب على الطريقة الحلزونية الشائة بيب السبئيين في أيام المكربين.وصاحبه رجل اسمه "حيم بن بعثتر رحضن"، أي من "آل رحضان" "رحاض"، وقد قدم إلى الآلهة "ذات حميم" نذرا لعافيته ولعافية بنته وأولاده. ولكننا لا نجد فيه أي تصريح أو تلميح إلى اسم المكرب "يثع أمر وتر" أو إلى أبيه.

(1/943)


--------------------------------------------------------------------------------

أما النص "CIH 493"، فصاحبه رجل اسمه "حيم بن عم يدع"، من "آل قدران" "ذ قدرن" فهو امرؤ لا ملة له بصاحب النص المتقدم: CIH 492. وقد ورد في النص اسم ""يدع أيل" و "يثع امر"، ولم يذكر فيه نعت الرجلين. ومن الجائز إن كون "يدع ايل" و "يثع أمر" المذكوران هما المكربان اللذان نبحث عنهما، أي المكرب الوالد وابنه، و من الجائز ايضا ألا يكونا هما، فهنالك فجوات لا نعرف عمقها في تأريخ سبأ، قد تكون فيها خبايا من أسماء مكربيين وملوك. وأعتقد إن اسم "حيم" هو الذي حمل "فلبي" على حشر النص السابق بن النصوص التي ظن إن لها علاقة بالمكرب "يثع أمر وت"ر"، على اعتبار إن الرجلين رجل واحد، ولكن الواقع أنهما شخصان مختلفان.
و أما النص CIH 495، فصاحبه "حيم بن عم يدع" من "آل قدرن"، أي صاحب النص CIH 493 المذكور، ولذلك أضافه "فلبي" إلى النصوص التي لها صلة بالمكرب "يثع أمر وتر". ولم يرد في هذا النص اسم هذا المكرب ولا اسم أبيه، ولعلهما سقطا في جملة ما سقط من اسطر وكلمات.
وقد وضع "هومل" اسم "يدع أل بين" "يدع ايل بين" بعد اسم "يثع أمر وتر" ليكون المكرب التالي له، وهو - على رأيه - ابنه وخليفته سنة من بعده. ومن أهم أعماله المذكورة في الكتابات، تحصينه وتقويته أبراج مدينة

(1/944)


--------------------------------------------------------------------------------

"نشق" من مدن المعينيين. ويدل ذلك على إن هذه المدينة كانت قد دخلت في ممتلكات السبئيين، في زمن لا نعرفه، قد يكون في أيام هذا المكرب وقد يكون قبل ذلك. وان السبئيين كانوا يتبعون خطة التوسع بالتدرج حتى ابتلعوا مملكة "معين". وقد رأيت إنهم كانوا قد استولوا على قرية "دبر" "دابر"، وحصنوها، واتخذوها قاعدة حصينة للإغارة منها على الجوف وعلى المعينيين. ويرى بعض الباحثين إن استيلاء المكرب المذكور، كان في أواسط القرن الثامن قبل الميلاد. وقد أمر باحاطة تلك المدينة بسور، وقد توسعت رقعتها، إلا إنها لم تلبث إن انفصلا من السبئيين، ثم عاد السبئيون فاستولوا عليها، في أيام المكرب والملك "كر"ب ايل وتر".
و حكم بعد "يدع ايل بين" المكرب "يثع أمر"، على رأي "هومل"، ولم يشر إلى نعته. ويرى "هومل" احتمال كونه ابنا ل "يدع ايل بين" أو شقيقا له.
أما "فلبي"، فيرى إن "يثع أمر" هو أحد أولاد "سمه على ينف" "سمه على ينوف"، وهو شقيق "يدع ايل بين". وقد ورد اسمه في النص CIH 563، فيكون بذلك - على رأيه - ابن شقيق "يدع ايل"، لا ابنه. وذكر "فلبي" إنه عرف ب "يثع أمر وتر" وجعله معاصرا للملك سرجون.
و النص CIH 563، مكتوب على الطريقة "الحلزونية"، ويتألف من جملة اسطر، وقد ورد فيه نعت "يثع أمر"، وهو "وتر".
وقد ورد في كتابة من كتابات الملك "سرجون" الثاني "722 -705 ق. م." إنه تسلم هداية من عدد من الملوك، من جملتهم "يثع أمر" It-'Amra Mat Sa-Ba'-ai "Iti'Amra" " السبئي، والممللكة "شمس" ملكة "اريبي" "عريبي". وقد ذهب بعض الباحثين إلى إن "يثع أمر" المذكور في نص "سرجون" هو "مكرب" سبأ هذا الذي نتحدث عنه. غير إن النص لم يحدد مكان حكم ذلك الملك السبئي، ولهذا ذهب ملك آخر إلى احتمال كونه أحد الملوك السبئيين الحاكمين في شمال جزيرة العرب على مقربة من البادية في أعالي الحجاز أو نجد مثلا، أو في الأرض الواقعة في المناطق الجنوبية من لأردن.

(1/945)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان "هومل" ممن يرون إن "يثع أمر" المذكور في نص "سرجون" هو أحد الملوك السبئيين الحاكمين على قبيلة سبئية في شمال جزيرة العرب، غير أنه غير رأيه هذا، وجعل "يثع أمر" هو "يثع أمر" الذي نبحث فيه، أي مكرب سبأ، وذلك عندما عثرت بعثة ألمانية على كتابة للملك "سنحريب" "سنحاريب"، جاء فيها: إنه تناول هدية من ملك سبئي، هو "كرب ايلو" "كرب ايل"، فتيقن عندئذ إن الرجلين المذكورين اللذين قدما الهدايا، هما المكربان: "يثع أمر" و "كرب ايل".
ولا أجد في تلك الهدايا علامة على خضوع سبأ لحكم الآشوريين، إذ أستبعد بلوغ نفوذ الآشوريين في ذلك الزمن إلى أرض اليمن. ولو كان الآشوريون قد استذلوا السبئيين اليمانيين وحكموهم لذكروا اسمهم في جملة الأمم التي استعبدوها. والرأي عندي إن تلك الهدايا هي مجرد تعبير عن الصداقة التي كانت تربط بين آشور وسبا، خاصة وأن بين اليمن والعراق تجارة مستمرة قديمة ومواصلات متصلة، فلتوطيد الصداقة بين الحكومتين وتسهيل التبادل التجاري بين العراق واليمن أرسل حكام سبأ تلك الهدايا، كما فعل أهل مكة وهم قوم تجار فيما بعد، فقد كانوا يتوددون للاكاسرة ولملوك الحيرة بإرسال الهدايا النفيسة لهم، لكسب ودهم في تسهيل أمور تجارتهم مع أسواق العراق.
و إذا أخذنا برأي من يقول إن يثع أمر" المذكور في نص "سرجون"، هو "يثع أمر" الذي نبحث فيه، يكون إرسال الهدايا والألطاف إلى "سرجون" في حوالي السنة "715 ق. م.". وقد قدر "فلبي" حكمه بحوالي عشرين سنة، وجعله من حوالي سنة "720" حتى سنة "700 ق. م.".

(1/946)


--------------------------------------------------------------------------------

و تولى الحكم بعد "يثع أمر وتر" ابنه المكرب "كرب أيل بين". وقد ذكر اسمه في الكتابة CIH 627، وهي كتابة قصيرة ناقصة، ورد فيها اسم "كرب ايل بين" ومعه اسم والده "يثع أمر"، و لم يذكر فيها نعت "يثع أمر" وهو "وتر"، وذكرت بعد اسم "يثع أمر" كلمة "مكرب سبأ". وورد اسمه. واسم أبيه "يثع أمر" في كتابات أخرى، ذكرت في بعضها لفظة "وتر"، بعد "يثغ أمر". وذكرت في بعض آخر كلمة "مكرب"، و لم تذكر في غيره.
وقد ورد في الكتابة CIH 634: إن "كرب ايل بين" وسع حدود مدينة "نشق" بمقدار ستين "شوحطا"، وحسن المدينة.
وورد في أخبار "سنحريب" إنه تسلم هدايا من "كرب ايلو" Ka-ri-bi-lu ملك سبأ، من جملتها أحجار كريمة وعطور. و قد ذهب الباحثون في هذا الموضوع إلى إن هذا السبئي، الذي قدم الهدايا إلى ملك آشور، هو "المكرب كرب آل بين" الذي نبحث عن سيرته. وإن كان النص الآشوري قد نعته ب "ملك". وذلك لأن الآشوريين لم يكونوا على علم بألقاب حكام سبأ، فلقبوة بلقب "ملك".
وقد جعل "هومل" أسمم "كرب ايل بين" في آخر المجموعة الأولى من مجموعات مكربي سبأ، ووضع إلى جنبه اسم "سمه على ينف"، وصارت مجموعه هذه بذلك على هذا النحو: 1 - سمه على "دون نعت".
2 - يدع ايل ذرح.
3 - يثع أمر وتر.
4- يدع ايل بين.
5 - يثع أمر "لا يعرف نعته".
6 - كرب ايل "بين" و "سمه على ينف"، ولعله كان يشارك شقيقه "كرب ايل بين" في الحكم.
وولى الحكم بعد "كرب ايل بين" ابنه المكرب "ذمر على وتر"، واليه تعود الكتابة الموسومة ب Halevy 349، وقد جاء فيها: إن هذا المكرب أمر بتوسيع مدينة "نشقم"، أي "نشق"، و باصلاح الأرضين المحيطة بها، وبتحسين نظم الري فيهما، وذلك فيما وراء الحد الذي وضعه أبوه لهذه المدينة، وانه قد جعل ذلك وقفا على شعب سبا.

(1/947)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من عناية المكربين بمدينة "نشق"، وهي مدينة معينية في الأصل، إن السبئيين وجدوها أرضا خصبة غنية و مهمة بالنسبة إليهم، وقد صارت خرابا، فقرروا إصلاح ما تخرب منها، واستصلاح أرضها لإسكان السبئيين فيها، ووسعوا في حدودها، وأصلحوا ما تداعى ووهن من نظم الري فيها، ووزعوا الأرضين الزراعية منها على أتباعهم السبئيين،وحولوها بذلك إلى مدينة سبئية. وقد كانت الشعوب القديمة تتبع هذه السياسية، حيث كانت تستقطع الأرض من المدن التي تفتحها، وتعيها أفرادها، للسكن فيها و لإعمارها وللهيمنة على أهل المدينة لأصليين.
وقد جاء في إحدى الكتابات: إن هذا المكرب أمر بتجديد ما تلف وتداعى من معبد الإله "عثتر"، و إصلاحه. ولم يرد فيها ذكر اسم الموضوع الذي كان فيه ذلك المعبد، كما جاء اسمه في كتابة أخرى دونها قيل "قول" كان يحكم قبيلة "يهزحم" و "يزحم".
وتولى بعد المكرب "ذمر على" ابنه المكرب "سمه على ينف" "سمه على ينوف" الحكم. وقد ذكر اسمه في كتابات عدة من أهمها كتابة تشير إلى تعمير هذا المكرب سد "رحبم" "رحاب" للسيطرة على مياه الأمطار والاستفادة من السيول. وهو جزء من المشروع المعروف به "سد مأرب" الذي نما على مرور الأيام، وتوسع حتى كمل في زمن "شهر يهرعش" في نهاية القرن الثالث للميلاد، فصارت تستفيد منه مساحة واسعة من الأرض. وقد بقي قائما إلى قبيل الإسلام، وعد سقوطه نكبة كبيرة من النكبات التي أصابت العربية الجنوبية، حتى ضرب بسقوطه المثل، فقيل: "تفرقوا أيدي سبأ"، ذلك لأن سقوطه أدى إلى تفرق السبئيين، وإلى هجرهم من بلادهم التي ولدوا فيها وإلى تفرقهم شذر مذر في البلاد.

(1/948)


--------------------------------------------------------------------------------

و تخبر الكتابة الموسومة ب Glaser 514 إن المكرب "سمه على ينف" ثقب حاجزا من الحجر، وفتح ثغرة فيه لمرور المياه منها إلى سد "رحبم" "رحاب"، لتسيل إلى منطقة "يسرن" "يسران"، وهي منطقة ورد اسمها في كتابات عديدة، و كانت تغذيها مسايل و قنوات عديدة تأتي بالماء من حوض هذا السد، وتبتلع ماءها من مسيل "ذلة" وهو من المسايل الكبيرة، فتغذي أرضا خصبة لا تزال على خصبها، ومن الممكن الاستفادة منها فائدة كبيرة باستعمال الوسائل الحديثة في إيجاد المياه.
وكتابة هذا المكرب، هي أقدم وثيقة وصلت إلينا عن سد "مأرب"، إنها شهادة مهمة تشير إلى مبدأ تأريخ هذا السد، ولكنني لا أستطيع إن أقول إن السد كان من تفكر هذا المكرب وعمله، وانه أول من شق أساسه ووضع بني إنه، فقد يكون السد من عمل أناس غيره حكموا قبله، وما المشروع الذي أقامه هذا المكرب إلا تتمة لذلك المشروع القديم.
إن هذه "لكتابة هي وثيقة ترجع تأريخ السد إلى جملة مئات من السنين سبقت الميلاد. ترجعه إلى حوالي السنة "750 ق. م." على رأي بعض الباحثين.
وقد ورد اسم هذا المكرب في عدد من الكتابات أكثرها متكسرة.
وسار المكرب "يثع أمر بين" على سنة أبيه المكرب "سمه علي ينف" في العناية بأمور الري، فأدخل تحسينات كبيرة على سد مأرب، وأنشأ له فروعا جديدة، ففتح ثغرة في منطقة صخرية لتسيل منها المياه إلى أرض "يسرن" "يسران"، وزاد بعمله هذا في التحكم والسيطرة على مياه السيول، وفي تسخير الطبيعة لخدمة الإنسان، وعمل على تعلية سد "رحيم" "رحاب" القديم وتقويته، فوسع بذلك الأرضين الزراعية، وزاد في ثروة أهل "مأرب" الذين زاد عددهم، حتى تغلب على عدد سكان "صرواح" عاصمة المكربين، وتمكنت "مأرب" بذلك من منازعة هذه العاصمة، إلى إن تغلبت عليها، فصارت العاصمة للسبئيين ومقر حكام سبأ، وصاحبة معبد "المقه" إله سبأ الكبير.

(1/949)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذهب بعض الباحثين إلى إن المكرب "سمه علي ينف" والمكرب "يثع أمر بين" كانا المؤسسين الأصليين لسد مأرب. ويرجعون زمانهما إلى القرن السابع قبل الميلاد، فيكون إنشاء السد إذن في هذا الزمن على رأي هؤلاء الباحثين.
وقد استمر من جاء بعدهما في إصلاحه وفي إضافة زيادات إليه وفي توسيعه وترميمه، إذ أصيب مرارا بتلف اضطر الحكومات إلى إصلاحه. وقد أشر في الكتابات إلى تهدم جزء منه في سنة "450 ب. م." وسنة "542 ب. م." وقد كان آخر ترميم و إصلاح له في أيام "أبرهة". والظاهر أن تلفا أصابه بعد ذلك فيما بين السنة "542ب. م." والسنة "570ب. م."، فلم يصلح فترك الناس مزارعهم، واضطروا إلى الهجرة منها، والى ذلك وردت الإشارة في القرآن الكريم.
والى هذا المكرب تعود الكتابة الموسومة بسمة Philby 77، وقد جاء فيها: أنه سور وحصن قلعة "حرب" "حريب". ويشير تحصين المدن و بناء القلاع والتوسع في الأرضين، التي تعود إلى شعوب أخرى مثل، قتبان ومعين، إلى توسع السبئيين في عهد المكربين، والى اتخاذ هذه الحصون مواقع هجومية تشب منها جيوشهم على جيرانهم الذين أصاب حكوماتهم الضعف والهزال. وقد هاجهم هذا المكرب القتبانيين كما يظهر من كتابة عثر عليها في مأرب، فقتل شهم زهاء أربعة آلاف جندي في عهد ملك قتبان الملك "سمه وتر"، ثم هاجم مملكة "معن"، ولا نعرف الخسائر التي لحقت يالمعينيين، للكسر الذي في الكتابة غير آن الظاهر يدل على انه انتصر عليهم، ثم عقب ذلك إخضاع القبائل والمدن التي لم تكن خاضعة لسبأ حتى أرض "نجران". و قد أوقع ب "مهأمرم" "مهامرم" و "أمرم" "امرم" خسائر كييرة، فقتل منها في المعارك التي نشبت قرب "نجران" زهاء خمسة وأربعين ألف رجل، وأسر "63" ألف أسير وغنم واحدا وثلاثين ألف ماشية، وأحرق ودمر عددا من قراها ومدنها.

(1/950)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر صاحا الكتابة أن من المدن التي أحرقت مدينة "رجمت" "رجمة" مدينة "لعذرايل" ملك "مهامرم" "مهأمرم". والظاهر أن هذه المدينة، كانت عاصمة الملك. وأحرقت أيضا اكثر قرى هذه المملكة ومدنها وجميع المدن بين "رجمت" "رجمة" "رجمات" و "نجران".
وقد ذكر "الهمداني" موضعا سماه "رجمة" في اليمن، وهو اسم يذكرنا بمدينة "رجمت" "رجمة". وقد يكون هو المكان المذكور.
وقد قام المكرب "يثع أمر بين".أعمال عبرانية عديدة. منها بناؤه بابين لمدينة "مأرب"، وتحصينه للمدينة ببروج بناها من "البلق" نوع من الحجر. وقد بنى "مرشوم" ومعبد "نسور"، ومعبد "علم"، ومعبدا في "ريدن" "ريدان"، ومعبدا آخر لعبادة "ذات بعدن" "ذات بعدان" في "حنن" "حنان"، وبنى "عدمن" "عدمان" وعدة أبنية بإزاء باب معبد "ذهبم" "ذهب"، وحفر مسيل "حببض" "حبابض"، و وسع مجرى "رحبم" "رحاب"، وعمقه حتى غذى مناطق واسعة جديدة من "يسرن" "يسران" ، وبنى سد "مقرن" "مقران"، وأوصل مياه "مقران" إلى "أبين"، وكذلك سد "يثعن" "يثعان" حيث أوصل مياهه إلى "أبين"، وسد "منهيتم" "منهيت" و "كهلم" "كهل" الواقع مقابل "طرقل".
هذه الأعمال الهندسية التي قام بها هذا المكرب وأسلافه من قبله، للاستفادة من مياه الأمطار،هي من المشروعات الخطيرة التي ترينا تقدم أهل العربية الجنوبية في فن الري والاستفادة من الأمطار في تحويل الأرض اليابسة إلى جنان. ولسنا نجد في التأريخ القديم إلا ممالك قليلة فكرت في مثل هذه المشروعات وفي التحكم في الطبيعة للاستفادة منها في خدمة الإنسان. لقد حول هذا السد ارض "أذنة" أو "ذنة" إلى جنان ترى آثارها حتى الآن. إنها مثل حي يرينا قدرة الإنسان على الإبداع متى شاء واستعمل عقله و سخر يده. وليست هذه القصص والحكايات التي رواها الأخباريون عن سد "مأرب" وعن جنان سبأ باطلا، إنها صدى ذلك العمل العربي الكبير.

(1/951)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ظل حكام سبأ الذين حكموا من بعدهما يجرون إصلاحات، و يحدثون إضافات على سد مأرب، و يرممون ما يتصدع منه كما يظهر ذلك من الكتابات. وقد تعرض مع ذلك للتصدع مرارا، وكان آخر حدث مهم وقع له هو التصدع الذي حدث فيه سنة "542ب. م." وذلك في أيام أبرهة.
ويظهر إن تصدعا آخر وقع له بعد هذه السنة، فأتى عليه، و اضطر من كان يزرع بمائه إلى ترك أرضهم، والهجرة منها إلى ارضين جديدة.
ويظهر من كتابة ناقصة إن هذا المكرب أنشأ أبنية في مدينة "مأرب"، وقد أخذت عناية حكام سبأ بهذه المدينة تزداد، إلى إن صارت مقرهم الرسمي، وبذلك أخذ نجم "صرواح" في الأفول إلى إن زال وجودها.
وذكر اسم هذا المكرب في كتابة أخرى دونت عند تشييده "مذبحا" عند باب "نومم" ".وم"، لاحتفاله بموسم الصيد المسمى باسم إلاله "عثتر" "صيد عثتر". ولا نعرف اليوم شيئا عن هذا الصيد الذي خصص باسم الإله "عثتر" لأن الكتابة قصيرة وعباراتها غامضة، ولكن يظهر منها إن مكربي سبأ كانوا يحتفلون في مواسم معينة للصيد، وانهم كانوا يجعلون صلة بينه وبين الآلهة، ولعلهم كانوا يفعلون ذلك تسميا بأسماء تلك الآلهة، لتبارك لهم فيه، ولتمنحهم صيدا وفيرا. وقد عثر على كتابات حضرمية و غيرها، لها صلة بالاحتفالات التي كانت قام للصيد.
وذكر في كتابة قصيرة اسم "يثع أمر بن سمه على"، فلم تعطنا شيئا جديدا يفيد في استخراج مادة تاريخية منها.
وقد وضع "فلبي" اسم "ذمر علي ينف" "ذمر علي ينوف" بعد اسم المكرب السابق في قائمته لأسماء المكربين التي نشرها في مجلة: Le Museon. وأبوه، هو "يكرب ملك وتر"، أما "هومل"، فوضع اسم "ذمر علي" بعد اسم "يثع أمر بين"، وأشار إلى إنه غر متيقن من اسم أبيه، وذكر إن من المحتمل إن يكون أبوه المكرب "يثع آمر بين".

(1/952)

admin
12-26-2010, 01:56 PM
وقد ورد في النص: AF. 70 اسم "يكرب ملك وتر". لم يشر إلى إنه كان مكربا. وقد دون "فلبي" أرقام عدة نصوص، لها - على رأيه - صلة ب "ذمر علي". منها النص: CIH 491، وهو نص سقطت منه أسطر وكلمات، ووردت فيه أسماء الآلهة "هبس" "هوبس" و "المقه" و "عثتر" و "ذت حمم" "ذات حمم". وأسماء: "كرب آل" و "ذمر علي" و "الكرب" و "نشاكرب" "كبراقين" أي "كبير أقيان".
ويعد "كرب ايل وتر" خاتمة المكرببن وفاتحة الملوك في سبأ. افتتح حكمه وهو "مكرب" على سبأ، ثم بدا له فغير رأيه في اللقب، فطرحه، ولقب نفسه "ملك سبأ". وسار من حكم بعده على سنته هذه، فلقب نفسه "ملك سبأ" إلى إن استبدل فيما بعد أيضا به لقب "ملك سبأ وذي ريدان" كما سنرى فيما بعد.
أما إذا سألنا عن كيفية حصولنا على علمنا بأن "كرب ايل وتر" بدء حكمه مكربا ثم ختمه ملكا، فجوابنا: أننا حصلنا عليه من الكتابات المدونة في أيامه، فقد وجدنا إن لقبه في الكتابات القديمة الأولى هو "مكرب"، فعلمنا إنه تولى الحكم مكربا، ثم وجدنا له لقبا آخر هو "ملك سبأ"، فعرفنا إنه لقب جديد حل محل اللقب القديم، ثم وجدنا من جاء بعده يحمل هذا اللقب الجديد، فصار "كرب ايل وتر" آخر مكرب و أول ملك في سبأ في آن واحد.
و يرجع "فلبي" زمان حكم "كرب آل وتر" إلى حوالي السنة "620" حتى "600 ق. م.". وقد زعم إنه حكم من "620" حتى سنة"610 ق. م." مكربا، ثم حكم السنين الباقية ملكا. ورأى بعض آخر إنه حكم في نهاية القرن الخامس قبل الميلاد، وذهب بعض أخر في التقدير مذهبا يخالف هذين التقديرين.

(1/953)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد كان "كرب ايل وتر" كما يتبين من بعض الكتابات التي دونت في أيامه مثل الكتابة الموسومة بكتابة "صرواح" و كتابات أخرى سأشير إليها في أثناء البحث محاربا سار على خطة المكرب "يثع أمر بين" في التوسع وفي القضاء على الحكومات العربية الجنوبية الأخرى أو إخضاعها لحكمه و لحكم السبئيين، بل زاد عليه في توسيع تلك الحروب، وفي إضافة أرضين جديدة إلى سبأ، زادت في رقعتها وفي مساحة حكومة السبئيين، ولكنها أنزلت خسائر فادحة بالأرواح، وأهلكت الزرع والضرع والناس في العربية الجنوبية، وان كان قد قام من ناحية أخرى بأعمال عمرانية و بإصلاح ما تهدم وخرب، فان الحرب ضرر،ينزل بالخاسر و بالرابح على حد سواء. وما الربح في هذه الحروب إلا للملوك وللمقربين إليهم من أقرباء وصنائع.

(1/954)


--------------------------------------------------------------------------------

وكتابة "صرواح" التي أشرت إليها، هي من أخطر الوثائق التأريخية القديمة التي تتعلق بأخبار سبأ وبأعمال هذا المكرب الملك، دون فيها "كرب ايل وتر" كل ما قام به من أعمال حربية وغير حربية، فهي إذن سجل سطرت فيه بإيجاز أعمال المكرب الملك وأفعاله. ولذلك فهي بحق من الوثائق المهمة الخطرة القليلة التي وصلت إلينا في تأريخ الحكام الجاهليين، افتتحها بجملة: "هذا ما أسر بتسطيره كرب ايل وتر بن ذمر على مكرب سبأ عندما صار ملكا، وذلك لإلهه المقه ولشعبه شعب سبأ"، تعبيرا عن شكره له ولبقية الآلهة على نعمها وآلائها وتوفيقها له بأن صيرته ملكا، وأنعمت على شعبه بالمنن و البركات، بأن نحر ثلاث ذبائح إلى الإله "عثتر"، إظهارا لشكره هذا وتقربا إليه، وكسا صنمى الإلهين: "عثتر" و "هوبس" "هبس"، تقربا إليهما وشكرا لهما على نعمهما عليه. ثم انتقل إلى تمجيد آلهته التي وحدت صفوف شعبه بأن جعلت أتباعه كتلة واحدة متراصة كالبنيان المرصوص، أدى واجبه على أحسن وجه، وقام بما عليه خير قيام، لا فرق في ذلك بن كبير وصغير، وبين طبقة وطبقة. ثم انتقل بعد هذا الحمد والثناء إلى حمد آخر و ثناء جديد سطره لآلهته إذ باركت في أرضه وأرض شعبه، ووهبت أرض سبأ مطرا سال في الأودية، فأخذت الأرض زخرفها بالنبات،و إذ مكنته من إنشاء السدود، وحصر السيول حتى صار في الإمكان اسقاء الأرضين المرتفعة، و إحياء الأماكن التي حرما الماء، كذلك إحياء أرضين واسعة بإنشاء سد لحصر مياه الأمطار يتصل بقناة "عهل" لسقي "ماودن" "مأودن" و الأرضين الأخرى التي لم تكن المياه تصل إليها، فوصلت إليها بامتلاء حوض السد بالماء، حتى سقت "موترم" "موتر" التي جاءها الماء من "هودم" "هوديم" "هودي"، و بإنشائه مسايل أوصلت المياه إلى "ميدعم" "ميدع" و "وتر" و "وقه"، ونظم الري في "ريمن" "ريمان" حتى صارت المياه تسقي كل أرض.

(1/955)


--------------------------------------------------------------------------------

وانتقل "كرب ايل وتر"، بعد ما تقدم إلى التحدث عن حروبه وانتصاراته، فأشار إلى إنه غلب "سادم" "سأد" و "نقبتم" "نقبت" "نقبة"، وأحرق جميع مدن "معفرن" "المعافر"، و قهر "ضبر" و "ضلم" "ضلم" و "أروى" وأحرق مدنهم، وأوقع فيهم فقتل ثلاثة آلاف، وأسر ثمانية آلاف، وضاعف الجزية التي كانوا يدفعونها سابقا، وفي جملتها البقر والماعز.
ثم انتقل إلى الكلام على بقية أعماله، فذكر إنه أغار على "ذبحن ذ قشرم" "ذبحان ذو قشر" وعلى "شركب" "شرجب"، وتغلب عليها، فأحرق مدنهما، واستولى على جبل "عسمت" "عسمة" وعلى وادي "صير"، وجعلهما وقفا لألمقه ولشعب سبأ، وهزم "أوسان" في معارك كلفتها ستة عشر ألف قتيل و أربعين ألف أسير، وانتهبت جميع "وسر" من "لجاتم" "لجأتم" حتى "حمن" "حمان"، وأحرقت جميع مدن "انفم" "أنف" و "حمن" "حمان" و "ذيب"، و نهبت "نسم".
ويرى بعض الباحثين إن "لجيت" "لجيأت" "لجيأة"، هو موضع "لجية" في الزمن الحاضر، وأن "حمن" هو موضع يقع على مدخل "وادي حمان"، أو الموضع المسمى ب "هجر السادة".. وأما "وسر"، فإنها أرض "مرخة" أو جزء منها.
و أصيبت الأرضون التي تسقى بالمطر وهي "رشأى" و "جردن"، بهزيمة منكرة، ونزل بأرض "دئينة" ما نزل بغيرها من هزائم منكرة، وأحرقت مدنها وهتكت مدينة "تفض" واستبيحت ثم دمرت وأحرقت، و نهبت قراها وبساتينها التي تقع في الأرضين الخصبة التي تسقى بماء المطر، وفعلت جيوشه هذا الفعل في الأرضين الأخرى إلى إن بلغت ساحل البحر فأحرقت أيضا كل المدن الواقعة عليه.
ويظهر من نص "كرب ايل" إن موقع مدينة "تفض"، يجب إن يكون بين أرض "دتنت" والبحر. ولما كانت "دهس" تتاخم "عود" من جهة و "تفض" من جهة أخرى، ذهب بعض الباحثين إلى إن أرض "دهس" هي أرض "يافع" في الزمن الحاضر. أما "تفض"، فأنها الخرائب الواسعة المتصلة بمدينة "خنفر". وقد عرفت "يافع" ب "سروحمير" في أيام "الهمداني". ولا زال أهل يافع يرجعون نسبهم إلى حصر.

(1/956)


--------------------------------------------------------------------------------

وتكون الهضاب الواقعة وراء دلتا "أبين" أرض "يافع" في الوقت الحاضر. وقد رأى "فون وزمن" إن "دهس" "دهسم" التي يرد اسمها في النص: REP. EPIG. 3945، هي أرض "يافع".
وذكر "كرب ايل وتر" إنه ضرب "وسر" ضربة نكراء و استولى على كل مناطقها إلى أن بلغ أرض "أوسان" في أيام ملكها "مرتم" "مرتوم"، "مرتو"، "مرت"، "مرة"، فأمر جنوده بأن يعملوا في لشعبها أوسان السيف، واستذل رؤساءه، وجعل رؤساء "المزود" "المسود" وهم رؤساء البلد، رقيقا للآلهة "سمهت" و قرابين لها، وقرر إن يكون مصير ذلك الشعب الموت والأسر، وأمر بتحطيم قصر الملك "مرتوم" "مرتم" "مرة" المسمى "مسور" "مسر"، ومعالم ما فيه من كتابات اوسانية، وازالة الكتابات الأوسانية التي كانت تزين جدران معابد اوسان، ولما تم له كل ما أراده ورغب فيه، أمر بعودة الجيش السبئي، من أحرار و**** من أرض اوسان ومن المقاطعات التابعة لها، إلى ارض سبأ، فعادة إليها كما صدر الأمر.
وتذكر الكتابة: إن الملك "كرب ايل" أمر عندئذ بضم "سرم" "سرو" سروم" وتوابعها، وكذلك "حمدن" "حمدان" و لواحقها، إلى حكومة سبأ، و سلم ادارة "سرم" إلى السبئيين، وأحاط المدينة بسور، و أعاد الترع والقنوات و مسايل الماء إلى ما كانت عليه. وأما "دهسم" "دهس" و "تبنى" فقد حلت بسكانها الهزيمة، وقتل منهم ألفا قتيل وأسر خمسة آلاف أسر، وأحرقت أكثر مدنها، وأدمجتا ومعهما مقاطعة "دثينة" "دثنت"، في سبأ. أما مقاطعة "عودم" "عود"، فقد أبقيت لملك "دهسم" "دهس". وقد عد "العوديون" الذين انفصلوا عن أوسان حلفاء لسبأ، فأبقيت لهم أملاكهم و الأرضون التي كانت لهم.
وكانت "عود" من أرض "أوسان" في الأصل، ثم خضعت ل "مذحي" "مذحيم". ويرى بعض الباحثين إنها "عوذلة" في الزمن الحاضر.

(1/957)


--------------------------------------------------------------------------------

وجاء في هذه الكتابة، وبعد الجملة المتقدمة: إن "انفم" "أنف" وكل مدنها وجميع ما يخصها من أرضين زراعية وما في مما من أودية ومراعي، وكذلك كل أرض "نسم" و "رشاي" "رشأي" وكل الأرضين من "جردن" "جردان" إلى "فخذ علو" و "عرمو"، وكذلك جميع المدن والنواحي التابعة ل "كحد" و "سيبن" "سيبان" والمدن "اتخ" "أتخ" و "ميفع" و "رتحم" وجميع منطقة "عبدن" "عبدان" ومدنها وجنودها أحرارا و****ا، و "دثينة أخلفو" و "ميسرم" "ميسر" و "دثينة تبرم" "دثينة تبر" "وحرتو" وكل المدن والأودية والمناطق والجبال و المراعي في منطقتي "دث" "داث" وكل أرض "تبرم" "تبرم" وما فيها من سكان وأملاك وأموال حتى البحر، وكذلك كل المدن من "تفض" إلى اتجاه "دهس" والسواحل وكل بحار هذه الأرضين، ومناطق "يل أي" و "سلعن" "سلعان" و "عبرت" "عبرة" و "لبنت" "لبنة" ومدنها ومزارعها، وجميع ما يملكه "مرتوم" ملك أوسان وجنوده في "دهس" و "تبنى" و "يتحم" وكذلك "كحد حضنم" "كحد حضن"، وجميع سكان هذه المناطق من أحرار ورقيق وأطفال و كبار، كل هذه من بشر وأملاك جعلها "كرب ابل وتر" ملكا لسبأ ولآلهة سبأ.
ويظن إن موضع "ميسرم" "ميسر"، وهو من مواضع ارض "دثينة" هو ارض قبيلة "مياسر" في الزمن الحاضر. وقد ذكر بعض السياح إن في أرض "مياسر" سبع آبار ترتوي منها القبيلة المذكورة التي تقطن ارض "دثينة القديمة.
ولفظة "سيبن" "سيبان" الواردة في النص، هي اسم قبيلة، ورد ذكرها في نص متأخر جدا عن هذا النص، هو نص "حصن غراب". و معنى ذلك إنها من القبائل التي ظلت محافظة على كيانها إلى ما بعد الميلاد. فقد أشير إلى "كبر" "كبراء" وإلى "أقيال" "سيبان". وورد "سيين ذ نصف" أي "سيبان" أصحاب "نصف" "نصاف". ويرى بعض الباحثين إن موضع "نصاف" "نصف"، هو الموضع الذي يقال له "نصاب" في الزمن الحاضر.

(1/958)


--------------------------------------------------------------------------------

و اما "ميفع" "ميفعة"، فتقع في الزمن الحاضر في غرب "وادي نصاب" وفي غرب وادي "خورة". واما "رتح" "رتحم"، فهو اسم قبيلة واسم مدينة في ارض "سيبان". وقد ذكر أيضا في جملة القبائل التي وردت أسماؤها في نصى "حصن غراب". و أما "عبدن" "عبدان"، فانه اسم موضع يقع في جنوب "نصاب" في الزمن الحاضر. وقد قال فيه "كرب أيل" في نصه: "وكل ارض عبدان ومدنها وواديها وجبلها ومراعيها وجنود عبدان احرارا و****ا". معبرا بذلك عن تغلبه على كل أهل هذه الأرض من مدنيين وعسكر، حضر وأهل بادية ومراع.
وقد صير "كرب ايل وتر" كل ارض "عبدن" "عبدان" ارضا حكومية، وتقع في الزمن الحاضر في سلطنة "العوالق العليا"، و يلاحظ إن "وادي عبدان" ما زال حتى اليوم بقراه وبمياهه من ارض السلطان، أي إنه أرض حكومية تخص السلطنة.
واستمر "كرب أيل وتر" مخبرا في كتابته هذه: إنه سجل جميع "كحد" وكل سكانها من أحرار ورقيق بالغين وأطفالا، وكل ما يملكونه، القادرين على حمل السلاح منهم، وجنود "يل أي" و "شيعن" و "عبرت" "عبرة" وأطفالهم، غنيمة لسبأ. ثم ذكر أنه نظرا إلى تحالف ملك حضرموت الملك "يدع ايل" وشعب حضرموت مع لشعب سبأ في هذا العهد ومساعدتهم له، أمر بإعادة ما كان لهم من ملك في "أوسان" إليهم، وأمر بإعادة ما كان للقتبانيين ولملك قتبان من ملك في "أوسان" إليهم كذلك، للسبب نفسه. فأعيدت تلك الأملاك إلى الحضارمة وإلى القتبانيين.
ثم عاد "كرب ايل" فتحدث عن عداء أهل "كحد سوطم" لسبأ وعن معارضتهم له، فقال: إنه أمهر جيشه بالهجوم عليهم، فأنزل بهم هزيمة منكرة وخسائر جسيمة، فسقط منهم خمس مئة قتيل في معركة واحدة، واخذ منهم ألف طفل أسير وألقي حائك ما عدا الغنائم العظيمة والأموال النفيسة الغالية وعددا كبيرا من الماشية وقع في أيدي السبئيين.

(1/959)


--------------------------------------------------------------------------------

وتحدث "كرب ايل" بعد ذلك عن "نشن" "نشان"، وقد عارضته كذلك وناصبت " العداء، فذكر إنها أصيبت بهزيمة منكرة، فاستولت جيوشه عليها، و أحرقت كل مدنها ونواحيها وتوابعها، ونهبت "عشر" و "بيحان" وكل ما يخصها من أملاك وارضين. وذكر إن "نشان" "نيشان" عادت فرفعت راية العصيان للمرة الثانية، لذلك هاجمها السبئيون و حاصروها وحاصروا مدينة "نشق" معها ثلاثة أعوام، كانت نتيجتها ضم "نشق" وتوابعها إلى دولة سبأ، وسقوط آلف قتيل من "نيشان" "نشان" "نشن" وهزيمة الملك "سمه يفع" هزيمة منكرة، وانتزاع كل ما كانت حكومة سبأ قد أجرته من أرضين ل "نشن" و إعادتها ثانية إلى سبأ، وتمليك مملكة سبأ المدن: "قوم" و "جوعل"، و "دورم" و "فذم" و "أيكم"، وكل ما كان ل "سمه يفع" ول "نشن" من ملك في "يأكم" "ياكم"، وكذلك كل ما كان لمعبد الأصنام الواقع على الحدود من أملاك وأوقاف حتى "منتهيتم"، فسجلها باسمه وباسم سبأ.

(1/960)


--------------------------------------------------------------------------------

وصادرت سبأ أرض "نشن" الزراعية وجميع السدود التي تنظم الري فيها، مثل، "ضلم"، و "حرمت"، وماء "مذاب" الذي كان يمون "نشن" وأماكن أخرى بالماء، وسجلت ملكا لسبأ، وخرب سور "نشن" ودمره حتى أساسه. أما ما تبقى من المدينة، فقد أبقاه، ومنع من حرقه. وهدم قصر الملك المسمى "عفرو" "عفر"، وكذلك مدينته "نشن". وفرض كفارة على كهنة آلهة المدينة الذين كانوا ينطقون باسم اللآلهة، ويتكهنون باسكما للناس، وحتم على حكومة "نشن" إسكان السبئيين في مدينتهم وبناء معبد لعبادة إله سبأ الإله "المقه" في وسط المدينة، وانتزع ماء "ذو قفعن" و أعطاه بالإجارة ل "يذمر ملك" ملك "هرم" "هريم"، وانتزع منها كذلك السد المعروف ب "ذات ملك وقه" وأجره ل "نبط على" مللك "كمنه" "كمنا"، ووسع حدود مدينة "كمنه" "كمنا" من موضع سد "ذات ملك وقه" إلى موضع الحدود حيث النصب الذي يشير إليه، وسور "كرب ايل" مدينة "نشق" وأعطاها سبأ لاستغلالها، وصادر "يدهن" و "جزيت" و "عربم"، وفرض عليها الجزية تدفعها لسبأ.
وانتقل "كرب ايل" بعد هذا الكلام إلى الحديث عن أهل "سبل" و "هرم" "هربم" و "فنن"، فذكر إن هذه المدن غاضبته و عارضته، فأرسل عليها جيشا هزمها، فسقط منها ثلاثة آلاف قتيل، وسقط ملوكها قتلى كذلك، وأسر منهم خمسة آلاف أسير، وغنم منهم خمسين و مئة ألف من الماشية، وفرض الجزية عليهم عقوبة لهم، ووضعهم تحت حماية السبئيين.

(1/961)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان آخر من تحدث عنهم "كرب ايل" في كتابته هذه أهل "مهامر" "مه أمر" "مها مرم" "مهأمر"، و "أمرم" "أمر"، فذكر انه هزمهم وهزم كذلك كل قبائل "مه امرم" "مهأ مرم"، و "عوهبم" "عوهب" "العواهب"، حيث تكبدوا خمسة آلاف قتيل، وأسمر منهم اثني عشر آلف طفل، وأخذ منهم عددا كبيرا من الجمال والبقر والحمير والغنم يقدر بنحو مئتي آلف رأس، وأحرقت كل مدن "مه أمرم" وسقطت "يفعت" "يفعة"، فدمرت وصادر "كرب أيل" مياه "مه أمرم" في "نجران" و فرض على أهل "مه أمر" الجزية يدفعونها لسبأ.
وقد قص "كرب ايل وتر" في كتابة "صرواح" المسماة ب Glaser 1000B أسماء المدن المذكورة والمقاطعات المحصنة التي استولى عليها، وسجل بعضها باسمه وبعضا آخر باسم حكومة سبأ و بآلهة سبأ. ومن هذه: "كتلم" و "يثل"، و "نب"، و "ردع" "رداع"، و "وقب"، و "اووم" "أوم"، و "يعرت" "يعرتم"، و "حنذفم" "حنذ فم" "حنذف"، و "نعوت ذت فددم" "نعوت ذات فدد"، و "حزرام" "حزرأم"، و "تمسم" "تمس"، وهي مواضع كانت مسورة محصنة بدليل ورود جملة: " وسور وحصن..." بعدها مباشرة.
وأما المواضع التي أمر "كرب ايل وتر" بتسويرها وبتحصينها، فهي: "تلنن" "تلنان" و "صنوت" و "صدم" "صدوم" و "ردع" "رداع" و "ميفع بخجام" "ميفع بخبأم"، و "محرثم" ومسيلا الماء المؤديان إلى "تمنع" وحصن وسور "وعلن" "وعلان" و "مثبتم" "موثبتم" و "كمدر" "كدار"، وذكر بعد ذلك إنه أمر بإعادة القتبانيين إلى هذه المدن، لأنهم كانوا قد تحالفوا مع "المقه" إله سبأ و "كرب ايل" ومع شعب سبأ، أي إنهم كانوا في جانبهم، فأعادهم إلى المواضع المذكورة مكافأة لهم على ذلك.

(1/962)


--------------------------------------------------------------------------------

ثم عاد "كرب ايل"، فذكر أسماء مواضع أخرى استولى عليها وأخذها باسمه، هي: مدينة "طيب"، وقد أخذها من "عم وقه ذ امرم" "عموقه ذ أمرم"، وأخذ منه أيضا أملاكه وأمواله في "مسقى نجى"، وفي "افقن" "افقان" و ب "حرتن" "حرتان"، وجبله ومراعيه وأوديته الآتية من "مرس" وكل المراعي في هذا المكان. ثم ذكر إنه أخذ من "حضر همو ذ مفعلم" "حضر همو ذو مفعل"، وهو من الأمراء الإقطاعيين على ما يظهر، هذه المواضع: "شعبم" "شعب"، والأودية، والمراعي التابعة ل "مشرر" إلى موضع "عتب"، ومن "ابيت" "أبيت" إلى "ورخن" و "دعف" وكل الأملاك في "بقتت" و "دنم" "دونم"، فأمر بتسجيلها كلها باسمه، وأمر كذلك بتسجيل "صيهو" باسمه، واشترى "حدنن" أتباع ورقيق "ادم" "حضر همو ذي مفعل" و "جبرم" "جبر" أتباع "يعتق ذ خولن" "يعتق ذو خولان" الذي ب "يرت".
وذكر "كرب ايل وتر" بعد ذلك: إنه وسع املاك قبيلته وأهله "فيشان" "فيشن" وانه اخذ من "رابم بن خل امر ذ وقبم" "رأيم بن خل أمر ذو وقيم"، كل ما يملكه في "وقيم" من أملاك ومن أرضين ومن أودية و مسايل مياه وجبال ومراع، وسجل ذلك كله باسمه، كما إنه استولى على "يعرت" "يعرتم" وعلى جميع ما يتبعها من مسايل مياه وأودية ومراع وجبال وحصون، فسجله باسمه، واستولى أيضا على أرض "اووم" "أوم" "أوام" وعلى مسايلها، وسجلها ملكا له.
ثم ذكر إنه صادر كل أموال "خلكرب ذغرن" "خالكرب ذو غوان" وأملاكه في "مضيقت" "مضيقة" وسجلها باسمه، كما سجل أرض "ثمدت" ومسايل مياهها وحصنها ومراعيها في جملة أملاكه ومقتنياته.

(1/963)


--------------------------------------------------------------------------------

ثم عاد في الفقرة الخامسة من النص، فذكر إنه أخذ كل ما كان يلكه "خل كرب دغرن" "خالكرب ذو غران" في أرض "مضيقة" "مضيقت"، و أخذ كذلك التلين الواقعين في "خندفم" "خندف" والأرضين الأخرى إلى مدينة "طبب"، وسجل ذلك كله في جملة أملاكه. وأخذ كذلك كل ما كان يملكه "خالكرب" في "مسقى نجى"، كما أخذ موضع "زولت" وكل ما يتعلق به وما يخصه من مسايل مياه ومراع.
ثم أخذ أرض "اكربي" "اكرى" ومسايل مياهها، وسجلها باسمه، كما استولى على "نعوت" من حد "شدم" و "خام" "خبأم" "خب أم" إلى الأوثان المنصوبة على الحدود علامة لها.
وقطع "كرب ايل وتر" الحديث عن الأملاك التي استولى عليها وسجلها باسمه، وانتقل فجأة إلى التحدث عن بعض ما قام به من أعمال عمرانية، فذكر إنه أتم بناء الطابق الأعلى من قصره "سلحن" "سلحين" ابتداء من الأعمدة و الطابق الأسفل إلى أعلى القصر وانه أقامه في وادي "اذنة" "اذنت" خزان ماء "تفشن"، ومسابله التي توصل الماء إلى "يسرن" "يسران"، وانه شيد و حصن وقوى جدار ماء "يلط" وما يتفرع منه من مساق ومسايل تسوق الماء إلى "أبين". ثم قال: إنه شيد وبنى وأقام "ظراب" و "ملكن" "ملكان" لوادي "يسرن" "يسران"، كما بنى أبنية أخرى في وسط "يسرن" و "أبين"، وغرس وعمر أرضين زراعية في أرض "يسرن".
ثم عاد فقطع الكلام على ما قام من أعمال عمرانية، وحوله إلى الكلام على أملاكه التي وسعها وزاد فيها، وهي: "ذ يقه ملك" "ذو يقه ملك"، و "أثابن" "أثأب" "أثأبن"، و "مذبن" "المذاب"، و "مفرشم" "مفرش"، و "ذ انفن" "ذو انف" "ذو الأنف"، و "قطنتن" "القطنة" و "سفوتم" "سفوت" و "سلقن" "سلقان"، و "ذ فدهم" "ذ وفدهم"، و "ذ اوثنم" "ذو اوثان"، و "دبسو" "دبس"، و "مفرشم" "مفرش"، و "ذ حببم" "ذو حباب" "ذو حبب"، و "شمرو" "شمر"، و "مهجوم" "مهكوم" "مهجم".

(1/964)


--------------------------------------------------------------------------------

ثم عاد "كرب ايل وتر" فتكلم على الأملاك التي حصل عليها وامتلكها، فذكر إنه تملك في "طرق" موضع "عن . ان" و "حضرو" و "ششعن" "ششون" وذكر إنه تملك موضع "فرعتم" "فرعت" "فرعة" و "تيوسم" "تيوس" و "اثابن" "أثابن" "1 ث ب ن" في ارض "يسرن" وانه تملك "محمين" "محميان" من حد "عقبن" "عقبان" حتى "ذي أنف"، وتملك ما يخص "حضر همو بن خل أمر" "حضر همو بن خال أمر" من املاك، وتملك "مفعل" "مفعلم" وكل ما في أرض "ونب" وكل ارض "ونب" وكل أرض "فترم" و "قنت" وكل ما يخص "حضر همو بن خال أمر" من مدن، هي: "مفعلم" و "فترم"، و "قنت" و "جو" "كو" وكل ما فيها من حصون وقلاع وأودية ومراع. ثم ذكر انه باع المدن و الأرضين المذكورة، وهي مدن: "مفعلم"، و "فترم"، و "قنت" و "جو"، التي أخذهما من "حضر همو بن خال كرب" و سجلها باسم قبيلته "فيشان".
وكان قد ذكر في آخر الفترة السابعة من النص وقبل الفقرة الثامنة المتقدمة التي هي خاتمة النص، إنه خرج للصيد فصاد، وقدم ذلك في مذبح "لقظ" قربانا للإله "عثتر ذي نصد"، كما قدم إليه تمثالا من الذهب.
وقد أدت حروب "كرب ايل" المذكورة إلى تهدم أسوار كثير من المدن التي هاجمها، فصارت بذلك مدنا مكشوفة من السهل على الأعراب والغزاة مداهمتها ونهبها، ولهذا اضطر إلى إعادة تسويرها أو ترميم ما تهدم من أسوارها كما اضطر أيضا إلى تسوير مدن لم تكن مسورة وتحصينها. وفي جهلة المدن التي حصنها وسورها أو رم اسوارها، مدينة "وعلان" حاضرة "ردمان"، و "رداع"، و "كدر" "كدار"، ومدن أخرى.

(1/965)


--------------------------------------------------------------------------------

هذا، وأود أن الخص الخطط التي سار "كرب ايل" عليها والحروب التي قام بها في الأرضين التي ذكر أسماءها في نصه، على الوجه الآتي: كانت أرض "سأد" أول أرض شرع في مهاجمتها، ثم انتقل منها إلى ارض "نقبتم" "نقبت" "نقبة"، ثم "المعافر"، ثم سار نحو "ذبحان القشر" "ذبحن قشرم" و "شرجب" "شركاب" "شركب" ثم اتجه في حملته الثانية نحو "أوسان"، حيث أمر جنوده بنهب "وسر لمجأت" وبقية المواضع إلى "حمن" "حمان"، وبحرق كل مدن "آنف" في أرض "معن" حول "يشم" "يشبوم" أو "الحاضنة" في الزمن الحاضر، ومدن "حبان" في وادي "حبان" و "ذياب" في أرض قبيلة "ذياب" شرق حمير في الزمن الحاضر.
ثم أمر "كرب ابل" نبهب "نسم" "نسام" وأرض "رشأى"، ثم "جردن" "جردان".
وعند ذلك وجه "كرب ايل" جيشه نحو "دتنت" حيث أصيب فيها ملك أوسان بضربة شديدة، فأمر بإحراق كل مدن "دشت" ومدينة "تفض" و "أبين"، حتى بلغ ساحل البحر، حيث أحرق ودمر المدن والقرى الواقعة عليه.
ثم عاد "كرب ايل" فضرب أرض "وسر" مرة أخرى، وأصاب قصر ملك اوسان في "مسور"، حيث هدمه، وأمر بانتزاع كل الكتابات الموجودة في معابد اوسان و تحطيمها. ثم سار جيشه كله إلى أرض أوسان،وبعد إن قضى على كل مقاومة لهم عاد إلى بلاده.
ثم قام بغزو أرضين تقع شمال غربي سبأ. ثم وحد "سروم" وأرض "همدان" وحصن مدنهما، وأ صلح وسائل الري فيها.
وحدثت بعد تلك الحروب حرب وقعت في الجنوب، في "دهس" وفي "تبنو"، حيث احرق "كرب ايل" مدنها، ثم ألحقها كلها مع "دتنت" بسبأ، وفصلت أرض "عود" من "أوسان" فضمت إلى "دهس".

(1/966)

admin
12-26-2010, 01:57 PM
واصيب "كحد ذ سوط" بمعارك شديدة، ويظهر إنها ثارت على "كرب ايل" وأعلنت العصيان عليه. وقد ساعدها وشجعها "يذمر ملك" ملك "هرم" وبقية المدن المعينية المجاورة، مثل "نشن" "نشان"، فسار جيش "كرب ايل" إليها، وأنزل بها خسائر فادحة، وأحرق أكثر مدنها، وحاصر "نشان" مدة ثلاث سنين، مما يدل على إنها كانت مدينة حصينة جدا، حتى نحى ملكها عنها. ثم انصرف "كرب ايل" إلى إعادة تنظيم الأرضين التي استولى عليها، وإلى تعيين حكام جدد للمناطق التي استسلمت له، و إلى إصلاح أسوار المدن ووسائل الدفاع والري.
أما الحملة الأخيرة من حملاته الصغيرة، فكانت على "مهأمر" "ممه امر" و "أمر" حيث بلغت أرض نجران.
لقد أضرت حروب "كرب أي وتر" المذكور في ضرا فادحا بالعربية الجنوبية فقد أحرق اكثر الأماكن التي استولى عليها، و أمر بقتل من وقع في أيدي جيشه من المحاربين، ثم أمر بإعمال السيف في رقاب سكان المدن والقرى المستسلمة فأهلك خلقا كثيرا. ونجد سياسة القتل والإحراق هذه عند غير "كرب أيل" أيضا، وهي سياسة أدت إلى تدهور الحال في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية، وإلى اندثار كثير من المواضع بسبب أصحابها وهلاك أصحابها.
وقد عثرت بعثة "وندل فيلبس" في اليمن على كتابة وسمتها البعثة ب Jamme 819 ، جاء فيها: "وبكرب آل و بسمه". أي "وبكرب ايل وسمه". وحرف الواو هنا في واو القسم، و الكتابة من بقايا كتابة أطول تهشمت فلم يبق منها غير الجملة المذكورة. وقد ذهب "جامه" Jamme . ناشرها إلى إنها من عهد سابق لحكم المكربين، و قد زمن كتابتها القرن الثامن أو السابع قبل الميلاد.

(1/967)


--------------------------------------------------------------------------------

كما عثرت تلك البصمة على كتابات أخرى وسمت ب Jamme 550، وب Jamme 552، و ب Jamme 555، و بJamme557 وردت فيها أسماء لم تذكر بعدها جملة "مكرب سبأ" على عادة الكتابات، غير إن ظاهر النص والألفاظ المستعملة فيه، مثل: "قين يدع ايل بين"، يدلان على إنها أسماء "مكربين" حكموا سبأ قبل عهد الملوك.
فقد دون في النصف الأول من النص Jamme550 أسماء المكربين: "يدع آل بين" "يدع ايل بين" و "يكرب ملك وتر" "يكربملك وتر"، و "يثع أمر بين". ودون في النصف الثاني من أسماء "يدع آل بين" "يدع ايل بين" و "يكرب ملك وتر" "يكر بمللك وتر"، و "يثع أمر بين"، و "كرب آل وتر" "كرب ايل وتر"،أي الأسماء المذكورة في النصف الأول نفسها، ما خلا اسم "كرب ايل وتر". فنحن في هذا النص بنصفيه أمام أربعة مكربين، كانوا من "مذمرم" أي من بني "مذمر".

(1/968)


--------------------------------------------------------------------------------

ومدون النص والامر بكتابته شخص اسمه "تبع كرب" "تبعكرب"، و كان كاهنا "رشو" للالهة "ذت غضرن" "ذات غضران"، أي كناية عن الشمس، كما كان بدرجه "قين"، أي موظف كبر مسؤول عن الأمور المالية للدولة أو للمعبد، كأن يتولى إدارة الأموال. وكان "قينا" لمعبد "سحر"، أي المتولي لأموره المالية والمشرف على ما يصل إلى المعبد من حقوق ومعاملات وعقود من تأجير الحبوس الموقوفة عليه، كما كأن قينا للمكربين المذكورين. و قد ذكر في نصه إنه أمر ببناء جزء من جدار معبد "المقه" من الحد الذي يحد أسفل الكتابة أي قاعدتها إلى أعلى المعبد، كما أمر ببناء كل الأبراج وما على السقف من أبنية و متعلقاتها، وذلك عن أولاده وأطفاله وأمواله وعن كل ما يقتنيه "هقنيهو" وعن كل تخيله "انخلهو" ب"اذنت" "ادنة" وب "كتم" و ب "ورق" و ب "ترد" و ب"وغمم" "وغم" و ب "عسمت" "عسمة" وب "برام" وب "سحم" وب "مطرن بيسرن"، أي بمنطقة "مطرن" التي في أرض "سرن" "يسران"، وهي تسقى الماء بواسطة قناطر تعبر فوقها المياه، و بمنطقة "ردمن" "ردمان" من أرض "يسرن" "يسران"، التي تروى بمياه السدود، وبأرض "مخضن" الواقعة ب "يهدل".

(1/969)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد قام بهذا العمل أيضا، لأن المقه أوحى في قلبه إنه سيهبه غلاما، ولأن "يكرب ملك وتر"، اختاره ليشرف على إدارة الأعمال المتعلقة بالحرب التي وقعت بين قتبان وسبأ وقبائلها، فقام بما عهد إليه، وذلك لمدة خمس سنين، وأدى ما كان عليه إن يؤديه على احسن وجه، ولأن الإله "المقه" حرس ووقى كل السبئيين وكل القبائل الأخرى التي اشتركت معهم وكل المشاة "ارجل" الذين ارسلوا على مدينة "تهرجب"، و لأن إلهه حفظه ومكنه من إدارة الأعمال التي عهد الملك إليه، فتولى آمر سبأ والقبائل التي كانت معها، ووجه الأمور احسن وجه ضد الأعمال العدوانية التي قام بها آهل "تهرجب" وغيرهم ضد سبأ، في خلال سنتين كاملتين، حتى وفقه الإله لعقد سلام "سلم" بين سبأ و قتبان، فأثابه "يثع أمر بين" على ما صنع.
ويظهر من هذا النص إن "تبع كرب" "تبعكرب"، الكاهن "رشو" و "القين" كان من كبار الملاكين في سبأ في أيامه، له أرضون وأملاك واسعة في أماكن متعددة من سبأ. وقد كانت تدر عيه أرباحا كبيرة وغلة وافرة، يضاف إلى ذلك ما كان يأتيه من غلات المعبد الذي يديره، والنذور التي تنذر للإله "سحر"، ثم الأرباح التي تأتيه من وظيفته في الدولة.
ويظهر إنه كتب نصه المذكور بعد اعتزاله الخدمة لتقدمه في السن، في أوائل أيام حكم "كرب ايل وتر". ولذلك تكون جميع الحوادث والأعمال التي أشار إليها قد وقعت في أيام حكم المذكورين إلى ابتداء حكم "كرب أيل وتر"، الذي ذكر من أجل ذلك في آخر أسماء هؤلاء الحكام وفي القسم الأخير من النص.
ويظهر من النص أيضا إن الأعمال الحربية التي قام بها "تبعكرب"، كانت في أواخر أيام ""كرب ملك"، وامتدت إلى أوائل أيام حكم "يثع أمر بين". أرسله الأول إلى الحرب، ومنحه الثاني شهادة إتمام تلك الحرب وانتهائها. فهذا النصر يبحث عن السنين الخمس التي شغلها "تبعكرب" بالأعمال الحربية.

(1/970)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما صاحب النص: Jamme 552، فهو "ابكرب" "أب كرب" "أبو كرب" وكان من كبار الموظفين من حملة درجة "كبر"، أي "كبير" إذ كان كبيرا على "كمدم بن عم كرب" "كمدم بن عمكرب"، وهم من "شوذم" "شوذ". وكان "قينا"، أي موظفا كبيرا عند "يدع ايل بين" وعند "سمه على ينف" "سمه على ين وف". وقد سجل نصه هذا عند بنائه "خخنهن" و "مذقنتن" قربة إلى الإله "المقه" ليبارك في أولاده و أطفاله وبيته "بيت يهر"، وفي كل ****ه ومقتنياته، وذلك في أيام المكربين المذكورين.
واما النص: Jamme 555، فصاحبه "ذمر كوب بن ابكرب" "ذمر كرب بن أبكرب"، وهو من "شوذيم"، أي "بني شوذب". وكان قينا ل "يثع امر" و ل "يكرب ملك" و ل "سمه على" و ل "يدع ايل" و "يكرب ملك". وقد دونه عند إتمامه بناء جدار معبد "المقه"، من حد الحافة الجنوبية لقاعدة حجر الكتابة إلى اعلى البناء، وذلك ليكون عمله قربة إلى الإله، ليبارك في أولاده و آسرته وذوي قرابته وفي أملاكه و****ه، وقد ذكر أسماء الأرضين التي كان يزرعها ويستغلها، وليبارك في بيته: "بيت يهر" وفي بيته الآخر المسمى "بيت حرر" بمدينة "جهرن" "جهران"، وفي أملاكه وبيوته الأخرى في أرض العشيرتين ": "مهأنف" و "يبران" "يبرن" كما دونه تعبيرا عن حمده و شكره له، لأنه من عليه فأعطاه كل ما أراد منه، ومن جملة ذلك تعيين قينا على "مأرب"، واشتراكه مع "سمه على ينف" "سمهعلى ينوف" في الحرب التي وقعت بينه وبين قتبان في أرض قتبان، فأعد ذلك الحرب العدد التي ينبغي لها.

(1/971)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد نعت "أبكرب بن نبطكرب" "ابكرب بن نبط كرب" وهو من "زلتن" "زلتان" نفسه ب "عبد" "يدع ايل بين" و "سمه على ينف" و "يثع أمر وتر"، و "يكرب ملك ذرح" و "سمه على ينف"، وذلك في النص: Jamme 557. وقد دونه عند قيامه ببعض أعال الترميم والبناء في معبد "المقه"، تقربا إلى رب المعبد "بعل أوام" الإله "المقه"، ولتكون شفيعة لديه، لكي يبارك فيه وفي ذريته وأملاكه. وقد اختتم النص بجملة ناقصة أصيب آخرها بتلف، ولم يبق منها إلا قوله: "وملك مأرب".
وللجملة الأخيرة من النص أهمية سنة كبيرة، لأنها تتحدث عن ملك كان على مأرب في ذلك الزمن، سقطت حروف اسمه، ولم يبق منه غير الحرف الأول.
ويتبين من النصوص الأربعة المذكورة إننا أمام عدد من حكام سبأ، لم تشر تلك النصوص إلى أزمنتهم ولا إلى صلاتهم بالحكام الآخرين، حتى نستطيع بذلك تعيين المواضع التي بحب إن يأخذوها في القوائم التي وضعها الباحثون لحكام سبأ. وقد رأى "جامه" استنادا إلى دراسته لهذه النصوص، وإلى معاينته لنوع الحجر ولأسلوب الكتابة، إن "يدع ايل بين" المذكور في النص: Jamme 552 هو أقدم من "يدع ايل بين" المذكور في النص Jamme 555، ولذلك دعاه ب "الأول"، ودعا "يدع أيل بين" المذكور في النص: Jamme 555 ب "الثاني" و "يدع ايل بين" المذكور في النص: Jamme 550 ب "يدع ايل" الثالث.
ومنح "جامه" "سمه على ينف" "سمعلى ينوف"، المذكور في النص: Jamme 552 لقب "الأول"، ليميزه عن سميه المذكور في النص Jamme 555، وقد لقبه ب "الثاني". كما منح "يثع أمر بين" المذكور في النص: Jamme 555، لقب الأول، ليميزه عن سميه المذكور في النص: Jamme 550 والذي أعطاه لقب "الثاني". وأما "يثع امر وتر" و "يكرب ملك ذرح"، المذكوران في النص: Jamme 552، فلم يمنحهما أي لقب كان لعدم وجود سمي لهما في النصوص الأخرى.

(1/972)


--------------------------------------------------------------------------------

وتفضل "جامه" على "يكرب ملك وتر"، المذكور في النص: Jamme 555 فمنحه لقب "الأول"، ليميزه عن سميه الذكور في النص: Jamme 550 الذي أعطاه لقب "الثاني". وقد وسم "جامه" "يثع أمر بين" المذكور في النص Jamme 555 ب "الأول"، فميزه بذلك عن سميه المذكور في النص: Jamme 550. وأما "كرب ايل وتر"، المذكور في آخر أسماء حكام النص: Jamme 550، فقد ظل بدون لقب، لعدم وجود سمي له.
مدن سبأ
كانت مدينة "صرواح"، هي عاصمة السبئيين في أيام المكربين ومقر المكرب وفيها باعتبارها العاصمة معبد "المقه" إله سبأ الخاص. أما "مأرب"، فلم تكن عاصمة في هذا العهد، بل كانت مدينة من مدن السبئيين، و "صرواح" في هذا اليوم موضع خرب يعرف به "خربة" و ب "صرواح الخريبة" على مسيرة يوم في الغرب من "مأرب"، و يقع ما بين صنعاء ومارب. وقد ذكر "الهمداني" مدينة "صرواح" في مواضع عدة من كتابه "الاكليل"، وأشار إلى "ملوك صرواح ومأرب". وذكر شعرا في "صرواح" للجاهليين ولجماعة من الإسلاميين، كما أشار إليها في كتابه "صفة جزيرة العرب".
وتحدث "نشوان بن سعيد الحميري" عنها، فقال: صرواح موضع باليمن قريب من مأرب فيه بناء عجيب من مآثر حمير، بناه عمرو ذو صرواح الملك بن الحارث بن مالك بن زيد بن سدد بن حمير الأصغر، وهو أحد الملوك المثامنة". وزعم إن "قس بن ساعدة الإيادي" ذكر "عمرو بن الحارث القيل ذو صرواح" في شعر له. وذكر غيره من علماء اليمن الإسلاميين هذه المدينة السبئية القديمة أيضا. وفي إشارتهم إليها ونحدثهم عنها، دلالة على أهمية تلك المدينة القديمة، وعلى تأثيرها في نفوس الناس تأثيرا لم يتمكن الزمان من محوه بالرغم من أفول نجمها قبل الإسلام بأمد.

(1/973)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر بعض أهل الأخبار إن "صرواح حصن باليمن أمر سلمان عليه السلام الجن فبنوه لبلقيس". وقولهم هذا هو بالطبع أسطورة من الأساطير المتأثرة بالإسرائيليات التي ترجع أصل أكثر المباني العادية في جزيرة العرب إلى سليمان وإلى جن سليمان.
وقد عثر في أنقاض هذه المدينة القديمة المهمة على كتابات سبئية بعضها من عهد المكربين. و من هذه النصوص ، النص المهم الذي تحدثت عنه المعروق بكتابة "صرواح"، و الموسوم عند العلماء ب Glaser 1000 A,B. و صاحبه الآمر يتدوينه هو المكرب الملك "كرب ايل وتر". و هو من أهم ما عثر عليه من نصوص هذا العهد. و قد دون فيه اخبار فتوحاته و انتصاراته و ما قام به من أعمال، كما دونته قبل قليل. و لأسماء المواضع و القابائل فيه أهمية كبيرة للمؤرخ و لا شك، إذ تعينه على أن يتعرف مواضع عديدة ترد في نصوص أخرى، و لم نكن نعرف عنها شيئا، كما اعانتنا في الرجوع بتأريخ بعض هذه الأسماء التي لا تزال معروفة إلى ما قبل الميلاد، إلى القرن الخامس قبل الميلاد، و ذلك إذا ذهبنا مذهب من يرجع عهد "كرب ايل وتر" إلى ذلك الزمن.
و في مقابل خربة معبد صراوح، خربة أخرى تقع على تل، هي بقايا برج المدينة الذي كان يدافع عنها. و هناك أطلال أخرى، يظهر انها من بقايا معابد تلك المدينة و قصورها.
و كان على المدينة "كبر" أي كبير، يدير شؤونها، و يصرف أمورها و أمور الارضين التابعة لها، و تحت يديه موظفون يصرفون الأمور نيابة عنه، و هو المسؤول أمام المكربين عن إدارة أمور المدينة و ما يتبعها من قرى و أرضين و قبائل.
و في "صراوح" كان معبد "المقه" إله سبأ، و من هذه المدينة انتشرت عبادته بانتشار السبئيين. و من معابد هذا الإله التي بنيت في هذه المدينة معبد "يفعن" "يفعان" الذي حظي بعناية المكربين.

(1/974)


--------------------------------------------------------------------------------

و قد زارها "نزيه مؤيد العظم", و ذكر أنها خربة في الوقت الحاضر، بنيت على أنقاضها قرية تتألف من عدد من البيوت، و تشاهد فيها بقايا القصور القديمة، و الأعمدة الحجرية المنقوشة بالمسند، و أشار إلى أن القسم الأعظم من المباني القديمة، مدفون تحت الأنقاض خلا أربعة قصور أو خمسة لا تزال ظاهرة على وجه الأرض، منها قصر يزعم الأهلون إنه كان لبلقيس، وكان به عرشها ولذلك يعرف عندهم بقصر بلقيس. كما زار خرائب "صرواح" أحمد فخري من المتحف المصري في القاهرة، وصور أنقاض معبد "المقه" وعددا من الكتابات التي ترجم بعضها الأستاذ "ركمنس" M. Ryckmans.
ولم تكن "مرب"، أي "مأرب" عاصمة سبأ في هذا الوقت، بل كانت مدينة من مدن سبأ الكبرى، ولعلها كانت العاصمة السياسية ومقر الطبقة المتنفذة في سبأ. أما "صرواح"، فكانت العاصمة الروحية، فيها معبد الإله الأكبر، وبها مقر الحكام الكهنة "المكربون". وقد وجه "المكربون" عنايتهم كما رأينا نحو مأرب، فاقاموا بها معبد "المقه" الكبير والقصور الضخمة وسكنوا في فترات، وأقاموا عندها سد مأرب الشهير، فكأنهم كانوا على علم بأن عاصمة سبأ، ستكون مأرب، لا مدينتهم صرواح. وقد يكون لمكان مأرب دخل في هذا التوجه.
قوائم بأسماء المكربين
اشتغل علماء العربية الجنوبية بترتيب في حكام سبأ المكربين بحسب التسلسل التأريخي أو وضعهم في جمهرات على أساس القدم، مراعين في ذلك دراسة نماذج الخطوط والكتابات التي وردت فيها أسماء المكربين، وآراء علماء الآثار في تقدير عمر ما يعثر عليه مما يعود إلى أيام أولئك المكربين، و دراسة تقديراتهم لعمر الطبقات التي يعثر على تلك الآثار فيها. ومن أوائل من عني بهذا الموضوع من أولئك العلماء "كلاسر"، العالم الرحالة الشهير الذي كان له فضل نشر الدراسات العربية الجنوبية والعالم "فرتس هومل"، و "رودوكناكس"، و "فلبي"، وغير هم.
قائمة "هومل"

(1/975)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد رتب "هومل" "مكربي" سبأ على هذا النحو: 1 - سمه على، ولم يقف على نعته في الكتابات، واليه تعود الكتابة الموسومة ب Glaser 1147.
2 - يدع آل ذرح "يدع ايل ذرح"، و إلى عهده تعود الكتابات: Arn.9, Glaser 901,1147,484, Halevy 50 3- يثع امر وتر "برخ أمر وتر" وإلى أيامه ترجع الكتابات: Halevy 626,627 4 - يدع آل بين "يدع ايل بين"، وإلى عهده يرجع النص: Halevy 280.
5 -يثع أمر، ولم يذكر نعته، وقد ورد اسمه في النصوص الموسومة ب: Halevy 352,672, Arn. 29..
6 - كرب ايل بين "كرب آل بين".
7 - سمه على ينف "سمهعلى ينوف" "سمه على ينوف".
ويكون هؤلاء على رأيه جمهرة مستقلة، هي الجمهرة الأولى لمكربي سبأ. وتتكون الجمهرة الثانية على رأيه من المكربين: 1 - ذمر عد.
2 - سمه على ينف "سمه على ينف"، "سمهعلى ينوف"، و هو باني سد "رحب"، "رحاب"، وإلى أيامه تعود الكتابات: Glaser 413,414, Halevy 673, Arn.14.
3 - يثع امر بين "يثع أمر بين"، وهو باني سد "حببض"، "الحبابض" وموسع سد "رحب" "رحاب"، والمنتصر على "معن" معين والى عهده تعود الكتابات: Glaser 523, 525, Halevy 678, Arn. 12,13, Glaser 418,419 .
4 - ذمر على، لعله ابن يثع أمر بين.
5 - كرب آل وتر "كرب ايل وتر"، صاحب نص صرواح.
وقد عثر في بعض الكتابات على صورة النعامة محفورة مع كتابة ورد فيها اسم الإله "المقه"، كما عثر على كتابات ذكر فيها اسم هذا الإله وحفرت فيها صورة "نسر". وقد ذهب بعض الباحثين إلى احتمال كون هذه الصور هي رمز إلى الإله المقه.
قائمة "رودوكناكس"

(1/976)


--------------------------------------------------------------------------------

ناقش "رودوكناكس" القوائم الني وضعها "كلاسر" و "وهومل" و "هارتمن"، وحاول وضع جمهرات جديدة مبنية على أساس الرابطة الدموية والتسلسل التأريخي، وما ورد في الكتابات من أسماء، فذكر في كتابه: "نصوص قتبانية في غلات الأرض" Katabanische Texte Zur Bodenwiristchaft هذه الجمهرات: جمهرة ذكرت أسماؤها في الكتابة: Glaser 1693، وتتألف من: 1 - يدع آل بين ""دع ايل بين".
2 -سمه على ينف "سمه على ينوف".
3 - يثع مر وتر "يثع أمر وتر".
وجمهرة أخرى وردت أسماؤها في الكتابة Glaser 926 و تتكون من: 1 - يثع أمر.
2- يدع آل "يدع ايل".
3-سمه على.
وتكون لمجموعة رمز إليها ب A.
وذكر مجوعة ثالثة تتألف من: 1- يدع آل "يدع ايل".
2- يثع امر "يثع أمر".
3- يدع اب "يدع أب".
وجمهرة رابعة تتكون من: ا- كرب آل "كرب ايل".
2- يدع اب "يدع أب".
3- اخ كرب "أخ كرب".
وقارن بين "هومل" و "هارتمن"، فذكر الجمهرتين.
1- يدع آل "يدع ايل"0 1- يدع أب "ي لى ع أب".
2- يثع امر "يثع أمر" 2- اخ كرب "أخ كرب".
3- كرب آل "كرب اي ل".
وجمهرة: 1- "يدع آل ""يدع ايل".
2- يثع امر "يثع أمر.
3- كرب آل "كرب ايل".
وهي جمهرة B.
ولخص "رودوكناكس" هذه الجمهرات في جمهرات ثلاث هي:جمهرة A وجمهرة B وجمهرة C.
جمهرة "A" Glaser 926 وتتألف من ? ا- يثع امر "يثع أمر".
2- يدع آل ""يدع ايل".
3- سمه على.
جمهر ة "B" Glaser 1752, 1761 Halevy 626، وتتكون من: ا- يدع آل "يدع ايل"، 2- يثع امر "يثع أمر".
3- كرب آل "كرب ايل".
4- سمه على.
جمهرة "C" Glaser 1693 وقوامها: 1- يدع آل بين "يدع ايل بين".
2-سمه على ينف "سمه على ينوف".
3- يثع امر وثر "يثع أمر وتر".
وفي مناقشه للمجموعات الثلاث المتقدمة عاد فذكر الجمهرات التالية: جمهرة "1": سمه على.

(1/977)


--------------------------------------------------------------------------------

يدع آل ذرح "يدع ايل ذرح"،CIH 366, FR 9, Halevy 50 يثع امر وتر ""يثع أمر وتر"، 626 Halevy CIH 490, "يدع آل بين" "يدع ايل بين"، Halevy 45 جمهرة "2".
يثع امر "يثع أمر" لم يرد نعته ".
كرب آل بين "كرب ايل بين" 352, 672 Halevy سمه على ينف "سمه على ينوف" Halevy 45 وذكر الجمهرة التالية في آخر مناقشته لقوائم أسماء المكربين، وتتألف من: يثع امر بين "يثع أمر بين" Gkaser 926 يدع آ ل بين "يدع ايل بين" فاتح مدينة "نشق" Halevy 630, Glaser 926, 1752.
يثع امر "يثع أمر" Halevy 630, Gkaser 1752 كرب آ ل "كرب ايل" Halevy 633, Gaser 1762 .
سمه على Gaser 926, 1762 وليس في تعداد هذه الجمهرات هنا علاقة بعدد المكربين أو بتسلسلهم التأريخي وإنما هي جمهرات وأسماء متكررة، ذكرها "رودوكناكس" للمناقشة ليس غير، وقد أحببت تدوينها هنا ليطلع عليها من يريد التعمق في هذا الموضوع.
قائمة "فلبي"
وقفت على قائمتين صنعها "فلبي" لمكربي سبأ، نشر القائمة الأولى في كتابه: "سناد الإسلام" ونشر القائمة الثانية في مجلة Le Museon. وقد قدر "فلبي" تاريخا لكل مكرب حكم فيه على رأيه شعب "سبأ". فقدر في قائمته التي نشرها في كتابه المذكور لكل ملك مدة عشرين سنة، وجعل مبدأ تأريخ كحم أول مكرب حوالي سنة "800" قبل الميلاد. وسار على هذا الأساس بإضافة مدة عشرين عاما لكل ملك، فتألفت قائمته على هذا النحو: ا- سمه على، أول المكربين، حكم حوالي سنة "800" قبل الميلاد.
2- يدع آل ذرح "يدع ايل ذرح"، وهو ابن "سمهعلى"، حكم حوالي سنة "780" قبل الميلاد.
3- يثع امر وتر بن يدع آل ذرح، حكم حوالي سنة "760" قبل الميلاد.
4- يدع آل بين بن يثع امر وتر، حكم حوالي سنة "740" قبل الميلاد.
5- يدع امر وتر بن سمه على ينف، وهو معاصر الملك الآشوري سرجون، وقد حكم حوالي سنة "720" قيل الميلاد.
6- كرب آل بين بن يثع امر، حكم حوالي سنة "700" قبل الميلاد.

(1/978)


--------------------------------------------------------------------------------

7- ذمر على وتر ولا يعرف اسم والده على وجه التأكيد، وربما كان والده "كرب آل وتر"، أو "سمه على ينف" وربما كان شقيقا ل "كرب آل بين"، وقد حكم في حوالي سنة "680" قبل الميلاد.
8- سمه على ي نف بن ذمر على، وهو باني سد "رحب" "رحاب" وقد حكم حوالي سنة "660" قبل الميلاد.
9- يثع امر بين بن سمه على ينف، وهو باني سد "حببضن" احبابض، وقد حكم حوالي سنة "640" قبل الميلاد.
10- كرب آل وتر بن ذمر على وتر، آخر المكربين وأول ملوك سبأ، وقد حكم على رأيه من سنة "620" حتى سنة "610" قبل الميلاد.
أما قائمته التي نشرها في مجلة Le Museon. ، فهي على النحو الآتي: 1- سمه على، وهو أقدم مكرب عرفناه. بدأ حكمه حوالي سنة "820" قبل الميلاد. وقد وضع "فلبي" الكتاإت: CIH 367, 418,488,955 إلى جانب اسم هذا المكرب دلالة على أن اسمه ذكر في فيها، غير أني لم أجد لهذا المكرب أية علاقة.الكتابات: CIH 418, 488, 955، فالكتابة CIH 418 أي Glaser 926 لا تعود إلى هذا المكرب، وإنما تعود إلى مكرب آخر زمانه متأخر عنه. وقد وجدت خطأ مشابها في مواضع أخرى من هذه المواضع التي أشار فيها إلى الكتابات التي تخص كل مكرب من المكربين.
2- يدع آل ذرح "يدع ايل ذرح"، حكم حوالي سنة "800" قبل الميلاد. أما الكتابات التي ورد فيهما اسمه، فهي: CIH 366, 418, 488, 490, 636, 906, 955, 975, REP. EPIG. 3386, 3623, 3949, 3950, AF 17, 23, 24, 38.

(1/979)

admin
12-26-2010, 01:57 PM
3- سمه على ينف، وقد حكم حوالي سنة "780" قبل الميلاد. أما الكتابات التي تعود إلى أيامه فهي: CIH 368, 371, REP. EPIG. 3623, AF 86, 91, 92 4- يثع امر وتر، لم يذكر المدة التي حكم فيها، وإنما جعل مدة حكمه مع مدة حكم سلفه ثلاثين عاما، تنتهي بسنة "750" قبل الميلاد. أما الكتابات التي ورد اسمه فيها، فهي: CIH 138, 368, 371, 418, 490, 492, 493, 495, 634, 955, REP. EPI. 3623, 4405 وذكر "فلبي" بعد اسم "سمه على ينف" اسم ابنه "يدع آل وتر"، ولكنه لم يشر إلى أنه كان مكربا. وقد أشار إلى ورود اسمه في الكتابات:AF 86, 91, 92.
5- يدع آل بين، وهو ابن يثع أمر وتر. وقد حكم في حوالي سنة "750" قبل الميلاد. وورد اسمه في الكتابات: CIH 138, 414, 492, 493, 495, 634, 961, 967, 979, REP, EPIG. 3387, 3389, 4405, AF 34, 89.
وذكر "فلبي" اسم "سمه على ينف" مع اسم شقيقه "يدع آل بين"، ولم يكن هذا مكربا، وقد ذكر في الكتابات CIH 563, 631.
6- ذمر على ذرح وهو ابن "يدع آل بن"، وقد حكم حوالي سبة "730" قبل الميلاد. جاء اسمه في الكتابات: CIH 633, 979, REP. EPIG. 3387, 3389, AF. 29 وكان له ولد اسمه "يدع آل" "يدع ايل" لا نعرف نعته، ولم يكن مكربا، وقد ورد اسمه في الكتابات: CIH 633, AF,29.
7- يثع امر وتر. ووالده هو "سمه على ينف" شقيق "يدع آل بين"، وقد ذكرت انه لم يكن مكربا. لم يذكر "فلبي" مدة حكمه، وإنما جعل مدة حكمه مع مدة حكم سلفه "ذمر على ذرح" ثلاثين عاما، انتهت حوالي سنه "700" قبل الميلاد.
8- كرب آل بين، وهو ابن يثع امر وتر، حكم حوالي سنة "700" قبل الميلاد، وورد اسمه في الكتابات: CIH 610, 627, 732, 627, 691, REP. EPIG. 3388, 4125, 4401, AF. 43,86.
9- ذمر على وتر بن كرب آل بين، حكم حوالي سنة "680" قبل الميلاد، وورد اسمه في الكتابات: CIH 610, 623, REP, EPIG. 3388, 4401.

(1/980)


--------------------------------------------------------------------------------

10- سمه على ينف، وهو ابن ذمر على وتر. حكم حوالي سنة "660" قبل الميلاد، وذكر اسمه في الكتابات: CIH 622, 623, 629, 733, 774, Philby 77, REP. PEIG. 3650, 4177, 4370.
11- يدع امر بين، وهو ابن سمه على ينف، حكم حوالي سنة "640" قبل الميلاد، وذكر اسمه في الكتابات:CIH 622, 629, 732, 864, Philby 77, AF 62, III, REP. EPIG. 3653, 4177.
وذكر "فلبي" مع اسم "يثع امر.بين" اسم "يكرب ملك وتر" وقد ورد اسمه في الكتابة: AF 70، ولم يكن مكربا.
2 ا- ذمر على ينف، وقد حكم حوالي سنة "620" قبل الميلاد، وجاء اسمه في الكتابات: AF 70 ,CIH 491 REP. EPIG. 3498, 3636, 3045, 3946.
3 ا- كرب آل وتر، وهو آخر المكربين، وقد حكم حوالي سنة "615" قبل الميلاد، وورد اسممه في الكتابات: CIH 126, 363, 491, 562, 582, 601, 881, 965, REP. EPIG. 3234, 34498, 3636, 3916, 3945, 3946, Philpy 16, 24, 25, 70? 101, 133?
قائمة "ريكمنس" J. Ryckmans
وقد دون "ريكمنس" أسماء المكربين على هذا النحو: ا- سمه على.
2- ي دع آل ذرح ""دع ايل ذرح" وهو ابن "سمه على".
3- سمه على ينف، وهو ابن "يدع ايل ذرح".
4- يثع أمر وتر، وهو ابن "يدع ايل فرح" كذلك.
5- يدع آل بين "دع ايل بين"، وهو ابن "يثع أمر وتر".
6- ذمر عد فرح، وهو ابن ""يدع ايل بين".
7- "يثع أمر وتر، وهو ابن "سمه على ينف"، ابن "يثع أمر وتر" وهو شقيق "يدع ايل بين".
8- كرب ايل بين.
الفصل الرابع والعشرون
ملوك سبأ
وبتلقب "كرب ايل وتر" بلقب ملك، وباستمرار ما جاء بعده من الحكام على التلقب به، ندخل في عهد جديد من الحكم في سبا، سماه علماء العربيات الجنوبية عهد "ملوك سبأ" تمييزا له عن العقد السابق الذي هو في نظرهم العهد الأول من عهود الحكم في سبأ، وهو عهد المكربين، وتمييزا له عن العهد التالي له الذي سمي عهد "ملوك سبأ وذي ريدان".

(1/981)


--------------------------------------------------------------------------------

ويبدأ عهد "ملوك سبا" بسنة "650 ق. م." على تقدير "هومل" ومن شايعه عليه من الباحثين في العربيات الجنوبية. ويمتد إلى سنة "115 ق. م." على رأي غالبية علماء العربيات الجنوبية، أو سنة "109 ق. م." على رأي "ركمنس" الذي توصل إليه من عهد غير بعيد. وعندئذ يبدأ عهد جديد في تأريخ سبأ، هو عهد "ملوك سبا وذي ريدان".
أما "البرايت"، فيرى أن حكم هذا المكرب الملك في حوالي السنة "450 ق. م."، أي بعد قرنين من تقدير "هومل"3، وبناء على ذلك يكون عهد الملوك- على رأيه- قد بدأ منذ هذا العهد.
وقد قدر بعض الباحثين زمان كحم المكرب والملك "كرب ايل وتر" في القرن الخامس قبل الميلاد. وقد كان يعاصره في رأي "البرايت" "وروايل" ملك أو مكرب قتبان، الذي حكم بحسب رأيه أيضا في حوالي سنة "450 ق. م."، وكان خاضعا ل "كرب ايل وتر"، و "يدع ايل" ملك حضرموت.
ويمتاز هذا العهد عن العهد السابق له، وأعني به عهد حكومة المكربين، بانتقال الحكومة فيه من "صرواح" العاصمة الأولى القديمة، إلى "مأرب" العاصمة الجديدة، حيث استقر الملوك فيها متخذين القصر الشهير الذي صار رمز "سبأ"، وهو قصر "سلحن" "سلحين"، مقاما ومستقرا لهم، منه تصدر أوامرهم إلى أجزاء المملكة في إدارة الأمور.
و "كرب آل وتر" "كرب ايل وتر"، هو أول ملك من ملوك سبأ افتتح هذا العهد. لقد تحدثت عنه في الفصل السابق، حديثا أعتقد انه واف، ولم يبق لدي شيء جديد أقول عنه. وليس لي هنا الا أن أنتقل إلى الحديث عن الملك الثاني الذي حكم بعده، ثم عن بقية من جاء بعده من ملوك.
أما الملك الثاني الذي وضعه علماء العربيات على رأس قائمة "ملوك سبأ" بعد "كرب ايل وتر"، فهو الملك "سمه على ذرح". وقد ذهب "فلبي" إلى احتمال أن يكون ابن الملك "كرب ايل وتر". وقد كان حكمه على حسب تقديره في حوالي السنة "600 ق. م."5.

(1/982)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد وقفنا من النص الموسوم ب CIH 374 على اسمي ولدين من أولاد "سمه على ذرح"، ما "الشرح" "اليشرح"، و "كرب ايل". وقد ورد فيه: أن "الشرح" أقام جدار معبد "المقه" من موضع الكتابة إلى أعلاها، ورمم أبراج هذا المعبد، وحفر الخنادق، ووف بجميع نذره الذي نذره لإلهه" "المقه" على الوفاء به إن أجاب دعاءه، وقد استجاب إلهه لسؤاله، فيسر أمره واعطاه كل ما اراد، فشكرا له على آلائه ونعمائه، وشكرا لبقية آلهة سبأ، وهي: "عثتر" ، و "هبس" "هوبس"، و "ذات حمم" "ذات حميم"، و "ذت بعدن" "ذات بعدان"، وتمجيدا لاسم والده "سمه على ذرح" أن أمر بتدوين هذه الكتابة ليطلع عليها الناس. وقد سجل فيها مع اسم شقيقه "كرب آل" "كرب ايل".
أما "كرب ىل" "كرب ايل" أحد أولاد "سمه على ذرح" فلا نعرف شيئا من أمره. وشد صيره "هومل" خليفة والده، وجاراه "فلبي" في ذلك، وقدر زمان حكمه بحوالي السنة "580ق. م."2.
ووضع "هومل" اسم "الشرح" "اليشرح"، وهو ولد من أولاد "سمه على ذرح" بعد اسم شقيقه "كرب ايل وتر"، وجاراه "فلبي" في هذا الترتيب، ولا نعلم شيا عنه يستحق الذكر.
وانتقل عرش سبا إلى ملك آخر، هو "يدع آل بين" "يدع ايل بين" وهو ابن "كرب آل وتر" "كرب ايل وتر". وقد ورد اسمه في النص الموسوم ب Glaser 105، ودونه رجل اسمه "تيم". وقد حمد فيه الإله "المقه" بعل "أوم" "أوام"، لأنه ساعده وأجاب طلبه، وتيمن بهذه المناسبة بتدوين اسم الملك، كما ذكر فيه اسم "فيشن" أي "فيشان"، وهي الأسرة السبئية الحاكمة التي منها المكربون وهؤلاء الملوك، كما ذكر اسم "بكيل شبام".
وقد ورد في الكتابة المذكورة اسم حصن "الو". وهو حصن ذكر في كتابات أخرى. ويرى بعض الباحثين أن هذه الكتابات هي من ابتداء القرن الرابع قبل الميلاد، أي أن حكم "يدع آل بين"، كان في هذا العهد.

(1/983)


--------------------------------------------------------------------------------

والنص Glaser 529 من النصوص التي تعود إلى أيام "يدع آل بين" "يدع ايل بين" كذلك " وقد ورد فيه اسم عشيرته: "فيشن" "فيشان". وانتقل عرش سبأ إلى "يكرب ملك وتر" من بعد "يدع آل بين" على رأي "هومل"،وهو ابنه. وقد ذكر اسمه في الكتابة الموسومة ب Halevy 51، وهي عبارة عن تأييد هذا الملك لقانون كان قد صدر في أيام حكم أبية لشعب سبأ ولقبيلة "يهبلح" في كيفية استغلال الأرض واستثمارها في مقابل ضرائب معينة تدفع إلى الدولة، وفي الواجبات المترتبة على سبأ وعلى "يهبلح" في موضوع الخدمات العسكرية، وتقديم الجنود لخدمة الدولة في السلم وفي الحرب. وقد وردت في هذا انص أسماء قبائل أخرى لها علاقة بالقانون، منها قببلة "أربعن" "أربعان"، وكانت تتمنع باستقلالها، يحكمها رؤساء منها، يلقب الواحد منهم بلقب "ملك".
وقد شهد على صحة هذا القانون، وأيد صدق صدوره من الملك، ووافق عليه جماعة من الأشراف وسادات القبائل، قبائل سبا وغيرها، ذكرت أسماؤهم في النص بعد جماعة: "سمعم ذت علم"، أي "سمع هذا الإعلام" أي شهد على صحة هذا البيان، وأيده، ووافق على ما جاء فيه، وهم: "يكرب ملك" و "عم أمر" ابنا "بهلم"، و "سمه كرب بن كريم" "سمه كرب بن كرب"، و "هلك أمر بن حزفرم"، و "عم أمر بن حزفرم"، و "أب كرب بن مقرم"، و "سمه أمر بن هلكم"، و "معد كرب ذ خلفن" "معد كرب ذ خلفن"، و "سمه كرب ذ ثورنهن"، و "نبط آل" ملك قبيلة "أربعن" .

(1/984)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد أعلن هذا القانون وأثبت "مثبتم" في السنة الثامنة "ثمنيم" من سني "ذنيلم" "ذي نيل" من سني تقويم "نشاكرب بن كبر خلل"، وهو من بحفر خنادق وإنشاء بروج تعبيرا عن شكرهم لآلهة سبأ "المقه" و "عثر" و "هوبس" و "ذات حميم"، و "ذات بعدان" و "ذات غضران"، لأنها أنعمت عليه اذ كان قائدا عسكريا بالتوفيق في عقد صلح بين حكومة سبأ وحكومة قتبان، وقد وضع شروطا للصلح بين الطرفين على الملك "يثع أمر بين" في مدينة "مأرب"، فوافق عليها، وذلك بعد حرب ضارية استمرت خمس سنوات، كانت قتبان هي التي أشعلت نارها بهجومها على ارض سبا وتعرضها لمدن سبأ بالشر. وقد عهد إلى هذا الكاهن و "القين" والقائد أمر محاربة القتبانيين والدفاع عن المملكة، فاستطاع على ما يتبين من النصر وقف هجوم القتبانيين وصده، وإجلاء القتبانيين عن الأرضين التي استولوا عليها إلى مدينة "تهرجب" "تهركب".
والكتابة المذكورة، هي من جملة الكتابات التي عثر عليها في معبد المقه المعروف عند السبئيين ب "معبد أوام بيت المقه"، في مدينة مأرب. ويظهر من ذكرها أسماء الملوك الثلاثة أن "تيع كرب" "تبعكرب" الكاهن "رشو" والقائد، كان قد خدم هؤلاء الملوك، وكان من المقربين إليهم. وقد نجح في مهمته في عهد الملك "يثع أمر بين" في عقد الصلح بين سبأ وقتبان، وقدم شكره وحمده إلى الإله "المقه" إله سبأ الكبير، ببناء ذلك الجزء من جدار المجد الذي نصبت الكتابة عليه. وقد ساعده في ذلك أهله وعشرته، وذكر أسماء الملوك الثلاثة على الطريقة المتبعة في التمين بذكر أسماء الآلهة وأسماء الحكام الذين في عهدهم تم العمل، وربما على سبيل توريخ الحادث أيضا. ولما كان "تبعكرب" "تيع كرب" كاهنا "رشو"، فلا استبعد احتمال كونه كاهن معبد "اوام"، لأن كاهنا عاديا لا يمكن أن يقوم بمثل هذا العمل، وأن يتولى قيادة الجيش وإجراء المفاوضات.

(1/985)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي هذا النصر إشارة إلى حرب وقعت بين القتبانيين والسبئيين، ظلت مستمرة خمس سنين، وهي حرب من جملة حروب نشبت قبل هذه الحرب ونشبت بعدها بين السبئيين والقتبانيين. وقد انتهت هذه الحرب المتقدمة بتمكن السبئيين من استعادة ما خسروه وبطرد القتبانيين من الأرضين التي استولوا عليها. وفي في النص الموسوم ب Glaser 1693 خبر حرب وقعت أيضا بين قتبان وسبأ في أيام الملك "يدع أب يجل بن ذمر على" ملك قتبان. وقد دو هذا النص "يذمر ملك" سيد قبيلة "ذرن" "ذران" "ذرأن". وقد قص فيه أعماله وغزواته وحروبه، فذكر أنه تغلب على قبيلة "ذبحن" "ذبحان" صاحبة أرض "حمرر". وعلى قبائل وعشائر أخرى، منها: "ناس" "ناس"، و "ذودن" "ذودان"، و "صبرم" "صبر"، و "سلمن" "سلمان"، وعلى مدنها ومزارعها وأملاكها. وقد وهبها وحبسها على الإله "عم" إله قتبان الرئيس و "اني".
وقد أشار "يذمر ملك" في نصه إلى حرب وقعت بين إن وسبأ، واستمرت في أيام "ملوك سبا": "يدع ايل بين" و"سمه على ينف" و "يثع أمر وتر". وحرب تجري في عهد ثلاثة ملوك لا بد أن تكون حربا طويلة الأجل استمرت سنين، وكان فيها لصاحب النصر شأن خطير فيها، فانتصر على قبائل سبئية عديدة، وانتزع منها أملاكها وسجلها باسم حكومة قتبان.
وحارب مع السبئيين "شعب رعنن"، أي قبيلة "رعن" "رعين". وكان حكامها يلقبون أنفسهم في هذا العهد بلقب "ملك"، كما جاء في نص "يذمر ملك".

(1/986)

admin
12-26-2010, 01:58 PM
وحكم بعد "يثع أمر بين" ابنه "كرب ايل وتر" "كرب آل وتر" واليه تعود الكتابة الموسومة ب Glaser 1571، وهي أمر ملكي أصدره هذا الملك إلى كبار الموظفين وسادات القبائل ومن كان قد خول حق جمع الضرائب، مثل رؤساء "نزحت" و "فيشان" و "أربعن" و "كبر" كبير "صرواح" "يثع كرب بن ذرح على" وأعيان صرواح. وقد صدر هذا الأمر الملكي في شهر "فرع ذنيلم" "فرع ذي نيل" من سنة "هلك أمر". وقد وقع عليه وشهد بصحته: "كرب ايل يهصدق" من قبيلة "ذي يفعان" و "أب أمر بن حزفرم" و "أب كرب" من قبيلة "نزحتن" و "عم يثع بن مونيان" و "لحى عث بن ملحان" من قبيلة "أربعنهان"، و "أسد ذخر بن قلزان" و "نشأكرب بن نزخنان".
وقد حكم الملك "سمه على ينف" "سمه على ينوف" بعد "كرب ايل وتر" على رأي "هومل" و "فلبي". وقد جعل "فلبى" "كرب ايل" أبا له، غير أنه وضع أمام الاسم "كرب ايل" علامة استفهام دلالة على أنه غير متأكد من دعواه هذه كل التأكد 2.
وقد ورد اسم "كرب ايل وتر" في الكتابة الموسومة ب Berlin VA 5324 وصاحبها "بعثتر ذو وضأم"، وكان كبيرا على كل قبيلة "أريم" "أريام"، وقد سجلها لقيامه بأعمال زراعية، وبأمور تتعلق بالتروية، مثل حفر أنهار وأغيلة "غيلان" "غيلن"، وبناء سدود لها بحجارة "البلق". وقد ورد فيها أسماء الأماكن التي أجريت فيها هذه الأعمال، وهي: "أثبن" "أثأبن" "أثأبان"، و "مطرن" "مطران"، و "مأتمم"، و "ذفنوتم" "ذوفنوتم" و "سمطانهان"، وهي من مزارع الملك. وغوطة "ذو ضأم" في "سرر أمان". وذكر في آخر النص اسم "ذمر على" وقد سقط لقبه فيه.
وقد ورد اسم "كرب ايل" و "سمه على" في النص المعروف ب REP. EPIG. 4226، وصاحبة رجل اسمه "عم أمر بن معد يكرب". وقد تيمن في نصه بذكر الآلهة. "المقه" و "عثتر"، و "ذات حميم"، و "ذات بعدان"، و "ود". وذكر بعد أسماء هذه الآلهة: "كرب ايل" و "سمه على"، و "عم ريام" "عم ريمم"، و ""يذرح ملك".

(1/987)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان "فالبي" وضع اسم "الشرح" "اليشرح" في كتابه "سناد الإسلام" بعد اسم أبيه "سمه على ينف"، وذكر انه اصبح ملكا بعده، وذلك على تقديره حوالي سنة "460 ق. م.". ثم ذكت ة هده اسم "ذمر على بين" شقيق "الشرح" الذي حكم على رأي "فلبي" أيضا حوالي سنة "445 ق. م." ووضع بعده "يدع ايل وتر"، وهو ابن "ذمر على بين"، وقد تولى العرش على تقديره أيضا حوالي عام "430 ق. م.". ثم وضع بعده "ذمر على بين" وهو- على رأيه- ابن "يدع ايل وتر"، وجعل حكمه في سنة "410" قبل الميلاد، ووضع بعده "كرب ايل وتر"، وكان حكمه في سنة "390" قيل الميلاد.
أما قائمته التي نشرها في مجلة: Le Museon فقد وضع فيها بعد "سمه على ينف" اسم "يدع إيل بين"، وجعله ابن "سمه على"، وجعل حكمه حوالي عام "470 ق. م."، ثم وضع بعده اسم شقيقه "ذمر على"، ولم يجعل "الشرح" ملكا في هذه القائمة.
وقد ورد في الكتابة الموسومة ب REP. EPIG. 4198 اسم الملك "ذمر على" ملك سبا "ابن ي دع ايل وتر". واسم ابن له بعده، غير أنه أصابه تلف مما أثره. وقد ذكرت فيها أسماء آلهة سبأ، كما ذكر اسم الإله "ود ذو ميفعان" و "دم ذ ميفعن"، وهو إله معيني، كما ورد اسم إلهة معينية، هي "هرن" "هران". وفي ذكر الآلهة السبئية والآلهة المعينية في هذه الكتابة دلالة على اختلاط صاحبها بالمعينيين.
وصاحب الكتابة رجل من "ريمان"، وكان له بيت اسمه "نمرن" نمران و "ريمان" عشيرة من سبا، ويظهر أن جماعة منها نزحت إلى أرض معين، فسكنت بالقرب من "نشق" في مدينة "نمران" التي تعرف اليوم ب "بيت نمران"، ولذلك ذكر آلهة معين مع آلهة سبأ، لاختلاطه بالمعينين. ويرى يعض الباحثين أن ملك سبأ كان قد أسكن هذه الجماعة من الريمانيين عند "نشق" لحماية معين وللدفاع عنها بعد أن خضت لحكم السبئيين.

(1/988)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا يستبعد "فون وزمن"، كون الابن الذي عفى أثر اسمه من الكتابة المرقمة ب ERP. EPIG. 4198 هو "سمه على ينف" "سمعهلى ينوف"، المقصود في الكتابة: ERP. EPIG. 4085. وهي كتابة يرى "فون وزمن" إنها تعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، وإلى الأيام التي قام بهد "أوليوس غالوس" بحملته على اليمن.
ولدينا جمهرة أخرى جديدة من ملوك سبأ، تتألف من ملكين، هما: "الكرب يهنعم"، و "كرب ايل وتر". وقد عدها "فلبي" السلالة الثالثة من سلالات الملوك. أما "الكرب يهنعم" فقد ورد اسمه في الكتابة Glaser 291، وقد ذكر أنه كان ملكا على سبأ، وان اسم أبيه "هم تسع". وأما "كرب وتر"، فقد ورد اسمه في الكتابة المعروفة ب Glaser 302 وهي من "حدقان" شمال "صنعاء". ويكون هذ الملك مع الملك "الكرب"- على رأي "هومل"- جمهرة قائمة بذاتها من جمهرات الملوك.
ووضع "فلي" بعد "كرب ايل وتر" ملكا اسمه "وهب ايل"، ولم يتأكد من اسم أبيه فوضعه بين قوسين، ووضع أمام اسم الأب علامة الاستفهام دلالة على عدم تأكده، ووضع بعد علامة الاستفهام "ابن سرو"، تعبيرا عن عدم تأكده من صحة اسم هذا الأب، وجعل حكم هذا الملك في حوالي السنة "310 ق. م." ولم يعرف "فلبي" لقب "وهاب ايل".

(1/989)


--------------------------------------------------------------------------------

وتولى الحكم بعد "وهب ايل" ملك اسمه "انمر يهامن" "أنمار يهأمن" "انمر يهنعم" "أنمار يهنعم". أما أبوه، فهو "وهب آل" "وهب ايل" ولا نعرف لقبه الذي عرف به. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن أباه هو الملك المتقدم، ولذلك وضعوه بعده. وقد اختلف الباحثون في كمفية كتابة لقب "أنمار"، فكتبه بعضهم "يهأمن" وكتبه بعض آخر "يهنعم"، ودونه بعض آخر على الشكل الأول في موضع، وعلى الشكل الثاني في موضع آخر. ولعدم وجود صور أصول الكتابات ب "الفوتوغراف" في المطبوعات التي نشرت الكتابات التي تعود إلى أيامه، ولأنها أخذتها من استنساخ العلماء لها، أتوقف عن البت في تثبيت لقبه في هذا المكان حتى يتهيأ لي الظفر بصور "فوتوغرافية" لأصول تلك الكتابات، ولهذا السبب كتبت اللقب بالشكلين المذكورين.
وقد نبه مؤلفا كتاب "Sab. Inschr"على ظفرهما بنعت والد "أنمار" من الكتابات: " CIH I.وCIH 517 و CIH642، فجعلاه "يحز". وقد راجعت النص CIH I، فلم أجد علافة بين الملكين، فالملك في هذا النص هو الملك "كرب ايل وتر يهنعم" مللك سبأ، وأبوه هو "وهبا ايل يحز". وأما الملك الذي نتحدث عنه ونقصده هنا، فانه "انمار يهنعم"، ووالده "وهب ايل". وراجعت النص: CIH 517، فوجدته كالنص السابق لا علاقة له بالملك "أنمار" ولا بأبيه، اذ كتب في زمان "كرب ايل وتر يهنعم بن وهب ايل يحز" أيضا، ولا علافة له مثل شقيقه بالملك "انمار".

(1/990)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ورد اسم الملك "انمار يهأمن" "يهنعم" في الكتابة الموسومة بCIH 244، وقد سقط منها اسم صاحبها الذي تضرع إلى الآلهة بأن تمن عليه بالصحة، وأن تبارك له في نفسه وفي أمواله، وأن ترفع من منزلته ومقامه ومقام ملكه في أيام الملك أنمار يهأمن "يهنعم" ملك سبا. وقد وردت في آخر النص الحروف "ب ت ب"، وأكملها ناشره بإضافة حرف "اللام" إلى الحروف المكسورة، فصارت "ب ت ل ب"، أي "بتالب" ومعناها "بالإله تالب" أو "بحق الإله تالب". ولم يرد في النص بعد اسم الأب نعته، ولم يذكره ناشر النص في كتاب:CIH. أما "ميتوخ" و "مورد تمن" فقد كتباه وجعلاه "يحز".
وأما الكتابة الموسومة ب CIH 642، فلم يرد فيها اسم الملك "أنمار"، ولا اسم "كرب ايل وتر يهنعم"، فلا ادري لم أشار إليها مؤلفا كتاب: Sab. Inschr. على أنه من النصوص التي ورد في نعت "وهب ايل". وصاحب هذه الكتابة "مرثد آل بن فسول" "مرثد ايل بن فسول"، وكان "قول" أي قيلا على عشيرة "سمعي"1.
ولدينا كتابة ناقصة، سقط من أولها اسم الآمر بتدوينها، خلاصتها أن صاحب هذه الكتابة قدم تمثالا إلى الإله "تالب ريم" "تالب ريام" "بعل شصرن" "ش ص ر ن"، أي رب معبد الإله المذكور المقام في موضع "شصرن"، لأنه من عليه فيرده سالما من الحرب، وتيمن فيها أيضا بذكر ملكه الملك "أنمار يهأمن" ملك سبأ. وقد سقطت كلمات من هذه الكتابة سببت تشويهها وغموضها، فلا ندري ما المقصود بهذه الحملة أو الحرب. أهي حملة قام بها الملك "أنمار يهأمن" أم حملة قام بها ملك آخر، أعلنها على الملك "أنمار" ? ويرى مؤلفا كتاب Sab Inschr أن الذي قام بها رجل من "بتع" وقد أمده الملك بمساعدة عسكرية.

(1/991)


--------------------------------------------------------------------------------

وورد اسم الملك "أنمار يهأمن" واسم أبيه، في نص دونه أحد سادات "ذ مليحم" "ذي مليحم" "ذي مليح"، اسمه "وهب ذ سموى اليف" "وهب ذو سموى أليف"، تقربا إلى الإله: "تألب ريام بعل كبد"، لأنه أجاب دعاءه، فحفظه وساعده، وساعد ابنه وأتباعه، وذلك في أيام الملك المذكور.
وقد جعل "فلبي" حكم "أنمار يهأمن" في حدود سنة "290"، حتى سنة "270 ق. م.". أما "فون وزمن"، فقد جعل حكمه في القرن الأخير قبل الميلاد، فذكر انه كان يحكم في حوالي السنة "60 ق. م.".
وتولى عرش سبأ بعد "أنمار يهأمن" ابنه "ذمر على ذرح"، وقد وصلت إلينا كتابة قصيرة أصيبت في بكسور في مواضع منها، سقط منها اسم "أنمار"، وبقيت كلمة "يهأمن"، وجاء بعدها اسم "ذمر على ذرح" مسبوقا بالواو حرف العطف، مما يدل على إنها كتبت في أيام أبيه "أنمار يهأمن"، وقد ورد فيها مضافا إلى اسمي الملكين اسما "ودم" "ود" و "تزاد" "تزأد". وقد قرأ بعض الباحثين اللقب الباقي من اسم "أنمار" على هذه الصورة "يهنعم"، وقد ذكرت إن مرد هذا الاختلاف إلى اختلاف النساخ.
وانتقل العرش إلى الملك "نشأكرب يهأمن" بعد وفاة "ذمر على ذرح" والده. وقد جعل "هومل" نعته "يهنعم". وقد وصلت الكتابة منه دونها عند تجديده وإصلاحه أصنام "أصلم" معبد "عثتر ذ ذب" "عثتر ذي ذب". ويظهر إن أصنام هذا المعبد أصيبت بتلف، فأمر الملك بتجديدها وإصلاح مواضع التلف منها تقربا إلى الإله "عثتر" الذي خصص به هذا المعبد.

(1/992)


--------------------------------------------------------------------------------

ووصلت إلينا كتابة أخرى من أيام هذا الملك، جاء فيها: أن "نشأكرب يهأمن" قدم إلى "تنف بعلت ذ غضون"، أي إلى "تنف بعلة ذي غضرن" "تنف ربة ذي غضران" أربعة وعشرين وثنا، لسلامته ولسلامة بيته "سلحن" "سلحين"، ولعافيته وعافية أهله، ولتبعد عند الشر وكل ضر يريده به الشانئون. وذلك بحق "عثتر" و "المقه" ومحق "شمسهو تنف بعلت ذ غضرن" فيظهر من ذلك أن هذا المعبد الذي قدم الملك الأصنام إليه، كان قصد خصص بالآلهة "الشمس النائفة"، وكلمة "تنف" نعت لها، وموضعه في مكان "ذي غضران".
وقد جاء اسم الملك "نشأكرب يهأمن" في نص دونه "بنو جرت" "بنو كرت"، "أقول شعبن ذمري وشعبهمو سمهري"6، "ذمرى" وقبيلتهم "سمهر"، دونوه تقربا إلى الإله "المقه" "بعل اوم"، أي: رب "أوام"، ووضعوه في معبده هذا، وهو "معبد أوام"، حمدا له وشكرا على نعمه وأفضاله لأنه، أي الإله "المقه" أسعد ومن بالشفاء ووفى لسيدهم "نشأكرب يهأمن ملك سبا ابن ذمر على ذرح". ووفقه وأنعم عليه بحاصل وافر وغلة جزيلة قدمت إلى قصره "سلحن" "سلحين"، في أيام الضر، أي الحرب وفي أيام السلم. وقدموا من أجل ذلك تمثالين من البرونز، وضعوهما في. مبعده "معبد اوام".ودعوا "المقه" أن يبارك لسيدهم دوما، وأن يمنحه العافية والصحة والقوة، وأن يسعد قصره قصر "سلحين" وكل أتباع "ادم" الملك و "بني جرف" وأقيالهم: وذلك بحق الآلهة: عثتر شرقن، وعثتر ذ ذبن، وهوبس والمقه وذات حميم وذات بعدان وبشمس ملك تنف، وعزيز، وذات ظهرن ربا "عركنن" وقدما نذرهما إلى عثتر شرقن والمقه رب اوام.

(1/993)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ورد اسم هذا الملك في نص دونه "غوث" و "اسلم" وابنه "ابكرب" "أبوكرب" من "بني جميلن عرجن"، أي. "بني آل الجميل العرج"، وهم "كبراء" قبيلة "ميدعم" "ميدع"، وذلك حمدا للإله و "المقه تهوان بعل أوام"، الذي أجاب نداءهم وأغاثهم ومن " عليهم وعلى بيتهم "سلحين" "سلحن" في "جميلن" "الجميل"، وحماهم في الغارة التي أمر بها الملك "نشأكرب يهأمن" على "ارض عربن"، أي ارض الأعراب لانقاذ أصدقائهم ومواطنيهم من أهل مأرب، وكذلك الجنود والحيوانات التي كانت معهم وإعادتهم إلى مأرب. وإعادوا في نهاية النص حمدهم الإله "المقه" وذلك بحق بقبة الآلهة: عثتر، وهوبس، وذات حميم، وذات بعدان، و "بشمس ملكن تنف".
ويظهر من هذا النص إن أعرابا كانوا قد أغاروا على جماعة من السبئيين، أو انهم هاجموا ارض سبا، فأرسل الملك "نشاكرب يهأمن" قوة من الجيش ومن الأهلين للإغارة عليهم في أرضهم: "ارض العرب" ولاسترجاع ما أخذوه من غنائم واسلاب وأسرى. وكان في جملة من اشترك في هذه الغارة "ابوكرب بن أسلم". فلما عاد رجالها إلى مأرب سالمين، قدم "أبو كرب" وابوه اسلم وشخص آخر اسمه "غوث" إلى الإله "المقه ثهوان" تمثالين وضعوهما في معبده معبد "أوإم"، تخليدا لهذا الحادث، وتعبيرا عن شكرهم له.
وهذا النص من أقدم نصوص المسند التي تشير إلى الأعراب والى غاراتهم على السبئيين أو على قوافلهم، ومن اقدم النصوص التي ورد فيها اسم "عربن" أي "الأعراب" و "ارض عربن" أي ارض الأعراب. ولم يعين النص موضع "ارض العرب"، فلا ندري أكان قصد أرضا معينة، ام اراد البادية. والبوادي هي في كل مكان. والأعراب هم في كل مكان من جزيرة العرب، وفي جملتها اليمن بالطبع، وسترى بعد وفي إثناء كلامنا على أيام "يرم أيمن" وأخيه "برج يهرجب"، إخبار غارات وحملات عسكرية أرسلها الملك على الأعراب الساكنين في محاذاة ارض قبيلة "حاشد" وعلى أعراب آخرين "وثبوا على ساداتهم وأمرائهم ملوك سبأ".

(1/994)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد وردت في هذا النص جملة "ارضت عربن". فيظهر من ذلك أن اللغة السبئية كانت تعد لفظة "أرض" اسما مذكرا، وإذا أرادت تأنيثه، قالت: "أرضت"، على حين أن "الأرض" في عربيتنا اسم مؤنث فقط.
وقد عثر على نص آخر، أمر الملك "نشأكرب يهأمن"، بتدوينه، عند تقديمه ستة تماثيل إلى الإله "المقه"، لسلامته وسلامة قصره "سلحين"، وسلامة أمواله وأملاكه، وليمن عليه بالسعادة. وعثر على اسمه في نصوص أخرى، كلها في مضمون هذا النص، إذ تخبر عن تقديم هذا الملك تماثيل إلى معابد آلهته، حمدا لها وشكرا، إذ منت عليه، ولتديم أغداق نعمها وألطافها وبركتها عليه.
وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن الملك "نشأكرب يهأمن" هو من قبيلة "همدان"، ذلك لأن اسمه من الأسماء الهمدانية المعروفة. وخالف غيرهم هذا الرأي، وقالوا إله لم يكن من همدان، وإنا كان من "بني جرت". من قبيلة "سمهر" "سمهرام". وهم يبعدونه بذلك عن "همدان". ويعارضون في كونه آخر ملك من ملوك الأسرة السبئية الحاكمة، بل يشكون في كون أبيه كان ملكا فعليا على سبأ.
ويظهر من النصوص المتقدمة أن "نشأكرب يهأمن" كان يقيم في قصر "سلحين" بمأرب، وهو مقر ملوك سبأ ومركز حكمهم. وقد كان حكمه فيما بين السنة "75 ا" والسنة "60 ا" قبل الميلاد على رأي "جامه".
ويلاحظ أن الملك كان يتقرب إلى "شمس تنف بعلت غضرن"، أي إلى الآلهة الشمس تنف ربة موضع "غضرن"، تقرب إليها حتى في أثناء أقامته في عاصمته "مأرب" وفي بيت حكمه قصر "سلحين". ويدل هذا على إن الملك لم ينس آلهة قبيلته وعلى رأسها الآلهة "الشمس"، فقدمها على بقية الآلهة وذكرها مع الإله "المقه" إ اسه سبأ الخاص. والآلهة "شمس تنف"، هي إلهة "بني جرت" من قبيلة "سمهرم" "سمهرام".

(1/995)


--------------------------------------------------------------------------------

ولسنا على علم بمن حكم بعد "نشأكرب"، ولهذا ترك الباحثون بموضوع ترتيب ملوك سبأ فراغا بعده، يشر إلى عدم معرفتهم باسم من حكم فيه. وقد تصور "فلبي" انه دام ثلاثين عاما، بدأ سنة "30" وانتهى في سنة "200" قبل الميلاد. وقد وضع "هومل" اسم "نصرم يهأمن" على رأس جمهرة جديدة، رأى إنها حكمت "سبأ"، بعد هذه الفجوة التي لا نعلم من حكم فيها ولا مدتها، ووضع مقابله علامة استفهام للدلالة على انه لا يقول ذلك على سبيل التأكيد، وإنما هو احتمال يراه ولمجرد رأي هو نفسه غير واثق به.
وقد وضع "فلبي" "نصرم يهنعم" "ناصر يهنعم" على رأس الجمهرة الجديدة التي حكمت سبأ في هذا العهد، وجعله رأسا على الجمهرة الرابعة من جمهرات حكام السبئيين، وجعل حكمه في حوالي السنة "200 ق. م."، وجعل له شقيقا هو "صدق يهب". وقد كتب "فلبي" النعت على هذه الصورة: "يهنعم". أما "هومل" وغيره، فقد كتبوه على هذه الصورة "يهأمن".
واستند "هومل" في وضعه "نصرم يهأمن" هذا الموضع إلى النص الموسوم ب Glaser 265،وقد ورد في عدد من الأشياء كانوا مقربين عند "ناصر يهأمن" منهم "أوسلة بن أعين" "أوسلت بن أعين" الذي هو في نظر بعض الباحثين "أوسلة رفشان" الهمداني. ولما كان "أوسلة" هذا يعاصر "وهب ايل يحز" وكان من جملة المقربين إلى "ناصر يهأمن"، رأى "هومل" أن مكان "ناصر يهأمن" يجب أن يكون إذن بعد الفجوة المذكورة مباشرة وقبل اسم "وهب ايل يحز"، فوضعه في هذا المحل.

(1/996)


--------------------------------------------------------------------------------

والنص المذكور، مكتوب على صخرة ناتئة في وسط مرتفعات وعرة مسننة في "جبل ثنين". وذكر "خليل يحيى نامي" أنه رآه ونقشه في "هجر ثنين" وهي تبعد عن غربي "ناعط" زهااء ساعتين على البغال، وهي بين قبيلة "حاشد" و "أرحب". وقد كتب لمناسبة الانتهاء من إنشاء بناء. وقد تيمن فيه على العادة بذكر "ناصر يهأمن" وأخيه "صدق يهب"، وبذكر أسماء من ساعد في إتمام البناء، ومن قام بتسقيفه، وهم من الأشراف وسادات القبائل. ويلاحظ أن النص قد أهمل لقب "ملك" الذي يكتب عادة بعد اسم كل ملك، فلم يذكر بعد اسم "ناصر يهأمن" ولا بعد اسم "صدق يهب".
وقد ورد اسم "ناصر يهأمن" في النص المنشور برقم "7" من كتاب: "نشر نقوش سامية من جنوب بلاد العرب وشرحها". وقد أخبر "ناصر يهأمن" فيه أنه قدم إلى حاميه "تالب ريم بعل حدثن": أي "تالب ريام" رب معيد "حدثان" صنما، ابتهاجا بسلامته وعافيته. وفي النص المرقم برقم "21" المنشور في الكتاب نفسه، وقد دونه جماعة من "همدان"، لمناسبة إنشائهم بيتا اسمه "وترن" "وترن" "وتران"، وجعلوه في حماية حاميهم الإله "تالب ريام"، وتيمنا بهذه المناسبة دونوا اسم "ناصر يهأمن" و "صدق يهب"، وليزيد الإله "تالب ريام" من نفوذ قبيلة "همدان" التي ينتسب إليها هؤلاء. ويلاحظ أن هذا النص وكذلك النص الآخر لم يذكر لقب "ملك" بعد اسم "ناصر يهأمن".
وأصحاب هذا النص، هم: "برج يحمد" "بارج يحمد"، ونجوه "يرم نمرن" "يريم نمران"، و "نشأكرب"، و " كربعثت"، بنو "أنضر يهرجب" من "بني ددن" "بني دادان". وقد ورد اسم هذه الجماعة، وهم من أسرة واحدة، في نص آخر، يظهر منه أنهم كانوا يقيمون في موضع "اكنط" "أكنط"، المعروف في عهدنا باسم "كانط". وقد ذكر "الهمداني" بيتا من بيوت "أكانط" سماه "زادان"، قد يكون اسم عشيرة هذه الأسرة المسماة "دادان"، حرف فصار "زادان".

(1/997)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم يلقب "ناصر يهأمن" ولا "صدق يهب" في نص آخر بلقب "ملك" وأصحاب هذا النص من "همدان" كذلك. وقد دونوا فيه هذه الجملة: "وبمقم مرايهمو" قبل اسم "نصرم يهأمن"، أي "رحق أمريهم"، أو "وبمقام أمريهم"، أو "وبجلالة أو رئاسة أميريهم"، ولم نجد في هذا النص أيضا ما يشير إلى انهما كانا ملكين، أو إن أحدهما كان ملكا على سبأ أو همدان.
وأرى إن في أعمال هذه النصوص للقب "ملك"، وفي عدم تدوينها له بع اسم "نصرم يهأمن" "ناصر يهامن"، دلالة قوية على إن "ناصر يهأمن" لم يكن ملكا، وإنما كان أميرأ، يؤيدها ويؤكدها استعمال النصوص قبل الاسم لفظة "امراهمو" "مرايهمو"، التي تعني "أميريهم". ولو كان "ناصر" أو شقيقه "صدق يهب" ملكين لما نعتا في بعض هذه النصوص ب "أميرين"، ولما أهملت النصوص لفظة "ملك" هذا الإهمال. ولا حجة لرأي من قال انه كان ملكا، لأنه كان صاحب لقب، وهذا اللقب هو "يهأمن"، وهو نعت خاص بالملوك، ذلك لأننا لا نملك دليلا قاطعا يثبت إن كل من كان ينعت نفسه بنعت كان ملكا، وان نوعا خاصا من النعوت كان قد حرم على الناس، لأنه خصص بالملوك. وآية بطلان هذا الرأي أننا نجد كثيرا من سادات القبائل وسائر الناس يحملون ألقابا أيضا من نوع ألقاب الملوك، فليس في الألقاب تخصيص وتنويع في نظري.
وبناء على ما تقدم، لا نستطيع إدخال "ناصر يهأمن" ولا أخيه "صدق يهب" في عداد ملوك سبا، ونرى وجوب اعتدادهما سيدين كبيرين من سادات قبيالة "همدان"، كان لهما سلطان واسع على قبيلتها وفي سبا، ولذلك ذكر أشراف القبيلة اسميها في كتاباتهم، ولقبوهما بلقب "أمرائهم" فالواحد منهم هو بمنزلة "أمير"، ومعنى ذلك إن "ناصر يهأمن" كان أميرا على همدان، وكذلك كان أخوه. والظاهر إن تقديم اسم "ناصر يهأمن" على اسمم أخيه، يشير إلى إن "ناصر يهأمن" كان أكبر سنا من شقيقه، لذلك كان هو المقدم عليه.

(1/998)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من بعض النصوص التي ذكرت اسم "ناصر يهأمن" انه كان قويا، وله قوة عسكرية ضاربة، وتحت إمرته عدد من القادة، بدليل ورود لفظة "مقتت"، جمع "مقتوى"، ومعناها "الضباط" و "القادة"، وقد اشتركت قواته في بعض المعارك، في عهد الملك "نشأكرب يهأمن"، وكان من المعاصرين له. والظاهر انه بقي حيا إلى أيام "وهب ايل يحز". وبناء على هذا يكون قد عاش في حوالي السنة "75 ا" والسنة "150" قبل الميلاد، وذلك على افتراض إن حكم "نشأكرب يهأمن" كان فيما بين السنة "175" والسنة "160" قبل الميلاد، وان حكم "وهب ايل يحز" كان بين السنة "160" والسنة "145" قبل الميلاد، على حسب تقدير "جامه".
وليس في استطاعتنا تحديد العمل الذي قام به "صدق يهب" في همدان، فليس في النصوص التي بين أيدينا ما يكشف الستار عن ذلك. ولا نعرف كذلك زمان وفاة "صدق يهب"، والظاهر إن وفاة كانت في أيام "وهب ايل يحز" اذ انقطعت أخباره منذ ذلك الحين 1.
وليس بين الباحثين في العربيات الجنوبية أي خلاف في أصل "ناصر يهأمن" وأخيه، فقد اتفقوا جميعا على انه من قبيلة "همدان"، ذلك لأنهما نصا صراحة في أحد النصوص المدونة باسمهما على انهما من همدان. ويظهر من ذلك إن قبيلة همدان كانت قد أخذت تؤثر في هذه الأيام تأثيرا كبيرا، حتى لقب ساداتها أنفسهم بلقب "ملك"، متحدين بذلك سلطة ملوك سبأ الشرعيين.
ووضع "هومل" "وهب آل يحز" "وهب ايل يحز"، بعد "ناصر يهأمن"، وسار "فلبي" على خطاه. وقد كان زمان حكمه في حدود سنة "180 ق، م." على تقدير "فلي". وكان يعاصره "أوسلت رفش" "أوسلة رفشان"، أمير "همدان"، وهو والد الأمرين "يرم أيمن" و "برج يهرحب" "بارج يهرحب".

(1/999)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من النص: Glaser 1228أن "وهب ايل يحز"، تحارب هو و "الريدانيون" ورئيسهم إذ ذاك "ذمر على". وقد ساعد "وهب ايل يحز" في هذه الحرب "هوف عم" "هو فعم" و "مخطرن" "مخطران" و"سخيم" و "ذو خولان" و "بنو بتع"، وانضم إلى جانب الريدانيين "سعد شمس" و "مرثد". وتشر هذه الكتابة وكتابات أخرى إلى مساع بذلها رؤساء "ريدان" في منافسة ملوك سبأ وانتزاع العرش منهم.
وقد ورد في النص المذكور: "سعد شمس ومرثدم" وقبيلته "ذو جرت" بمدينة "صنعو". وهذه هي المرة الأولى التي يرد فيها اسم "صنعو" "صنعاء". وقد ورد اسمها بعد ذلك بقليل في الكتابتين: Jamme 692 و Jamme644. ويظهر من ذلك أن "صنعو" كانت في ضمن أرض قبيلة "جرت"، غير إنها كانت قريبة جدا من حدود أرض قبيلة "بتع". وأما "شعوب" التي لا تبعد سوى كيلومتر واحد أو كيلومترين عن الجهة الشمالية الغربية من "صنعاء"، فقد كانت في أرض قبيلة "بتع".

(1/1000)

admin
12-27-2010, 12:44 AM
وقد أشير إلى حرب "وهب ايل يحز" مع الريدانيين، في النص الموسوم ب Jamme 561 Bis، وهو نص دونه "يرم أيمن" "يريم أيمن"، وأخوه "برج يهرحب" وابنه "علهان" أبناء "أوسلت رفشان"، وهم من "همدان" أقيال "أقول" قبيلة "سمعي" ثلث "حاشد"، وذلك عند تقديمهم تمثالا إلى الإله " المقه ثهون": بعل "اوام" لأنه من عليهم وعلى ****ه "ادم هو" "ادمهو" أبناء همدان: وعلى قبيلتهم حاشد، وأغدق عليهم نعماءه وأعطاهم غنائم كثيرة في الحرب التي وقعت بين ملوك سبأ وبين "بني ذي ريدان"، واشتركوا فيها، إذ ترأسوا بعض القوات. وكذلك في غاراتهم على أرض العرب المجاورين لقبيلة حاشد والنازلين على حدودها، أولئك العرب الذين أخطأوا خطأ تجاه أمرائهم وساداتهم ملوك سبأ "املك سبا"، وتجاه بعض قبائل ملك سبأ، ولأن الإله "المقه"، أنعم عليهم بأن جعل الملك "وهب ايل يحز" "ملك سبأ" راضيا عنهم، مقربا لهم، ولأنه أعطاهم ذرية ذكورا وحصادا جيدا، ولكي يديم نعمه عليهم ويبارك فيهم ويعطيهم الصحة والقوة وذلك بحق عثتر و "المقه" وبحق حاميهم "شيمهم" وشفيعهم "تالب ريام".
ويتبين من هذا النص إن "يرم أيمن" وشقيقه كانا تابعين لملك سبأ، وانهما كانا مع "علهان بن برج" من الأقيال على عشيرة "سمعي" التي تكون ثلث مجموع قبيلة "همدان" في هذا العهد، وانهم كانوا في خدمة ملك سبا. ويظهر انهم إنما أشاروا إلى مهاجمتهم لأرض العرب، والعرب المخالفين لأمر ملك سبأ لأن هؤلاء العرب كانوا على حدود أرض قبيلة همدان، وقد تعرضت أرض هذه القبيلة وارض قبائل أخرى لغارات هؤلاء الأعراب، الذين كانوا ينتهزون الفرص لغزو الحضر كما هو شأنهم في كل زمان ومكان. وقد نجحوا في تأديب هؤلاء الأعراب، كما نجحوا في الاشتراك مع بقية قوات "وهب ايل يحز" في تكيد "بني ذي ريدان" خسائر فادحة في الحرب التي نشبت بينهم وبين هذا الملك. وقد كان الريدانيون أسلاف الحميريين من سكان اليمن البارزين في هذا العهد.

(1/1001)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ميز أهل اليمن وبقية العربية الجنوبية أنفسهم عن أهل الوبر، أي القبائل المتنقلة التي تعيش في الخيام، أن دعوا قبائلهم بأسمائها، وهي قبائل مستقرة تسكن قرى ومدنا ومستوطنات ثابتة وسموا القبائل البدوية المتنقلة، ولا سيما القبائل الساكنة في شمال العربية الجنوبية "عربن" أي أعراب، وسموا أرضهم "أرض عربن" و "ارضت عربن"، أي أرض العرب.
ويظهر من ورود جملة "أملك سبا"، أي "ملوك سبأ" الواردة في هذا النص وفي نصوص أخرى، وجود ملوك عدة كانوا يحكمون سبأ في زمان تدوين هذه النصوص. ولكننا نرى إن هؤلاء الملوك لم يكونوا ملوكا فعليين، حكموا سبا بالاشتراك مع ملك سبأ الحاكم، وإنما كانوا رؤساء وسادة قبائل خاضعين لحكم المك، وقد كانوا أصحاب امتيازات، يحكمون أرضهم حكما مباشرا مع اعترافهم بحكم ملك سبأ عليهم، ويجوز انهم كانوا يلقبون أنفسهم بلقب ملك، على سبيل التعظيم والتفخيم ليس غير، فهم ملوك مقاطعات وأرضين، لا ملوك حكومات كبيرة كحكومة سبأ.

(1/1002)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ورد اسم "وهب ايل يحز" في الكتابة الموسومة ب:CIH 360، وصاحبها "سعد تألب يهئب" من موضع "سقهن" "سقرن" "سقران"، ذكر فيها أنه قدم إلى الإله "تالب ريام" نذرا: تمثالا وضعه في معبد الإله في "رحين"، في أيام سيده "مراسموا" الملك "وهب ايل يحز". وقد ورد اسم صاحب هذه الكتابة في النص الموسوم ب MM33+34، وقد دونه جماعة من "بني بتع" و "سخيم" و "ذي نعمان" تقربا إلى الإله "عثتر شرقن"، لأنه نجى "سعد تألب يهثب"، ومد في عمره في الحروب التي أشعلها في "ردمان" وفي أماكن أخرى. ولا يعقل بداهة قيام مدوني النص، وهم سادات القبائل، ببناء "نطعت" وذلك تقربا إلى الإله "عثتر شرقن" إذ من على "سعد تألب يهئب" بالحياة والنجاة في الحروب التي خاضها، لو لم يكن لهذا الرجل علاقة بهذه العشائر ولو لم يكن من أهل الجاه والمكانة والسلطان، ويتبين من كتابات أخرى أنه كان محاربا اشترك في حروب عدة، فلعته كان من كبار قواد الجيش في أيام "وهب ايل يحز"، وقاد جملة قبائل في القتال منها، هذه التي دونت تلك الكتابة.
وذكر اسم الملك "وهب ايل يحز" في كتابة ناقصة قصيرة، أشير فيها إلى "كبر خلل"، اي "كبير" قبيلة أو موضع "خليل" والى اسم الملك "وهب ايل يحز" "ملك سبأ". والظاهر أن صاحب تلك الكتابة أو أصحابها كانوا من أتباع "كبير خليل".
ولم نعثر حتى الآن على اسم والد "وهب ايل يحز". ولم ترد في نصوص المسند الشارة ما إلى مكانته ومنزلته، لذلك رأى بعض الباحثين أن أباه هذا لم يكن من الملوك، بل ولا من الأقيال البارزين، وإلا أشير في النصوص إليه، إنما كان من سواد الناس، وأن ابنه "وهب ايل يحز" هذا أخذ الحكم بالقوة، ثار على ملوك سبأ في زمن لا نعلمه، وانتزع الملك منهم، ولقب نفسه بلقب "ملك سبا" 0 أما ابنه الذي جاء من بعده، فقد لقب نفسه بلقب "ملك" كما لقب والده بلقب ملك. ولو كان والد "وهب ايل يحز" ملكا، لذكر إذن في النصوص، ولأشير إلى لقبه.

(1/1003)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد جعل "جامه" حكم "وهب ايل يحز" بين السنة "160" والسنة "145" قبل الميلاد.
وانتقل الحكم بعد وفاة "وهب ايل يحز" إلى ابنه "انمرم يهأمن" "أنمار يهأمن"، على رأي "جامه"،في حين أغفله أكثر من بحثوا في هذا الموضوع وقرروا إن الحكم انتقل إلى "كرب ابل وتر يهنعم"، وهو ابن "وهل ايل" مباشرة بعد وفاة أبيه. ويرى "جامه" إن حكم "انمار يهأمن" ابتدأ بسنة "145" قبل الميلاد، وهي سنة وفاة أبيه وانتهى بسنة "130" قبل الميلاد، حيث انتقل الحكم إلى شقيقه من بعده.
وقد ورد اسم هذا الملك في النص الموسوم ب Jamme 562 وقد دونه "سخمان يهصبح" من "بني بتع"، وكان "ابعل بيتن وكلم أقول شعين سمعي"، أي "سيد بيت وكل"، وقيل عشرته "سمعي" التي تكون ثلث قبيلة "حملان"، عند تقديمه "صلمن" تمثالا إلى الإله "المقه رب أوام"، وضعه في معبده "معبد آوام"، لوفائه لكل ما طلبه منه، ولاستجابته لدعائه، ولأنه وفقه ووفق أهله وعشيرته في مرافقة الملك "أنمار يهأمن ملك سبا" ابن "وهب ايل يحز ملك سبأ" في عودته من "بيت بني ذي غيمان" إلى قصره "سلحين" مقر ملكه بمدينة مأرب، ووفق مرافقيه وأقباله وجيشه في عودته هذه، ولأنه من على صاحب النص بأن منحه أنمارا كثيرة وغلة وافرة وحصادا جيدا، وليديم نعمه عليه، وذلك بحق الآلة: عثتر، وهوبس، والمقه، وذات حميم، وذات ة بعدان، و "شمس ملكن تنف"، وبحاميه، وشفيعه تالب ريام بعل شصر. وقد وضع التمثال والكتابة المدونة تحت حماية "المقه" في معبده "أوام" ليحميها من كل من يحاول تغيير موضعهما أو أخذهما.
وقد كان "سخمان يهصبح" من الأقيال الكبار في هذا العهد. كان قيلا على "سمعي" كما كان سيدا من سادات "بيت وكل". أي من أصحاب الرأي المطاعين في عشيرة "سمعي". والظاهر أنه كان في موضع "وكل" ناد، أي دار للرأي والاستشارة، يحضره كبار العشيرة ويتشاورون فهيما يحدث من حادث هذه العشيرة. فهو بمنزلة "دار الندوة" عند قريش.

(1/1004)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظن أن الملك "أنمار" المذكور في النص: REP. EPIG 3992 والذي لم يذكر نعته، هو هذا الملك. وقد دون هذا النصر رحل اسمه "وهب ذي سمي أكيف ذو مليح" "م ل ي ح": وذلك عند تقربه إلى الإله "تالب ريام بعل كبدم"، بتقديمه تمثالا إليه، تعبيرا عن شكره وحمده له، لأنه من عليه وساعده وأجاب كل ما طلبه منه، ومكنه من خصم له خاصمه في عهد الملك "أنمار".
وانتقل الحكم بعد وفاة "أنمار يهأمن" إلى شقيقه "كرب ايل وتر يهنعم"، وقد ذكر. اسمه في كتابات عديدة لا علاقة لها به، وإنما دونته فيها تيمنا باسمه وتخليدا لتاريخ الكتابة ليقف على زمانها الناس. وأهم ما في هذه الكتابات من جديد، ورود اسم إله فيها لم يكن معروفا قبل هذا العهد ولا مذكورا بين الناس، هو الإله "ذ سموي"، أي "صاحب السماء" "صاحب السماوات" أو "رب السماء". وسأتحدث عنه وعن هذا التطور الجديد الذي حدث في ديانة العرب الجنوبيين فيما بعد.
وقد ذكر اسم الملك "كرب ايل وتر يهنعم" في النص الموسوم ب Jamme 568 وقد دونه أناس من "بني عثكلن" "عثكلان"، حمدا وشكرا للإله "المقه ثهوان" الذي أنعم عليهم وحباهم بنعمه، وأعطاهم حصادا جيدا وغلة وافرة، وليزيد في توفيقه لهم ونعمه عليهم، وليبعد عنهم أذى الحساد وشر الشانئين. وقد كتب في عهد الملك "كرب ايل وتر يهنعم بن وهب ايل يحز"، ليبارك الإله "المقه" فيه.

(1/1005)


--------------------------------------------------------------------------------

كما جاء اسم هذا الملك في نص آخر دونه قبل من أقيال "غيمان" وسم -Jamm 564، دونه عند تقديمه "صلهن" تمثالا إلى الإله "المقه" حمدا به وشكرا على إنعامه عليه وعلى جيش وأقيال الملك "كرب ايل وتر يهنعم"، ولأنه من عليه وأعطاه حاصلا طيبا وغلة وافرة وأثمارا كثيرة، وليمن عليه وعلى قومه في المستقبل ايضا، وذلك بحق المقه وفي الألة عثتر ذي ذبن، وبحر حطبم، وهوبس، وثور بعلم، وبالمقه بمسكت، ويثو برآن، وذات حميم، وذات بعدان، وبحاميهم وشفيعهم حجرم قمحمم بعل حصنى "تنع"، ولمس بعل بيت نهد، وعثتر الشارق، والمقه بعل أوام.
ويظهر من هذا النص إن صاحبه كان يتولى وظيفة مهمة في "مأرب"، وانه كان مقدما في بيت الحكم قصر "سلحين"، وكان يساويه في هذه المنزلة رجل اسمه "رثدم" "رثد" من "مأذن"، اذ كان يحكم مأربا أيضا، ويتمتع بمنزلة كبيرة في دار الحكم "قصر سلحين". وقد حكما مأربا معا بتفويض من الملك وبأمر منه، حكما من القصر نفسه، اذ كانت دائرة عملها فيه ". ويظهر منه أيضا إن اضطرابا وقع في مأرب في زمان حكمهما، دام خمسة أشهر كاملة، أثر تأثيرا كبيرا في العاصمة، وقد سأل، الحاكمان الملك أن يخولهما حق التدبير للقضاء على الفتنة، فأصدر الملك أمرا أجابها فيه إلى ما سألآه الحاكمين، غير إن نار الفتنة لم نخمد بل بقيت مشتعلة خمسة أشهر كاملة، كان الملك في خلالها يلح على الحاكمين بوجوب قمع الفتنة وإعادة الأمن، واستطاعا ذلك بعد مرور الأشهر المذكورة باشتراك الجيش في القضاء عليها.

(1/1006)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم يذكر النص الأسباب التي دعت أهل مأرب إلى العصيان، ولكن يظهر إن من جملة عواملها تعيين صاحب النص، واسمه "أنمار"، وهو من "غيمان" حاكما على مأرب، وكان أهل العاصمة يكرهون أهل غيمان، وكانوا قد حاربوهم في عهد الملك "أنمار يهأمن" شقيق "كرب ايل وتر يهنعم"، فساءهم هذا التعيين ولم يرضوا به. ولما أبى الملك عزله، ثاروا وهاجوا مدة خمسة أشهر حتى تمكن الجيش من إخماد ثورتهم.
وقد ذكر "كرب ايل وتر" في النص: Jamme 565 بعد اسم "يرم أيمن"، وفيه نعته، وهو "يهنعم"، وعبر عنهما بلفظة "ملكي سبأ"، أي "ملكا سبأ"، واستعمل لفظة "واخيهو"، أي "وأخيه"، وقد ترجمها "جامه" بمعنى "حليفه"، فالتآخي في نظره بمعنى التحالف والحلف. وإذا أخذنا بهذا المعنى، فنستنتج من ذلك أن العلاقات بين الحاكمين لم تكن سيئة. يوم كتب هذا النص وان ادعى كل منها أنه ملك سبا، وإنما يظهر أنهما كانا يحكمان معتاونين، بدليل ما ورد في النص من أن "املك سبا"، أي ملوك سبا كلفوا صاحبي النص أن يخوضا معارك أمروهما بخوضها، فخاضاها ورجعا منها بحمد الإله "المقه" سالمين.
ويرى "جامه" أن حكم الملك "كرب ايل وتر يهنعم" امتد من سنة "130" حتى السنة "115" قبل الميلاد، أو من سنة "115" حتى السنة "00 ا" قبل الميلاد. وبذلك يكون حكم "وهب ايل يحز" وحكم ابنيه "أنمار يهأمن" و "كرب ايل وتر يهنعم" قد امتدا من سنة "160" حتى السنة "115" أو "100" قبل الميلاد.

(1/1007)


--------------------------------------------------------------------------------

وليس لنا علم عن ذر"ة الملك "كرب ال وتر يهنعم"، فليس في أيدينا نص ما يتحدث عن ذلك. وكل ما نعرفه أن الحكم انتقل بعد أسرة "وهب ايل يحز" إلى مللك آخر هو الملك "يرم أيمن"، وهو من "همدان"، وهمدان كما قلت فيما سلف من القبائل التي اكتسبت قوة وسلطانا في هذا العهد، وقد سبق أن تحدثت عن "ناصر يهأمن" وعن شقيقه "صدق يهب".وقلت إنهما من همدان، وقد حان الوقت للكلام على هذه القبيلة التي ما تزال من قبائل اليمن المعروفة، ولها شان خطير في المقدرات السياسية حتى الآن.
الآن وقد انتهيت من الكلام على آخر مللك من ملوك "سبأ" وختمت به عهدا من عهود الحكم في سبأ، أرى لزاما علي أن أشير إلى ملك قرأت اسمه في نص قصير، نشر في كتاب CIH وكتاب REP. EPIG. يتألف من سطر واحد، هو: "وهب شمسم بن هلك أمر ملك سبا"، ولم أجد اسمه فيما بين يدي من قوائم علماء العربيات الجنوبية لملوك "سبأ"، ولم أعثر على نصوص أخرى من عهده، فتعسر علي تعيين مكانه بين الملوك. وقد يعثر على نصوص جديدة تكشف عن شخصية وهويته ومحله بين الملوك.
وأود أيضا إن أشر إلى ورود اسم مللك ذكر في النص:Jamme 551، واسمه "الشرح بن سمه على ذرح" "الشرح بن سمهعلى ذرح"، وقد نعت فيه ب "مللك سبأ" وهو صاحب هذا النص والآمر بتدوينه، ذكر فيه إنه شيد ما تبقى من جدار المعبد من الحافة السفلى للكتابة المبنية في الجدار حتى أعلى المعبد، تنفيذا لارادة المقه التي ألقاها في قلبه، فحققها على وفق مشيئة ذلك الإله وارادته، ليمنحه "المقه" ما أراد وطلب، وذلك في الآلة: "عثتر" و "هوبس" و "المقه" وبحق "ذات حميم" و "ذات بعدان"، وبحق أبيه "سمه على ذرح" "ملك سبأ"، وبحق شقيقه "كرب ايل".

(1/1008)


--------------------------------------------------------------------------------

وورد اسم الملك "يدع ايل بن كرب ايل بين" "مللك سبأ" في النص:Jamme 558، الذي دونه قوم من عشيرة "عبلم" "عبل" "عبال"، عند تقديمهم ثمانية "امثلن" "أمثلن"، أي تماثيل إلى معبد الإله "المقه" "بعل" أوام ليحفظهم ويحفظ أولادهم وأطفالهم ويعطيهم ذرية، وليبارك في أموالهم، وليبعد عنهم كل بأس وسوء ونكاية، وحسد حاسد وأذى عدو. وقد ذكر في النص بعد اسم الملك "كرب ايل بين" اسم "الشرح بن سمه على ذرح"2.
هذا ولا برد لنا- وقد انتهينا من ذكر اسم آخر مللك من ملوك سبا- من إبداء بعض الملاحظات على هذا العهد. ففيما كان الناس في عهد المكربين وفي عهد الملوك الأول إلى عهد "كرب ايل وتر بن يثع أمر بين" المعروف ب "الثاني" في قائمة "هومل" لملوك سبا، قد صرفوا تمجيدهم إلى إله سبأ الخاص وهو "المقه" تليه بقية الآلهة، وجدنا الكتابات التي تلت هذا العهد، تمجيد معه أربابا آخرين لم يكن لهم شأن في العهدين المذكورين، مثل الإله "تألب ريام"، وهو إله "همدان" خاصة، ومثل الإله "ذ سموى" "فهو سماوي"، أي الإله "رب السماء" "رب السماوات". وفي تمجيد بعض الناس لآلهة جديدة، دلالة صريحة على حدوث تطورات سياسية وفكرية في هذا العهد.
وتفسير ذلك أن بروز اسم إله جديد، معناه وجود عابدين له، متعلقين به، هو عندهم حاميهم والمدافع عنهم، ففي تدوين اسم "تالب ريام" بعد "المقه" أو قبله في الكتابات، دلالة على علو شأن عابديه، وهم "همدان"، ومنافستهم للسبئيين، وسنرى فيما بعد أنهم نافسوا السبئيين حقا على الملك، وانتزعوه حينا منهم. وطبيعي إذن أن يقدم الهمدانيون إلى إلههم "تألب ريام" الحمد والثناء، لأنه هو إلههم الذي يحميهم ويقيهم من الأعداء، ويبارك فيهم وفي أموالهم، وكلما ازداد سلطان همدان، أزداد ذكره، ونعدد تدوين اسمه في الكتابات.

(1/1009)


--------------------------------------------------------------------------------

أما الناحية الفكرية، فإن في ظهور اسم الإله "ذ سموى"، دلالة على حدوث تطور في وجهة نظر بعض الناس بالنسبة إلى الألوهية وتقربهم من التوحيد وعلى ابتعاد عن فكرة الألوهية القديمة التي كانت عند آبائهم وأجدادهم وعن "المقه" إله شعب سبأ الخاص.
ويلاحظ أيضا ظهور لقب "يهأمن" و "يهنعم" منذ هذا الزمن فما بعده عند ملوك سبأ. وقد رأينا أن ألقاب مكربي سبأ وملوك الصدر الأول من سبأ لم تكن على هذا الوزن: وزن "يهفعل"، وهو وزن عرفناه في ألقاب مكربي وملوك قتبان فقط، اذ رأينا الألقاب: "يهنعم" و "يهرجب" و "يهوضع" تقترن بأسماء الحكام. وفي تلقب ملوك سبأ بها دلالة على حدوث تطور في ذوق الملوك بالنسبة إلى التحلي بالألقاب.
ويتبن من دراسة الأوضاع في مملكة سبأ أن أسرا أو قبائل كانت صاحبة سلطان، وكانت تتنافس فيما بينها، وتزاحم بعضها بعضا. منها الأسرة القديمة الحاكمة في مأرب، ثم الأسرة الحاكمة في حمير، ثم "سعي"، وهي قبيلة كبيرة صاحبة سلطان وقد كونت مملكة مستقلة، منها "بنو بتع" وفي أرضهم وهي في الثلث الغربي من "سمعي" تقع أرض "حملان" وعاصمتها "حاز" و "مأذن". ثم الهمدانيون، ومركزهم في "ناعط". ثم "مرثدم" "مرثد" وهم من "بكلم" "بكبل"، ومواطنهم في "شبام أقيان". ثم "كرت" "جرت" "جرة" ومنها "ذمر على فرح".
مأرب
وإذا كانت صرواح عاصمة المكربين ومدينة سبأ الأولى، فإن "مرب" "م رب" "مريب"، أي مأرب هي عاصمة سبأ الأولى في أيام الملوك، ورمز الحكم في سبأ في هذا العهد. وهي وان خربت وطمرت في الأتربة إلا أن اسمها لا يزال سبأ معروفا، ولا يزال موضعها مذكورا، ويسكن الناس في "مأرب" و"مأرب" الحاضرة هي غير مأرب القديمة، فقد أنشئت الحاضرة حديثا على أنقاض المدينة الأولى، على مرتفع تحته جزء من أنقاض المدينة القديمة وتقع في القسم الشرقي من مدينة "مأرب" الأولى.

(1/1010)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد كانت مأرب كأكثر المدن اليمانية الكبيرة مسورة بسور قوي حصين له أبراج، يتحصن به المدافعون اذا هاجم المدينة مهاجم. وقد بني السور بجحر "البلق" كما نص عليه في الكتابات، وهو حجر صلد قد من الصخور، أقيم على أساس قوي من الحجر ومن مادة جيرية تشد أزره، وفوقه صخور من الغرانيت. ويحيط السور بالمدينة، بحيث لا يدخل أحد إليها الا من بابين. فقد كانت مأرب مثل "صرواح" ذات بابين فقط في الأصل.
وأعظم أبنية مأرب وأشهرها، قصر ملوكها ومعبدها الكبير. أما قصور ملوكها فهو القصر المعروف بقصر "سلحن" "سلحين" "سلحم". وقد ورد ذكره في الكتابات، وعمر ورمم مرارا. وقد ورد في لقب النجاشي "ايزانا" Ezana، ملك "أكسوم"، وذللك في حوالي السنة "350 م" ليدل بذلك على امتلاكه لأرض سبأ واليمن. وقد عرف في الإسلام، وذكره "الهمداني" في جملة القصور الشهيرة الكبيرة في اليمن.

(1/1011)


--------------------------------------------------------------------------------

ويقع مكانه في الخرائب الواسعة الواقعة غرب المدينة، والى الجنوب من خرائبه خرائب أخرى على شكل دائرة، تحيط بها أعمدة، يظهر إنها لم تكن مبنية في الأصل. وتشاهد أعمدة وأتربة متراكمة هي بقايا معبد "المقه" إله سبأ، المعروف ب "المقه بعل برآن" "المقه بعل بران" أي معبد "المقه" "رب برأن". وفي الناحية الشمالية والغربية من المدينة وفي خارج سورها، تشاهد بقايا مقبرة جاهلية، يظهر إنها مقبرة مأرب قبل الإسلام. وتشاهد آثار قبورها، وقد تبين منها ان بعض الموتى وضعوا في قبرهم وضعا، وبعضهم دفنوا وقوفا، وقد حصل "كلاسر" وغيره من السياح والباحثين على أحجار مكتوبة، هي شواهد قبور %)345( وعلى مسافة خمسة كيلومترات تقريبا من مأرب، تقع خرائب معبد شهير، كانت له شهرة كبيرة عند السبئيين، يعرف اليوم ب "حرم بلقيس" وب "محرم بلقيس"، وهو معبد "المقه بعل أوم"، أي معبد الإله "المقه" رب "أوام". ويرى بعض الباحثين أن هذا المعبد هو مثل معبد "المقه" في "صواح" والمعبد المسمى اليوم ب "المساجد" من المعابد التي بنيت في القرن الثامن قبل الميلاد. وقد بناها المكرب "يدع ايل ذرح". وقد يكون المعبد الخرب في "روديسيا" والمعبد الآخ في "اوكاندا" "أوغاندا"، من المعابد المتأثرة بطراز بناء معبد "حرم بلقيس"، فان بينهما وبين هذا المعبد شبها كبيرا في طراز البناء وفي المساحة والإبعاد.%)346( وعلى مسافة غير بعيدة من "حرم بلقيس"، خرائب تسمى "عمائد" "عمايد" في الزمن الحاضر، منها أعمدة مرتفعة بارزة عن التربة، ويظهر إنها بقايا معبد "برأن" "برن" "بران" خصص بعبادة الإله "المقه" الذي ذكر في الكتابة الموسومة ب Glaser 479 وفي الجهة الغربية من هذا المعبد، تشاهد أربعة أعمدة أخرى هي من بقايا معبد آخر.
قوائم بأسماء ملوك سبأ
قائمة "هومل"

(1/1012)


--------------------------------------------------------------------------------

أول ملك وآخر مكرب هو "كرب آل وتر" "كرب ايل وتر" الذي جمع بين اللقبين: لقب "مكرب" المقدس ولقب "ملك" الدنيوي. وقد تلاه عدد من الملوك وأبناء الملوك هم: سمه على ذرح.
الشرح بن سمه على ذرح.
كرب آل وتر بن سمه على ذرح.
يدع آل بين بن كرب آل وتر.
يكرب ملك وتر.
يثع أمر بين.
كرب آل وتر.
ويرى هومل إن أسرة جديدة تربعت عرش "سبأ" بعد هذه الأسرة المتقدمة، خلفتها إما رأسا وإما بعد فترة لا نعرف مقدارها بالضبط، قدرها بنحو خمسين سنة امتدت من سنة "450" حتى سنة "400" قبل الميلاد. وتتألف هذه الأسرة من: سمه على ينف.
الشرح.
ذمر على بين.
وهناك أسرة أخرى حكمت "سبأ" تنتمي إلى عشيرة "مرثد" من "بكيل" تتألف من: وهب آل "وهب ايل" راجع النصين: )Glaser 179( )Glaser 223 وهمامن "حاز". انمرم يهنعم "أنمار يهنعم"، وهو إبن "وهب آل".
ذمر على ذرح.
نشاكرب يهنعم "نشأكرب يهنعم".
نصرم يهنعم ? "ناصر يهنعم".
وهب آل يحز "وهب ايل يحز".
كرب آل وتر يهنعم.
فرعم يهنب "فارع ينهب".
ويرى "هومل" إن الملك، "الكرب يهنعم بن حم عثت" "الكرب يهنعم بن حمعثت" و "كرب آل وتر" هما من جمهرة جديدة من جمهرات ملوك سبأ.
قائمة "كليمان هوار"
وتتألف هذه القائمة، وهي قديمة، من الجمهرات الآتة الجمهرة الأولى وقوامها: سمه على فرح.
الشرح.
كرب آل.
الجمهرة الثانية ورجالها: يثع امر.
كرب آل وتر.
يدع آل بين.
الجمهرة الثالثة وتتكون من: وهب آل يحز.
كرب آل وتر يهنعم.
الجمهرة الرابعة ورجالها: وهب آل.
أنمار يهنعم.
الجمهرة الخامسة وأصحابها: ذمر على ذرح.
نشاكرب يخعم.
ولم يشر إلى مكان الملكين "يكرب ملك وتر" و "يرم ايمن" بين هذه الجمهرات، وان كان أشار إلى "يرم ايمن" في قائمة الملوك الهمدانيين. قائمة "فلبي"
1- كرب آل وتر. حكم على تقديره حوالي سنة "620" قبل الميلاد.

(1/1013)

admin
12-27-2010, 12:45 AM
2- سمه على ذرح لم يتأكد من اسم والده، ويرى أن من المحتمل أن يكون كرب آل وتر. حكم حوالي سنة "600" قبل الميلاد.
3- كرب آل وتر بن سمه على ذرح. حكم حوالي سنة "580" قبل الميلاد.
4- الشرح بن سمه على ذرح. تولى الحكم حوالي سنة "570" قبل الميلاد.
5- يدع آل بين بن كرب آل وتر. صار ملكا حوالي سنة "560" قبل الميلاد.
6- يكرب ملك وتر بن يدع آل بين. تولى الحكم سنة "540" قبل الميلاد.
7- يثع أمر بين بن يكرب ملك وتر. حكم حوالي سنة "520" قبل الميلاد.
8- كرب آل وتر بن يثع أمر بين. تولى الحكم في حدود سنة "500" قبل الميلاد.
9- سمه على ي نف. لم يتأكد "فلبي" من اسم أبيه، وحكم على رأيه حوالي سنة "480" قبل الميلاد.
10- الشرح بن على ينف. حكم حوالي سنة "460" قبل الميلاد.
11- ذمر على بين بن سمه على ينف. تولى الحكم في حدود سنة "445" قبل الميلاد.
12- يدع آل وتر بن على بن. تولى حوالي سنة "430" قبل الميلاد.
13- ذمر على بين بن يدع آل وتر. تولى الحكم في حدود سنة "410" قبل الميلاد.
14-كرب آل وتر بن ذمر على بين. حكم حوالي سنة "390" قبل الميلاد.
15- وترك "فلبي" فجوة بعد اسم هذا الملك قدرها بنحو عشرين عاما، ثم ذكر اسم الكرب يهنعم. وهو على رأي "فلبي" من الأسرة الملكية الثالثة التي حكمت مملكة سبأ، وقد حكم في حوالي سنة "330 ق. م.".
16- كرب آل وتر. حكم في حدود سنة "330 ق. م.".
17- وهب آل ولم يتأكد من اسم أبيه، ويرى إن من المحتمل أن يكون اسمه "سرو". حكم في حدود سنة "310 ق. م.".
18- انمار يهنعم بن وهب آل يحز. حكم في حدود سنة "290 ق.م.".
19- ذمر على ذرح بن انمار يهنعم. حكم في حدود سنة "270 ق.م.".
20 نشاكرب يهنعم بن ذمر على ذرح. حكم حوالي سنة "250 ق. م.".

(1/1014)


--------------------------------------------------------------------------------

وترك "فلبي" فجوة أخرى بعد اسم هذا الملك قدرها بنحو ثلاثين عاما، أي من حوالي سنة "230" إلى سنة "200" قبل الميلاد، ذكر بعدها اسم: 21- نصرم يهنعم "ناصر يهنعم"، وهو من أسرة ملكية رابعة، وكان له شقيق اسمه "صدق يهب". حكم في حدود سنة"200" قبل الميلاد.
22- وهب آل يحز. حكم في حوالي سنة "180" قبل الميلاد.
23- كرب آل وتر يهنعم بن وهب آل يحز.حكم في حوالي سنة "160" قبل الميلاد.
وقد اغتصب العرش "برم ايمن" وابنه "علهن نهفن" "علهان نهفان" في حدود سنة "145" إلى سنة "115" قبل الميلاد، وهما مكونا الأسرة الهمدانية المالكة، وقد استعاد العرش الملك: 24- فرعم ينهب في حدود سنة "130" قبل الميلاد.
25- الشرح يحضب بن فرعم ينهب. حكم حوالي سنة "125" قبل الميلاد، وهو من ملوك "سبا وذو ريدان".
قائمة "ريكمنس"
وقد رتب "ريكمنس" أسماء ملوك سبأ على النحو الآتي: 1- كرب وتر "كرب ايل وتر".
2- يدع آل بين "يدع ايل بين".
3- يكرب ملك وتر.
4- يثع أمر بين.
5و6- سمه على ذرح وكرب ايل وتر "الشرح".
7-سمه على ينوف إسكله على ينف".
8- يدع آل وتر "يدع ايل وتر".
9- ذمر على بين.
10- يدع آل ذرح "يدع ايل ذرح".
11- يثع أمر وتر.
12- سمه على ينف "سمه على ينوف".
13- ذمر على بين "الشرح".
14- يدع آل "يدع ايل".
15- ذمر على ذرح.
16- نشأكرب يهأمن، وهو على رأيه آخر الملوك من الأسرة الشرعية الحاكمة. وقد انتقلت سبأ بعده من حكم الملوك السبئيين إلى حكم أسرة جديدة يرجع نسبها إلى قبيلة "همدان وذلك سنة "115" قبل الميلاد وكان أول من تولى الحكم منها الملك "نصرم يهأمن" "ناصر يهأمن".

(1/1015)


--------------------------------------------------------------------------------

وترك "ريكمنس" فراغا بعل "نصرم يهأمن"، ذكر بعده اسم "وهب آل يحز" "وهب ايل يحز"، وكان منافسه "أوسلت رفشان"، ثم ذكر بعد "وهب آل يحز" اسم أنمار يهنعم، وكرب ايل وتر يهنعم، نمم يرم أيمن. ثم اسم "فرعم ينهب"، وهو من "بكيل"، وكان معاصرا ل "علهان نهفان" وابنه "شعرم أوتر"، وهما من "حاشد".
الفصل الخامس والعشرون
همدان
ومن القبائل الكبيرة التي كان لها شأن يذكر في عهد "ملوك سبأ"، قبيلة "همدان" والنسابون بعضهم يرجع نسبها إلى: "أوسلة بن مالك بن زيد بن أوسلة بن ربيعة الخيار بن زيد بن كهلان"، وبعض آخر يرجعونه إلى "همدان بن مالك بن زيد بن أوسلة بن ربيعة بن الخيار بن مالك بن زيد بن كهلان"، إلى غير ذلك من ترتيب أسماء نجدها مسطورة في كتب الأنساب والأخبار.
ويرجع أهل الأنساب بطون همدان، وهي كثيرة، إلى "حاشد" و "بكيل". أما "حاشد"، فتقع مواطنها في الأرضين الغربية من "بلد همدان"، وأما "بكيل"، فقد سكنت الأرضين الشرقية منه. وهما في عرفهم شقيقان من نسل "جشم بن خيران بن نوف بن همدان". وقد تفرع من الأصل بطون عديدة، ذكر أسماءها وأنسابها "الهمداني" في الجزء العاشر من "الإكليل"، وهو الجزء الذي خصصه بحاشد وبكيل.
وقد ورد في الكتابات العربية الجنوبية أسماء عدد من المدن والمواضع الهمدانية ورد عدد منها في "صفة جزيرة العرب" و "الإكليل" وفي كتب أخرى، ولا يزال عدد غير قليل من أسماء تلك المواضع أو القبائل والبطون التي ورد ذكرها في الكتابات باقيا حتى الآن. وتقع هذه المواضع في المناطق التي ذكرت في تلك الكتابات، وهي تقيدنا من هذه الناحية في تعين مواقع الأمكنة التي وردت أسماؤها في النصوص، ولكننا لا نعرف الآن من أمرها شيئا.

(1/1016)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان للهمدانيين مثل القبائل الأخرى إله خاص بهم، اسمه "تالب" "تألب" اتخذوا لعبادته بيوتا في أماكن عدة من "بلد همدان". وقد عرف أيضا في المسند ب ""تالب ريمم" "تألب ريمم"، أي "تألب ريام". وقد انتشرت عبادته بين همدان، وخاصة بعد ارتفاع نجمهم واغتصابهم عرش سبأ من السبئيين، فصار إله همدان، يتعبد له الناس تعبدهم لإله سبا الخاص "المقه"، فتقربت إليه القبائل الأخرى، ونذرت له النذور. ونجد في الكتابات أسماء معابد عديدة شيدت في مواضع متعددة لعادة هذا الإله، وسميت باسمه.
وقد تنكر الهمدانيون فيما بعدد لإلههم هذا، حتى هجروه. ولما جاء الإسلام كانوا يتعبدون- كما يقول ابن الكلي- لصنم هو "يعوق"، وكان له بيت ب "خيوان". وقد نسوا كل شيء عن الإله "تألب ريام"، نسوا انه كان إلها لهم، وانه كان معبودهم الخاص، الا انهم لم ينسوا اسمه، اذ حولوه إلى إنسان، زعموا انه جد "همدان" وانه هو الذي نسل الهمدانيين، فهم كلهم من نسل "تألب ريام".
ولم يكتف الهمدانيون بتحويل إلههم إلى إنسان، حتى جعلوا له أبا سموه "شهران الملك"، ثم زوجوه من "ترعة بنت يازل بن شرحبيل بن سار بن أبي شرح يحضب بن الصوار"، وجعلوا له ولدا منهم "يطاع"،و "يارم".
وأما أبوه "شهران"- على حد قول أهل الأخبار- فهو ابن "ريام بن نهفان"، صاحب محفد "ريام". وأما "نهفان"، والد "ريام"، فهو ابن "بتع" الملك، وشقيق "علهان بن بتغ"، وكان ملكا كذلك. وأمهما "جميلة بنت الصوار بن عبد شمس". وأما "بتغ"، فهو ابن "زيد بن عمرو بن همدان"، وكان قريبا ل "شرح يحضب بن الصوار بن عبد شمس"، واليه ينسب سد "بتغ".

(1/1017)


--------------------------------------------------------------------------------

وإذا دققنا النظر في هذه الأسماء، أسماء الآباء والأجداد والأبناء والبنات والحفدة والأمهات، نجد فيها أسماء وردت حقا في الكتابات، إلا أن ورودها في مما ليس على الصورة التي رسمها لها أهل الأخبار. ف "ترعة" مثلا، وهو اسم زوجة "تألب ريام" المزعومة، لم يكن امرأة في الكتابات، وإنما كان اسم موضع شهير ورد اسمه في الكتابات الهمدانية، عرف واشتهر بمعبده الشهير المخصص بعبادة الإله "تألب ريام" معبد "تألب ريام بعل ترعت". والظاهر أن الأخباريين- وقد ذكرت أن منهم من كان يستطيع قراءة المساند لكن لم يكونوا يفهمون معاني هذه المساند كل الفهم-لما قرأوا الجملة المذكورة ظنوا أن كلمة "بعل" تعني الزواج كما في لغتنا، فصار النص بحسب تفسيرهم "تألب زوج ترعت". وهكذا صيروا "ترعت" "ترعة" زوجة ل "تألب ريام"، وصيروا "تألب ريام" رجلا زوجا، لأنهم لم يعرفوا من أمره شيئا.
و "أوسلة" الذي جعلوه اسما ل "همدان" والد القبيلة، هو في الواقع "أوسلت رفشن" في كتابات المسند. وهو والد "يرم ايمن" "يريم أيمن" "ملك سبا".
وقد عرف "الهمداني" اسم "اوسلت رفشن" "أوسلة رفشان"، فذكر في كتابه "الإكليل" إن اسمه كان مكتوبا بالمسند على حجر بمدينة "ناعط"، ودون صورة النص كما ذكر معناه. ويظهر من عبارة النص ومن تفسيره إن "الهمداني" لم يكن يحسن قراءة النصوص ولا فهمها، وان كان يحسن قراءة الحروف وكتابتها. ولم يتحدث "الهمداني" بشيء مهم عن "أوسلة رفشان" في الجزءين المطبوعين من "الإكليل"، وقد ذكره في الجزء الثامن في معرض كلامه على حروف المسند، فأورده مثلا على كيفية كتابة الأسطر والكلمات. وذكره في الجزء العاشر في "نسب همدان"، في حديثه عن "يطاع" و "يارم" ابني "تألب ريام بن شهران" على حد قول الرواة، ولم يذكر شيئا يفيد انه كان على علم به.

(1/1018)


--------------------------------------------------------------------------------

وأرى إن أهل الأنساب أخذوا نسهم الذي وضعوه ل "أوسلة" ولغيره من أنساب قبائل اليمن القديمة من قراءتهم للمساند. وقد كان بعضهم- كما قلت- يحسن قراءة الحروف، الا انه لم يقهم المعنى كل الفهم، فلما قرأوا في النصوص "اوسلت رفشان بن همدان"، أي "أوسلة رفشان من قبيلة همدان"، أو "أوسلة رفشان الهمداني" بتعبير أصح، ظنوا إن لفظة "بن" تعني "ابن"، ففسروا الجملة على هذا النحو: "أوسلة رفشان بن همدان" وصيروا "أوسلة" ابنا لهمدان، مع إن "بن" في النص هي حرف جر بمعنى "من"، وليست لها صلة ب "ابن".
و "اوسلت" "أوسلة" مركبة من كلمتين في الأصل، هما: "أوس": بمعنى "عطية أو "هبة"،و "لت" "لات"، وهو اسم الصنم "اللات"، فيكون المعنى "عطية اللات"،أو "هبة اللات". ومن هذا القبيل "أوس آل"، ا الاكليل أي "أوس ايل"، ومعناها "وهب ايل" و "عطية ايل"، و "سعدلت" أي "سعد لات" و "عبد لات" و "زيد لات"، وما شاكل ذلك من أسماء.
وقد أغفلت النصوص التي ذكرت اسم "أوسلت رفشان" اسم أبيه. غير أن هناك كتابات أخرى ذكرت من سمته "أوسلت بن أعين"، "أوسلة بن أعين، فذهب علماء العربيات الجنوبية إلى أن هذا الرجل الثاني هو "أوسلة رفشان" نفسه، وعلى ذلك يكون اسم أبيه "أعين"، وهو من همدان. وقد عاش في حوالي السنة "125 ق. م." على تقدير "البرايت".
وقد جعل "فون وزمن" "أعين" من معاصري "ياسر يهصدق" الحميري و "ذمر على ذرح" ملك السبئيين، و "نشأكرب يهأمن" من أسرة "جرت" "كرت" "كرأت" "جرأت". وجعل زمانهم في حوالي السنة "80" بعد الميلاد. وهو تقدير يخالف رأي "فلبي" و "البرايت" وغيرهما ممن وضعوا أزمنة لحكم الملوك.
وقد ذكر اسم "أوسلت رفشان" في نص وسمه العلماء ب CIH 647، وهو نص قصير مثلوم في مواضع منه، يفهم منه أنه بنى بيتا، ولم ترد في النص أين بني ذلك البيت، ولا نوع ذلك البيت: أكان بيت سكنى أم بيت عبادة.

(1/1019)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عاش "أوسلت رفشن" "اوسلة رفشان" في حوالي السنة "110 م" على رأي "فون وزمن". وكان من المعاصرين للملك "رب شمس" "ربشمس" من ملوك حضرموت، وللملك "وهب آل يحز" "وهب ايل يحز"، وهو من ملوك "بني بتع" من "سمعي". أما "فلبي"، فيرفع أيام هؤلاء المذكورين إلى ما قبل الميلاد، أي إلى العهود التي سبقت تأليف حكومة "سبأ وذي ريدان". وأما "البرايت"، فجعل أيامه في حوالي السنة "100ق. م.".
وجعل "فون وزمن" "سعد شمس أسرع"، الذي هو من "مرثد" من فرع "بكيل" من المعاصرين له "اوسلت رفشن" "أوسلت رفشان". وتقع أرض "مرثد" في "شبام أقيان".
ويظهر من النص الموسوم ب CIH 287 إن "أوسلت" كان "مقتوى"، أي قائدا كبيرا من قواد الجيش عند "ناصر يهأمن"، ثم صار قيلا "قول" على عشيرة "سمعي"، في أيام "وهب ايل يحز". فبرز اسمه واسم أولاده وصار لهم سلطان في عهد هذا الملك. والظاهر انه كان كبير السن في هذا العهد، وان وفاته كانت في أيام "وهب ا"ل".
وقد عرفنا من الكتابات اسم ولدين من ولد "أوسلت رفشان" أحدهما "يرم أيمن"، والآخر "برج يهرجب"، "برج يهرحب". وقد ورد اسماهما في عدد من الكتابات، منها الكتابة الموسومة ب Jamme 561 Bis التي تحدثت عنها في أشاء كلامي على "وهب ايل يحز". وقد وجدنا فيها إن الشقيقين وكذلك "علهان نهفان" وهو ابن "برم أيمن"، كانوا أقيالا اذ ذاك على عشيرة "سمعي"، التي تكون ثلث عشائر قبيلة "حاشد"، وانهم كانوا قد أسهموا في الغارة التي شنها الملك "وهب ايل يحز" على الأعراب.

(1/1020)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ورد اسماهما في الكتابة الموسومة ب Glaser 1359, 1360، وقد تبين منها انهما كانا قيلين "قول" على قبيلة "سمعي" ثلث "حاشد"، وانهما قدما إلى حاميهما الإله "تالب رينمم" "تألب ريام"، بعل "ترعت"، أي رب معبده المقام في "ترعت" "ترعة"، ستة تماثيل "ستتن أصلمن"، لأنه من على "يرم أيهن" بالتوفيق والسداد في مهمته، فعقد الصلح بين ملوك. سبأ وذي ريدان وحضرموت وقتبان، وذلك بعد الحرب التي وقعت بينهم فانتشرت في كل البلاد والأرضين، بين هؤلاء الملوك المذكورين وشعوبهم وأتباعهم. وقد كان من منن الإله "تألب ريام" على "برم أيمن" إن رفع مكانته في عين ملك سبأ، فاتخذه وسيطا في عقد صلح بينه وبين سائر الملوك، فنجح في مهمته هذه، وعقد الصلح وذلك في سنة "ثوبن بن سعدم بن يهسم".
وقد اختم النص بدعاء الإله "تألب ريام" أن يوفق "يرم أيمن" ويديم له سعادته، ويرفع منزلته ومكانته دائما في عين سيده "امراهمو مللك سبأ" مللك سبأ، ويبارك له، ويزيد في تقدمه، وينزل غضبه وثبوره "ثبر" وضرره وتشتيته على أعداء "برم أيمن" وحساده وكل من يتربص الدوائر بي "تألب ريام".
ويتبين من هذا النص الموجز-الذي كتب لإظهار شكر "يرم أيمن" لإلهه "تألب ريام" على توفيقه له، وعلى ما من عليه به من الإيحاء إلى ملك سبأ بأن يختاره وسيطا- أن حربا كاسحة شاملة كانت قد نشا في العربية الجنوبية في أيام الملك "كرب ايل وتر يهنعم"، وأن الملك كلفه إن يتوسط بين المتنازعين، وهم حكومات سبأ وذي ريدان وحضرموت وقتبان، ويعقد صلحا بينهم، وأنه قد أفلح في وساطته، وسر كثرا بنجاحه هذا وباختياره لهذا المركز الخطير، الذي اكسبه منزلة كبيرة، وهيبة عند الحكومات، فشكر إلهه الذي وفقه لذلك، وقد كان يومئذ هؤلاء من الأقيال. وقد ساعدته هذه الوساطة كثيرا، ولا شك، فمهدت له السبيل لأن ينازع "ملك سبأ" التاج.

(1/1021)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد اتخذ "كلاسر" من سكوت النص عن ذكر اسم "معين" دليلا على انقراض "مملكة معين"، وفقدان شعب معين استقلاله، وهو رأي عارضة بعض الباحثين.
وقد وصل إلينا نص قصير لقب فيه "يرم ايمن" بلقب "ملك سبأ"، وقد سجله ابناه، ولقب ابناه بهذا اللقب كذلك. وهو نص ناقص أعرب فيه ابنا "يرم أيمن" عن شكرهما للإله "تألب ريام" لأنه من وبارك عليهما. فهذا النص آذن من النصوص المتأخرة بالنسبة إلى أيام "يرم أيمن".
وانتهى إلينا نص مهم، هو النص المعروف ب Wien 669، وقد دونه أحد أقيال "أقول" قبيلة "سمعي"، وقد سقط اسمه من الكتابات، وبقي اسم ابنه، وهو "رفش" "رفشان" من آل "سخيم".
آما قبيلة "سمعي" المذكورة في هذا النص، فهي "سمعي" ثلث "ذ حجرم" "ذو حجر". وقد قدم هذا القيل مع ابنه "رفشان" إلى الإله "تألب ريام" "بعل رحبان" "بعل رحبن" نذرا، وذلك لعافيتهما ولسلامة حصنهما، حصن "ريمن" "ريمان"، ولخير وعافية قيلهما وقبيلته "يرسم" التي تكون ثلث "ذي حجر"، وليبارك في مزروعاتهما وفي غلات أرضهما، ولينزل بركته ورحمته " على "يرم أيمن" و "كرب ايل وتر" ملكي سبأ. وقد ختم النص بتضرع "تالب ريام" أن يهلك أعداءهما وحسادهما وجميع الشانئين لهما ومن يريد بهما سوءا.
وقد جعل "فون وزمن"، "يرم أيمن" معاصرا ل "أنمار يهأمن" الذي ذكره بعد "وهب ايل يحز"، ثم ل "كرب ايل يهنعم"، وهما في رأيه من المعاصرين ل "شمر يهرعش الأول" من ملوك "حمير" أصحاب "ظفار". وجعل "كرب ايل وتر يهنعم" معاصرا للملك "كرب ايل بين" ملك سبأ الشرعي من الأسرة الحاكمة في "مأرب". وجعل "يرم أيمن" من المعاصرين ل "مرثد يهقبض"، وهو من "جرت" "كرت" "كرأت" ول "مرثدم" "مرثد" الذي ذكر بعد "نبط يهنعم" آخر ملوك قتبان، كما جعله من المعاصرين للملك "يدع ايل بين" من ملوك حضرموت. وجعل حكم "يرم أيمن" فيما ببن السنة "130" والسنة "140" بعد الميلاد.

(1/1022)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد نشر "جامه" نصا وسمه ب Jamme 565 جاء فيه: إن جماعة من "بني جدنم" "جدن" قدموا إلى الإله "المقه بعل أوام" نذرا تمثالا "صلمن" لأنه من عليهم بالعافية ووفقهم في الغارة التي أسهموا في ما بأمر سيديهما ملكي سبأ: برم أيمن وأخيه كرب ايل وتر، ولأنه بارك لهما ومنحهما السعادة بإرضاء مليكهما. وقصد بلفظة "واخيهو" حليفه، لأنهما متآخيان بتحالفهما. ويلاحظ أن هذا النص قد قدم اسم "برم أيمن" على اسم الملك "كرب ايل وتر" مع أن هذا هو ملك سبا الأصيل، ولقب "يرم ايمن" بلقب ملك، أي أنه أشركه مع الملك "كرب ايل" في الحكم، وفي هذا دلالة على إن "يرم أيمن" كان قد أعلن نفسه ملكا على سبأ، ولقب نفسه بالقلب الملوك وان الملك الأصلي اعترف به، طوعا واختيارا أو كرها واضطرارا، فصرنا نجد اسمي ملكين يحملان هذا اللقب: لقب "ملك سبأ" في وقت واحد.
وقد ورد اسم "يرم أيمن" في النص الموسوم ب CIH 328 وقد لقب فيه بلقب "ملك سبأ"، الا إن النص لم يذكر اسم ملك سبا الأصيل الذي كان يحكم اذ ذاك. وقد ذكر في هذا النص اسم الإله "تألب ريام"، وهو إله همدان. ولم يذكر معه اسم أي إله آخر. ولما كان صاحب النص همدانيا، وقد كان "يرم أيمن" ملك همدان ولمجدها، لم يذكر اسم ملك سبأ ولم يشر إليه، واكتفى بذكر ملكه فقط.

(1/1023)


--------------------------------------------------------------------------------

هذا وليس في استطاعتنا تثبت الزمن الذي لقب فيه "يرم أيمن" نفسه بلقب "ملك سبا". فقد رأيناه قيلا في أيام الملك "وهب ايل يحز" ورأينا صلاته به لم تكن على ما يرام في بادئ الأمر، وانه كان يتمنى لو إن الإله "المقه" أسعده بالتوفيق بين ملكه وبينه. ثم لا ندري ما الذي حدث بينهما بعد ذلك. ولكن الظاهر إن طموح "يرم أيمن" دفعه إلى العمل في توسيع رقعة سلطانه وفي تقوية مركزه، حتى نجح في مسعاه، ولا سيما في عهد "كرب ايل وتر يهنعم"، فلقب نفسه بلقب "ملك"، وأخذ ينقش لقبه هذا في الكتابات، وصار يحمل اللقب الرسمي الذي يحمله ملوك سبا الشرعيون حتى وفاته.
"علهان نهفان"، و "برج يهرجب" "برج يهرحب" "بارج يهرحب". "برج يهامن". أما "علهان نهفان"، فهو الذي تولى الملك بعد أبيه. وقد لقب ب "ملك سبا"، وعاصر "كوب ايل وتر يهنعم" وابنه "فرعم ينهب"، وقد ذكر "نشوان بن سعيد الحميري" إن "علهان اسم ملك من ملوك حمير، وهو علهان بن ذي بتع بن يحضب بن الصوار، وهو الكاتب هو وأخوه نهفان لأهل اليمن إلى يوسف بن يعقوب، علمها السلام، بمصر في الميرة لما انقطع الطعام عن أهل اليمن". ففرق "نشوان" بين "علهان" و "نهفان"، وظن انهما اسمان لشقيقين. وقد دون "الهمداني" صور نصوص ذكر انه نقلها من المسند، وفرق فيها أيضا بين "علهان" و "نهفان"، فذكر مثلا انه وجد "في مسند بصنعاء على حجارة نقلت من قصور حمير وهمدان: علهان ونهفان، ابنا بتع بن همدان"، و "علهن ونهفن ابنا بتع همدان صحح حصن وقصر حدقان..". فعد "علهان" اسما، و "نهفان" اسم شقيقه. وقد ذكر الاسم صحيحا في موضع، ولكنه عاد فعلق عليه بقوله: "وإنما قالوا علهان نهفان، فجعلوه اسما واحدا لما سمعوه في فيهما من قول تبع بن أسعد: وشمر يرعش خير الملوك وعلهان نهفان قد أذكر
وانما اراد إن يعرف واحدا بالثاني، فلما لم يمكنه أن يقول العلهانان.. قال علهان نهفان".

(1/1024)


--------------------------------------------------------------------------------

ويلاحظ إن قراءة "الهمداني" للمسند الأول، هي قراءة قرئت وفق عربيتنا، فجعل "علهن" "علهان" و "نهفن" "نهفان" و "همدن" "همدان"، أما قراءته للمسند الثاني، فهي الأعلام، فان المسند لا يكتب "علهان" بلى يكتب "علهن"، وهكذا بقبة الأسماء.
ونسب "نشوان بن سعيد الحميري" هذا البيت إلى "أسعد تبع"، وعلق على اسم "علهان نهفان".بقوله: "أراد علهان ونهفان فحذف الواو". ف اسم"علهان نهفان" إذن اسما رجلين على رأي هذين العالمين، وعلى رأي عدد آخر من العلماء مثل "محمد بن أحمد الأوساني" أحد من أخذ "الهمداني، علمه منهم. وهو في الواقع اسم واحد لرجل واحد. ولا أدري كيف أضاف "الهمداني" و "الأوساني" وغيرهما ممن كان يذكر أنه كان يقرأ المسند حر ف "الواو" بين "علهان نهفان"، فصيروه "علهان" و "نهفان"، وجعلوهما اسمين لشقيقين.
وقد أدى سوء فهم أهل الأخبار لقراءاتهم للمساند إلى اختراع والد للأخوين "علهان" و "نهفان"، أو ل "علهان نهفان" بتعبير أصح، فصيروه "بتع بن زيد بن عمرو بن همدان"، أو "ذا بتع بن يحضب بن الصوار". وعرف "نشوان" "ذا بتع" بأنه "ذو بتع الأكبر"، وهو ملك من ملوك حمير، واسمه نوف بن يحضب بن الصوار، من ولده ذو بتع الأصغر زوج بلقيس ابنة الهدهاد ملكة سبأ وصيروه "تبعا"، فقالوا: "علهان نهفان ابنا تبع بن همدان". ويظهر أن النساخ قد وقعوا في حيرة في كيفية كتابة اسم والد "علهان"، فكتبوه "بتعا"، وكتبوه "تعبا" وكلا الاسمين معروف شهير، فوقعوا من ثم في الوهم.

(1/1025)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما اسم الوالد الشرعي الصحيح، فهو "يرم أيمن"، كما ذكرت، وأما الاسم المخترع، فقد جاؤوا به من عندهم بسبب عدم فهمهم لقراءة نصوص المسند. فقد وردت في النصوص جملة "علهن نهفن بن بتع وهمدان"، فظن قراء المساند من أشياخ "الهمداني" وأمثالهم "ممن كانوا يحسنون قراءة الحروف والكلمات، الا انهم لم يكونوا يفهمون معاني الألفاظ والجمل في الغالب" أن لفظة "بن" تعني هنا "ابن"، فقالوا: إن اسم والد "علهان نهفان" أو "علهان" و "نهفان" على زعمهم إذن هو "بتع". على حين أن الصحيح، إن "بن" هي حرف جر يقابل "من" في عربيتنا، ويكون تفسير النص: "علهان نهفان من بتع وهمدان" و "بتع" اسم قبيلة من القبائل المعروفة المشهورة.
وأما "بتع" فقد ذكرت أن النساخ هم الذين أخطأوا في تدوين الاسم، وأن "الهمداني" وغيره كانوا قد كتبوه "بتعا"، لا "تبع". ولكن النساخ أخطأوا في الكتابة" فكتبوا اسم "بتع" "تبع" على نحو ما شرحت.
وورد في النص الموسوم ب Glaser 865 اسم "علهان نهفان". وقد رأيت نقله هنا، لأن في ذلك فائدة في شرح اسم أبيه. فقد ورد فيه: "علهن نهفن بن همدن بن يرم ايمن ملك سبأ"، أي "علهان نهفان من همدان ابن يرم ايمن ملك سبأ"، فأنت ترى أن لفظة "بن" المكتوبة قبل "همدن"، أي "همدان" هي حرف جر. أما "بن" الثانية المذكورة قبل "يرم أيمن" فإنهما بمعنى "ابن"، فصارت الأولى تعني أن "علهان نهفان" هو من قبيلة همدان، واما أبوه، فهو "يرم أيمن ملك سبأ"، ولعدم وقوف أولئك العلماء على قواعد العربيات الجنوبية، لم يفهموا النص كل حقيقته.

(1/1026)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ورد اسم "علهان نهفان" في كتابة وسمها العلماء ب Glaser 16، وصاحبها رجل من "يدم" "آل يدوم" اسمه "هعان أشوع"، ذكر أنه قدم هو وأبناؤه إلى الإله "تالب ريمم بعل ترعت" تمثالا ، وذلك لخيره ولعافيته ولعافية أولاده، ولأنه أعطاهم كل أمانيهم وطلباتهم، ولأنه خلصهم ونجاهم في كل غزوة غزوها لمساعدة "مراهمو علهن نهفن بن بتع وهمدن"، أي لمساعدة سيدهم وأميرهم: علهان تهفان من "بتع" من قبيلة همدان، وليمنحهم غلة وافرة وأثمارا كثيرة، وليمنحهم أيضا رضى أربابهم آل همدان وشعبهم حاشد "حشدم"، وليهلك وليكسر وليصرع كل عدو لهم وشانئ ومؤذ. ولم يلقب صاحب هذا النص "علهان" بلقب "ملك"، وإنما استعمل لفظة "مراهمو" "مرأهمو"، أي أميرهم أو سيدهم، ويظهر لي في هذا الاستعمال إن هذا النص قد كتب قبل انتقال العرش إلى "علهان" من أبيه، وهذا أغفل اللقب.
ووجد اسم "علهان نهفان" واسم ابنه "شعرم أوتر" في كتابه دونها "حيوم يشعر" "حيو يشعر"، وأخوه "كعدان"، وذلك لمناسبة بنائهم أسوار بيتهم: "وترن" "وتران"، ولم يشر النص إلى هوية هذا البيت، أهو بيت للسكنى، أم بيت للعبادة اسمه "بيت وترن"، أي معبد وترن، خصصوه بعبادة الإله "عثتر" الذي ذكر اسمه في آخر النص.
وتعد النصوص الموسومة ب CIH 2 وCIH 296 و CIH 305و CIH 312 من النصوص المدونة في أيام "علهان" حين كان قيلا، ولذلك ورد فيها اسمه دون أن تلحق به في جملة "ملك سبأ". أما النصوص الأخرى، فقد كتبت في الأيام التي نصب فيها نفسه ملكا على سبأ ولقب نفسه باللقب المذكور منافسا ملك سبأ الحاكم في مأرب في حكمه، مدعيا على الأقل انه مللك مثله.

(1/1027)

admin
12-27-2010, 12:48 AM
وليس في استطاعتنا التحدث عن الزمن الذي تلقب فيه "علهان تهفان" بلقب "ملك". فلا ندري أكان قد لقب نفسه به حين وفاة والده مباشرة، أم بعد ذلك ? فإذا كان الظن الأول تكون الكتابات المذكورة قد دونت في أيام أبيه، وإذا كان الثاني تكون هذه الكتابات قد دونت في عهد لم يكن "علهان" تمكن فيه من حمل هذا اللقب لسبب لا نعرفه، قد يكون تخاصم الأسرة على الارث، وقد يكون ضعف "علهان" في ذلك الوقت، وخوفه من ملك سبأ الذي كان أقوى منه.
ولا ندري كذلك متى أشرك "علهان" ابنه "شعرم أوتر" "شعر أوتر" معه في الحكم، اذ حصل المنقبون والسياح على كتابات سبئية لقب فيها "علهان" وابنه "شعرم أوتر" بلقب "ملك سبأ" و "ملكي سبا".
وفي هذه الجمل دلالة على أن "شعر أوتر" كان يشارك أيضا في لقبه في أيامه، وانه اسهم معه في إدارة الملك. وأغلب الظن إنه أشركه معه في الحكم لحاجته إليه في تثبيت ملكه في وضع سياسي قلق، إذ كانت الثورات والحروب منتشرة، وكان حكام سبأ وحضرموت وحمير والحبش يخاصم بعضهم بعضا، فرأى "علهان" إشراك ابنه معه في الحكم وتدريبه على الإدارة، وبقي على ذلك حتى وفاة "علهان" وعندئذ صار الملك له وحده، فلقب نفسه بلقب "ملك سبأ".
لقد كان لا بد ل "علهان نهفان" من السعي في عقد معاهدات ومحالفات مع الحكومات والقبائل، لتثبيت الملك الذي ورثه من أبيه، ولا سيما مع الحكومات المناوئة والمنافسة لحكومة "مأرب". ونجد في كتابة همدانية تضرعا إلى الإله "تالب ريام" ليوفق "علهان نهفان" في مسعاه بالاتفاق مع ملك حضرموت لعقد معاهدة إخاء ومودة، حتى "يتآخيا تآخيا تاما"، وذلك في المفاوضات التي كانت تجري بينهما في موضع "ذت غيل" "ذات غيل".

(1/1028)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد نجحت مفاوضات "علهان" مع ملك حضرموت "يدع أب غيلان" في التآخي معه، وفي عقد معاهدة صداقة بينهما، وأفاد من ذلك فائدة كبيرة، اذ أصبحت هذه المملكة التي تقع في نجوب سبأ وفي نجوب الريدانيين والمتصلة اتصالا مباشرا بالحميريين في جانبه، فإذا لم تقم حضرموت بأي عمل حربي ضد أعداء علهان، فإن مجرد وقوفها إلى جابه يفيده كبيرة كبيرة، إذ يفزع ذلك أعداءه، ويضطرهم إلى تخصيص جزء من قواتهم العسكرية للمحافظة على حدودهم مع حضرموت خوفا من هجومها عليهم سنوح الفرص.
وكان فرح "علهان" بنجاح مفاوضاته مع ملك حضرموت، واتفاقه معه كبيرا، وقد نجح فعلا في عقد ذلك الحلف، فتراه يحارب الحميريين ويهاجمهم، يؤيده في ذلك مك حضرموت "يدع أب غيلان"، لقد هاجمهم من الشمال، وهاجمهم الحضارمة من الشرق، فانتصر على الحميريين، في "ذت عرمن" "ذات عرمن" "ذات العرم"، وهو موضع يظهر انه قريب من "ذات العرم"، وربما كان هو نفسه. وهكذا حصل "علهان" على ثمرة شهية من هذا الحلف. وقد كان الحميريون من المقاتلين المعروفين ومن المغيرين على غيرهم، فانتصار "علهان" عليهم هو ذو مغزى عظيم.

(1/1029)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر إن "يدع أب غيلان" ملك حضرموت لم يعمر طويلا، لأننا نقرأ في أحد النصوص إن أحد الهمدانيين كان يتوسل إلى الإله "تألب ريام" إن يمن عليه بعقد حلف بين "علهان" ملك سبا و "يدع ايل" ملك حضرموت. ويظن إن الملك "يدع ايل" هذا، هو الملك "يدع ايل بين"، وهو ابن "يدع أب غيلان"، الذي هو ابن "امينم" "أمين" كما جاء ذلك في النص الموسوم ب ERP. EPIG 4698. وإذا أخذنا بما جاء في النص المنشور في كتاب "نشر نقوش سامية قديمة"، وهو النص المرقم ب"19"، فإننا نستنتج منه إن الملك "يدع أب غيلان"، كان قد توفي في أيام "علهان نهفان" وان الملك "علهان نهفان"، صار يرجو عقد حلف مع ابنه "يدع ايل" الذي ولي في أواخر أيام حكم "علهان" على ما يظهر. ولذلك توسل صاحب النص أو أصحابه إلى الإله "تألب ريام" رب همدان أن يساعده على عقد ذلك الحلف.
وحول "علهان نهفان" أنظاره نحو الحبشة أيضا لعقد معاهدة معها، وقد أشار إلى هذا في كتابة ملكية سجلها هو وابناه "شعرم أوتر" و "يرم أيمن" ونعت كل واحد منها في هذه الكتابة ب"مللك سبا".
وقد جاء في مقدمتها أنه هو وابناه قدموا إلى "تألب ريام بعل ترعت" ثلاثين تمثالا من الذهب، وفضة لا صلاح حرم الإله في معيده "يهجل"، وأصلحوا إصلاحات كثيرة في فنائه، وفي أملاكه، لأنه أجاب طلباتهم، ومن عليهم، ولأنه وفقه في عقد تحالف مع "جدرت" "جدروت" ملك "نجاشي" الحبشة، ولأنه وفق الوفد الذي قام بالمفاوضات، فتمكن من تعظيم اتفاقية بين الطرفين حتمت عليهما التعاون في أيام السلم والحرب لرد كل اتداء يقع على الطرفين، ومحاربة كل عدو يريد سوءا بأحدهما.
وأشير أيضا إلى اسمي "سلحين" و "زررن" "زراران" "زريران"، وقد كانا متحالفين مع "جدرت"، فشملها بذلك هذا الحلف.

(1/1030)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ورد اسم "علهان نهفهان" في كتابات أخرى، ناقصة ويا للأسف، وقد سقطت منها كلمات في مواضع متعددة فأضاعت علينا المعنى. وقد أشير فيها إلى جيوش "علهان" وأعرابها، كما أشير إلى "ردمان" و "مذحيم" و "قتبان" والى أقيال وسادات قبائل ملك الحبشة، والى "ذي ريدان"، وإلى أعراب مللك حضرموت. ويرى "فون وزمن" أن في ذكر أقيال وسادات قبائل مللك "حبشت" الحبشة في هذه الكتابات دلالة على أن الحبش لم يكونوا يمتلكون أرض Kinaidokolttitai ، أي ساحل الحجاز من ينبع ثم ساحل عسير فقط، بل كانوا يمتلكون أيضا الساحل المسيطر على مضيق باب المندب، وقد كان ملكهم إذ ذاك هو الملك "جدرت" "جدرة" المذكور.

(1/1031)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرى "فون وزمن" أن الحلف الذي عقد بين "علهان" ومللك الحبشة، عقد بعد الحرب التي شنها "علهان" ومن ساعده فيها، وهم ملك حضرموت ومللك الحبشة ضد "حمير". وقد كان ابنه "شعرم أوتر" "شعر أوتر" يشارك أباه في الحكم إذ ذاك، ولهذا ذكر في الكتابة. وقد فرض "شعر أوتر" سلطانه على حمير وأخضعها له، وذلك في أوائل أيام حكمه. إما الحبش، فكانوا يمتلكون الأرضين التي ذكرتها وأرض قبيلة "اشعرن" أي "الأشعر". و قد حمد "علهان نهفان" وابناه الإله "تألب ريام" أيضا، لأنه نصرهم وساعدهم في الحرب التي وقعت بينهم وبين "عم انس بن سنحن" "عمى أنس بن سنحان"، وبينهم وبين قبيلة "خولان". وقد توسط أمير اسمه "شابت ابن عليان" "شبت بن علين"، أو من "آل عليان" بين "عمى أنس" و "خولان" الريدانيين لتكوين جبهة واحدة قوية في محاربة "علهان" وقد انضمت إليها قبائل معادية للهمدانيين، واشتبكوا مع جيش "علهان" غير إن الإله "تألب ريام"- كما يقول "علهان"- نصره على أعدائه، فانهزموا وهزم الذين من "حقلان" "الحقل"، ويظهر انهم كانوا قد حاربوا "علهان" أيضا، وخربت حقولهم، وعندئذ جاءوا إلى "علهان" طائعين، وندموا على ما فعلوا، ووضعوا رهائن عنده، هم: "اشمس بن ريام"، أو من "ريام" "آل ريام" و "حارث بن يدم" "حرث بن يدم".
لقد كان حكم "علهان نهفان" في حدود سنة "135 ق. م." على تقدير "فلبي"، أو في النصف الأول من القرن الأخير قبل الميلاد على رأي آخرين. وفي حوالي السنة "60 ق. م." على رأي "البر ايت"، وفي حوالي السنة "160" بعد الميلاد على رأي "فون وزمن". وفي حوالي السنة "85" قبل الميلاد على تقدير "جامه"، أما نهاية حكمه فكانت في حوالي السنة "65" على تقديره أيضا.
ودق جعل "كروهمن" حكم "شعر أوتر" في حوالي السنة "50" أو "60" بعد الميلاد. ومعنى هذا إن حكم أبيه "علهان" يجب أن يكون بعد الميلاد، ليتناسب مع الحكم الذي وضعه "كروهمن" لابنه.

(1/1032)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عثر علماء العربيات الجنوية على عدد من الكتابات ورد فيها اسم "شعرم أوتر"، لقب في بعضها ب "مللك سبأ"، ولقب في بعض آخر ب "مللك سبأ وذي ريدان"، ومعنى هذا إنها أحدث عهدا من الكتابات الأولى، وان "شعر أوتر" كان قد بدأ عهد حكمه حاملا لقب "مللك سبأ"، وهو اللقب الذي تلقب به منذ ايام أبيه، ثم غيره بعد ذلك بأن أضاف إليه جملة هي: "وذي ريدان"، فصار لقلبه في الدور الثاني من حكمه: "مللك سبأ وذي ريدان".
غير أن لدى الباحثين في العربيات الجنوبية نصا وسموه ب Glaser 1371 لقب فيه كل من "علهان نهفان" و "شعر أوتر" ابنه بلقب "ملك سبأ وذي ريدان". ومعنى هذا أن لقب "ملك سبأ وذي ريدان" كان قد ظهر في أيام "علهان" لا في أيام ابنه، وأن "علهان" نفسه كان قد تلقب به مع ابنه في أواخر أيام حكمه. وهناك من الباحثين من يملك في صحة النص، ويرى إن كاتب النص كان هو الذي وضع هذا اللقب، سهوا أو معتمدا، وأن "علهان" لم يحمل هذا اللقب، وان ابيه هو الذي حمله. ومهما يكن من شيء، فإن النص المذكور هو النص الوجد الذي نملكه، لقب فيه "علهان" على هذا النحو.

(1/1033)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن الكتابات التي يجب إن نضيفها إلى أوائل أيام "شعرم أوتر" "شاعر أوتر" كتابة عثرت عليها بعثة "وندل فيلبس"، وقد نشرها "الدكتور خليل يحيى نامي" في "مجلة كلية الآداب" بجامعة القاهرة. وقد بدأت بجملة: "شعرم اوتر ملك سبا بن علهن نهفن مللك سبا"، أي "شعر اوتر مالك سبأ بن علهان نهفان ملك سبا". ولتلقيب "شعر اوتر" فيها ب "ملك سبأ" فقط دون ذكر "ذي ريدان" يجب رجعها إلى الأيام الأولى من حكمه. وقد ذكر "شعر اوتر" فيها انه قدم إلى الإله "المقه بعل أوام" صنما "صلم" تقربا إليه، وتحدث عن حرب وقعت في موضع يسمى "تمعن ?" وعن رجل اسمه "سعد تألب" وعن رجل آخر اسمه "حيوم بن غثريان" "حيم بن غثر بن" " وذكر أن الحرب كانت قعد وقعت في شهر "ذالت الت ذخرف وددال بن حيوم بن كبر خلل خمسن"، أي في شهر "ذي إلالات من السنة الخامسة من حكم وددايل بن حيوم بن كبير خليل"، ثم ذكر بعض الشهور التي وقع فيها القتال. والظاهر إنها قد كانت قد انتهت في مصلحته، وان القائد الذي أمره بمحاربة عدوه كان قد انتصر عليه، لذلك تقدم إلى الإله "المقه بعل، اوام" بنذره، وهو الصنم المذكور. وقد لقب "شعرم أوتر" نفسه في موضع من النص ب "شعرم أوتر ملك سبا وببيتن سلحين وغمدن وادمهوسبا وفيشن"، أي شعر اوتر ملك سبأ وبيت سلحين وغمدان. و****ه "سبا وفيشان". وذكر البيتين أي القصرين "سلحين" و "غمدان"، هو كناية عن الملك. و "سلحين" هو قصر الملوك ومستقرهم في مأرب، و"غمدان" هو قصرهم ومقرهم في صنعاء. وقد أخذت صنعاء تنافس مأرب منذ هذا الزمن حتى حلت محلها في الأخير.
وقد جاءت في النص جملة: " كما أمر المقه أن يحارب حيوم حتى حريب". و "حريب" هي مدينة مشهورة وواد بين بيحان ومأرب. وهي من مواضع حمير. فالحرب يجب أن تكون قد تناولت أرض حمير. وقد كان الحميريون في هذا الزمن يحاربون السبئيين.

(1/1034)


--------------------------------------------------------------------------------

ولدينا نص وسمه العلماء ب CIH 334، وهو نص مهم من الوجهة التأريخية يتحدث عن حرب أعلنها "شعرم أوتر ملك سبأ وذي ريدان" "شعر أوتر ملك سبأ وذي ريدان" عان "العز يلط" مللك حضرموت. ولم يذكر لقب "العز" فيه. وقد ذهب بعض الباحثين إلى انه "العز يلط" "العذ يلط" ابن الملك "عمذخر" "عم ذخر". وقد انضم إلى الحضارمة عدد من القبائل والجنود المرتزقة، ويذكر النص إن الهمدانيين أتباع "شعرم أوتر" تغلبوا على جيوش حضرموت، فانتصرت عليها في موضع "ذت غيلم" "ذات غيل" "ذت غريم" "ذات غراب"، "ذات غ. رم". وبعد هذا النصر عين "شعرم أوتر" أحد رجاله، ويدعى "سعدم احرس بن غضيم" "سعد أحرس بن غضب" قائدا حارسا للحدود. وقد أغار "سعد" هذا بقوة مؤلفة من مئتي محارب من قبيلة "حملان" من المخلصين للملك على أرض "ردمان" فأنزلت بها أضرارا فادحة، ووقعت معارك دموية هلك فيها خلق من الردمانيين. ووصل "شعرم أوتر" نفسه بجيوشه إلى موضع سقطت حروفه الأولى من اسمه وبقي حرفان منه، وهما "... وت" ، لذلك يرى "كلاسر" انهما بقية اسم عاصمة حضرموت مدينة "شبوت" "شبوة"، أو "موت" على رأي غيره، ووصل "شعرم" إلى موضع آخر اسمه "صوارن" "صواران" "صوأرن" "صوارن". وقد عاد "سعد أحرس" بغنائم كثيرة من حروبه هذه وغزواته، شاكرا الإله "تألب ريام بعل ترعت"، إن سره وعافاه وشفاه من جروحه في غزوته المذكورة.
ويظهر أن "صوأرن" هي "صوران" التي ذكرها "الهمداني"، وتعرف اليوم ب "العادية" وهي في حضرموت في "وادي الكسر". ويظهر من ذلك أن جيش "شعرم اوتر" قد وصل إلى قلب حضرموت.

(1/1035)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرى "كلاسر" أن "شعرم أوتر" كان قد استطاع إن ينتصر على بعض قبائل حمير، فانضمت إليه، على حين كانت القبائل الحميرية الأخرى منحازة إلى خصمه "الشرح يحضب"، وأن هذا النزاع الذي أدى إلى نشوب الحرب بينه وبين مللك حضرموت كان بسبب تنافسهما في اقتسام تركة "قتبان". وقد تحارب "شعرم" عند "يريم"، حيث كان خصمه "الشرح يحضب" أو الحضرميون، قد هاجموا هذه الجبهة، على حين قام قائده "سعد" بالهجوم على ردمان الذين أرادوا اكتساب الفرص بالمباغتة للحصول على غنائم، فهاجمهم "سعد" وكبدهم خسائر فادحة.
ويظهر من دراسة النص المتقدم إن الملك "شعر اوتر" كان قد وجه جيشا مؤلفا من سبئيين ومن حميريين ومن قبائل أخرى إلى ارض حضرموت للقضاء على جيشها والاستيلاء عليها ولا سيما القسم الشرقي اقليم "ظفار". واستطاع جيشه إن ينزل خسائر كبيرة بقوات "العز" المرتزقة وبجيشه النظامي، الذي كان يحارب خارج حضرموت، بدليل ورود اسم موضع "ذت غيلم" في النص. وموضع "ذت غيلم"، أي "ذات غيل" الذي نشبت فيه معركة بين الجيشين، هو مكان في أرض قتبان، وفي "وادي بيحان". ثم عاد فأنزل بجيش حضرموت خسارة أخرى، وذلك حين أراد جيش "العز" مباغتة جيش "شعر اوتر" وهو في معسكره، ولكن يقظة صاحب النص الذي كان يحرس الملك وجيشه وهو على رأس قوة مؤلفة من مئتي محارب من حملان، أفسدت خطة الهجوم، واضطر جيش "العز" إلى التراجع، فتعقبه صاحب النص ومحاربوه، ولكنه فوجئ بهجوم "الردمانيين" محاولين مباغتة الجيش من المؤخرة، فاشتبك معهم فأصيب بجرح في أثناء القتال، ولكنه تمكن من ذلك من صد المهاجمين ومن الرجوع سالما إلى منزله معافى، ولذلك قدم إلى إلهه الحمد والشكر، لأنه عافاه ونجاه ونصره 1.

(1/1036)


--------------------------------------------------------------------------------

وقبل عودة صاحب النص إلى وطنه سالما، كان قد رافق ملكه في حملته على بقية الأرضين التابعة لحكم الملك "العز"، فذكر انه رافقه في حملته على مدينتي "... وت" و "صوارن"، وقد تمكن جيش الملك "شعر أوتر" من الانتصار على الحضارمة في هذين المكانين. وقد قرأ بعض الباحثين اسم المدينة الأولى "شبوت"، وقرأها بعض آخر "رسوت"، وزعموا إنها "ريسوت"، وهي مدينة معروفة في الجنوب الشرقي من حضرموت. وأما "صوأرن" "صواران" فهي على مسافة "115" كيلومترا إلى الشرق من شبوة.
وقد تمكن جيش الملك "شعر أوتر" من الانتصار على جيش "العز" ومن الاستيلاء على العاصمة "شبوت" "شبوة". ونجد خبر هذا النص في النصين الموسومين ب Jamme 636و Jammm 637 وفي نصوص أخرى. والنص الأول يحدثنا بأن صاحبه وقد سقط اسمه منه بسبب تلف أصاب مقدمته، قد حمد ربه "المقه" وشكره اذ من عليه وأغدق نعمه عليه وهو في حضرموت مع جيش سيده وملكه "شعر أوتر" "مللك سبأ وذي ريدان"، الذي حارب حضرموت واستولى على "شبوة" التي لم تمتثل أوامر الملك وقاومته، ولأنه أي ربه "المقه" نصر ملكه ووفقه في هذه الحرب فعاد سالما ظافرا إلى المدينة "مأرب" بالأسلاب والغنائم من ماشية وأموال وأسرى، مما سر الملك ورعيه، ولأنه من علية فرزقه أولادا ذكورا.
وأما النص الثاني، وهو النص Jamme 637، فقد حمد صاحبه ربه "المقه" اذ وفقه ومن عليه فحصل على غنائم من مدينة "شبوة" التي قاومت الملك "شعر أوتر" فاكتسحها، فقدم لمعبده: "معبد أوام" تمثالا تعبيرا عن شكره له واعترافا بمننه عليه. فيظهر منه إن هذا الرجل، واسمه "ظبنم أثقف بن حلحلم"، كان نفسه في جملة من دخل مدينة شبوة من جيش "شعر أوتر"، فحصل على أسلاب وغنائم جعلته يحمد إلهه عليها ويشكره ويقدم إليه ذلك التمثال تعبيرا عن تقربه إليه.

(1/1037)


--------------------------------------------------------------------------------

وعثر المنقبون على نص مهم آخر رقم بJamme 632 ، يفيد أن جيش "شعر اوتر" استولى على "شبوة" وعلى مدينة "قنا" ميناء حضرموت الرئيسي في ذلك العهد، وان صاحبي النص "حمعثت ارسف بن رابم" و "مهقبم بن وزعان"، وهما "بدرجة "مقتوى"، أي درجة قادة الجيش الكبار، في جيش "اسدم اسعد"، الذي هو من بني "سأرن" "سأران" و "محيلم" كانا قد تقربا إلى الإله "المقه ثهوان" بأربعة تماثيل وثور، وضعوها في معبده المخصص لعبادته المسمى "معبد أوام"، تعبيرا عن حمدهما وشكرهما له، إذ من عليهما واسبغ عليهما نعمه، وافاض عليهما الغنائم والأموال وأعاد لمجدهما ورئيسهما "أسد أسعد" من بني "سأران" سالما غانما من كل المعارك التي خاضها في سبيل سيده الملك "شعر أوتر" "ملك سبأ وذي ريدان" يصحب الغنائم والأموال والماشية، ولأنه أغدق عليهما أيضا الغنائم الوافرة التي سرت خاطرهما وقد حصلا عليها في جملة ما حصلوا عليه من "شبوة" ومن مدينة "قنا"، وقد سألا الإله "المقه" أن يديم بركته عليه وعلى سيدهما "أسد اسعد"، وأن يبعد عنهم شر الأعداء.
وفي النص الموسوم ب Jamme 741 وبJamme 756، أن شخصا اسمه "هيثع بن كلب ذكرم" السبئي، وهو من **** "آل نعم برل" و"آل حبت" "آل حبة"، كان قد نذر نذرا للإله "المقه ثهوان"، بأن يقدم له تمثالين بعضها في معبده "أوام"، اذا من عليه ووفقه وأعاده سالما من "شبوة" ومن البحر، فلما أجاب دعاءه فأعاده سالما معافى، قدم النذر ووضعه في ذلك المعبد، وقد سأل ربه أن يديم نعمه عليه ويبارك فيه ويسعده ويظهر أن لهذا النص علاقة بالنصوص المتقدمة التي تتحدث عن غزو جيش "شعر أوتر" لحضرموت، وأن صاحبه كان في جملة من اسهموا فيها.

(1/1038)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من جملة: "بن شبوت وبن بحرن"، ومعناها "من شبوة ومن البحر"، إن جيش الملك "شعر أوتر" كان قد هاجم الحضارمة من البر ومن البحر، وان الذين استولوا على مدينة "قنا" كانوا قد هاجموها من البحر. ولم يذكر النص المكان الذي أبحر منه جيش "شعر أوتر" للاستيلاء على السواحل الجنوبية من حضرموت، ولا بد من أن يكون ذلك المكان من الأمكنة التابعة لحكم الملك "شعر أوتر" أو لحكام كانوا محالفين له وعلى صلات حسنة به. وللنص الموسوم ب Geukens I صلة بهذه الحرب وبانتقام جيش "شعر أوتر" من "بني ردمان" الذين أرادوا مباغتة جيشه من المؤخرة وتدميره. ويظهر منه إن القائد "أسدم أسعد" "أسد اسعد"، الذي كأن معسكرا مع الجيش في مدينة "القاع" ومعه قائد آخر هو "ربيبم أخطر" "ربيب أخطر"، خرجا من هذه المدنية مع جيش الملك "شعر أوتر" لمحاربة "قتبان" و "ردمان" و "مضحيم" و "اوسان"، وانضمت إليهما قوة من "بني بكيل"، قبيلة القائدين وبقيا مع الملك يحاربون معه حتى بلغ مدينة "قنا". ولما رجعا إلى وطنهما، رجعا بغنائم كثيرة وبأموال طائلة حتى وصلا إلى مدينة "حرمتم" "حرمت" "حرمة"، ولما وصل "أسد اسعد" إلى موطنه، وجد إن الأحباش كانوا اغتنموا فرصة انشغال جيش "شعر أوتر" بمحاربة "العز" فأغاروا عليه وأصابوه بأضرار كبيرة. ويظهر انهم أغاروا عليه وعلى أرضين أخرى كانت تابعة للملك "شعر أوتر"، في إئناء هجوم الردمانيين على مؤخرة جيش "شعر" ولعل ذلك كان باتفاق قد تم بينهم وبين بني ردمان. ومهما كان الأمر فان تحرش الأحباش هذا ب "شعر أوتر" دفعه إلى الانتقام منهم ومحاربتهم.

(1/1039)


--------------------------------------------------------------------------------

ونجد نبأ هذه الحروب في النص الموسوم ب Jamme 631 إذ يخبرنا القائد "قطبان أوكان" "قطبن اوكن"، وهو من "بني جرت" أقيال عشيرة "سمهرم يهولد"، بأنه قدم إلى الإله، "المقه ثهوان" تمثالين وضعهما في معبده "معبد أوام"، حمدا له وشكرا لأنه من عليه بنعمته، فمكنه من التنكيل بمن تجاسر وتطاول فأعلن الحرب على "شعر أوتر" ملك سبأ وفي ريدان، ولأنه أعانه فقتل من أعداء الملك عددا كبيرا، ولأنه أنعم عليه بأن أعانه في رد عادية المعتدين الذين أعلنوا حربا على الملك من البحر ومن الأرض "بن ذبحرم ويبسم"، ومكنه من تكبيدهم خسائر كبيرة ومن أسر عدد كبير منهم ومن الاستيلاء على غنائم كبيرة مهنهم، ولأنه ساعده وأيده في مهمته التي كلفه سيده "شعر أوتر" إياها، وهي مهاجمه أرض الحبشة "أرض حبشت"، و "جدرت" ملك "حبشت"، أي ملك الحبشة وأكسوم، ولأنه أعاده سالما مع كل من اشترك معه في المعارك أو قام بالواجبات العسكرية التي عهد إليه إن يقوم بها ضد النجاشي "نجشين"، ولأنه ساعده وأعانه "هعن" في كل المعارك التي وقعت بين مدينة "نعض" ومدينة "ظفار"، التي تقدم نحوها "بيجت" "ب ي ج ت" ولد النجاشي "نيجش" ومن كان معه من قوات جيشه، فنزل بها وتمكن منها، وعندئذ أعانه "المقه" ربه على الحبش بأن أوحى إليه بأن يباغتهم ليلا، فباغتهم وانتزع "قتروعد" منهم، وهو جزء من مدينة "ظفار"، فذعر الحبش والتجأوا إلى حصن في وسط "ظفار" فتحصنوا فيه وأخذوا يقاومون منه. غير انهم لم يتمكنوا من الاحتماء به طويلا في مقاومة قوات سبأ، لأن الإله "المقه" عزز جيش "قطبان أوكان" بقوات "لعززم يهنف يهصدق" "ملك سبأ وذي ريدان" التي كانت قد وصلت إلى هذه الجبهة واتصلت بقواته. وعندئذ حاصرت الأحباش وقتلت منهم ونهكتهم، ثم اتفق القوم في اليوم الثالث من الحصار على أن يباغتوا الحبش ليلا، فيهاجمهم قوم من ذمار وجماعة من الفرسان وعشائر من "بني ذي ريدان"، ويأخذونهم على غرة،

(1/1040)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد نجحت هذه الخطة وبوغت الحبش وقتل منهم أربعمئة جندي، قطعا رؤوسهم، وفي اليوم الثالث أيضا ترك "قطبان أوكان" جبهة "ظفار" وتوجه ليعقب فلول الحبش إلى أرض المعافر "معفرم". فلما أدركهم قتل، قوما منهم واتصل بهم، فاتجه الباقون هاربين إلى معسكراتهم، وفي اليوم الثاني من هذا الالتحام تداعى الأحباش فتركوا منطقة ظفار، وذهبوا إلى المعاهر "معهرتن".
وقد أنهى "قطبان أوكان" صاحب النص نصه بالتوسل إلى الإله "المقه ثهوان" أن يمد عمر سيده "لحيعثت يرخم" "ملك سبأ وذي ريدان" وضعه الصحة والقوة والمعرفة، وان يقهر أعداءه وخصومه، وان يبارك له ولأهله، ويمنحه أثمارا وافرة وغلة كثيرة في موسمي الصيف والخريف وسيارك في زرع أرضه وأرض عشيرته في الصيف وفي الشتاء.

(1/1041)


--------------------------------------------------------------------------------

ويتبين من هذا النص انه ما كاد جيش "شعر أوتر" ينتصر على حضرموت وعلى الردمانيين حتى فوجئ بالحبش يشنون حربا عليه ويتصدون له. فكلف الملك القائد "قطبان أوكان" إن يسير إلى من عصى وتمرد وخالف أوامر الحكومة للقضاء عليه، ثم يسير على رأس قوة إلى أرض الحبشة: يحارب بها "جدرت" ملك الأحباش والأكسوميين "عدى أرض حبشت ب عبر جدرت ملك حبشت واكسمن" فنفذ القائد أمره وأتم الخطط العسكرية التي وضعت له، ثم عاد مع جنده سالما، ولم يشرح النص كيف بلغ القائد أرض الحبشة، وهل قصد بأرض الحبشة الحبشة المعروفة والسواحل الإفريقية المقابلة لبلاد العرب، أو قصد موضعا آخر في العربية الجنوبية? ولكن الذي يقرأ النص ويدقق في جملة ويوفق بين معانيها، يخرج بنتيجة تجعله يرى إن المراد من جملة "على أرض الحبشة إلى جدرت ملك الحبش والأكسوميين"، أرض الحبش في إفريقية، لأن الملك "جدرت" ملك الحبشة وأكسوم، لم يكن يقيم في بلاد العرب، ولكن في إفريقية، فأمر "شعر أوتر" قائده بالسير إلى أرض الحبشة إلى "جدرت"، معناه التوجه إلى إفريقية لمحاربة النجاشي "جدرت" 0 أما "الحبش" الذين كانوا في بلاد العرب، فقد كانوا تحت حكم "بيجت ولد النجاشي"، فلا يمكن أن تكون الأرض المحتلة هي المقصودة. والظاهر إن القائد المذكور ركب البحر مع جنوده من "الحديدة"، وتوجه منها إلى السواحل الإفريقية فنزل بها، وباغت أهلها بغزو من وجده أمامه، ثم جمع كل ما ظفر به من أموال ومن أناس أسرهم وعاد بهم وبالأموال مسرعا إلى بلاده، فاشترك في بقية المعارك التي ذكرها في نصه، وفي جملتها محاربة الحبش الذين تحت إمرة "بيجت".

(1/1042)

admin
12-27-2010, 12:48 AM
و "معاهر" على ما يظهر حصن "وعلان" في "ردمان". وقد استدل "فون وزمن" من عدم تدوين اسم الملك "شعر أوتر" في نهاية النص ومن ذكر اسم الملك "لحى عثت يرخم" "ملك سبأ وذو ريدان" فيه، تقربا إليه وتيمنا به، على وفاة "شعر أوتر"، وتحكم الملك "لحيعثت" عند تدوين هذه الكتابة.
وقد انتهت المعارك التي جرت مع الحبش النازلين في السواحل الجنوبية من جزيرة العرب بطردهم عن "ظفار" المدينة التي احتلوها، وصاروا يهاجمون منها جيش "شعر أوتر"، وطردوا من كل أرض "معافر"، ولكنهم ذهبوا إلى "معاهر" "معهرتن" حيث بقوا هناك.
ويظهر إن الأحباش ومن انظم إليهم من قبائل باغتوا حكومة "شعر أوتر" بالهجوم عليها من البحر والبر "بن ذبحرم ويبسم": وامتدت رقعة الهجوم من مدينة "نعض" إلى مدينة "ظفار". ويظهر أن "بيجت ولد النجاشي" كان قد تلقى إمدادا من إفريقية، فصار يهاجم بها السواحل، ويعبئ بها سفنه لمهاجمة الأماكن البعيدة عن منطقة احتلاله. ولم يتحدث النص عن مصيره بعد هزيمة جيشه من ظفار ومن أرض "معافر"، والظاهر أنه بقي في ارض "المعاهر" "معهرت" "معهرة"، وأن السبئيين لم يزيحوا الحبش عنها، فبقوا معسكرين ومتحصنين في هذه الأرض وفي الحصن.

(1/1043)


--------------------------------------------------------------------------------

ولدينا نص وسم ب Jamme 633 يفيد إن صاحبه واسمه "ابكرب احرس" "أبو كرب أحرس"، وهو من بني "عبلم" و "يحمذيل" "يحمد آل" "يحمد ايل" كان قد تولى امر الحميريين المستقرين الذين صاروا بين جيشين وانه قام بواجبه، غير انه أصيب بمرض صار يعاوده، وأنه لما عاد من "لحج" قدم تمثالا إلى الإله "المقه ثهوان" وضعه في معبده: "معبد اوام" وذلك ليحفظه من كل سوء، لأنه ساعده على تحمل مرضه، وأعاده إلى دياره من "لحج"، وقد قدم نذره هذا في شهر "دنم" من سنة "أيكرب بن معد كرب" "أبو كرب بن معد يكرب بن فضحسم". وليس في هذا النص شيء عن هوية الجشين، ويرى بعض الباحثين أن المراد بذلك إن الحميريين المذكورين كانوا في ذلك العهد قد صاروا بين فرقتين من فرق الجيش، جيش "شهر أوتر": فرقة مؤلفة من محاربين سبئيين، وفرقة مؤلفة من محاربين حميريين، وأن الحكومة عينت صاحب النص على الأهلين الحميريين الذين صاروا بين الجيشين، ليضمن تعاونهم وتآزرهم مع الجيشين، وييسر لهم الطعام والماء. ولم يشر النص إلى قتال أو حرب يومئذ، ولكن يظهر أن وجود الفرقتين هناك كان بسبب وجود حالة غير طبيعية، ولعلها حالة الحرب التي أتحدث عنها.

(1/1044)


--------------------------------------------------------------------------------

ويحدثنا القائد المتقدم، أي "ايكرب احرسر"، في نص آخر له يتألف من "46" سطرا، وسمه الباحثون ب Jamme 635 وهو من النصوص التي دونها وسجلها "جامه" Jamme أحد أعضاء البعثة الأمريكية لدراسة الإنسان، بأنباء معارك واضطرابات وانتفاضات قام بها القبائل ضد سيدها الملك "شعر أوتر" في الجنوب وفي الشمال، في البحر وفي البر "يبسم"، اشترك فيها هذا القائد، وقد حمد الإله "المقه" بعد عودته منها كلها سالما معافى، لأنه هو الذي حرسه وحماه وحفظه، واعترافا بنعمه هذه عليه، قدم إليه تمثالا وضعه في معبده المخصص بعبادته المسمى "معبدا أوام". وقد توسل إلى إلهه "المقه" بأن يديم نعمه عليه وعلى ملكه "شعر أوتر" ملك سبأ وذي ريدان، وان يبعد عنه كل أذى وشر، وان يهلك أعداءه وحساده.
وذكر القائد بعد هذه المقدمة إن في جملة الحروب والمعارك التي خاضها في سبيل الملك، حروبا خاضها مع "اشعرن" "اشعران" و"بحرم" ومن انظم اليهما من ناس، وحروبا خاضها في منطقة خلف مدينة "نجران" "نجرن"، لمحاربة مقاتلي الحبش "حبشن" ومن كان يؤازرهم ويساعدهم. ويظهر من هذا النص إن نجران كانت في أيدي الحبش في هذا الزمن.
وكانت منازل "الأشاعرة" الأشاعر "الأشعر" "الأشعريون" في القديم منتشرة على الساحل الغربي من "جيزان" إلى "باب المندب" أما في أيام "الهمداني"، فقد كانت في أرض "معافر" المعافريين.
وأما "بحرم" "بحر"، فقد كانت عشيرة من عشائر "ربيعة" "ربيعت" "ربعت".

(1/1045)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من دراسة هذا النص إن الملك "شعر أوتر" كان قد هاجم أولا أرض "اشعرن" "أشعران"، ثم هاجم "بروم"، وكان القائد صاحب النص يحارب معه. وبعد إن انتهى من قتالهما انتقل بجيشه للقتال في منطقة "نجران" حيث كان الحبش قد تجمعوا فيها، فقاتلهم وقاتل من كان معهم. ثم نقل القتال إلى الغرب إلى "قريتم" "قرية" وهي "لبني كاهل" "كهل"، "قريتم ذت كهلم". فتحارب جيش "شعر أوتر" مع سيد المدينة "بعل هجرن"، أي مع صاحب مدينة "قرية"، وتغلب عليه، وحصل على غنائم كثير ة منها. ثم حارب "ربيعة" ثور ملك "كدت" "كدة" كندة وقحطان "بعل ربعت ذ الثورم ملك كدت وقحطن".
ويظهر من هذا النص إن "ربيعة "" "ربعت" كانت من القبائل المعروفة يومئذ، وكانت تابعة لحكم "ثور"، "مللك كندة وقحطن". وقد انتصر على جميع من حاربهم من أهل "قريتم" ومن اتباع الملك "ربيعة" ملك كندة وقحطان، واستولى على غنائم كثيرة، في جملتها خيول وأموال طائلة، كما أخذ عددا من الأسرى.
وقد كاف الملك "شعر أوتر"، صاحب النص بعد المعارك المذكورة أن يتولى قيادة بعض "خولان حضلم" "خولان حضل"، وبعض أهل نجران وبعض الأعراب، لحرب المنشقين من بني "يونم" "يوان" ومن أهل "قريتم" وقد حاربهم "ابكرب احرس" "أبو كرب أحرس" عند حدود "يكنف ارض الأسد مجزت مونهن ذ ثمل" أرض "الأسد مجزت مونهان" الذي هو صاحب "ثمل" "ثمال". ثم عاد مع جيشة كله سالما غير مصابين بأذن.
ويظن إن المراد من "بني يونم"، "بني يوان"، الياوانيين، اي من "يونم" "يوان" وهم قوم من اليونان، استوطنوا في جزيرة العرب، وقد ورد اسمهم في النص: Glaser 967. ويظهر انهم كانوا يحالفون "قريتم" في هذا العهد وقد جاؤوهم ليساعدوهم على الملك "شعر أوتر".

(1/1046)


--------------------------------------------------------------------------------

وإما "الأسد مجزت مونهن"، فإسم علم على شخص، يظهر انه كان إن يحكم أرض "ثمل" "ثمال". ويظهر انه لم يكن يلقب نفسه ب "ملك"، بدليل عدم ورود هذا اللقب بعد اسمه في النص. وقد كان كذلك من المخالفين ل "شعر أوتر" ومن المعارضين له.
ويظهر من تكليف الملك قائدة أبا كرب احرس "أبكرب أحرس" إن يتولى بنفسه قيادة هذه القوى، إن الملك قد وجد فيه حنكة عسكرية وجدارة جعلته يثق به، فكافأه بتسليمه قيادتها إليه.
ويظهر إن غنائم السبئيين من "قريتم" "قرية"، كانت كثيرة جدا، اذ نجد إشارة إليها في نصين آخرين. ففي أحدهما شكر وحمد ل "المقه"، لأنه من على عبده "شحرم" "شحر" من "بني حذوت" "حذوة" و "رجلم" "رجل"، وأعطاه غنائم كثيرة من غنائم تلك المدينة، جعلته سعيدا، وفي النص الثاني شكر لهذا الإله كذلك، دونه "قشن أشوع" وابنه "ابكرب" "أبوكرب" وهما من "صعقن" "صعقان"، لأنه من عليهما فأغناهما بما غنموا من "قريتم" قرية، اذ كانا يساعدان سيدهما "شعر أوتر"، ولذلك قدما إليه نذرا: تمثالا، تعبيرا عن حمدهما له، وليمن عليهما وعلى سيديهما: "شعر أوتر" وأخيه "حيو عثتر يضع" "ملكي سبأ وذي ريدإن".
ولدينا نص وسم ب Jamme 640 يتحدث عن مساعدة "شعر أوتر" "العز" مللك حضرموت في القضاء على تمرد قبائل حضرموت وثورتهم عليه. ولم يذكر النص أسباب ذلك التمرد، والظاهر إنها تمردت على ملكها، لأنه تعاون مع "شعر أوتر" الذي فتح حضرموت واخذ جيشه منهو غنائم كثيرة، وانزل بالحضارمة خسائر فادحة، فغضوا عليه لتعاونه ه ملك سبأ.
وقد جاء في هذا النص اسم مدينة دعيت "هجرن اسورن"، اي مدينة أسورن "أسوران"، ويظن إنها مدينة "أوسرة" Ausra، التي ذكرها بعض الكتبة اليونان، وهي موضع "غيظت" "غيظة" التي تقع على مسافة "220" كيلومترا جنوب غربي "ريسوت".
وقد ورد اسم "حيو عثتر يضع" في هذا النص، وهو شقيق الملك "شعر أوتر"، غير انه لم يضع بعده لقب "ملك سبأ وذي ريدان".

(1/1047)

admin
12-27-2010, 12:50 AM
ولدينا نص آخر دونه رجل اسمه "ربيعت" "ربيعة"، ذكر فيه انه قدم تمثالا إلى الإله "المفه"، لأنه إعاده سالما معافى من كل المعارك التي اشترك فيها والحرب التي شنها، وقد سأل إلهه إن يحفظه وان يمن عليه وعلى سيديه "شعر أوتر" و "حيو عثتر يضع". ولم يذكر النص في شيئا عن تلك المعارك وعن المواضع التي دارت فيها رحاها.
وبعد النص: CIH 398 من النصوص التي تتحدث عن تألريخ سبأ، اذ تحدث عن "شعر أوتر"، على انه "ملك سبأ وذي ريدان" ثم تحدث في الوقت نفسه عن "الشرح يحضب"، وعن اخيه "يأزل بين"، وقد لقبهما ب "ملكي سبأ وذي ريدان". ومعنى هذا ان الحكم سبأ وذي ريدان كان ل "شعر أوتر" وللأخوين: "الشرح يحضب" وشقيقه "يأزل بين" ،وهما من أسرة همدانية أخرى سأتحدث عنها في موضع آخر, وقد توسل صاحب النص إلى آلهته بأن تمن عليهما بالصحة والعافية والنصر.
وقد أثار هذا النص جدلا بين علماء ا العربيات الجنوبية في معاصرة "علهان نهفان" ل "فرعم ينهب"، وفي حكم "شعر أوتر" و "الشرح يحضب" وشقيقه، وتقلب كل واحد منهم بلقب "ملك سبأ وذي ريدان" فذهبوا في ذلك مذاهب، إذ ليس من المعقول إن يكون مقر حكم "شعر أوتر" و "الشرح يحضب" وأخيه في "مأرب"، ويكون حكمهم حكما مشتركا. فبين أسرة "شعر اوتر" وأسرة "الشرح" تنافس قديم، لا يمكن إن يسمح بحكم هؤلاء الثلاثة من مدينة مأرب، وبحملهم لقبا واحدا عن رضى واتفاق.

(1/1048)


--------------------------------------------------------------------------------

وذهب بعضهم إلى إن هذا النص لا يشير إلى حكم الأخوين، في أيام حكم "شعر اوتر"، وإنما يشير إلى انهما حكما بعده، وإذن فلا غرابة في القضية، اذ لم يكن الحكم مشتركا وفي زمن واحد. وذهب بعض آخر إلى إن حكم "الشرح" وشقيقه كان مستقلا عن حكم "شعر اوتر"، وان الأخوين لم يكونوا مرتبطين ب "شعر اوتر" بأي رباط، وإنما كانا يعدان أنفسهما المللكين الشرعيين، وان الحكم إنما انتقل إليهما من أبيهما "فرعم ينهب" وذهب آخرون إلى إن "فرعم ينهب" كان قد وضع أساس الحكم والملك في منطقة تقع غرب"مأرب" وان "الشرح يحضب" و "يأزل بين"، خلفاه على ملكه، واهتبلا الفرص للاستيلاء على عرش سبأ، حتى اذا سنحت لهما، لقبا أنفسهما بلقب "ملك سبأ وذي ريدان"، وذلك بعد اختفاء ذكر "شعر اوتر" وأخيه " "حيو عثتر يضع"، وصارا بذلك ملكي سبأ وذي ريدان، وإنما كان حكمهما على جزء من تلك المملكه.
وقد جاء اسم "شعر اوتر" مع لقبه "ملك سبأ وذي ريدان" في النص الموسوم ب Jamme 638، وقد سقطت الأسطر الأولى فيه فلم يعرف مدونه وصاحبه. وقد ذكر فيه اسم والد الملك، وهو "علهان"، وقد لقب فيه بلقب "ملك سبأ" فقط.
وقد ثبت الآن من نصوص عثر عليها من عهد غير بعيد إن "حيو عثتر يضع" كان شقيقا ل "شعر أوتر"، وانه كان قد شارك شقيقة في التلقب ب "ملك سبأ وذي ريدان". ويظهر إن ذلك كان بعد مدة حكم فيها "شعر اوتر" حكما منفردا، أي من غير مشاركة أخيه له في اللقب، بدليل ورود اسمه في النص Jamme 640 بعد اسم أخيه ،ولكن من غير تدوين أي لقب له.

(1/1049)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر في هذا النص اسم "عبد عثتر بن موقس"، وهو من سادات "خولان"، وقد هاجمته جيوش "شعرم اوتر" وهزمته، وكبدته خسائر، وكان قد هدم وخرب معبدا لعبادة "المقه" في موضع "اوعلن" "اوعلان" "محرم بعل اوعلن"، فعد صاحب النص هذه الهزيمة عقابا وجزاء من الإله "المقه" انزله عليه لفعلته هذه بمعبده. فيظهر من هذا النص إن "شعرم اوتر" كان قد اغار على الخولانيين أو على القسم الذي يترأسه "عبد عثتر" منهم، وأصابهم بضرر فادح، ففرح بذلك صاحب النص، لتطاول "عبد عثتر" على معبد "المقه" إله السبئيين واستخفافه به. ولم يذكر صاحب النص السبب الذي حمل "شعرم اوتر" على مهاجمة سيد خولان، اذ عزاه إلى انتقام الإله "المقه" منه، فكأن هذا الإله هو الذي سلط "شعرم اوتر" عليه، لينتقم منه جزاء فعلته المنكرة بمعبده، ولعل "عبد عثتر" كان قد تجاسر على "شعرم اوتر" فهاجم أرضه، أو انه خاصمه وعارضه أو عصى امرأ له، فهاجمه "شعرم اوتر" وانتقم منه.
واختم صاحب النص المذكور نصه بتقديم حمده وشكره لإلهه، اذ من عليه فمكنه من الدفاع عن تربة بلاده، وأغدق عليه نعماءه فنحه غلة وافرة وثمارا كثيرة. وذلك في أيام سيديه الملكين، وفي عهد "القول" القيل "رثد أوم يزد بن حبب". وفي أيام "بني عنن" "بني عنان" وشعب "صرواح"، ثم ذكر أسماء الآلهة.
ويظهر من النص و صاحبه كان ممن اشتركوا في الحروب، ولعله كان من قادة الجيش فيها، أو من سادات القبائل الذين أسهموا مع قبيلتهم فيها. وكان في جانا "الشرح"، وأخيه "يأزل" وقد يكون ذكر "شعر اوتر" وذكر لقبه معه على سبيل الحكاية، لا الاعتراف بكونه ملكا على سبأ وذي ريدان.

(1/1050)


--------------------------------------------------------------------------------

وسجل رجل من أتباع الملك "شعرم أوتر" انه قدم إلى الإله "عزى" حصانا وصورة من الذهب، لأنه أنقذ حياته، ونجاه في الحروب التي خاضها فيها مع سيده الملك، ولكي يمن الإله عليه، ويبارك فيه وفي سيده الملك. ويتبين من ذلك أن صاحب هذا النص كان من المحاربين الذين قاتلوا في صفوف "شعرم أوتر".
وذكر "شعرم اوتر" في كتابه دونها قوم من "بني تزأد"، وقد حمدوا فيها الإله "المقه ثهون بعل رثون" ومجدوه، وقدموا نشرا إليه. ثم ذكروا "شعرم أوتر وحيو عثتر يطع" "يضع" ملكي سبأ وذي ريدان"، وهي جملة يفهم منها أن "حيو عثتر يطع" "حيو عثتر يضع" "حيو عثتر يثع" كان ملكا أيضا، وكان يلقب أيضا ب "ملك سبأ وذي ريدان". ويرى "هومل" أن "حيو عثتر" هذا كان أحد أولاد "يرم أيمن بن علهان نهفان"، فهو ابن أخي "شعرم أوتر" وكان له في شقيق سقط الشق الأول من اسمه، وبقي الشق الثاني منه، وهو "أوتر". ويرى أن من المحتمل أن يكون الاسم الكامل "شعرم أوتر"، أي مثل اسم عمه.
وجعل "موردتمن" و "ميتوخ"، "حيو عثتر"، ابنا من أبناء "شعرم اوتر"، فوضعاه بعده في الحكم. وقد شارك ابناه الحكم في حياته، فلقب على العادة الجاريه ب "ملك سبأ وذي ريدان". وإما اسم "شعرم اوتر"، الذي سقط القسم الأول منه،وهو "شعرم" من الكتابة، فانه اسم الأب لا الشخص الذي ذهب "هومل" اليه.
وورد اسم "شعرم أوتر" وبعده اسم "حيو عثتر يضع" في كتابة أخرى يدعى صاحبها "ربيعت" "ربيعة"، وقد قدم إلى الإله "المقه" تمثالا من الذهب، لأنه أعاده سالما من غزوة غزاها، ومن حرب حضرها في سبيل "شعرم أوتر"، وتضرع إلى "المقه" أن يديم نعمته عليه، ويمد في عمره، ويبارك فيه وفي سيديه" "شعر أوتر وحيو عثتر يضع".

(1/1051)


--------------------------------------------------------------------------------

ولما كأن صاحب هذه الكتابة من السبئيين، وكنا قد وجدنا كتابات أخرى حمدت وذكرت "شعرم أوتر" بخير، وكان أصحابها من السبئيين كذلك فإننا نستنتج من ذلك كله إن قسما من السبئيين كانوا منحازين إلى هذا الملك، وانهم كانوا يعترفون به ملكا على سبأ وذي ريدان وان "الشرح يحضب" لم يكن يحكم كل سبأ والقبائل التابعة للسبئيين.
وذكر اسم "شعرم أوتر" في نصين آخرين قصيرين، هما بقايا نصين. ورد في أحدها اسم "ظفار"، وقد أهمل فيه لقبه. إما النص الثاني فقد دون عند بناء بيت، وقد لقما فيه ب "ملك سبا وذي ريدان".
ويظهر إن "شعر أوتر" قد تمكن من بسط سلطانه على أكثر حكومات العربية الجنوبية وعلى قبائلها، ما خلا المناطق التي كان ت في أيدي الحبش، وهي الأرضون الغربية من اليمن والواقعة على ساحل البحر الأحمر.
لقد جعل "جامه" حكم "شعر اوتر" فيما بين السنة "65" والسنة "55" قبل الميلاد، وجعل نهاية حكم شقيقه "حيو عثتر يضع" في السنة "50" قبل الميلاد، وهي سنة انتقال الملك من أسرة "يرم أيمن" إلى أسرة "فرعم ينهب" التي بدأت حكمها في أرض تقع حوالي "صنعاء" ثم وسعت حكمها حتى شمل مملكة سبأ وذي ريدان كلها.

(1/1052)


--------------------------------------------------------------------------------

هذا، وأود أن أشر هنا إلى إن النص: Jamme 631 المكتوب في أيام الملك "شعر أوتر" والذي تحدثت قبل قليل عنه، قد ورد فيه اسم ملك هو "لعززم يهنف يهصدق"، وملك آخر اسمه "لحيعثت يرخم". وقد لقب كل واحد منهما ب "ملك سبأ وذي ريدان". ومعنى هذا وجود ملكين آخرين كانا يحكمان في أيام "شعر أوتر" كل منهما يلقب بلقب "ملك سبا وفي ريدان". واذا أضفنا إليهما والى الملك "شعر أوتر" الشقيقين "الشرح يحضب" و "يأزل بين"، وقد كانا يلقبان بهذا اللقب أيضا، نجد أمامنا خمسة ملوك يلقبون بلقب واحد. ويرى بعض الباحثين إن الملك "لعززم يهصدق"، كان ملك أرض "ظفار" وما جاورها، وهو الذي هاجمه الحبش وانتصروا عليه، وكان يحكم هذه الأرضين حكما مستقلا فلما هاجمه الحبش، أسرع الملك "شعر أوتر" لنجدته على نحو ما ورد في النص.
وأما الملك "لحيعثت يرخم"، فقد ورد اسمه في نص وسمه العلماء ب REP.EPIG. 263، ولسسنا نعرف من أمره اليوم شيئا يذكر. ويظن انه من ملوك المقاطعات، بأي الملوك الصغار المحليين،وقد كان حكمه يتناول الأرضين الواقعة شمال أرض ظفار.
يتبين لنا مما تقدم أن ملوك سبأ لم يكونوا ينفردون وحدهم بالحكم دائما، وإنما يظهر بين الحين والحين ملوك ينازعونهم الملك واللقب، يبقون أمدا مستقلين وقد يتغلبون على الملوك الشرعيين الأصليين ويسلبونهم الملك، كالذي فعله "الشرح يحضب" وشقيقه "يأزل بين"، إذ كانا ملكين يحكمان أرض "صرواح" ثم بسطا سلطانهما على أرضين أخرى ثم انتزعا العرش نهائيا، وصارا الملكين على مملكة "سبا وذي ريدان".

(1/1053)


--------------------------------------------------------------------------------

لقد انتهيت من الكلام على أسرة "اوسلة رفشان"، وهي من عشيرة "بتع" من قبيلة "حاشد" أحد فرعي "همدان"، وقد وجب الكلام الآن على أسرة همدانية أخرى ظهرت في هذا الزمن أو قبل ذلك بقليل، وانتزعت الملك من السبئيين، وأخذته لها، وهذه الأسرة هي أسرة "نصرم يهأمن" التي سبق أن تحدثت عنها في أثناء كلامي على "ملوك سبأ". فقد كان "نصرم يهأمن" من قبيلة همدان أيضا، فنحن إذن في عصر سبئي، إلا أن الحكم فيه لم يكن في أيدي ملوك سبئيين، ولكن كان في أيدي ملوك من همدان.
أسرة "يرم ايمن"
1- أوسلت رفشان "اوسلت رفشن".
2- يريم أيمن "يرم أيمن".
3- علهان نهفان "علهن نهفن".
4- شعر أوتر "شعرم اوتر".
5-حيو عثتر يضع.
الفصل ا لسادس والعشرون
أسر وقبائل
تحدثت عن ملوك سبأ، وعلي الآن أن أتحدث عن الأسر وعن القبائل التي كانت لها أعمال بارزة ملحوظة في هذا العهد، اذ كانت من القوى الموجهة، ولتوجيهها أثر مهم في سياسة زمانها.
وأول من يجب إن أبدأ بهم، "فيشن" "فيشان". فمنهم كان مكربو سبأ، ومنهم كان الملوك. ولا بد أن يكون الفيشانيون من القبائل القوية الكثيرة العدد، والا لم تخضع لها القبائل الأخرى ولم تسلم لها بالقيادة والسيادة.
وكانت "صرواح" عاصمة المكربين، من أهم مواطن الفيشانيين. وقد ورد في الكتابة الموسومة ب Glaser 926 انهم كانوا أصحاب "عهرو"، أي ناد يشبه "المزود"، أو "دار ندوة" قريش، يجتمع فيه ساداتهم للتشاور في الأمور، وللتحدث عما يحدث لهم.
وقد أضاف المكرب والملك "كرب ايل وتر" إلى أسرته والى قبيلته "فيشن" "فيشان" أملاكا واسعة كما ذكر ذلك هو نفسه في كتابته: "كتابة صرواح". وقد أخذ تلك الأملاك من القبائل التي عارضته وحاربته، فتوسعت رقعة منازلها بفضل هذه الأملاك.
وجاءت في بعض النصوص، جملة هي: "سبأ وفيشان"، فعطفت "فيشان" على سبأ، مما يدل على إن "فيشان" لم تكن في عداد سبا في نظر القوم اذ ذاك.

(1/1054)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد جاء في النص:Jamme 558 إن: "يدع ايل" وهو ابن "كرب ايل بين" "ملك سبا" وكذلك "الشرح"، وهو ابن "سمه على ذرح"، كانا من عشيرة "شعبهمو" "شعب" "فيشن"، أي "فيشان"2. فقيشان إذن من الأسر القديمة المعروفة في اليمن، ومنها كان أقدم حكام سبا.
وقد ولدت قبيلة أخرى عددا من الملوك، جلسوا على عرش سبأ وحكموا السبئيين وغيرهم. وهذه القبيلة هي قبيلة "مرثد" وهي من "بكل" "بكيل". وكانت تتعد للإله "المقه" إله السبئيين الأول. وقد أقامت له معابد عديدة، منها معبده المسمى بي "المقه ذهرن"، أي معبد "المقه" في "ذي هرن" "ذي هران". و "هران" من المواضع التي ذكرها "الهمداني".
ومن ملوك سبا الذين تبوأوا العرش، وهم من "مرثد" الملك "أنمار يهأمن بن وهب ايل" الذي سبق أن تحدثت عنه، وأكثر الكتابات التي ترجع إلى عهده، عثر عليها في مدينة "حاز" في جنوب "عمران".
ومن ملوك سبأ الذين أصلهم إلى "مرثد"، الملك "الشرح يحضب" وأبناؤه. وقد دون اسم "الشرح" في جملة كتابات عثر عليها في "شبام سخيم". وكانت لمرثد أرضون غنية واسعة في الجزء الغربي من "بلد همدان"، وهي جزء من ارض "بكل" "بكيل". تستغلها قبائل "بكيل" وبطونها لقاء جعل تدفعه لسادات القبائل والملوك، يتفق على مقداره، ويقال لعقد هذه الاتفاقيات "وتف" "وتفن". وتشرف معابد "المقه" على أوقاف واسعة لها، تؤجرها أحيانا لسادات القبائل بمبالغ يتفق عليها الطرفان.

(1/1055)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد وصلت إلينا جملة عقود "وتف" عقدت بين كهان معابد "المقه" وسادات "مرثد"، منها الاتفاقية المعروفة ب Glaser 131. وقد تعهدت "مرثد" فيها لمعبد "المقه بعل اوم" بالوفاء له بما اتقق عليه، تدفعه له في وقته في كل سنة، كما تعاقدت عليه في الشروط المدونة في "الوتف"، على أن يهبها الإله "المقه" غلة وافرة ومحصولا جيدا. ويظهر إنها لم تف للمعبد بما اتفق عليه، ولم تسلم له حصته كما ينبغي، وصادف جدب انزل أضرارا بمرثد، ففسر الكهان ذلك بغضب إلهي أرسله "المقه" على "مرثد" لعدم وفائهم بالعهد، فارتأي سادتهم أن يكفروا عما بدر منهم، والوفاء في الموسم المقبل، فجددوا العهد، وكتبوه مجددا تأكيدا على أنفسهم أمام الإله "المقه" الذي وافق على ذلك ورضي به. ويعني ذلك بالطبع رضاء الكهان وموافقتهم على تجديد العقد.
وتحكمت "مرثد"، بما لها من سلطان واتساع أرضين، في عشائر أخرى، دانت لها بحق "الجوار"، وعدت سادة "مرثد" سادتها كذلك. وقد اختارت كل عشيرة منها من شاءت من سادة مرثد، فكان ممن ساد منهم عشيرة "عرن" "عران" سيد من "مرثد" اسمه "ريبم" أي "ريب". وقد ورد اسمه في نص كتبه في سنة "خرف" "خريف" "عم كرب بن سمه كرب بن حزفرم" وذلك حمدا وثناء على الإله "المقه" رب معبد "ذ هرن" "ذي هران"، لمننه ونعمائه، وتعبيرا عن حمده وشكره، قدم له نذرا أهداه إلى ذلك المعبد.
وكان "بنو ارفط" "بن ارفط" من القبائل التي دانت بسيادة "بني مرثد" عليهم، كما يتبين من كتاباتهم. فقد عبروا عنهم ب "امرائهم بني مرثد"، وعبروا عن سيادة "بني مرثد" عليهم بجملة "آدم بن مرثدم"، أي "خول بني مرثد"، وفي هذا التعبير دلالة واضحة على انهم كانوا اتباعا لبني كل مرثد، خاضعين لهم، فأن لفظة "ادم" لا تقال الا تعبيرا عن التبعية والخضوع.

(1/1056)


--------------------------------------------------------------------------------

وعرفنا من الكتابات اسم قبيلة أخرى كانت تعد نفسها في جوار "بني مرثد" وولائهم. وهي قبيلة "نشم" "نبش" "نابش"، وقد قدم أحد أبنائها نذرا إلى "المقه ذي هران"، وذكر إن ذلك كان في أيام سيده وأميره "يثعم" أي "يثع" من مرثد".
ويعد "بن اخرف" "بنو اخرف"، وهم على ما يظن "بنو الخارف" من اتباع "مرثد" أيضا. وقد ورد في النص: CIH 79 اسم أحد رؤسائهم من "مرثد"، وهو "يفرعم" "يفرع". وقد ذكر "نشوان بن سعيد الحميري": إن "الخارف بطن من همدان من حاشد"، وذكر نسبهم وبطونهم في الجزء العاشر من "الإكليل".
وكان "بنو وهرن" "بنو وهران"، من اتباع "مرثد" كذلك، وقد صرح بذلك أحدهم في كتابة قدمها إلى "المقه ذي هران".
ومن القبائل التي اعترفت بسيادة "مرثد" عليها، "بنو كنبم" "بنو كنب" و "بنو عبدم ذي روثن" أي "بنو عبد" أصحاب "روثان"، و"بنو أرفث" و "بنو ضنيم"، أي "بنو ضب" و "بنو أسدم"، أي "بنو اسد"، الذين تعبدوا لألمقه بمعبده في موضع "صوفن" "صوفان"، و"بنو يهفرع" و "بنو أشيب"، و "بنو قرين" "قورين"، و "بنو حيثم" "بنو حيث"، و "بنو ذنحن" "بنو ذنحان"، وغيرها.
و "روثان" من الأسماء المعروفة في اليمن، وقد كان محفدا من المحافد، وقد ذكره "الهمداني" في "الإكليل".
وقد ورد في النص CIH 102 اسم جماعة تدعى "بنو مضن"، "بنو مضان"، وهم من "ابكلن" "أبكل" من سكان مدينة "عمران"، وقد ورد اسم هذه المدينة في نصوص أخرى، يظهر منها أن أصحابها كانوا من "بني ابكلن" "أبكل".
ولعل لما ذكره "الهمداني" من وجود قبائل تنتسب إلى "الأسد بن عمران" علاقة ب "بني أسدم" "أسد" الذين ذكرتهم قبل قليل، كانوا نزولا في "عمران" فنسبوا إليها.
سخيم

(1/1057)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن القبائل في هذا العهد قبيلة "سخيم"، التي ورد اسمها في مواضع من هذا الكتاب. وكانت تتمتع بمنزلة محترمة ومكانة مرموقة، ولها أرضون تؤجرها لمن دونها من القبائل بجعالة سنوية وخدمات تؤديها لسادات هذه القبيلة. وتعد منطقة "شبام سخيم" الموطن الرئيسي ل "بني سخيم". وقد تحدث "الهمداني" عن "شبام سخيم"، فقال: "ومن قصور اليمن، شبام سخيم، وكان فيها السخيميون من سخيم بن يداع بن ذي خولان... وبها مآثر وقصور عظيمة. ومن شبام هذه تحمل الفضة إلى صنعاء، وبينهما أقل من نصف نهار"7. فجعل "الهمداني" "السخيمييين" من "ذي خولان". وقد أخذ هذا النسب من موقع أرض "سخيم" التي تقع في أرض "خولان"، فصار هذا نسبا للسخيميين على مرور الأيام.
وكان له "بني سخيم" سلطان واسع في "شبام سخيم"، ولهم في هذا الموضع "مزود" يجتمعون فيه، ويتداولون في تصريف أمورهم في السلم والحرب. وكان منهم "اقول" "اقيال" حكموا قبائل أخرى. وقد قام رجالهم بأعمال عمرانية مثل فتح طرق، وحفر قنوات ومسايل للمياه، يساعدهم عليها أتباعهم من "بني سخيم" ومن القبائل الأخرى التي كانت نزولا عليهم. ولتغلب "سخيم" على موضع "شبام"، عرف باسمهم تمييزا له عن مواضع أخرى عرفت أيضا باسم "شبام".
وقد وصلت إلينا أسماء طائفة من سادات "سخيم"، قاموا بأعمال عمرانية دونوها في كتاباتهم، أو ساعدوا اتباعهم على القيام ببعض الأعمال العمرانية، فذكروا أسماءهم لذلك اعترافا بفضلهم عليهم. ومن هؤلاء شيخ اسمه "يشرح آل اسرع" "يشرع ايل اسرع" وكان رئيسا على سخيم. وعثر على اسمه في عدد من الكتابات وجدت في "الغراز"، وجد في احداها انه ساعد قبيلة سقط اسمها من النص "وكانت تابعة لبني سخيم" على بناء "مزود" لها، فذكر اسمه لذلك في الكتابة اعترافا بفضله على أصحاب النص.

(1/1058)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن سادات ورؤساء "سخيم" "الرم يجعر" "الريام يحعر" "الريم يجعر"، وكان "قول" قيلا على "سمعي"، التي تكون ثلث "حجرم" في أيام الملك "وتر يهأمن" "وتر يهأمن"، وهو ابن الملك "الشرح يحضب" ملك سبا وذي ريدان. وقد أرسله الملك لمحاربة "خولان جددن"، أي خولان النازلة ب "جددن" "جددان"، فانتصر عليها وعلى من انضم إليها، كما يدعي النص التي سجله هذا القيل.
وكان له "سخيم" سلطان على فرع من قبيلة "سمعي"، هو الفرع الذي استقر في "حر"،وقد اختار له "اقولا" اقيالا من "بني سخيم"، ولعل هذا الفرع ترك موطنه الأصلي لخصام وقع له مع بقمة فروع "سمعي"، فهاجر إلى هذا الموضع، ونزل في جوار "سخيم" وعد منهم "وحكمه لذلك أقيال من سخيم. ويجوز أن يكون هؤلاء السمعيون هم سكان هذه المنطقة في الأصل، إلا أن "سخيا" تغلبوا عليهم، وصارت لهم الإمارة في "شبام"، فصار "سمعي حجر" اتباعا لهم. والظاهر أن "حجرا" كانت تعد ملك "سخيم" أو تابعة لسلطانهم السياسي، ولذلك كان أفيال "اليرسميين" من "بني سخيم" كذلك.
وقد كانت "سخيم" من القبائل المهمة في أيام "الشرح يحضب" "اليشرح يحضب". وقد ورد في كتابة عثر عليها في "شبام سخيم"، كتبها جماعة من "سمعي" التابعين لسخيم، حمد للآلهة وثناء عليها، اذ منت على أصحابها بالمنن والنعماء، ورجاء منها بأن تمن عليهم بالخير والبركة وعلى ملكهم "الشرح يحضب" "اليشرح يحضب" وأولاده وعلى "أقولهم" أقيالهم السخميين، أي من "بني سخيم". ويظهر إن رؤساءها اكتسبوا قبل تولي "الشرح" العرش قوة وسلطانا جعلا قبيلتهم ذات مكانة حين صار العرش إليه.

(1/1059)


--------------------------------------------------------------------------------

وكما كان لملوك معين ومأرب وحمير وغيرهم قصورهم وحصونهم التي صارت رمزا لهم ولشعوبهم، كذلك كان لملوك "سمعي" وسخيم قصرهم الذي عرف بهم، وهو "حصن ذو مرمر"، وقد بني على مرتفع من الأرض يبلغ ارتفاعه زهاء "210" أمتار عن السهل الذي يقع فيه، فيشرف على مدينة "شبام سخيم" القديمة. وهو حصن قوي، حصن بسور متين ليمنع المهاجمين من الوصول إليه. وقد ذكر اسمه في عدد من الكتابات، وبقي هذا الحصن قائما إلى حوالي السنة "1583 م". فهدمه والي اليمن العثماني ليبني بحجارته مدينة جديدة.
وكان لسادات سخيم قصر يسمى "بيتن ريمن"، أي "بيت ريمان"، وقد نعت أصحابه أنفسهم ب "ابعل بيتن ريمن"، أي سادات وأرباب بيت ريمان. وقد ورد اسمه في عدد مهن النصوص. ويلاحظ إن أصحاب "بيت ريمان" كانوا أقيالا على "يرسم".
ومن سادات وأرباب وأصحاب "ابعل" "بيت ريمان"، القيل "شر حعثت أشوع" وابنه "مرثدم"، وهما من "سخيم"، وكانا قيلين على بطن "برسم" من بطون "سمعي" في أيام الملكين: "ثأران يهنعم" و "ملككرب يهأمن" "ملكا سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت".
وكان "وهب اوم ياذف" "وهب أوام يأذف" وشقيقه "يدم يدرم" من أصحاب "بيت ريمان"، ومن أقيال "يرسم" التي هي من "سمعي" المكونة لثلث "حجرم".
ومن بطون "سمعي"، التي تكون ثلث "حجرم" بطن "يرسم"، وكان يحكمه في أيام "نشأكرب يأمن"، وهو ابن "الشرح يحضب"، جماعة من "سخيم". وقد كلفوا محاربة "خولن جددن"، أي "خولان جددان". وكانت قد ثارت على "سبأ وذي ريدان"، فانتصروا عليها واخذوا غنائم وأسرى منها، كما تعهد رؤساؤها بإطاعة أوامر الملوك.

(1/1060)

admin
12-27-2010, 12:52 AM
ومن اتباع "سخيم" عشيرة عرفت ب "ذ مليحم" "ذي مليح"، وكانت تقيم في "الغراز". ويظهر إنها كانت في الأصل من المعينيين، ثم هاجرت إلى "شبام"، فنزلت على "بني سخيم". وقد هاجر غيرهم من المعينيين إلى ارض السبئيين، مثل "سريعم" اي "بني سريع"، وهاجر غيرهم إلى أماكن أخرى، والظاهر إن هجرتهم هذه حدثت بعد ضعف معين.
وقد بلغنا نص دونه زعيم من زعماء "ذي مليحم" "ذي مليح" اسمه "وهب ذو سموى اكيف"، تقربا إلى الإله "تالب ريمم بعل كبدم" "تألب ريام بعل كبد"، لأنه أجاب دعاءه، فحفظه وساعده، وساعد ابنه وأتباعه، وذلك في أيام الملك "أنمار يهأمن" ملك سبا ابن "وهب ايل يحز"
خسأ
وخسأ من القبائل التي ذكرت في عدد من الكتابات، وكانوا نزولا" على "بني سخيم"، الذين كانوا يعدونهم سادة عليهم، لأنهم أصحاب الأرض.
ويظهر أن جماعة من "خسأ" كانت قد نزلت أرض "الهان"، إذ ورد في نص: "خسا ذ الهن"، "خسأ ذو الهان". وتعني هذه الجملة أن "خسأ" كانوا يقيمون في موضع "ذي الهان"، أو "خسأ" أصحاب "الهان". وقد كان هؤلاء الخسئيون يجاورون قبيلة "عقريم" أي "عقرب"، "العقارب".
وعرف من الكتابات أن "خسأ" كانت تتعبد لإله خاص بها، هو الإله "قينن"، أي "قينان". ومن جملة المعابد التي خصصت به، معبد أقيم له في "اوتن" "اوتان"، وقد تعبدت له أيضا بعض القبائل التي كانت متحالفة مع "خسأ". وقد ذكر "الهمداني" موضعا سماه "قينان"، قد يكون له صلة باسم ذلك الإله. ولم يبلغني أن المؤلفات العربية أشارت إلى هذا الإله.
وقد ورد اسم "الهان" علما في ارض في عدد من الكتابات، كما ورد اسم علم لقبيلة. وربما كانت أرض "الهان" هي "مخلاف الهان" المذكور في المؤلفات الإسلامية.
وقد ذكر "الهمداني" مخلاف "الهان"، فقال إنه مخلاف واسع غربي حقل جهران، وأن "الهان" بلد مجمعها "الجنب" "جنب الهان"، ويسكنها "الهان بن مالك أخو همدان وبطون من حمير"، وذكره في مواضع من "الاكليل".

(1/1061)


--------------------------------------------------------------------------------

وورد في الكتابة الموسومة بCIH 40 اسما قبيلتين مع اسم "الهان" هما:
"مها نفم" "مهأنف"، و "بكيلم" اي "بكبل".
وقد ذكر في إحدى الكتابات رجل يسمى "تهوان"، وكان من "ذي الهان"، تعاون واشترك مع "عقرب" "عقارب" في بناء محفد "صدقن" "صدقان"، وهو محرم الإله "قينان"، كما تعاون معهم في بناء بيت "يجر".
عقرب
وعرف من الكتابات اسم عشيرة أخرى، هي "عقربم"، أي "عقرب" أو "عقارب"، ولا يزال هذا الاسم معروفا في العربية الجنوبية حتى الآن. وقد ورد "العقارب" اسما لقبيلة زعم إنها من نسل "ربيعة بن سعد بن خولان بن الحاف بن قضاعة بن مالك بن حمير"، كما ورد اسما لجبل يعرف ب "لجبل العقارب"، وقد عرف "العقارب" باسم "عقربي". وذكر "ابن مجاور" قبيلة "عقارب" في جملة القبائل الساكنة في منطقة "عدن"، فلعل لهذه الأسماء صلة بقبيلة "عقرب" "عقارب" المذكورة.
وقد كانت "عقرب" تابعة لي "بني سخيم ! وحليفة لهم، ونازلة في جوارهم. يفهم ذلك من الجمل والتعبيرات في كتاباتهم الدالة على خضوعهم ل "بني سخيم" مثل "ادم بن سخيم"، أي "خول وخدم بني سخيم"، فهو تعبير يدل، على العبودية والخضوع.
خولان وردمان
وخولان من القبائل الكبيرة القوية التي ذكرت في عدد كبير من الكتابات العربية الجنوبية. وقد رأينا اسمهم لامعا في أيام المعينيين، وقد ذكرت انهم هاجموا مع السبئيين قافلة معينية كان يقودها "كبيران"، وحمد المعينيون آلهتهم وشكروها على نجاة هذه القافلة، وهي من القبائل العربية الحية السعيدة الحظ، لأنها ما تزال معروفة، ولها مع ذلك تأريخ قديم قد نصعد به إلى الألف الأول قبل الميلاد.
ويرجع النسابون نسب "خولان" إلى "خولان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة" أو إلى "خولان بن عمرو بن مالك بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن عمرو بن عريب بن كهلان بن سبأ"، ويميزون بين "خولان قضاعة"، وهم إخوة "بلي" و "حيدان"، وبين "خولان أدد" ث وقد يذكرون "خولان" أخرى في "مذحج".

(1/1062)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد صير اسم "خولان" بمرور الزمان، اسم رجل نسل ذري تكاثرت وتوالدت، فكانت منها هذه القبيلة العيظمة، وقد جعل له النسابون. أبا وجدا وأجدادا بعد هذا الجد، كما جعلوا له ولدا ذكروا أسماءهم. ويمثل هذا النسب الاختلاط الذي كان بين الخولانيين وغيرهم من القبائل بمرور الزمان حتى أيام النسابين، فدون على نحو ما وصل إلى عملهم من أفواه الرواة.
ومواطن الخولانيين قديما، أرضون متصلة بأرض السبئيين، فكانوا يسكنون في جوار "مأرب" و "صرواح"، وهي لب أرض سبأ، ثم هاجرت جماعات منهم فسكنت الأرضين العالية من شرق "صنعاء"،وقد قيل للخولانيين الذين سكنوا هذه المنطقة "خولان العالية"، تمييزا لهم عن "خولان قضاعة"، وهذا التمييز لا يستند إلى حقيقة، يمكن رجعها إلى اختلاف النسب. وإنما نشأ من اختلاف طبيعة المكان، ومن الأحوال السياسية والاقتصادية التي فرقت بين الخولانيين، وباعدت بين فروعهم، فظن انهم من نسبين مختلفين.
وقد كان الخولانيون يعبدون عند ظهور الإسلام لصنم لهم اسمه "عم أنس" "عميأنس". وقد ذكر "ياقوت الحموي" أنه "في خولان كانت النار التي تعبدها اليمن"، ذكر ذلك في أثناء حديثه عن "مخلاف خولان" المنسوب إلى "خولان قضاعة". وقد تكون هذه العبادة- إن صح قول ياقوت- قد اقتبست من الفرس عبدة النيران.
وقد ذهب "الويس شبرنكر" و "نيبور" إلى إن قبيلة "خولان" هي "حويلة" المذكورة في التوراة، ولكن هناك صعوبات كثيرة تحول دون قبول هذا الرأي.
وقد اقترن اسم "خولان" باسم "ردمان" في كثير من النصوص. ويدل هذا بالطبع على وجود روابط وثيقة بين الجماعتين. وقد حكم الخولانيين والردمانيين أقيال من "ذي معاهر"، فكان القيل سيدا على القبيلتين في آن واحد في غالب الأحايين، وفي ذلك دلالة بالطبع على الصلات والروابط السياسية التي ربطت بين خولان وردمان وذي معاهر "ذ معهر".

(1/1063)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عرف الإسلاميون "أقيال ذي معاهر"، فذكرهم الهمداني في مواضع من كتابه "الإكليل"، ذكر مثلا أن "شحرار قصر بقصوى مشيد ببلاط أحمر للقيل ذي معاهر"، وذكر أيضا "قصر وعلان بردمان، وهو عجيب، وهو قصر ذي معاهر، ومن حوله أموال عظيمة". ويشير قول الهمداني الأخير إلى الصلات التي تربط هؤلاء الأقيال بردمان، والى أن أولئك الأقيال كانوا يقيمون بأرض ردمان.
ويرى "كلاسر" إن قصر "وعلان"، الذي هو في "ذي ردمان"، كان مقر أقيال "ذي معهر"، أي أقيال ردمان. فوعلان إذن هو قصرهم، وهو مثل القصور الأخرى التي كانت للملوك وإلأقيال. وهي قصور وحصون يحتمي بها اذا شعر بالخطر، ولذلك عدت رمزا للدولة وللحكم.
وترد لفظة "ذ معهر" علما في الكتابات على "ردمان" و "خولان". وقد ذكر أيضا في نص "أبرهة" الذي دونه سنة "543م" لمناسبة إصلاح سد مأرب وترميمه اذ جاء فيه: "ذ معهر بن ملكن". وقد ذهب "كلاسر" إلى إن المراد من "ذي معهر"، في هذا المكان ابن "أبرهة"، وكان قد تلقب- على رأيه- بهذا اللقب، الذي يشير إلى قصر "ذي معهر" بردمان.
ومن أقيال "ذي معاهر" الذين حكموا الخولانيين والردمانيين، القيل "قول" "كرب اسرع" "كرب أسرع"، وكان من أسرة غنية لها أرضون زراعية خصه: تسقى بمياه الآبار في وأدي "ضفخ" "ضفخم"، ووادي "أخر" وفي أرض "ذات حراض" "ذات حرض"، و وادي "مذيق"، وأماكن أخرى. وقد عنيت أسرته بإصلاحها، وبإروائها من آبار حفرتها في هذه الأماكن، وكتبت ذلك على الحجارة، تسجيلا لعملها هذا، ليكون وثيقة شرعية بامتلاكها لهذه المواضع.
وورد اسم قيل آخر من أقيال "ذي معاهر" الذين حكموا القبيلتين المذكورتين هو القيل "كرب أسأر"، كأنت له أملاك في أرض "ذات حرض" "ذات حراض" بوادي "مضيق".

(1/1064)


--------------------------------------------------------------------------------

وورد اسم قيل آخر حكم القبيلتين معا، هو القيل "نصرم يهحمد" "نصر يهحمد" "ناصر يهحمد"، وهو من "ذ معهر" "ذي معاهر"، وقد دون هذه الكتابة لمناسبة قيامه بإصلاح أرض "وادي ملتنتم" "وادي ملتنت" حيث حفر آبارا، وأنشأ سدودا، وزرع أشجارا أثمرت، وبذر حبوبا. وقد سجل ذلك ملكا خاصا ب "آل معاهر"، وباسمه وأعلنه للناس في شهر "صيد" من سنة مئة وأربع وأربعين من التقويم السبئي، وتقابل سنة تسع وعشرين بعد الميلاد.
ويعد هذا النص، من النصوص المهمة، ولعله أقدم نص مؤرخ وفق تقويم ثابت معروف وصل إلينا.
ويظهر من ذكر اسم الملك "العزيلط"، وهو ملك حضرموت في هذا النص، ومن تعبير "القيل" صاحب النص عن الملك بلفظة "سيده"، أي سيد "نصر يهحمد": انه كان تابعا له، وفي ارض كانت اذ ذاك، أي في النصف الأول من القرن الأول للميلاد، تحت حكم حكومة حضرموت. وقد دون هذا القيل أسماء الآلة: "عثتر"، و "سين ذو علم"، و "عم ذو دونم"، و "وعلان"، و "عم ذو مبرم" إله "سليم"، و "عثتر ذو صنعتم"، و "ود إله منو..."، و "ذات بعدان"، و "ذات ظهران"، و "عليت" إلهة "حررم" "حرر"، و "شمس" إلهة "وبنن" و "علفقن". ذكر كل هذه الآلهة، ولم ت ذكر إله سبأ الرئيس وهو "المقه"، وفي اغفاله اسم "المقه" دلالة على انه لم يكن على صلة حسنة بالسبئيين، وانه لم يكن يعترف بسيادتهم عليه ذلك لأنه كان نحت حكم ملك حضرموت.
وقد ورد اسم "خولان" في نص مهم جدا تعرض لخبر حرب نشبت في أيام ملوك "سبأ"، سقط منه اسم الملك، وسقطت منه كلمات عدة وأسطر أضاعت المعنى.

(1/1065)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد شارك أصحاب هذه الكتابة في هذه الحرب، وعادوا منها موفورين سالمين، ولذلك سجلوا شكرهم للإله "المقه" رب مدينة "حرونم" "حرون" "حروان"، لأنه نجاهم، ومن عليهم بنعمة السلامة. ويفهم من الكلمات الباقية في النص أن قبيلة "خولان" كانت قد ثارت على سبأ، فجهز السبئيون حملة عسكرية عليهم، دحرت خولان، وتغلبت عليها، وحصل السبئيون على غنائم كثيرة. وكان يحكم "خولان" قيل لم يرد في النص اسمه، ولعله سقط من الكتابة، وقد أشير إليه ب "ذي خولان".
وورد في نص "معيني" ما يفيد اعتراض جماعة غازين من الخولانيين لقافلة معينة كانت تسلك طريق "معان" التجاري، وقد أفلتت من أيدي الغزاة ونجت، ولذلك شكرت الآلهة، لأنها ساعدتها في محنتها، وحمتها، ونجتها من التهلكة، وعبرت عن شكرها هذا بتدوين النص المذكور. وقد وقفت على معبد "ود كسم"، إليه معين وقفا في ارض "أيم"، كما سبق أن تحدثت عن تعرض الخولانيين والسبئيين لقافلة تجارية معينة في الطريق بين "ماون" "ماوان" و "رجمت" "رجمة". وفي هذين الخبرين دلالة على نشاط الخولانين في مناطق تقع شمال اليمن قبل الميلاد بزمان، وعلى أنهم كانوا من الذين يتحرشون بالطرق التجارية ويعترضون سبل المارة، كما يفعل الأعراب. ولعل هؤلاء الخولانيين كانوا من الأعراب المتنقلين.
وقد حكم الردمانيين أقيال منهم أيضا. فقد ورد في أحد النصوص: "قول ومحرج شعبن ردمن ذ سلفن"، أي "قيل ومحرج قبيلة ردمان صاحبة سلفان"، ويقصد ب "سلفان" "السلف" "السلاف"، فردمان هؤلاء أصحاب الكتابة هم "ردمان السلف" "السلاف". ولم يكن هذا القيل من "ذي معاهر".

(1/1066)


--------------------------------------------------------------------------------

والردمانيون هم من الشعوب العربية القديمة أيضا، وقد ساعدوا القتبانيين مرارا، وحالفوا شعبا آخر هو شعب "مضحيم" "مضحي"، وتعاون الشعبان في مساعدة "قتبان" ضد سبأ. وقد لعبوا دورا مهما في أيام عدد من ملوك سبأ، وقد كانوا من المناهضين لحكم "شعر أوتر"، ولما أرسل جيشا عليهم لانزال ضربة بهم قاوموه وأنزلوا خسائر كبيرة به.
ويظهر إن أرض ردمان دخلت- بعد أن فقدت استقلالها- في جملة الأرضين التي خضعت لحكم قتبان، ثم استولت عليها بعد ذلك دولة حضرموت. ثم دخلت بعد ذلك في جملة أملاك دولة "سبأ وذي ريدان".
وقد ذهب "كلاسر" إلى أن شعب Rhadmaei المذكور في بعض الموارد الكلاسيكية هو "ردمان"، ويؤيد قوله بما ذكره "بلينيوس" من إن الشعب المذكور ينتسب إلى جد اسمه Rhadmanthus واسم هذا الجد قريب جدا من ا سم "ردمان".
ويظهر من عدد من الكتابات المدونة في أيام "الشرح يحضب" إن أرض "ردمان" وقسما من ارض "خولان" كانت تابعة لملك حضرموت في ذلك الزمان، وان قسما من خولان كان خاضعا ل "أقيال جدن" "جدنم" أهل "حبب" "حباب" عند "صرواح". ومعنى هذا إن القسم الشرقي من أرض خولان الواقع شرق وادي "ذنه" عند أسفل أرض "مراد" كان هو القسم التابع لحضرموت في هذا الزمن. وأما القسم الأكبر، وهو القسم الشمالي الغربي من أرض خولان، فقد كان تابعا في هذا الزمن لملك "سبأ وذي ريدان".
جدن
وورد اسم "جدن" في كتابات عهد "ملوك سبأ"، وهو اسم موضع وامم قبيلة. ويظهر منها انهم كانوا أصحاب حكم وسلطان، بدليل ورود جملة هي: "ادم جدنم" أي "خول جدن" في كتابات دونها أناس كانوا في خدمتهم وولائهم. ويذكرنا اسم "ذي جدن" المذكور في الكتب الإسلامية، وموضع "جهدن" بهذا الاسم القديم.

(1/1067)


--------------------------------------------------------------------------------

وورد اسم قبيلة أو أسرة عرفت ب "ددن"، أي "دادان" "ددان"، وقد ذكروا في جملة نصوص. فورد في أحدها انهم تقدموا بوثن "صلمن" إلى معبد الإله "تألب ريام" المسمى بمعبد "خضعتن" "خضعة"، وهو في مدينة "أكانط". وتقع مدينة "أكنط" في بلد "همدان". وقد ذكرها "الهمداني" مرارا في كتبه، وذكر أن فيها قصر "سنجار". وكان يسكن بها جماعة يعرفون ب "زادان"، ينسبون إلى "مرثد بن جشم بن حاشد" على حد قول أصحاب الأنساب.
وقبيلة "يهبلبج" من القبائل التي عاشت في عهد "ملوك سبأ" وقد ذكرت، في أمر أصدره الملك "يدع ايل بن يكرب ملك وتر"، في أمر تنظيم الجباية التي تؤخذ من هذه القبيلة ومن "سبأ" في مقابل استغلال الأرضين الخاضعة للدولة واستثمارها.
أربعن: وجاء ذكر قبيلة اسمها في الكتابات "اربعن"، "أربعن" أو "أربعان" "أربعين"، كان يحكمها سادات، وقد لقبوا بلقب ملك، وقد عرفنا منهم، "نبط آل" "نبط ايل"، وقد ذكر في نصHalevy الذي سجله الملك "يكرب ملك يدع ايل بين"، الصادر في كيفية جمع الضرائب من القبائل. وعرفنا اسم ملك آخر، هو: "لحى عث بن سلحان" "لحيعث بن سلحن" وملك ثالث يدعى "عم أمن بن نبط ايل"، وكان من معاصري الملك "يثع أمر بين" مللك سبأ.
ولم يكن ملوك "اربعن"، ملوكا كبارا بالمعنى المفهوم من لفظ "ملك"، ولم نكن مملكة "أربعن" بالمعنى المفهوم من لفظة "ملكة"، وإنما كانوا أمراء قبيلة، وسادات قبائل، تمتعوا بشيء من الاستقلال في حدود أرض قبيلتهم، وقد أعجبتهم لفظة "ملك" فحملوها. وقد كانوا في الواقع دون ملوك سبأ أو معين أو حضرموت أو "قبان بكثير، وكانت مملكة "أربعن" إمارة أو "مشيخة" كما نفهم من هذه اللفظة في المصطلح الحديث.
بتع
رأينا إن سلالة من "بتع" حكمت "سبا وذو ريدان". وقرانا في الكتابات ولا سيما كتابات "حاز" وكتابات مواضع أخرى تقع في صميم "بلد همدان" أسماء رجال هم من "بني بتع"، فمن هم "بنو بتع"?

(1/1068)


--------------------------------------------------------------------------------

والجواب: إن "بتع" قبيلة من قبائل "حاشد" و "حاشد" من همدان. ف "بنو بتع" أذن هم من "همدان". ولذلك تجد إن معظم الكتابات التي تعود إلى "بني بتع" عثر عليها في أرضين هي من مواطن همدان، مثل "حاز" و "بيت غفر" و "حجة" "حجت"، ومواضع أخرى هي من صمم أرض بتع.
ويرد اسم "حاز" في مواضع من "صفة جزيرة العرب" و "الإكليل"، وقد قال عنها الهمداني: "وحاز قرية عظيمة وبها آثار جاهلية ". وذكر إن سد "بتع" "الخشب" مما يصالى "حاز" ينسب إلى "بتع بن زبد بن همدان". وقد صير "الهمداني" وغيره "بتعا" اسم رجل، جعلوه جد "بني بتع"، وجعلوا له والدا أسموه: "زيد بن همدان"، بينما هو اسم في قبيلة في ذلك الوقت.
وكانت "بتع" على ما يتبين من النصوص، تتمتع بنفوذ واسع ومكانة ظاهرة، ولها أرضون واسعة تؤجرها للافخاذ والبطون، من "بتع" ومن غير "بتع"، تأتي إلى أقيالها بأرباح طائلة. وكان رؤساء البطون والأفخاذ الذين يؤجرون الأرضين من "بتع" يعدون أنفسهم بحكم أقامتهم في كنف أقيال "بتع" وفي جوارهم أتباعا لهم، ولههم حق السيادة عليهم. ويعبرون عن ذلك في كتاباتهم بحملة: "ادم بتع" "أدم بتع"، أي خول أو خدم بتع، ويقصدون بها أنهم كانوا أتباعا لهم. ويذكرون أسماء الأقيال في كتاباتهم، ويشيدون بفضلهم ومساعداتهم، ويدعون لهم فيها بطول العمر والخير والبركة، ويرجون من آلهتهم أن تزيد في سعادتهم ومكانتهم وأرباحهم.

(1/1069)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد جمع "هارتمن" أسماء الأقيال البتعيين الذين وردت أسماؤهم في الكتابات، وهم: "برقم" "بارقم" "بارق" و "فرح آل يحضل" "ذرح ايل يحضل" و "هوف عثت" "هوفعثت"و "لحى عثت اوكن" "لحيعثت أوكن" و "مرثد علن اسعد" "مرثد عيلان أسعد" و "نشاكرب أوتر" "نشأكرب أوتر"، و "نشاكرب يزان" "نشأكرب يزأن" و "نشأكرب نهفن يجعر"، و "رب شمس نمرن" "رب شمس نمران" "ربشمس نمران" و "ردمم يرحب" "ردم يرحب"، و "عريب بن يمجد"، و"سعد اوم تمرن" "سعد أوام نمران"و "سخمن يهصبح" "سخمان يهصبح" و "شرحم يهحمد" و "شرحم غيلن" "شرح غيلان"، و "شرحم" "شرح" "شارح"، و "شرح ال" "شرح ايل"، و "شرح عثت" "شرحعثت" و "شرحب ال" "شرحب ايل" "شرحبيل"، و "كرب..."، و "يهمن" "يهامن" "يهأمن" وآخرون. ومن هؤلاء من ساد على "سمعي"، ومنهم من ساد على قبائل أخرى.
?سمعي
ومن أتباع "بتع" عشيرة "سمعي" ، ويظن بعض الباحثين إنها كانت في الأصل فرقة تجمع أفرادها عبادة الإله "تالب"، ثم أصبحت عشيرة من العشائر القاطنة في أرض همدان، توسعت وانتشرت وسكنت بين "حاشد" و "حملان" وفي "حجر". وكانت تستغل الأرضين التي يمتلكها الأقيال البتعيون، فكانوا يعدون أصحاب تلك الأرض أقيالا عليهم، ونسبوا إلى الأرض التي أقاموا فيها أو العشائر التي نزلوا بينها، فورد "سمعي حملان" و "سمعي حشدم"، أي "سمعي حاشد"، و "سمعي حجرم" أي "سمعي حجر". و "سمعي حملان" هم السمعيون الذين استوطنوا أرض حملان، واختلطوا بالحملانيين، لذلك نسبوا إلى "حملان"، فقيل "سمعي حملان". وأما "سمعي حشدم"، فهم السمعيون الذين سكنوا أرض حاشد، واختلطوا بقبيلة "حاشد" وقد كانوا يقطنون ارض "ريام". وأما "سمعي حجرم"، أي "سمعي حجر"، فهم سكان "حجر" على مقربة من "شبام"، وهم يكونون جزءا من "سمعي"، وقد ورد في الكتابات: "سمعي ثلث في حجرم".

(1/1070)


--------------------------------------------------------------------------------

وظهر من عدد من الكتابات إن عشيرة "سمعي"، قد كانت مملكة يحكمها ملوك، ولم تكن هذه المملكة بالطبع سوى "مشيخة" صغيرة بالقياس إلى مملكة سبا، كما ورد اسم هذه العشيرة منفردا، أي انه لم يقرن بحملان أو حاشد أو حجر أو غير ذلك من الأسماء. وفي ذلك دلالة على إنها قد كانت وحدة واحدة كسائر العشائر والقبائل، أو إن قسما من "سمعي"، كان مستقلا منفردا بشؤونه لا يخضع لحكم قبيلة أخرى عليه، أو إن "سمعي" كانت في وقت تدرين تلك الكتابات قبيلة قوية، يحكمها ساداتها الذين لقبوا أنفسهم بألقاب الملوك، ثم أصابها ما يصيب غيرها من القبائل من تفكك وتجزؤ وتشتت، فتجزأت وطمع فيها الطامعون، فخضعت عشائر منها لحكم قبائل أخرى مثل "حاشد" و"حملان"و"حجر".
ويصعب علينا بيان المدة التي تمتعت فيه هذه القبيلة بالاستقلال، وهو استقلال لم يكن بالبداهة مطلقا،بل كان استقلالا من نوع استقلال "المشايخ" والرؤساء: استقلال في التصرف في شؤون القبيلة والمنطقة التي تتصرف فيها.
أما في العلاقات الخارجية، فيظهر إنها كانت مقيدة بسياسة الحكومات الكبيرة التي كانت لها السلطة والقوة مثل مملكة سبا وفي ريدان.

(1/1071)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن الملوك السمعيين الذين وصلت أسماؤهم إلينا، الملك "يهعن ذبين بن يسمع ال بن سمه كرب"، أي "يهعان ذبيان بن يسمع ايل بن سمه كرب" "يهعان ذبيان بن إسماعيل بن سمه كرب"، والملك "سمه افق بن سمه يفع" "سمه أفق بن سمهيفع". جاء اسمهما في النص Glaser 302. وقد افتتحه الملك "يهعان"، بالدعاء إلى الإله "تالب" "تألب" في مبعده في "صبين" "صبيان" بأن ينعم عليه ويبارك له ولأولاده: "زيدم" "زيد" و "يزد ال" "يزيد ايل"، وأولادهما وأملاكهم جميعا وبيتهم والمسمى بيت "يعد" "يعود" وأرضهم: أرض "تالقم" "تألق"، وفي الأملاك التي ورثت عن الملك "سمعي أفق بن سمه يفع" ملك سمعي من أرض زراعية وقرى ومدن. وأرض "نعمن" "نعمان" وغيرها. وجاء في النص ذكر "بنو رأبان" "رابن" حلفاء "سمعي" و "عم شفق"، وهو "قول" قيل "يرسم"، و "اقولن" أقيال "يهيب" و "املك مريب"، أي "ملوك مأرب"، و "شعبن سمع"، أي قبيلة "سمع" "سميع"، و "كرب ال وتر" "كرب ايل وتر" ملك سبأ.
حملان
وقد ورد اسم "حملان" في عدد من الكتابات. منها الكتابة الموسومة ب Glaser 179 التي دونت في أيام الملك "أنمار يهنعم بن وهب ايل يحز" ملك سبأ، دونها جماعة من "بتع"، وهي ناقصة، سقطت منها أسطر وكلمات. وقد قدموا إلى الإله " "تألب ريام" تمثالا، لأنهم رجعوا سالمين من الحرب معافين. ويظهر أن أصحاب هذه الكتابة قاموا مع الملك بغزو في أرض "حملان"، فلما رجعوا سالمين قدموا هذا النذر إلى الإله "تألب ريام".
وكان "بنو حملان" أتباعا ل "بتع". وقد ذكروا ذلك في كتاباتهم حيث دونوا جملة "ادم بتع"، كالذي ورد في الكتابة:CIH 224، وقد دونها رجال من "ذي حملان" "ادم بتع"، لمناسبة بنائهم بيتهم و "مذقنة تريش" وذلك بتوفيق من الإله "تألب ريام بعل شعرم" وبمساعدة رؤسائهم وسادتهم ورئيسهم صاحب أرضهم "سخمان يهصبح" من "بتع"، وبمساعدة قبيلتهم الساكنة بمدينة "حاز".
يهيبب

(1/1072)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان أقيال "سمعي" أقيالا على عشيرة "يهيبب" "ي ه ي ب ب" وعشيرة لا نعرف اليوم عنها شيئا يذكر. ويرى "كلاسر" إن أرض "يهيبب" تقع على مقربة من مكة أو في جنوبها، ويرى احتمال وجود موضعين يقال لهما "يهيبب"؛ موضع قرب مكة أو في جنوبها، وموضع آخر على ساحل الخليج الذي سماه "بطلميوس" Sinus Sachalites في الأرض التي اشتهرت عند "الكلاسيكيين" بالبخور واللبان، ولعله المكان الذي دعاه "بطلميوس" Jobaritae. ويرى إن الأول هو "يوباب" في التوراة.
يرسم
وأما "يرسم"، فقبيلة كانت تقيم في هذه المواضع من أرض همدان. وقد ورد في إحدى الكتابات اسم "قول" قيل يدعى "عم شفق بن سروم" "عمشفيق بن سروم" "عم شفيق بن سروم"، وكان من أقرباء ملك "سمعي"، وكانت أرضه عند "حدقان"، وقد أشار "الهمداني" إلى "قصر حدقان". وكان هذا القيل من "سروم".
وكان اقيال "يرسم" من "بني سخيم"، وقد أشار "اليرسميون" إلى ذلك في الكتابات، ومنها الكتابة الموسومة ب SE 8. وقد ذكرت فيها جملة: "يرسم ثلث ذ حجرم"، أي "يرسم ثلث ذي حجر". ويفهم من هذه الجملة أن عشيرة "يرسم" كانت تستغل جزءا من أرض حجر. وورد في كتابات أخرى أن قيلا من أقيالها كان من "سروم".
وقد ورد في كتابة أن جماعة من "بني الهان" و "عقرب" بنوا محفدا لهم، هو "محفد صدقن" "محفد صدقان" ليكون "محرما" للإله "قبنان" أي حرما لهذا الإله، في معبد "يجر"، وذلك بعون الإله "تألب ريام" "رب كبدم" "كبد" وقينان وبمساعدة أصحاب أرضهم "بني سخيم" وقبيلة "يرسم". ومعنى هذا إن هذه القبائل كانت متجاورة متعاونة، وقد كانت تتعاون فيما بينها عند القيام بالأعمال الكبيرة التي تحتاج إلى مال ورجال مثل هذا المعبد الذي خصص بعبادة الإله "قينان"، والذي بناه جماعة من "الهان" و "عقرب" بمساعدة وعون "بني سخيم" و "يرسم".
بنو سمع

(1/1073)

admin
12-27-2010, 12:53 AM
أما "بنو سمع" "بنو سميع"، فقد كانوا أتباعا ل "بني بتع" "ادم بن بتع" "أدم بني بتع"، كما يفهم من الكتابة CIH 343. وقد ورد فيها اسم الإله "تألب ريمم بعل قدمن ذ دمهن"، أي الإله "تألب ريام رب قدمان في ذي دمهان". وجاء اسم الإله "تألب ريمم بعل قدمن" في كتابة أخرى، أصحابها من "بن سمع" "بني سميع" كذلك. وقد ذكروا أنهم نذروا للإله صنما، ليقيهم ويقي أملاكهم ومقتيناتهم وما يملكونه بمدينة "مريب" أي "مأرب" فمدينة "قدمن" "قدمان" إذن مدينة من مدن "السميعيين"، وبها معبد الإله "تألب" المعروف ب "تألب ريام بعل قدمان". وتقع في أرض "دمهان". ويجوز أن يكون "قدمان" اسم موضع صغير في "دمهان"، أو اسم المعبد، وقد ورد في كتابات أخرى.
رمس
وجاء اسم عشيرة "رمس" في الكتابة MM 137، وهي كتابة مدونة على أطراف اناء ثمين جدا قدم نذرا إلى الإلهة "ذات بعدان" أي الشمس. والظاهر إن عشيرة "رمس" كانت تجاور عشيرة "سميع"، وانها كانت تملك أرضين تجاور الأرض التي نزلت بها "سميع"، وتؤجرها لغيرها كما يتبين ذلك من استعمال جملة "أدم رمسم" أي "خول رمس"، وكلمة "امراهمو" التي تعني "امراؤهم" في بعض الكتابات. حيث يفهم من أمثال هذه التعابير إن الرمسيين كانوا يحكمون عشائر أخرى كانت نازلة في أرضهم وتعيش في كنفهم وجوارهم. وقد ورد اسم "الرمسيين" في كتاب "صفة جزيرة العرب"، فلعل لهم علاقة وصلة بهؤلاء الرمسيين.

(1/1074)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما عشيرة "رابن" "رأبان" التي ورد ذكرها في النص Glaser 302 أي نص الملك "يهعن" "يهعان" ملك "سمعي". فهم عشيرة قديمة كانت في أيام المكربين وفي أيام ملوك سبأ، وكانت مواطنها أرض "نهم" وأعالي "الخارد". ولكنهم تنقلوا إلى مناطق أخرى بعد ذلك. والظاهر انهم Rabanitae أو Raabeni الذين كان يحكمهم ملك يعرف بIlasaros على ما ورد في الكتب "الكلاسيجة". واذا صح انهم هم "رأبان" دل ذلك على أن "الرأبانيين" قد تمكنوا من الاستقلال ومن تكوين مملكة أو "مشيخة" تلقب رؤساؤها بألقاب الملوك.
سقران
ومن أتباع "بتع" عشرة معروفة تقع منازلها في منطقة "حاز" عثر على عدد من الكتابات تعود إليها في "حاز" و "بيت غفر" و "حجه"، وهذه العشيرة هي "سقرن" أن "سقران".
ويظهر من جملة "ادم بن بتع" "أدم بني بتع" التي وردت في كتاباتهم أنهم كانوا أتباعا لبتع ولسادات "بتع" الذين كانوا "أقولا"، أي "أقبالا" على السقرانيين. والظاهر أنهم كانوا يعيشون في كنف "البتعيين" وفي أرضهم يستأجرونها منهم ويستغلونها مقابل أتاوة يدفعونها لبتع، وهم يؤجرونها لمن دونهم من العشائر والأفراد، لورود عدد من الكتابات دونها أناس اعترفوا بسيادة "سقران" عليهم وبأنهم "ادم" "أدم" أي اتباع لهم.
قرعمتن
وورد في الكتابات اسم عشيرة عرفت بي "قرعمتن" "قرعمتان"، ويظهر إنها كانت في جوار "بتع" و "سقرن" "سقران". وقد عرفت الأرض التي نزلت بها بهذا الاسم كذلك.
الفصل ا لسابع والعشرون
ملوك سبأ وذو ريدان
نحن الآن في عهد جديد من عهود تأريخ مملكة "سبأ"، هو عهد ملوك "سبا وذو ريدان". لقد كان حكام "سبأ" يتلقبون كما رأينا بلقب "ملوك سبأ"، أما لقبهم في هذا العهد فهو "ملوك سبا وذو ريدان".

(1/1075)


--------------------------------------------------------------------------------

ففي حوالي السنة "115 ق. م." أو في حوالي السنة "118 ق. م."، أو بعد ذلك بتسع سنين، أي في حوالي السنة "109"، خلع "ملوك سبا" لقبهم القديم واستبدلوا به لقبا آخر حبيبا جديدا، هو لقب "ملك سبأ وفي ريدان"، إشارة إلى ضم "ريدان" إلى تاج سبأ. وبقي هذا اللقب مستعملا حتى أيام الملك "شهر يهرعش" "ملك سبأ وذي ريدان". ثم بدا له رأي دفعه لتغييره، فاتخذ بدله لقب "ملك سبا وذي ريدان وحضرموت ويمنت" دلالة على توسع رقعة سبأ مرة أخرى، فدخلت بذلك حكومة سبأ في عهد ملكي جديد.
هذا ما كان عليه رأي أكثر الباحثين في تأريخ سبأ في زمن نشوء لقب "ملك سبأ وذي ريدان" وفي سبب ظهوره عند السبئيين. وقد اتجه رأي الباحثين المتأخرين إلى إن ظهور هذا اللقب إنما كان قد وقع بعد ذلك، وأن "الشرح يحضب" الذي هو أول من حمل ذلك اللقب، لم يحكم في هذا الزمن، وإنما حكم بعد ذلك في أواخر القرن الأول قبل الميلاد إيان حملة "أوليوس غالوس" على العربية الجنوبية في حوالي السنة "24 ق. م."، وعلى ذلك يكون اللقب المذكور قد ظهر في أواخر القرن الأول قبل الميلاد، لا في سنة "115" أو "109" قبل الميلاد.
وبناء على هذا الرأي الحديث المتاخر، لا تكون السنة "115 ق. م."أية علاقة بهذا اللقب الجديد، بل لا بد أن تكون لها صلة بحادث مهم آخر كان له وقع في تأريخ العربية الجنوبية، ولهذا جعل مبدأ لتقويم يؤرخ به. وقد زعم بعض الباحثين إن ذلك الحادث هو سقوط مملكة معين في أيدي السبئيين وزوال حكم الملوك عنها، وخضوع المعينيين لحكم "ملوك سبأ". ولما كان ذلك من الأمور المهمة في سياسة الحكم في العربية الجنوبية، جعل مبدأ لتقويم يؤرخ به.
ورأى بعض آخر إن السنة المذكورة، هي سنة انتصار سبأ على "قتبان"، واستيلائها عليها وضمها إلى حكومة سبأ. و "ريدان"، قصر ملوك سبأ، ومقر سكنهم وحكمهم. ونظرا لأهمية هذه السنة اتخذت مبدأ لتاريخ، وبداية لتقويم.

(1/1076)


--------------------------------------------------------------------------------

واذا أخذنا بهذا التفسير المتأخر، وجب علينا إذن ترك هذا الزمان واتخاذ زمان آخر لظهور لقب "ملك سبا وذي ريدان"، وهو زمان يجب الا يبعد كثيرا عن السنة "30 ق. م."، ففي هذا الزمن كان حكم "الشرح يحضب" و "شعرم أوتر" على رأي القائلين بهذا الرأي من علماء العربيات الجنوبية.
ويعد تأريخ "سبأ وذو ريدان" من أصعب عهود تأريخ "سبأ" كتابة، على كثرة ما عثر عليه من كتابات طويلة أو قصيرة تعود إلى هذا العهد. ولانزال في توقع كتابات أخرى نأمل أن تسد من الثغرات والفجوات التي لم تتمكن الكتابات التي وصلت إلينا من سدها، ولا أن تزيل الغموض الذي يحيط بهذا ا لتأريخ.
لقد عثر- كما قلت- على كتابات عديدة دونت في هذا لعهد، ومنها ما عثر عليه حديثنا ولكنها لم تخفف من عنائنا مما نلاقيه من مشكلات عن تأريخ هذه الحقبة، بل زادت أحيانا في مشكلاتنا هذه. فقد جاءت بأسماء متشابهة وبأخبار اضطرت الباحثين على خير وجهات نظرهم في كثير مما كتبوه، تغييرا. مستمرا والى إعادة النظر في القوائم التي وضعوها لحكام هذا العهد، كما باعدت بين وجهات نظر بعضهم عن بعض، فصارت لدينا جملة آراء تمثل وجهات نظر متباينة.
وتأريخ هذا العهد هو تاريخ مضطرب قلق، نرى "الشرح يحضب" يلقب نفسه فيه ب "ملك سبأ وذي ريدان"، ثم نرى خصما له يلقب نفسه باللقب نفسه، مما يدل على وجود خصومة ونزاع واختلاف على العرش،لا اتفاق وائتلاف. ثم نجد كتابات أخرى تدين بالولاء ل "الشرح يحضب" ولخصمه، معا وفي وقت واحد، وفي كتابة واحدة، وهو مما يشير ويدل على وجود اتفاق واختلاف. وهذه الكتابات تزيد في متاعب المؤرخ وتجعل من الصعب عليه التوصل إلى نتائج تأريخية مرضية مقنعة.

(1/1077)


--------------------------------------------------------------------------------

وترينا كتابات هذا العهد، أن الوضع كان قلقا مضطربا. وأن حروبا متوالية كانت تقع في تلك الأيام، لا تنتهي حرب، إلا وتليها حرب أخرى. وان المنتصر في الحرب كان كالخاسر، فهو ينتصر في حرب، ثم يخسر في حرب أخرى. وذلك لأن كفاءات مؤججي تلك الحروب كانت في مستوى واحد. ولهذا كان الخاسر فيها، لا يلبث أن يعود بسرعة فيقف على رجليه، يحمل سيفه ليحارب من جديد. حتى كادت الحروب تصير هواية، أو لعبة مألوفة، أما الخاسر الوحيد فهو: الشعب. أي الناس المساكين التابعين لحكامهم، الذين يكونون اسواد، لكنه سواد لا رأي له في حكم ما ولا كلمة. يساق من حرب إلى حرب، فيسمع ويطيع، لعدم وجود قوة له تمكنه من الامتناع.
والمتشاجرون البارزون في تلك المعارك والحروب، هم سادات "همدان"" وسادات حمير، أصحاب "ريدان"، وسادات حضرموت وقبان، وأقيال وأذواء وأصحاب أطماع وطموح، ارادوا اقتناص الفرص لتوسيع نفوذهم، واصطياد الحكم وانتزاعه من الجالسين على عرشه. ووضع مثل هذا، أضعف العربية الجنوبية بالطبع، وأطمع الحبش فيها، حتى صيرهم طرفا آخر في النزاع، وفريقا عركا قويا من فرق اللعب بالسيوف في ميدان العربية الجنوبية، يلعب مع هذا الفريق ثم يلعب مع فريق آخر، ضد الفرق الأخرى. وغايته من لعبه، التغلب على كل الفرق، وتصفيتها، ليلعب وحده في ميادين تلك البلاد. لذلك نجد أخبار تدخل الحبشة في شؤون هذا العهد وفي العهد الذي جاء بعده، بارزة واضحة مكتوبة في كتابات أهل العربية الجنوبية. ومكتوبة في بعض كتابات الحبش.
وقد رأينا في الفصل السابق كيف تخاصم بيتان من بيوت همدان هما بيتا: "علهان نهفان" و "فرعم ينهب" بعضهما مع بعض على الاستئثار بالحكم، والسيادة على مملكة سبأ. وكيف أن كل بي ت من البيتين كان يدعي أن له الحكم والملك، وأنه ملك سبأ، أو "ملك سبأ وذو ريدان"، وأنه هو الملك الحق.

(1/1078)


--------------------------------------------------------------------------------

ثم رأينا إن "شعر أوتر" "شعرم أوتر"، صار يلقب نفسه بلقب "ملك سبأ وذو ريدان"، وان خصمه "الشرح يحضب"، لقب نفسه بهذا اللقب أيضا، ومعنى ذلك حكم سبأ لأرض "ريدان" وهي أرض حمير على أغلب الآراء. وقد رأينا إن تلك الخصومة، لم تبق لمجرد خصومة ونزاع وادعاء على مللك، بل كانت خصومة عنيفة اقترنت بمعارك وحروب.
وليس في الكتابات التي بين أيدينا حتى الآن أي خبر يشرح لنا كيف انضمت حمير إلى لمجا، أو كيف لقب "الشرح يحضب" أو معاصره "شعر أوتر" أنفسها بلقب "مللك سبأ وذي ريدان" وماذا كان موقف ملوك حمير من هذا الاندماج. ولما كان كلا الرجلين "الشرح يحضب" و "شعر أوتر" من همدان، فهل يعني هذا إن الهمدانيين كانوا قد تمكنوا من حمير وغلبوا ملوك حمير على أمرهم، واضطروهم إلى الخضوع لحكمهم، فاعترفوا بسيادتهم عليهم، وتعبيرا عن ذلك الاعتراف وضعوا: "ذا ريدان" بعد اللقب الملكي القديم? إن الإجابة عن هذا السؤال، لا يمكن أن تكون إجابة مقبولة الا بعد أمد، فلعل الأيام تجود على الباحثين بكتابات حميرية تشرح موقف حمير الرسمي من هذا اللقب، كأن تعطيهم اللقب الذي كان يلقب الحمريون به ملوكهم، أو تشرح علاقة أولئك الملوك ب "ملوك سبأ وذي ريدان"، وماذا كان موقف ملوك "ريدان" من ملوك "سلحن" "سلحين" حصن "مأرب" ومقر الملوك.
ولكننا نجد فيا بعد إن الحمريين لم يكفوا عن قتال "الشرح يحضب"، ولاعن قتال "شعرم اوتر" "شعر أوتر" حتى بعد تلقبهما بلقب "ملك سبأ وذي ريدان"، كما سنرى إن قسما من قبائل حمير كان في جانب "شعر أوتر" وان قسما آخر كان في جانب "الشرح يحضب" وان قسما ثالثا كان خصما عنيدا للجانبين، وكان في جانب خصوم ملوك "سبأ وذي ري دان"? ومعنى هذا إن اللقب الجديد، لم يغن أصحابه من قتال حمير، وان الحميريين ظلوا يقاومون العهد الجديد غير مبالين بدعاوى ملوك همدان، وقد دام القتال كما سنرى عهدا طويلا أضر بالجانبين من غير شك.

(1/1079)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد أصاب هذا النزاع العربية الجنوبية بأسوأ النتائج، فهدمت مدن، وخربت قرى، وتحولت مزارع كانت خضراء يانعة إلى صحاري مجدبة عبوسة.
وتأثر اقتصاد البلاد ة باستمرار الحروب، وبهروب الناس من مواطنهم ومن مراكز عملهم إلى مواطن بعيدة، فتوقفت الأعمال، وسادت الفتن والفوضى. وقد كان المأمول تحسن الأوضاع بعد توسع ملك مملكة سبأ واندماج الإمارات وحكومات المدن فيها وانتقال السلطة إلى ملك واحد ذي ملك واسع، إلا أن هذا التنافس الشديد الذي أثاره المتنافسون على عرش الملكة، أفسد كل فائدة كانت ترجى من هذا ا التطور السياسي الخطير الذي طرأ على نظام الحكم في العربية السعيدة.

(1/1080)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد برهنت حملة الرومان على العربية السعيدة وقد وقعت في هذا العهد، وكذلك حملات الحبش، وقد وقعت في هذا العهد أيضا، على أن حكومة "سبأ وذو ريدان" لم تكن حكومة قوية متماسكة، ولم تكن لديها قوات حربية قوية، ولا جيوش منظمة مدربة، حتى لقد زعم من أرخ تلك الحملة من الكتبة اليونان، أن الرومان لم يقاتلوا العرب، ولم يصطدموا بقواتهم اصطداما فعليا على نحو اصطدام الجيوش، وأن المحاربين العرب، لم يكونوا يملكون أسلحة حربية من الأسلحة المعروفة التي تستعملها الجيوش، وأن كل ما كان عندهم هو الفؤوس والحجارة والعصي والسيوف، ولذلك لم يتجاسروا على الالتحام بالرومان. وقد لاقى الرومان من الحر والعطش والجوع، ما جعلهم يقررون التراجع والعودة إلى بلادهم، فهلك أكثرهم من العوامل المذكورة. ويؤيد هذا الرأي أيضا توغل الحبش في العربية الجنوبية وتدخلها في أمورها الداخلية، مع إنها دون الرومان في القوة وفي التنظيم الحربي بكثير. وتوغلهم هذا يدل على أن العربية الجنوبية لم تكن تملك اذ ذاك قوة بحرية قوية، بحيث تقف أمام الحبش، وتمنعهم من الوصول إلى السواحل العربية مع أن الحبش أنفسهم، لم يكونوا يملكون قوة بحرية يعتد بها. ولعل الرومان ساعدوهم في نزولهم في البلاد العربية، لأنهم كهانوا تحت تأثيرهم، كما صاروا تحت تأثير الروم، أي البيزنطيين من بعدهم، ولا سيما بعد دخولهم في النصرانية.
ويبدأ عهد "ملوك سبأ وذو ريدان" بالنزاع الذي كان بين "الشرح يحضب" وأخيه "يزل بين "يأزل بين" ابني "فرعم ينهب" من جهة، وبين "شعرم أوتر" و "يرم أيمن"، وهما ابنا "عهان نهفان" "علهن نهفن" من جهة أخرى، وهو في أصله نزاع قديم له تاريخ سابق ومقدمات ترجع إلى أيام أجداد الطرفين، فالنزاع الذي فتح به عهد "سبأ وذو ريدان"، هو فصل أول من جزء من كتاب هو جزء متمم لكتاب سابق. ولا نريد هنا أن نعيد الحديث عن تلك الخصومة التي شغلت الأجيال الأخيرة من مملكة سبأ.

(1/1081)


--------------------------------------------------------------------------------

وحظ "الشرح يحضب" لا بأس به، بالقياس إلى من تقدمه من المكربين أو الملوك، فقد بقي حيا في الإسلام، وخلد في كتب الإسلاميين، فذكره "الهمدانى" في كتابه "الإكليل"، وسماه "إلى شرح يحضب"، ونسب إليه قصر "غمدان"، وروى له شعرا زعم انه قاله، وذكر إن "بلقيس" هي ابنته. وحكى "ياقوت الحموي" قصة في جملة القصص التي رواها الأخباريون عن بناء قصر "غمدان"، نسبها إلى "ابن الكلبي"، زعم فيها إن باني هذا القصر هو "ليشرح بن يحصب". و "ليشرح بن يحصب" هو "الشرح يحضب". وقد ذكر في صور أخرى،مثل "أبي شرح" و "يحضب شرح"، وهي-ولا شلك-من تحريفات النساخ.
ونسب "الطبري" بلقيس إلى "ايليشرح"، فجعلها ابنته. أما "حمزة الأصبهاني"، فقد جعلها "بلقيس بنت هداد بن شراحيل". وقد قصد ب "شراحيل" "الشرح يحضب"، ولا شلك، فصيرها حفيدة له.
وهكذا رفع أهل الأخبار أيام "الشرح يحضب"، فصيرها في عهد "سليمان مع وجود فرق كبير جدا بين زماني الرجلين وقد نص في الكتابات على أصل "فرعم ينهب"، فذكر انه من "بكيل" وذكر انه من "مرثد"، و"مرثد" عشيرة من عشائر "بكيل". فهو إذن من قبيلة "همدان"، من غير شك، الا اننا لا نعرف عنه ولا عن والده شيئا يذكر فلا ندري أكان والده من البارزي المعرفين في ايامه أم لا. ونستطيع أن نقول بكل تأكد إنه لم يكن ملكا، والا ذكر اسمه، وأشير إله والى لقبه في النصوص التي ورد فيها اسم ابنه "شعر أوتر" شعرم أوتر". ومعنى ذلك ان ابنه "شعرم أوتر" لم يكن من الأسر المالكة الحاكمة، بل انتزع الملك بنفسه وكون نفسه، ومهد الحكم بذلك لويه: "الشرح يحضب" و يأزل بين"

(1/1082)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ورد اسم "فرعم ينهب" فرع ينهب" فارع ينهب" في النصوص Jammme 566 و CIH 299 و "نشر رقم 59". وأشير في النص Jamme 566 إلى "الشرح يحضب" و"يأزل بين" ابني "فرع ينهب"، ولكنه لم يذكر بعد الاسمين واسم الوالد جملة "املك سبا"، بل ذكر " ملك سبأ"، أي أن هذا اللقب يعود إلى "فرع ينهب"، كما انه ذكرت في السطرين الأول والثانية جملة "رجلي ملكن"، أي "رجلي الملك"، مما يدل على أنه قصد ملكا واحدا، وهو "فره ينهب". وأما لفظة "رجلي"، فتعني "ربشمس اضاد" "ربشمس اضأد" و "سعد شمسم" "سعد شمس" شقيقه، وقد كانا مقربين عند الملك يقضيان أمور، فهما الجلان المختاران عنده، وموضع سره.
وقد لقب " فرع ينهب" في النص: "نشر 59" ب "ملك سبأ". وقد ذكر فيه أسماء إلهين، هما: "بعل أوام"، أي المقه، و "سمع" "سميع" وهو "بعل حرمتن"، اسم مكان فيه معبده.
ويرى "فون وزمن" إن الملك "فرعم ينهب" "فرع ينهب" "فارع ينهب" "الفارغ ينهب"، هو الملك الوحيد الذي نعرفه في هذا العهد. ويرى إن سبب عدم تحرش حمير به، هو بسبب كونه ملكا لقبائل سبئية محتمية بأرضين مرتفعة محصنة. ويرى إن عهد مشاركة ابنه " معه في الحم، كان في أيام وجود "ياسر يهنعم الأول" وابنه "شمر يهرعش الثاني" في "ظفار" و "مأرب" ويرى أيضا إن "فرع ينهب" وابنيه كانوا ثلاثتهم تابعين لسلطان ملوك حمير: "ملوك سيأ وذو ريدان".

(1/1083)


--------------------------------------------------------------------------------

كان "الشرح يحضب" مقاتلا محاربا، ذكر انه قاتل في أيام أبيه "فرعم ينهب" حمير وحضرموت، لتحرشهم بسبأ وغزوهم لها. وقد سجل خبر حربه هذه معهم في كتابة وصلت إلينا، سقط منها اسم صاحبها، يفهم منها إن صاحبها قدم إلى معبد "المقه" المقام في "ذ هرن" "ذي هران" وثنا مصنوعا من الذهب، حمدا له وشكرا، لأنه مكن سيده "الشرح يحضب بن فرعم ينهب" من أعدائه، ومن عليه بالنصر وأوقع بعدوه هزيمة منكرة وخسائر جسيمة، ولأنه نصر سيديه "الشرح" وشقيقه "يأزل بين" في غزوهما حمير وحضرموت، ولأنه مكنهما، وهما على رأس جيوش "سبأ" و "بحض" "باحض" من الانتصار على قوات "اظلم بن زبنر" "أظلم بن زبنر".
ولم ترد في هذا النص إشارة إلى موقف الهمدانيين من حضرموت وجمر في حربهما هذه مع سبأ، فلم يرد فيه انهم ساعدوهم أو اشتركوا معهم. أما "أظلم بن زبفر"، فالظاهر انه هو الذي كان يقود القوات المشتركة التي حاربت السبئيين، قوات حمير وحضرموت.
وفي النص Glaser 119 خبر غزو "الشرح يحضب" أرض حمير وحضرموت ولم يكن "الشرح" يومئذ ملكا، ولكنه كان في درجة "كبر" أي "كبير" على "أقين" "أقيان" "كبر اقين" "كبير أقيان". وهي الدرجة التي كان عليها حتى صار ملكا. وقد عاد "الشرح" بغنائم كثيرة، وبعدد كبير من الأسرى. ووصول لهيب هذه الحرب إلى أرض "خولان". وقد قدم صاحب هذه الكتابة إلى حاميه وإلهه "ومن بعل علمن" "رمان بعل علمان"، الحمد والشكر على هذا التوفيق الذي وفقه له "الشرح"، وقدم إلى معبده نذرا هو وثن "صلمن" تعبيرا عن هذا الشكر.
والكتابات التي نعت "الشرح يحضب" فيها ب "كبر اقين" "كبير أقيان" إذن هي من الكتابات القديمة من أيامه يوم كان في درجة "كبر" "كبير"، أي في منصب عال رفيع من مناصب الدولة. فقد عثر على كتابات في "شبام أقيان" وفي "شبام سخيم"، ظهر منها إنها من هذا العهد.

(1/1084)


--------------------------------------------------------------------------------

ومنطقة "اقيان" التي كان "الشرح يحضب" "كبيرا" عليها، هي "شبام أقيان". وتقع عند سفح "جبل كوكبان".
أصبح للحميريين في هذا الوقت شأن يذكر: أصبحوا قوة فعالة في السياسة العربية الجنوبية، وزجوا أنفسهم في هذا النزاع الداخلي في حكومة سبأ دون أن يقيدوا أنفسهم بجبهة معينة. كانت سياستهم هي مصلحتهم. وأما حضرموت فقد كانت تفتش عن حليف لها لتحافظ على حياتها وكيانها، كانت قد تحالفت مع "علهان" على حكومة مرثد، وحافظت على عهدها هذا، فأيدت جانب "شعرم أوتر" في نزاعه مع الشرح يحضب.
غير أن مملكة حضرموت لم تبق مدة طويلة إلى جانب "شعر أوتر"، اذ نراها- كما يظهر من النص Glaser 825- في حرب مم مه أيام تلقبه بلقب "ملك سبأ وذو ريدان". وربما كان اختلافهما على أسلاب "ضبان" هو سبب افتراق حضرموت عن همدان. فقد تمكن شعر اوتر من الاستيلاء على جزء من أرض حمير ومن استمالة قسم من حمير إليه، بينما سال قسم آخر إلى "الشرح يحضب". وأرادت حضرموت ضم أرض "ردمان" إليها، وأرض ردمان من الأرضين التي كانت تابعة لمملكة قتبان، وهنا وقع الاختلاف. فقد كان "شعر أوتر" يريدها لنفسه، فحارب من أجلها في المعركة التي وقعت عند "ديرم" "ديريم" "دير".
ويظهر من الكتابات لمذكورة أن الردمانيين انتهزوا فرصه الحرب التي نشبت بين "شعر أوتر" و "العز" ملك حضرموت، فأغاروا على أرض سبأ، وقصدوا سد مأرب يلحقوا به أضرارا، غير أن قبيلة "حملان" التي كانت تحرس السد قابلتها ورجعتها إلى حيث أتت، وبذلك أخفق غزو ردمان ولم ينل السد أي سوء كان. وقد يكون هذا الهجوم بأمر من مللك حضرموت، كانت الغاية منه، أنزال ضربة قاصمة بالسبئيين، بتخريب سد هم الذي هو عرق الحياة بالقياس إليهم والى مأرب العاصمة، فترتاح بذلك حضرموت. وقد كان هذا الغزو في أيام "الشرح".
وأغلب الظن أن وقوع هذا الغزو كان أثناء الحرب التي نشبت بين "شعر أوتر" ومللك حضرموت.

(1/1085)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد كان "الشرح يحضب" يومئذ ضد حضرموت. وقد ورد اسمه في النص المذكور الا انه لم يشر إلى موقفه منها، ولكن ذكر على العادة اسمه ولقبه ثم ذكر اسم "شعرم أوتر" بعده، فلا ندري أكان قد أسهم هو أيضا في هذه الحرب مع "شعر أوتر"، أم وقف موقف المتفرج ينتظر النتيجة ليعن موقفه من بعد، مهما يكن من شيء فقد أحس مللك حضرموت بموقف "الشرح"، وعرف انه يريد إن يتربص به، فأوعز إلى الردمانيين بغزو أرض مأرب وبتهديم السد على نحو ما ذكرت.
وقد حارب الردمانيون الحضارمة كذلك، وكانوا في هذا الزمن حلفاء لحمير. ويرى بعض الباحثين إن حمير كانت إلى جانب "الشرح يحضب"، وقد ساعدته في قتاله الحضارمة. وفي النص المذكور مواضع غامضة ونواقص تحتاج إلى دراسة جديدة وإعادة نظر في صحة نقل الكتابة عن الأصل.
ولم تنقطع حروب "الشرح يحضب" مع حمير وحضرموت بعد توليه العرش، فإنا لنجد في نص إن "الشرح"، وكان يومئذ ملكا على "سبأ وذي ريدان" قد حارب الحميريين والحضرميين، وكان أخوه اذ ذاك يشاركه في لقبه هذا. وقد انتصر فيها على أعدائه، غير إن مثل هذه الانتصارات وفي مثل تلك الأيام وفي أرض وعرة متموجة قبلية، لا يمكن أن تكون انتصارات حاسمة، تأتي بنتائج إيجابية لمدة طويلة. ذلك لأن المغلوبين سرعان ما يجمعون شملهم أو يتحالفون مع قبائل أخرى، فيعلنون حربا أخرى، والحروب كما نعلم جزء من حياة القبائل.
وقد ورد اسم "الشرح يحضب" وأخيه "يأزل بين" في النص الموسوم Glaser 220، وهو نص دونه جماعة من "بتي بتع"، و "بنو بتع" هم من "همدان". دونوه عند إتمامهم بناء "معبد" و "مزود"، تيمنا به وتخليدا له، وليقف الناس على زمن البناء ذكروا اسمي الملكين.

(1/1086)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم يرد فيه اسم "شعرم أوتر" أو غيره من نسله، مع انهم من "بتع"، و "شعرم أوتر" من "بي بتع". وقد يكون من تعليل ذلك إن هؤلاء البتعيين كانوا من أتباع "الشرح يحضب"، وان قسما من "بتع" كانوا مع "الشرح"، فلم يشيروا إلى اسم "شعرم أوتر"، وقد يكون تعليله إن "شعرم أوتر" كان قد توفي قبل "الشرح"، أو إن "الشرح" كان قد تغلب عليه، أو على من ولي الأمر بعده، ولم يعد أمامه أحلى ينافسه من البتعيين.
وفي الكتابات التي وسمت ب Jamme 574 و Jamme 575 و Jamme 5905 ، وهي كتابات عثر عليها منذ عهد غير بعيد، أخبار عن معارك وحروب وقعت بين الملك "الشرح يحضب" وشقيقه "يأزل بين" من جهة، وبين الأحباش ومن كان إلى جانبهم من قبائل من جهة أخرى. يحدثنا الملكان في النص: Jamme 574 انهما انتقما "نقمن" من الحبش ومن حلفائهم قبائل "سهرتن" "سهرة"، وذلك في معارك وقعت في مقراتهم "بمقرهمو"، أي منازلهم وديارهم الثابتة في وادي سهام، فأنزلا بهم خسائر فادحة، ثم توجه الملك "الشرح يحضب"، ومعه بعض جيشه وبعض أقياله لمحاربة "احزب حبشت" أي أحزاب الحبشة، ويريد بهم فلول الحبش وجيوشهم، فالتقى بها في وادي سردد، واشتبك بالحبش وبقبائل سهرة في موضعين حيث جرت معارك معهم في موضع "ودفتن" "ودفتان" وموضع "وديفان" "ودفن"، ثم في "لقح". ثم اشتبك بعد هذه المعارك بخمس وعشرين جماعة من جماعات "اكسمن" و "جمدن" "جمدان" و "عكم" عك، وبجماعات من سهرة. وقد أنزل بكل هذه الجماعات خسائر فادحة، وغنم منها غنائم كبيرة، وأخذ منها أسرى وماشية كثيرة، ثم عاد إلى مدينة "هجرن صنعو" صنعاء. وحين وصل إليها جاءه رسل "تنبلتم" "جمدن" "جمدان" ومعهم أطفالهم يريدون أن يضعوهم ودائع عنده، تعبيرا عن طاعتهم له، وإقرارا بخضوعهم لحكمه. فحفظهم رهائن عنده. وقد أقسموا، وأقسم قوم من أهل "لقح" يمين الإخلاص والطاعة، وحمد "الشرح يحضب" مع شقيقه "المقه ثهوان" على هذا التوفيق.

(1/1087)

admin
12-27-2010, 12:54 AM
ويظهر من هذا النص إن الأحباش، ومعهم أهل "سهرة" الذين كانوا قد استقروا واستوطنوا "وادي سهام" ، كانوا قد تحرشوا بالسبئيين، وقاتلوا جيوش "الشرح يحضب"، أي جيوش مملكة "سبأ وذي ريدان"، فقرر الملك الانتقام منهم والأخذ بثأره، فاتجه نحو الشمال حيث تقابل مع الحبش في "وادي سردد"، على مسافة "40" كيلومترا شمال مدينة "الحديدة". فوقعت معارك بينه وبينهم في سهل "ودفين" "ودفتان" و "دفن" "ووفان"، وفي أرض "لقح" "لقاح". وقد تقابل السبئيون بعد "لقاح" بجماعات عددها خمس وعشرون جماعة من "أكسوم" و "جمدن" جمدان، وعك، وسهرة. علبها جيش "الشرح" وشتت شملها. ثم عاد الملك بعد ذلك إلى "صنعاء"، حيت استقل رسل "جمدن"، على نحو ما ذكرت.
ويحدثنا النص ب Jamme 575عن معارك وقعت أيضا بين "الشرح يحضب" وأخيه "يأزل بين" من جهة، وبين الأحباش وحلفائهم عشائر "سهرة" وعشائر أخرى من جهة ثانية، ويذكر أن الملك "الشرح يحضب" وضع خطة محاربة الأحباش وحلفائهم وهو في "صنعاء". وبعد أن أتم كل شيء، أرسل مقدمة من الأدلاء "بقد ميهمو دلولم"، لتتعرف على مواضع العصابات المنشقة. ثم سار الجيش إلى أرض عشائر "سهرة" حيث أبلغ بوجود عصابات فيها، كانت منتشرة في كل مكان ابتداء من موضع حصن "وحدة" "وحدت" "عرن وحدت". فلما رأت العصابات ذلك الجيش، ظعنت "ظعنو" إلى البحر "لبحرن"، فتعقب آثارها حتى أدركها فحاربها. ثم التف حول الحبش وحلفائهم من "عك" و "سهرة" الذين كانوا قد عسكروا بعيدا عن مواضع أطفالهم وأموالهم، فأعمل الجيش فيهم السيف، فقتل منهم عددا كبيرا وذبح الجيش، حتى صاروا بين قتيل أو أسير، وحصل جيش "الشرح" على غنائم كثيرة من هؤلاء.

(1/1088)


--------------------------------------------------------------------------------

ثم اتجه جمش "الشرح يحضب" بعد هذه المعارك نحو الشرق، لمنازلة فلول الأحباش وبقيتهم وكذلك عك وبقية حلفائهم، فبلغ موضع "عينم" "عين" و "هعان" "هعن"، واصطدم بهم، فأعمل فيهم السيف حتى تغلب عليهم وأخذ منهم عددا كبيرا من الأسرى واستولى على غنائم كبيرة، عاد بها، حيث وضعت أمام شقيق "الشرح يخضب"، أي "يأزل بين" في "صنعاء" وفي قصر "سلحن" سلحين، أي قصر الملك في مأرب.
ولا نعلم شيئا أكيدا عن موضع حصن "وحدت" "وحدة"، ويظن بعض الباحثين أنه لا يبعد كثيرا عن وادي "صور"، وهو أقرب إلى البحر منه إلى الهضاب، ذلك لأن العصابات كانت قد هرعت منه إلى البحر، لتنجو بنفسها من تعقب جيش "الشرح" لها. وهناك واد يسمى "وادي وحدة"، وهو في أرض حمير، غرب-"قعطبة" التي تقع على مسافة "125" كيلومترا شمال غرب "عدن" وحوالي "170" كيلومترا شمال شرقي "مخا".
ولا نعلم شيئا أكيدا عن موضع "عينم" "عين" "العين"، واذا ذهبنا إلى انه موضع "العين" الذي يقع على مسافة أربعين كيلومترا من شمال شرق صنعاء وزهاء عشرة كيلومترات من جنوب غربي عمران، واذا فرضنا إن "هعن" وهو الموضع الثاني الذي جرى فيه القتال هو موضع "هواع" الذي يقع على مسافة "35" كيلومترا من شمال غرب عمران، فان ذلك يقربنا من منازل قبائل "بكيل" المذكورة في السطر الثالث من النص، حيث كانت قد اشتركت مع الحبش في قتال جيش "الشرح يحضب" كما يفهم منه. وهذا مما يحملنا على الذهاب إلى أن "عينم" هي "العين"، أن "هعن" هي "هواع".

(1/1089)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد أشير في نص ب Jamme 590. إلى معارك وحروب وقعت مع عشائر "سهرة"، إذ يحدثنا في هذا النص: "وهب أوم" و "سعد أوم"، وهما من بني "كربم" "كرب" و "معدنم" "معدن"، بأنهما قدما إلى الإله "المقه" "بعل أوام" تمثالا، لأنه من عليها فأعادهما سالمين من "سهرة"، حيث قاتلا هناك مع سيدهما "الشرح يحضب"، ولأنه أعادهما سالمين من المعارك التي جرت فيها، وكانا في جيش هذا الملك، حيث هوجمت قطعات "مصر" جيش ذي ريدان في حقل "ريمتم" "ريمت" "ريمة"، ولأنه أنعم عليهما بغنائم كثيرة وبأسرى، ولكي يديم نعمه عليها وعلى سيديهما الملكين.

(1/1090)


--------------------------------------------------------------------------------

وتنبئنا النصوص: Jamme 578 و Jamme 850 و Jamme 581 و Jamme 586 و Jamme 589 بأن الملكين الأخوين حاربا "كرب ايل ذي ريدان" وكل من كان معه من كتائب محاربة "كل مصر" وقبائل "أشعب" ومن محاربي حمير الذين حاربوا إلى جانبه وحالفوه وكذلك "ولدعم"، أي القتبابيين. وقد اجتمعت كل هذه القوى تحت إمرة "كرب ا"ل" وتقدمت نحو "حقل حرمتم" "حرمة"، ففاجأتها قوات الملكين عند "اساي" "أسأى" و "قرنهن" "قرننهن" حتى "عروشتن" و "ظلمن" "ضلمان" و "هكريم" "هكرب"، فأذاقتها الموت، ومع ذلك بقيت تلك القوات، منشقة خارجة على طاعة الملكين، تباغت قواتهما بين الحين والحين، تغدر وتخون، لا تراعي ذمة ولا تخشى عقابا، على الرغم من الخسائر التي حلت بها، فقرر الملكان عندئذ محاربتها، وسارت قواتهما إلى "كرب ايل ذي ريدان" والى حلفائه الذين انضموا إليه وساعدوه: من حمير ومن قتبان، ومن أقيال وجيوش وفرسان، وكانوا قد تجمعوا في وادي "اظور" "أظور"، ولما وصلت قوات الملكين، اشتبكت بهم عند مدينتي "يكلا" "يكلأ" و "ابون" "أبون"، فتغلبت عليهم قوات الملكين، واضطرت بعض كتائب "كرب ايل" إلى التقهقر إلى مواطنها، وغادر "كرب ايل" المكان تاركا فيه من تبقى من جيشه ولم يرسل رسلا عنه، وسرعان ما أعلنوا انصياعهم لأوامر الملكين وخضوعهم له، وحلفوا على الطاعة. أما "كرب ايل ذي ريدان" فقد لجأ إلى مدينة "هكرم" "هكر" فتحصن بها، وأغلق أبوابها، فاضطر الملكان إلى قصد أرض حمير، ومحاصرة المدينة التي اقتحمت ونهبت.

(1/1091)


--------------------------------------------------------------------------------

يظهر مما تقدم إن قوات "الشرح يحضب" هاجمت قوات "كرب ايل ذي ريدان" في أرض "حرمتم" "حرمة" في بادىء الأمر، وتقع على مقربة من جبل "أتوت"، جنوب شرقي "ريدة". وقد ألحقت قوات "الشرح" قوات "كرب ايل" خسائر متعددة، وهزمتها في جملة معارك وقعت فيما بين "اساى" "أسأى" و "قرننهن" "قرننهان"، و امتدت حتى "عرشتن" و "ظلمن" "ظلمان" و "هكريم" "هكر". وهي مواضع لا نعرف من أمرها شيئا يذكر. ويظن إن موضع "عروشتن" هو "العروش" في أرض "رداع". وهناك مواضع أخرى يقال لها "عروش"، منها موضع ذكره "كلاسر"، وسماه "بلاد العروش"، ويقع على مسافة "95" كيلومترا جنوب غربي مأرب، وزهاء "70" كيلومترا جنوب قي شرقي صنعاء، وموضع آخر يسمى بهذا الاسم يقع في منتصف طريق صرواح وذمار.
وهناك موضع يقال له "ظلمة" "ظلمه"، يقع على مسيرة ثلاث ساعات من غرب "سحول" السمحول. و "سحول" في أرض حمير. ويقع وادي سحول في شمال "إب"، فلعل له علاقة بموضوع "ظلمان".
ويظهر من النص، Jamme 578 أن "كرب ايل" بعد أن أصيب بهزائم في أرض "حرمة" في المعارك التي أشرت إليها، نبذته قبائل حمير، فاضطر إلى أن يتراجع إلى أماكن أخرى، ليجمع فلوله ويضم إليه من بقي مواليا له، فاستطاع إن يجمع اعوانه وانصاره ومن كان يميل إليه ويؤيده، جمعهم في وادي "أظور"، غير إن قوات الملكين هاجمته فأصابته بهزيمة اضطر على أثرها إلى الالتجاء إلى مدينتي "يكلا" "يكلأ" و "ابون" "أبون" "أبوان"، وأجبر على إن يعطي عهدا بالولاء للملكين، وكل الاعتراف بسيادتهما عليه. إلا أنه تحصن بمدينة "هكرم" "هكر"، وامتنع بها وأغلق عليه الأبواب عندما جاءته قوات الملكين تطلب منه الاستسلام. وهاجمت قوات الملكين المدينة، واستباحتها، فاضطر "كرب ايل إلى الاستسلام واعلان طاعته وخضوعه لملكين.

(1/1092)


--------------------------------------------------------------------------------

ويحدثنا النص ب Jamme 586 بأن الملكين تمكنا من سحق عصيان حمير ومن انزال خسائر فادحة بمحكاربيهم ومن تأديب عشائرها، ثم أنزلا خسائر فادحة بقوات "كرب ايل" وبكتائب حمير المحاربة التي كانت معه، وغنما من هذه المعارك غنائم كثيرة. وقد قام صاحب النص بغارة مع أربعين جنديا على منطقة "سرعن" سرعان، فوجدوا هناك مئة جندي من جنود حمير فباغتوهم، وقتلوا منهم سبعة وعشرين نفرا، ثم تقدم صاحب النص على رأس قوة مكونة من خمسين جنديا من "سرعان"، فهاجم قبيلة "قشمم" "قشم"، وتمكن رجاله من قتل "الزاد" "الزأد" من عشيرة "ربحم" "ربح" "رباح"، ومن قتل واحد وخمسين محاربا من رجاله. ثم عاد رجاله بغنائم كثيرة وبعدد من الأسرى.
ويظهر إن القتيل "الزاد" "الزأد"، كان رئيسا من رؤساء العشائر، ومن مثيري الاضطرابات والفتن، ومن العصاة على حكم سبأ وذي ريدان. وأما "قشم"، فقبيلة أو عشيرة، كانما منازلها جنوب "ردمان" وغرب "مضحيم" مضحي.

(1/1093)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد سجل الملكان أخبار انتصارات لهما في نص موسوم ب Jamma 576. وقد افتتح نصهما بمقدمة تخبر إن الملكين انتصرا بفضل توفيق الإله "المقه ثهون" "المقه ثهوان" ومساعدته لهما على جميع أعدائهما من المحاربين والقبائل ومن ثار عليهما، ابتداء من القبائل النازلة في الشمال وفي الجنوب إلى المحاربين الذين حاربوا على اليابسة وفي البحر، وانهما لذلك شكرا إلههما بأن قدما إليه تماثيل تعبيرا عن حمدها له وامننه الطائلة عليها، ولأنه وفقهما أيضا في أسر "ملكم" مالك، ملك "كدت" "كدة" "كندة"، وأسر جماعة من سادات قبيلة "كدت" "كدة" "كندة"، لأن "مالكا" كان قد ساعد أعداء "المقه" وأعداء الملكين: "مراقيس بن عوفم" "مرأقيس" امرىء القيس بن عوف، ملك "خصصتن" "خصصتان". وقد وضعوا في مدينة "مرب"، وبقوا فيها إلى أن سلم لهما الشاب "مراقيس" "مرأقيس"، وكذلك ابن الملك "مالك" وأبناء سادات كندة، ليكونوا رهائن عندهما، فلا يحنثوا بيمين الطاعة للملكين. وقد سلموا للملكين أفراسا وحيوانات ركوب وجمال.
ويظهر من الفقرة المتقدمة من النص إن "مالكا" كان من "كندة" "كدة" وكان ملكا عليهما أيام حكم "الشرح يحضب" وشقيقه "يأزل بين". وقد ساعد "مراقيس" "مرأقيس" "امرئ القيس" مك مملكة صغيرة اسمها "خصصتن" "خصصتان"، الذي كان ضد سبأ، فأثارت هذه المساعدة غضب الملكين، فساقا جيوشهما على كندة وعلى "خصصتن"، وقد انتصرا عليهها، فاسر ملك كندة، وأسر معه عدد من سأدات كندة، فأخذوا إلى مدينة تسمى "مرب"، يظن الباحثون إنها ليست "مأرب"، بل مدينة أخرى من مدن شعب "مرب" Marabites الذي يسكن أرض عدن، ووضعوا رهائن فيها، إلى أن جيء ب "مراقيس" "مرأقيس"، وهو ملك شاب، وبإبن ملك كندة وبأولاد سادات كندة حيث وضعوا رهائن عند الملكين، ليضمنا بذلك بقاء كندة ومملكة "خصصتن" على الطاعة والاخلاص لهما.

(1/1094)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظن إن أرض مملكة "كدت" "كدة" كندة كانت في جنوب "قشم". وأما أرض "خصصتن"، فتقع في أرض "عدن".
وقد تحدث الملكان بعد انتهاء كلامهما على كندة وعلى "خصصتن" عن حملات تأديبية انتقامية أرسلاها على أحزاب "احزب" حبشية محاربة، أي عصابات منهم كانت تعيث فسادا فتغير وتغزو، وعلى عشائر "سهرة"، وعلى "شمر ذي ريدان"، وعشائر حمير، وذلك لأن كل من ذكروا حنثوا ببمينهم وخاسوا بوعدهم الذي قطعوه على أنفسهم، فثاروا على ملكي "سبأ وذي ريدان"، فخرج الملكان من "مأرب" إلى "صنعاء"، لمحاربة "شمر ذي ريدأن" وعشائر حمير و "ردمان" و "مضحيم" "مضحى". وقاد الملك "الشرح يحضب" بعض أقياله وجيشه وفرسانه ودخل أرض حمير، حيث حطم مقاومة حمير وقمع ثورتها، واقتحم "بيت ذ شمتن" "بيت شمتان" ومدينة "دلل" دلال و "بيت يهر" ومدينة "اظور" على حدود أرض "قشم"، وأباح تلك المدن، وحصل منها على غنائم طائلة وأسر كثيرين، ثم عاد إلى معسكره بين مأرب وصنعاء.
ويظهر من هذا الخبر أن "شمر ذي ريدان" ومن كان معه من عشائرحمير ومن الحبش وعشائر "سهرة"، خاصم ملكي سبأ، فجرد المللك "الشرح يحضب" حملة عسكرية عليه وعلى حلفائه قادها بنفسه، فتمكن كما يذكر في نصه من الانتصار عليها ومن التغلب على المتحالفين ومن فتح المدن المذكورة. غير أن هذا النصر لم يحقق له اسكات "شمر ذي ريدان" وإخماد حركته وحركات من كان معه، إذ سرعان ما عاد "شمر" إلى العصيان والى الثورة على ملكي سبأ، والى تجدد القتال بينه وبينهما، وسرعان ما عاد مع حلفائه الحبش يقارعون جيش "سبأ وذي ريدان" بالسيوف في معارك عديدة ذكرت في النص Jamme 576 وفي نصوص أخرى.

(1/1095)


--------------------------------------------------------------------------------

فبينما كان الملك "الشرح يحضب" مع جنوده في معسكراته بين مأرب وصنعاء، أرسل "شمر ذي ريدان" كتائب "مصر" من حمير إلى الأرض المحيطة بمدينة "باسن" "باسان" والى المدينة نفسها، التي هي "بوسان"، لتقوية استحكاماته هناك، وللاستعداد لمقاومة "سبأ وذي ريدان"، فأسرع "الشرح يحضب وتقدم على رأس أقياله وقواده وجيوشه نحو المدينة المذكورة، ففتحها واستباحها، وحصل جنوده على أسرى وغنائم، ثم اتجه الملك "الشرح يحضب" منها نحو سهل "درجعن" "درجعان"، فلم يجد أحدا يحاربه، لأن قوات "شمر" كانت قد انسحبت منه، فاتجه منه إلى أرض "مهانفم" مهأنف، وأرسل قوات خاطفة سريعة غزت سكانها، وتمكنت منهم وحصلت على غنائم كثيرة وعلى أسرى، ثم اجتازت قوات الملك حمر "مقلن" "يلرن" يلران، قاصدة مدينة "تعرمن" "تعرمان"، فافتتحتها وأسرت أهلها ثم عادت بأسراها وبغنائمها إلى معسكراتها بمدينة "نعض" "ناعض" فرحة مسرورة.
وقبيلة "مهانف" "مهانف" من القبائل المعروفة، التي ورد اسمها في عدد من الكتابات. وقد افترن اسمها باسم قبيلة "بكيل" في النص: CIH 140، وذكرت مع قبيلة أخرى تسمى "ظهر" ظهار.
وعاد "الشرح يحضب" فقاد جيشه لغزو القسم الشرقي من أرض "قشمم" "قشم"، فتمكن منه، وافتتح مدينة "ايضمم" "أيضم"، وكلى الأماكن الواقعة في هذه المنطقة من "قشم"، ثم عاد الجيش إلى معسكراته في مدينة "نعض".

(1/1096)


--------------------------------------------------------------------------------

وتحرك الملك "الشرح يحضب" مرة أخرى، فخرج من مدينة "نعض" على رأس قواته إلى أرض قبيلة "مهانفم" "مهأنف"، وكانت قواته تتألف من مشاة وفرسان، وفتح مدينتي "عثى" و "عثر"، وأخذ منهما غنائم كثيرة، وحصل على أسرى، ثم تركهما واتجه نحو مدينة "مذرحم" "مذرح" وهي مدينة عشيرة "مذرحم" "مذرح" "مذراح"، فحاربها وحارب عشيرة "مهأنف" التي فرت إلى مدينة "ضفو" "ضاف"، ففتحها وأخذ غنائم منها، ثم غادرها إلى مدينة "يكلا" "يكلأ" "يكلىء" حيث وجد بعض رؤساء ريدان وبعض كتائب حمير، فالتحم بهم وهزمهم من موضع "مرحضن" "مرحضان"، وتعقب فلولهم حتى بلغ "يكلا" "يكلأ"، وعندئذ عادت قوات "الشرح يحضب" إلى مدينة "نعض"، حيث معسكرها الدائم.
وقد انتهز الحميريون فرصة انسحاب قوات "الشرح يحضب" إلى "نعض" ففاوضوا رؤساء "يكلا" "يكلأ" على الاتفاق معهم للانتقام من السبئيين ولمهاجمة وادي "سر نجررم" "وادي نجرر" فأسرع الملك "الشرح" نحو "يكلا"، فبلغه إن روساءها لم يكونوا على وفاق مع حمير، وانهم دفعوهم عنهم، فعاد الملك إلى قواعد جيشه في مدينة "نعض"، ثم غادرها إلى "صنعاء".

(1/1097)


--------------------------------------------------------------------------------

وعلم الملك "الشرح يحضب"، وهو في "صنعاء" بأن "شمر ذي ريدان" قد أرسل رسلا إلى "عذبة" "عذبت" عذبة ملك "أكسوم" ليدعوه إلى شد أزر "شمر" ومساعدته على "الشرح يحضب". فقرر الملك الاسراع لمباغتة "شمر" ومن كان يؤيده، وترك "صنعاء" في الحال، لمباغتة عشائر حمير و "ردمان" و "مضحيم" "مضحي"، وأرسل في الوقت نفسه رسلا إلى الحبشة "حبشت". وقد هاجمت قواته سهل "حرور" و "ارصم" "أرص" و "درجعن"، فتغلبت على سكان هذه المواضع، وأخذت منهم أسرى وغنائم. وقد سار جيش الملك حتى بلغ موضعي "قريب" و "قرس" "قريس"، فردم آبارهما، واستولى على مدينة "قريس"، واتجه "الشرح يحضب" من هذه المدينة نحو أرض "يهبشر" و "مقرام" "مقرأم" و "شددم" "شدادم" "شدد" "شداد"، وأخذ غنائم وأسرى من أهل هذه الأرضين. وعندئذ وجد نفسه نحو "بيت راس" "بيت رأس"، فاستولى عليه وعلى كل حصونه وابراجه، وعلى مدينة "راسو" "رأسو"، ثم توجه نحو "بيت سنفرم" "بيت سنفر" حيث اخذ كل العصاة الذين كانوا قد اختلفوا فيه. ثم قصد مدينة "ظلم"، فوجه إليها قوات كبيرة من المشاة بقيادة ضباطه الكبار، فاستولت عليها، ودحرت خيرة قوات "شمر ذي ريدان" التي وضعها فيها، فجمع "شمر" قواته وكل من ساعده من حمير وردمان ومضحي، ليصد جيش "الشرح يحضب" وعسكر بها بين مدينتي "هرن" "هران" و "ذمر" "ذمار"، وأقام هناك استعدادا لجولة جديدة.

(1/1098)


--------------------------------------------------------------------------------

ورأى "الشرح يحضب" وجوب مباغتة هذه القوة المتجمعة، قبل إن يشتد ساعدها وتصبح قوة محاربة قوية، فسار على رأس الف وخمسمئة جندي وأربعين فارسا، ومعه عدد بن الأقيال، حتى التقى بجمع "شمر ذي ريدان" ومعه عشائر من حمير وردمان ومضحي، وزهاء ستة عشر الف بعير، فباغت "الشرح يحضب" جمع شمر، وهرب بعض الريدانيين وبعض عشائر حمير إلى مدينة "ذمار"، وذهب بعض الفرسان ومعهم قوات أخرى إلى معسكرتهم في "انحرم" "أنحر" و "طريدم" "طريد"، واخذ قسم من القوات يطارد "شمر ذي ريدان". ولم يتحدث النص مما وقع بعد ذلك، اذ اصاب آخر الكتابة تلف، أو لأن بقيتها كتبت على حجر آخر لما يعثر عليه، فأضاع خبر بقية الحملة.
ولكن النصوص: Jamme 577 و Jamme 585 و CIH 314+954 تفدينا في الوقوف على انباء معارك وقعت بين "شمر ذي ريدان" وحلفائه وبين "الشرح يحضب" بعد المعارك المتقدمة. وقد اصاب النص Jamme 577 تلف اضاع فهم مقدمته، فاقتحم بحملة: وقتل فرسه، ثم اتجهوا نحو مدينة "زخنم" "زخان"، واصابوا غنائم من كتائب حمير وردمان ومضحي ارضتهم، ثم غادرهم الملك "الشهرح يحضب" وذهبوا إلى "ترزنن" "ترزنان".
فيظهر من هذه الفقرة إن الملك "الشرح يحضب" اكتفى بعد انتصاره على خصومه في معركة مدينة "زخان"، فعاد إلى قاعدته، وذهب قسم من جيشه إلى مدينة "ترزنن"، ليستجم من القتال.
ثم يذكر النص أن "شمر ذي ريدان" ومن انضم إليه من حمير ومن "ولد عم" أي القتبانيين، صدوا عن الحق، وعصوا، وتجمعوا للزحف ثم ذهبوا إلى "ذمار" فتحصنوا فيها، ثم اتجهوا نحو مدينة "نعض"، ثم رجعوا وعسكروا بين المدينتين، فواجهتهم قوات "الشرح يحضب" وتعقبتهم في المواضع المذكورة، وأنزلت بهم خساثر كبيرة، ثم رجعت بغنائمها إلى مدينة "صنعاء". ومعها ماشية كثيرة وأسرى وغنائم وأموال طائلة.

(1/1099)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر أن "شمر ذي ريدان" قد تمكن خلال هذه المدة من إقناع الحبش بالانضمام إليه ومساعدته في حروبه مع خصمه "الشرح يحضب"،فأمده "جرمت ولد نجشين"، "جرمة ولد النجاشي" "جرمة بن النجاشي" بكتائب حبشية محاربة قوت مركزه كثيرا، ترأسها هو بنفسه وجاءته أمداد من "سهرة"، فاخذ يتحرش بالسبئيين، مما حمل الملك "الشرح يحضب" على السير إليه لمقابله مترئسا قوة قوامها ألف محارب وستة وعشرون فارسا، فاصطدم ببعض قوات "شمر" وتغلب عليها وأخذ منها أسرى وغنائم، ثم حدث إن وصلت أمداد من الحبش لمساعدة تلك الكتائب المندحرة في موضع "احدقم" "أحدق"، فقابلها مشاة "رجام" "رجاله" من جيش الملك "الشرح يحضب" أنزلوا بها خسائر وشتتوا شملها، وعاد الملك "الشرح يحضب" مع أقياله ورجاله إلى صنعاء، ومعه أسرى وغنائم وأموال طائلة.
وقد انتصر "الشرح يخضب" على الحبش كذلك، وعدد "جرمة" إلى قواعده مغلوبا على أمره، جزاء نكثه العهد وازدرائه بمهمة الرسل الذين أرسلهم "الشرح يحضب" إليه لإقناعه بعدم مساعدة "شمر ذي ريدان" ومن انضم إليه، وذلك كما يذكر النص.
وتطرق النص بعد ما تقدم إلى الحديث عن دحر ثائر آخر كان قد أعلن الثورة على الملكين، اسمه: "صحبم بن جيشم" أي "صحبة بن جيش"، "صحاب بن جياش". ويظهر أن ثورته لم تكن على درجة كبيرة من الخطورة لذلك لم يرأس "الشرح يحضب" نفسه الحملة التي أرسلت لقضاء عليه، بل رأسها قائد من قواده اسمه "نوفم" "نوف"، وهو من "همدان"و"غيمان". وقد تألفت الحملة من محاربين من "حاشد" ومن "غيمن" "غيمان".
فانتصر "نوف" على خصمه انتصارأ كبيرا، وكان في جملة ما جاء به من تلك الحملة رأس صبح ويديه.
وتقع مدينة "غيمان" على مسافة اثني عشر كيلومترا من جنوب شرقي مدينة صنعاء.

(1/1100)


--------------------------------------------------------------------------------

وانتقل الحديث من مقتل "صحب بن جيش" إلى الكلام على ثورة قبيلة "نجرن" "نجران" على الملكين. وكانت هذه القبيلة قد أكرهت من قبل على الخضوع والاستلام لحكم "سبا ذي ريدان"، ولكنها عادت فأعلنت عصيانها على الملكين، بتحريض من الحبش، فسار الملك "الشرح يحضب" بنفسه على رأس قوة من أقياله وفرسانه عليها، فحاصر مدينة "ظربن" "ظربان" مدة شهرين، فصبرت وقاومت ولم تسلم، لأنها كانت تؤمل أن تصل اليها امداد ومساعدات وقوات من ملك حضرموت الذي وعدها بذلك ومن قبيلة نجران، فقوى ذلك الأمل عنادها، وشد من عزيمتها على الدفاع عن نفسها، ولطول مدة الحصار الذي دام شهرين، قرر الملك العودة إلى صنعاء.
وقد ترك الملك "الشرح يحضب" قسما من جيشه لمراقبة الأوضاع، وضعه تحت قيادة قائدين من قواده الكبار، أحدهما: "نوفم" "نوف" الذي قتل الثائر "صحب بن جيش". ووصلت في خلال هذه المدة أمداد إلى ممثل النجاشي "سبقلم" "سبقل"، الشي يمثله في مدينة "نجران" ولدي قبيلة نجران، فهاجم القائدان بقواتهما وبمساعدة رجال محاربين من حاشد وغيمان وبأربعة عشر فارسا، واديي نجران، فأنتصرا وحصلا على غنائم عادا بها سالمين إلى "صنعاء".
ويظهر أن رجوع "الشرح يحضب" إلى "صنعاء" كان من أجل اعادة تنظيم صفوف جيشه ولوضع خطة محكمة لملاقاة أعدائه حتى إذا تم له ذلك ووضع الخطط اللازمة لمهاجمة أعدائه، غادر صنعاء متوجها إلى وادي "ركبتن" "ركبتان"، وقد التقى فيه بأعدائه فأنزل بهم خسائر كبيرة، فقتل عددا كبيرأ منهم، وأسر عددا من سادات "مراس" وأحرار "احرر" نجران، فسيقوا إلى "مسلمن" "مسلمان". ولم يستطع خليفة "عقبهو" النجاسي إن يساعد المنكسرين.

(1/1101)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد اعلن المنهزمون خضوعهم لحكم الملكين، ولكي يحافظوا على وعدهم هذا ويعبروا عن طاعتهم هذه، وضعوا ابناءهم وبناتهم رهائن في مدينة "صربن" "صربان" وفي وادي نجران. ولوجود بعض التلف في نهاية الفقرة الرابعة عشرة، لا نعلم ماذا حدث من تفاصيل في حصار نجران. غير إن النص يعود فيذكر إن "924" قتلهم الأعداء في المعركة وان "562" اسيرا وقعوا في ايدي قوات "الشرح يحضب"، وان "68" مدينة فتحت ونهبت وابيحت، وان ستين الف حقل من الحقول التي يرويها الماء دمرت، وان سبعا وتسعين بئرا دفنت ودمرت، وغنم المحاربون غنائم كثيرة رجعوا بها شاكرين إله سبأ على ما اشار النص إلى مقري حكم الملكين: "قصر سلحن" "قصر سلحان" في مأرب وقصر "غندن" "غندان" الذي هو قصر غمدان عند اهل الأخبار.
ويعد النص الموسوم CIH 314 من النصوص المههة المتعلقة بالحروب المذكورة. فهو يتحدث عن امور خطيرة وقعت في تلك الأيام. وقد جاء في هذا النص: إن "رب شمس"، قيل "قول" عشيرة "بكلم"، اي "بكيل" التي تكون ربع "ذريدت" "ذي ريدة"، و "وهب أوم" من "جدنم" "جدن" و "خذوت" "خذوة"، وكانا "مقتويي" "الشرح يحضب" وشقيقه "يأزل"، نذرا للاله "المقه بعل مسكت ويث" و "برأن"، تمثمالين من الذهب، لأنه من على سيديهما الملكين، وحفظهما، وكان ذلك في شهر "ذي قيل" من السنة السادسة من سني "تبع كرب بن ود ال" "تبعكرب بن ود ايل"، ولأنه ساعدهما ونصرهما وأذل اعداءهما، واكره "شمر ذي ريدان" على ارسال رسول عنه يطلب الصلح منهما، واجبر الريدانيين واحزابهم وحلفاءهم الحبشة من مدينتي "زوم" و "سهرة" على الطاعة والخضوع، وعلى طلب عقد الصلح، على حين كان "شمر ذو ريدان وحمير"، يطلب النجدة حلفائه الحبشة لمحاربة ملكي سبأ. ولكن الإله "المقه" خيب ظنه، وخذله، ونصر الملكين: "ملكي سبأ وذي ريدان".

(1/1102)

admin
12-27-2010, 12:55 AM
وقد ساعد "شمر ذي ريدان" واشترك معه في هذه الحرب عدد من القبائل منها: "سهرتن" "سهرتان"، و "ردمن" "ردمان"، و "خولن" "خولان"، و "مضحيم" "مضحي". وأرسا، قوة لحماية مدينة "باسن" "بأسن" "بأس"، وهي من المدن الواقعة في جنوب غرب "وعلان". وقد تقدم السبئيون في اتجاه مدينة "ظلم" لمحاربة "شمر" ومجابهته، حتى انتصروا عليه في مدينة "ذمر" ذمار.
وقد كان "شمر" من "ذي ريدان"، اي من حمير، ويظهر أنه أراد مزاحمة "الشرح يحضب" وأخيه على العرش، أو انه اختلف معهما، فوقعت الحرب بينهما، وتقدم "شمر" بقبائل "حمير" و "أولاد عم" "ولد عم" أي قتبان والقبائل الأخرى، واصطدم بجيش السبئيين على نحو ما ورد في النص.
ويظهر أن "شمر ذي ريدان" اضطر بعد ذلك إلى الاتفاق مع "الشرح يحضب" والى الخضوع والاستسلام له، فانتهت بذلك معارضته له، وتولى قيادة جيشه في حربه مع حضرموت.
ويمكن تلخيص الوضع السياسي في عهد "الشرح يحضب" على هذا النحو: كان خصم "الشرح" ومنافسه على الملك في هذا العهد هو "شمر"، وهو من حمير، أي سيد "ريدان" "ذ ريدن"، وعاصمته "ظفار". وقد استعان بالحبش، وطلب مساعدتهم على "الشرح يحضب"، فاضطر إلى الاستسلام له، ثم اشترك مع السبئيين في محاربة ملك حضرموت "العذ".. وكان يومئذ تحت حكم السبئيين. أما "شعرم أوتر" الهمداني، فكان من المؤيدين ل "الشرح يحضب" وكان يحمل أيضا لقب "ملك سبا وذي ريدان".
وفي هذا النص اشارة إلى تدخل الحبش في شؤون العربية الجنوبية في هذا العهد، والى وجودهم في مواضع من السواحل، والى تكوينهم مستعمرات فيها تتمون من الساحل الإفريقي المقابل.

(1/1103)


--------------------------------------------------------------------------------

وأنا لا إستبعد احتمال اتفاق الرومان مع الحبش يوم أرسلوا حملتهم المعروفة على العربية الجنوبية بقيادة "اوليوس غالوس"، وذلك باتفاق عقده حكامهم في مصر وقد كانا خاضعة لهم اذ ذاك مع ممثلي الحبش يقضي بأن يسهلوا لهم أمر الوصول إلى العربية الجنوبية، ويقدموا لهم المساعدات اللازمة، وان يتعاونوا جميعا في الأمور السياسية والاقتصادية، وفي مقابل ذلك يضمن الرومان للحبش مصالحهم في العربية الجنوبية ويقتسمونها فيما بينهم، أو يحافظون على مستعمرات الحبشة فيها.
ويظهر من الكتابات إن الحبش كانوا يغيرون سياستهم في العربية تبعا للاحوال التغيرة، فنراهم مرة مع الحميريين، وتارة عليهم، ونجدهم في حلف مع "شعرم أوتر"، ثم نراهم في حلف آخر ضده، ونجدهم مرة أخرى على علاقات حسنة ب "الشرح يحضب"، ثم نجدهم على أسوأ حال معه. وهكذا نرى سياستهم قلقة غير مستقرة، كل يوم هي في شأن، وهي بالطبع نتيجة للاحوال القلقة المضطربة التى كانت تتحكم في العربية الجنوبية اذ ذاك، ولمصالح الحبش الذين كانوا يريدون تثبيت أقدامهم في السواحل العربية المقابلة وتوسيع رقعة ما يملكونه باستمرار.
ويظهر من النص المتقدم إن "بكيل" التي تكون ربع "في ريدة" كانت مع الملكين "الشرح" و "يأزل"، و "بكيل" هي عشيرة الملكين، وقد كانت تنزل في أرض "ريدة" اذ ذاك.
وقد رأى بعض الباضين إن "شمر ذ ريدن" "شمر ذي ريدان" هو "شمر يهرعش"، وان الذي حارب "الشرح يحضب" وأخاه "يأزل"، هو هذا الملك. ومعنى ذلك انهم رجعوا زمان "الشرح يحضب" زهاء "250" سنة اذ جعلوه في أوائل القرن الرابع للميلاد، وهو رأي يعارضه باحثون آخرون. وقد صيروا "الشرح يحضب" من المعاصرين للملك "امرىء القيس" المذكور في نص النمارة، والمتوفي سنة "328 م"، وذكروا إن "مراقس"، الوارد في السطر الثاني من النص:Ry 535 هو "امرؤ القيس" المذكور.

(1/1104)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد وردت في النص المتقدم جملة "هجرن صنعو ورحبتن"، أي "مدينة صنعاء ورحبة" "رحابة". وقصد ب "صنعو" مدينة صنعاء عاصمة اليمن حتى اليوم. وأما "رحبة" أو "رحابة" "الرحبة"، فإنه مكان ذكره "الهمداني"، لا يبعد كثيرا عن صنعاء. ويكون هذا النص أول نص على ما نعلم وردت فيه إشارة إلى صنعاء. وهناك موضع آخر اسمه "صنعاء" وموضع اسمه "رحابة" أو "راحبة" يقعان في منطقة "مأرب" على الجهة اليمنى من وادي "ذنة"، ظن بعضهم أنهما الموضعان المذكوران في النص.
والرأي الغالب أن النص المذكور قصد ب "صنعو" مدينة "صنعاء"، وذلك لورود اسم قصر "غندن" "غ ن د ن" "غندان" أي "قصر غمدان" في كتابة أخرى من أيام "الشرح يحضب"، و "قصر غمدان" قصر معروف بقي قائما إلى الإسلام، وقد كان في صنعاء. ورقم هذه الكتابة هو: CIH 429. وقد ذكر مع القصر اسم القصر "سلحن" "سلحان" "سلحين" وهو دار الملوك الحاكمين في مدينة مأرب، فيكون "الشرح يحضب" قد أقام في القصرين، وحكم منهما. وقد ذكر "الهمداني" أن "الشرح يحضب" هو التي بني قصر غمدان، وأن "شاعرم أوتر" "شعرم أوتر" هو الذي أسس سور صنعاء. ويعرف قصر "غمدان" ب "غندن" "غندان" في الكتابات، فهو إذن من القصور الملكية القديمة مهن أيام السبئيين.
وقد أشر إلى مدينة "صنعو" في النص: REP. EPIG. 4139، وكان أصحابة مقتوين للأخوين الملكين "الشرح يحضب" و "يأزل بين". وقد وردت فيه أسماء اشخاص من "بني سارن" "بني سأران" و "محيلم" و"نعمت" "نعمة" و "موضعم". وقد جاءت أسماء هؤلاء في النص CIH 411 الذي دونوه تقربا إلى الإله "المقه ثهون بعل اوم" "المقه ثهوان بعل أوام".
ويتحدث النص: Jamme له عن معارك وقعت بين أعداء "تجمعوا وقتلوا" في واد سقط اسمه من النص. وقد انتصر "الشرح يحضب" على أعدائه وغلبهم.

(1/1105)


--------------------------------------------------------------------------------

ويتحدث النص بعد ذلك عن حرب أعلنها الملكان على حمير وحضرموت، غير انه لم يذكر أية تفاصيل عنها. وكل ما ورد فيه إن حمير انضمت من بعد إلى سبا وذي ريدان، واشتركت معها في بعض الحروب. ومعنى هذا إنها عقدت معاهدة صلح وانها حالفت الملكين.
ويرى بعض الباحثين إن النص:REP. EPIG 4336، الذي ذكرت فيه حرب وقعت بين "شمر في ريدان" من جهة و "ابانسم بن معهر"، أي "أبأنس بن معهر" "أب أنس بن معهر"، أو من "آل معهر" "معاهر" و "بخولم" وملك سبأ، وملوك حضرموت، من جهة أخرى، هو من النصوص المتأخرة التي دونت بعد النص المتقدم، أي بعل النص: Jamme 115 دون بعد يأس حضرموت وحلفاء "شمر ذي ريدان" من احراز اي انتصار كان على "الشرح"، فتفرقوا لهذا السبب عن "شمر" وانضموا إلى جانب الملك "الشرح"، وخاصموا "شمرا". ولهذا نجد حضرموت مع "الشرح يحضب" في محاربة حليفها السابق "شمر ذي ريدان".

(1/1106)


--------------------------------------------------------------------------------

ويحدثنا نص ناقص لم يدون تدوينا صحيحا حتى الان إن ثورة صرت في أيام "الشرح يحضب" قام بها "أيسن"، أي "إنسان" ثار على الآلهة، اسمه: "نمرن" "نمران" أو انه كان من عشيرة تسمى ب "نمران"، وتجرأ على آلهته بثورته هذه على "ملك سبأ وذي ريدان،. ثم يذكر النص، الا انه بفضل الآلهة ورحمتها تمكن "الشرح يحضب" من تأديب هذا الغر: هذا "الإنسان نمران" "أيسن نمرن" الذي حارب الآلهة والبشر "انسن"، بل حارب حتى ذوي قرابته ورحمه، فاستحق العقاب. وانه شكرا للإله "عثتر ذ ذبن بعل بحر حطبم"، أي الإله "عثتر ذو ذبن رب معبد محر حطبم" الذي ساعد عبده "الشرح يحضب" ومن عليه بالنصر والعافية والخير، وعلى قصريه: "سلحن" "سلحان" "سلحين" و "غندن" "غدان"، أي "قصر غمدان" بصنعاء، وعلى "صرواح"، وادام عليه نعمه، ووقاه كل بأس، تيمن باعلان ذلك للناس، ليحمدوا الإله، وليشكروا نعم الالهة عليهم، ولتديمها عليه بحق: "عثتر" و "هوبس" و "المقه" و "ذت حمم" "ذات حميم"، "ذات حمى" و "ذت بعدن" "ذات بعدان" "ذات بعدان" و "شمسم" "شمس".
وقد يكون في تعيبر "ايسن نمرن" "انس نمرن"، ومعناه "الانسان نمران"، بعض الاستهجان والازدراء بهذا التائر، الذي هو "رب شمس نمرن"، أي "رب شمس نمران" أحد "اقول" أقيال قبيلة "بتع" على رأي بعض العلماء. وقد ورد اسمه في كتابة دونها رجال يظهر أنهم كانوا من أتباعه، ومن قبيلة "بتع"، وذلك لشكر الإله "تالب ريام بعل شصرم"، لأنه من عليهم بالعافية، وأسعد قيلهم "رب شمس نمرن" "رب شمس نمران"، وبارك على قبيلته.
ويظهر أن ثورة "نمران" "نمران اوكان" "نمرن اوكن"، كانت ثورة خطيرة كبيرة على "الشرح يحضب"، ولذلك كان القضاء عليها من الأمور المهمة بالقياس إليه.

(1/1107)

admin
12-27-2010, 12:55 AM
إن "الإنسان نمران" "انسن نمرن" "إنسان نمران" الذي ثار على سيده وأغضب آلهته بثورته هذه، هو "رب شمسم نمرن" "رب شمس نمران" أحد أقيال "بتع" على رأي "موردتمن" و "ميتوخ" الذي ورد ذكره في احدى الكتابات. وقد دونها رجال يظهر أنهم كانوا من أتباعه، أي من قبيلة "بتع" شكرا للإله "تالب ريمم بعل شصرم" "تألب ريام بعل شصر" لأنه من عليهم بالعافية، وأسعد قيلهم "رب شمس نمران"، وبارك في قبيلته.
وقد ورد في أحد النصوص: "رب شمسم نمرن بن بتع"، أي "رب شمس نمران من آل بتع". والضاهر أنه هو القيل المذكور في النص المتقدم الموسوم ب MM 82 ، REP.EPIG 3621. وقد ذكر "فلبي" إلى "رب شمس" هذا، هو الملك "رب شمس نمران ملك سبأ وذي ريدان". وذكر أن هذا الملك عرف بواسطة هذا النص الذي عثر عليه في "مأرب"، واستنتج من ذلك أن هذه الأسرة أسرة "بتع" التي تقطن في الهضبة هضبة همدان، امتد نفوذها حتى بلغ السهل الذي تقع به "مأرب". ولا أدري كيف توصل "فلبي" إلى أن "رب شمس نمران" الذي هو من "آل بتع" أي هذا القيل هو الملك "رب شمس نمران" الذي هو "ملك سبأ وذي ريدان" فليس في هذا النص الذي أشار إليه إشارة يمكن إن يستدل مها على أن "رب شمس نمران المذكور فيه، هو ملك من ملوك سبأ وذي ريدان. فهذ النص لا يخصه اذن، وانما هنالك نص آخر رقمه:REP. EPIG 4138 ورد فيهه "رب شمس نمران ملك سبأ وذي ريدان"، وهو نص لم يشر إليه "فلبي" سأتحدث عنه في حديثي عن هذا الملك.
وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن النص المذكور لم يكن يقصد ثائرا من أهل اليمن ثار على الآلهة والإنسان، وإنما قصد به حملة "أوليوس غالوس"، التى جاءت من الخارج إلى اليمن. وهي معادية بالطبع لأهل اليمن ولآلهتها، فشكر "الشرح يحضب" الذي كان هو الملك يومئذ آلهته، لأنها نصرته على القادمين المغيرين، وأنقذت شعبه منهم1.

(1/1108)


--------------------------------------------------------------------------------

ويعارض "جامه" Jamme رأي من يقول إن المراد من النص: CIH 429 حملة "أوليوس غالوس"، ويرى أن المراد من "نمران" هو "نمران أوكان" "نمرن اوكن" الذي ورد اسمه في النصوص Jamme 594 Jamme 684 Jamme 711 Jamme 739 Jamme 758.
وقد ورد اسم "نمران أوكان" مع اسم أخيه "جحضم احصن"، وهما ابنا "سعدم" "سعد" في النص Jamme 594 ، كما ورد في هذا النص اسما الملكين: "الشرح يحضب" و "يأزل بين". أما النصوص الأخرى، فلم يذكر فيها اسم "يازل بين". وقد استنتج "جامه" من ذلك أن صاحب النص:5 Jamme 594 كان قد دونه في أيام حكم الملكين. أما النصوص الأربعة الأخرى، فقد دونت بعد ذلك، دونت في أيام انتقال الحكم إلى "الشرح يحضب"، أى إلى أيام انفراد هذا الملك بالحكم وحده بعد الحادث المجهول آلذي لا نعرف من أمره اليوم شيئا والذي أدى إلى إغفال اسمم "يأزل بين" في النصوص.
ويظهر من النصين: Jamme 739 Jamme 758 انه كان تحت إمرة الأخوين "نمران اوكان" و "جحضيم احصن" قائدان كبيران بدرجة "مقتوى". ومعنى هذا إن هذين الأخوين كانا من أصحاب القوة والسلطان في هذا العهد، ولا يستبعد أن يكونا قد ألفا جيشا خاصا بهما، يحاربان به. ويرى "جامه" إن الشعور بالعظمة قد ركب رأس "نمران أوكان"، حتى دفعه إلى الثورة على سيده "الشرح يحضب" على النحو المذكور في النص: CIH 429.
وقد ذكر اسم "يأزل بين" بعد اسم شقيقه "الشرح يحضب" في الكتابة CIH 954. وقد نعتا فيها به "ملكي سبأ وذي ريدان". وقد ورد فيها اسم "المقه بعل مسكت ويث وبران". وهي من بقايا نص سقطت أسطره الأولى، وذكرت فيه اسماء، عدد من الرجال من "بني جدن".

(1/1109)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر اسمهما على الترتيب نفسه في النص، CIH 398 وهو نص سقطت منه كلمات، ولا سيما في الأسطر الأولى منه. فسبب سقوطها عدم فهمنا المراد فهما صحيا. وقد دعيا في النص ب "ملكي سبأ وذي ريدان". غير اننا نلاحظ أيضا انه ذكر في السطر الثامن منه اسم "شعرم أوتر"، ونعته ب "ملك سبأ وذي ريدان"، مع إن "شعرم اوتر" "شعر أوتر" كان خصما للملكين "الشرح يحضب" و "يأزل بين"، فلم ذكر معهما في النص? وعلى أي محمل نحمل هذا القول? ويلاحظ إن كلمة "مراهم" "مرأهم" أي "سيدهم" "سيده" ذكرت مباشرة قبل اسم "شعر أوتر"، كما ذكرت كلمة "مرايهمي" أي "سيديه" أو "سيديهم" قبل جملة "الشرح يحضب واخيهو يازل بين" أي: "الشرح يحضب وأخيه يأزل بين". فنرى من هذا النص إن صاحبه نعت الثلاثة: "شعر أوتر" و "الشرح يحضب" وأخاه "يأزل بين" ملوكا على "سبأ وذي ريدان". فهل يدل هذا على إن هؤلاء الثلاثة حكموا حكما مشتركا وفي وقت واحد? وقد كان "شعر أوتر" يحكم في مكان بينما كان "الشرح" وأخوه "يأزل" يحكمان في مكان آخر، وان صاحب النص أو أصحابه كانوا يملكون أرضين في جزءي المملكة، لذلك اضطر أو اضطروا إلى ذكر الملوك الثلاثة في النص? هذه أسئلة تصعب الاجابة عنها بالإستناد إلى هذه الكتابة التي لم تتعرض لعلاقات "شعر" مع "الشرج" وأخيه، ولا يمكننا استخراج أي جواب منها مقنع في هذا الوقت.
ويرى "هومل" أن السبب الذي من أجله ذكر اسم "شعر أوتر" في هذا النص هو لأجل أن ينتقم الإله "المقه" التي دعا في هذا النص منه، ولكي ينزل رحمته ونعمته على "الشرح" وعلى شقيقه "يأزل". الذين استطاعا في النهاية أن بنتصرا على خصمهما "شعر أوتر"، وأن "شعر أوتر" هذا هو الذي قصده أحد النصوص، حيث أشير إلى الإنسان الذي ثار على سيده.
وقد وردت في هذا النص جملة "ارضن خولن"، أي "أرض خولان"، و "محرم بعل اوعلن" "محرم بعل أوعلان"، و "شعب صروح"، أي قبيلة صرواح.

(1/1110)


--------------------------------------------------------------------------------

ونشر في مجلة Le Museon نص آخر. ذكر فيه اسم "الشرح يحضب" وقد وردت قبل اسم "الشرح يحضب" جملة "ملك سبأ وذو ريدان ابن"، وقبلها ثلاثة أحرف هي: "ح م د" "حمد"، وهي بقايا كلمة. ويظهر أن أصحاب النص قد تيمنوا بذكر اسم أحد أبناء "الشرح يحضب" ممن كانوا ملوكا على سبأ وذي ريدان. غير إن هذا الاسم طمست معالمه بفعل العوامل الطبيعية وتقادم العهد، فلم يبق منه أثر. وذكرت بعد "الشرح يحضب" جملة "مك سبأ وذو ريدان".
وقد لفتت بعض الكتابات، قدر بعض الباحثين عددها بأحد عشر نصا، أو أكثر من ذلك بقليل، أنظار العلماء إليها، لأنها لم تذكر اسم "يأزل بين" خلافا للكتابات الأخرى التي يربو عددها على هذا العدد، والتي تذكر اسم الشقيقين معا. فاستنتج من اغفال تلك النصوص لاسيم "يأزل" أن حدثا وقع له أخذه إلى العالم الثاني، وذلك في حياة اخيه "الشرح يحضب"، فصار الحكم إلى "الشرح يحضب" وحده، وبقي على ذلك إلى أن بدا له ما حمله على اشراك ابنه معه في الحكم، فصار اسم ابنه يرد بعد اسمه في الكتابات.
ويواجه هذا الاستنتاج مشكلة ليس من السهل حلها. مشكلة عثور الباحثين على كتابات ورد فيها اسم "يأزل بين" مدونا فيها بعد اسم أحد أبناء "الشرح يحضب". ومعنى هذا إن "يأزل بين" لم يكن قد مات في أيام "الشرح"، بل بقي حيا وشهد نفسه وفاة شقيقه ثم عاش فعاصر حكم أحد أبناء شقيقه. فلا يمكن الأخذ إذن برأي من يقول انه كان قد أدركه أجله في حياة أخيه، اللهم الا اذا قلنا إن "يأزل بين" المذكور بعد "نشأكرب يهأمن يهرجب"، وهو ابن "الشرح يحضب"، لم يكن "يأزل بين" شقيق "الشرح يحضب"، بل شخصا آخر، كأن يكون ابنا ل "وتر يهأمن" شقيق "نشأكرب"، أو ابنا ل "نشأكرب نفسه". وعندئذ يكون في امكاننا الادعاء بوفاة "يأزل" شقيق "الشرح" في حياة أخيه.

(1/1111)


--------------------------------------------------------------------------------

وهناك احتمال آخر قد يكون مقبولا للعقل أكثر من الاحتمال الأول، هو احتمال بقاء "يأزل" حيا وادراكه أيام حكم أولاد شقيقه. وعندئذ يمكن تفسير اختفاء اسمه في الكتابات في الأيام المتأخرة من حكم "الشرح" بوقوع خصومة بين الأخوين اشتدت حتى أدت إلى وقوع قطيعة بينهما والى حذف اسم "يأزل"، وهو أصغر سنا من أخيه من الكتابات. أي إلى خلعه وتجريده من اللقب الرسمي وهو لقب الحكم. وقد بقي مخاصا لشقيقه حتى أدركت شقيقه، ثم مخاصما لابن أخيه "وتر يهأمن" إلى ولاية شقيقه "نشأكرب يهأمن يهرحب" الحكم. فلما ولي "نشأكرب" عرش "سبأ وذي ريدان" " أشرك عمه معه في الحكم، ولهذا أدرج اسمه من جديد في الكتابات، ادرج بعد اسم "نشأكرب" الملك الفعلي وارث العرش.
أما كيف أشرك "يأزل" مع ابن أخيه في الحكم، وكيف عاد مرة ثانية إلى الحياة الرسمية العامة? فليس في استطاعتنا الجواب عن ذلك جوابا أكيدا. ولا يستبعد احتمال قيام أناس بالتوسط بين العم وبين ابن أخيه لاصلاح ذات بينهما، وقد يكون "نشأكرب" هو الذي صالح عمه وأرضهاه، لداقع شخصي، أو لمصلحة رآها، أو لاضطراره إلى ترضيته، لضف مكانته أو شخصيته، ناراد الاستعانة به لتقوية مركزه. على كل فاذا كان "يأزل بين" هذا، هو "يأزل بين" شقيق "الشرح" فيحب أن يكون قد تقدم في السن حين عاد إلى الحكم.
ولدينا نص من نصوص ال "وتف" أمر به "الشرح" ولم يذكر اسم أخيه فيه، وقد وجه به إلى قبيلة "يرسم" في شهر "ذو نسور الأول" وفي وفي السنة السادسة من بني "معد يكرب بن تبع كرب" "معد كرب بن تبع كرب" من آل "حزفرم" "حزفر"، وقد ذكرت فيه أسماء عدد من سادات هذه القبيلة. وفي النص حديث عن أحوال المزارعين والفلاحين والآبقين الذين يهربون من المزرعة إلى مزارع أخرى، ولا سيما من الأرض التي يشمل أحكامها هذا النص، وهي: وادي "يفعن" "يفعان"، وأرض "يبلح"، وهي من "رأس مق...ن" إلى "غضران".

(1/1112)


--------------------------------------------------------------------------------

ويتبين من هذا النص أن الفلاحين، وأكثرهم من المسخرين، كانوا يفرون من مزارعهم، للتخلص من عملهم المرهق الشاق فيها، ولعدم تمكنهم من كسب قوتهم، فصدر هذا الأمر في معالجة هذه المشكلة. وهي مشكلة أدت إلى تلف المزارع، واعراض الناس عن الزراعة بسبب اكراه الفلاحين على العمل فيها صخرة، ولقسوة أصحاب الأرض وموظفي الحكومة عليهم.
وقد عثر في أرض "شبام سخيم" على كتابة، ذكر فيها "الشرح يحضب" وابنه، وأقيال "سمعي" وهم من سخيم، وذكر بيت "ريمان". و"ريمان" هم من القبائل التي ذكرت في عدد من الكتابات.
وقد جاء اسم "الشرح يحضب" وحده في النصوص: "أحمد فخري:94و 95و 123"، وهي من نصوص هذا العهد: عهد انفراد "الشرح" بالحكم، متلقبا ب "ملك سبأ وذي ريدان".
ويعود النص Jamme 571 إلى هذا العهد كذلك، وهو نص يتوسل فيه صاحبه إلى إلهه بأن يمن عليه بالسعادة والعافية، وبأن يبارك في أثماره "اثمرن" وفي حاصل حصاده "افقلم"، وبأن يبعد عنه كل شر، ويرد عنه كيد الكائدين، وحسد الشانئين.
وأما النص: Jamme 567 ، فقد كتب في هذا العهد أيضا. دونه رجل اسمه "ابامر اصدق" "أبأمر أصدق" "أب أمر أصدق"، وهو من بني "صريهو معد كرب" "صريهو معد يكرب"، وولداه "برلم" "برل"، و "كربعثت" "كرب عثت"، وذلك عند تقديمهم ثلاثة تماثيل من ذهب إلى الإله "المقه ثهوان"، وذلك لمناسبة نوم "برلم" الذي أصابه وألم به، في شهر "عثتر" من سنة "سمهكرب بن ابكرب" "سمهوكرب بن أبكرب" من بني "حذمت" "حذمة"، ولمناسبة الحكم الذي رآه في منامه وتحقق فيما بعد، ولمناسبة شفائه من مرضه. ولكي يديم نعمه عليهم جميعا، ويعطيهم ذرية طيبة صحيحة، وثمارا كثيرة وحصادا جيدا وغلة وافرة، ويمن على سيدهم "الشرح يحضب، ملك سبأ وذي ريدان، بن فرعم ينهب ملك سبأ".

(1/1113)


--------------------------------------------------------------------------------

والى هذا العهد أيضا يعود النص: Jamme 572. وقد دونه ضابطان كبيران "مقتوي" من ضباط "الشرح يحضب ؛ ملك سبأ وفي ريدان"، لمناسبة تقديمها تمثالا من رصاص أو نحاس "صرفن" "صراف"، يزن ثلاثمئة "رضف"، تعبيرا عن حمدهما وشكرهما له، لأنه من على سيدهما "الشرح يحضب" بالشفاء والصحة، ونجاه من عاقبة مرضه "بن مرض مرض بهجرن مرب"، بمدينة "مأرب". ولكي ينعم عليه ويزيل عنه كل بأس "باستم" وكل أرق "مقيظم" أصابه، ولكي ينعم عليهما ويسعدهما ويبعد عنهما حسد الحاسدين وأذى الأعداء.
ويتبين من هذا النص أن مرضا نزل بالملك "الشرح يحضب"، وهو بمأرب وقد أصيب بأرق "مقيظم" وقلق، ولم يذكر النص سبب المرض، ولكن يظهر أنه كان قد أصيب بأعياء وتعب بدني ونفسي، حتى استولى عليه الأرق والاضظراب، ولهذا توسل هذان الضابطان إلى الإله "المقه" بأن يشفي سيدهما مما ألم به.
وتعد الكتابات: Jamme 568 و Jamme 569و Jamme 570من نصوص هذا العهد. وصاحب النص الأول رجل اسمه "سعد شمس اسرع" وهو من "جرت" "جرة"، وكان من أقيال عشيرة "ذمرى". وقد قدم هو وابنه "مرثدم يهحمد" مرثد يهحمد، إلى الإله المقه تمثالا، ليمن على سيدهما الملك، وليحفظه من كل سوء، ولكي يبارك فيهما ويزيد نعمه عليهما وعلى أهلهما من "جرت" وعلى قبيلتهما قبيلة "سمهرن" سمهران.

(1/1114)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد قدم أصحاب النص: Jamme 569، وهم من عشيرة "مربان" "كربأن"، تمثالا مؤنثا "صلمتن"، ويظهر أنه يقصد تمثالا لامرأة- وذللك ليحظوا برضى ملكهم "الشرح يحضب". وأما النص: Jamme 570 فقد دونه رجل، سقط اسمه الأول من النص، وبقي نعته فقط، وهو "ركبن"، أي "ركبان"، وقد قال عن نفسه: "عبد ملكن"، أي عبد الملك، يقصد خادم الملك، ذلك لأنه تمهل في عمله، فلم يجمع غلة اليوم الثامن من المزرعة، فكفر عن تمهله هذا وتجاهله أمر الإله "المقه" الذي كان عليه أن يقوم بخدمته وبأن يحضر موضع أداء الشعاثر له، وذلك بتقديمه ذلك التمثال وبأن يقوم بجني غلة المزرعة على نحو ما يرام. ويلاحظ أنه استعمل جملة: "ولشرح يدهو ولسنهو"، أي: "وليشرح يده ولسانه"، ويقصد بها التوسل إلى الإله "المقه" بأن يبسط يد الملك ولسانه، أي يبارك في يده ولسانه، كما نقول: يشرح الله قلبه، فهي من التعابر المستعملة عند العرب الجنوبيين في ذلك العهد.
ولم يذكر اسم "يأزل بين" في النصين:REP. EPIG. 3990 و REP. EPIG 4150 وصاحب النص الأول هو "يجعر بن سخيم" وكان قيلا "أقول" على عشيرة "سمعي" المؤلفة لثلث "ذي حجرم". وقد قدم إلى الإله "تألب ريام" "بعل كبدم" خمسة تماثيل لينعم ويبارك على سيده "الشرح يحضب"، ملك سبأ وذي ريدان، وعلى ابنه "وترم" "وتر". وليبارك فيه وفي بيته "بيتو" "ريمان".
والنص: REP.EPIG 4150 صاحباه لشقيقان، "شرح عثت أريم" وشقيقه "رثد ثون" تمثالا إلى الإله "عثتر ذ ذبن" "عثتر ذو ذبان"، "بعل بحر حطبم" حامدين "حمدم" له وشاكرين، اذ من عليهما، وأوفى لهما ما طلبا وسألا، وكان ذلك في أيام "الشرح يحضب ملك سبأ وذي ريدان وابنه وتر".

(1/1115)


--------------------------------------------------------------------------------

ويلاحظ إن النصين لم يذكرا بعد "وترم" لقبه، ولم يكتبا جملة "ملك سبأ وذي ريدان". ويظهر انهما كتبا في أيام انفراد "الشرح يحضب" بالحكم. وتولى ابنه "وتر" ادارة الأمور، لمساعدة أبيه فقط، ولم يكن قد منحه أبوه يومئذ حق التلقب بألقاب الملوك.
لقد بلغننا الآن نهاية أيام حكم "الشرح يحضب" لقد رايناه محاربا مقاتلا حارب الحبش، وحارب حمير، وحارب حضرموت، وحارب قبائل أخرى. لا يكاد يعود إلى احدى عاصتيه "مأرب" أو صنعاء ليستقر في قصريه ومقري حكمه: قصر "سلحان" أو "غمدان" وليستريح بعض الوقت، حتى تشتعل ثورة هنا أو هناك تدفعه إلى ترك راحته والاسراع نحوها للقضاء عليها واخمادها حتى لا يمتد لهيبها إلى مكان آخر. لقد أجهدته هذه الحروب وتلك الفتن، فأتعبت جسمه ونهكت أعصابه، حتى أصيب مرارأ بأمراض وطغى عليه الأرق، وهذا ما حمل المقربين إليه على التوسل إلى آلهتهم، لتمن عليه بالشفاء وبنوم هادىء مريح، ولتمنحه الراحة والاستقرار، وتبعد عنه الأتعاب وشر الأعداء الأشرار وحسد الحاسدين، دلالة على كثرتهم وتعبيرا عن تلك الفتن المتتالية التي كانت في تلك الأيام.

(1/1116)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد كلفت هذه الحروب وتلك الثورات العربية الجنوبية أثمانا باهظة، وأنزلت بها خسائر فادحة في الأرواح والأموال، واحلت بكثير من مواضعها الدمار والخراب، ونغصت عيش أهلها. فجعلتهم في حالة نفسية قلقة مضطربة، بدليل ما نجده من توسلات ترتفع إلى الالهة تدعوها بأن تمن على ****ها بنعمة الطمأنينة والهدوء والاستقرار، كما نشرت فيها الأوبئة والأمراض التي كانت تفتك بالناس بالجملة فتكا، وأحلت الهلاك بالمزارع والحقول، وبالمدن فردمت آبار، عاشت عليها الزراعة والقرى والمدن، واقتلعت الأشجار، وأتلفت الحقول والمزارع، وأوذيت مجاري المياه التي تسقيها، وخربت مدن، وأعمل في أهلها السيف، أو سيقوا أسرى، ووضع على هذا النحو لا بد أن يخلق تعاسة وبؤسا، ويوثر في الوضع العام بجملته تاثرا سيئا، يصير ارثا ينتقل إلى الطبيعة الجديدة.
وقد لاحظ "ريكمنس" J.Ryckmans إن هذا الاقتتال وهذا النظام الاقطاعي يصادف زمن حلول الخيل محل الجمل في القتال في أواسط جزيرة العرب وجنوبيها، كما لاحظ W.Dostal.أن جويش العربية الجنوبية استعملت سروجا جيدة لدوابها التي تحارب عليها، وأن قبائل أواسط جزيرة العرب، حسنت من أنظمتها وكفايتها في القتال مما أكسبها قدرة في الغزو بسرعة والانتقال من مكان إلى مكان في مدة قصيرة، فأكسبها شانا عسكريا وسياسيا. فأثر كل ذلك في السياسة العامة المجزيرة، إذ لم تبق القوى العسكرية محصورة في مناطق الزراعة في هضاب جنوب جزيرة العرب، وانما انتقلت إلى بقية أنحاء جزيرة العرب، إلى مواضع الآبار والرياض والعيون حيث تركزت الزراعة كما حدث في يثرب وفي الطائف وفي أماكن زراعية أخرى، أو إلى مواضع تقع على طرق قوافل مثل مكة، أهلتها لأن تختص بالتجارة، وان تنال مكانة بها.

(1/1117)


--------------------------------------------------------------------------------

لقد وضع "جامه" حكم "الشرح يحضب" مع أخيه "يأزل بين"، اذ كانا يحكمان حكما مشتركا في حوالي السنة الخمسين قبل الميلاد، وجعل نهاية هذا الحتم المزدوج حوالي السنة الثلاثين قبل الميلاد، حيث حكم "الشرح" حكما منفردا لا يشاركه فيه أحد. وقد دام هذا العهد إلى حوالي السنة العشرين قبل الميلاد أوبعدها بقليل.
واذا جارينا رأي "جامه" المتقدم، ورأي الباحثين الذين ذهبوا إلى أن حكم "الشرح يحضب" كان في النصف الأخير من القرن الأول قبل الميلاد، وفي الربع الأخير منه، جاز لنا القول بأن "إلساروس" Ilasaros، الذي ذكره "سترابون" على انه ملك السبئيين في أيامه، وكانت في عهده حملة "اوليوس غالوس" هو هذا الملك "الشرح يحضب". ولكن جمهرة أخرى من الباحثين والمتخصصين في العربيات الجنوبية ترجع أيام "الشرح" إلى ما قبل ذلك، فقد جعل "فلبي" مثلا حكمه فيما بين السنة "125" والسنة "105" قبل الميلاد.
هذا، ويلاحظ إن بعض الكتابات التي اغفلت "يأزل"، ذكرت ابن "الشرح" بعد أبيه، ودعت له ولأبيه بالعافية ودوام البركة والنعمة، الا إنها لم تنعته بنعت، مما يدل على انه لم يكن يحمل لقب "ملك سبأ وذي ريدان" آنذاك.
وقد اختلف افى الباحثون في ضبط اسم الشخص الذي ولي الحكم بعد "الشرح يحضب"، فقد وضع "فلبي" اسم "يأزل بين" بعد "الشرح يحضب"، دلالة على انه هو الذي حكم بعده، ثم وضع "نشأكرب يهأمن يهرحب" من بعده، وهو ابن "الشرح يحضب"، ومعناه انه هو الذي حكم بعد وفاة عمه. اذ إن "يأزل بين" هو شقيق "الشرح يحضب" كما رأينا.
ووضع "فلبي" اسم "وتر يهأمن" بعد "نشأكرب يهأمن يهرجب"، وهو كذلك أحد أبناء "الشرح يحضب". ويرى بعض الباحثين أن "وترا" اتخذ لقب "يهأمن" بعد اعتلائه العرش، وكان قبل ذلك يعرف ب "وتر". وقد ورد اسمه في عدد من الكتابات.

(1/1118)


--------------------------------------------------------------------------------

أما "ريكمنس"، فقد دون اسم "يأزل بين" بعد "الشرح يحضب" وقد جعله شريكا له في الحكم، ومعاصرا ل "حيو عثتر يضع"، وهو ابن "شعر أوتر" والمالك من بعده، وآخر من حكم من أسرة "علهان نهفان" "علهن نهفن". ثم جعل الحكم في "نشأكرب يهأمن" ابن "الشرح يحضب". وذكر معه اسم "وتر" غير انه لم يذكر انه ولي الحكم، كما انه لم يذكر أي شيء آخر عنه. ثم ترك فراغا، ذكر بعده اسم "ذمر على بين".
وأما "جامه"، فقد نصب "وتر يهأمن" ملكا من بعد "الشرح يحضب" الذي هو أبوه، وجعل حكمه ملكا في حوالي السنة "5" قبل الميلاد، حتى السنة "10" بعد الميلاد.
و "وتر يهأمن"، هو "وتر" تحدثت عنه، وقلت إن اسمه قد ورد في النصين ERP. EPIG. 3990 وREP. EPIG 4150 اللذين ورد اسمه فيها غير مقرون يلقب، ولا جملة "ملك سبأ وذي ريدان". أما في النصوص الأخرى، فقد ذكر فيها لقبه، وهو "يهأمن"، وذكر بعده شعار حكمه ملكا، وهو "ملك سبأ وذي ريدان".
ويرى "ميتوخ" و "موردتمن" إن من المحتمل أن يكون "وتر يهأمن" المذكور في النصين: CIH 10 و CIH 258، هو "وتر يهأمن" هذا الذي نبحث عنه. وقد ذكرت بعد "وتر يهأمن" في النص CIH 10 جملة "ملك سبأ". ويرى "ميتوخ" و "موردتمن" أيضا إن ابن "الشرح" كان يعرف ب "وترم" "وتر" وذلك قبل اعتلائه العرش. فلما أصبح ملكا، عرف ب "وتر يهأمن"، أي باتخاذ لقب "يهأمن" لقبا رسميا له.

(1/1119)


--------------------------------------------------------------------------------

ويتحدث النص: Jamme 601 عن معارك وقعت في أرض "خولن جددن" "خولان جددان"، تولى ادارتها وقيادتها "الرم يجعر" "الريام يجعر" "الرام يجعر" "الريم يجعر"، وهو من عشيرة "سخيمم" "سخيم"، وكان قيلا "قول" على عشيرة "سمعي"، التي تكون ثلث قبيلة "ححجرم". وهو صاحب النص، والآمر بتدوينه. وقد ذكر فيه: إن سيده الملك "وترم يهأمن" "ملك سبأ وذي ريدان ابن الشرح يحضب ملك سبأ وذي ريدان" أمره بأن يسير إلى عشائر "خولان" "خولن"، ويؤدبها لأنها عصت الملك، وشجعت قبائل أخرى على العصيان، فانضمت إليها. وقد استطاع هذا القائد كما يذكر في نصه أن يقهر الثائرين ويحطم مقاومتهم، ثم عاد بعد ذلك بغنائم كثيرة، سرت الملك فشكر الإله "المقه ثهوان" "بعل أوام" الذي وفقه ونصره، فقدم إليه تمثالين له، تعبيرا عن شكره، وعن مننه عليه، اذ نصره في معركتين مع قبائل خولان ومن انضم البها، اللتين قهر فيها أولئك الثائرين، ولكي يزيد من نعمه عليه، ويبارك في ملكه وفيه وفي أهله ويعطيه بركة في زرعه وقوة في جسمه. ويبعد عنه اذى الأعداء.
والنص: Jamme 602 هو في معنى النص الأول وفي مضونه، وصاحبه هو "الرم يجعر" نفسه. وأما النص: Jamme 603، فقد أمر بتدوينه "فعرم بن مقرم" "فرع بن مقر" "الفارع بن مقر"، وأولاده، وهو من عشيرة "عقبان" "عقبن"، وذلك لمناسبة انشائهم "سقه"، أي "سقاية" صهريجا و "مزودا" وصرحا في "ذ عقبن" "ذي عقبان". وتيمنا بهذه المناسبة قدموا إلى الإله المقه تمثالا حمدا له وشكرا على أنعنه عليهم، وكان ذلك في أيام: "وتر يهأمن ملك سبأ وذي ريدان".

(1/1120)

admin
12-27-2010, 12:56 AM
وشكر "وهبم اصدق" "وهب اصدق" "وهاب أصدق"، الإله "المقه" على نعمه التي أنعمها عليه. وتعبيرا عن حمده وشكره له، قدم إلى معبده "أوام" ثلاثة أصنام "تماثييل"، وذلك في أيام "وتر يهأمن، ملك سبأ وذي ريدان"، ابن "الشرح يحضب ملك سبأ وذي ريدان". وقد سجل شكره هذا في نص، وسمه الباحثون بJamme 604. ومما يلفت النظر فبه ورود جملة: "وبشمس ملكن تنف"،أي: وبشمس الملك تنف، ويقصد بها وبشمس إلهة الملك: ونعتها تنف.
والنصوص الثلاثة الأخرى، هي في أمور شخصية، لا صلة لها بالسياسة وبالحرب وببقية النواحي من الحياة العامة، كل ما فيها توسلات وتضرعات إلى الآلهة بأن تمن على أصحابها بالخيرات وبالبركات وبالسعادة وبأولاد ذكور "أولدم اذكرم"، وما شاكل ذلك. ولذلك لا أجد فائدة في الكلام على مضونها في هذا المكان.
وقد وضع "جامه" اسم "نشأكرب يهأمن يهرحب" بعد اسم "وتر يهأمن" في الحكم. و"نشأكرب" هذا هو أحد أبناء "الشرح" أيضا، فهو شقيق "وتر يهأمن".
وقد حصل الباحثون على عدد من الكتابات من أيام حكم "نشأكرب"، من جملتها الكتابة: Jamme 619، وصاحبها رجل اسمه "رب ايل اشوع" "ربئيل أشوع"، وانه "ددال" "دودايل" "دادايل" "داديل" من عشيرة "حلحلم" "حلحل" "حلاحل". وقد كان "رب ايل أشوع" عاقب "عقبت" الملك على مدينة "نشقم" أي "نشق". ويراد ب "عقبت" "عاقب"، درجة نائب الملك، أو ممثله الذي يمثله ويدير مكانا مام وقد دون كتابته عند شفائه من مرض ألم به وهو في مدينة "نشق"، ومن اضطراب وقع له في معدته، ومن سقوط بعيره بعثرة عثرها، فسقط "رب ايل أشوع" من ظهره على ما يبدو من النص، ولكي يحظى برضى سيده "نشأكرب يهأمن يهرحب، ملك سبأ وذي ريدان ابن الشرح يحضب، ملك سبأ وذي ريدان".

(1/1121)


--------------------------------------------------------------------------------

وسجل "رب ايل" وأخواه "يزد" "يزيد" و "هوف ال" "هوف ايل" "هوفئيل" ،هم من "ال ذخرم" "آل ذخر" شكرهم وحمدهم للإله "المقه ثهوان" "بعل أوام"، لأنه نجاهم مما ألم بهم من أمراض، وخفف عنهم كل شين نزل بهم "تشينت هشين"، ومن كل مصيبة ألمت بهم فنهكتهم، سجلوه على لوح وضعوه في معبد ذلك الإله، كما أهدوا إليه صنما، أي تمثالا، تعبيرا عن شكرهم وحمدهم له، وكان ذلك في عهد هذا الملك الذي نتحدث عنه.
وج.اء اسم "نشأكرب" في النص: REP. EPIG. 3563، وقد نعت فيه ب "ايمن يهرحب" بدلا من "يهأمن يهرحب". وفي النص: REP.EPIG 4191 قد سقط اسم أصحابه فيه، وكانوا أقيالا "اقول" على قبيلة سقط اسمها فيه أيضا، وقد عبروا عن أنفسهم ب "ادم نشأكرب"، أي "عببد نشأكرم"، على سببل الأدب والتعظيم للملك. وقد ذكروا فيه أنهم أهدوا اللإله "المقة بعل اوعلن"، أي المقه رب "أوعلان"، صنما "صلمن" مصنوعا من صريرف "صرفن" أي فضة أو رصاص أو نحاس، بحسب تعريب الباحثين لكملة "صرف" "صرفان"، وصنما آخر من ذهب، لأنه من عليهم وأجاب كل ما سألوه.

(1/1122)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد سجل الملك "نشأكرب يهأمن يهرحب" نصين آخرين، أحدهما النص:Jamme 611، والآخر النص Jamme 611. دون في النص الأول أنه أهدى لمعبد "المقه ثهوان"، وهو معبده المسمى "اوام" "بعل اوم"، صنمين، أي تمثالين من ذهب، لأنه أجاب دعواته "واستوفين كل دعت" ووفى له كل ما طلبه منه، وأعطاه "برق الخريف"، "ببرق خرف" أي الأمطار التي تتساقط في موسم الخريف، فتحيي الأرض وتغيث الزرع، وذلك في سنة "نشأكرب من معد يكرب" من "فضحم" "فضح الثاني"، ولأنه حفظه من البرد "بردم"، وربما قصد به مرض "البرداء"، أي "الملاريا" التي تجعل المريض وكأنه يرتجف من البرد. أو ربما قصد به نزلة أصابته، ومن "اربيم" وقد ترجمها "جامه" ب "جراد"، ومن سحب الهوام والحشرات التي ظهرت في هذا الموسم، بمناسبة حدوث هذا البرق، "بهيت برقن". و"كي يزيد في نعمه عليه ويباركها، ويحفظه ويحفظ ملكه "ملكهمو" ويحفظ جيشه "خمسهمو" "خميسه"، ولكي يثبر "لثبر" ويحط "وضع" من شأن كل شانىء وحاسد وعدو له.
وأما النص: Jamme 611، فيذكر فيه "نشأكرب يهأمن يهرحب"، انه قدم صنما، "صلمن" إلى معبد الإله "المة"، وهو معبد "اوم" "أوام"، حمدا لذاته، لأنه أعطاه كل ما أراده وطلبه منه، ووفاه له، قدمه في شهر "هوبس وعثتر" من سنة "نشأكرب بن معد يكرب" من "حذمت" حذمة الثالث "ثلثن". ولكي يديم نعمه عليه، ويمنحه القوة والحول، ويبارك في ملكه "ملكهمو"، ويعز جيشه، ويقهر أعداءه.

(1/1123)


--------------------------------------------------------------------------------

ولدينا نص آخر من النصوص التي أمر "نشأكرب" بتدوينها، هو النص الذي وسم بJamme 877، يخبر فيه انه أهدى لمعبد الإله "المقه ثهوان"، وهو معبد "بعل أوام"، صنما "صلمن"، لأنه من عليه، وأوحى إليه في قلبه بأن يقدمه إليه، ولأنه أجاب كل ما سأله وطلبه منه. وقد أهداه له في شهر "هوبس" من سنة "سمه كرب" "سمهكرب بن ابكرب" من "حذمت" حذمة الثالث "ثلثن". ولكي يديم نعمه عليه، وييارك فيه، ويبعد عنه أذى الأشرار والأعداء، وذلك بحق "المقه ثهوان" "بعل مسكت" و "يثو برن" "يثو برءآن".
وورد اسم هذا الملك في نص آخر وسم ب Jamme 621 وصاحبه من عشيرة "عبلم" "عبال" "عبل" "عبيل"، من بني "ااذنن" "أأذنان" "أأذن". وقد دونه تعبيرا عن حمده لذات إلهه "المقه" الذي وفى له كل مطلب طلبه منه، وذلك في عهد "نشأكرب"، كما ورد اسمه في النص Jamme 622 وصاحبه "ابكرب اصحح" "أبو كرب أصحح": وولداه "يحمد يزن" "يحمد يزان" "يحمد يزأن" "يحمد يزءان"، و "أحمد يزد" "أحمد يزيد"، وهم من "آ ل جرت" "جرة" ومن "آل انبر" "أنبر" "ال انبر" وقد دونا فيه حمدهما وشكرهما للإله "المقه"، الذي أغناهم وأنعم عليهم بغنائم حرب أرضتهم، ولمي يمن عليهم بتنفذ أي أمر يكلفهم الملك "نشأكرب" اياه، ولكي يبارك في زرعهم وفي حاصلهم الشتوي وحاصل الخريف وحاصل الصيف، ولكي يمنحهم البركة في أرضهم ويوفر لهم الماء لإسقاء زرعهم: ويبعد عنهم كل بأس "بن باستم" ويبعد الأرق عنهم، وكل مكروه وكل أذى وحسد الشانئين البعيدين والقريبين. ويلاحظ ورود اسم "أحمد" و "يحمد" في هذا النص.

(1/1124)


--------------------------------------------------------------------------------

ويتحدث النص Jamme 612 عن حملة قام بها "احمد يغنم" "أحمد يغنم"، وهو ابن "نشاى" "نشأى"، وكان من كبار ضباط "مقتوى" الملك "نشأكرب"، بأنه أهدى لمعبد "بعل اوام"، المخحص بعبادة الإله "المقه" صنما من ذهب، لأنه من عليه وافاض عليه بنعمه، وأيده في الحملة التي قادها مع أقيال "اقولن" وجيش الملك إلى أرض حضرموت، ولأنه أعاده سالما بريئأ "اتو ببريتم" معافى بعد أن قتل رجلين، ولكي يزيد في نعمه عليه وتوفيقه له، وليبعد عنه أذى الشانئين.
والنص المذكور نص موجز، لم يذكر أسماء المواضع التي حارب فيها جيش "سبأ وذي ريدان" في حضرموت، ولا الأسباب التي أدت إلى ارساله إلى هناك. ويظهر من ايجازه هذا ومن عدم إشارته إلى عودته بغنائم وأسرى وأموال، إن الحملة المذكورة لم تكن حملة كبيرة. وإلا قادها الملك نفسه، فقد كان من عادة الملوك عندهم ترؤس الحملات الكبيرة، وادارة الحروب بأنفسهم اذا كانت كبيرة، ولو رئاسة شكلية أو رمزية. وعدم إشارة هذا النص إلى وجود الملك مع رجال الحملة، يشير كما قلت إلى صغر حجمها، والى أن الغاية التي ارسلت من أجلها لم تكن ذات خطر، وقد تكون لمجرد تأديب قبائل من حضرموت تحرشت بسبأ أو عصت أمر ملك حضرموت. فأرسلها الملك "نشأكرب" لتأديب تلك القبائل الثاثرة.

(1/1125)


--------------------------------------------------------------------------------

ونقرأ في النص: Jamme 616 خبر معارك اشترك فيها أصحاب النص، وهم من بني "سخيم" سادات "بيت ريمان". وكانوا أقيالا "اقول" على عشيرة "يرسم" من عشيرة "سمعي" التي تؤلف ثلث قبيلة "هجرم" "هجر"، كما كانوا من كبار ضباط الملك "نشأكرب"، أي من درجة "مقتوى". وقد نشبت تلك المعارك من امتناع عدد من القبائل عن دفع ما استحق عليها من في ضرائب، مما حمل الملك على ارسال حملة عسكرية إليها، تمكنت من تأديبها واخضاعها، فاضطرت عشاثر "خولان جددم" "خولان جدد" إلى ارسال ساداتها وأشرافها إلى مدينة صنعاء "صنعو" لمقابلة الملك وعرض طاعتهم عليه وخضوعهم له. وقد رضي المللك عنهم، وأدوا ما استحق عليهم من إتاوة، وبذللك نجحت هذه الحملة. وسر أصحاب النص- وهم قادتها- بهذا النصر.
وتحدث النص بعد ذلك عن عصيان قبيلة "دوات" "دوأت ا وعشاثرها، وهي "اباس" "أبأس" و "ايدعن" "ايدعان"، و "حكمم" "حكم" و "حدلنت" و "غمدم" "غمد" و "كهلم" "كاهل" و "اهلنى" "أهلاني"، و "جدلت" "جدلة" و "سبسم" "سبس"، و "حرمم" "حرم" "حرام" و "حجرلمد" و "أومم" "أوم" و "رضحتن" "رضحتان" من "حرت" "حرة". وقد ثارت كل هذه العشائر، وعصت الملك، وامتنعت من دفع الضرائب، فاضطر الملك إلى إرسال قوة عسكرية عليها، التقت بها في أسفل الأودية "بسفل اوديتن": "بارن" "بئران" "بأرن" "بأران" و "خلب" و "تدحن" "تدحان"، فانتصرت عليها، أي على العشائر الثائرة، واخذت منها غنائم كثيرة وأسرى.

(1/1126)


--------------------------------------------------------------------------------

وعثر على كتابات أخرى، ورد فيها اسمه ثم اسم "يأزل بين" من بعده، وذلك على هذا النحو: "نشأكرب يهأمن يهرحب، ملك سبأ وذي ريدان ابن الشرح يحضب، ويأزل بين، ملكي سبأ وذي ريدان". وقد أوجد ورود هذا الاسم-وذلك كما ذكرت سابقا- للباحثين الذين قالوا بوفاة "يأزل بين" في أيام حياة "الشرح" مشكلة، خلاصتها: انه اذا كان "يأزل بين" قد توفي في أيام شقيقه، فلم ذكر اسمه في هذا النص وفي نصوص أخرى مثله? أفلا يدل ورود اسمه في النص على انه لم يمت في ذلك العهد ولكن بقي حيا، وعاد فحكم مع ابن أخبه "نشأكرب"، بعد ترضيته أو لأسباب أخرى لا نعرفها، فعاد اسمه، فظهر مرة أخرى في الكتابات? أما الذين أبقوا "يأزل بين" حيا ولم يميتوه ، فانهم يعتمدون على هذه النصوص في دعواهم ببقائه على قيد الحياة، وبمشاركته ابن أخيه في الحكم، وأما غيرهم، فقد تعمدوا إلى حجج وأعذار في تفسير ما ورد في النصوص، في جملتها إن ذكر اسمه لا يدل على بقائه حيا حتى ذلك الزمن، وان ذكره في الكتابات معناه الإشارة إلى عم الملك، وقد كان ملكا، وأن "نشأكرب" إنما ذكره ليبين للناس أنه سيسير على سنة أبيه وعمه في مقاومة اعدائه بتجريد الحملات عليهم ومحاربتهم، وأنه سيخالف بذلك سياسة شقيقه "وترم يهأمن" الذي سلك خطة التهدئة وحل المشكلات بطريقة المفاوضات والسلم. ودليلهم على ذلك، ورود جملة نصوص من أيامه، فيها أخبار حروب وقتال، على حين لا نجد من أخبار القتال في أيام شقيقه غير خبر واحد ورد في نص واحد، هو النص: Jamme 601 الذي مر ذكره. ولكن، هل نحن على علم يقين بأننا لن نعثر في المستقبل على نص ما من أيام "وترم يهأمن"، فيه نبأ عن حرب أو حروب? ثم من يدر بنا أنه كان مسالما? أفلا يجوز أن يكون قصر حكمه، هو الذي حال بينه وبين خوض المعارك? ثم ما الدليل على أن ذكر اسم "يأزل بين" في نصوص آيام "نشأكرب"، معناه اتباع سياسته وسياسة شقيقه في الحرب? وليس في النصوص أية

(1/1127)


--------------------------------------------------------------------------------

اشارة ولا أي تلميح يدفعنا إلى التفكير في هذا التفسير أو التأويل.
ومن الكتابات التي دون فيها اسم "يأزل بين" بعد اسم "نشأكرب"، الكتابه Jamme 608. وصاحبها هو الملك "نشأكرب يأمن يهرحب" نفسه. وقد دونها حمدا للإله "المقه ثهوان" "بعل اوام" وشكرا له على نعمه وإفضاله، وذكر أنه قدم في هذه المناسبة صنما أي تمثالا من صريف "صرفن" فضة أو رصاص أو نحاس زنته ألف "رضى" "رضيم"، ليكون تعبيرا عن شكره، وتقربه إليه.
وتعد الكتابة: REP. EPIG 4233 من كتابات هذا العهد، وصاحبها رجل اسمه "يصبح" وقد سقط اسم أبيه من النص. وقد ذكر فيها أنه قدم خمسة تماثيل إلى الإله "المقه ثهوان"، لأنه من على عبده "يصبح" فأفاض عليه بنعمه، وأجزل له العطاء: ومنحه رضى سيده الملك، ولكي يديم نعمه هذه عليه، ويبعد عنه كل أذى وشر، بحق الإله: المقه.
والى هذا العهد أيضا تجب إضافة النص: Jamme 611، الذي سبق أن تحدثت عنه في أثناء كلامي على الكتابات التي امر الملك "نشأكرب" بتدوينها باسمه، إذ ذكر فيها اسم عمه "يأزل بين".
لقد انتهيت الآن من كلامي على "آل فرعم ينهب"، ووجب علي، التحدث عن أسرة جديدة حكمت "سبأ وذا ريدان"، هي أسرة يبدأ حكمها بحكم "ذمر على بين". ولكنني أرى التحدث عن أسرتين كان لهما شأن في هذا الزمن: اسرة "وهب اوم يضف" "وها أوم ياضف"، وأسرة "سعد شمسم أسرع" "سعد شمس أسرع".

(1/1128)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ورد اسم "وهب اوم يضف" "وهب أوم يأضف" "وهب اوام يضف" في عدد من الكتابات، وذكر مع اسمه اسم شقيق له يعرف ب "يدم يدرم". وقد عاصرا الملك "الشرح يحضب"، كما عاصرا "نشأكرب يهأمن يهرحب". وقد عرفنا من الكتابات أسماء عدد من أولاد "وهب أوم يأضف" "وهب اوم يضف" هم: "حمعثت أزأد" "حمعثت ازاد"، و "ابكرب اسعد" "أبو كرب أسعد" و "سخيمم يزان" "سخيم يزأن" و "وهب اوم يسبر" "وهب أوم يسبر"، و "نشأكرب يدرم" "نشأكرب يدرم". ويظهر من النص: Jamme 616إن "وهب أوم" وأخاه، كانا من عشيرة "سخيم"، وكانا "ابعلا" على بيت ريمان "ابعل بيتن ريمن" أي أصحاب "بيت ريمان"، وكانوا أقيالاء على عشيرة "يرسم" من قبيلة "سمعي" التي تكون ثلث "ذي هجرم". فيظهر منه ومن النصJamme718 انهما من عشيرة "سخيمم"، أي سخيم.
وقد كانت أسرة "وهب أوم" وأولاده، وشقيقه "يدم" تستغل أرضين حكومية تابعة للملك، أجرها لها الملك "الشرح يحضب" وفق أمر ملكي أصدره باسمه، وأعلنه، عثر عليه الباحثون، فوسموه بREP. EPIG. 4646. وقد ذكر في النص اسمي ولدين من أولاد "وهب أوم"، هما: "حمعثت"، و "اكرب"، كما أشر إلى عشرة "يرسم" و "سخيم". وهو من النصوص المهمة التي تتعلق بالزراعة وباستغلال الأرضين في ذلك الزمن.
وأما أسرة "سعد شمسم اسرع" "سعد شمس أسرع، فان أهميتها تزيد على أهمية الأسرة المتقدمة، إذ كانت لاسمها صلة بالملك "الشرح يحضب"، كما جاء في النصوص:Jamme 626 و Jamme 627 و Jamme 628 و Jamme 629 و Jamme 630. فقد نسب "سعد شمس أسرع" وابنه "مرثد يهحمد" في النصوص المذكورة إلى "الشرح يحضب"، فذكر أنهما "ابنا" الملك، ولقبا فيها ب "ملكي سبا وذ ايدن"، أي ملكي سبأ وذي ريدان"، مما يدل على أنهما كانا ملكين.

(1/1129)


--------------------------------------------------------------------------------

وصاحب النص: Jamme 626 رجل اسمه "ينعم اذرح" "ينعم أذرح"، وقد دون مع اسمه اسم ولديه: "ابكرب" "أبكرب" "أبوكرب" و "كبرم" "كبر"، وهم من "غيمان". واشترك معهم في تدوينه رجل آخر اسمه: "ناسم" "نأسم" "نأسن"، وكانوا أقيالا على قبيلة "غيمان". وقد ذكروا أنهم أهدوا صنما إلى الإله "المقه ثهوان" "بعل أوام" كما أوحي إليهم، حمدا له وشكرا، إذ من عليهم، ومنحم السعادة والعافية، وجعل "سيداهم: سعد شمس أسرع وابنه مرثد يهحمد، وهما ملكا سبأ وذي ريدان وابنا الشرح يحضب ملك سبأ وذي ريدان" يرضيان عنهم، ولكي يديم الإله المقه نعمه عليهم، وذلك بحق عثتر وهوبس والمقه وذات حميم وذات بعدان وبشمس الآهة الملك الملقبة ب "تنف" "تنوف" وبحق لمجدهم "وبشمهمو" "حجرم قحمم" "حجر قحم" "حجر قحام"، بعل القلعتين "عرنهن": "تنع" و "لمس".
وأما أصحاب النص: Jamme 627، فهم: "هو فعثت يزان" "هو فعثت يزأن" و "إلى كبسيم" "آل كبسي"، وهم أقيال "اقول" عشيرتي "تنعمم" "تنعم" و "تنعمت" "تنعمة".

(1/1130)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذكروا فيه انهم أهدوا لمجد "أوام"، وهو معبد "المقه"، صنما "صلما" لأنه أوحى إليهم انه سيجيب مطالبهم، وبوفي لهم كل ما سألوه من دعوات، فينزل عليهم الغيث، ويمطرهم بوابل الخير والبركات، ويسقي جانبي وادي "يعد" "يعود" و "اتب" "أتب" وأرضا من أرض "تنعمم" "تنعم"، ولأنه أنبأهم بأنه سيملأ "ماخذ همو"، أي سد "يفد" وأرض يفد بأمطار الربيع وبأمطار الخريف، وبماء جار دائم، وبأنه سيرفع حظوتهم عند "سعد شمس أسرع وعند ابنه مرثد يهحمد ملكا سبأ وذي ريدان، ابني الشرح يحضب، ملك سبأ وذي ريدان" ويقربهم إليهما تقربا يرضيهم، ولأنه وعدهم بأنه سيمنحهم السعادة والمال والطمأنينة، وانه سيسر خواطرهم، ويمنحهم غلة وافرة وأثمارا غزيرة وحصادا طيبا، وذلك بحق الآلهة: "عثتر" و "هوبس" و "المقه" و "بذات حميم" و "بذات بعدان" وبحق "شمس ملكن تنف"، أي: بحق الشمس إلهة الملك الملقبة ب "تنف"، وبحق "المقه" "بعل شوحط"، وبحق "شمسهمو بعلت قيف رشم"، أي: "الشمس" ربة "قيف رشم" "قيف رشام"، وقد جعلوا نذرهم تقدمة للإله "عثتر شرقن" "عثتر الشارق" و "المقه بعل أوام".
وأما النص Jamme 628، فهو النص المتقدم نفسه، فلا حاجة بنا إلى الكلام عليه. وأما النص: Jamme 630، فانه كالنصوص السابقة: حمد وشكر للإله "المقه ثهوان" "بعل أوام"، لأنه من على "لحيعثت اصححل" وهو من "يهعن" "يهعان"، بكل ما سأله وطلبه منه، وأمطره بشآبيب نعمه وافضاله، وبوابل من فضله، ورفع منزلته وأعطاه الخطوة عند "سعد شمس اسرع"، وعند ابنه "مرثد يهحمد"، ملكي سبأ وذي ريدان، ابني الشرح يحضب، ملك سبأ وفي ريدان. ولكي يديم نعمه عليه، ويتمها عليه وعلى بيته، ويعطيه أثمارا وحصادا جيدا كثيرا من كل أرضه "بن كل أرضتهمو"، وبقية من كل الأمراض والآفات.. في "عثتر" و "هوبس" و "المقه" و "بذات حميم" و "بذات بعدان" وفي "شمس ملكن تنف" شمس إلهة الملك تنف.

(1/1131)


--------------------------------------------------------------------------------

والنص Jamme 629، هو من أهم النصوص المذكورة، لورود أخبار ومعارك وحوادث تاريخية فيه لم ترد في أي نص آخر من النصوص المعروفة عن هذا العهد وعن هذه الأسرة وصاحب النص رجل اسمه "مرثدم" وقد سقط لقبه في النص، وقد دون اسم ابنه: "ذرح اشوع" "ذرح أشوع" معه، وهما من "جرفم" "جراف" "جرف" أقيال عشيرة "يهب عيل" "يهبعيل". وقد دوناه عند تقديمها صنما إلى الإله "المقه ثهوان" "بعل أوام"، حمدا له وشكرا، لأنه وفقهما وأسبغ نعمه عليهما، ولأنه وفق "ذرحن" "ذرحان" في كل المعارك والحروب التي خاضها لمساعدة سيديه "سعد شمس أسرع" وابنه "مرثد يهحمد" "ملكي سبأ وذي ريدان"، ابني "الشرح يحضب ملك سبأ وذي ريدان".
وقد حمد "ذرحن" "ذرحان" إلهه وشكره إذ نجاه من المعارك التي حدثت في أرض عشيرة "ردمان" "ردمن"، تلك المعارك التي هاجمها حلف تكون من "وهب ايل"، الذي هو من "معاهر" ومن "خولان" وحضرموت وقتبان وردمان ومضحيم "مضحى" ومن كل من انضم إليهم من ناس "وكل انس" ومن أعراب، وذلك لمغاضبة سيديهما ملكي سبأ ومعارضته ويظهر إن "ذرحان" كان قد حوصر أو وقع في مشكل في أرض ردمان، وربما في "وعلان"، عاصمة "ردمان"، وبقي محاصرا أو في وضع حرج صعب حتى جاءته قوات أنقذته مما وقع فيه، وعاد فالتحق بجيش سيديه الملكين لمحاربة ذلك الحلف.

(1/1132)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد أسرع الملكان، فعبأا جيشهما ومن كان معها من تبع "ادمهمى" ومحاربين "ذبن اسبعن" وأقيال، واتجها نحو "وعلان"، حيث واجها الأحلاف: واجهما "يدع ايل" ملك حضرموت، ومن معه من أهل حضرموت و "نبطعم" "نبط عم"، ملك قتبان، ومن كان معه من أهل قتبان، و "وهب ايل" من "معاهر" وخولان و "هصبح" و "مضحيم"، ومن كانوا معهم. وقد جرت معارك انتهت بانتصار "ملكي سبأ وذي ريدان" على رجال الحلف. ولم تذكر الأسطر التي دون فيها خبر هذه المعارك أسماء المواضع التي نشب فيها القتال: ولم تأت كذلك بأية تفاصيل عنها ولا عن فداحة الخسائر التي منيت بها قوات ذلك الحلف.
ويظهر إن "ذرحان" كان قد ترأس قوة مؤلفة من مقاتلين من "فيشن" "فيشان" ومن "يهبعيل" "يهب عيل"، وأخذ يهاجم بها بعض الأعداء، الا انه وقع في وضم عسكري حرج، اذ حاصره أعداءه، ولم يتمكن من النجاة بنفسه وبقواته الا بعد اسراع الملكين أنفسهما على رأس قواتهما لفلك الحصار عنه. وقد نجحا في ذلك، وسلم مع قوته من الوقوع في الأسر. ولما خلص ونجا، أخذ يهاجم فلول بعض الأعداء، فنجح في هجومه وحصل على غنائم وأموال. وعاد فانضم إلى جيش الملكين، وعاد الملكان إلى مدينة "مأرب" سالمين غانمين.
ويتحدث "ذرحان" بعد ذلك عن معارك نشبت في منطقة مدينة "حلزوم" ومدينة "مشرقتن" "مشرقتان" "المشرقة". وكان "ذرحان" يحارب مع جيش الملكين في خلال هذه المعارك. وقد حاصر جيش الملكين مدينة "حلزوم" ثم افتتحها وأباحها فأخذ ما وجد فيهما من أموال، ثم هاجم المواضع الأخرى على جاني الأودية والسهول" وتركها للنهب والسلب، ودمر المعابد "الحرم" "محرمت" والهياكل "وهيكلت"، وخرب كل المساقي "مسقي" التي تروي الأرضين في هذه المناطق. وبذلك انتهت معارك هذه المنطقة بتفوق الملكين على أعدائه. ويظهر إن الجيش لم يتمكن من افتتاح مدينة "مشرقتن" "المشرقة"، فبقيت صامدة مقاومة، حتى اضطر إلى ترك حصارها والارتحال عنها.

(1/1133)


--------------------------------------------------------------------------------

ثم ينتقل النص إلى الحديث عن معارك أخرى أدت إلى احتلال مدينة "منوبم" "منوب"، كل مدن "كل هجرن" ومصانع عشيرة "اوسن" أوسان، والى الاستيلاء على مدينة "شيعن" "شيعان". ولم يذكر شيئا مفصلا عن هذه المعارك، ولا عن الأماكن الأخرى التي وقعت فيها، ولا عن الغنائم والأموال التي أخذها الجيش من هذه المواضع. ويرى بعض الباحثين إن مدينة "منوبم"، هي "منوب"، وهي من مدن "بني بدا"، وان وادي "منوب" من الأودية التي تصب في وادي حضرموت في غرب "الحوطة"، التي تقع على مسافة عشرين كيلومترا من نجوب شرق "شبام". وأما شيعان فتقع على مسافة ثمانين كيلومترا جنوب "تمنع".
ثم يتحدث النص بعد ذلك عن معارك أخرى اشترك فيها "فرحان" وقائد آخر اسمه "رب شمسم يعر" "ربشمس لي حر" "رب شمس يعر"، وهو من "علفقم" "علفق" "علافق"، وكانا يحاربان في أرض قتبان، وقد وقعا على ما يظهر منه في وضع حرج، وذلك في منطقة مستوطنات حضر "احضر" وأعراب. حتى وصلت أمداد إلى "تمنع". وتمكنا بفضل "المقه" ورحمته بهما ومساعدته لهما من الخلاص والنجاة مما وقعا فيه، ثم عادا مع الملكين، وشقوا طريقهم إلى "مأرب" وعادوا جميعا سالمين.
ويظهر أن "مرثدم" "مرثد" أبا "ذرحان أشوع" كان في مدينة "صنعاء" "صنعو" وذلك بأمر من الملك للقيام بأعمال نيطت به، كما ناط الملكان بخمسة أقيال آخرين القيام بأعمال خاصة بمدينة "رحبتن" "الرحبة" في خلال الحملتين وتقع مدينة "رحبتن" "الرحبة" "الرحابة" "رحبتان" على مسافة عشرين كيلومترا شمال شرقي مدينة صنعاء.

(1/1134)


--------------------------------------------------------------------------------

ويطن أن الملك "نبطعم" "نبط عم" ملك قتبان المذكور في هذا النص، هو الملك "نبطعم يهنعم بن شهر هلال"، الذي حكم فيما بين السنة "20" والسنة "30" بعد الميلاد على رأي "جامه". وقد حكم أبوه "شهر هلال يهقبض" فيما بين السنة "10" والسنة "20" بعد الميلاد، على رأيه أيضا. و "نبطعم يهنعم" هو أبو الملك "مرثدم" ملك قتبان التي حكم فيما بين السنة "30" والسنة "45" بعد الميلاد.
و "تمنع" المذكورة في هذا النص، هي "تمنع" عاصمة قتبان. ولورود اسمها في هذا النص أهمية كبيرة، لأنه يدل على إنها كانت موجودة في هذا الزمن، وأنها بقت إلى ما بعد الميلاد: أي إلى القرن الأول منه، إذا ذهبنا مذهب "جامه" في التقدير المذكور.
هذا، ونحن لا نعلم في الزمن الحاضر عن الملكين المذكورين شيئا يذكر. وقد وضع "جامه" حكم "سعد شمسم" وابنه "مرثدم يهحمد" فيما بين السنة "20" والسنة "30" بعلا الميلاد. أي انه جعل حكمهما بعد حكم الملك "نشأكرب يهأمن يهرحب" ابن "الشرح يحضب" الذي انتهى حكمه في حوالي السنة "20" بعد الميلاد على رأيه.
أما "فون وزمن"، فوضع زمان حكم "سد شمس أسرع" في حوالي السنة "110" بعد الميلاد. ووضع زمان حكم "مرثد يهحمد" في حوالي السنة "130" بعد الميلاد. وذكر إن "الشرح يحضب"، هو "الشرح يحضب" الأول الذي جعل ابتداء زمان حكمه سنة "80" للميلاد. وهو من "مرثد" من "بكيل"، والذي كان يحكم "شبام أقين" "شبام أقيان". وقد أشار إلى وجود ملك آخر اسمه "الشرح يحضب" ميزه عن الأول بإعطائه لقب "الثاني" وقد جعل زمان حكمه سنة "200" أو "206" للميلاد.

(1/1135)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد يذهب الظن إلى إن الملكين المذكورين هما في الواقع "سعد شمسم أسرع" وابنه "مرثدم يهحمد" اللذين كانا من "جرت" جرة، وكانا قيلين على قبيلة "ذمرى"، كما نص على ذلك في الكتاباتJamme 568 و Jamme 606 و Jamme 607 و Jamme 653. وكانا في خدمة "الشرح يحضب" وفي خدمة ابنه "وترم"، لأن اسمي الملكين واسمي القيلين أسماء واحدة، ولأن زمانهما وزمان الملكين زمان واحد، الا إن هذا الظن يصطدم بكون القيلين من "جرت" "آل جرة"، وبكون الملكين من نسل "الشرح يحضب"، كما يفهم ذلك من كلمة "بني"، أي ابني بالتثنية الواردة بعد اسمهما ولقبهما وقبل اسم "الشرح"، ولم يكن الملك من أسرة "جرت" "جرة".
وجملة "سعد شمسم اسرع وبنهو مرثدم يهحمد ملكي سبأ وذ ريدن بني الشرح يحضب ملك سبأ وذ ريدن"، ومعناها: "سعد شمس أسرع وابنه مرثد يهحمد ملكا سبأ وذي ريدان، ابنا الشرح يحضب، ملك سبأ وذي ريدان"، الواردة في النص Jamme 629، جملة مثيرة في الواقع تثير التساؤل عن المراد من لفظة "بني" المذكورة فيها، فلو فسرناها بمعنى "ابني" أي ولدي "الشرح" اصطدمنا بحقيقة إن "مرثدم يهحمد"، لم يكن ابنا للملك "الشرح" وإنما كان حفيدا له، والحفيد غير الابن في اللغة وفي التعبير. ولذلك صار هذا التفسير غير منسجم مع واقع الحال.

(1/1136)

admin
12-27-2010, 12:57 AM
أما لو فرضنا أن البنوة المقصودة، هي بنوة تبن، أي إن "سعد شمس أسرع" لم يكن ابنا من صلب "الشرح يحضب"، بل كان ابنا بالتبني جوبها بمعضلة أخرى، هي أن "سعد شمس أسرع" لم يكن في عمر يتبنى فيه في العادة، ثم إن ابنه نفسه كان قيلا أي في عمر لا بد أن يكون قد جاوز فيه سن المراهقة، وهو أولى على كل حال من والده بالتبني بالنسبة إلى سنه. ولو كان التبني له، لما جاز لأبيه أن يسمي نفسه ابنا للملك بالمعنى المفهوم من التبني. لذا ننحن أمام معضلة لا يمكن حلها في الزمن الحاضر، ولا يمكن حلها إلا بعثور المنقبين على كتابات جديدة تتعلق بهذه الأسرة، وبشخصية "الشرح يحضب" نفسه، فلعل "الشرح" رجل آخر، حكم في غير هذا الزمن.
ويفهم من النص Glaser 1228 أن "سعد شمس أسرع" وابنه "مرثد يهحمد". وقد لقبا أنفسهما بلقب "ملك سبأ وفي ريدان" كانا حليفي الملك "ذمر على يهبر"،وقد حاربا معه الملك "وهب ال يحز" "وهب ايل يحز"، الذي كان مسيطرا على نجاد قبيلة "سمعي"، وقد انتصر "ذمر على يهبر" وحليفاه فيها، غير أن هذا النص لم يكن حاسما على ما يظهر.
أسرة فرعم ينهب
1- فرعم ينهب.
2- الشرح يحضب بن فرعم ينهب.
3- يأزل بين بن فرعم بنهب، أي شقيق الشرح يحضب.
4- نشأكرب يأمن يهرحب، "نشأكرب يهأمن يهرحب". وهو ابن الشرح يحضب.
5- وترم يهأمن "وتر يهأمن". وهو ابن الشرح يحضب. ومنهم من يقدم "وتر يهأمن" على أخيه "نشأكرب يهرحب".
الفصل الثامن والعشرون
سبأ وذو ريدان

(1/1137)


--------------------------------------------------------------------------------

أضفت في الفصل السابق ابر الملكين "سعد شمس أسرع" و "مرثد يهحمد" إلى آخر أسماء الملوك الذين حكموا بعد "الشرح يحضب"، وذلك حكاية على لسان "جامه" وبحسب ترتبه لأولئك الملوك، ولما تراءى له من دراسته لطبيعة الأحجار المكتوبة التي عثر عليها، ومن دراسته أساليب وأشكال الحروف وطرق نقشها على تلك الأحجار. أما غيره من الباحثين القدامى في العربيات الجنوبية، فلم يذكروهما لأنهم لم يكونوا قد وقفوا على الكتابات التي أوردت اسميهما، لأنهم لم يكونوا قد عرفوها اذ ذاك، اذ هي من الكتابات التي اكتشفت من عهد غير بعيد.
وقد اختلف الباحثون في تأريخ حكومة سبأ في تثبيت اسم الملك الذي حكم بعد آخر ابن من أبناء الملك "الشرح يحضب"، وتباينت آراؤهم في ذلك. وترك "ريكمنس" فراغا بعد اسم "نشأكرب يهأمن يهرحب" و "وتر" تم دلالة على انه يرى وجود فجوة في الحكم لا يدري من حكم فيها، وضع بعدها اسم "ذمر على بين". وقد جعله من المعاصرين للملك "العز" ملك حضرموت. أما "جامه"، فقد وضع كما قلت اسمي الملكين "سعد شمس أسرع" وابنه "مرثد يهحمد"، بعد اسم الملك "نشأكرب يهأمن يهرحب"، ثم دون اسم "ذمرء على بين" بعد اسم "مرثد يهحمد"، دلالة على انه هو الذي كان قد حكم بعده. وقد جعل ابتداء حكمه في حوالي السنة الثلاثين بعد الميلاد، وانتهاء حكمه في حوالي السنة الخامسة والأربعين للميلاد.

(1/1138)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما "فلبي"، فقد وضع اسم "وتر يهأمن" بعد اسم "نشأكرب يهأمن يهرحب"، ثم وضع اسم "ياسر يهصدق" من بعده. وقال باحتمال كون "ياسر" ابنا من أبناء "وتر"، ثم دون اسم "ذمر على يهبر" من بعد "ياسر"، وهو ابن "ياسر"، ثم دون اسم "ثارن يعب يهنعم" من بعده ثم وضع اسم "ذمر على يهبر" بعد "ثارن" وعبر عنه بالثاني، ليميزه بذلك عن "ذمر على" المتقدم، ثم جعل اسم "ذمر على بين" من بعده، وهو الملك الذي أتحدث عنه الآن، والذي جعله "ريكمنس" و "جامه" على رأس أسرة جديدة حكمت بعد زوال حكم أبناء "الشرح يحضب" على نحو ما ذكرت.
وسأسير في هذا الفصل في ترتيب حكام "سبأ وذي ريدان"، وفقا للقائمة التي وضعها ورتبها "ريكمنس" مع مراعاة القائمة التي وضعها "جامه" والإشارة إلى القوائم الأخرى حسب الإمكان.
ولا نعرف من أمر "ذمر على بين" شيئا تذكر. وقد ورد اسمه في نص وسم CIH 373، غير انه لم يلقب فيه بلقب "ملك سبا وذي ريدان"، على حين لقب ابنه به. فحمل هذا بعضهم على التريث في الحكم بأنه كان ملكا. وقد جعل "جامه" حكمه فيما بين السنة الثلاثين والسنة الخامسة والأربعين بعد الميلاد.
وقد ورد في هذا النص المتقدم، أي النص: CIH 373 اسم ابن من أبناء "ذمر على بين"، هو "كرب ايل وتر يهنعم"، وقد لقب فيه وفي نصوص أخرى ب "ملك سبأ وذي ريدان"، ومدون النص: CIH 373 وصاحبه هو الملك "، كرب ايل وتر يهنعم" أمر بتدوينه عند تقديمه نذرا إلى الإله "المقه"، ليوفي له وليبارك عليه وعلى قصره "سلحن" "سلحين" "سلحان" وعلى مدينة "مريب" مأرب. وقد ذكر مع اسمه اسم ابن له هو "هلك امر" "هلك أمر".
ووصل إلينا نقد ضرب عليه اسم "كرب ايل"، وأول من أشار إلى هذا النقد "بريدو" Prideaux الذي بين أن ال "مونكرام" Monogram، أي الحروف المتشابكة المضروبة على النقد، تشير إلى نعت هذا الملك. وقد بحث "موردتمن" كذلك في هذا الموضوع.

(1/1139)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذهب "ريكمنس" إلى إن "كرب ايل وتر يهنعم"، كان يعاصر الملك "العز" مللك حضرموت.
وللملك "كرب ايل وتر يهنعم" كتابة أخرى أمر هو نفسه بتدوينها، هي الكتابة التي وسمت ب ERP. EPIG 3895. وهي قصيرة ناقصة، سقطت منها كلمات عدة. وقد ورد فيها اسم ابن الملك، وهو "هلك امر" "هلك أمر"، ولم يلقب "هلك أمر" فبه بي "ملك سبأ وذي ريدان".
ويظهر من ورود اسم الملك "كرب ايل وتر يهنعم"، وحده في بعض النصوص ملقبا ب "ملك سبأ وذي ريدان" أن هذا الملك حكم وحده في بادئ الأمر، لم يشاركه أحد، ثم بدا له فأشرك ابنه "ذمر على ذرح" معه، وذلك في العهد الثاني، وهو العهد الأخر من حكمه. لورود اسم "ذمر على ذرح" من بعد اسم أبيه، منعوتا بنعت الملوك.
ويلاحظ ورود اسم "هلك أمر" ابن " كرب ايل وتر يهنعم" وفي كتابات الدور الأول من دوري حكم أبيه، إلا انه لم يلقب فيها ب "ملك سبأ وذي ريدان". أما كتابات الدور الثاني من أدوار حكم "كرب ايل"، فلا نجد فيها اسمه وإنما في فيها اسم شقيقه "ذمر على ذرح". وقد تلقب ب "ملك سبأ وذي ريدان" دلالة على أنه كان يحكم مع أبيه حكما ملكيا مزدوجا. وقد، يعني هذا وفاة "هلك أمر" في أيام حكم أبيه، ولهذا اختفى اسمه من الكتابات.
وقد قدر "البرايت"، F.P.Albright حكم "كرب ايل وتر يهنعم" وابنه "هلك أمر" في منتصف القرن الأول للميلاد.
وقد وضع "فلبي" اسم "ذمر على ذرح" بعد "هلك أمر"، وهو شقيقه. وقد ذكر اسمه في النص الموسوم ب CIH 791، وقد كان حكمه بحسب تقدير "فلبي" فيما بين السنة "75 ب.م." و السنة "95 ب.م.".

(1/1140)


--------------------------------------------------------------------------------

أما الكتابات التي ذكر فيها "ذمر على ذرح" مع أبيه فيها، فهي الكتابة:REP.EPIG 4132 والكتابة REP.EPIG. 4771. والكتابة الأولى قصيرة أصيبت مواضع منها بتلف. ويلاحظ أن النص لم يذكر "ملك سبأ وذي ريدان" بعد اسم "كرب ايل وتر يهنعم" الذي سقط من الكتابة، ولم يبق منه إلا الحروف الأخيرة من نعته "يهنعم". وأما النص REP.EPIG. 4771، فقد أهمل فيه لقب "كرب ايل" الذي هو "وتر يهنعم"، واكتفى بذكر اسمه الأول وحده وهو "كرب ايل"، ثم دونت بعده جملة "ملك سبأ وذي ريدان وذمر على ذرح ملك سبأ وذي ريدان". وهو من النصوص التي عليها في مأرب.
ولدينا عدد من الكتابات دون فيها اسم الملك "ذمر على ذرح"، منها الكتابة CIH 143، والكتابة CIH 729، والكتاب CIH 791 والكتابة Jamme 644، والكتابة،Jamme 878 والكتابة Geukens 12 والكتابة REP.EPIG. 4391 وبعض هذه الكتابات ليست من أيامه ولكنها من أيام ابنه "يهقم"، وقد ذكر فيها لأنه أبوه، كما إن بعضها مثل الكتابة: REP.EPIG. 4391 مؤلف من سطر واحد: "ذمر على ذرح، ملك سبأ وذي ريدان".
ويحدثنا النص: Jamme 644، عن عصيان قام به رجل اسمه "لحيعثت بن سم همسمع" "لحيعثت بن سمهسمع"، ومعه قبيلته قبيلة "شددم" "شدادم" "شداد"، ورجل آخر اسمه "رب اوم بن شمس" "رب أوام بن شمس" ورجال آخرون انضموا إليهم وأيدوا حركتهم. وقد ثاروا على سيدهم "يهقم" وهو ابن "الشرح يحضب ملك سبأ وذي ريدان"، وهاجموا قصر "سلحن" "سلحين" "سلحان"، قصر الملوك ومقر الحكم في "سبأ وذي ريدان" ودخلوه، واعتصموا به. فهب رجل اسمه "أوس ال يضع" "أوس ايل يضع" "أوشيل يضع"، وهو من قبيلة "غيمان"، وكان قيلها أيضا، فهاجم الثوار وتغلب عليهم، وطردهم من القصر، ويظهر انه أخذهم غرة، فصان بذلك القصر من الأذى، وهربوا عن مأرب، وحمد "أوسئيل" ربه "المقه" اذ وفقه وساعده في انتصاره على الثوار، وقدم إليه تمثالا من ذهب تعبيرا عن شكر،ه وحمده له.

(1/1141)


--------------------------------------------------------------------------------

ويحدثنا صاحب النص المذكور، وهو "أوس ايل يضع"، بأن العصاة هربوا من مأرب، وتحصنوا في مواضع أخرى، واستمروا في عصيانهم هذا، فأمر عندئذ "يهقم" بعض عشائر "غيمان" إن تهاجم ارض "شددم" "شداد" من مدينة "صنعاء" "صنعو" وتقضي على "لحيعثت بن سمهسمع"، فهاجم جنود "غيمان" العصاة في موضع "كومن" "كومنان"، وتغلبوا عليهم واستنقذوا منهم خيلا وإبلا ودواب أخرى، وأخذوا منهم غنائم وأسرى وحراس الأسرى الذين كانوا قد وضعوهم في "كومنن". وسر قيلهم كثيرا إن أرضى بذلك قلب سيده "يهقم" وأخذ منهم بثأره.
وقامت جماعة أخرى من محارب قي يخمان بتعقب ثلاثة مقاتل من العصاة كانوا قد فروا من مأرب، وكانوا قد ساعدوا رئيس العصابة في هجومه على قصر "سلحن". وقد لحقت بهم وأعملت السيف فيهم، ثم عادت بعد إن أفنتهم. وقد غنم الغيمانيون من المعركتين ستمئة رأس من الماشية وأربعة أفراس.
ولا نجد في هذا النص اشارة ما، لا إلى الملك "ذمر على"، ولا إلى موضع وجوده في ذلك العهد. ويظهر انه كان خارج "مأرب"، وإلا لما اغفل النص الإشارة إليه. أما ابنه، فقد كان في مأرب على ما يظهر منه. ويلاحظ أن النص قد ذكر لفظة "مراهموا" أي سيده قبل اسم "يهقم"، ويعود الضمير إلى صاحب الكتابه، أي "سيد صاحب الكتابة"، ولكنه لم يذكر بعد اسم "يهقم" جملة "ملك سبأ وذي ريدان"، دلالة على أنه لم يكن ملكا اذ ذاك، وأن صاحب الكتابة كان يعترف بسيادته عليه.
وفي النص:Jamme 878، نبأ معارك جرت في أيام "يهقم" كذلك، غير إن النص أصيبت مواضع منه بالتلف، أفسد علينا المعنى، كما أن فيه غموض وإيجاز يصعب معه استخراج شيء مهم منه عن تلك المعارك التي خاضها أصحاب النص مع "يهقم" الذي كتب اسمه على هذه الصورة "يها..."، لوجود تلف في بقية الاسم وتلف آخر في أول السطر الجديد يليه اسم ".. مر على ذرح"، مما يدل على إن المراد "يهقم" المذكور، وانه هو الذي تولى قتال المخالفين.

(1/1142)


--------------------------------------------------------------------------------

ووضع "جامه" اسم "كرب ايل بين" "كربئيل بين" بعد اسم "ذمر على ذرح، وهو ابن "ذمر على ذرح"، وجعل حكمه فيما بين السنة الثمانين والسنه الخامسة والتسعين بعد الميلاد.
وتعود الكتابة: Jamme 642 إلى أيام هذا الملك، وقد دونها شخص اسمه "حربم ينهب" "حرب ينهب"، من عشيرة "هللم" "هلال" "هلل"، عند شفائه من مرض "بن مرض"، ألم به ولزمه حتى قدم مأربا، فعوفي من مرضه هذا في شهر "ذى ال الت" "ذى الالت" "الئيلت" "الئيلوت". وقد حمد "حرب" ربه وشكره على أن من عليه بالشفاء، وقدم إليه نذرا:صنما "صلمن" تعبيرا عن هذا الشكر، وليبارك فيه وفي سيده "مرأهم"، "كرب ايل بين ملك سبأ وذي ريدان، ابن ذمر على ذرح وليديم الإله نعمه عليه ويرزقه أولادا ذكورا". ويلاحظ أن النص لم يدون جملة "ملك سبأ وذي ريدان" بعد اسم "ذمر على ذرح" على حسب القاعدة المتبعة في تدوين أسماء الملوك.
والنصان: Jamme 643 و Jamme 643، يكمل أحدهما الآخر. فالنص الثاني هو تتمة وتكملة للنص الأول. وهما على جانب كبير من الأهمية عند المؤرخ، لورود أخبار تأريخية فيهما، لم ترد أية إشارة إليها في نصوص أخرى. وصاحباهما رجلان من عشيرة "جرت" "جرة"، وهي عشيرة معروفة مر بنا اسمها مرارا، وكان منها أقيال عشيرة "سمهرم" "سمهر"، وصاحبا النصين هما من أقيال "سمهرم"، اسم أحدهما "نشأكرب واسم الآخر "ثوبن" "ثوبان". وقد دونا في النصين أخبار معارك خاضاها، وكانا قائدين فيها من قواد جيش "كرب ايل بين" "ملك سبأ وفي ريدان"، وقد أمرهما الملك بقادة كتائب من جيشه، وكذلك فرسانه لمحاربة ملك حضرموت ومن عصى أمره فثار عليه، أو من انضم إلى ملك حضرموت من عشائر وحضر.

(1/1143)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من مقدمة هذا النص إن العلاقات لم تكن حسنة بين "ملك سبأ وذي ريدان" وملك حضرموت، وان مناوشات ومعارك كانت قد وقعت بين حكومة سبأ وحكومة حضرموت، مناوشات أتعبت الطرفين على ما يظهر حتى اضطرا في الأخر إلى عقد صلح بينهما، وأخذا الأيمان على أنفسهما بوجوب المحافظة على ما اتفقا عليه. وقد وافق ملك حضرموت وهو "يدع ايل" فضلا عن ذلك على إن يكون في جانب ملك "مأرب" وان يحافظ على حسن الجوار، وان يضع تحت تصرف الملك "يدع ايل بين" قوة من حرس "يعكرن" "يعكران" وهو ملك آخر من ملوك حضرموت يوجهها حيث يشاء تكون عنده في مأرب. غير إن هذا الاتفاق لم يدم طويلا، فسرعان ما نكث ملك حضرموت بعهده كما يقول النص، وخالف وعده، بحجة إن "كرب ايل بن" أرسل قوة من محاربي "سمهرم" "سمهر"، وضعها تحت قيادة "نشأكرب إلى "حنن" "حنان"، وهي مدينة لا تبعد كثيرا عن "مأرب"، فخالف بذلك ما اتفق عليه، وأحل نفسه بذلك من تنفيذ ما اتفق عليه وزحف على بعض المواضع ليهدد باستيلائه عليها الملك.
وكان الملك "كرب ايل بين" قد أمر قائده "نشأكرب" بأن يذهب بثلاثمائة محارب من اهل "سمهرم" إلى مدينة "حنن" "حنان"، فلما وصل بهم إليها، اعترضه ملك حضرموت ومنعه من الدخول إليها، لكي يقوم فيها بتنفيذ أوامر ملكه التي كلفه تنفيذها، وهي تتعلق ببناء مواضع لتعزيز الأمن في هذه المدينة. وقد عرض "نشأكرب" على الملك "يدع ايل" ملك حضرموت الأمر الملكي الذي يأمره فيه بتنفيذ ما كلفوه اياه، فرفض قبوله، وطلب منه أن يعود برجاله إلى مأرب، فاستاء ملك سبأ، وهاج على ملك حضرموت.

(1/1144)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر إن "يدع ايل" ملك حضرموت، كان يريد إبقاء منطقة "حنن" "حنان" بدون حراسة ولا قوات تحميها ليفرض سلطانه عليها. وقد استغل ضعف "سبأ وذي ريدان" في هذا الوقت فأراد التدخل في شؤونها، وحل نفسه مع جنوده في مدينة "حنن" "حنان" مع إنها مدينة سبئية تابعة لملك "سبأ وذي ريدان". وكان قد صمم أيضا على إخضاع القسم الجنوبي الشرقي من سبأ لحكمه، فارتاع "ملك سبأ وذي ريدان"، وشعر بالخطر الذي سيتهدد مملكته لو تساهل في ذلك، وسمح لملك حضرموت بأن يتصرف في الأمور كيف يشاء فأمر قائده بالذهاب إلى تلل المدينة لتحصينها وابعاد الحضارمة منها، فلما وصل إليها، صادف وجود ملك حضرموت فيها، وأدرك ملك حضرموت سبب قدوم هذا القائد على رأس هذه القوة، فمنعه من تنفيذ ما كلف اياه، لئلا يتعزز حكم سبأ في هذه المدينة السبئية، وتصرف "يدع ايل" وكأنه ملك سبأ، لا ملك حضرموت ولا ملك آخر غيره هناك. فصرف "نشأكرب" ومن كان معه، ولم يعبأ بأمر ملك "سبأ وذي ريدان" الذي عرض عليه. ثم توجه إلى أرض معين ليهدد سبأ ويفاجئها بحرب.
إتجه نحو مدينة "يثل" أولا، وهي من مدن معين المهمة القديمة. فلما وصل إلى أبوابها، فتحت له ولجنوده، واستقر بها مدة. ثم اتجه منها نحو مدينتي "نشقم" "نشق" و "نشن" "نشان"، وهما من مدن "معين" القديمة المهمة كذلك، فحاصرهما وأخذ يهاجم مواضع التحصين والدفاع فيهما. فقرر ملك "سبأ وذي ريدان" الإسراع بإرسال نجدات إليهما تمكنهما من مقاومة الحضارمة ومن الصمود أمامهم. امر بوضعها تحت قيادة "نشأكرب و "سمه يفع" "سمهو يفع" "سمهيفع" وهو من "بتع". وقد تألفت من كتائب محاربة ومن فرسان. ولما جاء خبر وصول المدد إلى المدينتين، أبلغه به "منذر" أي أحد الذين كانوا يسترقون الأنباء ويبعثون بها إلى الحكومات التي أرسلتهم للتجسس على خصومهم، أسرع فترك حصار المدينتين، وعاد إلى "يثل" ليتحصن بها.

(1/1145)


--------------------------------------------------------------------------------

وقرر الملك "كرب ايل بين"، مهاجمة خصمه بنفسه، فسار على رأس قوة من جيشه من عاصمته "مأرب"، واتجه نحو "يثل"، وأمر قائديه بالزحف مع قواتهم نحو "يثل" أيضا. وهكذا هاجم "ملك سبأ وذي ريدان" مدينة "يثل" من ناحيتين، لتطويق "يدع ايل" فيها. وقد سار القائدان من مدينة "نشق"، فلما بلغا "يثل"، وكان ملكها قد وصل إليها كذلك، هاجمت قوات "سبأ وذي ريدان" قوات حضرموت فهزموها، واضطر ملك "حضرموت" إلى ترك "يثل" و الاتجاه منها نحو "حنن" "حنان". وكان هذا الملك قد حاول قبل ارتحاله نحو "يثل" نهب "المعبد" الحرام "محرمن" وأخذ ما فيه، غير أن قوات القائدين المذكورين الزاحفة من "نشق" أدركته، فخاف من الالتحام بها، وفر نحو "يثل"، وبذلك أنقذ المعبد الحرام من النهب. ويرى "جامه" أن ذلك المعبد هو المعبد المعروف ب "محرم بلقيس" بن الناس في هذا العهد.
ويكمل النص الثاني، وهو النص Jamme 643 Bis، آخر خبر ورد في النص الأول، فيقول: إن قوات إضافية وصلت من مأرب، إلى الملك وقائديه، وعندئذ اتخذت هذه القوات خطه المهاجمة، فهاجمت ملك حضرموت وجيش حضرموت، وأنزلت به خسائر فادحة، فتكت بألفي جندي من جنود حضرموت، واستولى السبئيون على كل ما كان عند الحضارمة من خيل وجمال وحمير ومن كل حيوان جارح "جرح" كان عند ملك حضرموت، وبذلك ختم هذا النص، بالنص على انتصار "سبأ وذي ريدان" على ملك حضرموت .
ونحن لا نعلم ماذا جرى بعد هذا النصر الذي أحرزه السبئيون على حضرموت إذ ليست لدينا نصوص تتحدث عن ذلك. ولكننا نستطيع أن نقول إننا تعودنا قراءة أخبار أمثال هذه الانتصارات ثم تعودنا أن نقرأ بعد ذلك أن المهزوم يعود فيحارب المنتصر الهازم، وان المعارك لم تكن تنتهي حتى تبدأ بعد ذلك معارك انتقامية جديدة أخذا للثأر. لقد صارت العربية الجنوبية ويا للأسف وكأنها ساحة لعب، لا تخلو من اللعب إلا لفترات الراحة والاستجمام.

(1/1146)


--------------------------------------------------------------------------------

هذا، ونحن لا نعرف في شيئا يذكر عن الملك "يعكرن" "يعكران" ملك حضرموت الثاني التي ورد اسمه في النصين المتقدمين، إذ لم يرد اسمه في نصوص أخرى، ولا أمل لنا إلا في المستقبل، فقد يعثر على كتابات جديدة يرد فيها اسم هذا الملك.
وقد قدر "جامه" حكم الملك "يهقم" والملك "كرب ايل بن" فيما بين السنة "80" والسنة "90" بعد الميلاد. وفي هذا الزمن كان أيضا حكم ملكي حضرموت "يدع ايل" و "يعكرن" "يعكران".
وقد ترك "ريكمنس" فراغا بعد اسمي "هلك أمر" و "ذمر على ذرح" إشارة إلى فجوة لا يدري من حكم فيها، ثم دون بعده اسم "وتر يهأمن"، ثم ترك فراغا دون بعده اسم. "شمدر يهنعم"، ثم عاد فترك فراغا ثالثا دون بعده اسم "الشر يحمل"، ثم ترك فراغا ذكر بعده "عمدان بين يهقبض"، ثم فراغا خامسا دون بعده اسم "لعز نوفان يهصدق"، ختمه بفراغ سادس دون بعده اسم "ياسر يهصدق".
ووضع "فلبي" اسم "ياسر يهصدق" "يسر يهصدق"، بعد "وترم يهأمن". وجعل مبدأ حكمه حوالي سنة "60 ق. م."، وذكر إن من المحتمل أن يكون "وترم" "وتر" هو والده. وقد ورد اسمه في النص: CIH 41، وهو نص دونه جماعة من أقيال قبيلة "مهانفم"، عند بنائهم بيتهم "مهورن" "مهور" و "يسر" و "مزودا" اسمه "حرور"، وقد وردت فيه أسماء الإلهة: "عثتر شرقن" أي "عثتر الشارق" و "عثتر ذ جفتم بعل علم"، و "شرفن"، و "ذات حميم" "بعلى محرمن ريدان" أي ربا "حرم ريدان"، و "الهموبشر"، أي إلههم "بشر". ودون بعد أسماء الإلهة اسم الملك "ياسر يهصدق ملك سبأ وذي ريدان"، ولم يذكر اسم والد "ياسر" في هذا النص. والكتابة المذكورة من "ضاف" ب "قاع جهران" شمال "ذمار". و "قاع جهران" هو "مهانفم" في كتابات المسند.

(1/1147)


--------------------------------------------------------------------------------

ويعد النص المذكور من أقدم النصوص الحميرية التي وصلت إلينا. ويرى "فون وزمن"، انه أول نص يصل إلينا لقب فيها ملك من ملوك حمير بلقب "ملك سبأ وذو ريدان". ومعنى هذا إن ملوك حمير كانوا قد نافسوا الأسرة السبئية الشرعية ونازعوها على العرش، وتلقبوا بهذا اللقب الذي هو من ألقاب ملوك سبأ الشرعيين.
وأرض "مهأنف" "مهانفم" هي "قاع جهران"، ومعنى ذلك إن هذه الأرض كانت تابعة لهذا الملك في ذلك العهد.
ويعد "ياسر يهصدق" "يسر يهصدق" من حمير، ومعنى هذا إن حمير التي نازعت الأسرة القديمة لسبأ عرشها لقب حكامها أنفسهم باللقب الرسمي الذي يتلقب به ملوك "سبأ" الأصليون، تعبيرأ عن إثبات حقهم في الملك. وقد حكم "ياسر"- على رأي "فون وزمن"- في حوالي السنة "75 م" أو "80 م". وكان يقيم في "ظفار"، في حصن "ريدان". ويري "فون وزمن" انه في خلال المدة التي انصرمت بين حملة "أوليوس غالوس" وبين حكم "ياسر يهصدق"، لم يصل إلينا أي نص من نصوص المسند.
وجعل "جامه" حكم "ياسر يصدق" بين السنة "200" والسنة "205" بعد الميلاد.
وقد وضع "فون وزمن" اسم "الشرح"، بعد اسم "ياسر يهصدق"، وجعل أيامه في حوالي السنة "90" بعد الميلاد. وقد ذكر انه من حمير والى أيامه تعود الكتابة المرقمة CIH 140.
وعرف ولد من أولاد "ياسر" اسمه "ذمر على يهبر"، وقد ذكر في النص CIH 356. وقد عثر على بعض النقود ضرب عليها اسم صاحبها، وهو "يهبر"، فلعله هذا الملك.

(1/1148)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر اسم الملك "ذمر على يهبر" واسم أبيه "ياسر يهصدق" في الكتابة المذكورة، وقد جاء فيها: إن هذا الملك قاتل رجلا من "بني حزفرم" "بني حزفر" "آل حزفر"، و "آل حزفر" هم عشيرة من "ذي خليل" وهي عشيرة قديمة شهيرة، أخرجت جملة "مكرب" "مكارب" و "ملوك". ويرى "فون وزمن" إن هذه الحرب كانت ضد الأسرة السبئية المالكة المتوارثة للعرش من عهد قديم، وان هذا الملك الذي هو من "حمير"، استولى على حصن "ذت مخطرن" "ذات مخطران" "ذات المخاطر"، واستولى على "مأرب" عاصمة سبأ في هذه الحرب 3.
ومعنى هذا أن حمير استولت على سبأ وحكمها، فصارت مأرب خاضعة لها. وقد دام خضوع سبأ لحمير إلى أيام "ثأرن يعب" وهو ابن "ذمر على يهبر" "ذمر على يهبأر"، إذ نجد على مأرب ملكا، هو الملك "ذمر على ذرح". وقد قدر "فون وزمن" زمان استيلاء حمير على مأرب بحوالي عشر سنين.
وورد اسم "ذمر على يهبر" واسم أبيه "ياسر يهصدق" في الكتابة REP. EPIG.310، والآمر بكتابها هو "تبع كرب" "تبعكرب" من آل "حزفرم" "حزفر"، وقد قدم إلى الإله "المقه" نذرا يتألف من أوثان لتوضع في معبد هذا الإله ولحمايته ولخير أرضه وحصنه. ويظهر أن أملاكه كانت في منطقة "رحب" "رحاب".
وقد قام "ذمر على يهبر" ومعه ابنه "ثارن يعب يهنعم" الذي أشركه أبوه معه في الحكم، بإعادة بناء سد "ذمر" "ذامر" "ذو أمر" "ذمار" في منطقة "أبين"، وذلك لتهدم السد القديم الذي كان يمد أهل مأرب بالماء. فأعادا بذلك الحياة لمساحة واسعة من أرضين موات. وقد قام بهذا العمل عمال من شعب "سبأ" ومن "ذو عذهبن" "ذى عذهب"، وقدما في ذلك قرابين إلى آلهتهما: "عثتر" و "سحر" نحراها في معبد "نفقن" "نفقان".

(1/1149)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر "ذمر على يهبر" مع ابنه "ثارن" في الكتابة المرقمة بrep. Epig 4708، وقد كتبت على تمثال من البرنز محفوظ الآن في متحف "صنعاء"، وذكرت فيها أسماء أصحابها ، وهم قوم "آل ذرح"، وورد فيها اسم معبد "صنع" "صنعو"، ولعله "صنعاء".
وقد ورد اسم "ثارن يعب يهنعم" في الكتابة الموسومةREP.EPIG. 4909 ، وهي كتابة سجلها رجلان من أشراف حمير، أوفدهما ملكهما "ثارن يعب" إلى الملك "العذ يلط" "العز بلط"، ملك حضرموت، لتهنئته باعتلاء العرش وتلقبه باللقب الملوكي في حصن "أنودم" "أنود". ويرى بعض الباحثين أن ذلك كان في حوالي السنة "200 ب. م.". أما "فلبي" فجعل زمانه في حوالي السنة "20 ق. م."، ومعنى هذا أن زمان حكمه كان بعد حملة "أوليوس غالوس" بقليل، وهو تقدير لا يقره عليه أكثر علماء العربيات الجنوبية.
وأما "جامه"، فقد جعل زمان حكمه بين السنة "265" والسنة "275، بعد الميلاد، وجعله معاصرا للملك "العذ يلط" ابن "عم ذخر" "العذ يلط بن عمذمر" ملك حضرموت. وقد جعله "فون وزمن" معاصرا للملك "نشأكرب يهأمن يهرحب" "نشأكرب يهأمن يهرحب"، الذي حكم على رأيه في حوالي سنة "230 ب. م." إلى "240 ب. م.".
وقد ذكر مع ابنه في الكتابة المعروفة ب REP.EPIG.3441وهي تخص أعمالا عمرانية أمر بها "ذمر على" وابنه "ثارن" تتعلق بسد "ذو أمر" "ذمر" "ذمار".
وورد اسم "ثارن يعب" في النص: CIH 457، وقد ذكر معه اسم أبيه "ذمر على يهبر"، وقد دونه جماعة من "بني ذى سحر" عند تقديمهم إلى الإلهة أوثانا، لحماية سيديهما الملكين "ذمر على يهبر" وابنه "ثارن يعب"، ولحماي أملاكهم ورعايتهم. وقد ذكرت في الكتابة أسماء الآلهة التي توسل إليها أصحابها ورجوا منها الحماية والرعاية، وهي: "عثتر" و "سحر بعلى نفقن" و "هبس" و "المقه" و "ذات حميم" و "ذات بعدان" و "شمس".
وورد اسم "ثارن يعب" في نهاية النص:CIH 569، وهو نص قصير مؤلف من ثلاثة أسطره.

(1/1150)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد خلف "ثارن يعب" على عرش سبا ابنه الملك "ذمر على يهبر"، الذي يمكن أن نطلق عليه "ذمر على يهبر الثاني"، تمييزا له عن جده. وقد وجد اسمه في نص أرخ بشهر "ذو نسور" "ذ نسور"، وقد سقط اسم السنة التي أرخ بها من النص.
وقد وضع "فون وزمن" اسم "شمر يهرعش" من بعده، ودعاه ب "الأول" تمييزا له عن "شمر يهرعش" الآخر الذي ولي الحكم بعده بأمد طويل. وقد جعل "فون وزمن" "شمر يهرعش الأول" معاصرا ل "أنمار يهأمن" ول "كرب ايل وتر يهنعم" من "بني بتع"، من قبيلة "سمعي". وقد كان حكمه في حوالي السنة "140" بعد الميلاد.
أما "ريكمنس"، فقد دون اسم "ذمر على يهبأر" بعد "ياسر يهصدق" ونعته ب "الأول" ثم دون اسم "ثارن يعب يهنعم" من بعده، ثم ترك فراغا وضع اسم "ذمر على يهبأر" بعده، ونعته به "الثاني" ليميزه عن الأول، ثم ترك فراغا، ذكر بعده اسم "رب شمس نمران"، ثم وضع فراغا آخر، ذكر بعده ملكا سماه "الشرح يحضب" "الشرح يحب"، ثم ذكر بعده ملكين أحدهما اسمه: "سعد شمس أسرو"، وآخر اسمه مكسور لم يبق منه إلا ثلاثة أحرف، هي "حمد"، ثم دون فراغا بعد هذين الاسمين، وختمه بذكر اسم "ياسر يهنعم"، ثم اسم "شمس يهرعش" وهو ابنه من بعده، وقد كان معاصرا للملك "شرح ايل" ملك حضرموت. وب "شمر يهرعش" أنهى "ريكمنس" قائمته لملوك "سبأ وذي ريدان".
أما "فلبي"، فقد وضع اسم "ذمر على بين" بعد اسم "ذكر على يهبر" الثاني. وقد وضع علامة استفهام أمامه دلالة على انه غير متأكد من اسم أبيه. وربما كان ابن أخ "ذمر على يهبر الثاني". وزعم أنه حكم حوالي سنة عشرين بعد الميلاد.
ووضع "فلبي" اسم "كرب ال يهنعم" "كرب ايل وتر يهنعم"، بعد اسم "ذمر على بين"، ثم اسم "هلك امر" "هلك أمر" من بعده، ثم "ذمر على ذرح"، وقد سبق إن تكلمت عنهم،إذ قدمتهم وفقا لقائمة "ريكمنس".

(1/1151)

admin
12-27-2010, 12:58 AM
ووضع "فلبي" اسم "يدع ال وتر" بعد "ذمر على ذرح" أبيه. وقد جعل حكمه من حوالي السنة 95 حتى السنة "115ب. م".
ويظن "فلبي" أن "يدع ال وتر"، هو الشخص المسمى بهذا الاسم في النص: CIH 771 ويحتما في نظره أن يكون ابنه.
وذكر "فلي" أنه منذ المسنة "115" إلى السنة "245 ب. م."، حكم عرش "سبأ وذي ريدان" ملوك من أسرة "بني بتع" من "حاشد"، و"حاشد" قبيلة من "همدان". وقد بلغ عددهم اثني عشر ملكا، جمعهم في ست مجموعات، ولم يضع أمام كل ملك زمان حكمه كما فعل في قائمته للملوك الذين حكموا قبلهم، ذلك لأنه-كما بين هو نفسه- غير واثق من معرفة زمان حكمهم، ولا من ترتيب المجموعات وإنما رتبهم على ما أداه إليه اجتهاده، لا غير.
ومن هؤلاء الملوك، الملك "شمدر يهنعم" "شمدار يهنعم"، وقد عرف اسمه من نقود عثر عليها ضربت في مدينة "ريدان"، وهي مما بعد الميلاد، ولا نعرف من أمره شيئا آخر.
ووضع "فلبي" بعد الملك المذكور اسم "عمدن بين يهقبض" "عمدان بين يهقبض"، وقد ورد اسمه في النص الموسوم ب Glaser 567، كما وجد مضروبا على نقد ضرب في مدينة "ريدان". وقد صور رأسه على النقد، فبدا وجهه حليقا، وظفائر رأسه متدلية على رقبته. وأول من وجهه أنظار الباحثين إلى هذا النقد، "موردتمن" Mordtmann، و "بريدو" Prideux .
ووجد اسم "عمدان بين يهقبض" في نص عثر عليه في "حرم بلقيس"، وقد لقب ب "ملك سبأ وذي ريدان". وهو نص ناقص، ذكر فيه اسم الإله "عثتر".

(1/1152)


--------------------------------------------------------------------------------

ووضع "فلبي" بعد الملكين المذكورين اللذين كونا المجموعة الأولى، "نشأكرب يزن" "نشأكرب يأزن" ثم "وهب عثت يفد". وهما يكونان المجموعة الثانية من المجموعات الست التي تصور إنها حكمت في المدة المذكورة. وقد ورد اسماهما في النص: CIH 336، ولم يلقبا ب "ملك سبأ وذي ريدان". ولم أجد في هذا النص إشارة ما يمكن أن يستدل بها على انهما ملكان. ولم يذكر "هومل" اسميها مع من ذكر من الملوك الذين حكموا بعد "الشرح يحضب" والذين رتب أسماء من عليهم بحسب حروف الهجاء، ويبلغ عددهم، في رأيه، زهاء عشرين ملكا.
وذكر "فلبي" إن والد الملكين المذكورين هو "تصح بن يهزحم".
ودون "فلبي" اسمي ملكين آخرين بعد المكين المتقدمين، أحدهما "هوتر عثت يشف"، والآخر "كرب عثت يهقبل".
وانتقل بعد ذلك إلى مجموعة أخرى تضمنت اسمي ملكين أيضا، هما "نشأكرب أوتر"، و "شهر أيمن". وقد ورد اسم "نشأكرب أوتر" في النص الموسوم: Om II,2، غير انه لم يلقب فيه بملك، وقد رجح "هومل" كونه ملكا، للقبه الذي هو من نوع الألقاب التي يستعملها الملوك.
ودون "فلبي" اسم "رب شمس نمران" "ربشمس نمران"، بعد "شهر أيمن". وذكر انه مذكور في النصر الموسوم ب REP. EPIG. 6321، وهو نص عثر عليه في "مأرب"، ووجد اسمه في نصوص أخرى عثر عليها في "حاز" معقل "همدان" ومقر "رب شمس". وقد استدل "فلبي" من وجود النص المذكور في "مأرب" على بلوغ سلطانه وسلطان قومه "آل بتع" هذا المكان.
وأما غير "فلبي" مثل "ريكمنس" و "جامه"، فقد قدموا- كما رأينا-مكان الملك "رب شمس نمران" "ربشمس نمران" في القوائم التي رتبوها لملوك "سبأ وذي ريدان". وقد جعل "جامه" زمان حكمه بين السنة "120" والسنة "140" بعد الميلاد.

(1/1153)


--------------------------------------------------------------------------------

وجعل "فون وزمن" زمان حكم الملك "ربشمس نمران" فيما بين السنة "160" والسنة "170" أو "80 ا" بعد الميلاد. وجعله من المعاصرين للملك "يدع أب غيلان" ملك حضرموت. وممن أدرك أيام حكم "علهان نهفان" ملك همدان.
وورد اسم "رب شمس نمران" في النص: REP. EPIG. 41388 وهو نص مهم وردت فيه أخبار حروب وغزوات قام بها "عبد عثتر" وأخوه "سعد ثون" ابنا "جدنم" "جدن" أو من آل "جدن"، بأمر من سيدهم "رب شمس نمران ملك سبأ وذي ريدان". فلما عادا إلى مواطنها سالمين، دونا شكرهما وحمدهما للإله "المقه" الذي من عليهما بالعافية وحفظهما وأعادهما بصحة جيدة، وأنقذهما "المقه بعل حروان" من الوباء الذي عم كل الأرض، وبارك عليهما في مدينة "نعض"، إذ أنعم عليها لمجدهما "رب شمس نمران". وقد دعوا في هذه الكتابة ل "المقه ثهوان" و "ثور بعلم بعل حروان" بأن يبارك عليها ويحفظها ويمن عليهما بالعافية وبأولاد ذكور، وبثمار كثيرة وجني جيد، وذلك بحق الإلهة: "عثتر وهوبس والمقة وذات حميم وذات بعدان وشمس".
ويظهر من هذا النص أن وباء كان قد عم البلاد في عهد هذا الملك فأهلك خلقا كثيرا. وقد حمدا الآلهة التي جعلتهما من الناجين. ويظهر أنهما كانا من قواد جيش هذا الملك الذي كلفهما غزو أعدائه ومحاربتهم. وورد في النص اسم قبيلة "جرش"، ولعل لاسم "جرش"- وهو اسم موضع في اليمن-علاقة باسم هذه القبيلة.

(1/1154)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر أن الوباء الذي أشار إليه "عبد عثتر" هو الوباء الذي أشير إليه في النص الموسوم ب Jamme 645. وصاحبه رجل اسمه "وهب ايل" من "يهعن" "يهعان" ومن "قرضنن" "قرضان". وقد دون هذا الرجل نصه حمدا للإله "المقه ثهوان" "بعل أوام"، وشكرا له على نعمه عليه بأن حفظه وسلمه وصانه من الوباء "بن خوم" والطاعون "وعوس" ومن الموت "موتت" الذي عم البلاد، وذلك في سنة "حيم" "حي" "حيي" "حيوم" "حيو" ابن "ابكرب" "أبو كرب" من "كبر خلل ثكمتن" كبراء "خليل ثكمتان". فصانه وحفظه من هذا الوباء العام الذي انتشر في الأرض "وموتت كون بارضن"، فأهلك خلقا من الناس. وليمن عليه ويبارك فيه وفي أرضه وزرعه، ويعطيه أثمارا كثيرة وغلة وافرة من جميع مزارعه في "مأرب" و "نشق" و "رحبتن" "رحبتان". ولينال حظوة ورفعة عند سيده "رب شمس نمران، ملك سبأ وذي ريدان".
وليس هذا الوباء الفتاك الذي انتشر في الأرض في أيام هذا الملك، هو أول وباء نسمع به ففي الكتابات إشارات إلى أوبئة عديدة أخرى، كانت تعم البلاد بين الحين والحين ولا سيما بعد الحروب التي لا تكاد تنقطع، وبعد الحروب الكبيرة الماحقة التي قام بها الملوك فخربوا المدن ودمروا مجاري المياه، وأباحوا مواضع السكنى، والبشر، وتركوا جيف القتلى في مواضعها لتنتشر الأوبئة والأمراض.
وقد ذب "ريكمنس" إلى أن الوباء المذكور هو جزء من وباء عام كان قد انتشر من الهند نحو الخارج، فجاء إلى جزيرة العرب ووصل حوض البحر الأبيض وطفح في "سلوقية" Seleucia وقد وقع ذلك سنة "165" للميلاد.
وورد اسم "رب شمس نمران" "ربشمس نمران" في نصوص أخرى وسمت ب CIH 164، ب Geukens 10، وب Jamme 496. و"رب شمس نمران"، معروف لدينا معرفة حسنة، وهو من "بتع"، ومن "ملوك سبأ وذي ريدان"، لورود ذلك صرحا في بضعة نصوص أحدها عثر عليه في مأرب، وعثر على البقية في "حاز" أي في ة إلى همدان.

(1/1155)


--------------------------------------------------------------------------------

والنص الذي عليه في مأرب هو النص المعروف ب REP. EPIG. 3621. وهو نص قصير يظهر انه بقية نص أطول لم تبق منه غير كلمات.
ودون "فلبي" اسم "سخمن يهصبح" "سخمان يهصبح" بعد "رب شمس نمران". وقد ورد اسمه في كتابتين، هما Glaser 208 و Glaser 136 غير انه لم يلقب فيهما ب "ملك سبأ وذي ريدان". وقد استدل "فلبي" من كلمة "مراهمو"، أي سيدهم، الواردة قبل اسمه انه كان ملكا. وورد اسم رجل يعرف ب "أجرم يهنعم بن سخمان". ويرى "فلبي" احتمال كون "سخمان" هذا هو "سخمان يهصبح"، واحتمال كون "أجرم" أحد أبنائه. ولم يذكر "هومل" اسم "سخمان" في جملة من ذكرهم من مكلوك "سبأ وذي ريدان".
وللسبب المذكور جعل "فلبي" "أجرم يهنعم" ملكا بعد "سخمان يهصبح" ثم ذكر من بعده "سعد أوم نمران". وقد ذكر في النص: Glaser 210، وهو من النصوص التي عثر عليها في المدينة الهمدانية "حاز". ويرى "هومل" أن ".. نمران ملك سبأ وذي ريدان" الذي سقط اسمه من النص: Glaser 571 وبقي فيه نعته وهو "نمران"، قد ينطبق على "سعد أوم نمران" هذا الذي نتحدث عنه، كما ينطبق على "رب شمس نمران".
و ب "سعد اوم نمران" ختم "فلبي" هذا العهد الذي استمر- على رأيه- من سنة "115 ب. م." حتى السنة "245". وقد حكم فيه مهلوك من بني "بتع"، وقد كونوا- على حسب رأيه أيضا- الأسرة السادسة من الأسر التي حكمها عرش "سبأ". ثم وضع بعد هذه الأسرة أسرة جديدة جعلها الأسرة السابعة، وهي من "بكيل". وقد جعل أول رجالها الملك "العذنوفان يهصدق" "العز نوفان يهصدق"، وقد حكم- على حسب رأيه- من سنة "245 ب. م." حتى السنة "260 للميلاد".
ووضع "فلبي" اسم "ياسر يهنعم" بعد "العذ نوفان". وهو على حسب ترتيبه الملك الستون من ملوك سبأ، الذين حكموا السبئيين من مكربين وملوك. وهو والد "شمر يهرعش" الملك الشهير المعروف بين الأخباريين. وبذلك ننتقل من أسرة قديمة إلى أسرة جديدة، ومن عهد قديم إلى عهد آخر جديد.

(1/1156)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما "فون وزمن"، فإنه لم يذكر اسم من حكم مباشرة بعد "ربشمس نمران"، بل ذكر اسم "شعرم اوتر" وهو من "همدان" بعد اسم "علهان نهفان" الذي أدحرك أوائل حكم "ربشمش نمران"، كما ذكر اسم "فرعم ينهب"، وهو من "جرت" "جرة" وقد جعل حكمه في حوالي السنة "180" بعد الميلاد. وذكر اسم "حيو عثتر يضع" مع اسم "شعرم اوتر" دلالة على انه حكم معه في أواخر أيام حكمه. ثم ذكر اسم "لحيعثت يرخم" من بعده. وجعله معاصرا ل "لعزز يهنف يهصدق" ملك حمير " وجعل "ياسر يهنعم" الأول وهو والد "شمس يهرعش" الثاني معاصرا د "لحيعثت يرخم" وقال إن في أيامه استولى الحميريون على مأرب. وكان معاصرا ل "الشرح يحضب الثاني" الذي حكم مع أخيه "يازل بين".
وجعل "فون وزمن" زمان حكم "الشرح يحضب" الثاني في حوالي السنة "200" للميلاد. ثم جعل حكمه مع أخيه في حوالي السنة "210"، ثم عاد فجعله يحكم وحده في حوالي السنة "220" إلى السنة "230" حيث ذكر اسم "نشأكرب يأمن يهرحب" من بعده، وجعل على حمير في أثناء هذه المدة "كرب ايل" "ذو ريدان" و "ثأرن يعب يهنعم"، وعلى حضرموت "العزيلط"، الذي تحالف مع "ثارن يعب".

(1/1157)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر "فون وزمن" اسم "ذمر على وتر يهبر" بعد "ثارن يعب يهنعم" ثم جعل "عمدان بين يهقبض" على عرش سبأ". ثم "ياسر يهنعم الثاني" من بعده، وقد حكم مع ابنه "شمر يهرعش الثالث"، الذي انفرد بالحكم في حوالي السنة "300" بعد الميلاد وقبل أن أنتهي من هذا الفصل وأختمه، أود أن أشير إلى،نافسة كانت بين الأسرة السبئية الحاكمة المنحدرة من "فيشان" صاحبة قصر مأرب، وبين أسر أخرى لم تكن لها صلة بالعرش، ولكنها ادعت لنفسها حق حكم سبأ وذي ريدان. وتلقب أفرادها باللقب الرسمي المقرر للحكم ونازعت الملوك الشرعيين في حق الحكم والسلطان. فنجد الهمدانيين مثلا وهم يحكمون الثلث الشمالي من دولة "سمعي" القديمة من مقرهم "ناعط"، ونجد "بني بتع"، وهم يحكمون الثلث الغربي لمملكة "سمعي"، "حملان" وعاصمته "حاز" وكذلك "مأذن"، ثم نجد "مرثدم" أي "مرثد" ومعها "أقيان" "شبام أقيان"، و "جرت" بما في ذلك كنين "كنن".
هذا، ولا بد لي وقد انتهيت من تدوين هذا الفصل من الإشارة إلى أن عهد "ملوك سبأ وذي ريدان" هو من أصعب الفصول كتابة في تاريخ سبأ، على كثرة ما عثر عليه من كتاباته، ذلك لأن الكتابات لا تقدم إلينا مواطئ تمكن الإنسان أن يقف عليها ليتعرف ما حوله من أمور، ثم إن بعضها ناقص أصابه التلف، فأثر في معناه، إلى غير ذلك من أمور. لذا نجد علماء العربيات الجنوبية متباينين في تثبت تأريخ هذا العهد وفي أسماء الملوك، وأعتقد إن هذا الخلل لن يصلح، وان الفجوات لن تحشى وتملأ، الا يعد أمد، بعد استقرار الأمور في اليمن بحيث يسمح لأصحاب العلم بالبحث عن الكنوز المدفونة لاستنباط ما فيها من سر دفين عن هذا العهد والعهود الأخرى من تأريخ اليمن القديم.
صنعاء

(1/1158)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد لمع اسم "صنعو"، أي "صنعاء"، في أيام "الشرح يحضب"، وهي لا بد أن تكون قد بنيت قبله بزمن. وقد أشار "الشرح يحضب" إلى قصر له بها، هو قصر "غندن" "غندان" المعروف في المؤلفات الإسلامية بقصر "غمدان"، وقد ذكره بعد قصره القديم الشهير قصر "سلحن" "سلحين" رمز الملكية في سبأ. وهكذا صارت لصنعاء مكانة ازدادت على مرور الأيام، حتى صارت عاصمة اليمن ومقر الحكام.
قائمة "ريكمنس"
وقد رتب "ريكمنس" أسماء ملوك "سبأ وفي ريدان" على النحو الآتي: 2- فرعم ينهب، وكان معاصرا ل "علهان نهفان".
2- الشرح يحضب، وقد حكم على رأيه في حوالي السنة 25 قبل الميلاد وكان يعاصره "شعرم اوتر" "شعر أوتر". وأما ابنه "يازل بين" "يأزل بين"، فكان معاصرا ل "حيو عثتر يضع".
3- نشأكرب يهأمن.
4- ذمر على بين.
5- كرب ايل وتر يهنعم، وكان معاصرا للملك "العز" ملك حضرموت.
6- "هلك أمر"- ذمر على ذرح.
7- وتر يهأمن.
8- شمدر يهنعم.
9- الشرح يحمل.
10- عمدان بين يهقبض.
11- لعز نوفان تهصدق "لعز نوفن يهصدق".
12- ياسر يهصدق.
13- ذمر على يهبر "ذمر على يهبأر" الأول.
14- ثارن يعب يهنعم.
15- ذمر على يهبر "ذمر على يهبار" الثاني.
16- رب شمس نمرن "ربشمس نمران".
17- الشرح يحضب.
18- 19- سعد شمس اسرو ...... "......" حمد
20- ياسر يهنعم.
21- شمر ت يهرعش.
أسرة ذمر على بين
1- ذمر على بين.
2- كرب ايل وتر منعم، "كربئيل وتر يهنعم".وهو ابن ذمر على.ين.
3- هلك امر "هلك أمر". وهو ابن كرب ايل.
4- ذمر على ذرح، وهو ابن كرب ايل وتر يهنعم، وشقيق هلك أمر.
5- يهقم.
6- كرب ايل بين، "كربئيل بين". وهو ابن ذمر على ذرح.
أسرة ياسر يهصدق
1- ياسر يصدق.
2- ذمر على يهبر. وهو ابن ياسر يهصدق.
3- ثرن يعب "ثارن يعب يهنعم" "ثارن يركب" "تارن يرحب" وهو ابن ذمر على يهبر.
4- ذمر على يهبر. وهو ابن ثارن يعب يهنعم. ويمكن تلقيبه بالثاني تمييزا له عن الأول.
5-ثارن يهنعم "ثرن يهنعم".

(1/1159)


--------------------------------------------------------------------------------

الفصل التاسع والعشرون
ممالك وإمارات صغيرة
وعرف من الكتابات القتبانية، شعب يقال له "أوسن" أو "أوسان". وكانت أرضوه تكون جزءا من مملكة قتبان، مثل دهس و "دتنت" "دتنة" و "تبنى" ومناطق أخرى كانت تابعة لقتبان. وقد عرف من الكتابات أن الأوسانيين كونوا حكومة، حكمها ملوك، وصلت أسماء بعضهم إلينا، ولكنها حكومة صغيرة لم تبلغ مبلغ حكومة قتبان، أو حضرموت أو معين، أو سبأ.
ولعل الأوسانيين الذين أدركوا الإسلام، هم من بقايا "أوسان". وقد كان من جملة من اعتمد علهم الهمداني في أخبار اليمن القديمة، رجل ينهب إلى أوسان، هو "محمد بن أحمد الأوساني"، زعم أنه كان يحسن قراءة الكتابات العربية الجاهلية المدونة بالمسند.
وقد وهبت لنا هذه المملكة الصغيرة بضعة تماثيل منحوتة من الرخام، يجوز أن نعدها من أنفس ما عثر عليه من تماثيل في جزيرة العرب حتى الآن. وهي تماثيل بعض ملوك أوسان، وتعد، أول تماثيل تصل إلينا من تماثيل ملوك العرب. وقد كتب على قاعدة كل تمثال اسم الملك الذي يمثله، فهذا تمثال كتب عليه: "يصدق آل فرعم ملك اوسان بن معد ال"، وهذا تمثال ثان نقش على قاعدته اسم الملك الذي يمثله: "زيدم سيلن بن معدال"، وتمثال ثالث كتب تحت قدم صاحبه اسمه "معد ال سلحن بن يصدق ال ملك أوسان"، ورابع كتبت على وجه قاعدته من أمام: "يصدق ال فرعم شرح عت ملك اوسن بن معد ال سلحن ملك أوسن"، ويرى "فون وزمن" أن الملك "يصدق ايل فرعم شرح عت بن معد ايل سلكلحن"، هو الملك "يصدق ايل فرعم ملك أوسان بن معد ايل" نفسه. فالاسمان أذن في نظره، لمسمى واحد، ويكون والده الملك "معد ايل سلحن بن يصدق ايل ملك أوسان"، ووالد "معد ايل سلحن" أذن هو "يصدق ايل" الذي لا يعرف اسم أبيه.

(1/1160)


--------------------------------------------------------------------------------

وعز على اسم ملك آخر من ملوك أوسان، هو "يصدق ال فرعم شرح عت "عثت" بن ودم" "يصدق ايل فرع "الفارع" شرح عثت بن ود"، ورد لمناسبة تقديمه نذرا، وهو "معمر" أي "مذبح" أو "مبخرة" إلى أحد الآلهة: ولم يذكر الملك اسم ذلك الإله. وقد استدل بعض الباحثين من جملة "بن ودم"، أي "ابن ود" على وجود فكرة تأليه الملوك عند الأوسانيين، وان الجملة تعني إن الملك المذكور كان يرى انه من نسل الإله "ود". وعندي إن لفظة "ود" هنا هي مجرد اسم لشخص ما. وفي كتب الأنساب والأخبار أسماء عدد من الرجال، هي في الوقت نفسه أسماء آلهة. ولم ي قل أحد إن أصحاب تلك الأسماء كانوا يرون أنفسهم آلهة، أو من أبناء الآلهة، وبينهم أناس كانوا من سواد الناس.
ولا نعرف من أمر هؤلاء الملوك شيئا يذكر، والظاهر إن تمثال "معد ال "سلحن" "معد ايل سلحان" يمثل والد "يصدق ايل فرعم شرح" كما جاء ذلك مدونا في قاعدة التمثال الرابع، ويظهر إن "يصدق ايل فرعم" هو غيير "يصدق ايل فرعم شرح عثت" كما يتبين ذلك من اختلاف صورتي التمثالين. وتفدينا هذه التماثيل فائدة كبيرة في تعرف نماذج ملابس الأوسانيين وعلى زينتهم وكيفية تنظيم شعور رؤوسهم، وعلى غير ذلك مما له علاقة بمظهر الانسان، وبالفن من حيا الجودة والخلق والتعبير عن النفس والاتقان.
وجاء اسم الملك "يصدق ال فرعم شرح عت" في كتابة أوسانية أمرت بكتابتها امرأة اسمها "رثدت" "رثدة"، وقد جاء فيها إنها قدمت إلى سيدها المذكور ملك أوسان، تمثالا من الذهب، ليحفظ في معبد "نعمن" "نعمان"، وهي من كتابات النذور. ويظهر إنها قدمت هذا النذر لحادث وقع للملك، فتوسلت لدى آلهة أوسان بأن تمن على الملك وتبارك فيه، وهي في مقابل ذلك تقدم لها نذرا تمثالا من ذهب، ولا بد أن تكون هذه المرأة من الأسر الرفيعة التي لها شأن ومكانة، ولعلها كانت من أسرته.

(1/1161)


--------------------------------------------------------------------------------

وجاء في كتابة أوسانية أخرى تحطم اسم صاحبها وزالت معالمه: أنه قدم تمثالا "صلمت" من ذهب إلى سيده "مراس" "مرأس" "يصدق ايل فرعم شرح عتت" ملك أوسان. ولا بد أن يكون هذا التقديم لمناسبة حدثت للملك، فأراد هذا الوجيه التعبير عن تقديره لسيده الملك بتقديم هذا التمثال المصنوع من الذهب. وتشبه هذه الكتابة الكتابة المرقمة ب Jaussen Nr. 159 bis وهي لأخت هذا الملك، وقد سقط اسمها من الكتابة بتهشم حدث في الحجر، وبقيت منه بقية، هي: "ذت بغيثت اخت ..."، وجاء فيها إنها قدمت إلى سيدها "سقنيت مراس" صنما من ذهب "صلم ذ ذهبم"، ولم تذكر المناسبة التي دعتها لتقديمه. وكان له شقيق هو "زيد سيلن" "زيد سيلان".
ويرى بعض الباحثين أن زمان حكم الملك "يصدق ال فرعم شرح عت" "يصدق ايل فارع شرح عت" كان في النصف الأول من القرن الخامس قبل الميلاد حتى حوالي السنة "450" قبل الميلاد. وقد استدلوا على ذلك من طراز التمثال الذي نحت ليمثل ذلك الملك. فان شكل اللباس الذي نحته النحات ليكون لباس الملك، هو على النسق اليوناني في التماثيل اليونانية المنحوتة قبل منصف القرن الخامس قبل الميلاد. ويرى الباحثون احتمال شراء مثل هذه التماثيل من "غزة" في فلسطين، إذ كانت سوقا مهمة يقد عليها العرب للاتجار، وفيها معروضات يونانية وغيرها، ينقلها التجار إلى جزيرة العرب، وفي جملتها الأصنام التي أثرت في الفنانين العرب، فصاروا ينحتون تماثيلهم على شاكلتها، وفي جملتها تمثال الملك المذكور الذي يجب أن يكون قد نحت فيما بين النصف الأول من القرن الخامس قبل الميلاد إلى حوالي السنة "450 ق. م.".

(1/1162)


--------------------------------------------------------------------------------

وعرفت أسماء ملوك آخرين من ملوك أوسان، لا نعلم من أمر أصحابها شيئا يذكر، منها "معد ايل سلحان بن ذي يدم" وقد رأى "جوسن" Jaussen إن الاسم الأخير هو "زيدم" بدلا من "ذيدم". ولقب "سلحن" "سلحان" من الألقاب التي تكرر ورودها مدونة على تماثيل ملوك أوسان، وعلى بعض الكتابات التي عثر عليها في "أبنة" وفتي المعاهدة المعقودة بين "سلحن" و "زررن" "زراران"، أي بين ملك "نجاشي" الحبشة وملك "سبأ". ويرى "ميتوخ" إن "سلحن" "سلحان" أحد المتعاقدين في المعاهدة المذكورة ما كان ملكا حبشيا، ولكن ملكا من ملوك أوسان. وأما "زررن"، فانه ملك من ملوك قتبان.
ووجد اسم ملك آخر من ملوك أوسان، هو "عم يثع غيلن لحى"، محظورا على تمثال من المرمر مكتوبا كتابة حسنة. وقد نعثر في المستقبل على تماثيل أخرى لملوك العرب الجنوبيين من أوسانيين وغيرهم، اذ لا يعقل انفراد أوسان من بين سائر الشعوب العربية الجنوبية بصنع التماثيل.
وذكر "فلبي" ملكا من ملوك أوسان يقلال له "يصدق ايل فرعم زغمهن الشرح"، ولا نعرف من أمره شيئا. ووردت في الكتابتين الموسومتين Jaussen 72,73 وب Jaussen 75,83 ، أسماء ملوك أوسانيين منها: "زيحمن بن الشرح ملك أوسان"، و "عم يثع ملك أوسان" و "يصدق ايل فرعم عم يثع"، و "الشرح ابن يصدق ايل"، وهي أسماء لقب ببضعها بلقب ملك، وحرم بعضها هذا اللقب، ولا نعرف عن أصحابها شيئا يذكر.

(1/1163)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد كانت "أوسان" قبل استيلاء قتبان عليها وإدماجها في حكومة قتبان، مملكة ذات تجارة مع الخارج، تتاجر مع إفريقية، وتحكم أرضين أخرى ليست في الأصل من "أوسان"، مثل: "دهس"، و "تبنو" و "كحد". استدل بعض الباحثين من إطلاق مؤلف كتاب "الطواف حول البحر الأريتري" على الساحل الإفريقي الواقع شمال "بمبا" Pemba و "زنزبار" "زنجبار" اسم "الساحل الأوساني" عليه، على إن الأوسانيين كانوا قد حكموه، ونزح بعضهم إليه فسكنه، وصار تابعا لأوسان، ولا يمكن حدوث ذلك بالطبع لو لم تكن الأوسانيون أقوياء ولهم أرض واسعة في العربية الجنوبية ذات عدد كبير من السكان بحيث يسمح لهم بالاستيلاء على الساحل الإفريقي. ويرجح العلماء زمان حكم الأوسانيين لذلك الساحل الإفريقي إلى ما قبل السنة "400 ق. م.".
وتقع ملكة أوسان في جنوب "قتبان". وير من الحكومات العربية الجنوبية الصغيرة، إلا إنها كانت ذات أهمية، إذ كانت تمتلك الساحل الإفريقي الذي أشهرت إليه، وتتاجر مع سكانه. وقد كان ميناء "عدن" من جملة الأماكن التابعة لهذه المملكة.
ومن ملوك أوسان، ملك فكر اسمه في النص الموسوم ب Glaser 1600 الذي تحدث عن حملة قام بها الملك "كرب ايل وتر" على جملة قبائل وإمارات وحكومات ملية صغيرة، فبعد أن استولى هذا الملك على مدينة "شرجب" بين الجوف ونجران، ساق جيوشه إلى "أوسان"، فقتل ستة عشر ألف رجل، وأسر أربعين، واحتل أماكن أخرى كانت تابعة لأوسان، هي: "حمن" "حمان"، و "انفم" "أنف" و "حبن" "حبان" و "ديب "دياب" و "رشا" "رشاى"، و "جردن" "جردان"، و "دتنت" "دتنه"، و "تفذ" إلى ساحل البحر. وذكر النص بعد ذلك معبد "مرتوم" "مرتم" "مرتو" الذي اسمه "مسور"، أما ملك "أوسان" فكان اسمه "مرتوم" "مرتو".

(1/1164)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد كانت قتبان حليفة لسبأ في هذه الحرب. وقد يكون تعيرنا أدق وأصح لو قلنا إنها كانت تابعة لها في هذا العهد. ولذلك اشتركا مع السبئيين ضد الأوسانيين. أما "أوسان"، فكان إلى جانبها "دتنت" و "دهس" و "تبنى" وبعض قبائل "كحد". وقد رأيت أن جميع هذه القبائل ومعها "أوسان" كانت تابعة لمملكة قتبان. ويظهر إنها ثارت على قتبان، وانفصلت عنها، فتكونت مملكة أوسان، ودخلت القبائل الأخرى في هذه المملكة، أي مملكة أوسان، أو إنها تحالفت معها، وانفصلت كل في منطقتها فكونت إمارة أو ملكة صغيرة. فلما انتهى "كرب ايل وتر" من مملكة أوسان، تعقب هذه القبائل، وأخضعها لحكمه. ويظهر أن ملك "دهس" الذي كان في حلف مع أوسان، أو خاضعا لها، انتهز فرصة انتصار "كرب ايل وتر" على أوسان فأعلن انفصاله عنهم وانضمامه إلى السبئيين، فكافأه "كرب ايل وتر" بإعطائه جزءا من ارض أوسان هو أرض "ادوم" "أودم".
وقد احتل السبئيون أرض أوسان وأرض تبنى، ووهبوا أرض "كحد ذ حضنم لإله سبأ "المقه". أي إن الملك "كرب ال" "كربئيل" "كرب ايل" وهبها لحكومة ولشعب سبأ، وأنعم على قتبان وحضرموت ببعض الأرضين التي غنمها من الأوسانيين. ويظهر إنها كانت قتبانية وحضرمية في الأصل، غير إن الأوسانيين اغتصبوها منهم، فأعادها "كرب ايل" إلى قتبان وحضرموت، لمساعدتهما له. وقد كان ملك قتبان الملك "وروايل" اذ ذاك.
ويظهر من عبارة "وقني كرب ايل كل قسط كحد... جوم لا لمقه ولسبا"، ومن جملة "كل قسط كحد حرهو وعبد هو"، إن أرض "كحد" ذ حضنم" التي وهبت لألمقه ولشعب سبأ، أصبت ملكا خاصا بالملك "كرب ايل"، وان جميع أهل "كحد" أحرارا و****ا صاروا أنباعا له، يستغلون الأرض ويدفعون إليه الغلات.

(1/1165)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد جعل "فلبي" الملك "مرتو" في رأس قائمته التي وضعها لملوك "أوسان"، وجعل زمان حكمه فيما بين السنة "620" والسنة "600 ق. م." وذلك ليجعله معاصرا ل "كرب ايل وتر" الذي جعل حكه في هذا الزمن. وهو رأي يعارضه أكثر الباحثين في العربيات الجنوبية،اذ جعلوا حكمه في حوالي السنة "450" قبل الميلاد، أو بعد ذلك بقليل.
ووضع "فلبي" اسم الملك "ذ يدم" "ذ يد" "زيد"، بعد اسم الملك "مرتو"، وجعل زمان حكمه في حوالي السنة "230 ق. م.". فترك بذلك فجوة كبيرة لا يدري من حكم فيها. ولم يعرف اسم والد الملك "ذيدم"، وقد ذكر انه كان من عشيرة "بغيثت.
ثم ذكر "فلبي" "معد ايل سلحن" بعد "ذيد"، وجعله ابنا له. وجعل حكمه في حوالي السنة "210 ق. م."، وذلك جريا على طريقته في وضع مدة "20" سنة لكل ملك يقضيها في الحكم. ثم جعل "يصدق ايل فرعم شرح عت" من بعد "معد ايل" وجعله ابنا له. وصير زمان حكمه في حوالي السنة "190 ق. م." وجعل "زيد سلحن" شقيقا له، كما جعل له أختا. ثم وضع الملك "معد ايل سلحن" بعد "يصدق ايل فرعم"، وجعله ابنا له، وجعل زمان حكمه في حوالي السنة "170 ق. م.". ثم صير "يصدق ايل فرعم عم يثع" ملكا من بعده، وهو ابن "معد ايل سلحن"، وجعل حكمه في حوالي السنة "150 ق. م.". ثم جعل "فرعم زهمهن الشرح" ملكا من بعده، وهو ابن "يصدق ايل فرعم عم يثع"، وجعل حكمه في حوالي السنة "135 ق. م". ثم ذكر "عم يثع غيلن لحى" من بعده، وهو ابن "يصدق ايل فرعم عم يثع"، وقد جعل حكمه حوالي السنة "120 ق.م 0".
ولم يذكر "فلبي" ملكا آخر بعد هذا الملك، وإنما ذكر أنه في حوالي السنة "115 ق. م." ضم "الشرح يحضب" "ملك سبأ وذي ريدان" مملكة أوسان إلى أرض السبئيين.

(1/1166)

admin
12-27-2010, 12:59 AM
ويعارض ترتيب "فلبي" لأسماء ملوك "أوسان" رأي كثير من علماء العربيات الجنوبية، فقد ذهب أكثرهم إلى تقديم الملوك الذين ذكرهم "فلبي" بعد الملك "مرتو" عليه " وجعلوا زمانهم أقدم من زمانه، فقدروا زمان الملك "يصدق ايل فزعم شرح ايل" في النصف الأول من القرن الخامس قبل الميلاد مثلا، أي قبل سنة "450 ق. م."، وهذا يعني انه أقدم عهدا من "مرتو"، أي إن رأيهم هو عكس ما ذهب "فلبي" إليه.
وقد ذهبت "بيرين" J. Pirenne إلى إن أوسان كانت مملكة في أواخر القرن الأول قبل الميلاد، أو بعد الميلاد بقليل، وأن حكم الملك "يصدق ايل فرعم شرحعت بن ودم" كان في حوالي السنة "24 ق. م.".
لقد كان معبد "نعمان" المعبد الرئيسي عند الأوسانيين. وقد خصص بعبادة الإله زود"، وهو إلههم الكبير. وبقع هذا المعيد في "وادي نعمان". وقد ورد اسمه في عدد من الكتابات الأوسانية.
الجبانيون
لقد ورد في تأريخ "بلينيوس" اسم شعب من الشعوب العربية الجنوبية، سماه Gebbanitae، وقال إن له عدة مدن أكبرها "ناجية" "نجية" Nagia و Thamna "تمنه" "ثمنه". وكان في "تمنه" خمسة وستون معبدا، وقد يكون في هذا العدد شيء من المبالغة، الا انه مع ذلك يدل على ضخامة هذه المدينة وسعتها، بدليل وصول اسممها إلى اليونان، ومبالغة هذا المؤرخ في عدد معابدها. ولما تحدث عن اللبان، قال: انه لم يكن يسمح بتصديره الا بواسطة هذه المملكة، والا بعد دفع ضريبة إلى ملكها، وتبعد العاصمة مسافة "5%148" ميلا عن "غزة" يقطعها الإنسان في خمس وستين مرحلة على ظهور الجمال.
وفي أثناء كلام "بلينيوس" عن "المر" ذكر إن ملك ال "الجبانيين" Gabbanitae كان يأخذ لنفسه ربع الغلة، وذكر إن بلادهم تقع ما بين أرض شعب دعاه Astramitica وأرض شعب آخر يسمى Ausaritie = Ausaritae أشار إلى أن للمملكة ميناء يسمى Ocilia، وان حق بيع القرفة كان محصورا بالملك وحده. وذكر أشياء أخرى عن هذا الشعب.

(1/1167)


--------------------------------------------------------------------------------

ومعارفنا عن هذا الشعب قليلة، ويظن انه كان من الشعوب التي كانت تؤلف مملكة قتبان، وانه استقل في زمن ربما لا يبعد كثيرا عن أيام "بلينيوس". وكانت مواطنه بعد استقلاله في جوار القتبانيين في الجنوب الشرقي منهم بين قتبان وسبأ على بعض الآراء، أو في غربهم على رأي "كلاسر". ويرى "كلاسر" انه عشيرة أو طائفة من القتبانيين. ويظن بعض الباحثين انهم "جبأ". وقد ذكر "الهمداني" موضعا سماه "جبأ" وقال فيه: "جبأ مدينة المفاخر، وهي لآل الكرندي من بني ثمامة آل حمير الأصغر"، وقال: " إن جبأ وأعمالها هي كورة المعافر، وهي في فجوة بجن جبل "صبر" وجبل "ذخر" في وادي الضباب". وقد ورد في النصوص المعينية اسم "جبأ" "جبأن" مع اسم المعينيين. ولكني لا أستطيع أن أوافق على رأي من يقول إن "الجبئيين Gabbanitae ، ولذلك دعوتهم ب "الجبانيين" انتظارا للمستقبل الذي قد يرشدنا إلى اسم يرد في النصوص العربية الجنوبية يكون مرادفا للفظة المذكورة.
نجران
وذكرت "نجران" كما رأينا مع "رجمت" "رجمة"، فهي أذن من المواضع القديمة من عهود ما قبل الميلاد، سواء أكان اسم نجران اسم أرض أو اسم مدينة وهي في منطقة خصبة جدا ذات ماء، ولذلك صارت طريقا مهما للقوافل المتجهة من العربية الجنوبية في الشمال، أو الآتية من الشمال في طريقها إلى العربية الجنوبية. ولموقعها المهم هذا تعرضت للغزو ولطمع الطامعين فيها، فأصيبا لذلك بأضرار فادحة مرارا. وقد سماها "بطلميوس" "نكرا ميتربوليس" Nagara Metropolis، أي مدينة "نكرا"، و ذكرت في نص "النمارة" الذي يعود عهده إلى سنة 328 م.
ومع أهمية "نجران"، فإننا لا نعرف من تأريخها القديم غير شيء قليل. وقد ورد اسمها في كتابة أشارت إلى حملة على النبط، "نباطو"، ويظهر أن أصحاب الحملة أو الغزاة كانوا قد توجهوا من العربية الجنوبية نحو الشمال، لأنها تذكر إنها اتجهت من "نجران" نحو "نباطو" فدمرتها، أي دمرت مدينة النبط.

(1/1168)


--------------------------------------------------------------------------------

مملكة مهأمر: و "مهأمرم" "مهأمر" مملكة صغيرة نستطيع أن نقول إنها إمارة من الإمارات التي لقب سادتها أنفسهم بلقب "ملك"، ومقرها على ما يظهر من الكتابات مدينة "رجمت" "ركمت" "رجمة". وكان لها مجرى ماء منبعه في "نجران". وتقع أرض "أمرم" "أمر" "أمير" في شرقها في امتداد البادية، وفي جنوب "مهأمر" في بعض الأماكن. ويرى بعض الباحثين أن "رجمت" هي في أرض "نجران" في الزمن الحاضر، أو في منطقة تتاخمها في شمالها.
وقد جاء اسم "رجمت" كما رأينا في الكتابة المعينية التي وسمها العلماء ب Glaser 1150، وقد بحثت عنها في أثناء حديثي عن دولة "معين" وقلت إن من رأي بعض العلماء أن تلك الحرب نشبت بين الفرس "الماذويين" في أيام ملكهم Atraxerxes Ochus وبين المصريين، في حوالي السنة "343 ق. م". ويظهر من تلك الكتابة أن مدينة "ركمت" كانت معروفة اذ ذاك، وكانت ذات شأن وخطر، وتقع على طريق القوافل التي تصل "معين" والعربية الجنوبية بمصر.
وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن "رجمت" هي في الواقع مدينة من مدن "نجران"، وان "نجران" لم تكن في الأصل مدينة معينة، وإنما هي أرض تضم جملة مدن، منها هذه المدينة، الا أن الناس خصصوا لفظة "نجران" على مرور الزمان بإحدى المدن، هي مدينة "رجمت"، حتى عرفت بها، فضاع بذلك اسمها القديم. ويستشهدون على صحة رأيهم هذا بأمثلة عديدة وقعت في العربية الجنوبية.
ويحتمل على رأي ""موردتمن" أن تكون "رجمت" "ركمت" هي "رعمة" في التوراة و "رعمة" في التوراة الابن الرابع ل "كوش". وقد ذهب إلى أن مراد التوراة من "كوش" في هذا المكان العربية الجنوبية. ومن أولاد "كوش" "شبا"، أي "سبأ"، و "دادان". وقد ذكر تجار "رعمة" مع تجار سبأ في سفر" حزقيال".
الفصل الثلاثون
الحميريون

(1/1169)


--------------------------------------------------------------------------------

وجب علينا الآن البحث عن شعب لعب دورا خطيرا في سياسة العربية الجنوبية، في هذا الوقت وقبله بمئات من السنين، وهذا الشعب هو: "حمير" الذي لا زال قائما يلعب دورا مهما بين القبائل العربية الجنوبية حتى الآن.
كانت حمير من القبائل العربية المعروفة في العربية الجنوبية عند الميلاد، حتى وصل خيرها إلى اليونان والرومان، فدعوها باسم Homeritai وب Omyritaiو Omeritae و Hamioei ونحو ذلك. وقد اعتبر "بلينيوس" حمير من أكثر الشعوب العربية الجنوبية عددا، وذكر إن عاصمتهم مدينة Sapphar، ويقصد بذلك مدينة "ظفار". وعرفوا باسم Hemer عند الحبش. وأشار إلى اسم مدينة من مدنهم، سماها "مسلة" Masala = Mesala = Mesalum وفي كلام هذا الكاتب عنهم إشارة إلى أن مدينة "ظفار" كانت عاصمة حمير في أيامه، وان الحميريين كانوا قد تمكنوا في أيامه من تكوين شخصيتهم ومن إثبات وجودهم في العربية الجنوبية يومئذ.
وقد ذهب "كلاسر" إلى إن المراد ب Masala موضع يدعى اليوم "المشالحة" ويقع شرق "مخا" على الساحل. أما "شبرنكر"، فرأى انه موضع "مأسل الجمع"، وان المقصود ب Homeritae في هذا المكان جماعة أخرى، اسمها: Nomeritae، وان النساخ حرفوه فكتبوه Homeritae بدلا من Nomeritae. وهذه التسمية التي يراها "شبرنكر" قريبة من "نمير".
وذكر مؤلف كتاب "الطواف حول البكر الأريتري" إن الحميريين كانوا يحكمون في أيامه منطقة واسعة من ساحل البحر الأحمر وساحل المحيط حتى حضرموت، كما كانوا يمتلكون ساحل "عزانيا" Azania في افريقبة، أي قسما من الساحل الشرقي. وكان عليهم ملك يسمى "كرب ال" Charibael، عاصمته مدينة "ظفار" Taphar. وكان على صلات حسنة بالروم. وعدهم "مرقيانوس" Marcianus، وهو من رجال أوائل القرن الربع للميلاد، من جملة قبائل الحبشة. ونجد عددا من الكتاب البيزنطيين يرون هذا الرأي.

(1/1170)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذكرت حمير في نص "عيزانا" Ezana، ملك "اكسوم" Askum، ودعيت في النص اليوناني منه ب Omeritai = Omyritai أي حمير.
ولم يعثر الباحثون على اسم حمير في الكتابات التي ترجع عهدها إلى ما قبل الميلاد بمئات من السنين مع ورود أسماء قبائل أخرى كانت تقيم في المواضع التي نزل بها الحميريون. مثل "حبان" "حبن" و "ذيب". فقد جاء اسم "حبن" "حبان" في الكتابة الموسومة ب REP.EPIG. 3945، وهي كتابة يرجع بعض الباحثين زمان تدوينها إلى حوالي السنة "400" قبل الميلاد. و "حبان"، مدينة وأرض تقع غرب "ميفعة"، ءلى الطريق المؤدية إلى "شبوة". أما "ذيب" "ذيلب" فقبيلة، كانت منازلها ما بين "عوالق الأحور" من الغرب ومنطقة "قنا". وتضيم "دلتا" "ميفعة"، وهي من القبائل التي كانت تسكن القسم الشرقي من "حمير" أي الأرض التي هاجمت منها حمير مملكة حضرموت.
ويذهب "فون وزمن" إلى أن اسم حمير لم يكن قد لمع في هذا العهد على أنه اسم قبيلة حاكمة، وأن اسمها لم يلمع الا بعد أن تحالف الحميريون مع قبائل أخزى مثل "ذياب"، فصاروا بحلفهم هذا قوة، وصار لهم نفوذ.
وقد ورد اسم قبيلة "حبن" "حبان" و "ذيب" "ذياب" في النصوص المتأخرة كذلك مثل كتابات "عقلة".
وقد عرف الحميريون عند أهل الأخبار أكثر من بقية الشعوب العربية الجنوبية الأخرى التي نتحدث عنها، وقد جعلوا "حميرا"، وهو جد الحميريين في زعمهم، ابنا ل "سبأ"، وصيروه "حمر بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان". وقد سموه "العرنج" وزعموا أنه كان ملكا، وأنه ملك بعد ملك أبيه "سبأ"، وأنه أول من تتوج بالذهب، وملك خمسين سنة، وعاش ثلاثمئة عام، وكان له من الولد ستة، منهم تفرعت قبائل حمير، وكانت بينهم حروب، إلى أمثال ذلك من أقوال.

(1/1171)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد حاول بعض أهل الأخبار إيجاد تفسير للفظة "حمير"، ولكلمة "عرنج"، فذكروا أوجها متعددة للتسمية. وقد اعترف "ابن دريد"، بأن من الصعب الوقوف على الأصل الذي اشتق منه اسم "حمير" أو "العرنج"، لأن هذه أسماء قد أميتت الأفعال التي اشتقت منها. وقد ذكر أن بعض أهل اللغة زعموا أنه سمي حمير، لأنه كان يلبس حلة حميراء، وذكر أيضا "أن هذه الأسماء الحميرية لا تقف لها على اشتقاق لأنها لغة قد بعدت وقدم العهد بمن كان يعرفها" ويطلق أهل الأخبار لصب "تبع" على الملوك الذين حكموا اليمن، وعلى مجموعهم "التابعة". وهم في حيرة من تفسير المعنى. وقد ذكر أكثرهم أنهم إنما سموا تبعا و "تبابعة" لأنهم قي يتبع بعضهم بعضا كلما هلك واحد قام مقامه آخر تابعا له علما مثل سيرته. أو لأن التبع ملك يتبعه قومه، ويسيرون خلفه تبعا له. أو لكثره أتباعه. أو من التتابع، وذلك لتتابع بعضكم بعضا. وذكروا إن أحد التبابعة كان قد صنع "الماذيات" من الحديد، وان الحديد سخر له، كما سخر للنبي "داوود". وأشير إلى "تبع" في القرآن الكريم: )أهم خير أم قوم تبع( و )أصحاب الأيكة وقوم تبع(. وقد ذكر بعضهم أن هذا اللقب لا يلقب به إلا الملوك الذين يملكون اليمن والشحر وحضرموت، وقيل حتى يتبعهم "بنو جشم بن عبد شمس" أما إذا لم يكن كذلك فإنما يسمى ملكا. وأول من لقب ممهم بذلك "الحارث بن ذي شمر" وهو الرائش، ولم يزل هذا اللقب واقعا على ملوكهم إلى أن زالت مملكتهم بملك الحبشة اليمن. وذكر أهل الأخبار أن تبع عند أهل اليمن لقب هو بمنزلة الخليفة للمسلمين وكسرى للفرس وقيصر للروم. وكان يكتب إذا كتب: بسم الذي ملك برا وبحرا.

(1/1172)


--------------------------------------------------------------------------------

واختلف علماء التفسير في اسم "التبع" الحميري المذكور في القرآن الكريم، فذهب بعضهم إلى أنه من حمير، وأنه حير الحيرة وأتى "سمرقند" فهدمها. وذهب بعض آخر إلى أن تبع كان رجلا من العرب صالحا، وأنه لما دنا من اليمن ليدخلها حالت حمير بينه وبين ذلك وقالوا لا تدخلها علينا وقد فارقت ديننا، وكانوا يعبدون الأوثان فدعاهم إلى دينه، وقال إنه دين خير من دينكم قالوا فحاكمنا إلى النار. قال نعم فتحاكموا إليها، وكان معه حبران، فغلب الحبران النار، ونكصت على عقبها، فتهودت حمير، وهدم "تبع" بيت "رئام"، وهو بيت كانوا يعظونه وينحرون عنده ويكلمون منه، وانتصر عليهم.
وقد ذكروا إن تبعا أول من كسا البيت، وان الرسول نهى عن سبه. وروي انه قال: "لا أدري تبع نبيا كان أم غير نبي". ويظهر من هذا القصص المروي عن "تبع" والذي يعود سنده إلى "كعب الأحبار" و "وهب ابن منبه" و "عبد الله بن سلام" في الغالب، انهم قصدوا ب "تبع" الملك "اسعد أبو كرب" الذي تهود. يؤيد هذا الرأي نص كثير من المفسرين والأخباريين على اسمه، ونسبتهم القصص المذكور إليه. وذكر "ابن كثير" إن "أسعد أبو كريب بن ملكيكرب اليماني" هذا هو "تبع الأوسط" وانه ملك قومه ثلاثمائة سنة وستا وعشرين سنة? ولم يكن في حمير أطول مدة منه، وتوفي قبل مبعث الرسول بحو من سبعمائة سنة إلى غير ذلك من قصص يرجع سنده إلى المذكورين.
هذا وللتبابعة قصص طويل في كتب أهل الأخبار، فيها قصص عن نسبهم، وفيها قصص آخر عن فتوحاتهم وحروبهم، وكلام عن دياناتهم، وحديث عن حكمهم وأحكامهم، تجده مبسوطا مفروشا في صفحات تلك الكتب، تجد فيها بعض التبابعة وفد آمنوا برسالة الرسول ووقفوا على اسمه وذلك قبل ميلاده بمئات من السنين. وتمنوا لو عاشوا فأدركوا ايامه وذبوا عن حياضه. هذا أحدهم وهو التبع "اسعد أبو كرب بن ملكيكرب"، يقول: شهدت على أحمد انه رسول من الله باري النسم

(1/1173)


--------------------------------------------------------------------------------

فلو مد عمري إلى عمره لكنت وزيرا له وابن عم
وجاهدت بالسيف أعداءه وفرجت عن صدره كل هم
فهو يشهد برسالة الرسول، ويؤمن بها قبل مبعثه بنحو من سبعمائة سنة، ويرجو لو مد في عمره، فوصل إلى أيام الرسول، أذن لجاهد وحارب معه، وفرج عنه كل هم، لأنه كان يعلم بما سيلاقيه الرسول من قومه من أذى وعذاب. ولصار له وزيرا وابن عم.
ويذكر بعض الأخباربين، إن تبعا قال للأوس والخزرج ، كونوا هنا حتى يخرج هذا النبي، صلى الله عليه وسلم، أما أنا لو أدركته لخدمته وخرجت معه. إلى غير ذلك من قصصن يحاول إن يجعل للتبابعة علم سابق قديم برسالة الرسول باسمه وبمكان ظهوره. وبتهيؤ القحطانيين ومنهم أهل المدينة لتأييده وللذب عنه، ولنشر دينه على رغم قريش أهل مكة، وهم لب العدنانيين.
وتجد في كتب أهل الأخبار بعض التبابعة وقد صيروا مسلمين حنفاء يدعون إلى الدين الحق وينهون قومهم عن عبادة الأصنام. وتجد فيها أحاديث قيل إن رسول الله قالها في حق التبابعة مثل قوله: "لا تسبوا تبعا، فانه كان قد أسلم"، أو " لا تسبوا تبعا فانه كان رجلا صالحا" "ولا تسبوا تبعا فانه أول من كسا الكعبة". أو لا ما ادري أكان في تبع نبيا أم غير نبي". وتجد فيها أكثر من ذلك فقد بلغ الحال ببعض أهل الأخبار إن صيروا بعض التبابعة أنبياء وفاتحين، بلغت فتوحاتهم الصين في المشرق و "روما" في المغرب. وهذا القصص كله هو بالطبع من حاصل ذلك النزاع السياسي الذي كان بين القحطانيين والكتلة المعادية لها، كتلة العدنانيين.

(1/1174)


--------------------------------------------------------------------------------

وما هذا الالحاح الذي يؤكد أيمان التبابعة بإله واحد وتسليمهم برسالة الرسول وتدينهم بدينه، وفي عدم جواز سب التبابعة أو لعنهم أقول ما هذا الالحاح الا دليل ظاهر محسوس على إن من الناس من كان يلعن التبابعة ويسبهم ويشتمهم، ولم يكن هذا الشتم أو اللعن موجها إلى التبابعة بالذات بالطيع، بل كان موجها لليمن وللقحطانيين عامة، وللرد صليهم وضعت تلك الأحاديث وأمثالها على لسان الرسول. وقد ظهر أجداد أهل اليمن فيها احسن وأخير من أجداد قريش، وأهل مكة، ظهروا فيها مؤمنين موحدين، كسوا البيت الحرام، وكانوا هم أول من كسوه، وعنوا بالبيت اذ عمروه مرارا، وقدروا مكانته قبل الإسلام بزمان طويل خير تقدير.
وذكر "المسعودي" إن "تبعا" المعروف ب "تبع الأول" عن أول من حكم بعد "الهدهاد بن شرحبيل بن عمرو بن الرائش"، وقد ملك-على زعمه- أربعمائة سنة، ثم ملكت بعده بلقيس بنت الهدهاد. ولم يشر إلى صلة "تبع الأول" بالهدهاد، والظاهر من قوله: "وذكر كثير من الناس أن بلقيس قتلته"، أنه كان على رأي أهل الأخبار وأصحاب "كتب التبابعة"، مغتصبا للعرش ليست به بالهدهاد صلة ونسب. فأول من حكم باسم "تبع" على رواية المسعودي هو تبع المذكور.
وكلمة "تبع" لم ترد في نصوص المسند، لا بمعنى ملك، ولا بمعنى آخر له علاقة بحكم أو بوظيفة أو بملك. وقد أطلقت تلك النصوص على اختلاف لهجاتها لقب "ملك" على الملوك، أي على نحو إطلاقنا لها في عربيتنا، ولهذا يرى المتشرقون أن كلمة "تبع" هي "بتع" القبيلة التي تحدثت عنها من "همدان". وحرفت الكلمة فصارت "تبع".

(1/1175)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد كان الحميريون يسيطرون على القسم الجنوبي الغربي من العربية الجنوبية في أيام مؤلف كتاب "الطواف حول البحر الأريتري"، ولا سيما في مدينة "ظفار" وحصنها الشهير المعروف ب "ريدان"، الذي يرمز إلى ملك حمير والذي يحمي العاصمة من غارات الأعداء. وهو بيت الملوك وقصرهم أيضا. وقد كانت منازل حمير في الأصل إلى الشرق من هذه المنازل التي ذكرها مؤلف الكتاب. كانت تؤلف جزءا كل من أرض حكومة قتبان وتتصل بحكومة حضرموت.
وتقع في جنوب "ميفعه". وتؤلف أرض "يافع" المسكن القديم للحميريين، وذلك قبل نزوحهم عنها قبل سنة "100" قبل الميلاد إلى مواطنهم الجديدة. حيث حلوا في أرض "دهس" "داهس" وفي ارض "رعين" حيث كانت "رعين" " فأسسوا على أشلائها حكومة "ذو ريدان".
وحدود أرض حمير في مواطنها القديمة: "ارض" "رشأى" "رشاى" و "حبان" "حبن" في الشمال وأرض حضرموت في الشرق، وأرض "ذيب" "ذياب" في الغرب. وقد كانت في الأصل جزءا من حكومة قتبان.
و يظهر من الكتب العربية إن الحميريين كانوا يقطنون حول "لحج" في منطقة "ظفار" و "رداع" وفي "سرو حمير" و "نجد حمير".
وقد عرفت الأرض التي أقام بها الحميريون ب "ذي ريدان" "ذ ريدن"، نسبة إلى "ريدن" "ريدان"، قصر ملوك حمير بعاصمتهم "ظفار". وهو عند حمير بمثابة قصر "سلحن" "سلحان" "سلحين"، وقصر "غمدن" "غمدان" عند السبئيين.
وقد اخذ حصن "ريدان" اسمه من حصن اقدم عهدا منه كان في قتبان، بني عند ملتقى اودية في جنوب العاصمة "تمنع"- عرف ب "ذي ريدان" "ذ ريدان"، وقد بني على جبل يسمى ب "ذي ريدان" يؤدي إلى "حدنم" "حدن". ولما كان الحميريون يقيمون في هذه الأرض المعروفة ب "ذي ريدان" وذلك حينما كانوا اتباعا لمملكة قتبان، لذلك أطلقوا على الحصن الذي بنوه ب "ظفار" اسم حصن "ذي ريدان"، تيمنا باسم قصرهم القديم، وأطلقوا "ذي ريدان" على وطنهم الجديد الذي أقاموا فيه بعد ارتحالهم عن قتبان، ليذكرهم. اسم وطنهم القديم.

(1/1176)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عشر على كتابة في خرائب حصن "ريدان" القديم، الذي كان قد بناه الريدانيون أيام أقامتهم بقتبان، قدر الخبراء زمان كتابتها بحوالي السنة "400" قبل الميلاد.
ويقع حصن "حدي" عند حافة الجبل الذي تقع عليه خرائب "ريدان" وهو اسم يذكرنا باسم "حدنم" المذكور.
وقد كان الحميريون أتباعا لمملكة قتبان قبل انتقالهم إلى وطنهم الجديد، فأرضهم كانت خاضعة لحكومة قتبان تؤدي الجزية لها وتعترف بسيادة ملوك قتبان عليها، ولذلك أطلق السبئيون عليهم "ولد عم" أي ولد الإله "عم" و "أمة عم" "ملة عم" وهو إله قتبان. وتعني تلك الجملة "جماعة عم"، أي قتبان ومن يخضع لها من قبائل، ف "عم" هو رمز قتبان. وهو تعبر يؤدي معني التبعية والجنسية بالمعنى الحديث. ولما كان الحميريون إتباعا لقتبا في ذلك العهد، وان لم يكونوا يتعبدون للإله "عم" إله قتبان، ادخلوا في جملة "ولد عم" للتعبير عن المعنى المذكور.
وقد عثر الباحثون على كتابات مؤرخة، سنة 1094 أرخت بالتقويم العربي الجنوبي الذي يرجع عهده إلى السنة "115" أو "109" قبل الميلاد. عثر عليا قي ارضين حميرية. وقد تبين كل من تحويل تلك السنين إلى سنين ميلادية، إنها تعود إلى السنة "400" للميلاد فما بعد.
ويرى بعض الباحثون إن السنة المقابلة لسنة "115" أو "09 ا" قبل الميلاد، وهي السنة الأولى من سني التقويم العربي الجنوبي، هي سنة نشوء حكومة حمير وظهورها إلى الوجود بصورة فعلية. ولهذا صار الحميريون يؤرخون بها لما لها مهن أهمية في الناحية السياسية عندهم.
وقد كان الحميريون يغزون أرض حضرموت ويتحرشون بطرق تجارتها ولاسيما طريق "شبوة"- "قنا" "قانه"، المؤدي إلى المدن الجنوبية والساحل لذلك اضطرت حضرموت إلى إقامة سور يسد الوادي "وادي لبنا" "لبنه"، أقيم من حجارة قوية بحيث سد الوادي، فليس للمارة سبيل سوى الباب الذي يحرسه حراس أشداء. ويظهر إن إقامة ذلك السور كان قبل السنة "400" قبل الميلاد.

(1/1177)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد اكتسح الحميريون أملاك غيرهم من جيرانهم فاستولوا على أرض "رعين". وقد كانت "رعين" مملكة صغيرة حكمها ملوك كما تبين ذلك من الكتابات. وقد كانت هذه المملكة تحكم أرض "عرش" وقد استولى عليها الحميريون أيضا كما استولوا على كل الأرضين التي، كانت خاضعة لحكم ملوك "رعين" "رعين". فأضافوها إلى حكومة "ريدن" "ريدان" "ذي ريدان". وقد حدث ذلك في القرن الثاني قبل الميلاد.
وقد كانت مملكة "رعين" كما يتبين كل من الكتابة الموسومة ب Glaser 1693 في حلف مع سبأ ضد ملكة "قتبان"، ويظهر إنها كانت مع سبأ لتدافع بذلك عن نفسها إذ كانت جارة لقتبان، ولقتبان مصالح خطيرة في أرض "رعين".
ويتبين من النص الموسوم ب Glaser 1693 الذي يعود عهده إلى أيام الملك "يدع أب يجل"، والذي يرجع بعض علماء العربيات الجنوبية عهده إلى حوالي السنة "200" قبل الميلاد- أن "رعين"، كانت مملكة إذ ذاك، وفي أرض "رعين" أقام الحميريون دولتهم حيث اتخذوا "ظفار" عاصمة لهم. وكانوا قد زحفوا على هذه الأرض وعى "دهس" "داهس" والمعافر واستقروا بها، حيث تغلبوا على سكانها الأصليين، وأقاموا حكومة حمير، التي أخذت تنافس سبأ وتتوسع في أرض القتبانيين وغيرهم، متوخية انتزاع السلطة من السبئيين.
وقد كان "شطر ذي ريدان" الذي تحدثت عنه في أثناء كلامي على "الشرح يحضب" من أقيال حمير ومن ساداتهم البارزين في ذلك الوقت. وقد رأينا انه كان نشطا محاربا يتصل بالحبش وبملك "نجران"، وبملك حضرموت، وبكل من يجد فيه عداوة ونصبا ل "الشرح يحضب" ليمكنوه من التغلب عليه، ومن انتزاع الحكم منه. ولكنه لم يتمكن مع كل ذلك من التغلب على "الشرح"، بل اضطر في الأخير إلى التصالح معه، والى الاعتراف بسيادته، حتى أنه صار قائدا من قواد جيشه في حربه التي أثارها "الشرح" على حضرموت. كما عوقبت "نجران" عقابا شديدا نتيجة لاندفاعها مع "شمر" وتأييدها له، وإعلانها الحرب على "ملك سبأ وذي ريدان".

(1/1178)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من وصف "بلينيوس" Pliny، أن القسم الجنوبي من ساحل البحر الأحمر كان تابعا لملك حمير، صاحب "ظمار". ويظهر من الكتابة CIH 41 أن مملكة حمير كانت تضم رعين و "ذمار" "ذمر" والأرض التي تقع في الشمال المسماة ب "قاع جهران" في الوقت الحاضر. فيظهر من ذلك أن الحميريين كانوا قد تمكنوا من الاستيلاء على الهضبة وعلى المناطق الجنوبية من اليمن الممتدة على البحر الأحمر. ونحن لا نملك في الوقت الحاضر أي نصوص تشير إلى الوقت الذي استولت حمير فيه على هذه الأرضين. ويظن البعض أن ذلك قد كان في أيام حملة الرومان على اليمن، فاستغل الحميريون هذه الفرصة، فرصة ضعف حكومة السبئيين، فاستولوا على تلك الأرضين.
وقد يرجع زمان استيلاء حمير على ميناء "قنا" الشهير، وهو أهم ميناء في حضرموت إلى هذا العهد، أو إلى عهد يقع بعد ذلك بقليل.
ولم تكن علاقات حمير بسبأ علاقات طيبة في الغالب. بل يظهر أنها كانت نزاع وخصومة في أكثر الأوقات. وتجد في كتابات السبئيين إشارات إلى حمير والى نزاع سبأ معهم. وقد دعوهم ب "حمير" "حمر" "حمرم" وب "ذي ريدان" "ذ ريدن" و "ببني ذي ريدان"، ودعوا ملوكهم: "ذمر على ذي ريدان" و "شمر ذي ريدان" وب "كرب ايل ذي ريدان".

(1/1179)

admin
12-27-2010, 01:00 AM
وقد استطاع الحميريون من الاستيلاء على "مأرب". استولوا عليها جملة مرات. لقد تمكن أحد ملوكهم من احتلالها ودخولها، ويظهر إن ذلك كان بعد حملة الرومان على اليمن، فعدل في لقبه الملكي الرسمي وهو "ذو ريدان"، وجعله مثل لقب الملوك السبئيين الشرعيين. وهو "ملك سبأ وذي ريدان"، الذي يشير إلى استيلاء سبأ فيما مضى على حمير وضم أرضهم إلى أرض سبأ. والظاهر إن "اقول" أقيال سبأ: ثاروا على الحميريين فأخرجوهم من "مأرب"، وأعادوا العرش إلى العائلة السبئية المالكة، فحكموها بصفتهم ملوك سبأ وذو ريدان، وان لم تعن لهم سيطرة فعلية على أرض حمير، واحتفظ ملوك حمير باللقب الجديد الذي لقبوا أنفسهم به، وهو "ملك سبأ وذو ريدان"، مع انهم كانوا قد أخرجوا من أرض سبأ، وان لم يكن قد بقي لهم أي نفوذ فيها. وهكذا صرنا نجد حاكمين: أحدهما سبئي وآخر حميري، يلقب كل واحد منهما نفسه بلقب "ملك سبأ وذو ريدان".
وقد جعل "فون وزمن" استيلاء حمير على مأرب في حوالي السنة "110" بعد الميلاد. وعاد فذكر إن الحميريين استلوا على "مأرب" مرة أخرى، وذلك في حوالي السنة "200" أو "210" للميلاد. واستند في حكمه هذا على الكتابة الموسومة ب Jamme 653.
ومن ملوك حمير الملك "يسرم يهصدق" "ياسر يهصدق"، الملقب ب "ملك سبأ وذو ريدان" في الكتابة الموسومة 41 CIH. ويرى "فون وزمن" انه حكم بعد الميلاد. حكم في النصف الثاني من القرن الأول بعد الميلاد، فيما بين السنة "70" و "80" بعد الميلاد.
وقد وضع "فون وزمن" اسم "الشرح" بعد اسم "ياسر يهصدق"، وجعل أيامه في حوالي السنة "90" بعد الميلاد. وقد ذكر انه كل من حمير والى أيامه تعود الكتابة المرقمة ب CIH 140. ويرى هذه الكتابة هي أقدم كتابة ورد فيها خبر حرب وقعت بين حمير وسبأ.

(1/1180)


--------------------------------------------------------------------------------

ثم ذكر "فون وزمن" اسم "ذمر على يهبأر" بعد اسم "الشرح" وقد جعل حكمه في حوالي السنة "100" بعد الميلاد. والى زمانه تعود الكتابة الموسومة ب CIH 365. وكان يعاصره الملك "شهر هلال يهقبض" ملك قتبان. ويرى "فون وزمن" إن "ذمر على يهبار" "ذمر على يهبأر" حارب شخصا من "بني حزفر" "بن حزفرم". و "بنو حزفر" هم من عشيرة "ذ خلل" "ذو خليل"، وهم عشيرة قديمة يرجع اليها نسب مكربو سبأ وأكثر ملوك السبئيين. ويرى احتمال كون هذه الحرب قد وقعت مع أحد أفراد العائلة السبئية المالكة. وقد تمكن "ذمر على" من الاستيلاء على حصن "ذت مخطرن" "ذات مخطران"، ومن دخول "مأرب". وقد قام هو وابنه "ثارن" "ثأران" بترميم سد مأرب وببناء المواضع التي تخربت منه. وذلك لأنه كان قد خرب، وذكر إن تخرب السد هذا، هو تخرب لم يصل خبره إلينا. وقد قدم الملكان قرابين وهما بمأرب إلى "عثتر" "عثتار" و "سحر" بمعبد "نفقان" "نفقن".
وقد بلغ الحميريون على رأي "فون وزمن" أوج أيام عزهم في هذا العهد. فقد حكموا السبئيين ومعهم "ذ عذبهن" "ذو عذبهان"، الذين نعتوا أنفسهم ب "ادم"، اي الأتباع .
ثم وضع "فون وزمن" اسم "ثارن يعب" "ثأران يعب"، بعد اسم "ذمر على". و إلى زمانه تعود الكتابتين CIH 457 و CIH 569.
ثم وضع "فون وزمن" اسم "شمر يهرعش الأول" من بعده، وقد كان معاصرا ل "أنمار يهأمن" ول "كرب ايل وتر يهنعم" من "بني بتع" من قبيلة "سمعى". وقد كان حكمه في حوالي السنة "140" بعد الميلاد .
وذكر "فون وزمن" أن السبئيين تمكنوا من الاستيلاء على حمير، فصارت تابعة لهم، وكان ذلك في أيام "ملك سبأ وذي ريدان" "شعرم أوتر" "شعر أوتر"، و بقيت حمير خاضعة لهم إلى أن ثارت عليهم بزعامة "لعزز يهنف يهصدق" "العز يهنف يهصدق" "لعز يهنف يهصدق" "لعز نوفن يهصدق" حيث ولي عليهم وحكم بلقب "ملك سبأ وذي ريدان".

(1/1181)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد جعل "فون وزمن" زمان حكم "لعزز يهنف يهصدق"، فيما بين السنة "190" و "200" بعد الميلاد. وجعل أيام حكمه في أيام استيلاء "جدرت" "جدرة" الحبشي على "ظفار" .
وقد جاء اسم الملك "لعزز يهنف يصدق" في الكتابة الموسومة ب Jamme 631 وقد لقب فيها بلقب "ملك سبأ وذو ريدان". كما بعد أسطر من ورود اسمم الملك السبئي "شعر أوتر" "ملك سبأ وذو ريدان". كما جاء اسم الملك "لحيثت يرخم" الذي لقب أيضا بلقب "ملك سبأ وذو ريدان". وقد سجل هذه الكتابة أحد القادة السبئيين. ويظهر إن السبئيين والحميريين كانوا قد كونوا جبهة واحدة لمحاربة الحبش الذين هاجموا اليمن في عهد "جدرت" "جدرة".
وقد وقعت اضطرابات في هذا العهد، دامت حوالي قرن ونصف قرن. لم تنعم اليمن في خلال هذه المدة بالراحة والاستقرار. فنجد في الكتابات التي وصلت إلينا عن هذا العهد ذكر فتن وحروب وأوبئة وغزوات وغارات. وتجد ملوكا و إقطاعيين يحاربون بعضهم بعضا. ويعزو "ريكمنس" سبب ذلك إلى إدخال الخيل في الحروب وحلولهما محل الجمل. مما ساعد على حركة القتال، وفي نقل الحروب بصورة أسرع إلى جبهات كان الجمل يقطنها ببطء. كما يررى "دوستل" W. Dostal أن لتحسين السروج التي كان يستعملها المحاربون الفرسان دخل في هذه الحروب والاضطرابات.

(1/1182)


--------------------------------------------------------------------------------

اشد أدى استعمال الخيل في الحروب وتحسين سروجها على رأي الباحثين المذكورين إلى إحداث تطور خطير في أسلوب القتال. كما أدى إلى ظهور قوة محاربة لها نفوذ في الأحداث وفي سياسة جزيرة العرب هي قوة الأعراب. فقد أدى استخدام البدو للخيل إلى إمعانهم في الغزو والى إغارتهم على الحظر طمعا في أموالهم وفي ما عندهم من أمتعة ومال. كما أدى إلى الإكثار كل ن غزوهم بعضهم بعضا، والى التدخل في شؤون الحكومات. و صار لهم نفوذهم في الأمور السياسية والعسكرية في العربية الجنوبية، واضطرت حكومات هذه الأرضين على أن تحسب لهم حسابا، كما استخدموا الأعراب في قتالهم مع الحكومات الأخرى المنافسة لها، وفي محاربة الأقيال و الأذواء.
ثم جعل "فون وزمن" اسم "ياسر يهنعم الأول" من بعده، وقد حكم معه ابنه "شمر يهرعش"، الذي لقبه بالثاني، تمييزا له عن "شمر" المتقدم. و في عهدهما احتل الحميريون "مأرب"، و صارت "سبأ" تابعة لهم. وكان ذلك في حوالي السنة "200" للميلاد. وكان يعاصرهما "عذبة" نجاشي الحبشة في هذا الوقت.
ويرى "فون وزمن" أن الكتابات العربية الجنوبية انقطعت فجأة بعد هذه الكتابة المتقدمة عن ذكر ملوك "همدان"، فلم تعد تذكر شيئا عنهم، ويعزو سبب ذلك إلى الأوبئة التي اجتاحت البلاد والى تألق نجم الأسرة الحميرية الحاكمة التي تمكنت على ما يظهر من الاستيلاء على عاصمة سبأ "مأرب" وعلى نجاد سبأ والى انفراد سادة "مضحى" "مضحيم" "مضحم"، وقد تكون استولت على ردمان كذلك.
وفي هذه الظروف حكم "ياسر يهنعم" الذي لقبه "فون وزمن" بالأول مع ابنه "شمر يهرعش" الذي لقبه ب "الثاني" الذي اشترك معه بالحكم ثم انفرد به وحده فحكم في "ظفار" وفي "مأرب".

(1/1183)


--------------------------------------------------------------------------------

ثم نصب "فون وزمن" شخصا دعاه "كرب ايل ذو ريدان" بعد "شمر يهرعش الثاني" وجعله معاصرا للنجاشي "زوسكالس" Zoskales، وجعل حكمه في حوالي السنة "210" بعد الميلاد. وهو شخص لا نعرف اسمه الملكي الكامل. ويرى "فون وزمن"، انه هو المقصود في الكتابات Jamme 578,586,589، وهي كتابات دونها خصومه. ويظهر من إحدى الكتابات إن جيوش خصميه "الشرح" و "يأزل" بلغت "سرعن" في "ردما ن" و "قرننهن" "القرنين" و "عروشتن" "العرائش" في نجاد قبيلة "حرمتم" "حرمت" "حرمة"، في أرض "مراد" بين "مأرب" و "قتبان"، و إنها استولت على الحصن الجبلى المنيع "عر اساى" "عر الاسى" "عر أسأي" شرق "ذمار".
وقد نشبت حرب أخرى بينه وبين خصميه، اضطرته إلى الاعتراف بسيادة "الشرح" و "أخيه" عليه، غير انه عاد فثار على خصميه، فخسر في هذه المرة أيضا. خسر مدينة "هكر" التي اشتهرت بقصرها الملكي على قمة التل، وخسر "رداع" و "ظفار" فاضطر إلى الفرار.
ثم جعل "فون وزمن" "ثارن يعب يهنعم" من بعده، وقد كان حكمه في حوالي السنة "230" حتى السنة "240" للميلاد.
ثم ذكر "فون وزمن" اسم "ذمر على وتر يهبأر" من بعده، وقد كان حكمه في حوالي السنة "250" للميلاد. ثم انتقل منه إلى "عمدان بين يهقبض" الذي جعل حكمه في حوالي السنة "260" حتى السنة "270" للميلاد.
وجعل "فون وزمن" الملك "ياسر يهنعم" من بعد "عمدان بين يهقبض" وقد نعته بالثاني، وجعل حكمه مع ابنه "شمر يهرعش" الذي لقبه بالثالث، والذي انفرد وحده بالحكم بعد وفاة والده فحكم حتى السنة "300" للميلاد. وقد كان يعاصره الملك "شرح ال" و "رب شمس".

(1/1184)


--------------------------------------------------------------------------------

وجعل "فون وزمن" حكم الملك "ياسر يهنعم الثالث" و "ثارن ايفع" "ثأرن أيفع" بعد حكم "شمر يهرعش الثالث". وقد كان حكم "ياسر يهنعم" الثالث منفردا في بادئ الأمر ثم أشرك ابنه "ذرأ أمر أيمن" معه في الحكم، وذلك في الشطر الثاني من أيام حكمه. وقد عاصرا "عزانا" ملك الحبش الذي غزا اليمن. ثم جعل "ذمر على يهبر"، من بعد الاثنين المذكورين، وهو ابن "ثارن يكرب" "ثأرن يكرب".
وذكر "فون وزمن" إن "ذمر على يهبر" حكم مع ابنه "ثارن يهنعم" "ثأران يهنعم" في الشطر الثاني من أيام حكمه، وذللك فيما بين السنة "340" والسنة "360" للميلاد. وجعل في حوالي هذا العهد خراب سد مأرب للمرة الثانية.
وفي هذا العهد دخل ملك حمير في النصرانية بتأثير "ثيوفيلوس" عليه. وبنيت كنائس في "ظفار" وفي "عدن". فما أشرك الملك "ثأران يهنعم" "ثارن يهنعم" ابنه "ملك كرب يهامن" "ملكيكرب يهأمن" معه في الحكم.
وذكر أنه في حوالي السنة "378" للميلاد ترك معبد "اوم" "أوام"، وأهمل، بسبب انصراف أكثر الناس عن التعبد فيه وتركهم عبادة آلهة سبأ القديمة.
وذكر "فون وزمن" أن الملك "ملكيكرب يهنعم" "ملكيكرب يهأمن" حكم منذ السنة "385" للميلاد مع ولديه: "اب كرب اسعد" "أبو كرب أسعد" و "ذرأ أمر أيمن". ثم ذكر بعدهم اسم "أبو كرب أسعد" مع ابنه "حسن يهأمن" "حسان يهأمن". وقد ذكر أن "أبا كرب أسعد" هو الذي حكم بعد والده "ملكيكرب يهنعم" "ملكيكرب يهأمن"، ثم حكم مع ابنه "حسان يهأمن" حكما مشتركا، مستعملين لقبا جديدا هو: "ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنت وأعربهمو طودم و تهمتم". وذلك في حوالي السنة "400" للميلاد.
ويعرف "أبو كرب أسعد" "ابو كرب اسعد" ب "أسعد تبع" عند أهل الأخبار. و يذكرون أنه اعتنق اليهودية أثناء نزوله بيثرب في طريقه إلى اليمن.

(1/1185)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذهب "فون وزمن" إلى أن الذين حكموا حمير كانوا من أسرة ملكية واحدة. ولكنهم يرجعون إلى فرعين. وذهب "ريكمنس" إلى أن ملوك حمير كانوا أسرتين: أسره "ياسر يهنعم" وأسرة "ياسر يهصدق"، وقد حكم أعضاء الأسرتين متفرقتين ولكن في وقت واحد.
و ظفار، هي عاصمة حمير. وقد اشتهرت بجزعها، ولا تزال تشتهر به. وقد تفنن الحميريون في تجميله بحفر محور ونقوش لحيوانات ونباتات وأزهار عليه، وفي صقله، ويستعمل عقدا يوضع حول العنق وخاتما لتزيين الأصابع. و اشتهرت بأنها موطن لغة حمير فقيل: من دخل ظفار حمر، لأن لغة أهلها الحميرية.
وقد زالت معالم قصر ريدان بظفار، و موضعه اليوم ربوة مربعة الشكل تعرف ب "ريدان"، بقي منه "سرعبان" " أي طوفيين بشكل هندسي، من الحجر المنحوت. وقد زار "كلاسر" مدينة ظفار والخرائب الواقعة على الربوة المتاخمة لآثار ظفار من الجنوب. وقد سمى ذلك الخرائب القائمة على الربوة ب "حصن زيدان". وقد شك، في كونه "حصن ريدان" القديم. ولكن بعض الباحثين لا يؤيدون رأيه هذا. وأظن إن كلمة "زيدان" هي تحريف للاسم القديم "ريدان".
وقد اشتهرت حمير عند أهل الحجاز بمصانعها، فقيل: مصانع حمير. وفي: كلام النبي لوفد كندة: "إن الله أعطاني ملك كندة و مصانع حمير، وخزائن كسرى وبني الأصفر، وحبس عني شر بني قحطان، و أذل الجبابرة من بني ساسان، وأهلك بني قنطور بن كنعان".
ترتيب ملوك حمير
هذا وقد رتب "فون وزمن" بعض ملوك حمير ترتيبا زمنيا على هذا النحو: 1 - ياسر يهصدق. وقد حكم بحسب رأيه في حوالي سنة "75" ب. م.
2 - ذمر على يهبر. وقد كان حكمه في حوالي سنة "100 ب. م.".
3 - ثأران يعب. وقد كان حكمه في حوالي سنة "125 ب. م.". ثم وضع فراغا بعده، يدل على حكم ملك من بعده لا يعرف زمانه، ووضع بعده حكم الملك "شمر يهرعش" الأول، وقد كان حكم ذلك الملك الذي لم يعرف اسمه و لا خبره ولا أسرته في حوالي سنة "150 ب. م.".

(1/1186)


--------------------------------------------------------------------------------

4 - ثم وضع بعد اسم "شمر يهرعش الأول" فراغا ذكر إن حمير صارت فيه تابعة للسبئيين، وذلك في عهد "ملك سبأ وذو ريدان شعرم اوتر" "شعر أوتر". ثم وضع بعده اسم الملك "لعزز يهنف يهصدق" "لعزز يهأنف يهصق".
5 - ثم ذكر بعد "لعزز يهنف يهصدق" اسم الملك "ياسر يهنعم"، وقد نعته ب "الأول"، ليميزه عن ملكين آخرين عرفا بهذا الاسم.
6 - ثم وضع بعده اسم ابن له دعاه ب "شمر يهرعش الثاني".
7 - ثم وضع بعده اسم ملك بقي من اسمه الأول فقط، وهو "كرب ال" "كرب ايل"، وقد نعته ب "كرب ايل ذو ريدان".
8 - ثم وضع اسم الملك "ذمر على وتر يهبر" "ذمر على وتر يهبأر" من بعده.
9 - ثم اسم "ثارن يعب يهنعم" ثم ترك فراغا، ذكر بعده اسم.
10- الملك "عمدان بين يهقبض".
11- ثم الملك "ياسر يهنعم الثاني".
12- ثم "شمر يهرعش الثالث".
13- ثم اسم الملك "ياسر يهنعم الثالث".
14- ثم "ثارن ايفع" "ثأران أيفع".
15- ثم "ذرارمر ايمن" "ذرأ أمر أيمن". وهو ابن "ياسر يهنعم الثالث".
16- ثم ذكر اسم ملك لم يتأكد من لقبه هو "ثأران ى..." "ثأران ي...".
17- وذكر بعل ه الم "ذمر على يهبر" "ذمر على يهبأر".
18- ثم ابنه "ثارن يهنعم" "ثأران يهنعم".
19- ثم ذكر اسم ابنه الملك "ملكيكرب يهأمن" "ملك ضرب يهأمن".
20- ثم ذكر اسم ابنه "ابكرب اسعد" "أبو كرب أسعد" و "ذرا امر ايمن" "ذرأ أمر أيمن".
21- ثم "أبو كرب أسعد" ومعه ابنه "حسن يهأمن" "حسان يهأمن" 22- ثم اسم "شرحب ال يعفر" "شرحبيل يعفر"، "شرحب ايل يعفر".
الفصل الحادي و الثلاثون
سبأ و ذو ريدان و حضرموت و يمنت
وفي حوالى السنة "300 ب. م."، أو بعد ذلك بقليل، لحقت اللقب الرسمي لملوك "سبأ وذي ريدان" إضافة جديدة، هي "حضرموت ويمنت"، فصار "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت وينت"، و صرنا نقرأ أسماء الملوك، ونقرأ بعدها هذا اللقب الجديد.

(1/1187)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي الإضافة الجديدة دلالة على إن مملكة "سبأ وذي ريدان" عدت حضرموت منذ هذا العهد أرضا تابعة لها وخاضعة لحكمها، ليس لها منذ هذا الضم في استقلال ولا ملوك، و إنها عدت أرض "يمنت" خاضعة لها وجزءا من ممتلكاتها كذلك. و معنى هذا إن رقعة أرض "سبأ وذي ريدان" قد توسعت كثيرا بهذا الضم.
وكلمة "منت"، لم ترد قبل هذا العهد لا في المسند ولا في كتب "الكلاسيكيين" ولهذا فهي بالنسبة إلينا لفظة جديدة، وقفنا عليها في الكتابات التي دونت بعد الميلاد. وقد يأتي زمان يعثر فيه العلماء على كتابات تحمل هذه الكلمة، وترجع بها إلى ما قبل الميلاد.
ويمنت - في رأي "كلاسر" - كلمة عامة تشمل الأرضين في القسم الجنوبي الغربي من جزيرة العرب، من باب المندب حتى حضرموت. وكانت تتألف من مخاليف عديدة، يحكمها إقبال و أذواء مستقلون بشؤوتهم، ولكنهم يعترفون بسيادة "ظفار" أو "ميفعة" عليهم. ومن أشهر مدن "يمنت" الساحلية في رأي "كلاسر" - Ocelis عند باب المندب، و "عدن" Arabia Emporium و "قانه" "قنا" Cane في حضرموت.
وتعني "يمنت" في العربيات الجنوبية الجنوب، وقد رأى "فون وزمن" أنها تعني القسم الجنوبي من أرض حضرموت، وهي الأرض التي كانت عاصمتها "ميفعت" "ميفعة" في ذلك الزمان.
ومن "يمنت" ولدت كلمة اليمن التي توسع مدلولها في العصور الإسلامية حتى شملت أرضين واسعة، لم تكن تعد من اليمن قبل الإسلام، تجدها مذكورة في مؤلفات علماء الجغرافيا والبلدان والموارد الأخرى.
واليمن عند أهل الأخبار أرض واسعة يحدها من الغرب بحر القلزم، أي البحر الأحمر، ومن الجنوب بحر الهند، أي البحر العربي في اصطلاحنا ومن الشرق البحر العربي، وتتصل حدود اليمن الشمالية إلى حدود مكة حيث الموضع المعروف ب "طلحة الملك".

(1/1188)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد أورد أهل الأخبار على مألوف عادتهم تفاسير لسبب تسمية اليمن يمنا، فذكروا إن اليمن إنما سميت يمنا نسبة إلى يمن بن قحطان، وقيل إن قحطان نفسه كان يسمى بيمن. و قيل إنما سميت بيمن بن قيدار، و قيل سميت لأنها يمين الكعبة، و قيل سميت بذلك لتيامنهم إليها، و قيل لما تكاثر الناس بمكة و تفرقوا عنها، التأمت بنو يمن إلى اليمن، و هو أيمن الأرض.
وأول ملك نعرفه حمل اللقب الجديد، لقب "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت"، هو الملك "شمر يهرعش" المعروف ب "شمر يرعش" عند الإسلاميين. أما أبوه، فهو و "يسر يهنعم" "ياسر يهنعم"، المعروف والمشهور أيضا مثل ابنه بين أهل الأخبار.
وقبل أن أدخل في موضوع "شمر يهرعش" وفي أبيه، أود إن أبين أن الباحثين في هذا اليوم ليسوا على اتفاق في عدد من تسمى ب "ياسر يهنعم" وفي أيام حكمهم، و كذلك في عدد من تسمى ب "شمر يهرعش" وفي أيام حكمهم فبينما كان قدماؤهم يذهبون إلى وجود "ياسر يهنعم" واحد ووجود "شمر يهرعش" واحد، ذهب بعض المحدثين إلى وجود شخصين اسم كل واحد منهما "ياسر يهنعم"، وشخصين اسم كل وأحد منهما "شمر يهرعش" واسم والد كل واحد منهما "ياسر يهنعم".
وقد ذهب "فون وزمن" إلى وجود ثلاثة ملوك كان اسم كل واحد منهم "ياسر يهنعم"، وثلاثة ملوك كان اسم كل واحد منهم "شمر يهرعش". واسم والد كل واحد منهم "ياسر يهنعم". أما "ياسر يهنعم الأول"، فجعل زمان حكمه في حوالي السنة "200" "للميلاد. وقد حكم معه ابنه المسمى ب "شمر يهرعش"، وقد لقبه الثاني ليميزه عن ملك آخر حكم قبله وتسمى بهذا الاسم أيضا، وهو "شمر يهرعش"، الذي دعاه بالأول، وقد حكم في حوالي السنة "140" للميلاد. ولم يعرف اسم والده.

(1/1189)


--------------------------------------------------------------------------------

وجعل "فون وزمن" حكم "ياسر يهنعم الثاني" في حوالي السنة "270" للميلاد، وقد حكم ابنه "شمر يهرعش الثالث" معه، ثم حكم "شمر يهرعش الثالث" وحده. ثم نصب ملكا آخر من بعده، جعل حكمه في حوالي السنة "330" للميلاد سماه "ياسر يهنعم الثالث" حكم مع ابنه "ثارن يهنعم" "ثأران يهنعم".
ويعرف "ياسر يهنعم" عند أهل الأخبار ب "ياسر أنعم" و ب "ناشر النعم" و ب "ياسر ينعم" و ب "ناشر ينعم" و ب "ناشر أنعم"، وزعموا انه إنما عرف بذلك لإنعامه عليهم، ووالده في نظرهم "عمرو بن يعفر بن حمير بن المنتاب بن عمرو بن زيد بن يعفر بن سكسك بن وائل بن حمير بن سبأ"، أو "يعفر بن عمرو بن حمير بن السياب بن عمرو بن زيد بن يعفر بن سكسك بن وائل بن حمير بن سبأ"، أو "عمرو ذي الأذعار"، أو "عمرو بن يعفر بن شرحبيل بن عمرو ذي الأذعار". وزعموا أنه سار إلى وادي الرمل بأقصى الغرب، فلم يجد وراءه مذهبا، فنصب صنما من نحاس، وزبر عليه بالمسند: "هذا الصنم لناشر أنعم، ليس وراءه مذهب، فلا يتكلف أحد ذلك فيعطب".
وقد حكم "ياسر أنعم" أو "ناشر النعم" أو "ناشر ينعم" بعد "بلقيس بنت ايليشرح" معاصرة "سليمان" "1021 - 981 ق. م."، على رواية من روايات أهل الأخبار، أو بعد ثلاثين سنة أو أربعين من حكم "سليمان" لحمير، حيث أخذه منه وأعاده إلى حمير. فملكهم هو، وكان ملكه خمسا وثلاثين سنة. و هكذا رجع أهل الأخبار زمان "ياسر أنعم" إلى ما قبل الميلاد، وصيروه معاصرا لسليمان، و هو من رجال أواخر القرن الثالث للميلاد.
أما سبب اشتهاره بين أهل الأخبار ب "ناشر النعم"، أي "محي النعم" فلأنه كما يقولون "أحيا ملك حمير"، أو "لإنعامه عليهم بما قوى من ملكهم و جمع من أمرهم"، أو "لإنعامه على الناس بالقيام بأمر الملك ورده ذلك بعد زواله". و"فضله العميم هذا على حمير، نعتوه بالنعت المذكور.

(1/1190)


--------------------------------------------------------------------------------

ونسب الأخباريون إلى "ناشر النعم" الغزوات و الفتوح. زعموا انه جمع حمير و قبائل قحطان، وخرج بالجيوش إلى المغرب حتى بلغ البحر المحيط، فأمر ابنه "شمر يرعش" إن يركب البحر، فركب في عشرة آلاف مركب، وسار يريد وادي الرمل، ونزل "ناشر النعم" على صنم "ذي القرنين" فأخرج عساكره إلى الإفرنج و "السكس" وأرض "الصقالبة"، فغنموا، وسبوا، ورجعوا إليه بسبي عظيم. ولما رجع "شمر" من المحيط إلى أبيه، أمر بمنارة فبنيت إلى جانب منارة ذي القرنين، ثم أمر فكتب في صدر التمثال الذي عليها من النحاس بالمسند: هذا الصنم لياسر أنعم الحميري، و ليس وراءه مذهب، فلا يتكلفن ذلك فيعطب. ونسبوا إليه فتح الحبشة، و إرسال العساكر إلى أرض "الروم بني الأصفر"، وملكهم يومئذ "باهان بن سحور بن مدين بن روم بن سامك بن رومي بن عيص بن سامك بن رومي بن عيص، وهو الأصفر بن يعقوب" وذكروا انه غلب على أرض على الترك، وسار إلى التبت والصين وأرض الهند. فلما بلغ "نهاوند" و "دينور"، مات بها فدفنه ابنه "شمر" في ديار الغربة، وولي الملك بعده.
و رأيت قرائح أهل الأخبار إلا أن تضيف إلى "ناشر النعم" شعرا، فيه فخر وفيه حماسة، زعمت أنه قاله. وأضافت إلى ابنه شعرا، زعمت أنه قاله في رثاء أبيه. ولم تنس هذه القرائح أن تأتي بنماذج من كلامه العربي العذب، لترينا أنه كسائر ملوك اليمن يتكلم بلسان عربي مبين.

(1/1191)


--------------------------------------------------------------------------------

أما نحن، فلا نعلم شيئا من أمر هذه الفتوح و الغزوات، ولا من أمر هذا المنظوم أو المنثور. و إنما الذي نعرفه أنه كان يسمى "ياسر يهنعم"، لا "ناشر النعم" كما جعله الأخباريون، وأنه عاش في القرن الثالث للميلاد، وبينه وبين سليمان مئات من السنين، وأنه لا يمكن أن يكون قد خلف "بلقيس" معاصرة "سليمان" على حد زعم أهل الأخبار، ولا أن يكون قد انتزع الملك من "سليمان". ولا أن يكون صاحب فضل ونعمة على حمير، لأنه أنقذهم من حكم "سليمان". وكل ما في الأمر أن الاسم كان بالنسبة إلى أهل الأخبار غريبا، فصيروه "ناشر النعم"، وابتكروا له قصصا في تفسير معنى ذلك الاسم.
واذا كان حكم "ياسر يهنعم" في النصف الثاني من القرن الثالث للميلاد، فإنه يكون من المعاصرين لمملكة "تدمر"، وربما كان قد عاصر المملكة الشهيرة "الزباء"، و أدرك أيام سادات الحيرة اول مؤسسي أسرة لخم. وقد قدر بعض الباحثين في العربيات الجنوبية زمان حكم "ياسر يهنعم" بأوائل النصف الأول من القرن الثالث للميلاد، أي في حوالي سنة "201" أو "207" للميلاد فما بعدها.
ولا نعرف اسم والد "ياسر يهنعم" إذ لم يرد ذكره في النصوص. أما أهل الأخبار فقد عينوه وثبتوه على نحو ما ذكرت، وصيره "حمزة" "شراحيل"، - وهو على زعمه - عم "بلقيس" التي حكمت اليمن قبل عمها "ناشر النعم". وقد ذهب "فلبي" مستندا إلى دراسة بعض الفصول إلى احتمال كون "العذ نوفان يهصدق" الذي وضع اسمه قبل اسم. "ياسر يهنعم" والدا له.

(1/1192)


--------------------------------------------------------------------------------

و قد ورد اسم "ياسر يهنعم" في جملة نصوص، منها نص رقمه العلماء ب CIH 46، عثر عليه في موضع "يكرن" "يكاران"، "يكر" "يكار" أرخ بشهر "ذو المحجة" "ذو محجة" "بورخن ذ محجتن" "ذو الحجة" من سنة "385" من التأريخ الحميري الموافقة لسنة "270 م" من سني "مبحض بن ابحض" "مبحض بن أبحض". وقد جاء فيه اسم الإله "عثتر ذو جوفت" بعل "علم" و "بشر" " أي إله وسيد موضعي "علم" و "بشر"، واسم قبيلتي "مهأنف" و "شهر".
وقد تبين من الكتابات إن "ياسر يهنعم" كان قد حكم وحده في بادئ الأمر، لم يشاركه أحد في اللقب ولا في الحكم، ثم بدا له ما حمله على اشراك ابنه "شمر يهرعش" معه، بدليل ذكر اسمه من بعده، وبعده: "ملك سبأ وذي ريدان"، فصرنا نقرأ الكتابات المتأخرة المدونة في هذا العهد وبها اسم الملكين.
وورد اسم "ياسر يهنعم" وابنه "شمر يهرعش" في نص آخر مؤرخ كذلك، أرخ في شهر "مذران" "مذرن" سنة "316" من سني تقويم "نبط ال" "نبط ايل" دونه "فرعن يزل بن ذرنح" "فرعان يأزل بن ذرنح"، و "يعجف" رئيس قبيلتي "قشم" "قشمم" و "مضحيم" "مضحى"، وذلك عند بنائهما "ماجلهمو" "مأجل" صهريجين بخزنان فيهما المياه لإسقاء أرضين لهما مغروسة بالكروم، وكان ذلك في ايام سيديهما "ياسر يهنعم" وابنه "شمر يهرعش" ملكي "سبأ وذي ريدان". ولهذه المناسبة تيمنا يذكر اسمي الملكين.
وقد قدر "فلبي" مبدأ تقوم "نبط ايل" بسنة "40 ق. م."، فإذا أخذنا بهذا التقدير، يكون هذا النص قد دون حواقي حوالي سنة "276 ب. م.".
وأود إن ألفت نظر القارئ إلى إن أحد النصين قد أرخ ب "سني نبط" "نبط ال" "نبط ايل"، وأن النص الآخر قد أرخ بسني "مبحض بن أبحض"، كما عثر على نصين آخرين أرخا بسني "مبحض بن أبحض".

(1/1193)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذهب العلماء الى إن الناس كانوا يؤرخون في ذلك الزمان وفق تقويمين، أي تأريخين مبدأ أحدهما تقويم "نبط" "نبط ايل"، ومبدأ ثانيهما تقويم "مبحض بن أبحض". والفرق بين التقويمين خمسون سنة، أو خمس وسبعون سنة. وقد بقي الناس يؤرخون بهذين التقويمين أمدا، ثم مالوا إلى التوريخ بتقويم واحد، إلى أن أهمل أحدهما إهمالا تاما. ويرى "بيستن" أن التقويم الذي أهمل وترك، هو تقويم "نبط" "نبط ايل"، وأن الذي بقي مستعملا هو تقويم "مبحض بن أبحض".
ويرى "بيستن" أن الكتابات السبئية المتأخرة، قد أرخت وفق تقويم مبحض بن أبحض"، وإن لم تشر إلى الاسم، إذ أسقطته من الكتابات.
أما مبدأ هذا التقويم، فيقع فيما بين سنة "118" و "110 ق، م،". غير أن الناس لم يؤرخوا به عمليا وفي الكتابات إلا في القرن الثالث بعد الميلاد. أما، فيما قبل القرن الثالث للميلاد، فقد كانوا يؤرخون على عادتهم بتقاويم محلية مختلفة.
ويرى "ريكمنس" أن التواريخ التي أرخت بها النصوص المؤرخة في عهد "ياسر يهنعم" وفي عهد ابنه "شمر يهرعش" تختلف عن التقويم السبئي المألوف الذي يبدأ-على رأيه- بسنة "109 ق. م." وهي لذلك لا يمكن أن تثبت وفق هذا التقويم.
وقد حارب "ياسر يهنعم" الهمدانيين الذين تعانوا مع قبائل "ذي ريدان"، لمهاجمة "مأرب"، غير أنه باغت الهمدانيين في غرب "صنعاء" وتغلب عليهم.
وفي النص الموسوم ب CIH 353 خبر ثورة للحميريين على "ياسر يهنعم" وابنه "شمر يرعش" في "ضهر". وقد حاصر "ياسر" الحميريين. ويرى "فون وزمن" إن هذه الثورة حدثت في حوالي سنة "300 ب. م.". وقد عثر على كتابات في كل منطقة "ضهر"، وهي لا تبعد كثيرا عن "صنعاء". وفي هذه المنطقة خرائب "دورم"، كما عثر على كتابات في "ثقبان" بين "ضهر" و "صنعاء" .

(1/1194)


--------------------------------------------------------------------------------

أما الذي حارب "شمر يهرعش بن ياسر يهنعم"، كل من الحميريين، وذلك كما جاء في النص المتقدم، أي النص الموسوم ب CIH 353 ف "يرم ايمن" وأخيه "برج" "بارج". فيكون حكمها أذن في أيام "شمر يهرعش"، أي في القرن الثالث للميلاد. وهذا مما يشير إلى إن العلاقات بين الطرفين أي بين "سبأ" و "حمير"، كانت قد تعرضت لهزة عنيفة خطيرة حتى تحولت إلى حرب، أشير إليها في هذا النص.
ومن النصوص التي تعود إلى الدور الثاني من أدوار حكم "ياسر يهنعم" النص: Jamme 646، وصاحبه شخص اسمه "شرح سمد بن يثار" "شر حسمد بن يثأر" وآخر اسمه "الفنم" "الفن" "الفنان". وكانا من كبار الضباط في حكومة "ياسر يهنعم" وابنه "شمر يهرعش"، ومن درجة "مقتوى" وقد دونا نصهما حمدا وشكرا للإله "المقه" "بعل أوام"، لأنه مكنهما من الشخص الذي أراد إحراج "ذ حرجهو" مكانتهما وزعزعتها عند سيدهما "شمر يهرعش"، ولكن "المقه" من عليهما وشملهما بفضله ولطفه، فنصرهما عليه وأبطل خطته في إحراج مكانتهما "بحر جنهو"، عند سيدهما. وتعبيرا عن حمدهما وشكرهما له، وتقدما إلى الأله "المقه" بصنم "صلمن" وضعاه في معبد "اوام", ولكي يمن عليهما ويبعد عنهما أذى الأعداء وحسد الحاسدين.

(1/1195)

admin
12-27-2010, 01:01 AM
وورد اسم "ياسر يهنعم" واسم ابنه "شمر يهرعش في نص Jamme 647 وهو نص دونه ضابطان كبيران "مقتوى" من ضباط الملكين، لمناسبة ولادة مولود لهما "هو ولدم"، وقد شكرا فيه الإله "المقه" "بعل اوام" على هذه النعمة، وتوسلا إليه بأن يمن عليهما بأولاد آخرين، وبأن يرفع من مكانتهما عند سيديهما الملكين، وبأن ينصر جيشهما ويرفع مكانه قصر "سلحن" "سلحين" "سلحان" مقر الملوك مأرب ومن منزلة قصر "ريدان"، وتوسلا إليه بأن يبارك في كل ما قام به الملكان من أعمال، وبأن يبارك في كل مشروع وضعوه في خلال السنين السبع في أي مكان كان في مأرب أو في صنعاء أو في نشق أو نشان "نشن"، وفي كل مكان يجتمعون به في أرض البدع الخمس "بارضت خمس بدعتن"، أو في مواضع السقي "وسقين"، ولكي يحفظهما من كل بأس وأذى، وبأن يبعد عنهما حسد الحاسدين.
وورد اسمها في النص: Jamme 648، وهو مثل النص المتقدم حمد وشرك للإله "المقه" "بعل أوام"، لأنه حفظ صاحب النص وعافاه وأعطاه الصحة وبارك في حياته وفي حياة ابنه، ولكي يرفع من مكانته ومكانة ابنه، ويجعل لهما الحظوة عند الملكين، ويرضيهما عنهما. ولكي يبعد عنهما أذى كل مؤذ، وحسد كل شانئ حقود.

(1/1196)


--------------------------------------------------------------------------------

ول "شمر يهرعش" قصص ومقام لدى الأخباريين. له عندهم ذكر فاق ذكر والده بكثير. هو عندهم " تبع الأكبر الذي ذكره الله سبحانه في القرآن، لأنه لم يقم للعرب قائم قط أحفظ لهم منه ...فكان جميع العرب، بنو قحطان وبنو عدنان، شاكرين لأيامه. وكان أعقل من رأوه من الملوك وأعلاهم همة وأبعدهم غورا وأشدهم مكرا لم حارب، فضربت به العرب الأمثال..." إلى غير ذلك مما رتبه "وهب ب منبه" عنه. وكان على زعمهم معاصرا ل "قباذ ابن شهريار" الفارسي. ولما بلغه أن الصغد والكرد وأهل نهاوند ودينور هدموا قبر "ناشر النعم" وفرقوا رخامه وزجاجه وما كان فيه من جزع وغيره، غضب غضبا شديدا ونذر لله نذرا "ليرفعن ذلك القبر بجماجم الرجال حتى يعود جبلا منيفا شامخا كما كان". ثم سار بجيوشه وبأهل جزيرة العرب، فسار إلى أرمينية، فبلغ ذلك قباذ، فأمر الترك بالمسير إلى أرمينية، فسارت الترك تريد أرمينية فقاتلهم قتالا شديدا، ثم هزمهم فقتلهم قتلا ذريعا، ثم سار نحو المشرق فتغلب على قباذ، واستولى على الفرس، وأعاد بناء قبر أبيه. ثم هدم المدائن بدينور و "سنجار" بين نهاوند ودينور "فجميع الأرض التي خربها شمر يهرعش، سماها بنو فارس شمركند، أي شمر خرب باللسان الفارسي، فأعربته العرب بلسانها، فقالوا "سمر قند"، وهو اسمها اليوم"، ثم بسط سلطانه على الهند، وعين أحد أبناء ملوك الهند ملكا على الصين، ثم عاد فسار إلى مصر، ومنها إلى الحبشة، فاستولى عليها، وهرب الأحباش إلى غربي الأرض، إلى البحر المحيط، فتبعهم "مشر" حتى بلغ البحر، ثم رجع قافلا المشرق، فمر بمدينة "شداد بن عاد" على البحر، فأقام بها خمسة أحوال. ثم ذهب لزيارة قبر والده، ثم رجع إلى بلاده إلى "قصر غمدان"، فأقام فيه إلى إن توفي، وعمره ألف سنة وستون عاما، بعد أن ملك الأرض كلها. وزعم بعض أهل الأخبار انه هو الذي بنى الحيرة بالعراق.

(1/1197)


--------------------------------------------------------------------------------

وزعم "حمزة" إن والد "شمر" هو "إفريقيس"، وذكره على هذا النحو: "يرعش أبو كرب بن إفريقيس بن أبرهة بن الرايش، وانما سمى برعش لارتعاش كان به". وذكر إن رواة أخبار اليمن تفرط قي وصف آثاره، تم ذكر بعض ما ذكروه عنه، وذكر إن بعض، الرواة يزعمون انه كان في زمان "كشتاسب"، وان بعضا آخر يزعم انه كان قبله، وان "رستم بن دستان" قتله، وجعل ملكه سبعا وثلاثين سنه.
وقال الأخباريون إن "شمر يرعش" هو أول ملك أمر بصنعة الدروع المفاضة التي منها سواعدها وأكفها وهي الأبدان، وقد فرض على فارس ألف درع يؤدونها كل عام، وكان عامله عليهم "بلاس بن قباذ"، وجعل على الروم ألف درع، يؤدونها كل عام، وكان عامله على الروم "ماهان بن هرقل". وجعل على أهل بابل وعمان والبحرين ألف درع، وعاف أهل اليمن ألف درع. وجعلوا أهل "التبت" من بقايا قوم "شمر يرعش". وذكروا عنه قصصا أخرى من هذا القبيل. ولم ينسوا بالطبع حكمه وشعره، فذكروهما.
أما علمنا عنه، فيختلف عن علم أهل الأخبار عنه. وقد حصلنا على علمنا عنه من كتابات المسند من أيامه. وهي كلها خرس صامتة، ليس فيها شيء من أخبار تلك الفتوحات المزعومة والحروب الواسعة التي أشعلها "شمر" على زعمهم في جميع أنحاء الأرض، وليس فيها كذلك شيء، عن نقل حمير إلى "التبت" وإسكانه لهم في تلك الأرضين البعيدة، وليس فيها شيء ما عن قبر والده بدينور، ولاعن تهديمه لمدينة "سمر قند".
ونستطيع تقسيم كتابات المسند من أيام "شمر يهرعش" إلى قسمين: كتابات من أوائل أيام حكمه، أي الأيام التي حكم فيها بلقب "ملك سبأ وذي ريدان"، ولم يكن قد استولى بعد على حي حضرموت ويمنت، وكتابات من العهد الثاني من أيام حكمه، أي العهد الذي لقب فيه نفسه بلقب "ملك سبأ وذي ريدان ويمنت" حتى وفاته وانتقال الحكم إلى خليفته في الحكم.

(1/1198)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن كتابات الدور الأول، الكتابة التي وسمها العلماء ب Glaser 542، وقد سقطت اسطر منها. وهي على جانب كبير من الأهمية بالنسبة إلى من يريد الوقوف على تأريخ التشريع عند الجاهلين. ترينا قانونا سنه الملك لشعب سبأ، أهل "مأرب" وما والاها، في تنظيم البيوع بالمواشي والرقيق. فحدد المدة التي يعد فيها البيع تماما، وهي امد شهر، والمدة التي يجوز فيها رد المبيع إلى البائع، وهي بين عشرة أيام وعشرين يوما. كما بين حكم الحيوان الهالك في أثناء المدة التي يحق للمشتري فيها رد ما اشتراه إلى البائع، فحددها بسبعة أيام. فإن مضت هذه الأيام، وهلك الحيوان في حوزة المشتري وجب عليه دفع الثمن كاملا إلى البائع، ولا يحق له الاعتراض، عليه والاحتجاج بأن الحيوان قد هلك في أثناء مدة أجاز له القانون فيها فسخ عقد الشراء.

(1/1199)


--------------------------------------------------------------------------------

ويعد النص الموسوم CIH 407 من النصوص المهمة من الأيام الأولى من أيام حكم "شمر يهرعش". وهو يتحدث عن حرب قام بها جيش "شمر" في شمال غربي اليمن، امتدت رقعتها حتى بلغت اليم. شملت أرض "عسير" و"صبية" "صبا". بين وادي "بيش" ووادي "سهام". وهي أرض تهامة. قام بها ضد قبائل "سهرت" "سهرة" و "حكم" عك وغيرها. وصاحبه رجل اسمه "أبو كرب"، وهو في درجة "مقتوي" أي قائد في جيش شمر، وقد أبلى في هذه الحرب بلاء حسنا، فقتل ثلاثين من الأعداء، وقتل أسيرين، وغنم فيها كثيرا. فقدم من أجل ذلك إلى الإله "المقه ثهون بعل أوم" تمثالين من الذهب، وتمثالا من الفضة، لأنه من عليه فأنقده من مرض أصابه في مدينة "مأرب" مدة ثمانية أشهر، ولأنه من عليه في الحرب التي اشتعلت في "وادي ضمد"، وامتدت حتى موضع ال "عكوتين" "عكوتنهن" وساحل البحر. وقد انتصرت فيها جيوش "شمر" على جميع من قبائل تهامة عسير. ومن القبائل التي ورد اسمها في هذا النص: "ذسهرتم"، أي "ذو سهرت" "ذ سهرتن" "ذو سهرت" "ذو سهرة" "سهرة" "ساهرة" و "دوأت" و "صحرم" "صحار" "صحر" و "حرت" "حرة" و "عكم".
فيتبين من هذا النص أن الملك "شمر يهرعش" سير حملة عسكرية إلى جملة قبائل من قبائل عسير وتهامة حتى ساحل البحر، فانتصرت الحملة عليها، وتعقبت القبائل في البحر، وجرت معارك في وسطه، ونزلت بالمنهزمين، وهم على أمواج البحر، خسائر فادحة. وقد استدل بعض الباحثين من إشارة "أبي كرب" إلى الخسائر التي منى بها المنهزمون وهم في البحر، إلى أن أولئك المنهزمين كانوا من الحبش الذين كانوا يحكمون ساحل تهامة، وأن المعركة قد وقعت في البحر الأحر.

(1/1200)


--------------------------------------------------------------------------------

ويقع موضع "عكوتن" "العكوتان" شمال "وادي ضمد". وأما "صحار" "صحرم"، فيقيمون اليوم حوالي "صعده". وأما "سهرتم" "سهرة"، فقبيلة تقع منازلها في تهامة، وربما كانت منازلها من "وادي بيش" في الشمال إلى "وادي سردد" "وادي سردود" في الجنوب. وقد كانت هذه القبيلة على صلات قوية بالحبش في أيام "الشرح يحضب". وقد أدت فتوحات "شمر يهرعش" في هذه الأرضين التي بلغت سواحل البحر الأحمر إلى دخوله في نزاع مع الحبش الذين كانوا يحتلون مواضع من الساحل، ويؤيدون بعض القبائل لوجود أحلاف عقدوها معها.
و "عكم" "عك" من الأسماء المعروفة التي ترد في كتب أهل الأخبار. أما هنا، فانه اسم قبيلة.
والى هذا العهد أيضا تعود الكتابة: Jamme 649. وهي من الكتابات التي تتحدث عن حروب وقعت في أيام "شمر يهرعش". وقد دونها رجل اسمه "وفيم احر" "وفي أحبر" "وافي احبار"، وهو من "حبب" "حبيب" و "هينن" "هينان" و "ثارن" "ثأران" "ثئرآن"، وهم من "عمد" و "سارين" "سأريان" و "حولم". أقيال "اقول" عشائر "صروح" "صرواح" و "خولان حضلم" "خولان حضل" و "هينان". وكان "وفيم احبر" ضابطا كبيرا "مقتوى" عند "شمر يهرعش" "ملك سبأ وذو ريدان"، دونها لمناسبة تقديمه صنما "صلم" إلى الإله "المقه" "بعل أوام" لأنه نجاه وحفظه وأعانه في كل المعارك والمناوشات والغزوات "سبات" "سبأت"، التي خاضها لمعاونة "شوعن" سيده الملك، وذلك في "سهرتن ليت" "سهرتان ليت"، و "خيون" "خيوان" و "ضدحن" "ضدحان"، و "تنعم" و "نبعت" "نبعة"، ولأنه ساعده وقواه ومكنه من قبل خمسة محاربين في خلال هذه المعارك، أطار رؤوسهم بسيفه، ولأنه مكنه من أخذ أسير، ومن الحصول على غنائم كثيرة، ولأنه أنعم علما قبيلته بغنائم كثيرة حصلت عليها من هذه المعارك، وبأسرى جاءت بهم إلى مواطنها. ولأنه عاد معها سالما غانما معافى.

(1/1201)


--------------------------------------------------------------------------------

وأرض "سهرتن ليت"، هي جزء من أرض "سهرتن"، وتقع غرب "دوت" "دوات" "دوأة". ويسقيها "وادي ليت" "وادي لية". وأما "خيون" "خيوان"، فموضع يقع على وادي "خبش"، في المنطقة المهمة من "حاشد". وهو مدينة تقع في جنوب شرقي "جيزان"، وعلى مسافة "90" كيلومترا تقريبا جنوب شرقي صعدة، وحوالي "105" كيلومترات شمال "صنعاء".
وأما موضع "ضدحن" "ضدحان"، فانه وادي "ضدح" "الضدح" الذي يوازي "وادي أملح"، ويقع إلى الجنوب منه. وعلى مسافة "35" كيلومترا إلى جنوب شرقي "الاخدود". وأما موضع "نبعت" "نبعة"، فانه "نبعه"، وهو تلال تقع بين وادي "حبونت" "حبونة" ووادي "ثار" "ثأر". وقد يكون موضع "نبعة" المكان الذي يسمى اليوم "مجونة" الذي يقع على مسافة "25" كيلومترا شمال شرقي "بئر سلوى" وعلى مسافة "63" كيلومترا من شمال غربي "الأخدود". واذا كان هذا الرأي الأخير صحيحا، صار موضع "تنعم"، فيما بين "صندحان" و "نبعت" "نبعة". وتحدث النص عن معارك أخرى، وقعت بعد المعارك المقدمة، وقد اشترك فيها مدون النص. اذ يذكر "وفيم أحبر"، انه قاتل وأعان سيده "شمر يهرعش وذلك في وادي "ضمدم" "ضمد"، وانه ذهب مع سرية لاستطلاع الأخبار عن قبيلة "حرت" "حرة"، وقد قتل خمسة محاربين من محاربي العدو، قطع رؤوسهم، وقد كان ذلك أمام سريته، مما ترك أثرا مهما فيهم. ثم يذكر انه أصيب في هذه المعارك بخمسة جروح، أصابت وركيه وقدميه وفرسه "ندف". وقد خشي من إن يؤدي الجرح الذي أصاب قدميه إلى قطهما، وخشي على فرسه كذلك من إن تنفق من الجرح الذي أصابها، غير إن الإله "المقه" لطف به، فشاه وعافاه، وشفى فرسه وأعاده مع قبيلته التي حاربت معه، إلى موطنه، غانما محلا مع عشيرته بالغنائم وبالأموال التي استلبوها من أعدائهم، وبعدد من الأسرى.

(1/1202)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد قائل "وفيم أحبر"، مرة أخرى في وادي "حرب" "حريب"، على مقربة من "قريتهن" "قريتهان" "القريتان"، ثم جاء إليه أمر سيده الملك "شمر يهرعش"، بأن يتجه على رأس قوة تتألف من "170" محاربا من المشاة من عشيرتيه "صرواح" و "خولان"، ومن ستة فرسان وذلك لمهاجمة عشائر "عكم" "عك" و "سهرت" "سهرة" ولا نزال ضربة قاصمة بها، فاتجه نحوها، والتقى بها عند "عقبت ذر جزجن" "عقبة ذر جزجان"، وألحق بمها خسائر، حاربها من وقت شروق الشمس، وطول النهار وحين اشتدت حرارة الشمس إلى وقت الغروب، وكل الليل حتى طلع "كوكبن ذ صبحن"، كوكب الصبح، فاضطرت إلى الهروب، وعندئذ أدار وجهه نحو فلولها، فقتل منها، وقد ذبح محاربا واحدا أمام المحاربين، وأخذ أسيرين. وكان عدد من قتل من الأعداء عند المعركة "كقبت ذر جزجن" "عقبة ذر جزجان" مائة وعشرة محاربين، وعدد من وقع في الأسر من المحاربين "46" أسيرا محاربا، وعدد من سبي "2400" سبي، وغنم من الإبل "316" بعيرا، عدا عن الماشية الأخرى التي نهبت وأخذت.

(1/1203)


--------------------------------------------------------------------------------

والى هذا العهد أيضا يعود النص: Jamme 650. وصاحبه شخص اسمه "بهل اسعد" "باهل أسعد" من عشيرة "جرت" "جرة" ومن عشيرة "بدش" أقيال "اقول" عشيرة "ذمرى هوتن" "ذمرى هوتان"، التي تكون ربع قبيلة "سمهرم" "سمهر". وكان ضابطا كبيرا بدرجة "مقتوي" عنه الملك "شمر يهرعش" "ملك سبأ وذي ريدان". وقد سجله لمناسبة إهدائه معبد "أوام" " وهو معبد الإله "المقه" "بعل اوام"، صنما، من العشر "ابن عشر يعشرن" الذي يعشر من كل زرع ليكون نصيب الإله "المقه ثهوان". أخذه من حاصل زرع الصيف "قيظن" ومن ثمار الجنينات أو الجني "جنين"، وجعله قربة له، لكي يمن عليه بالنعم، ويبارك فيه وفي أمواله وفي سيده الملك، ولأنه أسعده وحفظه في تهل المناوشات والحروب والغزوات "بكل سبات وحريب سباو" التي خاضها، ولأنه عاون "شوعن" سيده الملك، في المعارك وفي القتال وفي المناوشات التي وقعت بين قوات الملك التي اشترك هو فيها وبين قبيلة "سهرتن" "سهرتان"، والتي انتهت بانتصار "سبأ وذو ريدان"، وعاد الجيش منها محملا بالغنائم وبالأسلاب وبالماشية التي انتزعت من الأعداء وبالأسرى. وليمن عليه في المستقبل فيعطيه ذرية طيبة "هنام" "هنأم" هنيئة من أولاد ذكور، وليرعاه ويحفظه ويقيه في المعارك التي سيخوضها من أجل سيده الملك.
فيظهر من هذا النص إن "بهل أسعد"، كان يتحدث عن المعارك والمناوشات التي وقعت في أرض "سهرتن" "سهرتان" "سهرة"، بين الملك "شمر يهرعش" وبين رجال قبيلة "سهرتن" العاصية التي مهر اسمها مرارا فيما سبق في عداد القبائل الثائرة المحاربة لحكومة سبأ، والتي كانت قد منيت بخسائر كبيرة ومع ذلك فإنها لم تترك عداءها لملوك مأرب.

(1/1204)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي النص: Jamme 651 أخبار مهمة سجلها لنا رجل اسمه "عبدعم" من "مذرحم" "مذرح"، ومن "ثفين" "ثفيان"، وكان من كبار ضباط "مقتوي" جيش الملك "شمر يهرعش". وقد ذكر انه أهدى معبد "أوام" صنما "صلمن"، وهو معبد الإله "المقه" لأنه من عليه وشمله بلطفه وفضله، اذ أعانه وأعان من كان معه من رجال عشيرته "شعبهو" ومن أتباعه ومحاربيه الذين كانوا معه ومن انضم إليه من أهل البيوتات ومن سواد الناس "محقر" "حقراء"، من ابناء البيتين المتصاهرين: "همدان" و "بتع" اذ أمره سيده الملك، بأن يذهب بهم، إلى "مأرب" "مريب"، ليحميها ويقيها من الأمطار التي ستتساقط في اليوم التاسع من يوم موسم سقوط المطر المعهود "وذنم ذنم بيوم تسعم عهدتن"، وفي أوائل أيام الشهر، وفي أيام الموسم الثاني من سقوط المطر، وقد آمره الملك بأن يقوم بهذا الواجب، حتى شهر "أبهى".
وقد حمد صاحب النص إلهه "المقه" لأنه وحد بن البيتين: بيت "همدان" وبيت "بتع"، ولأنه أعانه في القيام بعمله الذي كلف به، فكافح وهو على رأس جيش "خمس" "خميس" سبأ ومن كان معه لبناء سور وحصون "مأرب" وفي إقامة حواجز وموانع وسدود لتحويل بين السيول وبين اكتساحها المدينة، وفي إنشاء مباني وأحواض "مضرفن" في جهة "طمحنين" "طمحنيان"، حتى تمكن من إنجاز كل ما كلف به، دون إن يخسر جنديا واحدا من الجنود الشجعان الذين كانوا من جنود "كبر رحلم" كبير "رحلم" "رحال"، فأرضى بذلك سيده الملك وشرح صدره.
وتوسل بعد ذلك إلى الإله "المقه" لكي يقيه من كل "باس" "بأس"، أي من كل أذى وشر، ولكي يرفع من منزلته وينال الرضى والحظوة عند سيده الملك. ويمنحه غلة وافرة وأثمارا كثيرة من أثمار الصيف والخريف في كل مزارعه وتوسل إليه أيضا بأن يبعج عنه كل نكايات "نكين" الأعداء.

(1/1205)


--------------------------------------------------------------------------------

ويشير هذا النص إلى سقوط أمطار غزيرة في ذلك الموسم، هددت مدينة "مأرب"، فأمر الملك الشخص المذكور بأن يقوم على رأس قوة من جيش سبأ ومن كبار "همدان" و "آل بتع"، بتقوية سور مأرب وتحصينه وحمايته من مداهمة السيول له، وبإنشاء سدود وموانع لمنع الأمواج العاتية من اكتساح مأرب والأماكن الأخرى. وذلك بمن جمعهم من الناس من سوادهم ومن ساداتهم، للقيام بهذه الأعمال. ولمنع المسخرين الذين سخروا من الفرار، وقد وضع الملك جيشا تحت تصرف هذا القائد، في جملته مفرزة من جنود الكبير "كبر رحلم" "كبير رحلم" "رحال".
وسجل شقيقان كانا من "حظرم عمرت" "حظرم عمرة"، ومن ضباط "مقتوي" الملك "شمر يهرعش" حمدهما فشكرهما في كتابتهما التي وسمها الباحثون ب Jamme 652، للإله "المقه" لأنه من على سيدهما بالعافية وبالبركة وأوفى له ما أراد، ولأنه رفع حظوتهما عنده وزاد في رضاه عنهما. وليرعاهما ويحفظهما في أيام الحروب وفي أيام السلم، ويقيهما أذى الأشرار وحسد الحساد، ولكي يعاونهما ويشد الإله أزرهما في إرضاء سيدهما، ويبارك في قصره، أي قصر الملك: "سلحن" "سلحين" "سلحان".
ويحدثنا النص: Jamme 653 بحمد "سباكهلن"، أي "سبأكهلان" لربهم "المقه" وشكرهم له، لأفضله وإنعامه عليهم، بأن استجاب لدعائهم، فأمطرهم بوابل من رحمته، وأنزل الغيث عليهم وذلك مع برق "برق خرف" الخريف، أي موسم أمطار الخريف، الذي تساقط عليهم سنة "تبعكرب بن ودال" "تبعكرب بن ودايل" من "حزفرم" "آل حزفر" الثالث. وقد استبشروا به وشروا. وسألوا ربهم "المقه" وذلك في اليوم الرابع من ذي "فقهى"، شهر ذي "مليت" الذي هو من أشهر الخريف "ذ منذ خرفن"، بأن ينزل عليهم غيثا يسقي أوديتهم ويكفي زرعهم، غيثا يرضيهم ويسرهم ويثلج صدورهم، وبأن يغال أهل "سبأكهلان" رضى سيدهم "شمر يهرعش" ويرفع من حظوتهم "حظى"عنده.

(1/1206)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد كتب النص المذكور بمدينة "مأرب" " قبل ثلاث سنوات من الكتابة المرقمة CIH 314+954، التي يخلد فيها "الشرح يحضب الثاني" وأخوه "يأزل بين" "يازل بين" "يزل بين" انتصارهما على السبئيين وطردهما "شمر يهرعش" من مأرب.
وذكر جماعة من "عقبم" "عقب" "عاقب" "عقاب"، بأنهم أهدوا معبد "أوام" صنما "صلمن"، وذلك حمدا للرب "المقه" وشكرا له لأنه رزقهم ولدا ذكرا، ولكي يرزقهم أولادا ذكورا، ولكي يبارك فيهم وفي أموالهم ويرضي سيدهم "شمر يهرعش" عنهم ويرفع من منزلتهم وحظوتهم عنده، ولكي يبارك في زرعهم ويعطيهم غلة وافرة وحصادا جيدا.
ويذكر "شرح ودم" "شرحودم" "شرح ود"، و "رشدم" "رشيدم" "راشد" "رشيد"، وهو بدرجة "وزع" "وازع"، أي سيد قبيلة "ماذن" "مأذن"، انهما قدما صنما إلى الإله "المقه ثهوان"، لأنه أوحى إلى قلبهما بأنه سيمنحه ولدا "رشدم" ولذا يسميه "ودا" وذلك من زوجته "اثتهر" "حلحلك". وانه سيعطيه مولودا غلاما "غلمم"، عليه إن يسميه "مرس عم" "مرسعم"، وانه سيرزق عبده "شرح ودم" و لدا ذكورا، وانه سيمنحهما غلة وافرة وحصادا جيدا، وانه سيرفع من مكانتهما عند سيدهما الملك، وسيبارك في زرعهما وفي زرع قبيلتهما، وذلك في موسمي الصيف والخريف.
وفي النصف الثاني من سني حكمه، تلقب "شمر يهرعش الثالث"، أي "شمر يهرعش" الذي نبحث فيه الآن بلقب "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت". وتدل هذه الإضافة الجديدة إلى اللقب، على استيلاء "شمر يهرعش" على حضرموت، أو على جزء كبير منها، أما "يمنت" فيرى "فون وزمن" إن المراد بها الأرضون التي تكون القسم الجنوبي من مملكة "حضرموت". ويستدل على رأيه هذا بوجود عاصمتين لحضرموت، هما: "شبوة" و "ميفعة"، مما يدل على انقسام الملكة إلى قسمين: قسم شمالي يدعى حضرموت، وقسم جنوبي يعرف ب "يمنت" "يمنات" اليمن.

(1/1207)


--------------------------------------------------------------------------------

ويقع النصف الثاني من حكم "شمر يهرعش" في رأي "فون وزمن"، ما بين "285 ب. م." أو "291 ب. م." أو "310 ب. م." أو "316 ب.م." وبمعنى هذا في رأيه أن "شمر" كان يعاصر "امرأ القيس بن عمرو" المذكور في نص النمارة المتوفي سنة "328 م" والذي حارب وأخضع قبائل عديدة، منها مذحج ومعد وأسد "اسدين" ونزار "نزرو"، ووصل إلى "نجران" عاصمة "شمر"6. وقد يعني ذلك أن حروبا نشبت بين الملكين.
ولم يشر نص "النمارة" إلى بقية اسم "شمر"، لنعرف من كان ذلك الملك الذي كان يحكم ذلك الزمان، والذي كانت مدينة "نجران" مدينته اذ ذاك. ويظهر من هذا النص أن قتالا نشب بين قوات "امرئ القيس" و "شمر" صاحب نجران، وأن النص كان لامرئ القيس.
وإذا كان ما ذهب إليه "فون وزمن" صحيحا من معاصرة "امرئ القيس" ل "شمر يهرعش"، فإن هذا يعني أن جزيرة العرب كانت في ذلك الزمن أي في أوائل القرن الرابع للميلاد، ميدانا للتسابق بين رجلين قويين: "شمر يهرعش" وهو من العربية الجنوبية، و "امرئ القيس" وهو من الشمال، وأن العرب كانوا قد انقسموا إلى حزبين: عرب شماليين وعرب جنوبيين، وأن "امرأ القيس" كان قد توغل في جزيرة العرب حتى بلغ "نجران" وأعالي العربية الجنوبية، وأخضع القبائل المذكورة لحكمه. وهي قبائل يرجع النسابون نسب أكثرها إلى "عدنان"، وفي جملتها "الاسدين" أي "أسد" و "نزار" "نزرو". هذا، وأن وصول "امرئ القيس" إلى نجران، وإخضاعه للأعراب وقبائل عدنانية يقيم بعضها على سدود العربية الجنوبية الشمالية، جعله أمام "شمر يهرعش"، ووضع مثل هذا لا بد من أن يثير نزاعا وخصومة بين الرجلين.

(1/1208)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا يستبعد اصطدام "امرئ القيس" ب "شمر يهرعش"، أو بأي ملك آخر ملك "نجران" " ما دام ذلك الملك قد حكم قبائل "معي" النازلة في الحجاز وفي نجد والتي تتصل منازلها بحدود نجران. وقد خضغت "معد" لحكم ملوك الحيرة، كالذي يظهر من نص كتاب "شمعون" الذي هو من "بيت أرشام" Simeon of Beth Arsham، حيث ذكر "طيايا حنبا "حنفا" ومعدايا" في معسكر "المنذر" الثالث ملك الحيرة. و "طيايا" هم الأعراب الشماليون و "معدايا" هم "معد". وكما يفهم أيضا من نص "مريغان".
ويرى بعض الباحثين إن "مرالقس بن عمرم ملك خصصتن" الذي ورد اسمه في النص: Ryckmans 535 الذي سبق إن تحدثت عنه في إثناء كلامي على "الشرح يحضب"، وأخيه "يازل بين"، هو "امرؤ القبس" البدء، ملك الحيرة. ويرى أيضا إن "شمر ذي ريدان" المذكور في النص أيضا، هو "شمر يهرعش". وبناء على ذلك يكون "مالك" ملك "كدت" كندة من المعاصرين لامرئ القيس ولشمر يهرعش أيضا.

(1/1209)

admin
12-27-2010, 01:02 AM
أننا لا نملك أي نص يشير إشارة صريحة إلى حدوث قتال بين "شمر يهرعش" و "امرئ القيس". غير إن لدينا نصا هو النص المعروف ب Jamme 658، يرى بعض الباحثين إن فيه تلميحا إلى إن الحرب المذكورة فيه، هي حرب نشبت بين قوات الرجلين، وان القائد المذكور فيه، أعني القائد "نشدال" "نشي ايل"، هو قائد عربي شمالي "ويحتمل على رأيهم إن يكون قائدا من قواد جيش "امرئ القيس". ويظهر من النص إن قوات "شمر يهرعش" كانت قد تجمعت في مدينة "صعدتم". أي مدينة "صعدة" في "خولان" العالية، أي الشمالية "خولان اجددن"، ثم تقدمت منها نحو الشمال الغربي إلى حدود "خولان" القديمة في "وادي دفاء"، حيت حاربت القبائل المجاورة قبائل "شنحن" "شنحان" الساكنة في الغرب، ثم نزلت من مساكنها إلى ارض "سهرتن" "سهرتان" ثم اجتازت هذه الأرض إلى وادي "بيش"، وهي الحدود القديمة للعربية الجنوبية " ثم تقدمت منها نحو الشمال إلى "وادي عتود" الذي يقع في الأرض المسماة ب Kinaidokoltitai عند الكلاسيكيين. وفي هذه الأرض اصطدمت قوات "شمر" بقوات "نشد ايل" القائد المذكور.
ويظهر من نص عثر عليه منذ عهد غير بعيد أن قائدا من قواد "شمر" كان قد قاد أعرابا غزا بهم ملك "أسد"، وأرض "تنخ" "تنوخ" التي تخص "الفرس" "فرس"، أي "فارسا". وذلك. أن أرض "تنخ" "تنوخ"، كانت تحت حكم مملكتين، يقال لإحداهما "قطو"، وللأخرى "كوك" أو "كوكب"، وقد أنزل أعراب "شمر" بهما خسائر فادحة. ثم عاد ذلك القائد بعد نجاحه في غزوه هذا صحيحا معافي إلى نجران، حيث قدم إلى الآلهة، شكره، وسجل ذلك في النص المذكور.

(1/1210)


--------------------------------------------------------------------------------

وقصد القائد بأرض "تنخ" أرض الأحساء في الزمن الحاضر، وكانت منزل قبائل "تنوخ" في ذلك الزمن. وقصد ب "قطو" "قظوف" "القطيف"، Qtw'f وفي إشارة القائد إلى مهاجمة تلك الأرضين، أي أرض تنوخ، التي كانت تحت سيادة "فرس"، أي الفرس الساسانيين، تأييد لروايات الأخباريين التي تذكر أن "شمر يهرعش" "شمر يرعش" غزا أرض الفرش.
هذا ولا بد من أن يكون "شمر" قد كان على اتفاق تام مع أعراب نجد، ولا سيما سادة "كدتم" "كدت"، أي كندة في ذلك الزمن، إذ كان من العسير عليه غزو الأحساء وساحل الخليج، لو لم يكن على صلات بهم حسنة. وقد كان هؤلاء الأعراب ينزلون فيما يسمى الأفلاج والخروج في الزمن الحاضر. وتعد الأفلاج من مواطن "كدت" كندة منذ زمن "شعرم أوتر" "شعر أوتر" في حوالي السنة "180 م"، وقد عبر عنهم ب "ذال ثور" أي "ذي آل ثور" في النص Jamme 635 و كذلك في زمن "الشرح يحضب لثاني" في أثناء حكمه مع "يأزل"، أي في حوالي السنة "210 ب. م.". وربما قبل ذلك أيضا حيث نجد في تاريخ "بلينيوس" ما يشي إليهم، إذ ورد في تأريخه: Dae Aiathuri of Aunuscabales، ويكمن تفسيرها ب "ذي آل ثور في عين الجبل". و "آل ثور" هم كندة، وقد عرفوا بهذا النسب عند أهل الأخبار.
والنص المذكور، هو نص وسمه العلماء ب "شرف الدين 42". وقد ورد فيه أن الملك "شمر يهرعش" أمر قواته بغزو أرض "ملك" "مالك" ملك "أسد" "ملك اسد". فتقدمت نحوها، واتجهت منها نحو أرض "قطوف"، أي القطيف، حتى بلغت موضع "كوكبن" "كوكبان" "كوكب" ثم "ملك فارس وأرض تنخ" "ملك الفرس" أي "الأرض التابعة للفرس" وأرضى تنوخ. وقد دون النص قائدان من قواد "شمر يهرعش"، كانا من "ريمن ذ حزفرم"، أي من "ريمان ذوي حزفر"، ومن "عنن" "عنان". وذلك بعد عودتهما سالمن غانمين من ذلك الغزو.

(1/1211)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد كانت "مذحج" تنزل في الأفلاج او حولها وفي المنطقة المسماة ب "جبل طويق" في الزمن الحاضر. والظاهر إن غزو "امرئ القيس" لنجد قد اضطر اكثر قبائل "مذحج" إلى الهمجرة نحو الجنوب. وكانت حسنة الصلات ب "كدت" اي كندة، التي اضطرت أيضا إلى الهجرة إلى الجنوب. ولهذا انضمتا إلى جيوش "شمر يهرعش"، والى جيوش من جاء بعده من الملوك. وقد أشر إليهما في الكتابات ب "كدت ومذحجم". وقد أدت هجرة كندة ومذحج وبقية أعراب نجد إلى الجنوب نتيجة لغزو العرب الشماليين لهم إلى استيطان قسم كبير منهم في العربية الجنوبية، ودخولهم في جيوش ملوك حمير، وذلك لتهديد أعدائهم بهم، اذ كانوا أعرابا أشداء، يحبون الغزو والقتال، حتى صاروا قوة رادعة مخيفة، ولهذا السبب أدخل اسمهم في لقب الملوك كما سترى فيما بعد.
ومن جملة القواد الذين تولوا قيادة الأعراب، أو الكتائب الخاصة التي ألفها التبابعة مهنهم، قائد اسمه "وهب اوم" "وهب أوام"، وكان من قادة "شمر يهرعش"، وقائد اسمه "سعد تالب يتلف" "سعد تألب يتلف"، وكان في أيام "ياسر يهنعم الثالث" وابنه "ذرأ أمر" وذلك على رأي "فون وزمن".
أننا لا نعرف حتى الآن كيف استولى "شمر يهرعش" على حضرموت، وكيف ضمها إلى سبأ، اذ لم نتمكن من الظفر بكتابة فيها حديث عن كيفية قضاء "شمر" على استقلال تلك المملكة. وعلمنا بضم حضرموت إلى سبأ، مقتبس من اللقب الجديد الذي لقب "شمر" به نفسه على نحو ما ذكرت.
وقد رأى بعض الباحثين إن سقوط "شبوة" وتدميرهما في قبضة قوات "شمر" كان في القرن الرابع للميلاد وقبل استيلاء الحبش على العربية الجنوبية بزمن قصر.

(1/1212)


--------------------------------------------------------------------------------

ذهب "ريكمنس" إلى إن الحبش احتلوا العربية الجنوبية حوالي السنة "335" بعد الميلاد، ودام احتلالهم هذا لها إلى حوالي السنة "370 م"، ولم يذكر من حكم بعد "شمر يهرعش"، غير انه وضع "ملكيكرب يهأمن" في نهاية احتلال الحبش لليمن، أي بعد سنة "370 م"، ووضع لفظة "حسن" في قوس قبل "ملكيكرب يهأمن" ثم ذكر بعد "أب كرب أسعد" "ذرأ أمر أيمن".
وفي النص Jamme 656 خبر حرب وقعت بين "شمر يهرعش" وحضرموت. وقد لقب "شمر يهرعش" فيه بلقبه الجديد: "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت" وذكر أن حضرموت كانت اذ ذاك تحت حكم ملكين اسم أحدهما: "شرح ال" "شرح ايل" "شرحئيل"، واسم الآخر "رب شمس" "ربشمس" "رب شمسم". وزعم أن الملكين المذكورين هما اللذان أعلنا "هشتا" الحرب على الملك "شمر يهرعش"، غير أن النص لم يتحدث، كعادة النصوص إلى الأسباب التي حملت الملكين على إعلان تلك الحرب. وقد ذكر أن عاقبتها كانت سيئة بالنسبة لحضرموت، إذ خسرت فيها، وان الحرب كانت قد وقعت في "سررن" "سرران"، وأن أصحاب النص وكانوا من "سبا كهلن" "لسبأكهلان"،عادوا مع عشيرتهم من تلك الحرب سالمين غانمين. وقد قدموا عشر حاصل غلتهم من زرع أرضهم ب "رحبتن" "رحابتان" "رحبتان"، للإله "المقه" ليبارك فيهم ويديم نعمه عليهم ويزيد مكانتهم عند سيدهم "شمر يهرعش، ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت" ولكي يعطيهم غلة وافرة وحصادا طيبا هنيئا.
وقد شهد أصحاب هذا النص المعركة أو المعارك التي جرت في وادي "سررن" السر، وهو واد يقع على مسافة سبعة كيلومترات من مدينة شبام، ويعرف ب "وادي سر" "وادي السر". ولم يتحدثوا عن معارك أخرى. مما يدل على أنهم لم يشتركوا في غير هذه المعركة، وأنهم عادوا بعدها قبيلتهم التي ساهما في القتال إلى مواطنهم.

(1/1213)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي النص: Jamme 662 خبر مهم له علاقة وصلة بالنص السابق وبالعلاقات فيما بين سبأ وحضرموت في هذا العهد. خبر يفيد أن "شبوت" "شبوة" كانت في أيدي السبئيين في هذا العهد، وأن الملك "شمر يهرعش" "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت"، كان قد عين "يعمر اشوع" "يعمر أشوع"، وهو سيد "وزع" من سادات "سبأ"، على مدينة "شوة"، عينه عليها لحمايتها وللمحافظة على الأمن فيها، وقد ذهب إليها ومعه قوم من "سبأ". وقد سر "يعمر أشوع" بالطبع بهذا التعيين وشكر ربه "المقه" على هذا التوفيق العظيم الذي حصل عليه بفضله.
فيظهر من هذا النص إن "شبوة" وهي عاصمة حضرموت، كانت في أيدي "شمر يهرعش"، قبل اختيار "يعمر أشوع" ليكون حاكما عليها، ومعنى هذا إن جزءا من حضرموت كانت قد أصبح في جملة أملاك سبأ، وهذا ما حمل "شمر يهرعش" على إلحاق جملة "وحضرموت ويمنت" إلى لقبه السابق، وهو "ملك سبأ وذو ريدان". غير إن السبئيين لم يكونوا قد استولوا على كل مملكة حضرموت، بدليل ما ورد في النص السابق من وجود ملكين كانا يحكمان حضرموت وهما: "شرح ايل" و "ربشمس" "رب شمس". ويظهر إن "شرح ايل" هذأ هو الملك "شرح ايل" "شرحئيل" المذكور في النص CIH 948. أما الملك "ربشمس"، هذا فهو ملك آخر لا صلة له ب "ربشمس" الذي هو ابن الملك "يدع ايل بين" ملك حضرموت ووالد ملك آخر اسمه "يدع ايل بين" كذلك.

(1/1214)


--------------------------------------------------------------------------------

ويتبين من النص: CIH 948-وهو نص فيه أمور غامضة غير مفهومة، وعبارات غير واضحة، أمر الملك "شمر يهرعش" نفسه بتدوينه-إن الملك المذكور حارب الملك "شرح ال" "شرحئيل" "شراحيل" "شرح ايل" ملك حضرموت، وانه انتصر عليه انتصارا كاسحا. ويظهر إن الملك "شمر يهرعش" اضطر إلى قيادة حكمة جديدة على حضرموت، لأن الحظارمة انتهزوا فرصة عودة الملك "شمر يهرعش" إلى سبأ، وعودة معظم جيشه معه، سوى الحاميات التي. تركها في بعض المدن والمواضع مثل "شبوة" التي مر ذكرها، فثاروا على السبئيين، ثاروا بقيادة الملك "شرح ايل الذي مر ذكره، مما حمل الملك "شمر يهرعش" على الإسراع بالاتجاه نحو حضرموت للقضاء على الثورة. ويظهر من هذا النص ومن النصوص الأخرى إن الحظارمة وإن اندحروا وأصيبوا بهزائم في هذه المعارك الا انهم لم يتركوا النضال في سبيل الاستقلال وفي سبيل التخلص من حكم سبأ، وان ما تذكره النصوص السبئية من أخبار الهزائم الفادحة والانتصارات الباهرة هي من قبيل المبالغات في غالب الأحيان.
ويلاحظ أن النص المذكور، قد أغفل اسم الملك الثاني "ربشمس" "رب شمس" الذي كان يشارك "شرح ايل" في حكم حضرموت. ولا ندري بالطبع سر إغفال اسمه. كما يلاحظ أيضا أنه سمي الملك ب "شمر يهرعش"، بدلا من "شمر يهرعش" كما يرد في كل النصوص الباقية. ويلاحظ أن الأخباريين لا يسمون هذا الملك الا ب "شمر يرعش".

(1/1215)


--------------------------------------------------------------------------------

وبعد أن عاد الملك "شمر يهرعش" من حملته على وادي حضرموت، عاد فقاد حملة أخرى على أرض "ارض خولان الددن" "أرض خولن الددن"، "خولان الدودان". وقد كلف الملك أحد قواده بأن يعسكر في مدينة "صعدة" "بهجرن صعدتم"، ويضع بها حامية. ثم يقوم بقطع الطريق على بعض فلول "خولان الدودان"، وقد نفذ القائد ما طلب منه، فتعقب تلك الفلول. ولما أنهى الملك الحرب التي قام بها في أرض "خولان الدودان" حارب جيشه فلول "سنحن" "سنحان" في وادي "دفا". وقد من الإله "المقه" عليه، فأعطاه غنائم وأسرى وسبايا واموالا طائلة، أرضته وشرحت صدره.
وعاد الملك "شمر يهرعش" فأصدر أمره بوجوب الزحف على "سهرتن" "سهرتان" و "حرتن" "حرتان"، أي أرض قبيلة "حرت" "حرة". وهي أرض ورد اسمها قبلا، حيث بلغ للملك إن زحف عليها، وذلك قبل استيلائه على حضرموت. ولما انتهت القوات من مقاتلة "سهرتن" و "حرتن"، اتجهت نحو الشمال لمحاربة فلول "نشدال" "نشد ايل" في وادي "عتود"،الذي يصب في البحر الأحمر، والذي يقع على مسافة "85" كيلومترا إلى الشمال الغربي من "جيزان". وتقع مدينة "جيزان" حوالي ثمانية كيلومترات إلى الشمال الشرقي من مصبه في البحر.
ويتحدث نص Jamme 660، عن غارة قام بها رحل اسمه "حرثن بن كعبم" "الحارث بن كعب"، ورجل آخر اسمه "سددم بن عمرم" "سداد بن عمرو "سدد بن عمر"، وكانا "جرينهن"، وقد تعني اللفظة منزلة من المنازل الاجتماعية، ومعها محاربان من محاربيهم هما: "نخعن" "النخع" "نخعان" و "جرم"، على "ذخزفن" بمدينة مأرب "هجرن مرب"، فحققوا ما أرادوا ثم خرجوا من "مأرب" ومعهم "يعمر" سيد "وزع" سبأ. فأمر الملك "شمر يهرعش" أحد رجاله واسمه "وهب اوم" "وهب اوام"، بأن يقتفي آثار الجناة ويقبض عليهم. فخرج إليهم وتعقبهم وقبض عليهم، وجاء بهم إلى الملك حيث عرضهم عليه في قصره "سلحن" "سلحين" "سلحان" بمدينة مأرب.

(1/1216)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان "وهب اوم"، الذي تعقب الجناة وقبض عليهم، من كبار الموظفين قي حكومة "شمر يهرعش"، وكان بدرجة "كبر" أي "كبير" وهي درجة رفيعة في الحكومة تعني إن صاحبها موظف من أكبر الموظفين في الدولة، وان الملك عينه ممثلا عنه لإدارة المقاطعات. وقد وضعت تحت تصرف هذا الكبير إدارة ثماني مقاطعات وقبائل هي: "حضرموت" و "كدت" "كندة" و "مذحجم" "مذحج" و "بهلم" "باهل" و "حدان" "حدأن" و "رضوم" "رضو" و "اظلم" "أظلم" و "امرم" "أمرم". والأسماء الأولى هي أسماء قبائل معروفة. معروفة عند أهل الأخبار كذلك. ولا يزال بعضها معروفا حتى اليوم.
وشخص تناط به إدارة هذه القبائل والأرضين، لا بد وان يكون من الموظفين الأكفاء في عهد "شمر يهرعش". ويظهر من تسلسل أسماء المواضع والقبائل إنها كانت متجاورة يتاخم بعضها بعضا. اذ لا يعقل إدارة شخص في ذلك الوقت مقاطعات مترقة وقبائل متباعدة من الوجهة الإدارية.
ويشير هذا النص إلى نوع من التنظيم الإداري الذي كان في حكومة سبأ في أيام هذا الملك.
ويعد النص: Jamme 657 من النصوص التي تعود إلى هذا العهد أيضا. وهو نص دونه شخص من "مرحبم" أي "مرحب"، لمناسبة تقديمه ثلاثة أصنام إلى ربه "المقه ثهوان"، لأنه أجاب طلبة ومن عليه بتحقيقه كل ما سأله من رجاء وتوسلات. ولكي يحقق كل ما سيطلبه من مطالب من إعطائه أثمارا كثيرة من كل مزارعه، ومن حمايته وحفظه من كل سوء، ومن رجائه في أن يحظى بمكانة محمودة عند ملكه.
والنص: Jamme 661، هو كذلك من النصوص التي تعود إلى هذا العهد. وقد كتبه جماعة لمناسبة شفائهم من مرض خطير كاد أن يقضي عليهم، أصيبوا "مرضو" به في مدينة "ثت" "ثات"، فلما شفوا منه، حمدوا ربهم "المقه ثهوان" "بعل أوام"، لأنه من عليهم إذ شفاهم وحفظهم، وتوسلوا إليه أيضا، بأن يعطيهم القوة واسعة، وبأن يمنحهم غلة وافرة ويبارك في زرعهم، ويبعد عنها أعداءهم وشانئهم بحق "المقه ثهوان".

(1/1217)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد استنتج "جامه" من النص: CIH 353، أنه قد كان للملك "شهر يهرعش" شقيق اسمه "ملكم" "ملك" "مالك"، وقد سقط لقبه من هذا النص، وقد استنتج منه أيضا أنه كان قد حكم مع أخيه "شمر" وشاركه في في الحكم. ولم يرد اسم "ملكم" هذا في نص آخر، لذلك لم يدخل أكثر الباحثين في العربيات الجنوبية اسمه في عداد ملوك سبأ وذي ريدان.
وقد وضع "فلبي" اسم "يرم يهرحب" بعد "شمر يهرعش" وقال: إن من المحتمل أن يكون أحد أبناء "شمر"، وقد جعل حكمه في حوالي السنة "310 ب. م.".
أما "فون وزمن"، فجعل من بعده ولدا له سماه "ياسر يهنعم"، ولقبه بالثالث، ليميزه عن "ياسر يهنعم" والد "شمر يهرعش"، وعن "ياسر يهنعم" الأول الذي عاش قبله.
وأما "ريكمنس"، فذهب إلى إن "ياسر يهنعم" هذا لم يكن ابنا لي "شمر يهرعش"، بل كان أباه، وقد حكم مع ابنه في بادئ الأمر حكما مشتركا، ثم انفرد ابنه بالحكم وأخذة لنفسه إلى إن مات، فعاد الحكم إلى أبيه "ياسر يهنعم" فأشرك "ياسر" هذا ابنه "ثارن ايفع" "ثأران أيفع" في الحكم، ثم أشرك ابنه الآخر "ذرأ أمر أيمن" معه في الحكم أيضا. ويعارض "فون وزمن" هذا الرأي، اذ يراه تفسيرا غريبا لا مثيل له في الحكم، ويقتضي أن يكون عمر "ياسر" أذن عمرا طويلا جدا.
وقد جعل "فون وزمن" حكم "ياسر يهنعم" الثالث وابنه "ثارن أيفع" فيما بين السنة "310" و "325" للميلاد. تم ذكر اسم "ثارن يركب" "ثأران يركب" من بعدهما. وقد جعل زمانه فيما بين السنة "320" و "330" للميلاد. ثم وضع "فون وزمن" أيام حكم "ياسر يهنعم الثالث" وابنه "ذرأ أمر أيمن" في النصف الأول من القرن الرابع للميلاد، في حوالي السنة "330" بعد الميلاد و "336" بعد الميلاد. واذا كان هذا الافتراض صحيحا أو قريبا من الصحيح، فانه يكون قد عاصر أو أدرك أيام "قسطنطين الكبير" "313 - 337 ب.م".

(1/1218)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من ذلك إن "فون وزمن" عاد فأعاد الحكم إلى "ياسر يهنعم" الثالث الا انه قرن حكمه هذا مع حكم ابن آخر له هو "ذرأ أمر أيمن".
وأما "جامه"، فقد ذهب مذهب "ريكمنس" في أن "ياسر يهنعم" الذي وضع هو أيضا اسمه بعد اسم "شمر يهرعش" هو والد "شمر يهرعش" وقد حكم بعد ابنه "شمر" بسبب حادث لا نعرف سببه، حكم مع ابن له حكما مشتركا، تم حكم مع ابن آخر له، حكم مع "ذرأ أمر أيمن" من حوالي السنة "305" وحتى السنة "320" للميلاد تقريبا، ثم حكم مع ابنه الآخر "ثارإن يفع" "ثأران أيفع" من حوالي السنة "320" وحتى السنة "325" للميلاد تقريبا.
ويرى "جامه" أن تولي الأب الحكم بعد الابن ليس بحادث مستغرب، فهنالك أمثلة لعودة الآباء إلى الحكم بعد حدوث شيء لأبنائهم، وعودة "ياسر يهنعم" إلى احكم بعد "شمر" هو مثل من تلك الأمثلة. ثم إن اسم "ياسر يهنعم" هو نفس السم والد "شمر"، لذلك يرى "جامه" أنه هو والد "شمر" نفسه وأنه حكم مع أولاده مرارا.

(1/1219)


--------------------------------------------------------------------------------

وعندي أن في رأي "جامه" هذا، تكلف وتصنع، واتفاق اسمن لا يدل حتما على إن الاسمين لمسمى واحد، وإن كان الزمن متقاربا. ثم من يثبت لنا أن "ياسر يهنعم" الذي يرد اسمه في النص: Jamme 664 و Jamme 665 هو "ياسر يهنعم" الأول والد "شمر يهرعش". لا سيما وان لقب "ياسر يهنعم" في النصين يختلف عن لقب "ياسر" والد شمر. وفي افتراض أخذ "ياسر" لقبه الجديد من اللقب الذي أحدثه ابنه في أيامه، تكلف بين واضح لا يؤيده أيضا دليل، ثم إن تصور اشتراكه في الحكم مع أربعة أولاد، هو تصر غريب أيضا. ولذلك أرى أن "ياسر يهنعم" هذا هو شخص آخر، وليس بوالد "شمر". وأما أنه ابن "شمر يهرعش"، فلا اعتقد انه رأي صحيح. أيضا. فلو كان ابن "شمر" لذكر اسم والده في النصين، كما هي العادة في النصوص. وقد كان من فخر الملوك ذكر أسماء آبائهم في النصوص، إلا اذا لم يكونوا ملوكا، فإنهم كانوا يغفلون أسماءهم، أو يذكرونها دون لقب. وقد كان "شمر يهرعش" ملك، وصاحب لقب جديد، فقد كان من فخر "ياسر يهنعم" ذكر اسم والده بع لقبه لو كان ابن شمر حقا.

(1/1220)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ورد اسم "ذرأ أمر أيمن" مع اسهم والده "ياسر يهنعم" في النص: Jamme 665، وهو نص مهم جدا، فيه أخبار حروب وأنباء عن الأعراب، أي أهل الوبر في العربية الجنوبية، وعن الأدوار التي كانوا يقومون بها من النواحي السياسية والحربية والاجتماعية. كما إن فيه أخبارا عن التنظيمات الإدارية اذ ذاك. وصاحب النص موظف كبير من موظفي الدولة اسمه: "سعد تالب يتلف بن جدنم"، أو من "آل جدنم"، أي "جدن". وكان بدرجة "كبر"، أي "كبير" على أعراب ملك سبأ "كبر اعرب ملك سبأ" وعلى "كدة" أي كندة وعلى "مذحجم"، أي "مذحج"، وعلى "حرمم" "حرم" "حرام"، وعلى "بهل"، أي "باهلم" "باهلة" وعلى "زيد ال" "زيد ايل"، وعلى كل أعراب سبأ "وكل اعرب سبا"، وأعراب حمير وأعراب حضرموت وأعراب "ينت"، أي اليمن. وقد دونه لمناسبة تخليده ذكرى حروب قام بها في أرض حضرموت وفي مواضع أخرى، كلفه القيام بها سيده الملك "ياسر يهنعم" وابنه "ذرأ أمر ايمن".
وقد أمر ذلك الكبير بالذهاب إلى حضرموت، فذهب إليها ومعه محاربون من أعراب ملك سبأ ومن كندة "كدة"، وانضم إليه سادات "ابعل" "نشقم" "نشق" و "نشن" "نشان". ولما وصل مدينة "عبرن" "عبران" اصطدم بمحاربيها، وجرت معارك بين الطرفين. وتقع "عبرن" غرب "وادي العبر" ويقال لها "حصن العبر"، وهي مدينة ذات آبار. وقد اشترك في المعركة محاربون ركبانا "ركبم" وفرسانا "افرسم" ومشاة. ويقصد ب "ركبم" المحاربون الذين كانوا يركبون الجمال ويقاتلون عليها، وب "افرسم" المحاربون الفرسان، أي الذين يحاربون وهم على ظهور الجياد. وقد ذكر إن عدد المحاربين الراكبين كان "750" محاربا راكبا، وان عدد الفرسان كان سبعين فارسا. وقد اصطدمت إحدى المفارز التي كانت مقدمة للجيش "مقدمتن"، بمفرزة أرسلها ملك حضرموت لمباغتة محاربي "نشق" و "نشان" و "مأرب"، وأخذهم على غرة لإيقاعهم في الأمر.

(1/1221)


--------------------------------------------------------------------------------

فوقعت معركة عند موضع "ارك". وقد تمكن قائد الحملة "سعد تألب يتلف" من التغلب على الحضارمة ومن تخليص مقدمته وإنقاذ من كان قد وقع أسرا في أيدي المستوطنين الحضر من أهل المدر الساكنين في مستوطنات "احضرن"، ثم اتجه بجيشه نحو "دهر" و "رخيت"، فجرت معركة تغلب فيها على أهل الموضعين وحصل منهم على غنائم وأسرى، وأموال، واقتاد جمالا وثيرانا وبقرا وغنما كثيرا، أخذها معه، ثم اتجه نحو الأرضين المخفضة "سفل" حتى بلغ "عيون خرصم" "أعين خرصم" "أعين خرص"، حيث تحارب مع من كان هناك من العصاة والمنشقين والأعداء.
ودخل السبئيون بعد هذه المعركة معركة أخرى دخلوها مع قطعات "مصر" حضرموت. المتقدمة "قدمهو". وكانت تتألف من "3500" جندي راكب "اسدم ركبم" ومن "125" فارسا "افرسم"، وكان يقودها قائدان: "اسود يهمو": أحدهما: "ربعت بن ولم" "ربيعت بن والم" "ربيعة بن وائل"، وهو من آل "هلم" ومن ا ل "الين" "ألين"، وثانيهما: "افصى بن جمن" "أفصى بن جمان"، ثم قائد الركبان "نحل ركبن" وأقيال "أقول" وكبراء "اكبرت" حضرموت وأسباطهم. وقد أصيبت قوات حضرموت بخسائر، قتل منهم "850" محاربا بحد السيف، وأسر "اقصى"، وكان قائدا بدرجة "نحل" وأسر "جشم"، وهو "نحل افرسم"، أي قائد الفرسان، وأسر معهما "470" محاربا، وعدد من أقيال وكبراء حضرموت. وأسر "45" فارسا من فرسان حضرموت، وغنم ثلاثين فرسا وأخذ 1200 جمل ركوب مع رحالها "برحلهن". وهكذا انتهت هذه المعركة بانتصار السبئيين على حضرموت.
وأمر الملك قائده بأن يقاتل "بساعم" "بسأعم"، وأن يذهب لمساعدة قبيلة "جدنم" "جدن". فذهب ومعه "35" فارسا وقطعات من جيشه على "بسأعم"، والتحم به، وتمكن من إنقاذ كل الروايا "كل روتهمو" المحملة على الدواب، وكل الأمتعة المحملة على حيوانات الركوب، كما استولوا على ابل من ابل "بسأعم". وعاد القائد مع جنده بعد ذلك سالما غانما بفضل الإله "المقه" ونعمه عليه.

(1/1222)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر إن عهد "ياسر يهنعم الثالث" وعهد ابنه "ذرأ أمر أيمن" كانا من العهود السيئة لحكومة "سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت"، ففيهما انفصلت "حضرموت" عن تلك الحكومة، واستقلت ارض "سهرت" "سهرتن" "سهرة" "السهرة" واستعاد الحبش سلطانهم في السواحل الغربية للعربية الجنوبية. وانتهز "الأقيال" وسادات القبائل هذه الفرصة، فكونوا حكومات إقطاعية، يحارب بعضها بعضا، وعمت الفوضى تلك البلاد.
وأما النص: Jamme 664 الذي دون فيه اسم "ياسر يهنعم" و "ثارن ايفع" "ثأران ايفع" "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت"، أي "ملوك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت"، ويقصد ب "ملوك" "ملكا"، أي ملكين أثين، فصاحبه رجل اسمه "ال امر ينهب" "ايل أمر ينهب"، وهو من "سحر" "سحار"، وكان قد أهدى معبد "المقه ثهوان" "بعل أوام" صنما، لأنه أوحى إليه بأنه سيهبه ولدا ذكرا. وقد وهبه ولدا سماه "برلم" "برل" "بارل". ولأنه أوحى إليه بأنه سيهبه أولادا ذكورا في المستقبل وانه سيرفع من منزلته ومكانته عند سيديه: "ياسر يهنعم وثارن ايفع املك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت"، أي "ياسر يهنعم وثارن أيفع ملكا سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت"، ولأنه أوحى إليه بأنه سيعطيه غلة وافرة وأثمارا كثيرة من أرضه الزراعية "ارضهمو" بمأرب وبنشق وبنشان.
ويلاحظ إن هذا النص لم يشر إلى إن "ثأران أيفع" كان ابنا ل "ياسر يهنعم"، اذ لم يورد لفظة "وبنهو" التي تعني "وابنه" بل ذكر "الواو" وحده، أي حرف العطف. ومعنى هذا إن "ثاران أيفع" لم يكن من أبناء "ياسر يهنعم"، بل كان غريبا عنه. ثم يلاحظ إن النص ذكر لفظة "املك" أي "ملوك" بعد اسم "ثأران أيفع"، والواجب إن يكتب "ملكي"، أي "ملكا"، في حالة التثنية لا الجمع، فلعل ذلك من خطأ الكاتب أو الناسخ للنص.

(1/1223)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد وضع "جامه" اسم "كرب ال وتر يهنعم" "كرب ايل وتر يهنعم" "كربئيل وتر يهنعم" بعد اسم "ثأران أيفع"، وجعل حكمه من سنة "325" حتى السنة "335" "ميلادا. ثم نصب "ثأران يركب" ملكا من بعده، وقد جعل حكمه من سنة "330" حتى السنة "335" للميلاد. ثم ذكر اسم "ذمر على يهبر" من بعده، وأعطاه لقب "الثاني" ليميزه بذلك عن "ذمر على يهبر" الذي حكم قبله بأمد. وذكر أنه حكم من سنة "335" حتى السنة "340" للميلاد، ثم وضع اسم "ثأران يهنعم" من بعده ثم اسم "ملكيكرب يهأمن" "ملكي كرب يهأمن" ثم اسمي ملكين هما: "ابكرب اسعد" و "ذرأ أمر أيمن".
وأما "فون وزمن"، فوضع اسم "ذمر على يهبر" "ذمر على يهبأر" بعد اسم "ثارن يركب"، ثم عاد فذكر اسم "ذمر على يهبر" مع ابنه "ثارن يهنعم"، بمعنى أنهما حكما معا فيما بين السنة "340" والسنة "350" للميلاد. ثم ذكر أن "ثأرن يهنعم" حكم مع ابنه "ملكيكرب يهأمن" حكما مزدوجا، ثم حكم "ملكيكرب يهأمن" مع ابنيه "أبو كرب أسعد" و "ذرأ أمر أيمن". ثم أشار إلى انفراد "أبو كرب أسعد" مع ابنه "حسن يهامن" "حسان يهأمن" باحكم في حوالي السنة "400" للميلاد.
وقد ورد اسم الملك "كرب ال وتر يهنعم" "كرب ايل وتر يهنعم" في النص: Jamme 666. وصاحبه رجل اسمه: "ابكرب ابهر" "أبو كرب أبهر"، ورجل آخر اسمه: "عبد عثتر اشوع" "عبد عثتر أشوع"، و "وهب أوم أسعد"، وكانوا أقيالا "اقول" على عشيرة "عضدن" "عضدان"، وكانوا هم منها. وقد تقدموا إلى الإله "المقه". بصنم هو عبارة عن تمثال فرس وعليه راكبه " "ركبهو"، وذلك حمدا له وشكرا لأنه من عليهم وحماهم من مالك الأرض "بن محر"، ولأنه أسعدهم، ولكي يبعد عنهم كل أذى وسوء وكل عدو حاسد، ويعطيهم القوة والحظوة والمكانة عند سيدهم "كرب ال يهنعم" "ملل سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت"، ويمنحهم حصادا طيبا وغلة وافرة.

(1/1224)


--------------------------------------------------------------------------------

ويلاحظ إن هذا النص سمى الملك "كرب ال يهنعم" "كرب ايل يهنعم" ولم يذكر لفظة "وتر" بين "كرب ايل" و "يهنعم". وقد وضع "جامه" لفظة "وتر" بين الاسمين من عنده لاعتقاده بأن هذا الملك هو الملك "كرب ايل وتر يهنعم" الذي يرد اسمه في نص آخر وسم ب Jamme 667.
وأما النص: Jamme 667، فصاحبه رجل اسمه "رببم" "ربيب"، وهو من: "خلفن انمرم" "خلفان أنمر" "خلفان أنمار" ومن "حيم" "حيوم". وقد ذكر فيه انه قدم صنما إلى الإله "المقه ثهوان" "بعل اوام"، لأنه من عليه، بأن حفظه ونجاه من الثورة "بن حبل" والاضطرابات "وقسدت" "ق س دت" التي وقعت بمدينة "ظفار"، وذلك قبل هذا اليوم "بقدمى ذن يومن" ولكي يديم نعمه ومننه عليه وينيله رض وحظوة "حظى ورضو" سيده الملك "كرب ال وتر يهنعم، ملك سبا وذ ريدن وحضرموت ويمنت"، أي "كرب ايل وتر يهنعم.، ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت".
وقد ورد اسم الملك "ذمر على يهبر" في النص Jamme 668، وورد معه اسم ابنه "ثأران يهنعم". وأصحابه جماعة من "سباكهلن"، أي "سبأ كهلان". وقد حمدوا فيه الإله "المقه" لأنه نجى وحمى وحفظ أصحاب النص، ولأنه من عليهم فمكنهم من الحصول على غنائم في المعارك التي خاضوها ومن اخذ سبي من أعدائهم، مما أثلج نفوسهم وشرح صدورهم وأفرحهم، ولكي يبارك فيهم ويرضى عنهم سيدهم الملك "ذمر على يهبر" وابنه "ثارن يهنعم" وهما "ملكا سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت"، ولكي ينعم عليهم "وليهعنهمو"، ويمتعهم في الحياة "متعنهمو" ويبعد عنهم كل أذى وسوء.

(1/1225)


--------------------------------------------------------------------------------

admin
12-27-2010, 01:03 AM
وورد اسم "ثارن يهنعم" "ثأران يهنعم"، وبعده اسم ابنه "ملك كرب" يهامن" "ملككرب يهأمن" "ملككرب يهأمن" "ملكي كرب يهأمن"، في النص: Jamme 669، وهو نص دونه جماعة من عشيرتي: "عبلم" "عبل" "عبال" و "قترن اتون" "قتران أتوان"، حمدوا فيه الإله "المقه" لأنه أنعم عليهم، فوهبهم مولودا ذكرا، ولأنه أوحى إليهم بأنه سيهبهم أولادا ذكورا، وانه سينجيهم من الضر والسوء، ولأنه أمات "وميت" "يحمد" الذي دخل أرضهم وقاتل أولادهم، وآذاهم، ولأنه حفظ أخاهم وشفاه، مما أصيب به من مرض جعله صامتا هادئا، وتعبيرا عن شكرهم وحمدهم هذا، أهدوا معبده صنما "صلمن"، وكتابة "مسدم" "مسندم"، وكانت زنتهما "عصيم" "عصى"، وقدموا ثورين "ثنى ثورن" إلى "كلونم" "كلوان".
ويلاحظ إن هذا النص لم يذكر مع اسم "ملككرب" "ملك كرب" "ملكيكرب" لقبه وهو "يهأمن" من بعده، بل أهمله.
كما ورد اسمه وبعده اسم ابنه في النص: Jamme 670. وقد دونه "شرحعثت اشوع" "شرحعثت أشوع"، وابنه "مرثدم" "مرثد"، وهما من "سخيمم" سادات "بيت ريمان" "ابعل بيتن ريمن"، وأقيال عشيرة "يرسم" من قبيلة "سمعي" التي تكون ثلث "حجرم" "حجر". وقد كتباه لحمد الإله "المقه" وشكره، لأنه من على عبده "شرحعثت أشوع" فعافاه مما ألم به من مرض شديد "ضللم" كاد إن يقضي عليه، حل به بمدينة "ظفار". ولأنه أعاد إليه ابنه "كسدم"، فساعده. ولكي يبارك فيه وفي انبه "مرثد"، ويبعد عنهما كل مرض، ويرفع من مكانتهما لدى الملكين: "ثأران يهنعم وابنه ملك كرب يهأمن، ملكا سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت".

(1/1226)


--------------------------------------------------------------------------------

وكتب جماعة من "سخيم" سادات "بيت ريمان" "ابعل بيتن ريمن" وأقيال "اقولن" "يرسم" من عشيرة "سمعن"، التي تكون ثلث عدد "حجرم ذ خولن جددتن" "حجر خولان جددتان"، نصا وسم ب Jamme 671 وذلك ليكون معبرا عن حصدهم وشكرهم لإله "المقه"، الذي من عليهم بنعمه وساعدهم بالقيام بالعمل الذي كلفهم به سيداهم: "ثأران يهنعم" و "ملككرب يامن" "ملك كرب يأمن" "ملكيكرب يأمن"، "ملكا سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت"، وهو أن في قدموا ويقودوا "لقتد من" جيش الأعراب "خمس بعرب"، ويتجهوا إلى السد "عرمن" الذي تهدم "بكن ثبرت عرمن بحببض"، عند موضع "حببض" "حبابض" وموضع "رحبتن" "رحبتان" "الرحبة" "الرحابة"، فتداعت جدرانه ومبانيه وأحواضه وسدوده الفرعية ومضارفه "مضرفن"، الواقعة فيم بين "حبابض" و "رحبتن" "الرحبة" وخرب منه ما مقداره سبعون "شوحطم" "شوحطا". وقد حمدوا الإله "المقه" وسبحوه لأنه أجاب دعوتهم، فحبس الأمطار والأمواج والسيول عنهم حتى تم العمل وأقاما الأسس والجدران والسد. ولأنه وفقهم في خدمة سيديهم "ثأران يهنعم"، و "ملككرب يامن" "ملك كرب يأمن" "ملكيكرب يأمن".
ويظهر من هذا النص أن خرابا كان قد حل بسد "حبابض"، فتهدم قسم منه فأضر ذلك بالمزارع التي كانت ترتوي منه. وأن الملك أمر باصلاحه وبإعادة بنائه، وقد تم هذا العمل في عهده.
وأما الذي حكم بعد "ذرأ أمر أيمن" الذي هو ابن "ياسر يهنعم الثالث"، فهو "ذكر على يهبأر". وكان قد حكم على رأي "فون وزمن" في حوالي السنة "340 ب. م.". وقد استنتج "فون وزمن" رأيه هذا من كتابة ورد فيها اسم القائد "سعد تألب يتلف"، وهو في خدمة "ذمر على يهبأر". ولما كان هذا القائد قد خدم في عهد "ياسر" وابنه، رأى إن "ذمر على يهبأر" يجب إن يكون هو الملك الذي تولى احكم بعد "ذرأ أمر أيمن". وقد نعته ب "ذمر على يهبأر الثاني" تمييزا له عن ملك سابق حكم بهذا الاسم.

(1/1227)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد تكن القائد المذكور من الوصول إلى موضع "صوران" "صورأران" الواقع غربي الطريق المؤدية إلى روضة "سررن" "سرران" بوادي حضرموت. واشترك في معركة نشبت في "سرران" على مقربة موضع "مريمت" "مريمات". وهو موضع تقع آثاره وخرائبه اليوم بين "سيوون" و "تريم"، في المكان الذي سماه "بطلميوس" Marimatha.
ولا نعلم من أمر "ذمر على يهبأر" شيئا يذكر. أما الذي جاء بعده في الحكم، فهو "ثارن يهنعم"، ثأران يهنعم"، وهو ابنه. وقد حكم جمع أبيه حكما مشتركا بعد السنة "340 م" على رأي "فون وزمن". وقد عثر على عدد من الكتابات من أيامه. وفي عهده تصدع السد، سد مأرب، للمرة الثالثة على ما جاء في المسند.
ولعل النصوص الموسومة ب Jamme 669 وjamme 670 و Jamme 671 هي آخر النصوص التي تقرأ فيها اسم الإله "المقه"، إله سبأ الكبير ورمز السبئيين. وقد عثر عليها المنقبون في معبده بمدينة مأرب، المعبد المعروف ب "أوم" "أوام"، وهي مكتوبة في عهد الملك "ثارن يهنعم" وابنه "ملككرب يهأمن" "ملكيكرب يهأمن". وإذا كان هذا الانقطاع صحيحا، أي أن المنقبين لن يعثروا على كتابات أخرى تحمل اسم ذلك الإله وتمجده، فإنه يمكن تفسيره عندئذ بإعراض ملوك سبأ منذ عهد هذين الملكين، أي منذ أواخر القرن الرابع بعد الميلاد، عن عبادة "المقه" وبقية آلهة سبأ، ودخولهم في التوحيد.

(1/1228)


--------------------------------------------------------------------------------

ولو افترضنا احتمال عثور الباحثين على كتابات مفقودة فيها اسم "المقه"، فإن عهدها لن يكون طويلا، ذلك لأننا سوف نرى بعد قليل أن الملك "ملك كرب يهأمن" "ملكيكرب يهأمن" وهو ابن الملك "ثأرن يهنعم" "ثاران يهنعم"، يتجاهل بعد توليه الحكم اسم "المقه"، ولا يتقرب إليه على سنة الملوك الماضين، بل يتقرب إله جديد هو الإله "ذ سموى"، أي الإله "رب السماء"، وهو تحول يدل على حدوث تغير عند هذا الملك بالنسبة إلى ديانة آبائه وقومه، ويدل على دخوله في ديانة جديدة، هي ديانة "رب السماء"، أو "رب السماوات"، وهي ديانة تعبر عن عقيدة التوحيد، وعن اعتقاد الملك بوجود إله واحد هو "رب السماء".
وقد عثر على الكتابات المذكورة ب "منكث" خارج خرائب "ظفار". ويرى بعض الباحثين احتمال حدوث هذا التحول في عهد الملك "ثارن يهنعم"، ويرون إن هذا التحول يتناسب كل التناسب مع الرواية المعزوة إلى "فيلوستورجيوس" Philostorgios عن كيفية تنصير الحميريين، اذ زعم إن "ثيوفيلوس" Theophilos كان قد تمكن من اقناع ملك حمير بالدخول في النصرانية، فدان بها، وأمر ببناء كنائس في "ظفار" وفي "عدن". وكان القيصر "قسطنطين الثاني" "350 -361 م" هو الذي أرسله إلى العربية الجنوبية ليدعو إلى النصرانية بين أهلها. ويؤيدون رأيهم هذا بالكتابة المذكورة التي يرجع عهدها إلى سنة "378 م" أو "384 م" فعي غير بعيدة عن أيام "ثارن يهنعم"" ويحتمل لذلك إن يكون هو الملك الحميري، الذي بدل دينه الوثني، ودخل في ديانة التوحيد.
ويتحدث النص: Jamme 671 من بين النصوص المذكورة عن تصدع أصاب وسط سد مأرب الكبير وعن سقوطه، وعن قيمام الملك "ثأرن يهنعم" "ثأران يهنعم" بإصلاحه وأعادته إلى ما كان عليه. ويكون هذا الخبر، هو ثاني خبر يصل إلينا مدونا في كتابات المسند عن تصدع السد إلى هذا العهد.

(1/1229)


--------------------------------------------------------------------------------

أما الكتابة التي ورد فيها اسم الإله "ذ سموى" "رب السماء"، فتعود إلى الملك ".ملككرب يهأمن" "ملك كرب يهأمن" "ملكيكرب يهأمن"، وهو ابن الملك "ثارن يهنعم". وقد عثر عليها في "منكث" خارج خرائب "ظفار". وقد ورد فيها مع اسمه اسم ولدين من أولاده، هما: "ابكرب اسعد" "أبو كرب أسعد"، و "ذرأ أمر أيمن" "ورأ أمر ايمن"، وكانا يشاركانه في الحكم لورود لقب الملوكية الكامل بعد اسميهما. وقد تقربوا بها إلى الإله "ذ سموى"، أي "إله السماء"، وذلك في سنة "493" من التأريخ الحميري، المقابلة لسنة "378" أو "384" للميلاد.
وقد أغفل "فلبي" الإشارة إلى "ياسر يهنعم الثالث" ثم من جاء بعده إلى "ملك كرب يهأمن"، فلم يذكرهم في قائمته لملوك "سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت". وقد قلت إنه في جعل "يرم يهرحب" بعد "شمر يهرعش"، ومن المحتمل-في نظره-أن يكون أحد أولاد "شمر"، ثم ذكر إن الأحباش استولوا على العربية الجنوبية بعده، وذلك في حوالي السنة "340 ب. م."، وقد دام حكمهم حتى سنة "375 م"، حيث ثار عليهم "ملكيكرب يهأمن"، ويحتمل في نظره أن يكون أحد حفدة "يرم يهرحب"، فطرد الأحباش من العربية الجنوبية، وأقام نفسه ملكا.
وقد ورد اسم "ملك كرب يهأمن" محرفا في كتب أهل الأخبار، فدعاه "حمزة" ب "كلي كرب بن تبع"، وقد جعل حكمه خمسا وثلاثين سنة. وسماه "الطبري" "ملكي كرب تبع بن زيد بن عمرو بن تبع"، وسماه "المسعودي" "كليكرب بن تبع"، ودعاه "القلقشندي" "كليكرب بن تبع الأقرن"، الذي حكم على زعمه بعد "شمر يرعش" "شمر مرعش"، ثلاثا وخمسين سنة، وقبل ثلاثا وستين سنة، واسمه زيد. وهو على زعمه ابن "شمر". وذكر إن الأقرن إنما عرف بالأقرن لشامة كانت في قرنه.
وانتقل الملك بعد وفاة "ملك كرب يهأمن" إلى ابنه "أب كرب أسعد" "أبي كرب أسعد"، ويرى المستشرقون أنه "أسعد كامل تبع" الذي يزعم الأخباريون انه أول من تهود من التبابعة ونشر اليودية بين اليمانيين.

(1/1230)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد جعل "الطبري" حكم "أبو كرب أسعد" بعد حكم "شمر يهرعش"، اذ قال: "ثم كان بعد شمر يرعش بن ياسر ينعم تبع الأصغر، وهو تبان اسعد أبو كرب بن ملكيكرب بن زيد بن تبع الأول بن عمرو ذي الأذعار، وهو الذي قد قدم المدينة، وساق الحبرين من يهود إلى اليمن، وعمر البيت الحرام وكساه" وتهود وطلب من قومه الدخول في اليهودية. "وقال الكلبي: تبع هو أبو كرب أسعد بن ملكيكرب، وإنما سمي تبعا لأنه تبع من قبله. وقال سعيد بن جبير: هو الذي كسا البيت الحبرات". وذكر أنه قال شعرا أودعه. عند أهل يثب، "فكانوا يتوارثونه كابرا عن كابر إلى إن هاجر الني صلى الله عليه وسلم فأدوه إليه. ويقال كان الكتاب والشعر عند أبي أيوب خالد بن زيد". وورد في مسند الإمام "أبي حنيفة": "أول من ضرب الدينار تبع، وهو أسعد بن كرب".
وقد تحدث "الهمداني" عن "أبي كرب اسعد"، فقال: " فأولد ملكيكرب بن تبع الأكبر: أسعد تبع بن ملكيكرب. وهو أسعد الكامل، وتبع الأوسط" "وكانت امه من فايش بن شهاب بن مالك بن معاوية بن دومان بن يكيل بن جشم بن جبران بن نوف بن همدان، ومولده نجمر من ديار فايش بن شهاب". و "خمر" موضع بظواهر همدان. "ونشأ بجبل هنوم من أرض همدان... فأولد أسعد تبع بن ملكيكرب: كربا وهو الفدى، وبه كان يكنى... ومعدى كرب وحسان وعمرا... وجبلا... فهؤلاء... خمسة أنفر بنو أسعد بن ملكيكرب وقال اللبخي وغيره: خطيب بن أسعد. والخطيبون بأكانط ومدر من ولده" فيكون ولد "أسعد" ستة نفر على هذه الرواية.
وذكر "الهمداني" إن والد "أسعد" هو "ملكيكرب بن تبع الأكبر. وهو الرائد بن تبع الأقرن بن شمر يرعش بن إفريقس ذي المنار بن الحارث الرائش بن إلى شدد". وعرف "تبع الأقرن" بالأقرن، لشمامة كانت في قرنه.

(1/1231)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد اورد "الهمداني" في كتابه "الإكليل" أشعارا كثيرة نسبها إلى "أسعد بن ملكيكرب"، بعضها قصائد، ذكر انه نظمها في مناسبات مختلفة. وقد تطرق في بعض منها إلى أنساب الناس والى أمور ذكر انه تنبأ بها قبل وقوعها بمئات من السنين، ومنها ظهور الرسول ومبعثه في قريش. وذكر "الهمداني" إن شعر "أسعد" وفصاحته من شعر وفصاحة "همدان". ونسب له شعرا في مدحهم.
ويلاحظ أن أهل الأخبار قد صيروا اسم "اب كرب اسعد" "أبكرب أسعد" "أبو كرب أسعد" على هذا النحو: "أسعد تبع" و "أسعد تبع بن ملكيكرب" و "أسعد الكامل"، فأسقطوا "اب كرب" "أبكرب" منه، وأخذوا الجزء الأخير منه وهو "اسعد". ويظهر إن فتوحاته كانت قد تركت أثرا في ذاكرة أهل اليمن، وقد بقي ذلك الأثر إلى الإسلام، ولكن الزمن والعصبية لعبا دورا خطيرا في تكييفه حتى طغى عليه الطابع الأسطوري، فوصل إلينا على نحو ما نجده في كتب أهل الأخبار والتواريخ.
ولمد تولى هذا الملك - على رأي المستشرقين-الحكم منفردا من سنة "400" بعد، الميلاد حتى حوالي سنة "415" أو "420 ب. م." على رأي، أو من سنة "385" حتى سنة "420 ب. م." على رأي آخر، أو من سنة "378" حتى سنة "415 ب. م." على رأي "فلبي". والذي أراه إن حكمه امتد إلى ما بعد السنة "430" للميلاد، كما سأشرح ذلك في موضعه. وقد أضاف إلى لقب "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت" الذي ورثه من أبيه إضافة جديدة في آخره، هي: "واعربهمو طودم وتهمتم"، أي "وأعرابها في الجبال وفي التهائم"، فصار بذلك أول ملك سيحمل هذا اللقب.

(1/1232)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا بد إن تكون للإضافة التي ألحفت بآخر اللقب معنى سياسي مهم، اذ لا يعقل إن يكون هذا الملك قد ألحقها باللقب اعتباطا من غير قصد. والظاهر إن الذي حمله على إلحاقها به، هو ظهور أهمية الأعراب، ولا سيما أعراب الهضاب وأعراب جنوب نجد من قبائل "معد" وقبائل تهامة او التهائم، أي المنخفضات الساحلية ، بالنسبة إلى زمانه اذ صاروا يؤثرون في سياسة العربية الجنوبية تأثيرا واضحا، وصار في استطاعتهم احداث تغيير كبير في الوضع السياسي، فانتبه لقوتهم هذه وأعارها أهمية كبيرة، فأضاف اسمهم إلى اللقب، دلالة على سيطرته عليهم وخضوعهم له، كما فعل الملوك الماضون بإضافة أسماء جديدة إلى ألقابهم الملكية كلما اخضعوا أرضا من الأرضين.
ومعنى ذلك إن حكم "أبو كرب اسعد" كان قد شمل التهائم بأعرابها وقراها وكذلك قبائل معد التي تمتد منازلها من أرض نجران إلى مكة ونجد.
وعلى مقربة من مدينة "غيمان" قبر ينسب إلى هذا الملك، وقد فتح من عهد غير بعيد. وذكر أن "غيمان" كانت مقرا للتبابعة مدة ما، وان "أب كرب أسعد" أقام بها زمنا. ويظن إن الرأس المصنوع من البرنز الذي يمثل رأس امرأة والمحفوظ في المتحف البريطاني، والرأس الجميل الذي يمثل مهارة فائقة في الصنعة ويمثل رأس رجل، كلاهما قد أخذ من ذلك القبر.
ويقع قبر "أسعد أبو كرب" أسفل التل الذي أقيم عليه قصر "غيمان" "حصن غيمان". وقد دل البحث في موضعه على انه يعود إلى عهود متعددة، وان جملة ترميمات وإصلاحات أدخلت على هذا القصر.
وقد ذكر "الهمداني" إن "ابيكوب أسعد" خان قد أقام في مدينة "بينون"، أوقام أيضا في مدينة "ظفار" أقام في قصر "ريدان" ب "ظفار" وفي قصر "هكر" بمدينة "بينون"، كما أقام في قصر "غيمان" وفي قصر "غمدان" بصنعاء وهي كلها من قصور اليمن وحصونها الشهيرة المذكورة في تأريخ اليمن.

(1/1233)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد أخذ جماعة من المستشرقين برواية أهل الأخبار في تهود "أب كرب أسعد" "أبكرب أسعد"، فجعلوه على رأس أسرة متهودة حكمت منذ هذا العهد. وجعله "فلبي" رأس الأسرة الثامنة من الأسرة التي حكمت السبئيين بحسب ترتيبه لقائمة الأسر الحاكمة.
ويدل عثور "فلبي" على كتابة دون فيها اسم "أب كرب أسعد" واسم ابنه "حسان يهأمن" في وادي "مأسل الجمح" "ماسل جمح"، في موضع مهم على طريق بين "مكة" والرياض، ولا يزال يعرف اسم جمح على أن هذا الموضع كان من جملة الأرضين الخاضعة لحكم ذلك الملك، وان نفوذه كان قد جاوز اليمن حتى بلغ نجدا. وبلغ هذه الأرض المهمة التي تجتازها القوافل والتجارات حتى اليوم، وكانت تعد من منازل قبائل "معد" في ذلك الحين، وهي قبائل متحالفة يجمع شملها هذا الاسم.
والكتابة التي أقصدها، هي الكتابة التي وسمت ب Philby، وقد دونت عند إقامة حصن في وادي "ماسل الجمح"، وورد فيها اسم موضع آخر هو "مودم ضمو". ويرى "فلبي" انه المكان المسمى "دودمي" "دوادمي" في الزمن الحاضر. وقد وردت فيها أعلام أخرى، منها: "كدت" "كدة"، و "سود"، و "وله" "وده".
وقد ذكر "الهمداني" إن "مأسل الجمح" كان من مواضع "نمير". واسم "نمير"، قريب من اسم قبيلة Nomeritae التي ذكرها "بلينيوس" اذ قال:Nomeritae Mesala Oppido، ولذلك ذهب بعض الباحثين إلى إن "مأسل الجمح" كان من مواضع "نمير"، وذلك في أيام "بلينيوس"، أي في أواخر القرن الأول قبل الميلاد فما بعده.
ويظهر إن الملك "أب كرب أسعد" أقام هذا الحصن في "وادي مأسل" ليكون معقلا تقيم فيه قوات سبئية لحماية الطريق من هجوم القبائل وتعرضها للقوافل التي تسلك هذا الوادي محملة بالبضائع والتجارات بين اليمن ونجد، وهو طريق مهم من الطرق التي تصل أرضى اليمن بنجد وبشرق الجزيرة.

(1/1234)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد افتتح نص: Philby بجملة: "ابكرب اسعد وبنهو حسن يهأمن ملكي سبا وذ ريدان وحضرموت ويمنت واعربهمو طودم وتهمتم بن حسن ملك كرب يهامن ملك سبا وذ ريدان وحضرموت ويمنت"، أي "أبو كرب اسعد. وابنه حسان يهأمن، ملكا سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابها في الأطوأد والتهائم، أبنا حسان ملكيكرب يهأمن ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت". فيفهم منها إذن أن اسم والد "أبي كرب اسعد" هو "حسان ملكيكرب يهأمن"، لا "ملكيكرب يهأمن". فهل نحن أمام ملك واحد، عرف ب "ملكيكرب يهأمن" وب "حسان ملكيكرب يهأمن"، ام أمام ملك آخر غير الملك "ملكيكرب يهأمن"? ويتبين من هذا النص إن الملكين كانا قد غزوا "كسباو" ارض "مودم ضمو". غزواها بجمع من أهل حضرموت وسبأ وبني مأرب أي أهل مأرب وبأصاغر الناس "صغرم". وكان في جيشهما "المقتوين" "مقتوتهمو"، أي القادة: قادة الجيش. وأشير في النص إلى أعراب كندة "باعربهمو كدت" والى "سود" و "وله" "واله".
ولدينا كتابة وسمت ب Ryckmans 534، ورد فيها اسم الملك "أبو كرب اسعد" وأشير فيها إلى ستة أولاد من أولاده. وهي كتابة مورخة، ويقابل تأريخها الحميري "543" السنة "428 م" أو "4344 م"، كما عثر على كتابة أخرى وسمت ب Ryckmans 534 يرى من حرسها إنها يجب إن تكون قد كتبت بعد السنة "433" أو "439 م". ومعنى هذا إن حكم "أبي كرب اسعد"، قد جاوز السنة "328 ب. م." أو السنة "430 ب. م.، أي إن تقدير الذين جعلوا نهاية حكم "أبي كرب اسعد" في سنة "415ب. م." أو "420 ب. م."، هو تقدير خاطى. والظاهر انهم قد وقعوا في هذا الخطأ، لأن الكتابتين المذكورتين لم تكونا قد نشرتا في ذلك العهد.

(1/1235)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد أشير في الكابة Rossi 24 إلى ستة أو سبعة أبناء للملك "أبو كرب اسعد". وتشير الكتابة الموسومة ب Ryckmans 409 إلى حملة قام بها الملك "أبو كرب أسعد" وابنه الأول "حسان يهأمن" على "وادي مأسل" في أرض "معد". وقد ساهم بها معه جمع من "كندة". ونجد قبيلة "كندة" ذكر في الكتابات التي يعود عهدها إلى ما بعد الميلاد.
وذهب "كروهمن" إلى إن ورود اسم "أبو كرب اسعد" في النص: Jamme 856- وهو من النصوص السبئية المتأخرة - يجعل أيامه في السنين الثمانين فما بعد من القرن الخامس للميلاد. وقد قدر أيام حكمه بحوالي السنة "400" بعد الميلاد.
ويظهر إن حكم الملك "ابي كرب اسعد"، كان حكما طويلا، وان عمره كان عصرا طويلا أيضا وذلك لأنه كان ملكا إلى ما بعد السنة "430" بعد الميلاد، واذ قد ذكر ملكا مع والده في النص المؤرخ بسنة "378 ب. م." أو "384 ب. م."، فيكون مجموع حكمه قد بلغ زهاء خمسين سنة أو اكثر من ذلك بقليل. ولو فرضنا انه كان في حوالي العشرين من عمره يوم ذكر مع أبيه في النص، فيكون عمره أذن يوم وفاته حوالي السبعين، أو بعد ذلك بسنين.
لقد استطاع "ابو كرب اسعد" توسيع ملكه، حتى بلغ البحر الأحمر والمحيط الهندي والأقسام الجنوبية من نجد، وربما كان قد استولى على جزء كبير من الحجاز. وفي روايات أهل الأخبار عن فتوحاته وعن غزواته أساس من الصحة، وان دخل فيها عنصر المبالغة والقصص. ولا بد إن يكون هذا الملك ذا شخصية قوية وكفاية مكنته من القيام بتلك الفتوحات والتغلب على القبائل، حتى تركت أعماله أثرا بقي يتنقل بين الأجيال، ويتطور بمروره على الأفواه حتى وصل إلينا على الشكل الذي نقرأه في كتب أهل الأخبار.

(1/1236)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذكر "الطبري" إن "اسعد ابو كرب بن ملكيكرب"، ونعته ب "تبع" كان قد قدم بجيوشه الأنبار، وأسكن من قومه الأنبار والحيرة، ثم رجع إلى اليمن. وذكر غيره انه "تبان اسعد أبو كرب بن قيس بن زيد الأقرن بن عمرو ذي الأذعار، وهو تبع الآخر، ويقال له الرائد، وكان على عهد يستأسف أحد ملوك الفرس الكيانية وحافده اردشير، وملك اليمن والحجاز والعراق والشام، وغزا بلاد الترك والتبت والصين، ويقال إنه ترك ببلاد التبت قوما من حمير... وغزا القسطنطينية ومر في طريقه بالعراق فتحير قومه فبنى هناك مدينة سماها الحيرة... ويقال انه أول من كسا الكعبة الملأ ونجعل لبابها مفتاحا وأوصى ولاتها من جرهم بتطهيرها ودام ملكه ثلثمائة وعشرين عاما".
وهذه الفتوحات التي نسبوها إلى "تبان أسعد"، هي مثل الفتوحات التي نسبوها ل "شمر يرعش"، وهي في الواقع تكرار لها. والظاهر إنها خلط بين فتوحات الملكين التي وضعها لهما أهل الأخبار.
ونصب بعض أهل الأخبار من بعده "ربيعة بن نصر بن الحارث بن نمارة ابن لخم" ملكا على اليمن، ثم ذكروا انه رأى "رؤيا هالته فسار بأهله إلى العراق وأقام بالحيرة، وحكم عليها، ومن عقبه كان النعمان بن المنذر ملك الحيرة". وهناك طريق بري يربط المناطق المرتفعة الزراعية بالمناطق الشمالية، وهي مناطق مأهولة ومن اكثر أرض اليمن كثافة سكان، يسمى ب "درب أسعد كامل" أو "طريق اسعد كامل"، نسبة إلى هذا الملك، وهو يصل الي شمال "الطائف" ويتصل بطريق الحجاز. ويمتد من "خيوان" وأعالي "خولان" في اتجاه "بيشة" و "ريع المنهوت"، ثم في الممر الضيق المؤدي إلى "الطائف". ويستعمل تجار "عمران" هذا الدرب.

(1/1237)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر هذا الدرب تحولا خطيرا في الطرق البرية القديمة التي كانت تسير في محاذاة حافة الصحراء الشرقية المتصلة بالجوف، اذ يشير إلى تحول هذه الطرق من الأرض السهلة إلى الهضاب التي يعيش عليها المزارعون الذين يعيشون على الزراعة التي تعتمد على المطر. وقد شمل هذا التحول فيما شمله طريق البخور واللبان القديم.
وجعل "فلبي" الحكم ل "ورو أمر أيمن" بعد وفاة "أبي كرب أسعد". وهو شقيقه. قد حكم على رأي "فلبي" من سنة "415 م" حتى سنة "425 م"، ولما توفي انتقل الحكم إلى "شرحبيل يعفر" "شرحب ايل يعفر"، وهو ابن "ابي كرب اسعد". وقد حكم على تقدير "فلبي" أيضا من سنة "415 ب.م." حتى سنة "455 ب. م."، وحكم على تقدير "هومل" من سنة "420 م" حتى سنة "455 م". ولكن "فلبي" في كتابه "النجاد العربية" عاد فجارى "هومل" فيما ذهب إليه في تقدير مدة حكم "شرحبيل يعفر"، فجعلها منذ سنة "420 ب. م." حتى سنة "455 ب. م.".
وأما "جامه"، فوضع: "ابكرب اسعد" واسم شقيقه "ذرا امهر ايمن" "ذرأ أمر أيمن" بعد اسم "ملككرب يهأمن". وقد حكم "أبكرب أسعد" مع والده في حوالي السنة "365" وحتى السنة "375" للميلاد. وأما "ذرأ أمر أيمن"، فجعله مشاركا لوالده في الحكم وذلك في حوالي السنة "375" وحتى السنة "385" للميلاد.

(1/1238)


--------------------------------------------------------------------------------

ولكن "جامه" عاد فوضع بعد القائمة المتأخرة لحكام سبأ، والتي انتهت في القائمة "E"، باسمي "ذرأ أمر ايمن" و "أبكرب اسعد"، قائمة أخرى دعاها ب "F"،وقد خصصها بمن حكم في النصف الأول من القرن الخامس للميلاد، ابتدأها باسم "حسن ملككرب يهأمن" "حسان ملكيكرب يهأمن"، وجعل حكمه من حوالي السنة "415" حتى حوالي السنة "425" للميلاد، ثم وضع اسم "ابكرب أسعد" من بعده، وجعل حكمه في حوالي السنة "425" وحتى السنة "430" للميلاد. ثم ذكر اسم "حسان يهأمن" "حسن يهامن" من بعده، وقد شارك "ابكرب أسعد" في احكم من سنة "425" حتى سنة "435" للميلاد، ثم دون اسم "شرحبيل يعفر" من بعد "أبكرب اسعد" وقد جعله شريكا في الحكم ل "أبكرب اسعد" من حوالي السنة "450" حتى السنة "440" للميلاد.
وقد أغفل "فلبي" وغيره اسم "حسان يهأمن"، وهو ابن "أب كرب اسعد"، فلم يذكره بعد اسم أبيه، مع انه ذكر معه في النص Philby، ونعت مثله ب "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابها في الجبال والتهائم".
وقد عرف أهل الأخبار اسم "حسان"، وذكروا انه حكم من بعد أبيه "أسعد أبو كرب"، وذكروا اسمه على هذا النحو: "حسان بن تبع اسعد ابي كرب"، ولم يذكروا لقبه. وقد زعموا انه أغار على طسم وجديس باليمامة وإنه حارب "جذيمة" ملك الحيرة، وكان "جذيمة" قد خرج يريد طسما وجديس في منازلهم من "جو" وما حولهم، فوجد "حسان" قد أغار على طسم وجديس باليمامة، فانكفأ راجعا بمن معه، فأتت خيول "تبع" على سرية لجذيمة فاجتاحتها. فهو من معاصري "جذيمة" على رأي أهل الأخبار.
و "حسان" هذا هو الذي أفنى "جديسا" على رواية أهل الأخبار، وهو الذي فقأ عيني "اليمامة" في شعره، وان "النمر بن تولب العكلي"، أشار في شعره إلى قصتها أيضا.

(1/1239)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر "الطبري" إن "حسان بن تبع" الذي أوقع بجديس، "هو ذو معاهر، وهو تبع بن تبع تبان اسعد ابي كرب بن ملكيكرب بن تبع بن أقرن وهو ابو تبع الذي يزعم أهل اليمن انه قدم مكة، وكسا الكعبة، وان الشعب من المطابخ إنما سمي هذا الاسم لنصبه المطابخ في ذلك الموضع وإطعامه الناس، وان أجيادا إنما سمي اجيادا، لأن خيله كانت هنالك، وانه قدم يثرب فنزل منزلا يقال له منزل الملك اليوم، وقتل من اليهود مقتلة عظيمة بسبب شكاية من شكاهم إليه من الأوس والخزرج بسوء الجوار، وانه وجه ابنه حسان إلى المسند وشمرا ذا الجناح إلى خراسان، وأمرهما إن يستبقا إلى الصين، فمر بسمرقند فأقام عليها حتى افتتحها، وقتل مقاتلتها، وسبى وحوى ما فيها ونفذ إلى الصين فوافى حسان بها، فمن أهل اليمن من يزعم انهما ماتا هنالك، ومنهم من يزعم انهما انصرفا إلى تبع بالأموال".
وقد زعم "الطبري" أيضا إن "حسان بن تبان اسعد ابو كرب بن ملكيكرب ابن زيد بن عمرو ذي الأذعار" سار بقومه من أهل اليمن يريد إن يطأ بهم ارض العرب وارض العجم، كما كانت التبابعة قبله تفعل، فلما كان بالعراق قتله أخوه "عمرو بن تبان اسعد أبو كرب" ورجع "عمرو" بمن معه من جنده إلى اليمن. وأصيب بمرض نفسي، وقتل خلقا من قومه لندمه على قتله أخاه، ثم لم يلبث أن هلك.
وقد زعم إن "عمرا" هذا عرف ب "موثبان"، وانه قتل أخاه بموضع "رحبة طوق بن مالك"، التي عرفت ب "فرضة نعم".
وقد زعم الأخباريون، إن الأمر قد مرج في حمير بعد وفاة "عمرو" وتفرقوا، فوثب عليهم رجل من حمير لم يكن من بيوت المملكة منهم، يقال له: "لخنيعة ينوفه ذو شناتر"، فملكهم، فقتل خيارهم، وعبث ببيوت أهل المملكة منهم، حتى قتله "ذو نواس" في قصة من القصص المألوف وروده من أهل الأخبار.

(1/1240)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر "القلقشندي"، إن الذي حكم بعد "ربيعة بن نصر" الذي حكم اليمن على زعمه بعد "تبان أسعد"، هو "حسان ذو معاهر"، وهو "ابن تبان اسعد أبي كرب"، ثم ملك أخاه "عمرو بن تبان اسعد أبي كرب" من بعده، ونعته ب "الموثبان"، وذكر أنه حكم ثلاثا وستين سنة، ومات عن أولاد صغار وأكبرهم قد استهوته الجن، فوثب على الملك "عبد كلال ابن مثوب"، فملك أربعا وتسعين سنة، وهو تبع الأصغر.
قد ترك لنا "شرحبيل يعفر" "شرحب ايل يعفر" نصا مهما وسمه علماء العربيات الجنوبية ب Glaser 554، وهو وثيقة تتعلق بتصدع سد مأرب الشهير في أيامه وإعادة بنائه، فقص علينا فيه الحادث، وتحدث عن مقدار ما افقه على الفعلة والعمال لإعادة البناء. ويتألف هذا النصر من مئة سطر. جاء فيه: أن "شرحبيل يعفر ملك سبأ وذي ريدان و حضرموت و يمنات وأعرابها في النجاد والنهائم ابن أبي كرب اسعد ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت و أعرابها في النجاد والتهائم"، قام بتجديد بناء سد مأرب وترميمه على مقربة من موضع "رحب" "رحاب". وعند "عبرن" "عبران"، وقام بإصلاح أقسام منه حتى موضع "طمحن" "طمحان" "الطمح"، كما قام بحفر مسايل المياه وبناء القواعد والجدران بالحجارة، وقوى فروعه، و بنى أقساما جديدة، وأوصلها بعضها ببعض بين "غيلن" "غيلان" "الغيل" و "مفلل" "م ف ل ل" "مفلول"،وجدد سد "يسرن" "يسران"، وقام بإعاشة العمال ومن اشتغل ببنائه، وتمت هذه الأعمال في شهر "ذي داون" "ذي دأون" من سنة "564" "565" من التأريخ الحميري، أي سنة "449" "450" "456" للميلاد. ويشير هذا العمل بالطبع إلى حدوث تصدع في السد اضطر الملك إلى تجديد بناء أقسام منه، وترميم ما أمكن ترميمه من أقسام أخرى، وإضافة أقسام جديدة إليه.

(1/1241)

admin
12-27-2010, 01:04 AM
ويظهر من هذا النص ايضا إن السد قد تهدم بعد مدة قصيرة، وذلك في شهر "ذو ثبتن" "ذو الثبت" من سنة "565" من التقويم الحمبري، أي سنة "450" أو "451"، "455" "456" للميلاد، فأثر ذلك تأثيرا سيئا جدا فيمن كان ساكنا في جواره، حتى اضطر من كان ساكنا "رحبن" "الرحبة" إلى الفرار إلى الجبال خوف الموت، فأسرع الملك إلى الاستعانة بحمير وبقبائل حضرموت لإعادة بناء السد، فتجمع لديه زهاء عشرين آلف رجل اشتغلوا بقطع الحجارة من الجبال وحفر الأسس وتنظيف الأودية و إنشاء خزانات لخزن المياه وعمل أبواب ومنافذ لمرور الماء والسيطرة عليه، حتى تم ذلك في شهر "ذو دأو" من سنة "565" من تأريخ حمير. وذكر ما أنفقه على العمال وما قدمه لهم من طعام وما م ذبحه من بقر و أغنام، و ما صرفه من دبس "دبسم"و خمر و غير ذلك مما ذكره و فصله. و قد استخدم الملك عشرين الف رجل لإصلاح السد.
لقد قل شأن مأرب في هذا العهد، وأخذ الناس يرحلوان عنها إلى مواضع أخرى مثل "صنعاء" التي تألق نجمها حتى صارت مقرا للحكام الذين أقاموا في قصر،"غندن" "غندان"، أي "غمدان"، وفدا يكون لتصدع السد مرارا، دخل في هذا التحول، حيث أجبر المزارعين على ترك أرضهم التي أصابها التلف والجفاف والارتحال إلى ارضين أخرى، فتركوها إلى الهضاب والجبال. وقد يكون لتحول السياسي الذي أصاب هذا العهد دخل أيضا فيه.

(1/1242)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي تصدع السد بعد مدة ليست طويلة من ترميمه و إصلاحه وتجديده، وبعد إنفاق أموال طائلة عليه واشتغال آلاف من العمال في بنائه، شيء يثير السؤال عن سبب سقوطه أو سقوط جزء منه بهذه السرعة، فهل تهدم من سقوط أمطار غزيرة جدا في هذا العام لم يكن في طاقة السد احتمالها فسقط? أو إن بناء السد لم يكن قد كمل تماما، فسقطت أمطار غزيرة سببت انهيار الأماكن الضعيفة من المواضع التي لم تكن قد تمت، فانهار لذلك ? أو انه انهار بفعل كوارث طبيعية مثل زلزال أو بركان? إلى هذا الرأي الأخير يميل "فلبي" في كتابه به " سناد الإسلام ".
إن مما يؤسف عليه حقا إن هذا النص لم يذكر أسماء القبائل التي هربت من "رحبتن" "رحبت" "الرحبة" خوفا من الهلاك. وعلى الجملة، فالمستفاد منه بكل صراحة إن القبائل التي كانت تقطن هذه المنطقة تفوقت وتشتتت لتهدم السد. و فيه دليل على وجود أصل تأريخي للروايات العديدة التي يرويها الأخباريون عن تهدم سد مأرب وتفرق سبأ. ولكننا لا نستطيع بالطبع أن نقول إن هذا ا الحادث الذي وقع في أيام "شرحبيل" هو الحادث المقصود في روايات الأخباربين، وهي روايات تغلب عنصر الخيال والابتداع والمبالغات فيها على عنصر الحقيقة و التأريخ.
وفي النص كما نرى ونقرأ جملة مهمة تشير إلى انتشار عقيدة التوحيد في ذلك الزمن بين اليمانين، و إلى الابتعاد عن آلهة اليمن القديمة. وتشير إلى ظهور "إله السماء والأرض" أو "إله السماوات والأرض"، فهو إله واحد، يرعى ملكوت السماء والأرض. وفي هذه العقيدة اعتقاد بوجود إله واحد. فقد ورد في النص: "بنصر وردا الهن بعل سمين وأرضن"، أي "بنصر وبعون الإله رب السماوات والأرض"، وهي عقيدة ظهرت عند أهل اليمن بعد الميلاد بتأثير اليهودية والنصرانية ولا شك.

(1/1243)


--------------------------------------------------------------------------------

و في جملة "الهن ذلهو سمين وأرض" الواردة في النص: Ryckmans 507 ومعناها: "الإله الذي له السماوات والأرض"، تعبير عن التوحيد أيضا وهي من نصر يرجع إلى هذا الملك أيضا. فنحن إذن في عصر آخذت عقيدة التوحيد تنتشر فيه.
وقد انتقل احكم بعد "شرحبيل يعفر" "شرحب ايل يعفر" إلى "عبد كلال" "عبد كللم" "عبد كلالم" على رأي "هومل". وجاراه "فلبي" في رأيه هذا، وجعل حكمه منذ سنة "455 م" حتى سنة "460 م". و لم يشرح "هومل" الأسباب التي دفعته إلى اعتبار "عبد كلال" ملكا.
أما "فلبي"، فرأى انه كان كاهنا، وسيد قبيلة ثار على ملكه، طمعا في الملك أو إخمادا للثورة التي أجج الملك نيراتها على آلهة قومه، فغلبه، وربما كان ذلك بفضل مساعدة مملكة "اكسوم" له، و لكنه لم ينعم بالملك طويلا، فلم يزد مدة حكمه على خمس سنين.
وقد ورد اسم "عبد كلال" في النص الموسوم ب Glaser 7. وذكر معه اسم "هنام" "هنم" "هانئ" و "هعلل"، وهما ابناه. ووردت بعد أسمائهم عبارة: "الهت قولم" " أي "سادة أقيال"، وهي جملة تدل على انه هو وابناه كانوا أقيالا، فان كانت كلمة "قولم" اسم علم، صار معناها "آلهة قولم"، أي "سادة قول"، على اعتبار إن "قول" اسم قبيلة، ولا يفهم من التفسيرين على كل حال إن "عبد كلال" كان ملكا. وقد دون هذا النص عند بنائهم بيت "يرت": "براو وهشقرن بتهمو يرت".وذكرت بعد هذه الكلمات جملة: "بردا رحمنن"، أي: "بعون الرحمن" وذلك في سنة "573" من التأريخ الحميري، المقابلة لسنة "458" الميلادية. وليست في هذا النص إشارة لا إلى ثورة ولا إلى ملك، ولا إلى تعلق بآلهة قديمة ودفاع عنها بل الأمر على العكس، فجملة "بردا رحمنن" تدل على انه كان مثل "شرحبيل يعفر" موحدا أيضا، يدين بإله واحد، هو "الرحمن" الذي ظهرت عبادته متأخرة كذلك، وانه لم يكن على دين اجداده في عبادة "المقه" وبقية الأصنام.

(1/1244)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر الأخباريون إن من ملوك حمير ملكا اسمه "عبد كلال"، وكان مؤمنا يدين بدين المسيح، فآمن بالني قبل مبعثه. ومن ولده "الحارث بن عبد كلال" وهو أحد الملوك الذين وفدوا على رسول الله من ملوك حمير، فأفرشهم رداءه، وهم: "الأبيض بن حمال"، و "الحارث بن عبد كلال"، و "أبرهة بن شرحبيل بن أبرهة بن الصباح"، و "وائل بن حجر الحضرمي". يضاف إليهم "جرير بن عبد الله البجلي"، و "عبد الجد الحكمي" في رواية أخرى. ودون اسمه في نسخة "كتاب التيجان" المطبوعة على هذه الصورة "عبد كاليل بن ينوف"، وجعل ملكه أربعا وستين سنة، وذكر أنه حكم بعد "عمرو بن تبان"، وأنه كان مؤمنا على دين عيسى، ولكنه ستر إيمانه.
وجعله بعض المؤرخين "عبد كلال بن مثوب"، وذكروا انه وثب على ملك التبابعة بعد وفاة "عمرو بن تبان اسعد" عن أولاد صغار، وأكبرهم استهوته الجن، فملك أربعا وتسعين سنة، وهو تبع الأصغر، وله مغاز وآثار بعيدة فلما توفي ملك أخوه "مرثد"، وقد ملك سبعة وثلاثين عاما.
من روايات الأخباريين هذه ومن تشابه الاسمين، استنتج "فون كريمر" و "هومل" وغيرهما أن "عبد كلال" المذكور في النص هو "عبد كلال" المذكور عند الأخباريين، وأنه كان لذلك ملكا.
و "عبد كلال"، هو رجل ثائر لم يكن من أبناء الملوك، وإنما اغتصب العرش اغتصابا على رأي أهل الأخبار، وقد زعم بعضهم إن الذي حكم بعده أخوه لأمه واسمه "مرثد"، وقد حكم سبعا وثلاثين سنة. ثم ملك من بعده ابنه "وليعة بن سرثد"، ثم ملك من بعده "ابرهة بن الصباح بن لهيعة بن شيبة بن مرثد بن ينف بن معد يكرب بن عبد الله بن عمرو بن ذي أصبح، الحارث بن مالك"، وقبل إنما ملك تهامة فقط.

(1/1245)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر "الهمداني"، أن "عبد كلال" ونعته ب "الأكبر ذي الحدث"، كان قائد "حسان بن تبع". وكان على مقدمته إلى اليمامة يوم قتل جديسا، وقريش تقول: إن "حسان بن عبد كلال هذا حاربهم وأسروه" تم ذكر إن "حسان بن عبد كلال بن ذي حدث الحميري"، أقبل من اليمن "في حمير وقبائل من اليمن عظيمة، يريد أن ينقل أحجار الكعبة من مكة إلى اليمن، ليجعل حمير الناس البيت عنده والى بلاده، فأقبل حتى نزل نخلة، فأغار على سرح الناس ومنع الطريق، وهاب أن يدخل مكة، فلما رأت كنانة وقريش وقبائل خندف ومن كان معهم من أفناء مضر ذلك، خرجوا إليه ورئيس القوم يومئذ "فهر بن مالك"، فاقتتلوا قتالا شديدا، فهزمت حمير وأسر حسان بن عبد كلال ملك حمير، أسره الحارث بن فهر، وقتل في المعركة فيمن قتل: قيس بن غالب بن فهر. وكان حسان عندهم بمكة أسيرا ثلاث سنين، حتى افتدي منهم، فخرج به، فات بين مكة واليمن".
وقد علق "الهمداني" بعد ذلك على هذا الخبر، فقال: "ما سمعت العلماء ولا أحد من عراف حمير، يثبت هذه الحرب التي كانت بيت حمير وقريش، وإنما كانت خزاعة الغالبة، يثبت عصر فهر على مكة، ولم يكن هم بحمل حجارة البيت سوى تبع بمشورة هذيل بن مدركة". فهو مثل سائر أهل اليمن المتعصبين لقحطان لا يؤيد خبر تلك الحرب، التي تجعل النصر لأهل مكة. ويضع تبعة ما يذكره أهل الأخبار من نقل حجارة الكعبة إلى اليمن على عاتق "هذيل بن مدركة"، من سادات مكة.

(1/1246)


--------------------------------------------------------------------------------

وشاهدت اليمن في سنة "460" للميلاد أو قبل ذلك بقليل ملكا جديدا اسمه "شرحبيل يكف" "شرحب ال يكف" "شرحب ايل يكوف"، كانت نهاية حكمه في سنة "470" للميلاد على تقدير "هومل" و "فلبي". وهو ملك لا نعرف اسم أبيه، ولا نعرف علاقته بالملك السابق. ويرى "فلبي" انه على الرغم من هذا اللقب الطويل: "ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابها في الأطواد وفي تهامة"، الذي يشير إلى تملك صاحبه العربية الجنوبية الغربية، فقد طل الأحباش في بقعتهم الضيقة التي ارتكزوا عليها يحاربون حكومة "حمير" وهم البقية الباقية من عقد الإحتلال السابق.
وقد جاء اسم "شرحب ايل يكف" "شرحبيل يكف" في كتابة مؤرخة بسنة "575" من التقويم الحميري، المقابة لسنة "460" للميلاد. وقد وردت في الكتابة جملة: "رحمنن وبنهو كرشتش غلبن"، أي "الرحمن وابنه المسيح الغالب"، وقد استعمل لفظة "كرشتش" في مقابل لفظة Christus، مما يدل على إن صاحبها نصراني. وقد استعمل المصطلح اليوناني، ويظهر إن نصارى اليمن كانوا قد أخذوه من المبشرين، وعربوه على الصورة المذكورة. وقد ذكر بعد تلك الجملة اسم الملك ونعته الذي هو: "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابها في النجاد وفي التهائم".
وقد بقي من تأريخ النص اسم الشهر وهو "ذ حجت"، أي "ذو الحجة" "ذو حجة" والعدد الأول من اسم السنة وهو خمسة. ويرى "فلبي" احتمال كون السنة "585" أو "575""من التاريخ، الحميري، أي سنة "470" أو "460" للميلاد.

(1/1247)


--------------------------------------------------------------------------------

وورد اسمه في كتابة أخرى ناقصة وقد سقطت منها حروف وكلمات. وقد ذهب "جامه" إلى أن "شرحبيل يكف" "شرحب ايل يكوف"، كان قد حكم حكما منفردا، وذلك من سنة "570" حتى سنة "580" من التقويم الحميري، ثم اشرك معه أولاده الثلاثة في أحكم، وذلك من سنة "580" حتى سنة "585" من التقويم المذكور، ثم حكم مع ولدين من ولده، وذلك من سنة "585" حتى سنة "590" من التقويم الحمري، ثم حكم ابنان من أبنائه وذلك من سنة "590" حتى سنة "595" من التقويم المذكور، ثم حكم من بعدهما "معد يكرب ينعم" حكما منفردا وذلك من سنة "595" حتى سنة "600"من ذلك التقويم، ثم خلفه "عبد كلال" الذي حكم من سنة "600" حتى سنة "602" من التقويم الحميري.
ووصل إلينا نص أرخ بسنة "582" من التأريخ الحميري، أي سنة "467" للميلاد، وفيه كلمات مطوسة، منها كلمة أو كلمات سقطت بعد كلمة "شرحب ايل" "شرحبيل"، وبعدها "معد كرب ينعم" "معد يكرب ينعم". ويستدل بتأريخ هذا النص على إن المراد ب "شرحبيل" "شرحب ايل" الملك "شرحبيل يكف" "شرحب ايل يكف" الذي نتحدث عنه. ولم يرد في هذا النص اسم ابن آخر من أبنائه غير هذا الابن، وهو "معد كرب ينعم" "معد يكرب ينعم".
وقد وجد مدونا في إحدى الكتابات أسماء ثلاثة أولاد من أولاد "شرحبيل يكف"، هم: "نوفم" "نوف" "نواف" "نائف"، و "لحيعت ينف" "لحيعث ينوف"، و "معد يكرب ينعم" وقد نعتوا جميعا بالنعت الملكي المعروف مما يدل على أنهم كانوا قد اشتركوا جميعا في الحكم.
وقد ورد اسم "شرحبيل يكف" في عدد من كتابات أخرى. وقد ذكر معه في بعضها اسم ولدين من أولاده هما: "لحيعت ينف" و "معد يكرب ينعم" "معد يكرب ينعم"، وقد لقبا بلقب "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابها في الجبال وفي تهامة"، مما يدل على أنهما حكما حكما مشتركا وتهانا ملكين.

(1/1248)


--------------------------------------------------------------------------------

وحكم بعد "شرحبيل يكف"-في رأي "هومل"-ولداه "معد يكرب يهنعم" و "لحيعثت ينف" "لحيعث ينف" "لحيعث ينوف"، وذلك من حوالي سنة "470 م" حتى سنة "495 م". أما "فلبي"، فقد وضع في قائمته التي رتبها في كتابه "سناد الإسلام لملوك سبأ، اسم "نوف" بعد اسم "شرحبيل يكف"، وقدر مدة حكمه منذ سنة "470 م" حتى سنة "480" "490 م" ووضع اسم "لحيعثت ينف" بعده، وجعل مدة حكمه منذ سنة "480 ب. م." حتى سنة "550 ب. م.".
و "لحيعثت ينف" هو "لخيعة بن ينوف ذو شناتر" المذكور عند أهل الأخبار. وقد زعم بعضهم انه حكم سبعا وعشرين سنة.
وقد ورد اسم "معد يكرب يهنعم" "معد يكرب ينعم" واسم شقيقه "لحيعثت ينف" "لحيعت" في النص: Ryckmans 264 وفي النص CIH 620 وورد اسم "لحيعثت" وورد معه اسم "نوف"، وهو شقيقه في النص: Ryckmans 203.
وقد ذكر "فلبي" انه في حوالي سنة "495 م" شبت ثورة قام بها "مرثد الن" "مرثد علن?"، غير إنها أحبطت، ووضع بعل اسم "لحيعثت ينف" اسم "معد يكرب ينعم"، وقدر مدة حكمه بعشرسنين، منذ سنة "490 م" حتى سنة "500م"، أي انه شارك، على رأيه، أخاه في احكم. أما الذي حكم بعد الأخوين "معد يكرب يهنعم" و "لحيعثت ينف"-في رأي "هومل" - فهو "مرثد الن" وقال انه قد حكم من حوالي سنة "495 م" حتى سنة "495 م".

(1/1249)


--------------------------------------------------------------------------------

أما "جامه"، فقد وضع اسم "عبد كللم" "عبد كلالم"، أي "عبد كلال" بعل اسم "معد يكرب ينعم"، وقد جعل حكم "معد يكرب" فيما بين السنة "595" والسنة "600" من التقويم الحميري، أي بين سنة "480" أو "486" للميلاد والسنة "485" أو "491" للميلاد. وجعل حكم "عبد كلال" فيما بين السنة "600" والسنة "603" من التقويم الحميري، أي سنة "485" أو "491" للميلاد، والسنة "487" أو "493" ل!ميلاد. ثم جعل فراغا لا يدري من حكم فيه، جعله يمتد من السنة "602" حتى السنة "610" من التقويم الحميري، أي ثماني سنين، ثم ذكر بعده اسم الملك "مرثد الن ينف" "مرثد علن" "مرثد علان"، وجعل حكمه من سنة "610" حتى السنة "620" من التقويم الحميري، أي من سنة "495" أو "501" حتى السنة "505" أو "511" للميلاد.
ووصل إلينا نص وسم ب CIH 596، وهو ناقص ويا للأسف، ورد فيه اسم الملك "مرثد الن ينف" "مرثد الن ينوف" وقد لقب فيه باللقب المألوف: "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابها في الجبال وفي التهائم"، يظهر انه الملك "مرثد الن" الذي عناه "هومل". وقد أصيبت اسطر النص بأضرار، أتلفت كلمات منه وأفسدت علينا المعنى. وقد وردت في السطر السابع منه كلمة "ومهرجتم"، مما يفهم إن حربا وقعت في البلاد في تلك الأيام. ف "الهرج" في العربيات الجنوبية بمعنى الحرب، وان فتنة حدثت، لا ندري سببها. ومهما يكن من شيء، فهي لم تكن بعيدة عهد عن أيام حكم "ذي نواس" ذلك العهد الذي انتهى بدخول الحبشة ارض اليمن.
ووضع "هومل" بعد اسم "مرثد الن" اسم "ذي نواس"، وقد حكم-على تقديره-من سنة "515 م" حتى سنة "525 م"، وبه ختمت-في رأيه-سلسلة ملوك الحميريين.

(1/1250)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عثر على كتابة وسمت ب Philby 228 ورد فيها اسم ملك من ملوك "سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابها في الجبال وفي تهامة"، هو "معد يكرب يعفر". وأرخت هذه الكتابة بشهر "ذي القيض" "ذ قيضم" من سنة "631" من التأريخ الحميري الموافقة لسنة "516 م". ومعنى هذا أن هذا الملك قد حكم قبل حكم "ذي نواس" بمدة قليلة. ونحن لا نعلم في الزمن الحاضر شيئا من صلة هذا الملك ب "ذي نواس".
وقد عبث الدهر ببعض كلمات هذا النص وحروفه، فأضاع علينا معاني مفيدة. وردت فيه أسماء اعلام، هي: "سبأ"، و "حميرم" "حمير"، و"رحبتن" أي "رحبة" "الرحابة". وقد ورد اسم "رحبتن" في عدد من النصوص على انه اسم موضع. أما هنا، فهو اسم قبيلة، لورود كلمة "أشعبهمو" قبل "سبا وحميرم ورحبتن". ووردت كلمة "واعربهمو"، وبعدها جملة "كدت ومذحجم... وبني ثعلبت ومذر وسبع". وفي النص حروف طامسة حرمتنا معرفة بعض الأعلام.
وإما "كدت"، فقد قلت إن رأي علماء العربيات الجنوبية إنها "كندة". ويظهر من ورود اسمها في النصوص التي ترجع إلى ما بعد الميلاد، أنها اخذت تؤثر تأثيرا واضحا في سياسة العربية الجنوبية بعد الميلاد، ولا سيما بعد توسع سلطان القبائل وتدخل الأعراب في الشؤون السياسية لعدم الاستقرار ولتدخل الحبش في شؤون العربية الجنوبية، وتقاتل الملوك والاقيال بعضهم مع بعض.
ويتبين من ورود كلمة "اعربهمو" قبل كلمة "كدت" في النص، أن قبيلة كندة كانت من القبائل الأعرابية أي البدوية، ولم تكن من القبائل المستقرة، النازلة في منازل ثابتة. ولهذا استعان بها حكام اليمن في تأديب القبائل اليمانية أو قبائل معد وقبائل نجد التي كانت تغزو اليمن، كما كانت نفسها تهاجم حكام اليمن وتغزو أرضهم، فصار لهم من ثم شأن يذكر في سياسة اليمن في هذا الوقت.

(1/1251)


--------------------------------------------------------------------------------

و "مذحجم" لقبيلة "مذحج"، وهي من القبائل المعروفة، وينسبها أهل الأنساب إلى مذحج بن مالك بن أدد. ويذكرون إن مذحج اكمة ولدت عليها أمهم فسموا مذحجا وقد ورد اسم هذه القبيلة في النص: Ryckmans 508 المدون في أيام الملك "يوسف أسأر" الذي سأتحدث عنه، ورد في نص قتباني، هو النص الذي وسم ب REP. EPIG. 4688. وقد ذكر بعده اسم قبيلة "رغض"، ويظن البعض أن في قراءة الحرف الأول شيئا من التحريف، وأن الحرف الأول هو حرف "ب" لا "راء"، فيكون اسم القبيلة "بغض" لا "رغض"، وهو اسم القبيلة "بغيض". وبغيض من القبائل العربية المعروفة.
وأما "ثعلبة"، فهي قبيلة "ثعلبان" التي ورد اسمها في السطر الثالث عشر من نص "سميفع أشوع" المحفوظ في متحف "استانبول"، وفي نص: Philby 123 حيت ورد: "الهت ثعلبن"، " "آلهة ثعلبان"، أي: سادة قبيلة "ثعلبان".
وذكر اسم "دوس ثعلبان" في قصة تعذيب "ذي نواس" لنصارى "نجران".
ويرى علماء العربيات الجنوبية وجود صلة بين قبيلة "ثعلبان" و "دوس ثعلبان". وورد اسم "دوس ثعلبان" في أثناء كلام الطبري على "ذي نواس".
ويعرف "ذو ثعلبان" المتقدم ذكره ب "ذي ثعلبان الأصغر"، وقد قال عنه "نشوان بن سعد الحميري" إنه من نسل "ذي ثعلبان الأكبر"، وهو ملك من ملوك حمير، وأحد المثامنة منهم. واسمه "نوف بن شرحبيل بن الحارث"، وزعم إن "ذا ثعلبان الأصغر" هو الذي أدخل الحبشة إلى اليمن غضبا لما فعل ذو نواس بأهل الأخدود من نصار نجران.

(1/1252)


--------------------------------------------------------------------------------

وإما "مذر" و "سبع"، فقبيلين. وأظن إن في قراءة اسم القبيلة الأولى بعض التحريف. وان الحرف الذي قرأ ب "ذ" يجب إن يقرأ "ضادا" "ض"، وتكون القراءة عندئذ "مضر"، وهو الاسم الشهير المعروف عند النسابين. وقد رجعت إلى الصورة "الفوتوغرافية" المنشورة في مجلة Le Museon، فوجدت إن الحرف المذكور هو أقرب إلى حرف "الضاد" من حرف "الذال". والذين يقرأون المسند يعرفون إن من السهل الوقوع في الخطأ في قراءة الحرفين اذا كانا قد كتبا على أحجار قديمة وقد عبث الدهر بتلك الأحجار لأن بين الحرفين شيئا من التشابه. ويظهر لدي إن رسم الحرف أقرب إلى الضاد من الذال، لوجود أثر لخط في أعلى وفي أسفل الحرف.
ويفهم من هذا النص إن حربا أو فتنة كبيرة كانت قد حدثت في أيام هذا الملك، أسهمت فيها القبائل المذكورة، وهي: سبأ وحمير ورحبة وكدت "كندة" ومضر وثعلبة، وذلك قبل احتلال الحبش لليمن بقليل أو في أيام "معد يكرب يعفر"، وفي سنة "516 م". وقد مهدت هذه الفتنة الطريق للأحباش أن يدخلوا إلى العربية ويحتلوها بسهولة، وذلك بسبب الخصومات التي كانت بين القبائل وظهور الروح القبلية التي لا تعرف التعاون الا، في سبيل مصلحة القبيلة حسب.
وتولى الملك بعد "معد يكرب يعفر" الملك ذو نواس، وهو زرعة ذي نواس بن تبان اسعد ابي كرب بن ملكيكرب بن زيد بن عمرو في رأي الأخبارين، وهو يوسف ذو نواس بعد تهوده في رأيهم أيضا. ولقد زعم بعض أهل الأخبار انهه كان من أبناء الملوك، وزعم بعض آخر انه لم يكن من ورثه الملك، ولا من أبناء من حازه قبله، وإنما أخذه أخذا. قيل: كانت له ذؤابتان تنوسان على عاتقه بها سمي ذا نواس.

(1/1253)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا يعرف أهل الأخبار اسم الملك "معد يكرب يعفر"، بل ذكروا اسم ملك آخر قالوا انه حكم قبل "ذي نواس" زعموا إن اسمه "لخيعة ينوف ذو شناتر"، وقالوا انه لم يكن من بيوت المملكة، بل كان من حمير، وثب على الملك، فملك حمير، وقتل خيارهم، وعبث ببيوت أهل المملكة منهم. وكان أمرءا فاسقا، اذا سمع بالغلام من أبناء تلك الملوك زرعة ذو نواس بعث إليه، ليفعل به كما كان يفعل بأبناء الملوك قبله، فلما خلا به، وثب عليه ذو نواس بالسكين فطعنه به حتى قتله، ثم احتز رأسه، فخرجت حمير والأحراس في أثر ذي نواس حتى أدركوه، فقالوا له: ما ينبغي لنا إن يملكنا الا انت اذ أرحتنا من هذا الخبيث فملكوه، واستجمعت كليه قبائل حمير وقبائل اليمن، فكان آخر ملوك حمير.
أما "ابن قتيبة"، فقد زعم إن "ذا شناتر" رجل لم يكن من أهل بيت الملك ولكنه من أبناء المقاول، أي من طبقة الأقيال "اقول". وقد اتفق مع غيره من أهل الأخبار في قصة غلظه وفحشه، وفعله القبيح بأبناء الملوك، وفي ارساله إلى ذي نواس يستدعيه إليه ليفعل به ما كان يفعل بغيره، وفي قتله إياه.
وتهو د ذو نواس وتهودت معه حمير، وتسمى "يوسف".هذا ما عليه أكثر أهل الأخبار وقد ذكر "ابن كثر" في تفسيره، انه كان مشركا.
وبهذه القصة والطربقة صير أهل الأخبار ابتداء ملك "ذي نواس".
وذكر "ابن هشام" إن ذا نواس كان آخر ملوك حمير، وذكر آخرون إن ذا جدن، وهو ابن ذو نواس قد خلف أباه على حمير. وفي رواية أخرى إن ملك حمير لما انقرض وتفرق قي الأذواء من ولد زيد الجمهور، قام ذو يزن بالملك، واسمه علي بن زيد بن الحرث بن زيد الجمهور، أو علي بن الحرث بن زيدبن الغوث بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد الجمهور، فسار عليه الحبشة وعليهم أرياط، ولقيهم فيمن معه، فانهزم واعترض البحر فأقحم فرسه وغرق، فهلك بعد ذي نواس وولى ابنه مرثد بن ذي يزن مكانه، وهو الذي استجاشه امرؤ القيس على بني أسد.

(1/1254)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان من عقب ذي يزن أيضا، علقمة ذو قيفال بن شراحبيل بن ذي يزن ملك مدينة "الهون"، فقتله أهلها من همدان.
ولم يصل الينا شيء من هذا القصص الذي رواه الأخباريون عن ذي نواس مكتوبا بالمسند. ولم يرد اسمه في أي نص من نصوصه حتى الآن.
وزعم المؤرخ "ابن العبري" Barhebeaeus، أن "ذا نواس" واسمه "يوسف"، وكان من أهل الحيرة في الأصل، وكانت امه يهودية من أهل "نصيبين" Nisibis، وقعت في الأسر، فتزوجها والد "يوسف" فأولده منها. ومعنى هذا أنه لم يكن يمانيا، بل يهوديا وفد على اليمن من الحيرة. وقد لاحط بعض المستشرقين إن اسم "يوسف ذو نواس"، ليس على شكل وطراز اسماء وألقاب ملوك اليمن، وهذا ما دعاهم إلى التفكر قي احتمال وجود شيء من الصحة في روإية "ابن العبري"، لا سيما وأن يهود اليمن ويثرب وخيبر كانوا من المؤيدين للساسانيين ومن المناصرين لهم.
وقد اختلف الأخباريون في مدة حكمه، فقال بعضهم: انه ملك ثماني وثلاثين سنة. وذكر المسعودي وآخرون أنه حكم مئتي مشة وستين سنة. وذكر حمزة أنه ملك عشرين سنة. وهكذا هم فيه وفي غيره مختلفون.

(1/1255)


--------------------------------------------------------------------------------

واذا ما استثنينا الأخبار التي رويت عن تعذيب "ذي نواس" لنصارى نجران، فإننا لا نعرف شيئا آخر مهما عن اعمال هذا الملك، الذي كان متحاملا جدا على النصارى والنصرانية حتى انه راسل ملك الحيرة لكي يؤثر عليه فيحمله على أن يفعل بنصارى مملكته ما يفعله هو بهم. ولعله كان يريد بذلك أن يكون حلفا سياسيا مع ملوك الحيرة ومن ورائهم الفرس لمقاومة الحبش الذين كانوا قد وطئوا سواحل اليمن وأقاموا لهم قواعد فيها وعقدوا معاهدات مع الأمراء المنافسين ملوك حمير، وصاروا يحرضونهم على أولئك الملوك، ليتمكنرا بذلك من السيطرة على كل من اليمن والتوسع من ثم نحو الحجاز، للاتصال بحلفهائهم الروم. والسيطرة بذلك على أهم جزء من جزيرة العرب، والهيمنة على البحر الأحمر والمحيط الهندي، وانزال ضربة عنيقة بسياسة خصوم الروم، وهم الساسانيون.
وقي حوالي السنة "525 م" كانت نهاية حكم "ذي نواس"، إذ احتل الأحباش اليمن كما سنرى ذلك فيما بعد.
وفي موضع "سلع"، ويسمى "نخلة الحمراء" وهو خربة عادية، موضع زعم أنه قبر "ذي نواس"، المتوفى في حوالي "سنة 525 م". وقد فتح الموضع واستخرجت سنه آثار فنية ذات قيمة، من بينها تمثالان لزنجبين من البرنز.
ويظن بأن ما جاء بنص"حصن غراب" الموسوم بين المستشرقين ب REP. EPIG. 2633 من إن الأحباش فتحوا أرض حمير سنة "640" من التقويم الحمري الموافقة لسنة "525" للميلاد، وقتلوا ملكها وأقياله الحميريين والأرحبيين، يشير إلى الملك "ذي نواس"، وان لم يرد بالنص على اسمه.

(1/1256)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عثر على نصين مهمين هما: Rykcmans 507 والنص Rykcmans 508، وقد أشير فيهما إلى حروب وقعت بين الأحباش وبين ملك سمي فيهما ب "يسف اسار" "يوسف أسأر"، ولم يلقب النصان "يوسف" باللقب الطويل المألوف بل نعتاه ب "ملكن يسف أسأر"، أي "الملك يوسف أسأر" فقط. و "يسف اسار"، هذا هو الملك "ذو نواس". وقد كتب النصان في سنة واحدة هي سنة "633" من التقويم الحميري، الموافقة لسنة "518" للميلاد. الا إنهما كتبا في شهرين مختلفين. فكتب أحدهما في شهر "ذ مذرن" "ذ مذران" "ذو مذران" وكتب الثاني في شهر "ذ قيضن" "ذو قيضن" "ذو القيض". ويستنتج من عدم تلقيب "يوسف" باللقب الملكي الطويل المألوف، إن ملكه لم يكن متسعا وان سلطانه لم يكن عاما شاملا كل اليمن، بل كان قاصرا على مواضع منها. فقد كان الأحباش يحتلون جزءا منها بما في ذلك عاصمة حمير مدينة "ظفار" وكان الأقيال ينازعونه السلطة وقد كونوا لهم اقطاعيات مستقلة، نازعت الملك على الحكم والسلطان. وكانت الفتن مستعرة وهذا مما مكن الحبش من انتهاز الفرص، فأخذوا يتوسعون بالتدريج حتى قضوا على استقلال البلاد واستولوا عليها وتلقب حكام الحبش باللقب الملكي اليماني الطويل المألوف دلالة على سيطرتهم على اليمن.
وقد سقطت من النص Rykcmans 507 كلمات من صدره، فأثر سقوطها هذا بعض التأثير على فهم المعنى فهما واضحا. وقد وردت في الفقرة الأولى منه كلمات مثل: "اشعبه" أي "قبائله"، و "اقولهمو ومراسهمو"، أي "أقيالهم ورؤساوهم". وجاءت جملة: "وبنيهمو شرحب ال يكمل" أي "وبنيهم: شرحبيل يكمل"، أي "وابنهم: شرحبيل يكمل". ثم دونت بعد هذا الاسم أسماء: "هعن اسانن"، و "لحيعت يرخم" و "ومرثد ال يملد" "مرتد ايل يملد"، وقد سقطت كلمات بعد لفظة "بني" أي أبناء، وهم من مؤيدي "الملك يوسف أسأر" ومن مساعديه. وقد أشير بعد ذلك إلى قتال وقع بينها أي جماعة الملك الحبش "احبشن" بموضع "ظمو" وفي مواضع أخرى.

(1/1257)


--------------------------------------------------------------------------------

وتناول النص الثاني خبر حروب وقعت بين الملك "يوسف اسأر" وبين الحبش ومن كان يؤيدهم من أقيال اليمن. وهو نص سجله القيل "قولن" "شرح ايل يقبل بن شرح ايل يكمل" من بني "يزأن" "يزن و "جدن" "جدنم" و "حبم" و "حب" و "نسان" "نان" و "جبا" و "جبأ". ويتبن من هذا النص إن الملك "يوسف أسأر" هاجم "ظفر" "ظفار" مقر الأحباش، واستولى على "قلسن"، أي كنيسة "ظفار". ثم سار بعد ذلك على "اشعرن"، أي "الأشعر" "الأشاعر". قبيلة من قبائل اليمن. ثم سار الجيش إلى "مخون" "مخا"، وحارب وقاتل، فقتل كل سكانها "حورهو"، واستولى على كنيستها، وحارب كل مصانع أي معاقل " شمر" ودكها دكا، وحارب سهول "شمر" كذلك. ثم هاجم الملك هجوما ماحقا قبيلة "الأشعر" "اشعرن". ثم أحصى عدد من قتل في هذا الهجوم وعدد ما وقع في أيدي جيشه من غنائم، فكان عدد من قتل: ثلاثة عشر ألف قتيل، وعدد من أحذ أسيرا تسعة آلاف وخمسمائة اسير، واستولى على "280" ألف رأس من الابل والبقر والمعز "عنزم" "عنز". واحذت غنائم عديدة اخرى واتجه الملك مع جيوشه بعد ذلك إلى "نجرن" "نجران". وفي صعيد هذه المجدينة كان قد تجمع "أقرام" "قرم" "بني "أزأن" وقبائل همدان وأهل مدنهم واعرابهم واعر اب "كدت" "كندة" و "مرجم" "مراد" و "مذحج"، فانزلت جيوش الملك حسائر بالأحباش الذين كانوا قد تحصنوا بالمصانع والحصون وبمن ساعدهم من القبائل. وبمن كان قد تجمع في "نجران" لمساعدتهم. وكان مع الملك وفي جيشه "اقولن" الأقيال: "احيعت يرخم" و "سميفع أشوع" و "شرحب ال اسعد" "شرحبيل أسعد". اقيال وسادات "يزان" يزأن" "يزن" ومعهم قبائلهم: قبل "ازانن" "أزأن".
وقد جاءت في هذأ النص جملة: "سسلت مدبن". وقد قصد بها "حصن المندب"، أي ما يسمئ بموضع "باب المندب". في الوقت الحاضر.

(1/1258)


--------------------------------------------------------------------------------

نرى من خلال قراءتنا لهذين النصين إن الوضع في اليمن كان قلقا جدا، وأن الأمور كانت مضطربة، وان الفتن كانت تعم البلاد، وان الأحباش كانوا يمتلكون قسما كبيرا من ارض اليمن. وكان مقرهم مدينة "ظفار". وكان لهم أعوان وأحلاف من الاقيال والقبائل. وقد استعان بهم الحبش في نزاعهم مع "يوسف أسأر" حتى تمكنوا في الأخير من الاستيلاء على كل اليمن ومن انتزاع السلطة من أيدي حكام اليمن الشرعيين، ومن القضاء على الملك سنة "525" بعد الميلاد.
و "بنو يزان" "بنو يزأن"، هم "ذو يزن" عند أهل الأخبار، وكانوا من العشائر البارزة التي ورد اسمها في نصوص عديدة، واليهم ينسب "سيف بن ذي يزن". وذكر "ابن دريد" إن "يزن" موضع، ويقال "ذو أزن" و "ذو يزن"، وهو أول من اتخذ أسنة الحديد، فنسبت إليه، يقال للأسنة "يزني" و "أزني" و "يزأزني"، وإنما كانت أسنة العرب قرون البقر.
والأقيال المذكورون في النصين وهم: "شرحبيل يكمل" و "لحيعت يرخم" و "شرحئيل يقلل" "شرح ال يقيل" و "السميفع أشوع" و "شرحبيل أسعد ? كانوا من أقيال "يزان" "يزن". وقد لعبوا دورا هاما في الميدان السياسي والعسكري لهذا العهد.
وقد ورد ذكر القيل "شرحب ال يكمل" "شرحبيل يكمل". قي النص: Rykcmans 512. ومدونه رجل اسمه "حجي ايهر" "حجي أيهر". وذكر اسم قيل آخر اسمه: "شرح ال ذ يزان" "شرحئيل ذي يزأن" "شرحئيل ذي. يزن".
وورد اسم قيل آخر من أقيال "ذي يزن" عرف ب "شرحثيل ذي يزن" "شرح ال ذ يزان"، لعله القيل المتقدم. وقد جاء اسمه في نص عرف ب Rykcmans 515، دونه شخص اسمه "معويت بن ولعت" "معاوية بن والعة" و "نعمت بن ملكم" "نعمت بن مالك" "نعمة بن مالك". وقد ختم النص، بعارة مهمة هي: "رب هود برحمنن"، أي: "بالرحمن: رب يهود". ويدل هذا النص على إن صاحبيه كانا من اليهود، أو من العرب المتهودة.

(1/1259)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما "جدنم" فهم "جدن". وهم أيضا من العشائر اليمانية المعروفة. وقد ورد اسمها في عدد من الكتابات. وقد ذكر "ابن دريد" إن من رجال "جدن" "ذو قيفان بن علس جدن"، الذي ذكره "عمرو بن معدى كرب" في شعره: وسيف لابن ذي قيفان عندي=تخيره الفتى من قوم عاد وقد أشير في النص: Rykcmans 51 إلى قيل من اقيال هذه القبيلة دعي ب "لحيعت ذ جدنم" "لحيعت ذي جدن". وقد دونه رجل اسمه "تمم يزد" "تميم يزيد". وقد نعت نفسه ب "مقتوت لحيعت ذ جدنم"، أي ضابط وقائد "لحيعت ذي جدن". ومعنى هذا انه قد كان لهذا القيل جيش. وكان "تميم" من قادة ذلك الجيش.
وقد يكون "تميم" هذا هو "تميم" "تمم" مدون النص الموسوم Rykcmans 513 وقد جاء فيه: "تمم مقتو لحيعت يرخم ذ جدنم وترحم على ابني ملكم ذ جدنم. رحمن وامنن". ومعناه: "تميم ضابط لحيعت يرخم ذو جدن. وترحم على ابن مالك ذو جدن. الرحمن والأمن "الأمان آمين". واذا كان تميم هو "تميم" المتقدم ذكره، فيكون "لحيعت ذو جدن" المذكور هو "لحيعت يرخم" المذكور في هذا النص اذن.
ملوك سبا وذو ريدان وحضرموت ويمنت
وقد رتب "فون وزمن" ملوك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت على النحو الآتي: 1 - شمر يهرعش الثالث.
2 - ياسر يهنعم الثالث مع "تارن ايفع".
3 - ثارن يكرب.
4 - ياسر يهنعم الثالث مع ابنه "ذرأ امر ايمن".
5 - ذمر على يهبر "ذمر على يهبأر".
6 - ذمر على يهبر مع ابنه ثارن يهنعم.
7 - ثارن يهنعم مع ابنه ملكيكرب يهامن.
8 - ملكيكرب يهامن مع ابنيه أبو كرب اسعد وذرأ أمر أيمن.
9 - أبو كرب اسعد مع ابنه حسان يهأمن.
10- شرحبيل يعفر.
الفصل الثاني والثلاثون
إمارات عربية شمالية

(1/1260)

admin
12-27-2010, 01:06 AM
لقد استغلت القبائل العربية الضعف الذي مر على الحكومة السلوقية، فأخذت تزحف نحو الشمال وتهدد المدن القريبة من البوادي وتحاول الاستيلاء عليها. وقد استولت فعلا على بعضها وكونت حكومات يمكن إن نطلق عليها مصطلح "مشيخة" أو إمارة بحسب مصطلحاتنا السياسية في الزمن الحاضر. وهي حكومات توقفت حياتها على كفاية من كونها وأقام اسسها، وعلى كفاية من خلف المؤسسين لها من أشخاص. ولذلك كان عصرها قصيرا في الغالب، وكان حجمها يتوسع أو يتقلص بسرعة، لأن قوة الحكومات بقوة الحكام، فإذا كان الحاكم ذا شخصية قوية وارادة وحزم وذكاء، أغار على جيرانه وهاجم حدود الدول الكبرى، وأصابها بأضرار تضطرها إلى الاعتراف به رئيسا على قبيلته وعلى الأعراب الخاضعين لسلطان، ويبقى على مكانته هذه مادام قويا، فإذا خارت قواه، أو ظهر منافس له أقوى منه، ولا سيما إذا كان منافسه قد جاء حديثا من البادية بدم نشيط، ومعه قوم أقوياء أصحاب عدد، زعزع عن محله المرموق، وصار الأمر لغيره، وهكذا.
ويجب ألا ينصرف الذهن إلى إن هذه القبائل كانت قد جاءت إلى بادية الشام في هذا الزمن أو قبله بقليل، فقد سبق أن تحدثت عن وجود الأعراب في هذه البادية قبل هذأ العهد بزمان. وقد رأينا كيف حارب الآشوريون الأعراب، ولم يكن أولئك الأعراب الذين كانوا قد كونوا "إمارات" لهم في البادية من أبناء الساعة بالطبع، بل لا بد إن يكونوا قد هبطوا بها قبل حروبهم مع الآشوريين بزمان لا يعرف مقداره إلا الله، ولا بد أن يكون اتصال عرب جزيرة العرب بهذه البادية اتصالا قديما، فالبادية والهلال الخصيب امتداد لأرض جزيرة العرب والهجرة بين هذه المواضع قديمة قدم ظهور هذه المواضع إلى الوجود.

(1/1261)


--------------------------------------------------------------------------------

لم يكن أمام، أعراب جزيرة العرب من مخرج. حينما تجف أرضهم ويقضي الجفاف على البساط الأخضر الذي يقرشه الغيث في بعض السنين على سطح الأرض مدة غير طويلة، إلا الهجرة إلى أماكن يجدون فيها الخضرة والماء، ليحافظوا فهما على حياتهم وحياة ماشيتهم، وإلا تعرضوا للهلاك. والخضرة والخصب لا يكونان إلا حيث يكون الجو الطيب والماء الغزير، وهما متوافران في الهلال الخصيب وفي أطراف جزيرة العرب في الجنوب، حيث تسعف أبخرة البحر العربي والمحيط تلك الأرضين فتغذيها بالرطوبة وبالأمطار، لذلك كانت الهجرات إلى مثل هذه الأرضين دائمة مستمرة.
ويجد أعراب نجد في البادية وفي الهلال الخصيب ملاذهم الوحيد في الخلاص من خطر الفناء جوعا، فيتجهون بحكم غريزة المحافظة على الحياة نحوها،غير مبالين بما سيلاقون من صعوبات، وأية صعوبات تواجه الإنسان أعظم من تحمل الموت جوعا وببطء.
كانت كل قبيلة من هذه القبائل تضرب خيامها في المواضع، التي ترى فيها العشب والماء والمغنم في البادية أو عند الحضر. فإذا وجدت للحضر حكومة قوية احترمتهم، وان وجدت فيهم ضعفا، هزئت بهم، واستولت على ما عندهم، وأخذت ترعى في أرضهم، ثم هي لا تقبل بكل ذلك، بل كانت تفرض عليهم "إتاوة" يؤدونها لهم، مقابل حمايتهم من اعتداء الأعراب الآخرين علهم، وبذلك تمكن سادات القبائل من فرض سلطانهم على بعض المدن كحمص والرها والحضر، وغيرها من المدن التي حكمتها أسر عربية، في رأي بعض، الباحثين.

(1/1262)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد وقف الأعراب وقفة تربص وتأهب من الحكومات القوية المهيمنة على الهلال الخصيب، كانوا يراقبون ويدرسون بذكائهم وبخبرتهم السياسية أوضاعها، فإذا أحسوا فيها ضعفا بادروا إلى استغلاله قبل فوات الأوان. وللأعراب في هذا الباب حماسة غريبة ذات قدرة كبيرة في أدراك مواطن الضعف عند الحضر وعند الحكومات. فإذا تيقنوا بقوة شم حاستهم من وجود ضعف عند الحضر أو عند حكومة ما، ووجدوا إن في إمكانهم استغلاله في صالحهم جاءوا إلى من وجدوا فيه ضعفا بشرط تتناسب مع ضعف مركزه، وبطلبات يملونها عليه، قد تكون طلب زيادة "الإتاوات" أي الجعالات السنوية التي تدفع لهم، وقد تكون السماح لهم بالزحف نحو ارض الحضر والتوسع في الأرضين الخصبة ذات الكلأ والماء، وقد تكون طلبا بالاعتراف بسيادتهم على ما استولوا عليه وعلى أعراب البادية، وما إلى ذلك من شروط، قد تزيد فيها إن وجدت من تتفاوض معهم تساهلا وقد تتساهل إن وجدت منهم شدة وعجرفة وقوة، مع اللجوء إلى الحيل السياسية وذلك بالاتصال سرا مع الجانب الثاني المعادي للانضمام إليه، وتأييده بحصولهم على شروط أحسن، وعلى ربح أعلى واكثر مما يعطيهم أصحابهم الذين هم على اتفاق معهم. وسنجد فيما بعد أمثلة على أمثال هذه المفاوضات السياسية السرية تجري مع الفرس، وأحيانا مع الرومان أو الروم.

(1/1263)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد علمت الطبيعة حكومات العراق وبلاد الشام دروسا في كيفية التعامل والتفاهم مع الأعراب. علمتهم إن القوة ضرورية معهم، وان الصرامة لازمة تجاههم، لكبح جماحهم والحد من غلواء غزوهم للحدود وللحواضر، وان التساهل معهم معناه في نظر الأعراب وجود ضعف في تلك الحكومات، وان معنى ذلك طلب المزيد. ولذلك أقاموا مراكز محصنة على حواشي الصحارى، أقاموا فيها حاميات قوية ذات بأس ولها علم بالبادية وبمعاركها ودروبها، ومعها ما تحتاج إليه من "الميرة" والماء. وبنوا فيها "أهراء" أي مخازن نخزن فيها الأطعمة لتوزيعها على الأعراب عند الحاجة للسيطرة عليهم بهذا الأسلوب كما خزنوا فيها كميات من المياه في "صهاريج" تحت الأرض، وحفروا بها الآبار للشرب، ولتموين الأعراب بها أيضا عند انحباس المطر وحلول مواسم الجفاف، وضعوا كل ذلك في حصون محصنة، ليس في استطاعة الأعراب الدنو منها أو اقتحامها، لأن عليها أبراجا وفي أسوارها الحصينة العالية منافذ يرمي منها الرماة سهاما تخرج منها بسرعة كأنها شياطين، تخيف ابن البادية، فتجعله يتحرج من الدنو من تلك الحصون.
ونجد اليوم في العراق وفي بلاد الشام آثار بعض تلك الحصون التي أقامها حكام العراق وحكام بلاد الشام لصد غارات الأعراب عن أرض الحضر، ولتوجيههم الوجهة التي يريدونها، حصون منعزلة نائية كأنها جزر صغيرة برزت في محيط من الرمال والأتربة، بعيدة عن مواطن الحضارة، عند أصحابها على إقامتها في هذه المواضع. لتكون خطوط دفاع أمامية تحول بين أبناء البادية وابن الدنو من مواطن الحضر، وتشغل الأعراب بالقتال حتى تأتي النجدات العسكرية فتصطدم بهم إن تمكنوا من اختراق تلك الخطوط.

(1/1264)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد علمت الطبيعة حكام العراق وحكام بلاد الشام إن القوة وحدها لا تكفي في ضبط الأعراب وتوجيههم الوجهة التي يريدونها، علمتهم إن جيوشهم النظامية لا تستطيع أبدا أن تتعقب فلول الأعراب التي تتراجع بسرعة لا تبلغها عادة الجيوش النظامية في الوصول إلى البادية حصن الأعراب الحصين. وعلمتهم أيضا إن جيوشهم متى توغلت في البادية فان احتمالات اندحارها واندثارها تزيد عندئذ علما احتمالات الانتصار. فالأعرابي هو ابن البادية، وهو أخبر بها من الحضر، وهو يعرف مواضع. "الإكسير" فيها "إكسير الحياة" وهو الماء. لقد خبر آبارها، وخزن الماء في مواضع احتفرها وجعلها سرية فلا يقف عليها إلا خزانها، لهذا فان من الحماقة محاربة الأعراب في ديارهم، وان من الخير مداهنتهم واسترضاؤهم وذلك بالاتفاق مع سادات القبائل الأقوياء أصحاب الشخصيات والمواهب، على دفع هبهات مالية سنوية لهم ترضيهم في مقابل ضبط الحدود وحمايتها من خطر مهاجمة الأعراب لها وغاراتهم عليها، مهما كان أصل أولئك لأعراب، وفي مقابل الاشتراك مع أولئك الحكام المتحالفين معهم في حروبهم لأعدائهم، إما بتقديم الخدمات الضرورية اللازمة لهم في الحروب، مثل تقديم الجمال لهم لحمل الجنود والأثقال والماء وكل ما يحتاج إليه الجيش في عبوره إلى البوادي.
وتقرن الجعالات السنوية بهدايا وألظاف يقدمها الحكام إلى سادات الأعراب، وبألقاب مشرفة تبتهج النفوس الضعيفة لاستوائهم إلى جانبهم، وبدعوات توجه إليهم في المناسبات لزيارة أولئك الحكام والنزول في ضيافتهم، فتخلع عليهم الخلع التي تستهويهم و تجعلهم إلى جانب أولئك الحكام.

(1/1265)


--------------------------------------------------------------------------------

ولأجل الوقوف على، حركات الأعراب وسكناتهم، و لمراقبة أعمال سادات القبائل وضعت الحكومات مندوبين عنها في مضارب أولئك السادات، يتنسمون الأخبار ويبعثون بها إلى الحكام. وقد كانوا في الوقت نفسه بمنزلة المستشارين لهم. وقد يقرنون ذلك بوضع حاميات قوية معهم للدفاع عن أولئك السادات إن جلبهم خطر أو للضغط عليهم ولردعهم في حالة تفكيرهم بنقض حلفهم مع تلك الحكومات. وقد عرف هؤلاء المستشارون أو "المندوبون الساميون" في عرفنا السياسي في الزمن الحاضر ب "قيبو" في اللغة الآشورية، وكانوا يرسلونهم إلى مضارب سادات القبائل لتوجيههم الوجهة التي يريدها ملوك آشور، وللتجسس عليهم وإرسال أخبارهم إلى أولئك الملوك حتى يكونوا على بينة من أمرهم، و يتخذوا ما يرون من قرارات تجاههم.
ولم يكن من العسير على حكام العراق وحكام بلاد الشام، استبدال سيد قبيلة بسيد قبيلة آخر، إذا ما وجدوا في سيد القبيلة المحالف لهم صدا عنهم أو ميلا إلى عدوهم، أو نزعة إلى الاستئثار بالحكم لنفسه والاستقلال.

(1/1266)


--------------------------------------------------------------------------------

فالبادية أرض مكشوفة، وأبوابها مفتوحة لا تمنع أحدا من دخولها، فإذا جاء سيد قبيلة طامعا في مر كز وأرض وكلأ وماء، ووجد في عدده وعدته قوة، نافس من نزل قبله، وطمع في ملكه وتقرب إلى الحكام ليحلوه محله، وليأخذ مكانه. وإذا وجد أولئك الحكام في القادم شخصية قوية وأنه أقوى من السابق، لأنه ظهر عليه بعدد من معه وبقوة شخصيته، وأن السيد القديم لم يظل ذا نفع كبير لهم، فلا يهمهم عندئذ إزاحته عن مكانه، و إحلال الجديد محله. وكل ما يطلبه الحكام هو ضمان مصالحهم، ومن يتعهد بحماية مصالحهم صار حليفهم وصديقهم كائنا من كان. وهكذا البشر في كل مكان وزمان من أية أمة كانوا. لقد سيطرت القبائل العربية على شواطئ الفرات وهيمنت عليها في أيام السلوقيين. ونجد ساداتها و قد نصبوا أنفسهم عمالا "فيلاركا" على تلك الشواطئ منذ منتصف القرن الثاني قبل الميلاد وبعده وتدل أسماء أولئك العمال على أن أصحابها كانوا من أصل عربي، وأن الأسر التي كونوها هي أسر عربية. وكلما كانت أسماء الملوك الأولين لهذه الأسر أسماء عربية، كانت أكثر دلالة على أصل أصحابها العربي. فقد جرت العادة أن الملوك المتأخرين يتأثرون بتيارات زمانهم الاجتماعية وبرسومه وعاداته، فيتخذون ألقابا وأسماء يونانية أو سريانية أو فارسية، تظهرهم وكأنهم من أصل يوناني أو سرياني أو فارسي، على حين هم من أصل عربي، ولهذا كانت لأسماء مؤسس، الأسر أهمية كبيرة في إثبات اصل الأسرة.

(1/1267)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد استغل الأعراب أهمية الطرق البرية التي تمر بالبوادي، وهي شرايين التجارة العالية بالنسبة لذلك الوقت، فتحكموا في مسالكها، واستغلوا أهمية الماء بالنسبة للقوافل والجيوش، فلم يكن في وسع جيش قطع البادية من غير ماء، وأخذوا يعاملون المعسكرين: المعسكر الشرقي والمعسكر الغربي وهو المعسكر الروماني وفقا لحاجتهما إلى هذه الطرق و الماء ويفرضون على المعسكرين شروطا تتناسب مع مواقفهم العسكرية و مع الأحوال السائدة بالنسبة لتك الأيام، وصاروا يجبرون كل معسكر من المعسكرين على تقديم أحسن الترضيات لهم لتقديم خدماتهم له، والانضمام إليه ضد المعسكر الشحيح البخيل.
ومن هذه الإمارات: إمارة الحضر، وإمارة "الرها" Edessa، وإمارة "الرستن - حمص" Arethusa-Emesa و إمارة "سنجار" Singara، وحكومة تدمر، ثم حكومة الغساسنة في بلاد الشام، وحكومة المناذرة في العراق.
ويلاحظ إن بعض هذه الحكومات، تكونت في مدن كانت قديمة عامرة، سكانها من غير العرب، ومع ذلك صارت مقرا لأسر حاكمة عربية، باستيلاء تلك الأسر عليها وباخضاعها لحكمها واتخاذها مقاما لهم، فصار الحكم عليها في أيدي تلك الأسر. أما المحكومون فهم السكان الأصليون، وغالبهم من غير العرب ولسانهم هو لسان بني إرم في الغالب.

(1/1268)


--------------------------------------------------------------------------------

وهناك إمارات تكونت على أطراف الحضارة، وفي مواضع، الماء والكلا في البادية، أو في مواضع غير بعيدة عن حدود الحاضرة من العراق وبلاد الشام، وخاصة في العقد التي تتصل بها طرق القوافل، ويعود الفضل في تكونها وظهورها إلى هذه الأمور المذكورة، ولا سيما موضعها من خطوط سير القواقل، حيث يتقاض سادات تلك المواضع "إتاوات" عن التجارة التي تمر بها، وعن التجارة التي تحمل إليها لبيعها في أسواقها، فيتجمع لهم دخل لا بأس به من هذه الجباية التي قد ترتفع أحيانا حتى تصل إلى درجات التعسف بالتجار. ويكون سادات هذه المواضع أصحاب حظ عظيم، إذ كانت مواضعهم عصبا ضروريا رئيسيا في تجارة البادية، حيث لا تجد القوافل الكبيرة المحملة بالتجارة النفيسة بدا من المرور منها، فان دخلهم يكون حينئذ كبيرا، يحملهم على التوسع والطموح وعلى السيطرة على الآخرين بقدر أللأمكان.

(1/1269)


--------------------------------------------------------------------------------

وكما كانت القوافل التجارية والطرق البرية رحمة للمسوطنات الصحراوية التي نشأت وتكونت عند عقد العصب الحساس لهذه الطرق، كذلك صارت تلك الطرق نقمة على تلك المستوطنات. إذ طالما قضت عليها وحكمت عليها بالموت، فقد يجد التجار وأصحاب القوافل طرقا أسهل وأقصر في قطهم للبادية، أو معاملة أطيب من سيد قبيلة منافس، أو حماية عسكرية أقوى، فيتحولون عن تلك الطرق المسلوكة إلى طرق أخرى فتموت بذلك المستوطنات المقامة عليها، ويضطر أهلها إلى تركها إلى مواطن جديدة. وقد كان لاستخدام الطرق المائية من طرق نهرية وبحرية، أثر كبير في إماتة الطرق البرية أو في منافستها، كذلك كان للطرق البرية ولا سيما الطرق العسكرية المهمة التي أقامها الرومان والروم في بلاد الشام، أو الفرس في العراق أثر كبير في القضاء على المستوطنات التي نشأت في البوادي، إذ فضل التجار السير في هذه الطرق المأمونة التي لا يتحكم فيها سادات القبائل في مقدراتهم، ولا يدفعون ضرائب مرور عن الأرضين على تلك الطرق الموحشة المقفرة المملوءة بالمخاطر والتي يتحكم فيها أبناء البادية في مقدرات التجار، فيفرضون عليهم ضرائب مرور من أرضهم كما يشاءون من غير تقدير لما سيجر ذلك عليهم وعلى التجار من أضرار. وبذلك أعان أبناء البادية بأنفسهم على إماتة مستوطناتهم في بعض الأحيان.

(1/1270)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من "جغرافية" "سترابو" أن أرض الجزيرة ومنطقة الفرات والبادية المتصلة لبلاد الشام، كانت في حكم سادات قبائل، يحكمون وكأنهم "عمال" "فيلارك" Phylarchus. وكان بعض هؤلاء يحكمون أرضين صقيرة، وحكهم حكم "مشايخ القبائل" في عرف هذا اليوم: يشتغل أتباعهم بالرعي، وبعضهم يشتغلون بالزراعة، وآخرون بالتجارة و كان قسم منهم أعرابا يتنقلون في البادية ومنهم أشباه أعراب، ولا سيما أولئك القاطنين على ساحل العقبة، أي خليج "أيلة" وقد استغل هؤلاء الأعراب طبيعة أرضهم، فكانوا يجبون "العشر" من التجار، أو يشتغلون هم أنفسهم بالاتجار أو يقومون بنقل التجارة لحساب غيرهم من التجار.
وقد كان الأعراب هم الوحيدين الذين في استطاعتهم حماية الطرق البرية الممتدة بين العالم المتحضر القديم: العراق وبلاد الشام، فهم وحدهم سادة البوادي، وفي أيديهم "إكسير الحياة" الماء. لهم آبار أو عيون، و "صهاريج" سرية يخزنون فيها الماء. ولهم مخازن احتياطية مملوءة بهذه المادة الثمينة الضرورية للحياة، يملأونها من أماكن قد تكون بعيدة عنهم، ثم يحملونها معهم حيث ذهبوا، والى منازلهم. وهي قرب كبيرة يصنعونها من الجلد، تمونهم بالماء، و تمون القوافل المارة بهم بما يحتاجون إليه وبما يكفيهم للتنقل من منزل إلى منزل آخر. وقد أطلق اليونان على أكثر هؤلاء اسم Scentitae=Skenitai، بمعنى الساكنين في الخيام. لأن "السكينه" Skenai=Skynai معناها الخيمة والبيت، وهي تقابل لفظة "سكوت" "سكوث" Sukkot في العبرانية، التي تعني الخيمة والبيت أيضا.

(1/1271)


--------------------------------------------------------------------------------

وال "سكينيته" Skenitai، هم كما قلت أهل، الخيام، الخيام المصنوعة خاصة من شعر المعز، و هم أعراب يقطنون البادية وطرفي العراق و الشام، تمتد منازلهم في بلاد الشام حتى تبلغ الخط الممتد بين Europus و Thapascus في الشمال على رأي "بلينيوس"، و تمتد في الغرب حتى تبلغ حدود Apaea، على رأي "سترابون". أما حدود مجالات هؤلاء الأعراب من الشرق، فتمتد من أعالي الفرات حتى تبلغ ملتقاه بدجلة في الجنوب على رأي "سترابون" كذلك. ويفصلهم النهر عن منازل قبيلة "أتالي" Athali في كورة Characene.
وذكر "سترابو" أن سادات "سكان الخيام" كانوا يجبون الضرائب من التجار في أثناء مرورهم بمناطق نفوذهم، وكان بعضهم يشتط عليهم فيتقاضى منهم ضرائب عالية، ولا سيما أولئك الذين ينزلون على ضفتي النهر، فتجنب التجار المرور بمناطقهم، ومنهم من كان يتساهل فيعاملهم بلطف ورعاية. وذكر أيضا أن الرومان وسادات الأعراب كانوا يسيطرون على الجانب الغربي للفرات حتى إقليم بابل، وأن فريقا من سادات القبائل كانوا يشايعون الرومان، وفريقا آخر كان يشايع الفرس، وأن الذين كانوا يسكنون على مقربة من النهر كانوا أقل ميلا وتوددا إلى الرومان من الذين كانوا يقيمون على مقربة من العربية السعيدة.
وبلغت منازل ال "السكينيته" سكان الخيام حدود مملكة "حدياب" Adiabene و الجبال في العراق على رأي "سترابو". ويذكر "سترابو" أن من هؤلاء رعاة، وأن منهم متلصصين يغزون وينهبون، ويتنقلون من سكان إلى مكان حيث يكون المرعى، أو تتوافر الغنائم والأموال، وأن طريق بابل و "سلوقية" إلى الشام الذي يسلكه التجار يمر في أرض جماعة من هؤلاء الأعراب يعرفون ب Malli في أيامه. لهم البادية يتحكمون فيها كيفما يشاؤون.

(1/1272)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا نجد في كتاب "سترابو" شيئا يتعلق بأصل "السكينيته"، سكان الخيام، و بالزمن الذي ظهرت فيه منه التسمية. وقد ذكر إن من مواطنهم مدينة اسمها Skenai، وهي معروفه عندهم، تقوم على "قناة" على سدود أرض "بابل"، وعلى بعد ثمانية عشر "شوينوى" Schoinoi من مدينة "سلوقية"، كما ذكر انهم يسممون الآن بأسم اخر، هو: "ملوى" Malioi "مالي" Malli.
وقد ذهب الباحثون مذاهب عدة في تعيين موضع مدينة skenai، إن جاز التعبير عنها بلفظة "مدينة"، فذهب بعضهم إلى إنها "عكبرا"، وذهب بعض آخر إلى إنها "الحرة"، فالحرة بمعنى المخيم والمعسكر، وهو معنى قريب من معنى لفظة Skenai. وذهب آخرون إلى إنها "مسكين" أو "مسجين"، وهو موضع يقع شمال بغداد، أو "بيت مشكنة". ولكل رأي ودليل في أختياره لذلك المكان.
ويظهر من وصف "سترابو" لأحوإل "سكان الخيام"، أي الأعراب، انهم كانوا كثرة، وقبائل تنتقل جمع الماء والكلأ. أما ال Mailoi، فانهم كان منهم أشباه مستقرين، وآخرون مستقرون، تكاد منازلهم تكون ثابتة، ولهم نظام يمكن أن نسميه نظام حكومة، ويدير شؤونهم سادات منهم، يشرفون على أعرابهم ويرعون طرق القوافل التي تمر بأرضهم، لأنها تأتي لهم بفوائد كبيرة.
ومن الإمارات التي يرجع كثير من الباحثين أصول حكامها إلى أصول عربية: الحضر Hatra، و "إمارة حمص" Emesa و "إمارة الرها". Edessa، وتدمر، وإمارات أخرى. وهي إمارات لا يمكن أن نقول إن ثقافتها كانت ثقافة عربية، وان غالب سكانها كانوا من العرب، ولكننا نستطيع أن نقول إن العرب كانوا يتحكمون فيها، وان هنالك أدلة تزداد يوما بعد يوم، تزيد في الاعتقاد بأن العنصر العربي كان قويا فيها، وان سكانها كانوا عربا، ولكنهم تأثروا بالمحيط الذي عاشوا فيه، فتثقفوا على عادة تلك الأيام بثقافة بني إرم، واتخذوا من لسان بني إرم لسانا لهم في الكتابة، ومن قلم بني إرم قلما لهم يكتبون به ويعبرون عن إحساسهم وشعورهم وعلمهم به.

(1/1273)


--------------------------------------------------------------------------------

أما "الحضر"، فهي اليوم آثار شاخصة في البرية بوادي الثرثار جنوب غربي الموصل، على بعد "145" كيلومترا منها. ولعلماء الآثار آراء في أصل التسمية، فمنهم من ذهب إلى إنها من أصل إرمي، ومنهم من ذهب إلى إنها من أصل عبراني إرمي، ومنهم من رجح إنها من أصل عربي، بمعنى "الحرة" أي "العسكر"، وقد عرفت ب "اترا" Atra و Atrai في اليونانية، و ب "هترا" Hatra في اللاتينية. وهي "حطرا" في الكتابات التي عليها في الحضر.
ويرى "هرتسفلد" E. Herzfeld إن القبائل العربية هي التي أسست هذه المدينة، أسستها في القرن الأول قبل الميلاد حصنا منيعا أقام ساداتها فيه مستفيدين من الخلاف الذي كان بين الفرث واليونان، حيث استغلوه بذكاء وحنكة، فحصلوا على أموال من الجانبين، لما لموضعهم من الشأن العسكري والسياسي والاقتصادي. وكانوا كلما ازداد مالهم وبرزت أهميتهم، ازدادت المدينة توسعا وبهاء وعمرانا، حتى صارت مدينة كبيرة ذات شأن، سكنتها جاليات أجنبية أيضا، أنجزت، وتولت الوساطة في البيع والشراء، ونقل تجارة آسية إلى تجار أوروبة، وتجارة أوروبة وحاصلاتها إلى تجار آسية.
وقد قوت الكتابات الإرمية التي عثر عليها في "الحضر" سنة "1951 م" رأي "هرتسفلد"، القائل بأن الذين أسسوا هذه المدينة هم قبائل عربية، وذلك لورود أسماء عربية فبها مع أسماء إيرانية و إرمية. وقد وجد أن نسبة الأسماء العربية تزيد على نسبة الأسماء العربية في كتابات مدينة "تدمر"، وهي مكتوبة بلغة "بني إرم" كذلك، وهذا مما يدل على وجود جالية عربية قوية في الحضر. ولكن ذلك لا يعني في الزمن الحاضر أن غالب السكان كانوا عربا.

(1/1274)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد نعت رئيس معبد الحضر الكبير ب "سادن العرب"، على غرار تلقيب ملوك الحضر أنفسهم ب "ملوك العرب". واسم هذا السادن، هو "افرهط"، و قد قال عن نفسه: "رب ي تا دي عرب"، أي: "أفرهط سادن العرب"، وذكر مترجم النص أن المألوف في كتابات الحضر أنها لا تنسب الكاهن إلى عبدة الإله أي المتعبدين، ولكن تنسبهم إلى الآلهة، بأن يكتب "سادن الإله..."، لا "سادن عبدة الإله..."، كما هو في هذا النص، ويرى مترجمه أن "أفرهط" قد خالف المألوف، وخالف عادة القوم، تقليدا لما فعله الملك "سنطروق" ملك الحضر من تلقيب نفسه ب "ملك العرب" "ملك الأعراب".
وقد عثرت مديرية الآثار العامة في العراق على نص وسمته ب "79" من النصوص التي عليها في الحضر، جاء فيه اسم المدينة "الحضر"، لأول مرة، فلم يسبق ورود هذا الاسم في نصوص سابقة. وقد ورد على هذا الشكل: "حطرا"، على نحو ما ينطق به في لغة "بني إرم"، كما وردت فيه جملة: "و بالحظوظ العائدة إلى العرب"، وهي جملة ذات دلالة مهمة بالطبع، لأنها تشير إلى العرب ووجودهم في هذه المنطقة، كما ذكر فيه "عربايا" "عربواو"، و لأسم إقليم "عربايا" شأن كبير، لأنه نسبة إلى العرب، وفيه تقع مدينة الحضر.

(1/1275)

admin
12-27-2010, 01:07 AM
أما أسماء ملوك الحضر، فهي أسماء غير عربية النجار، يظهر على بعضها أنها إيرانية، وعلى بعض آخر أنها إرمية. غير إن علينا إن نفكر في أن التسميات لا يمكن إن تكون أدلة يستدل بها على أصل الناس. فقد كانت العادة تقليد الأجانب وعاداتهم في اختيار أسماء، ولا سيما عند الحكام والملوك. فقد كانوا يختارون لهم في كثير من الأحيان أسماء أو ألقابا من الدول القوية التي تتحكم في شؤونهم و التي لها سلطان عليهم. فقد لقب جماعة من ملوك "اليطوربين" أفسهم ب "بطلميوس" ولقب نفر منهم أنفسهم ب "ليسنياس" Lysanias و ب "فيلبيون" Philippion، وهي من التسميات اليونانية، مع أن اليطوريين ليسوا يونانيين. كذلك نجد اللحيانيين يقلدون اليونان، فيلقبون أنفسهم ب "بطلميوس"، مع أنهم عرب، و هكذا قل عن أهل "الرها" و "تدمر" وأمثالهم فإنهم هم وملوكم قد قلدوا اليونان في أسمائهم وفي اتخاذ ألقاب يونانية لهم، وهم مع ذلك لبسوا من اليونان، ولهذا لا نستطيع أن نحكم على اصل الإنسان استنادا إلى الألقاب والأسماء. وينطبق هذا الرأي على ملوك الحضر أيضا ت فإن "سنطروق" وهي تسمية إيرانية فرثية، لا يمكن أن تقوم دليلا على إن أصله من الفرث.
و يلاحظ إن كثيرا من كتابات الحضر، لا يكتفى فيها بذكر اسم الشخص واسم أبيه، و إنما يذكر فيها اسم جده أيضا، و اسم والد جده أحيانا. وقد عثر على كتابة ورد فيها اسم ستة أجداد. وتجد هذه الطريقة في الكتابات الصفوية كذلك، وقد استدل "اينو ليتمان" E. Littmann من طريقة تدوين الصفوبين لأنسابهم على هذه الصورة على انهم عرب، لأن العرب يعتنون بالنسب أكثر من عناية غيرهم به، فيذكرون أسماء الآباء والأجداد. ولذهاب بعض أهل الحضر هذا المذهب في تدوين أنسابهم، رأى بعض الباحثين إن أصحاب هذه الكتابات هم من أصل عربي.

(1/1276)


--------------------------------------------------------------------------------

وما زال تأريخ الحضر غامضا ناقصا، فيه فجوات واسعة، لم تملأ حتى الآن. ويرئ الذين عنوا بدراسة تأريخها إنها تعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، وربما امتد تأريخها إلى ما قبل ذلك. وأما ازدهارها، فقد كان في أيام "الفرث" Parthians، وهم "الاشكانيون" و "ملوك الطوائف" في الكتب العربية. وقد عاركت "الرومان" و "الساسانيين" " وتعرضت للخراب والدمار في أيام "سابور" المعروف ب "سابور الجنود" في الكتب العربية، وذلك سنة "241" للميلاد. ولم تتمكن بعد هذا الحادث من استعادة نشاطها وقوتها، فذكر إن جيشا رومانيا مر بها سنة "363" للميلاد، فوجدها خرابا.
ومن ملوك الحضر، الملك "سنطروق"، وقد ورد اسمه في طائفة من الكتابات. ويظهر انه كان مؤسس سلالة ملكية من السلالات التي حكمت هذه المدينة. وقد عرف أبوه باسم "نصرو مرى" "نصر". ولعله كان أول من ملك الحضر. ويظهر إن أباه لم يكن ملكا، ولكن كان كاهنا. وقد ورد اسمه في نص رقم برقم "82" من نصوص الحضر، مؤرخ بسنة "388" من التقويم السلوقي، الموافق لسنة "77" للميلاد. ومعنى هذا إن الملك "سنطروق" كان يحكم في النصف الثاني من القرن الأول للميلاد. ولا يستبعد إن يكون قد حكم قبل هذا العهد. ويعد هذا النص من اقدم النصوص المؤرخة التي عليها في هذه المدينة.
وقد عثر على كتابات أخرى، ورد فيها: "سنطروق ملك بن نصرو مريا"، و لورود جملة "ملك العرب" بعد اسم الملك شأن كبير بالطبع، لأنها توضح علاقة هذا الملك بالعرب بكل جلاء.

(1/1277)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد أمكن الحصول في هذا اليوم على أسماء عدد من حكام الحضر. منهم: "اورودس" "ورود"، وكان يلقب بلقب "مريا"، افي "السيد" و "الرئيس"و "نصرو" "نصر"، وقد لقب بلقب "مربا" كذلك. وهو ابن "نشرى هبه" "نشرى هاب" و والد الملك "سنطرق" "سنطروق" الموسوم ب "الأول". ثم "ولجس" "ولجش" "ولوجس"، وقد لقب ب "مريا" أي "الرئيس" في أحد النصوص وبلقب "ملكا ذي عرب"، أي "ملك العرب" "ملك الأعراب"، في نص آخر. مما يدل على أنه عاف لقب "مريا"، أي السيد أو الرئيس، الذي لقب به في أول عهده بالحكم، وهو لقب أسلافه، واستبدله بلقب "ملك". وهو أضخم من لقب "مريا" بالطيع.
وقد عثر على تمثال كتب على قاعدته جملة: "تمثال ولجش ملك العرب". وقد أقام ذلك التمثال وأمر بتسطير الكتابة "جرم اللات بن حي".
ثم الملك "سنطرق" "سنطروق" الأول، وهو ابن "نصرو" "نصر" "نصر ومريا"، وقد لقب ب "ملكا دي عرب"، أي "ملك الأعراب" وقد كان حكمه في النصف الثاني من القرن الأول بعد الميلاد "77 = 78 م".
ثم الملك "عبد سميا"، الملقب بلقب "ملكا ذي عرب" "ملكا دي عرب"، وهو والد الملك "سنطرق" "سنطروق" الثاني.
والملك "سنطرق" "سنطروق" الثاني، وهو ابن الملك "عبد سميا"، هو والد ملك آخر اسمه "عبد سميا" كذلك. وملك آخر اسمه "معنا" "معنى" أي "معن" في عربيتنا.
ولعل "تراجان" "98 - 117 م" الإمبراطور الروماني ذا المطامع الواسعة في الشرق الأدنى، كان قد فكر في الاستيلاء على الحضر في عهد "سنطرق" "سنطروق" أو أيام "عبد سميا" 0 إذ عثر على منار في طريق سنجار دون عليه اسمه، يشير إلى وصوله إلى هذه المواضع من العراق. ولكن الرومان لم يتمكنوا من الاستيلاء على الحضر، وبعد إن حاصروها مدة، تراجعوا عنها، لأنهم وجدوا صعوبة في فتحها، وعادوا إلى "أنطاكية".
وقد ورد في النص "139" اسم "نشرى هب"، وهو ابن "نوهرا"، وهو ابن "سنطرق" "سنطروق"، الملقب بلقب "ملكا" أي "الملك".

(1/1278)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظن إن حكم "اثل ملكا"، أي الملك "اثل" "أثال" أو "اثال الملك" بتعبير اصح، والذي ورد اسمه في النصوص، دون إن يذكر اسم والده، كان يحكم الحضر في منتصف القرن الثاني للميلاد، أو في النصف الثاني منه، و هو ملك لا نعرف صلته بالملوك المتقدمين.
واما "برسميا"، فقد كان من معاصري "سبتيميوس سفيروس" Septimius Serverus الذي كان حكمه في حوالي السنة "193" إلى السنة "211" بعد الميلاد. وكان من خصومه المزعجين. فقد صبر بجنوده ودافع معهم عن أسوار مدينته حتى اكرهه على فك الحصار عن الحضر وعن التراجع عنها، بسبب العطش الذي اثر في جيشه، على حين كان الماء كثيرا في المدينة مخزونا عندهم. وبسبب ا لمقاومة العنيفة التي أظهرها الفرسان العرب، و إلقاء أهل الحضر، قنابل النفط على جيوش الرومان ومقاومتهم مقاومة عنيدة حملت الرومان على التراجع عن المدينة وفك الحصار عنها.

(1/1279)


--------------------------------------------------------------------------------

ولما ظهرت الدولة الساسانية كانت الحضر على صلات طيبة بالرومان. وكانت تلعب دورا خطيرا في عالم التجارة لموقعها المهم بالنسبة لطرق القوافل لذلك الوقت، فتحرش بها الساسانيون وغزوها، ثم دمروها في الأخير، وكان سبب ذلك هو أن "اردشير" الأول، مؤسس الدولة الساسانية ومهدم كيان الدولة الأشكانية، دولة الفرث، لما انتصر على دولة الفرث، حارت الدويلات الصغيرة، وفي جملتها حكومة الحضر، في أمرها، وظنت أن النصر سيكون للفرث، فوقفت موقف الحذر من الساسانيين، ورأى ملك الحضر "الضيزن" أن من الأصلح له إن ينضم إلى الرومان الذين كانوا قد توجهوا نحو الشرق، واستولوا على "ميديا"، وان يهاجم الفرس. فهاجمهم وتغلب عليهم في معركة "شهر زور" كما تذكر الموارد العربية، وأسر بنتا من بنات ملك الفرس. وكان ذلك في حوالي السنة "232" للميلاد تقريبا. فسار "سابور" الأول، وهو "سابور الجنود"، وهو ابن الملك "أردشير الأول"، إلى الحضر يريد الانتقام من "الضيزن"، فتحصن "الضيزن"، وأناخ "سابور" على حصنه أربع سنين، من غير أن يتمكن من فتحها، ثم إن ابنة للضيزن اممها "النضيرة" رأت "سابور" فوقعت في حبه، فراسلته و أرشدته إلى طريقة يمكن بها من إحداث ثغرة في سور المدينة فقتحها، واستولى عليها وقتل أباها، وأباد أهل المدينة، وأخذ "سابور" النضيرة فأعرس بها بعين التمر، ثم تذكر خيانتها "فأمر رجلا فركب فرسا جموحا، ثم عصب غدائرها بذنبه، ثم استركضها فقطعها قطعا".
وقد تعرض "الطبري" لمدينة الحضر، فقال: "وكان بحيال تكريت بين دجلة والفرات مدينة يقال لها: الحضر، وكان بها رجل من الجرامقة، يقال له: الساطرون، وهو الذي تقول فيه أبو دواد الإيادي: وأرى الموت قد تدلى من الحض ر على رب أهله الساطرون
والعرب تسميه الضيزن، و قيل: إن الضيزن من أهل باجرمى.

(1/1280)


--------------------------------------------------------------------------------

وزعم هشام بن الكلبي انه من العرب من قضاعة، وانه الضيزن بن معاوية ابن ال**** بن الأجرام بن عمرو بن النخع بن سليح بن حلوان بن عمران بن الحاف ابن قضاعة، وان أمه من تزيد بن حلوان اسمها جيهلة، وانه إنما كان يعرف بأمه. وزعم انه ملك ارض الجزيرة، وكان معه من بني **** بن الأجرام وقبائل قضاعة ما لا يحصى، وان ملكه كان قد بلغ الشام، وانه تطرف من بعض السواد في غيبة كان غابها إلى ناحية خراسان سابور بن أردشير. فلما قدم من غيبته اخبر بما كان منه، فقال: ذلك من فعل الضيزن، عمرو بن إلة بن الجدى بن الدهاء بن جشم بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة... فلما اخبر سابور بما كان منه، شخص إليه حتى أناخ على حصنه، وتحصن الضيزن في الحصن، فزعم ابن الكلبي انه أقام سابور على حصنه أربع سنين لا يقدر على هدمه ولا على الوصول إلى الضيزن. ثم ذكر قصة ابنة الضيزن مع سابور وخيانتها لأبيها وكيف كان مصيرها.
ويذكر "الطبري" في روايته التي يرفعها إلى "ابن الكلي"، إن سابور أباد أفناء قضاعة الذين كانوا مع الضيزن، فلم يبق منهم باق، و أصيبت قبائل من بني حلوان، فانقرضوا ودرجوا. ثم ذكر في ذلك شعرا نسبه إلى "عمرو بن إلة"، وكان مع الضيزن.
وروى "ابن خلدون" إن الملك بالحضر كان لبني ال**** بن الأبرص بن عمرو ابن اشجع بن سليح، وكان آخرهم "الضيزن بن معاوية بن ال****" المعروف بالساطرون. وذكر "البكري" إن "سابور ذا الأكتاف" لما أغار على الحيرة و هزم أهلها، سار معظمهم إلى الحضر، يقودهم "الضيزن بن معاوية التنوخي" فنزلوا به، وهو بناء بناه الساطرون الجرمقاني، فأقاموا به مع الزباء، فكانوا رب لها وولاة أمرها. فلما قتلها "عمرو بن عدي"، استولوا على الملك حتى غلبتهم غسان. وقد فرق البكري بين الضيزن و الساطرون.

(1/1281)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ورد في أثناء القصص المروي عن الضيزن والحضر شعر نسبوا بعضه إلى "أبي دواد الإيادي"، و بعضه إلى "الأعشى ميمون بن قيس"، وبعضا آخر إلى "عمرو بن إلة" وبعضا إلى "عدي بن زيد العبادي". ونجد في شعر الأعشى، خبر حصار "شاهبور الجنود" حولين للحضر، وذكر "عدي ابن زيد العبادي" في شعره أن صاحب الحضر شاد حصنه بالمرمر، وجلله كلسا، وللطير في ذراه وكور. ثم باد ملكه، فصار بابه مهجورا، بعد أن كانت دجلة تجبى له والخابور. وهو من هذا الشعر الحزين الذي يغلب عليه طابع الموعظة واحتقار الدنيا وازدرائها، سر طابع أغلب الشعر المنسوب إلى الشاعر البائس.
و الساطرون، هو "سنطروق" في كتابات الحضر حرف، فصار الساطرون عند أهل الأخبار. وهو لفظ إيراني الأصل انتقل من اللسان الإيراني إلى لغة بني إرم، فصار "سنطروق"، وصير "سنتروسس" في اللغة الإغريقية. وقد عرف بهذا الاسم أحد الملوك الفرث "الاشكانيين" "سنة 76 أو75 - حتى 70 أو 69 ق. م." .
وإذا أخذنا برواية "الطبري" من أن "الساطرون" كان من الجرامقة، فمعنى ذلك أنه كان من "بني إرم"، أي من الآراميين. و هم سكان "جرمقايا" "جرمقايه" الواقعة شرق دجلة جنوب "الزاب" الصغر، وقد عرفوا بالجرامقة نسبة إلى هذه الأرض. وإذا أخذنا بروايته ايضا من أن الساطرون كان يعرف بالضيزن، وأن "الضيزن" هو من أهل "باجرمى"، فإن في الرواية الثانية تأييد للرواية الأولى من إن الساطرون كان من بني إرم، ولم يكن من العرب.

(1/1282)


--------------------------------------------------------------------------------

غير إن "ابن الكلبي" يقول انه من العرب وانه من قضاعة من جهة الأب، وانه من "تزيد" من جهة الأم، وانه ملك ارض الجزيرة، وان ملكه بلغ الشام، وكان معه من "بني **** بن الأجرام" و قبائل قضاعة. وانه انتهز فرصة غاب "سابور بن أردشير" إلى ناحية خراسان، وتطرف في بعض ناحية السواد، فلما قدم "سابور" من غيبته اخبر بما كان منه، فشخص إليه حتى أناخ على حصنه أربع سنين في رواية "ابن الكلبي"، وحولين كما جاء في شعر "الأعشى" .
وقد أنكر "نولدكه" رواية "ابن الكلبي" بشأن حصار "سابور" للحضر.
وقد كانت الحضر قد فتحت في عهد "أردشير" الأول، وذلك قبل وفاته في سنة "241" للميلاد. و كان ابتداء حكم "سابور" الأول سنة "241"، لذلك رأى "نولدكه" وغيره إن قصة "الضيزن" لا علاقة لها بهذا "السابور"، بل بملك آخر من ملوك الساسانيين. وان "الضيزن" المذكور كان رئيسا من رؤساء قبائل عربية متنفذة كانت تغير من "الجزيرة" و من الغرب على ارض السواد.
ورجحوا كون "سابور" أهل الأخبار هو "سابور" الثاني الذي حكم من سنة "309" حتى سنة "379" ل!ميلاد. وقد عرف هذا الملك بغزوه للعرب، وهو صاحب "الأنبار" و "خندق سابور" الذي حفره لحماية الأرض الخصبة المأهولة من هجمات الأعراب. وقد كان هذا الملك قد غزا "خراسان" وغزا ارض بكر وتغلب التي تقع بين الروم والفرس "المناظر"، وحيث كانت تنزل قضاعة.

(1/1283)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد رأى بعض الباحثين إن تعبير "سابور الجنود" "شاهبور الجنود" الوارد في شعر "الأعشى" و "عمرو بن إلة" تعبيرا يشير إلى إن "سابور" المذكور لم يكن ملكا، بك كان قائدا من قادة الجيش، وان هذا التعبير هو ترجمة لمصطلح "اصبهبذ" Spahbad الذي يعني "صاحب الجيش". وان المقصود به رجل اسمه "شابور" "سابور" وكان بدرجة "اصبهبذ" "اسبهبذ" على "الري"، وذلك في أيام "قباذ" الأول "488 - 531م". و أما "الضيزن"، فهو عامل من العمال العرب من سادات القبائل، قد لم يكون "طيزانيس" الذي كان في أيام "قباذ"، الذي يجوز أن يكون صاحب المدينة المسماة "طيزن آباد" و "مرج الضيازن" على الفرات.
ومن القبائل التي ورد اسمها في كتابات الحفر، قبيلة عرفت ب "بني تيمو" "بني تيم". و هي قبيلة قد تكون لها صلة بقبيلة ورد اسمها في كتابات عثر عليها في وادي حوران بالعراق، وفي كتابات عثر عليها في تدمر. ويظهر أنها كانت من القبائل المعروفة في الجزيرة وفي بادية الشام في القرن الأول قبل الميلاد فما بعده، ويدل اسمها على أنها من القبائل العربية المتنقلة التي انتشرت بطونها في منطقة واسعة في ذلك العهد.
هذا ما عرفه أهل الأخبار عن الحضر و عن أهل الحضر. فهم على رأيهم من عرب قضاعة نزلوا هذه المواضع في زمن لم يحددوه، وأقاموا هناك.
ولا أظن إن ما أورده "ابن الكلبي" عن الحضر قد جاء به من عنده، فلا بد أن يكون قد أخذه من موارد فارسية أو ارمية، وأغلب ظني انه اخذ ذلك عن أهل الحيرة، وقد كان لرجال الدين فيها من النصارى علم بالتواريخ، أخذوا علمهم هذا من موارد متعددة، وعنهم نقل ما أورده عن الحضر.
وأما مملكة "الرها" Edessa، وتعرف ب "أورفة" "أرفه" أيضا، فإن معارفنا عنها من ناحية صلتها بالعرب لا تزال ضئيلة، وهي من مدن الجزيرة العليا. وقد أزهرت قبل الميلاد، وظهرت مثل جملة مدن في هذه المنطقة، منها: "بتنى"، ونصيبين، و "سنكارا" Singara أي "سنجار".

(1/1284)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد أدخل "بلينيوس" "الرها" Edessa و Carrhoe=Callirhoe في جملة مدن "العربية". ويقال للرها "أورهة" Orrhoe=Orhai في السريانية. وهي من "ديار مضر" المعروفة باسم Orrhoene=Osrhoene قديما. وهي Orroei في تأريخ "بلينيوس". ومن جملة الأرضين الداخلة في العربية، ومن المدن التي جدد بناءها "سلوقيوس الأول" Seleuces. وعرفت أيضا باسم "انطوخيه"، نسبة إلى "انطيوخس" Antiochus الرابع.
وقد تكونت في القرن الثاني قبل الميلاد مملكة في هذه المقاطعة، مقاطعة Osrhoene=Orrei. مملكة عد الكتبة اليونان والرومان ملوكلها من العرب، وعدوا سكانها عربا كذلك، و يعزو "روستوفتزيف" Rostovtzeff سبب تكونها إلى حالة الفوضى التي ظهرت في "ما بين النهرين" على أثر انحلال دولة السلوقيين و احتلال الفرث "الاشكانيين لها" . وذكر "بروكوبيوس" إن هذه المقاطعة إنما دعيت Osroes نسبة إلى ملك اسمه Osroes كان يحكم هذه الأرض في الأيام الغابرة، وكان حليفا للفرس.

(1/1285)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد وجدت أسماء ملوك "الرها" مرتبة ترتيبا زمنيا بحسب حكم الملوك في "حولية الرها" Edessene Chronicle المدونة حوالي سنة "540" بعد الميلاد، وفي حولية أخرى هي "حولية زقنين" على مقربة من "آمد" المدونة حوالي سنة "775" بعد الميلاد، كما وجدت أسماء بعضهم على نقود ضربت في أيامهم. ويظهر من دراسة هذه الأسماء إن بينها أسماء عربية نبطية، مثل: "معنو"، وهو "معن"، و "بكرو"، و هو "بكر"، و "عبدو"، و هو "عبد"، و "سحرو"، أو "سهرو"، أو "سهر"، أو "سحر"، و "أبجر"، و "مزعور"، أو "مذعور"، و "وائل". وقد استدل بعض الباحثين من تسمي ملوك "الرهاء" بأسماء عربية، ولا سيما الملوك الأولين منهم، ومن نص "بلينيوس" على إن كورة Osrhoene هي كورة عربية، ومن الوضع السياسي العام في الجزيرة Mesopotanmia القرن الثاني وما بعده قبل الميلاد، إذ كانت القبائل العربية قد توغلت في هذه المنطقة، استدل من كل ذلك على إن أهل الرها وحكامها كانوا من اصل عربي.
وقد نسب بعض أهل الأخبار بناء "الرها" إلى رجل سموه "الرهاء بن البلندي بن مالك بن دعر" "ذعر"، أو إلى "الرهاء بن سبند بن مالك بن دعر بن حجر بن جزيلة بن لخم". وذكر "ياقوت" نقلا عن "يحيى بن جرير النصراني" إن اسم "الرها" هو "أذاسا" في الرومية، وقد بنيت في السنة السادسة من موت الإسكندر، بناها الملك "سلوقس". وقد أخذ "يحيى ابن جرير" قوله هذا من كتب سريانية أو يونانية ولا شك. وقد انتزعها المسلمون في سنة "639 م" من ايدي الروم.

(1/1286)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن آلهة "الرها"، الإلهان: Azizus=Azizos و Monimos، ويرى "موردتمن" Mordtmann أن اسمي هذين الإلهين ليسا إرمين ظ ولكنهما عربيان أصليان، وأن أحدهما وهو Azizus - هو عزيز، والآخر - وهو Monimos- هو عربي كذلك، وهم منعم. ودليله على ذلك ورود اسميهما في الكتابات اليونانية التي عثر عليها في "الكورة العربية" Provincia Arabia. وهما في رأيه من الهة عرب هذه المنطقة، وإن أضافهما بعض الكتاب إلى السريان الوثنيين. والإله "بعل" و "نبو".
وللرها شأن خطير في الأدب السرياني والأدب النصراني و تأريخ النسطورية، وقد أزهرت هذه المدينة خاصة في أواسط القرن الرابع و في القرن الخامس، للميلاد. وتنسب إلى ملكها "أبجر" Abgar رسالة قبل إنه بعثها إلى "المسيح" ومراسلات مع الحواريين الأولين.
ويراد ب "كاليرهو" Kallirrhoe=Callirhoe الموضع الذي يعرف اليوم باسم "بركة إبراهيم "نبع خليل الرحمان".
وذكر "بلينيوس" أن سكان "الجزيرة" Mesopotamia, Arabes,Qui Praetavi Vocantur عربا، مقرهم Singara، أي سنجار. وهو موض قديم كان معروفا في أيام الآشوريين. ويظن أن "تراجان" نزل به في أثناء سيره على الحضر س قطيسفون Ktesiphon.
أما Emesa=Homesa=Hemesa أي حمص، فيشبه تأريخها من أوجه عديدة تأريخ مدينة تدمر. فقد حكمتها أسرة عربية، و أزهر تأريخها في الزمن الذي أزهرت فيه حكومات المدن الأخرى التي ظهرت على اثر المضعف الذي حل بالسلوقيين. وتقع في السهل الذي يرويه نهر العاصي Orontes وعلى مسافة ميل منه. وعرفت ب Emesa أيضا عند اليونان والرومان. وفي أيام "بومبيوس" كانت مدينة Arethusa المجاورة لحمص، وهي "الرستن"، مقر أسرة عربية حاكمة. وفيها ولد القيصر Elagabalus. وبلغت أوج ازدهارها في أيام "سبتيموس سفيروس" Septimius Severus وفي أيام Elagabalus اسكندر سفيروس Alexander Severus، و كانت أسقفية في عهد البيزنطيين.

(1/1287)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد استدل بعض الباحثين من صور أسماء ملوك حمص على أصلهم العربي. فالأسماء Sampsigeramus و Iamblichus=Jamblichus و Azizus و Soemus هي أسماء تحمل طابعا عربيا خالصا. وهي أسماء ترد في نصوص صفوية، و في نصوص عربية أخرى أيضا، مما يحملنا على الذهاب إلى إن ملوك حمص هم عرب كذلك. فالاسم الأول و هو Sampsigeramus يمكن إن يقرأ "شمس جرم"، والاسم Jamblichus يمكن إن يكون "يملك" أو "جميل" أو ما شابه ذلك، والاسم Azizo هو "عزيزو"، أي "عزيز"، و أما الاسم Soemus، فيمكن إن يكون "سخيم" أو "سهيم" أو ما شاكل ذلك.
وقد كان حكام "حمص" المذكورين كهنة يخدمون هيكل "الشمس"، شأنهم في ذلك شأن سادات القبائل العربية الذين كانوا كهنة يخدمون آلهة القبيلة ويتحدثون باسمها بين أتباعهم.
وقد ذكر "اصطيفانوس البيزنطي" أن شيخا عربيا اسمه "مانيكو" Maniko كون مشيخة في Chalcis أي "قنسرين" من بلاد الشام.
وكانت القبائل العربية قد استقرت في هذه المنطقة قبل أيام "اصطيفانوس" بمدة طويلة. وفي "الحيار"، وهي من أعمال قنسرين، اصطدم الغساسنة بالمناذرة في سنة "554" بعد الميلاد، فانتصر الغساسنة على خصومهم انتصارا كبيرا. ولما استولى الفرس على "قنسرين" وانتزعوها من البيزنطيين، كان للقبائل العربية سلطان واسع في مناطق قنسرين وحلب ومنبج وبالس.
ويعد "اليطوريون" Ituraean من القبائل العربية اليدوية، وهي في التوراة من نسل "إسماعيل". وهم من نسل "يطور" ابن إسماعيل. وتقع أرضهم بين "اللجاة" Trachonitae والجليل، وتسمى "جدورا"، و تقع في جنوب غربي دمشق. وهي من المناطق التي امتزج فيها العرب ببني إرم.
وقد توسع اليطوريون فدخلوا لبنان، وسكنوا البقاع Massyas، واستولوا على "بعلبك" Heliopolis، وتوسعوا نحو الغرب حتى هددوا "جبيل" Bybols وبيروت Berytos. وذلك في أيام ملكهم المعروف ب "بطلميوس" Ptolmaios ابن Mennaios.

(1/1288)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد استدل بعض العلماء من حشر التوراة اليطورين في "الإشماعيليين" ومن اسم Mennaios وهو اسم والد الملك "بطلميوس" الذي عاش في القرن الأول قبل الميلاد، ومن عثورهم على أسماء يطورية في كتابات لاتينية يونانية تشير إلى إنها أسماء عربية الأصل، استدلوا من هذا كله على انهم من العرب، وان كانوا قد تأثروا بثقافة بني إرم. فقد تأثر بهذه الثقافة اكثر العرب الشماليين.
ويعلق بعض العلماء أهمية كبيرة على أسماء الأشخاص في إثبات أصولهم. ووجهة نظرهم هذه في الأسماء، هي التي جعلتهم يذهبون إلى إن من ذكرناهم هم عرب في الأصل، فان الطابع الظاهر على أسمائهم هو طابع عربي. وترد تلك الأسماء في الكتابات الصفوية حكم و أصحابها هم عرب من غير شك، وان دونوا بقلم نبطي و بلغة نبطية. فالنبط أنفسهم هم عرب، كما أشرت إلى ذلك في مواضع من هذا الكتاب، وكما سأشير إلى ذلك في مواضع تأتي.

(1/1289)

admin
12-27-2010, 01:08 AM
إن تدوين أهل الشرق الأدنى لأفكارهم ولما يجول في خاطرهم بلغة بني إرم وقلمهم، جعل من العسير على الباحثين الحكم في أصول الشعوب التي دونت بتلك اللغة والتي عاشت في الهلال الخصيب. ويدفعنا هذا التدوين إلى وجوب اتخاذ موقف حذر ومتأن في إبداء آراء قطعية في أصول من ذكرنا، فنظرية الحكم على أصول الناس استنادا إلى أسمائهم وان بدت إنها نظرية معقولة مقبولة، لكنها مع ذلك غير علمية. فأكثر أسماء المسلمين في هذا اليوم هي أسماء عربية خالصة، ما في ذلك شك، فهل يجوز لنا أن نستنبط من هذه الأسماء بأن حملتها هم من اصل عربي? ثم إن علينا أن نتذكر إن أسماء القبائل والأشخاص عند الشعوب السامية هي، متقاربة ومتشابهة، وهي واحدة في كثير من الأحيان، بل إن علينا إن نتذكر إن ثقافة تلك الشعوب و آراءها متقاربة، و يعني هذان إن من الواجب علينا ألا نتسرع فنحكم بأن ذلك مأخوذ من هذا الشعب أو من تلك الشعوب، وان ذلك الشعب أو هذا هو الأصل، فمسألة تشابه الأسماء و تقارنها في النطق، لا يمكن أن تكون في نظري ميزانا توزن به أصول الناس. و هل يعقل إن يكون الأعاجم المسلمون عربا، لأن أسماءهم عربية، أو إن زنوج الولايات المتحدة هم من أصل أوروبي لأن أسماءهم أوروبية? ويتصل الحديث عن هذه الإمارات بالحديث عن "تدمر" المدينة المعروفة ب "بالمرا" Palmyra عند الغربيين الذين ورثوا هذه التسمية من الإغريق و اللاتين. وهي "تدمر امورو" في كتابات "تغلات فلاصر الأول" "تغلث فلاسر" "تغلت فلاسر" في رأي بعض الباحثين. وسأتكلم عنها بعد حين.
الفصل الثالث و الثلاثون
ساسانيون و بيزنطيون

(1/1290)


--------------------------------------------------------------------------------

حدث تطور خطير في الشرق الأدنى بعد الميلاد، فقد زالت حكومة "البارثيين" "الفرث" "البرث" The Parthians، في حوالي سنة "226 ب. م."، وحلت محلها حكومة عرفت بحكومة "الساسانيين". وهي حكومة نبعت من ثورة على الحكومة السابقة، تولى كبرها ملوك أقوياء اظهروا حزما وشدة جعلت الروم يهابونهم، ويرون انهم مكافئون لهم في القوة، ولم يكن الروم ينظرون إلى "الفرث" بهذه النظرة من قبل.
وحدث تطور مشابه في إمبراطورية "رومة"، فقد انقسمت الإمبراطورية إلى قسمين، وصارت "القسطنطينية" عاصمة الجزء الشرقي،الذي كون الإمبراطورية "البيزنطية"، وذلك في سنة "335 م"، وتولت هذه الإمبراطورية إرث النزاع مع الفرس، النزاع الموروث من الاسكندر، واصبحت بحكم وجودها في بلاد الشام وفي مصر على اتصال بالعرب في البر وفي البحر.
وكان لا بد للساسانيين والبيزنطيين من التعامل مع العرب، ومن استرضائهم، ووضع حساب لهم. فقد كانت لكل من الإمبراطوريتين حدود واسعة طويلة معهم كما كان في كل من الإمبراطوريتين قبائل ذات شأن نازلة في أرضها في مناطق حساسة هي حافات الحدود. و أما البادية: بادية الشام التي تملأ الهلال الخصيب، فقد كانت مملوءة بقبائل عربية تعرف عند الروم باسم Saracens و Scenites، وتعني الكلمة الأخيرة سكان الخيام، أو أهل الخيام، وهي كما قال أحد المؤرخين "الكلاسيكيين" في تنقل مستمر وحركة دائمة من مكان إلى مكان. إذا وجدت أرضا خصبة عاشت عليها، و إلا كسبت معيشتها بالغزو. تغير. على ارض الفرس أو الروم، فإذا جابهتها قوة، تقهقرت إلى البادية حيث يعسر على غير الأعراب ولوجها لتأديبهم. و لهذا لم يكن أمام الحكومات الكبيرة إلا استرضاء تلك القبائل، لصيانة حدودها وللاستفادة منها في إلقاء الرعب في قلوب الأعداء و الخصوم.

(1/1291)


--------------------------------------------------------------------------------

وسلك البيزنطيون السياسة التي سلكها حكام "رومة" من قبلهم، وهي سياسة التقرب إلى سادة "أكسوم"، وعقد اتفاقيات ود وصداقة معهم، لضمان مصالحهم وللضغط على حكام السواحل العربية المقابلة لهم لجلبهم إلى جانبهم ولمنعهم من التحرش بسفنهم وبتجارهم الذين كانوا يرتادون البحار إلى الهند والسواحل الإفريقية ويقيمون في مواضع من السواحل والجزر على شكل جاليات، كما هي الحال في جزيرة "سقطرى". وقد نجحت سياستهم هذه نجاحا أدى إلى غزو الجيش لليمن بتحريض من الروم فيما بعد.
وسلكوا سياسة حكام "رومة" أيضا في تقوية حدود بلاد الشام وضمان سلامتها من غارات الأعراب أو الفرس عليها، ببناء سلسلة من الاستحكامات في البوادي وفي مفارق الطرق المؤدية إلى تلك البلاد، وبتقوية "خطة ديوقليطيان" Diocletian الدفاعية الشهيرة التي وضعها، بالدفاع عن الحدود من مصر إلى نهاية الفرات وفي جملتها تحصين مدينة "تدمر" قلب الدفاع، والمواقع العسكرية الأخرى المقامة في البادية، لتكون الموانع الأولى للأعراب من مهاجمة بلاد الشام، والرادع الذي يردعهم عن التفكير في الغزو.

(1/1292)


--------------------------------------------------------------------------------

و في جملة مما اتخذه البيزنطيون من وسائل التأثير في الشرقيين، وفي جملتهم العرب، نشر النصرانية، الديانة التي قبلوها ودانوا بها، واتخذوها ديانة رسمية للدولة. وفي نشر النصرإنية تقوية لنفوذهم، وسند لسياستهم في نزاعهم مع الساسانيين. ولهذا نراهم يشجعون إرسال البعثات التبشيرية و الإرساليات الدينية إلى إفريقية والى بلاد العرب والى الهند، وينفقون بسخاء لبناء الكنائس في تلك الأرضين يرسلون الخشب النفيس اللازم للبناء، و "الفسيفساء" التي امتازوا بصنعها، والعمال الروم الهرة في البناء، ليبنوا كنائس فخمة جميلة تبهر العيون وتقر الأفئدة، و تؤثر في العقول، فتجلب إليها الناس وتستهويهم، وهناك يتلقاهم المبشرون الذين أوفدوا للتبشير، بتلقينهم النصرانية و الإخلاص لإخوانهم في الدين وفي طليعتهم الروم بالطبع، وفي ذلك كسب سياسي عظيم. وبذلك صارت "الكنائس" دورا لعبادة الله، ودورا للتبشير السياسي والثقافي، ومركزا من مراكز الاستعلامات والتبادل الثقافي في مصطلح هذا الزمن.
وتمكنت النصرانية من كسب بعض العرب، فجرتهم إليها. جذبت إليها القبائل الساكنة على حدود الأرياف والأطراف، أي سكان المناطق الحساسة الدقيقة بالنسبة إلى الخطط السياسية والعسكرية للساسانيين وللبيزنطيين على حد سواء. وقد كان من سوء المصادفات أن النصرانية كانت قد تجزأت إلى شيع، وان غالبية النصارى العرب تمذهبت بمذهب يخالف مذهب الروم، و لكنها كانت تشعر على كل حال أنها مع الروم على دين واحد. ولهذا لم يحفل ساسة "القسطنطينة" كثيرا بموضوع اختلاف المذهب، وان تألموا من وجوده وظهوره،فساعدوا نصارى اليمن ونصارى الأماكن الأخرى من جزيرة العرب على اختلافهم عنهم، و عملوا في الوقت نفسه على نشر مذهبهم بين العرب، ليتمكنوا بذلك من إيجاد محيط ثقافي سياسي يؤيد البيزنطيين.

(1/1293)


--------------------------------------------------------------------------------

وعني الساسانيون بتقوية حدودهم مع الهادية كما فعل البيزنطيون، وكما فعل "الفرث" وغيرهم ممن حكم قبلهم. وسعوا في استرضاء سادات القبائل وأصحاب السلطان من حكام البوادي، وبنوا "المسالح" في المشارف المؤدية إلى أرياف العراق لحمايتها من الغزو، ولتقوم بتأديب الأعراب ومراقبة حركاتهم وتجمعاتهم، لتكون الحكومة على علم بما يريدون فعله، ووضعوا في الخليج سفهنا لحماية سفنهم من التحرش بها، ولحماية حدودهم الجنوبية الواقعة على الخليج من التعرض للغزو و أقام "أردشير الأول" "225 - 241 م"، عدة موانئ بحرية ونهرية لهذا الغرض.
و تقابل هذه "المسالح" ما يقال له "المناظر" في عربيتنا بالنسبة إلى حماية بلاد الشام. فقد كان اليونان والرومان ثم البيزنطيون قد أقاموا خطوطا Limes من التحصينات اسكنوا بها حاميات ألقوا عليها مهمة الدفاع عن الحدود. وهي تتكون من قلاع Castella ومن حصون "أبراج" Burgi ومن Centenaria و Turres. وخطوط التحصينات هذه، هي "المناظر" عند العرب و "المسالح" بالنسبة لخطوط دفاع الفرس. وواجبها حماية ما يليها من تحصينات أخرى وحاميات أقيمت على "الخنادق" في الإمبراطورية الساسانية، أو ما يقال له Fossatum عند الروم. فهي الخطوط الأولى من خطوط الدفاع. أما الذين يقومون بحراستها و الدفاع عنها، فانهم لا يتقاضون أجرا، أي رواتب على عملهم، لأنهم Limitanei كما يقال لهم في اليونانية. ومعاشهم ما يزرعونه بأنفسهم، أو يدفع لهم من غلات الفلاحين الذين يعفون من دفع ما عليهم من استحقاق للدولة. اي ما نسميه بضرائب Capitatio. وينتخب هؤلاء من السكان المحليين، ليكون من السهل عليهم السكن في هذه المواضع البعيدة. وعليهم مشرفون من الفرس أو الروم لتوجيههم ولقيادتهم في أثناء وقوع غزو أو تحرش قبائل بهذه الخطوط.

(1/1294)


--------------------------------------------------------------------------------

و شجع الساسانيون مذهب "نسطور" مع انهم كانوا مجوسا، ولم يكونوا نصارى. شجعوه لأنه مذهب يعارض مذهب الروم، فانتشر في العراق وفي إيران وفي سائر الأرضين الخاضعة للحكم الساساني. ودخل في هذا المذهب اكثر النصارى العرب في العراق. ومن يدري? فلعلهم ساهموا من طرف خفي في توسيع الشقة بين هذا المذهب ومذهب الروم ولإلقاء العداوة بين هؤلاء النصارى والروم.
كانت بادية الشام ميدانا للقبائل، تتصارع فيه كيف تشاء. تبرز فيه قبيلة، ثم ينطفئ اسمها، لتظهر قبيلة أخرى. ولم يكن ذلك ليهم الدول الكبرى، ما دام ذلك الصراع في مواضع بعيدة عن حدودها، فإذا بلغ الحد، اضطرت تلك الدول إلى الوقوف بحزم و صرامة أمامه، إذا كانت تملك الحزم والقوة.
ولصعوبة قيام جيوشها النظامية بتعقب القبائل المغيرة وملاحقتها في البادية، عمدت إلى استرضاء سادات القبائل الكبيرة ذات العدد الكبير، بالهدايا والمنح المالية المغرية وبالامتيازات وبالألقاب للقيام بحراسة الحدود ومراقبتها، وبتعقب القبائل التي قد تتجاسر فتغزو الحدود، منتهزة مواطن الضعف والثغرات. فالتجاء الساسانيون إلى عرب "الحيرة"، والتجأ البيزنطيون إلى الضجاعمة والى أهل تدمر والغساسنة فيما بعد للقيام بهذه المهمة.

(1/1295)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم تكن مهمة حفظ الحدود مهمة سهلة هينة، حتى على أهل البادية أنفسهم، فمنطق القبائل: إن القبيلة إذا كانت قوية ذات بأس، وشعرت بقوتها، جاز لها إن تطلب لنفسها ما تشاء وان تغزو من تشاء كائنا من كان. وطالما صار من توكل إليه حراسة الحدود نفسه هدفا للغزو، لأنه لم يطعم الغازين، ولم يقدم لهم ما يرضيهم من ترضيات و اعطيات، أو لأن الغازين رأوا في قرارة أنفسهم أحق بحماية الحدود من الذين يقومون بحمايتها في هذا الزمن، ولهذا يرون وجوب انتزاعها منهم بالقوة، كما انتزعهما هؤلاء القائمون بالحماية من سلفهم. فلا يكون أمام الدول الكبرى غير الموافقة والتسليم، ودفع الجعالات التي كانوا يدفعونها إلى الحرس القديم إلى الحرس الجدد الذين اظهروا قوة فاقت قوة القدماء في ميدان التنافس والقتال. وما الذي يهم الدول الكبرى في مثل هذه المواقف غير حماية الحدود ? ومع رغبة الدول الكبرى في التعامل جهد الإمكان معع أصحابهم القدماء الذين اطمأنوا إليهم، فأوكلوا لهم حراسة حدودهم، وكانوا يهددون ذلك الحرس بجعل حراستهم إلى خصومهم ومنافسيهم إذا ما شعروا بسوء نهيتهم أو طمعهم أو إلحافهم في زيادة الجعالات، أو بضعف أو تهاون في الدفاع عن الحدود وفي إنزال القصاص بالمغيرين. وقد يوكلون الحراسة في الحالات الشاذة إلى قوادهم الأشداء، لتعقيب المغيرين، و إنزال ضربات شديدة بهم، إلى إن يتفقوا مع حارس جديد أو إن يتفق أهل الحارس القديم على اختيار شخص جديد كما في حالات وفاة احد رؤساء آل نصر أو آل غسان.

(1/1296)


--------------------------------------------------------------------------------

وليس من الصعب بالطبع على حماة الحدود إدراك الأدوار الخطيرة التي يقومون بها، والخدمات الكبيرة التي كانوا يؤدونها للدولة التي يتولون حماية حدودها وضبطها من غارات الأعراب عليها، ولهذا صاروا يتحينون الفرص السانحة والظروف المؤاتية لإرغام الدولة على رفع جعالاتهم ولزيادة امتيازاتهم، و إلا أضربوا عن الحراسة، وأثاروا الأعراب عليهم، وهاجموا هم أنفسهم تلك الحدود حتى تجاب مطالبهم أو يسترضوا، وعندئذ يقبلون بالعودة إلى عملهم. وفي تواريخ المناذرة و الغساسنة، أمثلة عديدة من أمثلة خروج أمراء هاتين الحكومتين على الساسانيين و البيزنطيين، لعدم تلبية مطاليبهم في زيادة الجعالات وفي الحصول على امتيازات جديدة تزيد على امتيازاتهم السابقة الممنوحة لهم.
وكان من نتائج العداء الموروث بين الساسانيين والبيزنطيين إن انتقلت عدواه إلى العرب أيضا،- فصار أناس منهم مع الفرس، وآخرون مع الروم، وبين العربين عداوة وبغضاء، مع انهما من جنس واحد وكلاهما غريب عن الساسانيين والبيزنطيين. وقد تجسمت هذه العداوة في غزو عرب الحيرة للغساسنة، و في غزو الغساسنة لأهل الحيرة، حتى في الأيام التي لم يكن فيها. قتال بين الفرس والروم، مما أدى أحيانا إلى تكدير صفو السلم الذي كان بين البيزنطيين والساسانين، وتجسمت في شعر المدح والهجاء الذي تجده في حق آل نصر أو آل لخم، من الشعراء الذين وجدوا في هذه البغضاء متسعا لهم ومفرجا في الرزق. فصار بعضهم يساوم في أجور المدح وفي أجور الذم.

(1/1297)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد انتهت حدود الأرضين التي خضعت لحكم البيزنطيين أو سلطانهم عند حدود "المقاطعة العربية" الجنوبية، فلم تتجاوزها إلى ظهور الإسلام. ولعل محاولة "أبرهة" الاستيلاء على "مكة" كانت خطة سياسية عسكرية من خطط البيزنطيين كانت ترمي إلى الاستيلاء على الشقة التي بقيت تفصل بين الروم والحكم الحبشي في اليمن، فيبسط بذلك البيزنطيون سلطانهم السياسي على العربية الغربية كلها وعلى قسم كبير من العربية الجنوبية، ومن يدري? فلعلهم كانوا يبغون من بعد ذلك احتلال العربية الجنوبية كلها، لغرض سيطرتهم على أهم جزء من خطوط الملاحة البحرية العالمية المؤدية إلى الهند والسواحل الأفريقية.
أما فيما عدا ذلك من جزيرة العرب، فلم يكن للبيزنطيين سلطان سياسي أو تدخل فعلي. ولهذا انفردت فعالياتهم السياسية والعسكرية مع العرب النازلين في الأرضين التي خضت لحكمهم ولسلطانهم، ومع عرب بادية الشام وعرب العراق.

(1/1298)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا نعلم إن ملوك الروم كانوا يرسلون قوافل تجارية خاصة بهم، لتتاجر مع جزيرة العرب، أو إن حكام مقاطعاتهم في بلاد الشام كانوا يتاجرون باسم حكومتهم أو بأسمائهم مع بلاد العرب. وكل ما نعرفه هو إن التجار العرب كانوا هم الذين يرسلون القوافل إلى بلاد الشام فكانت إذا دخلت مناطق الحدود ، تؤدي ضرائب المرور و "المكس" إلى رجال "مصلحة الضرائب" التابعين للروم. وعندئذ يسمح لهم إن يذهبوا إلى الأسواق لبيع ما يحملونه وشراء ما يحتاجون إليه. وكانت "بصرى" حاضرة "المقاطعة العربية"، هي السوق الرئيسية للتجار العرب، ومنتهى قوافلهم في الغالب. فكانت علاقة أهل الحجاز، ولا سيما أهل مكة، بالروم علاقة اقتصادية. وعلى هذه العلاقة كانت تتوقف العلاقات السياسية في غالب الأحيان. فقد كان الروم يزيدون الضرائب أحيانا، و يتعسفون في الجباية، فيتضرر بذلك التجار العرب، فكانوا يشتكون، ويراجعون حكام المقاطعات، وقد يرفعون إلى كبار القادة والحكام التماسا، أو يرسلون إلى عاهل القسطنطينية رسلا، كما تقول بعض روايات أهل الأخبار للتوسل برفع هذه المظالم عنهم و لتخفيف الضرائب، وتنتهي مثل هذه الشكايات بترضيات يراد بها إن تكون ترضيات سياسية، لتوجه عرب الحجاز ضد الفرس، أو لفتح المجال لتجار الروم بالمرور من الحجاز إلى الجنوب، أو للضغط على التجار لمنع القبائل من التجاوز على حدود الروم إلى ما شاكل ذلك من أمور.

(1/1299)


--------------------------------------------------------------------------------

أما ملوك الساسانيين، فقد كانوا يتاجرون مع العرب، يشترون منهم ويبيعونهم ويرسلون القوافل بأسمائهم إلى العربية الجنوبية، لبيع ما تحمله في أسواقها، ولشراء سلع العربية الجنوبية يحملونها إلى أسواق العراق. وقد كانوا يوكلون حراستها إلى جماعة يختارونهم من سادات القبائل المهيبين المعروفين، بجعل يدفعونه لهم، وسأتحدث عن ذلك فيما بعد. ولا أستبعد إن يكون بين تلك القوافل، قوافل حملت ما كان يرسله الأكاسرة إلى عمالهم في اليمن بعد استيلائهم عليها من مؤن وبضائع، لتعود بما يفضل من الجباية يجبيها مرازبتهم على اليمن، لتكون حصتهم وسعة الخزينة من مال اليمن.
ويظهر من روايات أهل الأخبار إن جماعة من أهل مكة قد تخصصت بالاتجار مع العراق. وقد كان لها تعامل مع كسرى وربما مع كبار رجال دولته أيضا من أولئك الذين اقتدوا بملوكهم في الاشتغال بالتجارة وبالنزول إلى الأسواق، فإنا في أناسا من كبار تجار مكة كانوا يفدون على المدائن، ويتصلون بديوان كسرى، ويتعاملون هناك بيعا وشراء. وكانت لهم دالة على ملك المدائن، وربما كان يساعدهم هو نفسه في مال القوافل، أو يجعل له نصيب من الأرباح.

(1/1300)


--------------------------------------------------------------------------------

أما حدود الدولة الساسانية مع البلاد العربية، فلم تكن ثابتة، بل كانت تتبدل و تتغير بحسب الظروف والأحوال. فقد كانت تتوسع أحيانا، وتتراجع وتتقلص أحيانا أخرى. كان الساسانيون يتقدمون نحو الجنوب في اتجاه "العروض" وبقية الأقسام الشرقية من جزيرة العرب حين تكون لهم قوة بحرية كافية، وكانوا ينسحبون منها حين تضعف هذه القوة، وحين تلهيهم الأحداث الداخلية وحروبهم مع الروم عن التفكر في الجنوب. وقد كان العرب في عهد الساسانيين وقبله قد استوطنوا السواحل الجنوبية من ايران، وهيمنوا عليها، وكان لقبائلهم أثر خطير هناك، ولا سيما قبل إن تكون الدولة الساسانية، إذ وجدوا في انشغال الدولة إذ ذاك في المنازعات الداخلية فرصة ملائمة لهم، فبسطوا سلطانهم على مناطقهم مثل "كرمان" Karmania وغيرها. ولهذا كان أول ما فعله مؤسس الدولة الساسانية "أردشير الأول" "224 - 240 م"، "225 - 241 م" "226 - 241 م" أن حارب عرفي هذه الأرضين ليخضعهم إلى حكمه، في جملة سياسته التي قررها،" وهي القضاء على الإقطاع وعلى الإمارات التي تعددت في هذا العهد نتيجة ضعف الحكومة.
فورد إن "أردشير" سار بعد إن تغلب على خصومه في إيران، لقتال ملك "الأهواز"، فغلبه في معركة حاسمة أ واستولى على ولايته، ثم سار نحو "ميسان"، وكان حاكمها عربيا، فاستولى عليها، وبذلك خضع له العرب الساكنون في المناطق الجنوبية من بلاد إيران.

(1/1301)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر "حمزة الأصفهاني" إن "أردشير" ابتنى مدينة بالبحرين سماها "بتن أردشير"، "وإنما سماها بتن اردشير لأنه بنى سورها على جثث أهلها، لأنهم فارقوا طاعته، و عصوا امره، فجعل سافا من السور لبنا، وسافا جثثا، فلذلك سماها اردشير". ويفهم من هذه الرواية الفارسية التي لا تخلو من الخيال إن اردشير كان قد استولى على البحرين. وقد ورد إن "أردشير"، كان قد أنشأ عدة موانئ على الأنهار وعلى البحار، بعد إن قضى على مقاومة القبائل العربية النازلة في المناطق الجنوبية من إيران، وعندئذ صار من الميسور له ركوب البحر والاستيلاء على البحرين وعلى الأرضين العربية الأخرى من جزيرة العرب. ولهذا نص بعض الكتبة "الكلاسيك" على إن ساحل عمان Oman كان تابعا للفرس يومئذ، أي لحكم "أردشير"..
و ذكر الطبري إن "أردشير" بنى بالبحرين مدينة سماها "فنياذ أردشير" وقال إنها مدينة "الخط".
ويفهم من تأريخ "الطبري" إن "عمرو بن عدي"، وهو أول ملك من ملوك الحيرة، كان "مستبدا بأمره، يغزو المغازي، ويصيب الغنائم، وتفد عليه الوفود دهره الأول، لا يدين لملوك الطوائف بالعراق، ولا يدينون له، حتى قدم أردشير بن بابك في أهل فارس"، ولم يشرح "الطبري" صلته ب "أردشير". ولكن الذي يتعمق في دراسة معنى هذه العبارة يخرج منها بان أردشير فرض سلطانه عليه: وانه أطاعه، فلم يعد يغزو المغازي، و يصيب الغنائم كما كان يفعل أيام ملوك الطوائف.
أما "سابور الأول" "241 - 272 م"، وهو ابن الملك "أردشير" مؤسس الدولة الساسانية، فقد ذكر انه تلقن درسا مهما في السلوك من "أذينة" ملك تدمر، إذ يقولون، انه لما تمكن من تمكن من القيصر "فالريان" "فالريانوس" Valerian وأسره وانتصر على جيشه انتصارا كبيرا، تملكه الغرور والعجب،

(1/1302)


--------------------------------------------------------------------------------

وصار يشعر انه ملك الدنيا، فلما أرسل إليه "أذينة" رسالة مع هدايا تحملها قافلة كبيرة من الجمال، وصلت إليه في أثناء عودته منتصرا، تملكه العجب من تجاسر "أذينة" على مخاطبته بلهجة ليس فيها كثير من التعظيم والتفخيم والاحترام، و هو "ملك الملوك" و "أذينة" رئيس موضع في البادية، فأخذته العزة وأمر برمي هداياه في "الفرات" قائلا: "ومن هو أذينة Odenathus هذا? ومن أي ارض هو حتى يوجه هذه الرسالة إلى سيده فليأت حالا إذا أراد إن يخفف من العقاب الذي سينزل به، و ليسجد أمامي بعد إن توثق يداه إلى ظهره!". فلما سمع "أذينة" بهذه الإهانة، جمع ما عنده من قوة، وأسرع فباغت الساسانيين مباغتة أفزعتهم، فوقع الرعب فيهم، حتى تركوا له اكثر ما حصلوا عليه من غنائم من حربهم مع الرومان، وفقدوا بعض زوجات الملك، إذ وقعن أسرى في أيدي قوات "أذينة"، ولم يكتف ملك "تدمر" بهذا الانتقام، بل أسرع في سنة "263 م". فهاجم الجزيرة، فانتصر على "سابور"، ثم حاصر عاصمته "طيفسون" .
و.قد استمر الساسانيون في محاربة "أذينة" رجاء التغلب عليه والانتقام منه إلى سنة "265 م" من غير جدوى، إذ قتل "أذينة" دون إن يتمكن "سابور" من أخذ الثأر منه.
ولما تغير الزمن، واتبعت "الزباء،" سياسة معادية للرومان، و حاصرها "أورليان" Aurelian، اتصلت بالساسانيين رجاء الحصول منهم على مساعدة عسكرية، لتتخلص بها منهم، إلا أن الملك "بهرام" لم ينجدها، فسقطت أسيرة في أيدي الرومان سنة "272 م"، واخذ نجم المدينة المهمة التي اتخذها "هادريان" Hadrian قاعدة عسكرية لحماية حدود بلاد الشام من المغيرين، في الأفول منذ ذلك الحين. وكان تقاعس "بهرام" عن مساعدة "الزباء" من ضعف سياسة ذلك الملك، إذ لم يكن ذا همة في إدارة الملك.

(1/1303)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا نعلم شيئا يذكر بعدئذ عن صلات الفرس الساسانيين بالعرب منذ عهد "بهرام الأول" إلى عهد "سابور الثاني" "310 - 379 م"، فالموارد صامتة لا تتحدث عنها بأي حديث، إلى عهد هذا الملك، و إنما هي تتحدث عن غارات قاسية أغارها هذا الملك على العرب في المنطقة العربية من إيران وفي الخليج العربي و في العراق.
ويحدثنا "المسعودي"، أن "سابور بن هرمز" المعروف ب "سابور ذي الأكتاف" "310 - 379 م"، كان قد أوقع في العرب موقعة عظيمة، وذلك لأن القبائل العربية وفي طليعتها قبيلة "إياد"، كانت غلبت على سواد العراق، وأطبقت على البلاد، ولذلك قيل لها "طبق" في أيام ملكها "الحارث ابن الأغر الإيادي"، و كانت تصيف بالجزيرة وتشتو بالعراق، فلما كبر "سابور" واخذ أمور الملك بيده من مستشاريه ووزرائه، إذ جاء الملك إليه بوفاة أبيه وكان في بطن أمه - أراد الانتقام من إياد، و إخضاعها للساسانيين، كما كانت من قبل، فأرسل سراياه نحوها، وكان في حبسه رجل من إياد، اسمه "لقيط"، سمع بعزم سابور فأرسل إليها شعرا ينذرها به، ولكنها لم تحفل بإنذاره، ففاجأتها جيوشه، وأوقعت بهم، فما أفلت منهم إلا نفر لحقوا بأرض الروم، وخلع بعد ذلك أكتاف العرب، فسمي سابور ذا الأكتاف.
ويفهم من البيت الأول من شعر لقيط، وهو قوله: سلام في الصحيفة من لقيط على من في الجزيرة من إياد
أن إيادا كانت قد استبدت في أرض الجزيرة، وعصت الفرس هناك وكانت قد استوطنت منذ أمد فيها، ولذلك حذرها "كسرى".
و إذا كان هذا البيت الذي نسب إلى "علي بن أبي طالب": لقريب من الهلاك كما أه لك سابور بالسواد إيادا
حقا و صحيحا، فإن قوله هذا يكون أقدم مورد جاء فيه خبر إيقاع "سابور" بإياد.

(1/1304)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي خبر "المسعودي" وهم وتسرع فإن الذي حارب إيادا وأنزل بهم خسائر فادحة، لم يكن "سابور ذا الأكتاف"، بل كان "كسرى انو شروان"، أو "كسرى بن هرمز"، وان "كسرى" هذا أرسل جيشا ضدهم، وضعه بقيادة "مالك بن حارثة" ومعه قوم من "بكر بن وائل" فأرسل عندئذ "لقيط" إليهم إنذاره فلم يحفلوا به، فوقعت بهم خسائر كبيرة في "الحرجية"، وفر قسم كبير منهم إلى بلاد الشام.
وينسب بعض الرواة الشعر المذكور إلى "عمرو بن جدي"، ويرجع جماعة من الرواة أيام "لقيط بن معمر" إلى أيام "كسرى أنو شروان" "الأول". وفي القولين دلالة على إن الأبيات الشعرية التحذيرية لا يمكن إن تكون قد أرسلت
في أيام "سابور" المذكور، بل في أيام ملك آخر حكم بعده بسنين.
وفي رواية أخرى إن "سابور" سار في البلاد حتى أتى بلاد البحرين، وفيها يومئذ بنو تميم، فأمعن في قتلهم، ففر من قدر منهم على الفرار، فأراد اللحاق بهم، ولكن "عمرو بن تميم بن مر"، وهو سيد تميم يومئذ، وكان قد بلغ ما بلغ، تحدث إليه حديثا لطيفا أقنعه بالكف عمن بقي، فتركهم وشأنهم.

(1/1305)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من روايات أهل الأخبار إن السبب الذي دعا ب "سابور" إلى الفتك بالعرب، هو إن القبائل العربية كانت قد توغلت في جنوب إيران، وصار لها سلطان كبير هناك، وتزايد عددها، ثم صارت تتدخل في الأمور الداخلية للدولة الساسانية. فلما أخذ الأمور بيديه، بدأ يضرب هذه القبائل، للقضاء على سلطانها ثم قطع البحر، فورد "الخط"، فقتل من بلاد البحرين خلقا كبيرا، وأفشى القتل في "هجر"، وكان بها ناس من أعراب تميم و بكر بن وائل وعبد القيس، ثم عطف على بلاد عبد القيس فأباد أهلها، إلا من هرب منهم فلحق بالرمال، ثم أتى اليمامة فقتل بها كثيرا أيضا، وسار على خطة طم المياه وردم الآبار، ليحرم الناس الانتفاع بها. ثم. سار حتى بلغ قرب "المدينة" ، فقتل من وجد هناك من العرب، وأسر. ثم عطف نحو بلاد بكر و تغلب فيما بين مملكة فارس و "مناظر الروم" بأرض الشام، ففعل بها ما فعله في الأرضين الأخرى، وأسكن من كان من بني تغلب من البحرين "دارين" واسمها "هيج" و "الخط"، ومن كان من عبد القيس وطوائف من بني تميم "هجر"، ومن كان من بكر بن وائل "كرمان" وهم الذين يدعون "بكر بن أبان"، ومن كان من بني حنظلة ب "الرميلة" من بلاد الأهواز.

(1/1306)

admin
12-27-2010, 01:09 AM
فحملة "سابور" على البحرين وساحل الخليج، إنما هي جزء من الحملة العسكرية التي وضعها ذلك الملك للقضاء على نفوذ القبائل العربية التي كانت قد سكنت السواحل الجنوبية من إيران وأقامت بها قبل أيامه بزمن. والظاهر إنها انتهزت فرص ضعف الدولة الساسانية، وتناحر الرؤساء ورجال الجيش على السلطة فأخذت تزحف نحو الشمال وتقوي سلطانها في الأرضين الجنوبية من المملكة، فلما انتقل الحكم إلى "سابور" وكان من سياسته إعادة السلطة المركزية للدولة والقضاء على الإقطاعيين وعلى منازعي الحكومة، حمل على عرب إيران، حملة شديدة عنيفة حتى أخضعهم، ثم نزل نحو الجنوب فعبرت جيوشه إلى جزر، البحرين والسواحل العربية المقابلة، فأوقع بالعرب وآذاهم على نحو ما نجد وصفه في كتب أهل الأخبار.
وقد كان نزوح العرب إلى إيران عن طريق البحر، حيث زحف أهل ساحل الخليج من الخط والبحرين وكاظمة وعمان، إلى السواحل المقابلة: السواحل الجنوبية من ارض الفرس. كما نزحوا إليها من مملكة "ميسان" Mesene، فتوغلوا شرقا إلى "عيلام" Elam، اي "خوزستان" ثم الأقسام الجنوبية من فارس. ويفهم مما كتبه "كورتيوس روفوس" Curtius Rufus، الذي عاش في العشرات الأولى من القرن الثالث للميلاد، إن العرب كانوا إذ ذاك في "كرمان" وفي "فارس". ولا بد وان يكون وجودهم في هذه الأماكن قبل هذا العهد بأمد طويل. وذلك مما يؤيد ما جاء في تأريخ "الطبري" وغيره من وجود العرب في إيران قبل قيام حكومة الساسانيين.
وقد أنشأ "سابور" أسطولا قويا في ا الخليج العربي، ليحافظ على حدود إمبراطوريته، و على التجارة في هذا الماء، مع مساهمة أهل الخليج العرب أنفسهم في ركوب البحر وفي نقل التجارة ما بين الهند وسيلان وجزيرة العرب والعراق. ويظهر من روايات أهل الأخبار إن "سابور" نفسه كان في الأسطول الذي وصل إلى البحرين للانتقام من العرب الذين كانوا يهاجمون سواحل حكومته الجنوبية المطلة على الخليج.

(1/1307)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي رواية أخرى نقلها "الطبري" من مورد آخر غير مورد ابن الكلبي:
إن سابور، بعد إن اثخن في العرب وأجلاهم عن النواحي التي صاروا إليها، مما قرب من نواحي فارس والبحرين واليمامة، استصلح العرب، وأسكن بعض قبائل تغلب وعبد القيس وبكر بن وائل كرمان وتوج والأهواز. وقد كان ذلك بعد حربه مع الروم. والظاهر إن الأوضاع السياسية اضطرته إلى استصلاح العرب، بعد إن تبين له صعوبة الاستمرار في سياسة العنف والقوة إلى أمد غير معلوم، وبعد ما وجد من خطر في الاستهانة بشأن القبائل، ولا يستبعد أن يكون للدرس الذي تعلمه من "أذينة" نصيب في هذا التبدل الذي أدخله على سياسته.
ويتبين من وصف "الطبري" لحملات "سابور" على العرب، إنها كانت حملات واسعة، شملت أرضين بعيدة. بدأت بمن نزل أرض فارس من العرب ممن أناخ على "أبر شهر وسواحل أردشير خرة وأسياف فارس"، ثم السواحل المقابلة لإيران من بلاد العرب، ثم امتدت نحو الغرب حتى بلغت "المدينة"، ثم منها نحو بلاد بكر وتغلب، فيما بين مسالح الساسانيين و "مناظر" الروم. أي انه حارب قبائل بادية السماوة. وهي حملات إن صح إنها وقعت فعلا، فلا بد وان تكون قد نجحت وتمت بقبائل عربية مؤيدة ل "سابور"، إذ يصعب تصور قيام الفرس وحدهم و بدون مساعدة باجتياز البوادي الشاسعة المنهكة لملاحقة العرب، وهم سادة البادية. ولم يكن في وسع الفرس، مهما بلغ جيشهم من التدريب والتنظيم تحمل العطش وحرارة البادية وجوها القاسي الصارم.
وفي رواية المؤرخ "أميانوس" Ammianus عن حروب "سابور" "شابور" الثاني تأييد لرواية "الطبري" عن تلك الحروب وتوثيق لأكثرها. وقد وقعت تلك الحروب في ارض اغلب سكانها من عشائر قضاعة.

(1/1308)


--------------------------------------------------------------------------------

ولضمان الحدود من غارات الأعراب عليها، قوى "سابور" "المسالح"، بأن وضع بها حاميات عسكرية قوية، لمنع الأعراب من التعرض بالحدود. كما أقام خندقا عرف ب "خندق سابور" ليحول بين الأعراب والدنو من الحضر. وقد أباح لرجال الحاميات التي وضعت على الخندق، إقامة الأبنية وزرع الأرض واستثناهم من دفع الخراج.
وقام "سابور" بعمليات واسعة لإجلاء القبائل من منازلها إلى منازل أخرى جديدة، تأديبا لها، وضمانا لعدم قيامها بغارات على الحدود. وهي سياسة قديمة معروفة، استعملتها الحكومات في تأديب القبائل. فكان الآشوريون يجلون القبائل من مواطنها إلى مواطن جديدة، قد تكون بعيدة عن منازل القبيلة القديمة. وقد أجلى "سابور" بعض عشائر "تغلب" إلى البحرين، حيث انزلوا "دارين" وهي "هيج" ، وأسكن عشائر أخرى "الخط". ونقل بعض عشائر "بكر وائل" إلى "كرمان" و "ابان"، حيث عرفوا ب "بكر أبان". ونقل "بني حنظله" إلى "الرملية" من "الأهواز" "خوزستان". و يرى "نولدكه" احخمال كون "الرملية" موضع "قرية الرمل"، الواقع على مسيرة يوم واحد عن "شوشتر". ونقل قوما من "عبد القيس" وتميم إلى "هجر".
وفي جملة ما وضعه "سابور" من خطط لحفظ "السواد" وحفظ الحدود، إقامة "أنابير" أي مخازن في المواضع المهمة، لخزن الأسلحة والأطعمة لتوزيعها على حاميات "المسالح" وعلى الأعراب عند الحاجة. ومن هذه المواضع: "الأنبار" و "عكبرا". وقد وضعت كلها تحت حماية عسكرية قوية. كذلك عهد إلى "آل نصر" مهمة حماية الحدود، بضبط العشائر والسيطرة عليها. بأن جعلهم يقومون بدور الشرطة المسؤولة عن حماية الحدود.

(1/1309)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا استبعد احتمال تقليد "سابور" للرومان في خططهم العسكرية التي كانوا وضعوها لحماية حدودهم في بلاد الشام وفي إفريقية من غزو القبائل. فقد كانوا قد حموا حدودهم بسلسلة من التحصينات ضمت Castella و Burgi و Centenaria، وخطوطا دفاعية حصينة أقيمت في مؤخرة التحصينات الأمامية عرفت ب Fossaatum. و "المسالح" التي أقامها الفرس أمام "الخندق" أو أمام الخطوط الدفاعية المحصنة هي محاكاة لخطط الرومان، وتقابل ما يقال له Limitanei في اللاتينية.
ولما تحرش "سابور" سنة "337 م" بحدود الروم كلف العرب الهجوم على حدودهم أيضا وغزوها. و الظاهر إن هؤلاء العرب كانوا من العرب المحالفين له، ولعلهم عرب الحيرة. وقد وقع هذا الغزو في أيام "قسطنطين" Constantine ملك الروم.
ونجد في الروايات الأعجمية تأييدا للرواية العربية القائلة باسترضاء "سابور" للعرب للاستفادة منهم في محاربة الروم وفي الوقوف أمامهم. إذ ورد في الأخبار اليهودية انه أثناء الحروب الفارسية الرومية الطويلة التي امتدت من سنة "338" حتى سنة "363" للميلاد، استدعى "سابور" قبائل عربية عديدة وأسكنها في مواضع متعددة من العراق، وذلك لتساعده في حربه مع الروم.

(1/1310)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي رواية في تأريخ الطبري: إن "لليانوس" ملك الروم. حارب "سابور"، فضم إلى جيشه من كان في مملكته من العرب، أي عرب الروم، "و انتهزت العرب بذلك السبب الفرصة من الانتقام من "سابور" و ما كان من قتله العرب، واجتمع في عسكر "لليانوس" من العرب مئة ألف وسبعون ألف مقاتل، فوجههم مع رجل من بطارقة الروم بعثه على مقدمته، يسمى "يوسانوس". أما من بقي في عسكر "لليانوس" من العرب، فقد سألوه إن يأذن لهم في محاربة "سابور"، فأجابهم إلى ما سألوه، فزحفوا إلى "سابور" فقاتلوه، ففضوا جمعه، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وهرب "سابور" فيمن بقي من جنده، واحتوى "لليانوس" على مدينة "طيسفون" محلة سابور، و ظفر ببيوت أموال سابور وخزائنه فيها" عندئذ استنجد سابور بقواده فلما وصل إليه العون، استخلص طيسغون، ثم تصالح بعد مقتل "لليانوس" مع "يوسانوس" الذي انتخبه الجيش ملكا على أثر قتل "لليانوس".
وقصد "ا لطبري" ب "لليانوس" الإمبراطور "جوليان" "يوليا ن" Julian، فقد تقدم هذا بجيوشه سنة "363 م"، نحو الدولة الساسانية فاكتسح حدودها، وهرب الفرس من أمامه، حتى بلغت جيوشه "صيسغون" عاصمة الساسانيين، إلا أنه لم يلحق ضربة شديدة قاصمة ب "سابور"، بل شرك عاصمته، وتراجع حيث لاقى مصيره في المعركة في أثناء رجوعه إلى بلاده. فانتخب "يوسانوس"، وهو "جوفيان" Jovian في لغة الروم، خلفا له.
وقد ورد في بعض الروايات أن "لليانوس" "يوليان" Julian قيصر الروم، كان متعجرفا متغطرسا فلما كلف جماعة من العرب Saracen أن ينضموا إلى جيشه، لمحاربة الفرس، وافقوا على ذلك وحاربوا معه، إلا أنهم لما طالبوه بعطاياهم وبهدايا، أجابيم جوابا غليظا: "الإمبراطور الشجاع المقدام، عنده الحديد، لا الذهب"، فتركوه وانقلبوا عليه، وألحقوا به خسائر كبيرة.

(1/1311)


--------------------------------------------------------------------------------

ويذكر المؤرخ "أميانوس مرسيللينوس" Ammianus Marcellinus: إن "يوليان" Julian لما بلغ "الفرات" ليلحق بالأسطول الذي بناه في هذا النهر ويسير به لمحاربة الساسانيين ولينقل جيشه إلى حيث يلتقي بالجيش الآخر الزاحف من "دجلة" والطرق البرية، قدمت له قبائل عربية Saracens الطاعة، إلا إن هؤلاء أناس لم يكونوا يعرفون هل هم أعداء أو أصدقاء? ولذلك صار الروم على حذر شديد منهم، خشية الانقلاب عليهم عند الشدائد.
وذكر هذا المؤرخ: إن سادات القبائل قدموا إلى القيصر تاجا من ذهب، ليعبر. عن خضوعهم له. ولقبوه بلقب "ملك كل العرب" فقبل الملك منهم التاج واللقب، لما في ذلك من أثر معنوي يحدثه في نفوس العرب. وحاربت القبائل التي انضمت إليه الفرس في معارك صغيرة. فكافأها القيصر على عملها هذا. إلا انه لم يقدم لها معونات الذهب التي كانت تقدم عادة إلى سادات القبائل. فاستاء الرؤساء من ذلك، وانحاز قسم منهم إلى الفرس. وأخذوا يتحرشون بعسكر "يوليانوس"، و ألحقوا به خسائر في الأرواح، وباعوا من وقع في أيديهم أسيرا من الروم، في أسواق النخاسة.
وكان سبب انضمام تلك القبائل إلى الروم، ما لاقته من شدة "سابور" "شابور الثاني" ومن تنكيله بها، فأرادت بانضمامها إلى "يوليانوس" الانتقام من الفرس، وأخذ ثأرها منهم عند سنوح أول فرصة. وقد آذوه فعلا، مما حمله على تغيير سياسته تجاههم، فأخذ يرضيهم فعاد إليه من عاد منهم.
وذكر "أميانوس"، إن ممن انضم إلى الفرس من الأعراب Saraceos، سيد قبيلة اسمه "مالك" Malechus. وقد عرف والده ب Podosacis. وقد تمكن بمعاونة رجل عربي أخر اسمه: "سورينا" Surena من الفتك بكتيبة من كتائب الروم، وذلك بنصب شرك لها، فوقعت تحت سيوف العرب. وذكر إن "مالك"، كان عاملا "فيلارخا" على قبيلة اسمها Assanitarum، يرى البعض انهم الغساسنة.

(1/1312)


--------------------------------------------------------------------------------

ويذكر أهل الأخبار إن "سابور" إنما لقب ب "ذي الأكتاف"، لأنه خلع أكتاف العرب. ويرى "نولدكه" أن هذا التفسير مصنوع، وان اللقب إنما جاء عند الساسانيين في معنى آخر لا علاقة له بخلع الأكتاف، بل قصد به "ذو الأكتاف"، أي صاحب الأكتاف دلالة على الشدة والقوة، فهو لقب تمجيد وتقدير. و قد حوله أهل الأخبار إلى معنى آخر، هو المعنى المتقدم لبطش "سابور" بالعرب و إيقاعه القاسي بهم. أما "أرثر كريتنسن"، فيرى أن تفسير أهل الأخبار تفسير صحيح، وهو لا يستبعد خالع "سابور" لأكتاف العرب، فقد كان مثل هذا التعذيب القاسي المؤلم معروفا في تلك الأيام.
وذكر "حمزة الأصفهاني"،أن التسمية المذكورة إنما جاءته من الجملة الفارسية، وحي "شابور هويه سنبا" "وهويه اسم للكتف وسنبا أي نقاب. قبل له ذلك لأنه لما غزا العرب كان ينقب أكتافهم، فيجمع بين كتفي الرجل منهم بحلقة ويسبيه، فسمته الفرس بهذا الاسم وسمته العرب ذا الأكتاف" فالتسمية إذن هي تسمية فارسية. ولا استبعد أن تكون القصة شرحا تكلفه القصاصون، لتفسير هذا اللقب، وهناك ألقاب عديدة، فسرت تفسيرا أسطوريا على هذا النحو من المبالغة والتهويل.
وقد نسب إلى "سابور" "شابور" هذا بناء الأنبار، ذكر أنه بناها، فسميت ب "فيروز شابور". وقد صيرها العرب "الأنبار". وكانت من المدن التي تغلب عليها العنصر العربي عند ظهور الإسلام، كما نسبوا إليه بناء "عكبرا".
ويذكر "المسعودي" أن "سابور بن سابور"، ويريد به "سابور الثالث" "383-388 م"، كانت له حروب كثيرة مع إياد بن نزار وغيرها من العرب. ويتبين من بيت شعر نسبه إلى شاعر نعته بأنه: "شاعر اياد" ولم يسمه، أن إيادا استعادت مكانتها، و أصبحت قبابها و "حولها الخيل والنعم" وذلك "على رغم سابور بن سابور". ويظهر أن إيادا التي كانت قد لحقت بأرض الروم في أيام "سابور ذي الاكتاف" عادت فرجعت إلى العراق وحلت في محلها.

(1/1313)


--------------------------------------------------------------------------------

ويذكر "المسعودي" رواية أخرى، خلاصتها أن إيادا بعد إن رجعت من أرضى الروم، دخلت في جملة "ربيعة" من ولد "بكر بن وائل"، وأن ربيعة كانت قد غلبت على السواد، و شنت الغارات في ملك هذا الملك فصارت إياد في جملة "ربيعة". فإياد وإن عادت إلى العراق، لم تتمكن من أن تستعيد مكانتها، فدخلت في قبائل "ربيعة" التي هي من "بكر وائل"، وهي قبائل كانت قد كسبت سلطانا و مكانة مستغلة فرصة ضعف هذا الملك، فسادت من ثم على "إياد".
وقد وقع هذا التطور بعد وفاة "سابور ذي الأكتاف"، وإذا أخذنا برواية "المسعودي" هذه، وجب أن يكون زمانه ما بين سنة "383 - 388 م". ففي خلاك هذه المدة كان حكم "سابور الثالث".
ولا تتحدث الموارد العربية بشيء يذكر بعد ذلك عن علاقة الساسانيين بالعرب إلى أيام "بهرام جور" "بهرام كوز" "420- 438 م" " و هو المعروف ب "بهرام الخامس" عند المؤرخين. ثم نجدها تعود فتتكلم عن علاقتهم بعرب الحيرة، حيث يحتل الكلام عليهم الجزء الأكبر من صفحات تأريخ العلاقات العربة الساسانية، ولهذا السبب وجب البحث في الحيرة وفي علاقاتها بالساسانيين في فصل خاص.
وكان لملك الحيرة فضل في تولي "بهرام" عرش الدولة الساسانية بعد أن قرر و الأشراف وأصحاب الجاه و السلطان من رجال الدين والجيش انتزاعه من أولاد "يزدجرد" والده. فقد أمده بجيش افزع أولئك الأقوياء فوافقوا على أن يمنحه التاج، كما سأتحدث عن ذلك في أثناء كلامي على ملوك الحيرة.

(1/1314)


--------------------------------------------------------------------------------

ويذكر "الطبري" أن "يهرام" المذكور كان قد ربي تربية عربية، ذلك لأن أباه "يزدجرد" "يزدكرد" كان قد أرسله إلى الحيرة لتربيته تربية صحيحة، فأقام في البادية وبيت الأعراب حتى شب مثلهم قويا شجاعا مغامرا، ينظم الشعر بالعربية، و يتكلم بها بطلاقة وفصاحة. ويرى بعض المؤرخين المحدثين إن إقامة "بهرام" إنما كانت في قصر الخورنق، و يرون إن بناء هذا القصر كان قد تم قبل ذلك بزمن. ويرون إن إرساله إلى الحيرة، لم يكن على نحو ما زعمعته الروايات العربية، إنما كان نفيا له في الواقع لخلاف بينه وبين أبيه، ولأن أباه لم يكن يعطف عليه عطفه على ولديه الآخرين.
وهذا القسم من تأريخ صلات الساسانيين بعرب الحيرة، واضح و مفصل بالقياس إن القسم المتقدم، وانه يدل على انه أخذ من موارد تأريخية منظمة، غير ساسانية وهي موارد دونها أهل الحيرة أنفسهم، و في مقدمهم رجال الكنيسة الذين ألفوا تدوين التواريخ، وقد صار رجال الدين النصارى هم رواة التأريخ وحفظته منذ تفشي في النصرانية، فمن هذه الموارد نقل "ابن الكلبي" و إضرابه ممن دونوا تأريخ الحيرة.
وذكر بعض أهل الأخبار إن "كسرى برويز" "كسرى أبرويز"، لما انهزم من "بهرام شوبين". كان فراره على فرس من خيل رجل من طيئ، فنجا بفضله، و ذكروا إن ذلك الفرس، هو "الضبيب"، و هو من خيل العرب المعروفة.
وذكر "حمزة الأصفهاني" إن من جملة قواد "كسرى أبرويز" القائد "فنابرزين"، وهو "نكهان". وكان "فنابرزين" متوليا على ما يلي الريف من البادية إلى حد الحيرة إلى حدود البحرين، و العرب تسمية "خنابززين ساسان بن روزبة".

(1/1315)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي أيام "كسرى أنو شروان"، طرد الأحباش من اليمن، إذ أرسل إليها نجدة بقيادة "وهرز"، و بذلك دخل الفرس اليمن، وصاروا على مقربة من الحبش حلفاء الروم. وقد لاقت السياسة البيزنطية بذلك ضربة شديدة عنيفة، لأن الفرس بدخولهم اليمن صار في إمكانهم الضغط على التجارة البحرية للروم، و صار في إمكانهم الهيمنة على منفذ البجر الأحمر، البحر الذي تلج منه سفن الروم إلى المحيط الهندي وبالعكس، كما صار في إمكان الفرس الاتصال بعرب الحجاز وعقد اتفاقيات تجارية مع أهل مكة، وهم إذ ذاك من أهم تجار بلاد العرب.
وقد بقي الفرس في اليمن حتى ظهور الإسلام، فأسلم آخر عامل فارسي، وزال ملك الفرس عنها بذلك، كما زالت الدولة التي كان العامل الفارسي يحكم باسمها.
وكانت للفرس قوة في عمان عن ظهور الإسلام، وقد ذكر إن أول من أغار عليهم "نعام بن الحارث" من "عتيك"، وكان من فرسانهم في آخر الجاهلية وأول الإسلام.
وكر "الطبري": إن "كسرى أنو شروان" "انصرف نحو عدن، فسكر ناحية من البحر هناك بين جبلين مما يلي أرضي الحبشة بالسفن لعظام والصخور و عمد الحديد والسلاسل. وقتل عظماء البلاد... ثم انصرف إلى المدائن، وقد استقام له ما دون هرقلة من بلاد الروم وأرمينية، وما بينه وبين البحرين من ناحية عدن". و فرق "كسرى" الولاية و المرتبة بين أربعة اصبهذين. منهم: اصبهذ نيمروز وهي بلاد اليمن.
وذكر "حمزة" أنه في زمن "كسرى أنو شروان" ولى "أنوش بن حشنشبنده" ناحية من ارض العرب، و بقي عليها بعض أيام هرمز بن كسرى.

(1/1316)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان الساسانيون كالبيزنطيين قد اتخذوا "مسالح" لهم على مشارف البوادي والحدود لحماية أملاكهم من الغزو، ولإخبار الحكومة عند دنو العدو وحالة حدوث خطر. وهي أبنية حصينة، وضعوا فيها قوات تحت آمرة أمراء منهم، يقيمون فيها واتخذوا فيها مخازن لخزن الأسلحة والأطعمة. وحفروا فيها آبارا، و صنعوا "كهاريز" تخزن الماء. ولما ظهرت جيوش الإسلام لفتح العراق، كان على هذه المسالح إخبار "طيسفون" بما حدث، و الوقوف أمام تلك الجيوش، حتى تجيء جيوشهم فتلتحم بالمسلمين.
وفي جزر البحرين قنوات يضن أنه من عمل الساسانيين، أقاموها للاستفادة من المياه المتدفقة من العيون، وهي أخاديد حفرت في الأرض ثم بطنت بمادة تمنع الماء من التسرب إلى التربة ثم سقفت بصفائح من الحجر، أهيل عليها التراب لتمنع أشعة الشمس من الوصول إلى الماء فتبخره، وبذلك تقل كمياته. وبين مسافة و أخرى تقدر ما بين عشرة وعشرين ياردة توجد منافذ لمرور الهواء منها إلى باطن القناة. وقد بطنت هذه المنافذ بالحجارة، وقد أقيمت جدر عند مخارجها إلى الأرض لتحميها من سقوط الأتربة فيها. ولا تزال بعضها عامرة تجري فيه مياه العيون حي الآن. وهناك آثار قنوات مشابهة لها تقع في السواحل المقابلة للبحرين من المملكة العربية السعودية تعود إلى هذا العهد أيضا.
وقد كانت البحرين تخضع لحكم الساسانيين عند ظهور الإسلام، أما حاكمها الفعلي فهو رجل من العرب على دين النصرانية، وعلى مذهب النساطرة. و كان للنساطرة عدة أساقفة في مواضع من الخليج، كما كانت لليهودية و لمجوسية مواضع في بلدان الخليج أيضا. أما غالبية العرب، فعلى الوثنية.

(1/1317)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد كانت "الأبلة" من أهم المواضع المهمة في نظر الساسانيين من الوجهة الحربية، وكانت تعد عندهم "فرج أهل السند والهند". و كان "فرج الهند أعظم فروج فارس شأنا، و صاحبه يحارب العرب في البر. والهند في البحر. وقد وضعوا هذا الفرج تحت إمرة قواد عسكريين. ولما سمعوا بمجيء خالد بن الوليد من اليمامة، أسرع كسرى فأمر قواده بالاتجاه إلى "الكواظم" و إلى "الحفير" لمقابلته. وقد التقى به "هرمز" بكاظمة، وكان جبارا، كل العرب عليه مغيظ، وقد كانوا ضربوه مثلا في الخبث، حتى قالوا: "أخبث من هرمز" و "أكفر من هرمز". فلما التحم العرب والعجم ومن معهم من العرب قتل هرمز وفر العجم وأفلت "قباذ" و "أنو شجان"، وكان على مجنبة الفرس. وقد عرفت هذه الوقعة ب "ذات السلاسل"، لاقتران العجم في السلاسل حتى لا يكون لهم أمل في الفرار.
وفي الحروب الأخرى التي، وقعت بين الفرس والمسلمين، توالت الهزائم على العجم على الرغم من كثرة عددهم. ولم يكن الفرس يحاربون وحدهم، بل حارب معهم "عرب الضاحية"، وآخرون. ففي "وقعة الولجة"، مما يلي "كسكر" من البر، كان يحارب إلى جانب الفرس قوم من العرب من عرب الضاحية، وقد أسر فيها ابن لجابر بن بجير وابن لعبد الأسود، وهلك عدد كبير من "بكر بن وائل" وكانوا نصارى، فغضبت لذلك بقية نصارى بكر بن وائل وغضب نصارى عرب آخرون، فكاتبوا الأعاجم وكاتبتهم الأعاجم، فاجتمعوا إلى موضع "أليس"، وعليهم "عبد الأسود العجلي" في نصارى العرب من بين عجل وتيم اللات وضبيعة وعرب الضاحية من أهل الحيرة، وكان جابر بن بجير نصرانيا، فساند عبد الأسود، فقابلهم "خالد" و جالد العرب أولا، فسقط "مالك بن قيس"، وهو رأس من رؤوسهم، ثم تهاوت صفوف الفرس أمام سيوف خالد، ولم تثبت أمامه.

(1/1318)


--------------------------------------------------------------------------------

ولما قصي خالد للحيرة، وجد قائد الضرس، وهو "الأزاذبه" قد ولى هاربا، وكان عسكره بين الغريين والقصر الأبيض، فدخل خالد "الخورنق" وأمر بكل قصر رجلا من قواده يحاصر أهله ويقاتلهم، فحاصروا "القصر الأبيض" وفيه "إياس بن قبيصة الطائي"، وحاصروا "قصر العدسيين" وفيه "عدي بن عدي" المقتول، وحاصروا "قصر مازن" وفيه "ابن أكال"، وحاصروا "قصر ابن بقيلة"، و فيه عمرو بن عبد المسيح، وكل هؤلاء عرب نصارى. ولكنهم لم يثبتوا أمام المسلمين، وتهاوت قصورهم، وطلبوا الصلح.
وكان أول من طلب الصلح "عمرو بن عبد المسيح بن قيس بن حيان بن الحارث" وهو بقيلة، وتتابعوا على ذلك، فخلا خالد بأهل كل قصر منهم دون الآخرين، وبدأ بأصحاب عدي وقال: و يحكم ما أنتم? أعرب? فما تنقمون من العرب? أو عجم? فما تنقمون من الإنصاف و العدل، فقال له عدي: بل عرب عاربة وأخرى متعربة، فقال: لو كنتم كما تقولون لم تحادونا وتكرهوا أمرنا، فقال له عدي: ليدلك على ما نقول أنه ليس لنا لسان إلا بالعربية، فقال: صدقت. ثم صالحوه على الجزية.
وصالح "صلوبا بن نسطونا" "صاحب قس الناطف" خالد بن الوليد على "بانقيا" و "بسما" بدفع الجزية له. وقد نقبه خالد على قومه. ولما استقام ما بين أهل الحيرة وبين خالد واستقاموا أتته دهاقين "الملطاطين"، و أتاه "زاذ بن يهيش" دهقان فرات سريا، و "صلوبا بن بصبهري"، فضالحوه علما ما بين الفلالج إلى "هرمز جرد" ، ودجل أهل "البهقباذ" الأسفل وأهل "البقباذ" الأوسط والأماكن التابعة للمذكورين في الصلح ونزل خالد الحيرة، واستقام له ما بين الفلاليج إلى اسفل السواد، وأقر المسالح على ثغورهم، ورتب القواد وموظفي الخراج وسائر الأعمال استعدادا لطرد الفرس.

(1/1319)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان أهل الأنبار عربا، يكتبون بالعربية ويتعلمونها، وكان عليهم حينما بلغها "خالد" "شيرزاذ" صاحب "ساباط". ولما وجد الفرس إن من غير الممكن لهم الوقوف أمام المسلمين، تركوا المدينة لخالد، وخرج "شيرزاذ" في جريدة خيل يلحق بأصحابه، ثم صالح أهل "كلواذى"، تم قصد خالد "عين التمر" وبها يومئذ "مهران بن بهرام جوبين" في جمع عظيم من العجم، و "عقة بن أبي عقة" في جمع عظيم من العرب من النمر وتغلب و إياد ومن لافهم، فهجم خالد على عقة ومن معه من العرب، فأسره وانهزم عسكره، ثم سقط الحصن، وانهزم الفرس. وأسر خالد بعقة وكان خفير القوم، فضربت عنقه ثم دعا بعمرو بن الصعق، فضرب عنقه، وانتهى أمر عين التمر.
وحاول الفرس جمع صفوفهم ثانية، للوقوف أمام خالد و استرداد ما أخذ منهم. وكان خالد أقام بدومة الجندل، فظن الأعاجم به، وكاتبهم عرب الجزيرة غضبا لعقة، فخرج "زرمهر" من بغداد و معه "روزبة"، يريدان الأنبار، و اتعدا حصيدا والخنافس، وانتظرا من كاتبهما من ربيعة، غير أن المسلمين هاجموا الساسانيين بحصيد، فقتل "زرمهر" وقتل "روزبة" وفر من كان معهما، إلى "الخنافس" فلما أحس "المهبوذان" بقدوم المسلمين إلى المكان، هرب ومن معه إلى "المصيخ" وبه الهذيل بن عمران، وخرج "خالد" من "العن" قاصدا للمصيخ، فأغار على الهذيل ومن معه ومن أوى إليه، فقتلوهم، وأفلت الهذيل في اناس قليل.
وأخذ "ربيعة بن بجير التغلبي" يجمع الجموع لمحاربة المسلمين غضبا لعقة، وواعد الفرس والهذيل، فباغت خالد جموع "ربيعة" بالثني، فانتصر عليها وأسر ابنة له، ثم باغعت موضع "الزميل" وكان "الهذيل" قد أوى إليه، ثم باغت موضع "البشر"، وكانت تغلب به، فقتل منهم عددا كبيرا، ثم تحرك من البشر إلى "الرضاب"، وبها "هلال بن عقة"، فانفض عنه أصحابه حين سمعوا بدنو خالد منه وانقشع عنها هلال.

(1/1320)


--------------------------------------------------------------------------------

ثم قصد خالد "الفراض"، والقراض تخوم الشام والعراق والجزيرة، فاغتاظت الروم وحميت، واستعانوا بمن يليهم من مسالح أهل فارس، وقد حموا واغتاظوا واستمدوا تغلب و إيادا والنمر، فأمدوهم، ثم عبروا الفرات إلى الجانب الآخر حيث كان جيش خالد فهزموا، وانتصر المسلمون.
وكانت صفوف الساسانيين متضعضعة، والخصومات بينهم شديدة فتهاوى ملكهم، وسقطت "طيسفون" عاصتمهم، ثم تهاوت مدنهم في إيران، وزالت الحكومة من الوجود على نحو ما سنراه فما بعد.
وأما صلات "البيزنطيين" بالعرب، فلا نعلم عن بدايتها إلا شيئا قليلا، لأن الموارد التاريخية لم تهتم بغير الأحداث الكبرى، التي كان لها شأن في تأريخ الروم فلم تشر إلى العرب إلا في أثناء اشتراكهم اشتراكا جماعيا في جيش البيزنطيين في قتال الساسانيين أو في جيش الفرس إبان قتال البيزنطيين، وأما القبائل العربية وغاراتها على حدود بلاد الشام، فلم تتعرض لها لأنها لم يكن لها شأن، فهي حوادث اعتيادية محلية، ثم إنها إذا تطرقت إلى المهم منها تطرقت إليه بإيجاز، ولهذا حرمنا الوقوف على صلات العرب بالبيزنطيين بصورة مفصلة وعلى أخبار الإمارات العربية التي حكمت في البادية الملاصقة لبلاد الشام وفي بلاد الشام ما بين ظهور دولة البيزنطيين وبزوغ نجم آل غسان.

(1/1321)


--------------------------------------------------------------------------------

قد كابد الساسانيون و البيزنطيين من القبائل العربية عنتا شديدا مثل ما كابده المتقدمون عليهم منهم. فقد كانت تراقب الفرص لتهاجم الحدود أو الجيوش النظامية في أثناء انتقالها إلى ساحات القتال أو اشتغالها في القتال، أو في أثناء تراجعها أو هزيمتها، فتوقع بها وتكبدها خسائر، وتربك وضعها، ثم إنها كانت تنتقل من موضع إلى موضع، من الأرضين الخاضعة لسلطان البيزنطيين إلى الأرضين التابعة للساسانيين وبالعكس، وقد تثور وتهاجم القرى في دولة، فإذا عقبتها، هاجرت إلى الدولة الأخرى المعادية لها، ولهذا السبب وجد الساسانيون والبيزنطيون إن من مصلحتهما عقد اتفاقية تحرم انتقال الأعراب من أرض إحدى الحكومتين إلى أرض الحكومة الأخرى من غير ترخيص وتخويل، وذلك في أيام السلم بالطيع.
لقد أخذت الدولة البيزنطية الأرضين التي كانت خاضعة لروما، وصارت تديرها من "القسطنطينية"، وتعين حكامها وترسل الجيوش إليها، وتطبق عليها القوانين التي تصدرها "القسطنطينية". بقي الحال على هذا المنوال إلى إن طرد البيزنطيون عن بلاد الشام بظهور الإسلام، و إرساله الجيوش إلى تلك البلاد لنشر دين الله فيها. فذهب الحكم البيزنطي عنها، وبقي الأثر الثقافي أمدا يهيمن على البلاد المفتوحة.
وقد كانت بصرى من أهم المدن التي يرد إليها عرب الحجاز للاتجار. وكانت آخر مكان يصل إليه تجار أهل مكة في الغالب في الشمال. يقيمون فيه، يبيعون ويشترون ويدفعون للروم العشور، وهي الضرائب المتعارف عليها إذ ذاك، ثم يعودون إلى ديارهم ومعهم ما اشتروه من تجارات بلاد الشام، من طرف مصنوع في هذه البلاد، أو مستورد إليها من بلاد الروم ومن أوروبة، ومن سلع حية هي الرقيق الذي يباع في سوق بصرى، وقد استورد إليها من مختلف الأنحاء.

(1/1322)

admin
12-27-2010, 01:10 AM
وتعرف بصرى ب Bostra عند الرومان واليونان و لأهميتها الحربية والسياسية والتجارية كان يقيم بها حام روماني، ثم حكمها حكام من لليونان بعد انتقالها إلى حكم اليونان، كما وضعوا بها حاميات بيزنطية. وذلك لقربها من الأعراب وللدفاع عن الحدود المهددة بهجوم أبناء البادية عليها. وقد أصيبت بخسائر جسيمة ونزل بها خراب شديد على أثر مهاجمة الفرس لبلاد الشام واستيلائهم عليها، فتهدم قسم كبير من أبنيتها، كما تهدم قسم من أبنية "اذرعات" وذلك في سنة"613 م".
و "بصرى" هي الان قرية مهملة مهن قرى حوران، ولا تزال بها بقية قائمة من آثار. وقد ورد ذكرها في سيرة الرسول، حيث كان قد نزل بها مع عمه "أبو طالب" حينما قدمها عمه للإتجار. وذ كر إن "بحيرا" الراهب، الذي يرد اسمه في كتب السير، كان من رهبان بصرى، وقد كان يقيم في دير هناك.
و كانت "غزة" من المواضع الأخرى المهمة عند أهل مكة ويثرب، لأنها كانت المورد الأخير لتجار هاتين المدينتين على البحر الأبيض. وكانت من المواضع التابعة للروم. ترد إليها السفن الواردة من بلاد الروم وموانئ إيطالية و مصر و لبنان، فتفرغ ما لديها من تجارة ويشتري أصحابها ما يجدون في غزة من أموال، ولهذا صارت فرضة مهمة لتجار أهل الحجاز.

(1/1323)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن سادات القبائل الذين انتقلوا من أرض كانت خاضعة للساسانيين إلى أرض كانت تابعة للبيزنطيين سيد قبيلة ذكره "ملخوس الفيلادلفي" Malchus Philadelphus في تأريخه، و سماه "امرأ القيس" Amorkesos=Amerkesos وقال: إنه كان يقيم في الأصل في الأرضين الخاضعة لسلطان الفرس، ثم ارتحل عنها و نزل في ارضين قريبة من حدود الفرس، واخذ يغزو منها حدود الساسانيين والعرب Saracens المقيمين في الأرضين الخاضعة للروم. وتوغل في "المقاطعة العربية" حتى بلغ البحر الأحمر، واستولى على جزيرة "ايوتابا" Iotaba, Jotaba، وهي جزيرة مهمة كان الروم قد اتخذوها مركزا لجمع الضرائب من المراكب الآتية من المناطق الحارة أو الذاهبة إليها، فتصيب الحكومة أرباحا عظيمة جدا. فلما استولى على تلك الجزيرة، طرد الجباة الروم، و صار يجبيها لنفسه، فأغتني. كذلك حصل على ثروة عظيمة من غنائم غزوة للمواضع المجاورة لهذه الجزيرة و الواقعة في العربية الحجرية و أعالي الحجاز و ارضين الخاضعة لسلطان الساسانيين.

(1/1324)


--------------------------------------------------------------------------------

و أراد "امرؤ القيس"، بعد أن بلغ من السلطان مبلغه، الاتصال بالروم، و التحالف معهم، و الاعتراف، به عاملا رسميا أي phylarch أو Satrap على العرب الذين خضعوا له و على العرب المعترفين بسلطان الروم عليهم في "المقاطعة العربية"، فأوفد رجلا من رجال الدين اسمه "بطرس" إلى "القسطنطينية" يعرض رغبته هذه على القيصر "ليو". فلما قابل هذا رجال البلاط، أظهر لهم انه يريد الدخول في النصرانية. فأظهر القيصر "ليو" رغبته في مقابلة "امرئ القيس" للتحادث معه. فقصده "امرؤ القيس"، فأستقبله استقبالا حسنا، و عاملة معاملة طيبة، و أجلسه على مائدته، و منحة لقب Partician، و جالس رجال مجلس "السنات" Senate، فأدى ذلك إلى استياء الروم من سياسة القيصر هذه مع رجل مشرك. و لكنه بين لهم انه يريد تنصيره بذلك، و إخضاعه لسلطانه. و لما قرر العودة أعطاه القيصر صورة ثمينة و هدايا نفيسة، و حث رجال مجلس الدولة يمنحوه هدايا سخية، ثم منحه درجة "عامل" phylarch على الجزيرة و على جميع ما استولى عليه و على أرظين أخرى جديدة لم يكن قد أخذها من قبل، إلا ان الروم لم يرتاحوا من هذه المعاملة، و انزعجوا من إسراف القيصر في إكرامه ومنحه تلك الأرضين، ولا سيما تلك الجزيرة التي استرجعوها بعد ذلك بمدة ليست طويلة وفي مدة حكم القيصر "أنستاس" "انسطاس" "انسظاسيوس" Anastasius.
ولما كان القيصر "ليو" Leo "لاون" "اليون"، قد حكم من سنة "457 م" حتى سنة "474 م"، فيكون اعتراف "ليو" بحكم "امرىء القيس"، و منحه لقب "فيلارخ" "فيلارك" قد وقع في اثناء هذه المدة.

(1/1325)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من تأريخ "ثيوفانس" إن هذه الجزيرة كانت في سنة "490 م" في أيدي الروم، استولى عليها حاكمهم Dux على فلسطين بعد قتال شديد. ويدل خبر هذا المؤرخ على إن الروم انتزعوا هذه الجزيرة من "امرىء القيس" أو من خلفائه بعد مدة ليست طويلة من استيلاء "امرىء القيس" عليها، لعلهم استولوا عليها بعد وفاة هذا العامل على أثر نزاع نشب بين أولاده وورثته، أضعف مركز الإمارة، فانتهز الروم هذه الفرصة، وانتزعوا ما تمكنوا من انتزاعه من أملاك.
و إذا كانت هذه الجزيرة، قد كانت في جملة أملاك الروم في سنة "490 م" كما يدعي "ثيوفانس" ذلك، وجب أن تكون استعادة حاكم فلسطين لها في أيام القيصر "زينو" "زينون" Zeno الذي ولي الحكم من سنة "474" حتى سنة "491". أما سنة "491 م" فقد انتقل فيها الحكم إلى القيصر "أنسظاس".
وكان "امرو القيس" المذكور سيد قبيلة سماها المؤرخ "ملخوس الفيلاديفي" "نكليان" "نخليان" Nokalian. ويظهر أن هذا الاسم هو "النخيلة" موضع معروف قرب "الكوفة" على سمت الشام، وهو موضع ينطبق عليه ما ذكره "ملخوس" من أنه كان في ارض في سلطان الفرس.
ولم يذكر "ملخوس الفيلادلفي" أسماء الأرضين التي كانت في حكم "امرئ القيس" ، ويرى "موسل" أن هذا الرئيس كان ينزل في بادئ الأمر مع قبيلته في "الوديان" و "الحجيرة" أيام كانت علاقاته بالفرس حسنة. ومن "الحجيرة" هاجر مع قبيلته الى "دومة الجندل"، ومنها توسع فاستولى على أرضين "فلسطين الثالثة" Palestina Tartia وهي "العربية الحجرية". ثم استوف على جزيرة Iotaba، وهي على رأيه جزيرة "تاران" "تيران". وذكر "ياقوت" إن سكانها قوم يعرفون ب "بني جدان".
ولعل هذه الجزيرة هي جزيرة Ainu التي ذكرها "بطلميوس"، أخذ تسمية هذه من "حنو" "حاينو" Hainu "حينو" الاسم الذي كانت تعرف به عند الأنباط.

(1/1326)


--------------------------------------------------------------------------------

وامرؤ القيس هذا، هو مثل واحد من أمثلة عديدة على سادات قبائل راجعوا البيزنطيين لاستمداد العون منهم، وللحصول منهم على اعتراف رسمي بتنصيبهم رؤساء على الأعراب النازلين في ديار خاضعة لسلطانهم أو لمساعدتهم في مقارعة عرب الحيرة أو الفرس.
وقد ذكر أهل الأخبار أسماء رجال قالوا إنهم ذهبوا إلى الروم لهذه الغاية، و بعضهم ممن كان يقيم في ارضين بعيدة عن سلطانهم، والظاهر إن مثل هذا الاعتراف كان يكسب الرئيس قوة، ويمنحه منزلة ومكانة في تلك الأيام، وان كان الروم على مبعدة من الرئيس وليس لهم حول مادي يقدمونه إليه.
ولا نجد في الموارد اليونانية أسماء من حكم من رؤساء القبائل في بلاد الشام بصورة منتظمة قبل الغساسنة، إلا أن الإخباريين يذكرون إن الغساسنة لما جاؤوا إلى بلاد الشام من اليمن بعد "انتقاص العرم"، وجدوا "الضجاعمة" قد ملكوا البلاد قبلهم، وهم "آل سليج بن حلوان"، و هم من قضاعة، فقتلوهم و أخذوا مكانهم. ولا بد إن يكون الضجاعمة قد سبقوا بغيرهم ممن لم يقف أهل الأخبار على أسمائهم، فقد كانت القبائل تهاجم إحداها الأخرى، فتأخذ مكانها، ولا يستبعد أن يكون "الضجاعمة" قد انتزعوا السلطان من قبائل أخرى لم تبلغ أنباؤها أهل الأخبار.
إن حدود الإمبراطورية البيزنطية الجنوبية مع العرب، لم تتغير ولم تتبدل تبدلا محسوسا عما كانت عليه في زمان الرومان. وهي بصورة عامة الحدود الجنوبية للمقاطعة العربية. و كانت لهم الجزر المقابلة للمقاطعة العربية في "خليج القلزم"، وقد اتخذوها مراكز لجباية الضرائب من أصحاب السفن ولحماية البحر من لصوصه مثل جزيرة Iotba التي تحدثت عنها. ولم يشر أحد من المؤرخين المعاصرين للبيزنطيين إلى تقدم الروم أكثر من ذلك في جزيرة العرب.

(1/1327)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان للبيزنطيين بعض المرافئ على سواحل البحر الأحمر، منها ميناء "كليزما" Clysma،و هو "القلزم" Qulzum، ويقع على مسافة قليلة من "السويس"، تأتي إليه السفن محملة ببضائع الهند وبالسلك وبالمواد الأخرى المستوردة من السواحل الإفريقية والعربية الجنوبية. وبه يقيم "الوكيل" Agens in Rabus، الوكيل التجاري الذي عليه مراقبة سير السفن والتجارة، ووضع التعليمات لتنظيم التجارة البحرية، وعرف ب Logothete في نهاية القرن الرابع للميلاد.
و كانت تجارة الحرير، من أهم المواد المطلوبة في أسواق البيزنطيين. وقد كان الساسانيون قد احتكروها تقريبا، وعبثا حاول الإمبراطور "جستنيان" "يستنيانوس" Justinian تحطيم ذلك الاحتكار، وأخذه من أيديهم بالتوسل إلى "نجاشي" الحبشة، لإرسال سفنه إلى "سيلان" و شراء السلك منها، ومنافسة التجار الفرس الذين كانوا قد سيطروا على تجارة هذه المادة المستوردة من الصين إلى هذه الجزيرة، فكانوا ينقلونها إلى بلادهم، بل إلى "القلزم" و "أيلة" وموانئ أخرى وأسواق تابعة للبيزنطيين، فيربحون من هذه التجارة ربحا حسنا.

(1/1328)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان القيصر "يوسطنيان" "527 - 567م" قد، قد نصب "أبا كرب ابن جبلة"، كما يقول المؤرخ "بروكوبيوس"، "عاملا"، اي "فيلاركا" "فيلارخا" Phylarch على عرب "سرسينس" Saracens فلسطين، و كان "أبو كرب" كما يقول "بروكوبيوس"، رجلا صاحب مواهب وكفاية، تمكن من حفظ الحدود ومن منع الأعراب من التعرض لها، وكان هو نفسه يحكم قسما منهم، كما كان شديدا على المخالفين له. وذكر أيضا انه كان يحكم أرض غابات النخيل جنوب فلسطين، وهي أرض واسعة تمتد مسافات شاسعة في البر ليس بها غير النخيل. وقد قدمها هدية إلى الامبراطور، فقبلها منه، وعدها من أملاكه، مع انه كان يعرف جيدا إنها فياف و بادية لا يمكن الاستفادة منها، ليس فيها غير النخيل، وليس لهذه النخيل فائدة تذكر. و يجاور عربها عرب آخرون يسمون "معديرني" "مديني" Maddeni، هم آتباع ل "حمير" Homeritae.
وهذه الأرض التي حكمها "أبو كرب بن جبلة"، هي الأرض التي حكمها "امرؤ القيس" سابقا نفسها، أو يظهر إن الروم لم يتمكنوا من ضبطها ومن تعيين حاكم بيزنطي عليها، فاضطر إلى الاعتراف بالأمر الواقع، فثبتوا "أبا كرب" في مكانه، واعترفوا به اعترافا رسميا "عاملا" على هذه المنطقة التي تقع في جنوب ارض الغساسنة، و في الأردن و أعالي الحجاز. ويظهر من ذلك أيضا إن "ابا كرب" كان عاملا مستقلا بشؤونه عن الغساسنة. ونكون بذلك أمام إمارتين مستقلتين.
و إذن يكون "أبو كرب" من المعاصرين للحارث بن جبلة ملك الغساسنة. وقد كان حكمه قبل السنة "542م" بدليل إرساله رسولا إلى ابرهة لتهنئنه عند ترميمه سد مأرب الذي انجز في هذه السنة.
إن اسم "أبو كرب بن جبلة" يثير فينا الظن بأن هذا الرجل كان من آل غسان، فهذا الاسم هو من الأسماء التي ترد بكثرة عندهم. وقد يحملنا على تصور انه كان شقيقا للحارث بن جبلة، غير أني لا أستطيع الجزم بذلك، لسكوت الموارد السريانية واليونانية عن التصريح بذلك أو التلميح إليه.

(1/1329)


--------------------------------------------------------------------------------

لقد كان من نتائج توثيق الروم صلاتهم بمملكة "اكسوم"، تهديدهم اليمن بغزوها إن قاومت مصالحهم وتعرضت لسفنهم ولتجارتهم، وذلك بتحريض الجيش على النزول بها، وقد سبق للأحباش إن استولوا عليها، كما سبق للرومان أن استولي على بعض مواضع من العربية الجنوبية مثل "عدن" في أيام "كلوديوس" "41 - 54م" أو قبل ذلك بقليل. ولا يستبعد إن يكون للروم دخل في الغزو الذي قام به الأحباش لليمن والذي بقي من سنة "300" حتى سنة "370 ب.م". وقد ذكر إن القسطنطينية كانت المحرضة لحكومة الحبشة على غزو اليمن أيضا في سنة "525م"، وقد امتد حتى سنة "570م" أو "575م".
ولما عاد الأحباش إلى اليمن حيث بقوا فيها مدة قصيرة، كر الفرس عليهم فطردوهم منها في حوالي سنة "575م" "595 م"، وصارت اليمن من سنة "575م" "595م" حتى الفتح الإسلامي مقاطعة تابعة للساسانيين. وقد أصيبت مصالح البيزنطيين بأضرار بليغة، من هذا التحول السياسي العسكري، وأصيبت بضرر بليغ آخر كذلك في أيام "كسرى برويز" "590 - 628 م" الذي هاجم الإمبراطورية البيزنطية واستولى على مصر وفلسطين، وقطع بذلك عنها شرايين التجارة العالمية المهمة. والبيزنطيون وان استعادوا ما فقدوه في مصر وبلاد الشام بعد مدة قصيرة، فعاد الساسانيون إلى مواضعهم، إلا إن الحروب المتوالية كانت قد أنهكت الطرفين: البيزنطيين والساسانيين، وأضرت بالوضع الاقتصادي، وجعلت الناس يتذمرون في كل مكان من سوء سياسة الإمبراطوريتين،" ويودون التخلص من الفرس واليونان، لذلك لم يكن من المستغرب سقوط الأرضين التي كانت خاضعة لهم بسرعة مدهشة في أيدي المسلمين.

(1/1330)


--------------------------------------------------------------------------------

ولما وصلت الجيوش الإسلامية بلاد الشام، رحب أهلها بصورة عامة بها. وقد نظر البيزنطيون إلى الإسلام على انه نوع سن أنواع "الآريوسية" Arrianism المنسوبة إلى الكاهن "آريوس" المتوفى سنة "336 م". أو انه مذهب من المذاهب النصرانية المنشقة عن الكنيسة الرسمية. وقد تعودوا على سماع أخبار وقوع الانشقاق في الكنيسة، وظهور مذاهب جديدة. لهذا لا يستغرب ما أظهره أساقفة بلاد الشام من تساهل في تسليم المدن إلى المسلمين، وما بدر من القبائل العربية المتنصرة من تعاون مع المسلمين في طرد البيزنطيين عن بلاد الشام.
الفصل الرابع والثلاثون
مملكة النبط
مملكة النبط، مملكة عربية لم يعرف الأخباريون من أمرها شيئا. سداها ولحمتها النبط. وهم قوم من جبلة العرب، وإن تبرأ العرب منهم، وعيروا بهم، وبعدوا أنفسهم عنهم وعابوا عليهم لهجتهم، حتى جعلوا لغتهم من لغات العجم، وقالوا إنهم نبط، وإن في لسان من استعرب منهم رطانة. وسبب ذلك، هو أنهم كانوا قد تثقفوا بثقافة بي إرم، وكتبوا بكتابتهم، وتأثروا بلغتهم، حتى غلبت الإرمية عليهم، ولأنهم فضلا عن ذلك خالفوا سواد العرب باشتغالهم بالزراعة وبالرعي وباحترافهم للحرف والصناعات اليدوية، وهي حرف يزدريها العربي الصميم" ويعير من يقوم. بها ويحترفها. وتكمن عوامل ظهور النبط وغلبتهم على المنطقة التي عرفت بهم، وتكوينهم دوله بعد أن كانوا اعرابا يعيشون عيشة ساذجة، تكمن في أسباب وأسس اقتصادية قد تمكن هؤلاء النبط الأذكياء من استغلال موقع بلادهم لمرور شرايين التجارة بين العربية الجنوبية وبلاد الشام بها. ففرضوا ضرائب على التجار وعلى التجارة عادت عليهم بفوائد كبيرة، كما قاموا أنفسهم بالوساطة في نقل التجارة بين بلاد للشام ومصر ومواضع من جزيرة العرب، فدرت هذه الوساطة عليهم أموالا طائلة جعلتهم من الشعوب العربية الغنية بالنسبة إلى غيرهم ممن يسكنون البوادي، المواقع المقفرة المنعزلة.

(1/1331)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد كان ميناء "غزة" ميناء النبط المفضل على البحر المتوسط. وهو في الواقع ميناء كل التجار العرب، إذ كان المرفأ الوحيد الذي ترفأ إليه تجارة العرب. وقد استفادوا منه كثيرا لقربه من النبط، صاروا يشترون منه ما يرد عليه من بضائع من موانئ البحر المتوسط، ثم يحملونها إلى بلادهم فيبيعونها للتجار العرب القادمين اليهم من الحجاز ومن الجزيرة العربية الجنوبية ومن أماكن أخرى من جزيرة العرب، كما أنهم صاروا يشترون من التجار العرب ما عندهم من تجارة، ثم يحملونها إلى ذلك الميناء لبيعه في أسواقه، وبذلك حصلوا على أرباح من هذه الوساطة في الاتجار.
وقد نشأت دولة النبط التي نتحدث عنها قبل الميلاد في المنطقة الشمالية الغربية من جزيرة العرب، في المكان الذي عرف باسم "العربية الحجرية" "Arabia petraea" عند اليونان والرومان.
وأما أخبارنا عنها، فمستمدة من كتب الكلاسيكيين، ومن مؤلفات المؤرخ اليهودي "يوسفوس فلافيوس" "josephus flavius" "37100 بعد الميلاد". صاحب"ioudaike archaeologia " و"periton ioudaikon polemon"، ومن كتابات عثرعليها في "العربية الحجرية" وفي الأخرى التي خضعت لحكمها وهي نبطية ولاتينية ويونانية. وعلى هذه الموارد يعول المؤرخ الحديث في تدوين تأريخ قوم كان لهم نفوذ وسلطان وصوت مسموع وكلمة، ثم اذا هم في الذاهبين"تلك الأيام نداولها بين الناس".

(1/1332)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد تضمن القسم الأكبر من كتابات النبط، كتاب:Corpus Inscriptionum" Semiticarum "وقد أشير فيه إلى المواضع التي عثر فيها على تلك الكتابات، والى السمات التي وسمت بها لتميز بعضها عن بعض. وأسهمت كتب أخرى بالطبع في هذا المجهود العسير، مجهود نشر الكتابات النبطية القديمة وغيرها، ككتاب: "Handbuch der Nordsemitischenn Epigraphik"" وكتاب: "Corpus Inscriptionum Semiticaru"، للعالم المعروف " مارك ليدربارسكي"" "Mark LidzbarskiوكتابText Book of North-Semitic Inscriptions" ل "كوك" "G.A. Cook" وكتاب "REP. EPIG"،وكتب أخرى سأشير اليها في أثناء الحديث، يضاف اليها ما نشر في المجلات العلمية الاستشراقية كمجلة: "ZDMG" وأمثالها.
أما لغة النصوص النبطية، فلغة "بني إرم"، وأما خطها فبالقلم الإرمي، ولكنه "إرمي" مأخوذ من القلم الإرمي القديم، وقد عرف عند المستشرقين ب "القلم النبطي" تمييزا له عن بقية الأقلام. وأما المواضع التي عثر على هذه الكتابات فيها فهي عديدة، منها "بطرا" و "الحجر "Hegra"و "العلا" و "تيماء" و "خيبر" و "صيدا "Sidon" و "دمشق" ومواضع متعددة من "حوران" ومن "اللجاة" و "طور سيناء" والجوف واليمن ومصر وايطاليا وأماكن أخرى سترد أسماؤها في ثنايا هذا الفصل.
وتختلف الكتابات النبطية القديمة، من حيث رسم الحروف، بعض الاختلاف عن الكتابات النبطية المتأخرة المدونة بعد الميلاد، وتختلف أيضا باختلاف الأماكن التي وجدت فيها، فلكتابات "طور سيناء" مثلا خصائص. كتابية محلية لانجدها في النصوص الأخرى. وتفيدنا هذه الخصائص المحلية والتطورات التي طرأت بمرور العصور على أشكال الحروف في مثل "التربيع" والانفصال والاتصال وتقاربها و تباعدها من الخط الكوفي في دراسة تطور الخطوط السامية، وعلاقاتها بعضها ببعض.

(1/1333)


--------------------------------------------------------------------------------

وهي على اختلافها تشارك الكتابات العربية التي عثر عليها في العربية الجنوبية أو في المواضع الأخرى من جزيرة العرب في كونها شخصية في الغالب. كتبت في أمور خاصة، لا علاقة لها بالمجموع. فهي لا تفيد المؤرخ إفادة مباشرة، ولكنها تفيد الباحثين من غير شك في أمور أخرى، نفيدهم في الدراسات الغوية مثلا، فهي كنز. لا يقدر بثمن من هذه الناحية. أما الكتابات العامة،. أعني النصوص التي لها علاقة مباشرة بالدولة وحياة الشعب وبساسة الحكومة أيام السلم أو الحرب فهي قليلة جدا-ويا للأسف-مع انها المادة الأساسية في كتابة التاريخ.
والكتابات النبطية المؤرخة مثل الكتابات السامية الأخرى، قليلة بالنسبة إلى الكتابات الغفل من التاريخ. أما طرائق توريخ الحوادث عند النبط، فكانت متعددة منها التوريخ بأيام الملوك كأن يذكر اسم الشهر الذي دون فيه النأص، ثم يذكر بعده عام التدوين، فيقال مثلا: "في شهر كذا من سنة كذا من حكم الملك. ....." "بيرح. ..... شنت. .....ملك نبطو. .....". وقد استعملت هذه الطريقة في أيام استقلال النبط خاصة، والتوريخ بسني حكم قياصرة "رومة" وذلك بذكر الشهر الذي دونت فيه الكتابة، ثم السنة المصادفة من سني حكم القيصر الذي في أيامه جرى التدوين، أو السنة المصادفة دون الإشارة الى أسم الشهر.
وقد عثر على كتابات مؤرخة بسني حكم "القناصل"، وعلى كتابات أخرى أرخت تقويم"بصرى"، ومبدأه اليوم الثاني والعشرين من شهر "آذار" من سنة "106" بعد الميلاد، وقد أرخ به في كتابات "طور سينا" كذلك.وظلت الأقسام الجنوبية من "الكورة العربية" تؤرخ به حتى بعد فصلها من هذه الكورة وإلحاقها ب "كورة فلسطين". وأرخ بالتقويم "السلوقي"، وأوله اليوم الأول من شهر"تشرين الأول" "اكتوبر" من سنة"312" قبل الميلاد.
وأرخ بأيام القيصر"بومبيوس" حيث اتخذت مبدأ لتقويم يبدأ بشهر "تشرين الأول"، "اكتوبر" من سنة "63" قبل الميلاد، أرخ به في الكتابات وفي النقود.

(1/1334)


--------------------------------------------------------------------------------

وأرخ في بعض الكتابات النبطية بتواريخ محلية كانت متعارفة عندهم مشهورة. كما فعل غيرهم في جزيرة العرب حيث أرخوا بالحوادث المحلية المهمة، نظرا لما كان لها من شهرة بينهم. وقد تمكن العاماء من تشخيص بعض منها، ولم يتمكنوا من تشخيص بعض اخر. ومن الكتابات المؤرخة بتواريخ محلية كتابة عثر عليها في مدينة "فيليبوبولس"philippopolis " وقد أرخت بتقويم يبدأ بسنة "248" تقريبا أو بين سنة "47 2" وسنة "249" ومدينة "شقا" "شقة"، وقد أرخت في عدد من كتاباتها بسنة "92" بعد الميلاد. ومدينة "constantia" وهي "البراك" في "اللجاة " وفي عدد من الكتابات التي عثر عليها في موضع "شيخ مسكين"، وهو "maximinopolis" على رأي بعض الناس.
الرأي السائد اليوم بين العلماء أن النبط عرب مثل سائر العرب، وان استعملوا الارمية في كتاباتهم، بدليل إن اسماءهم هي اسماء عربية خالصة، وانهم يشاركون العرب في عبادة الاصنام المعروفة عند عرب الحجاز، مثل "ذي الشرى" و"اللات" و"العزى"، وانهم رصعوا الإرمية بكثير من الألفاظ العربية، وبدليل اطلاق اليونان واللاتين والمؤرخ اليهودي "يوسفوس" كامة "العرب" على النبط واطلاق اسم"arabia ptraria " أي "العربية الحجرية" على أرضهم. ولو لم يكن النبط عربا، لما أطلق "الكلاسيكيون" كلمة العرب عليهم، وما كانوا يدخلون بلادهم في ضمن العربية ويجعلونها جزءا من أجزائها الثلاثة.
وقد كان النبط من اهل جزيرة العرب في الأصل نزحوا من البوادي إلى سنة قبل الميلاد. واما اطلاق اسم السريان على الإرميين الشرقيين، اي إرميى العراق، فقد حدث بعد الميلاد. أطلق على متنصرة الإرميين ليميزوا عن بني جنسهم الوثنيين،. فصار له مفهوم خاص، وصارت كلمة "إرمي" "آرامي" تعني الصابئ والوثني أما كلمة "سرياني" فتعني النصراني حتى اليوم.

(1/1335)


--------------------------------------------------------------------------------

أما "ماش" "MASH"، فهو أحد ابناء "أرام" ذكر في "التكوين"، مع "عوص وحول وجائر" بمعنى أنهم أخوته.ودعي "ماشك" في "أ خبارالأيام" ويظن أنهم سكان "ماش" "ماشو" في النصوص الأشورية، أي بادية الشام. و "إرم" هو ابن "سام بن نوح" في التوراة، وتتفق رواية "المسعودي"المأخوذة من أقوال أهل الكتاب ولا شك، مع ما جاء في التوراة من أن "ماش" هو ابن "آرام"، وهو "إرم". وأما ما ذكره على لسان غيره أو لسانه من إن النبط هم "نبيط" وأن "نبيطا" هو ابن "ماش"، فهو قول لم يرد في التوراة. ولا يعرف العهد القديم شخصا اسمه "نبيط بن ماش بن ارام". ويقصد المسعودي من "نبيط" "نبايوت"، ولاشك و "نبايوت" هو الابن البكر لاسماعيل في التوراة.
أما أنهم سموا نبطا لكثرة النبط عندهم وهو الماء، أو لاستنباطهم الماء، وانباطهم الأبار، وما شاكل ذلك من تفاسيروردت في معنى النبط، فهو كلام كان يسمع في القديم. أما اليوم فلا يمكن أن يقام له وزن.
والنبط في عرف الباحثين هم"نبط" و"نبطو" في الكتابات، والكلمة اسم علم ليس غير مثل سائر أسماء الأعلام، لا علاقة له لا بالماء ولا باستنباط الماء. حار الأخباريون فيه فعالجوه على مألوف طريقتهم بإيجاد معان للأسماء، وتعليلات وأسباب، وظنوا انهم بهذا التعليل وجدوا سر التسمية ووقفوا عليه، ولا سيما إن النبظ زراع، ولهم مياه غزيرة وعلم بالماء، وان النبط: الماء الذي ينبط من قعر للبئر اذا حفرت فقالوا: النبط من نبط، فالمسألة اذن سهلة هينة. انهم سموا نبطا لاستنباطهم ما يخرج من الأرضين، وهو الماء.

(1/1336)


--------------------------------------------------------------------------------

وأشير إلى النبط في حديث عمر: "تمعددوا ولا تستنبطوا"، أي تشبهوا بمعد. ولا تشبهوا بالنبط. وفي الحديث الآخر: "لا تنبطوا في المدائن" أي لاتشبهوا بالنبط في سكناها واتخاذ العقار والملك. وورد ذكر النبط في خير مرفوع إلى ابن عباس: "نحن معاشر قريش من النبط من أهل كوثى ريا، قيل: إن ابراهيم الخليل ولد بها، وكان النبط سكانها". وورد في حديث "عمرو بن معديكرب" حين سأله "عمر" عن "سعد بن أبي وقاص"، فقال: "أعرابي في حبوته"، أراد انه في جباية الخراج وعمارة الأرضين كالنبط حذقا بها ومهارة فيها،لأنهم كانوا سكان العراق وأربابها. وفي حديث أبي أوفى: "كنا نسلف نبيط أهل الشام".
ويقال الان في نجد للشعر العامي "الشعر النبطي" أو "شعر النبط"، ويرى الباحثون في هذا النوع من الشعر انه منسوب إلى نبط العراق. وعلى كل فإن لهذه التسمية علاقه باسم هذ ا الشعب العربي القديم الذي نتحدث عنه.
والنبط الذين قصدهم الأخباريون إذن، هم قبط آخر لا نريدهم نحن في الفصل ولانقصدهم، هم يقصدون بقايا الشعوب القديمة خاصة النازلين في البطائح منهم، ومنهم مترسبات الإرمين في العراق والشام، وذلك قبيل الإسلام وفي الإسلام، وكانوا يتكلمون بلهجات عربية ولكن برطانة أعجمية وبلكنة غريبة ظاهرة. أما نبطنا، فهم أصحاب كتابات مدونة بالإرمية، وقد عاشوا في"العربية الحجرية" وفي مناطق أخرى. خضعت لسلطانهم لم تكن البطائح منها على كل حال، كما عاش فرع آخر منهم في "تدمر"، وسيأتي الحديث عنهم.

(1/1337)

admin
12-27-2010, 01:11 AM
وعندي أن النبط عرب، بل هم أقرب إلى قريش والى القبائل الحجازية التي أدركت الإسلام من العرب الذين يعرفون ب "العرب الجنوبيين". والنبط يشاركون قريشافي أكثر أسماء الأشخاص، كما يشاركونهم في عبادة أكثر الأصنام. وخط للنبط قريب جدا من خط كتبة الوحي، وقد قلت إن من العلماء من يرى أن قلمنا هذا ماخوذ من قلم النبط.س يضاف إلى ذلك ما ذكرته من وجود كلمات عربية كثيرة في النصوص النبطية المدونة بالإرمية، هي عربية خالصة من نوع عربية للقرآن الكريم. لهذه الأسباب أرى أن النبط أقرب إلى قريش والى العدنانين علي حد تعبير النسابين من العرب الجنوبيين الذين تبتعد أسماؤهم وأسماء أصنامهم بعدا كبيرا عن أسماء الأشخاص والأصنام عند قريش وبقية العدنانيين. أضف إلى هذا ما ورد في التوراة وما عند أهل الأخيار من أن "نبايوت" وهو "نابت" أهل الأخبار، هو الابن الأكبر لأسماعيل، واسماعيل في عرف النسابين هو جد العرب العدنانين.
وقد سبب تدوين النبط كتاباتهم بالإرمية خسارة فادحة لنا لا تقدر بثمن، لأنه حرمنا الحصول على نصوص بلهجات عربية قديمة نحن في أشد الحاجة اليها، لما لها من فائده في دراسة تطور اللهجات العربية واللهجة التي نزل بها القرآن الكريم والمراحل الني مر ت بها. وخاصة أننا لا نملك من النصوص العربية المدو نة باللهجات العربية الشمالية القريبة من عربية القرآن سوى بضعة نصوص.
ويعد "ديودورس الصقلي" أقدم كاتب "كلاسيكي ! تحد ث عن النبط يليه" "سترابون"، فبقية "الكلاسيكيين" الذين عاشوا بعدهما. وفي تأريخ "يوسفوس" اليهودي المتوفى حوالي سنة "95" بعد الميلاد، أخبار مفيدة عن النبط،ولا سيما علاقتهم بالعبرانيين الذين كانوا على اتصال وثيق بهم بسبب الجوار.

(1/1338)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد تطرق "سترابون"0 إلى أمور لم يتطرق لها "ديودورس"، أخذها من صديق له اسمه "أثينودورس" "Athenodrous"، وكان فيلسوفا ولد بين النبط وعاش بينهم. وقد حدثه هذا الفيلسوف إن عددا كبيرا من الرومان ومن الغرباء من الجنسيات الأخرى كانوا يعيشون بين النبط، وكانوا في نزاع وخصام بينهم. اما النبط فكانوا على صفاء ووئام، يعيشون عيشة سلام وراحة. ويتبين أثر اختلاط الغرباء بالنبط، في الآثار الباقية وفي الكتابات اليونانية والرومانية التي عثر عليها في ارض النبط وعلى النقود.
وقد شملت مملكة النبط في اوج أيامها منطقة واسعة ضمت "دمشق" و "سهل البقاع" "بقأث ه لينون" "Biq'ath Ha-Lebanon" "cele Syria"،والأقسام الجنوبية والشرقية من فلسطين وحوران و"أدوم" "Idumaea"، ومدين الى "ددن" "ددان" وسواحل البحر الأحمر. وثبت أيضا إن جماعة من النبط سكنت في الأقسام الشرقية من "دلتا" النيل، وقد تركت لنا عددا من الكتابات.
ولا يعرف الموطن الأصلي الذي جاء منه النبط على وجه التحقيق، ولا الزمان الذي هاجروا فيه منه. ويظن بوجه عام انهم كانوا بدوا في الأصل من سكان البادية الواقعة شرق شرقي الأردن، ثم ارتحلوا نحو الغرب فنزلوا أرض "أدوم" وضايقوا الأدومين الذين ارتحلوا نحو الشمال والغرب اختيارا أو كرها، فسكنوا في المناطق الخصبة المشرفة على البحر المتوسط. وكان ذلك حوالي "587" قبل الميلاد. ولا يعرف علىوجه العموم في الزمن الحاضرشيء ما عن مبدأ تأريخ النبط.
ويرى بعض العلماء أن النبط هم "نبياطي" المذكورون في أخبار الملك "اشور بنبال" "Aschurbanipal"، وهم أيضا "نبايوت" "Nebojot"="Nabatene" أولاد اسماعيل في التوراة. وهم سكان أرض" "Nabatene" ويعارض هذا الرأي بعض آخر، ولا يرى وجود صلة ما بين النبط و "نبياطي" أو "نبايوت". وأما النبط المذكورون في "المكابيين"، فهم النبط جماعتنا الذين نتحدث عنهم الان.

(1/1339)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد أطلق "يوسفوس" اسم "النبطية" "Nebaioth" على منطقة واسعة تمتد من نهر الفرات فتصل بحدود الشام إلى البحر الأحمر، وهي من مناطق أولاد اسماعيل. ويظهر من تأريخ "يوسفوس" أن مؤلف هذا التأريخ كان يرى وجود صلة بين اسم "نبايوت" وهو اسم ابن"يشمعيل" "اسماعيل" وبين اسم النبط، والى هذا الرأي ذهب أيضا "جيروم" "Jerom".
ومن اخبار "ديودورس" عنهم أن معظم بلادهم قفرة قليلة الماء والقسم المنبت منها قليل، لذلك عاش سكانها عيشة اعرابية، على الغزو، وعلى التحرش بحدود جيرانهم، لعلمهم أن من الصعب على الجيوش تعقب آثارهم والالتحام بهم في البادية لقلة الماء، وإلا تعرضت للتهلكة والموت عطشا.
أما هم، فلهم آبار مخفية، وكهاريس أغلقت فتحاتها، فلا يعلم أحد من الناس سواهم أين هي ? يشربون منها متى شاءوا، ويأخذون منها ما يحتاجون إليه. وهم قوم يحبون الحرية ويقدسونها، ويأبون الخضوع لحكم الغرباء. ولهذا لم يخضعوا الآشوريين أو الميديين أو الفرس أو لحكم ملوك المقدونيين، مع إن هذه الدول أرادت استعبادهم فأرسلت عليهم جيوشا قوية، ولكنها لم تنجح في تحقيق ما أرادت، ولم تتمكن من السيطرة على هؤلاء الأنباط.
وقد ذكر عنهم انهم كانوا يحمعون المطر ويخزنونه في الصهاريج، التي لا يعرف مواقعها أحد غيرهم، وانهم كانوا لا يذيقون ماشيتهم الماء أما الناس، فكانوا يعيشون على اللحوم والحليب، يضاف إلى ذلك نوع من "الفلفل" ولب بعض للشجر، حيث تخلط بالماء.
وقد أخذ "ديودورس" أخباره عن النبط من مؤرخ قبله هو " Hieronymos Of Kardia"="Hieronymos Of Cardia"، ويعود خبره إلى حوالي السنة "312" قبل الميلاد، اذ تحدث هذا المؤلف عن حملة "انطيغونس" "انتيكونس" "Antigonos" على القبائل العربية، فذكر "النبط" " Nabataioi"="Nabatoioi" وأشار إلى الحملة التي أرسلت عليهم.

(1/1340)


--------------------------------------------------------------------------------

ويتبين من أقدم الأخبار الواردة في الكتب "الكلاسيكية" عن النبط أنهم كانوا في بادئ أمرهم أعرابا رعاة ماشية، ومنهم أصحاب قوافل يتعاطون التجاره، ويقيمون حول البحر الميت، وكانوا يستخرجون "الاسفلت" من سواحله الشرقية فيحملونه إلى مصر لبيعه إلى المصريين. وكانت لهم أماكن محصنة تحصينا طبيعيا يلتجئون اليها فيصعب على العدو مباغتتهم ومهاجمتهم في هذه الحصون، كما أن لهم علما بصحاريهم وبمواضع الماء فيها، يحتمون بها عند الحاجة، ويتخلصون بذلك من تعقيب الجيوش. ويذكر أنهم جنوا أرباحا كثيرة من اتجارهم بالاسفلت، إذ كان المصريون يشترونه منهم لاستعماله في "المومياء"، ولهذا أقبلوا عليه اقبالا كبيرا، در على النبط ربحا طيبا.
وقد وصفوا بأنهم كانوا يكرهون الزراعة ويزدرونها، كما كانوا يزدرون السكنى في بيوت مستقرة، وكانوا رعاة يربون الأغنام وبقبه الماشية. إذا وجدوا غريبا بينهم قتلوه، لأنهم كانوا يخشون أن يقعوا تحت حكم الأجانب فيفقدوا حريتهم. ووصف "سترابو" النبط، فقال: إنهم تجار، أقاموا في بيوت من الحجر، وقد اشتغل قوم منهم بالزراعة.

(1/1341)


--------------------------------------------------------------------------------

لقد أظهر هؤلاء الرعاة مقدرة فائقة وكفاية لاتقدر في تكييف أنقسهم وفي. أخذهم بالأساليب الحديثة في الحياة. تمكنوا من استغلال أرضهم وما فيها من موارد طبيعية، وتعلموا استغلال مناجم النحاس والحديد القديمة في "أدوم"، واستخدام هذين المعذنين المهيمن في صنع المواد اللازمة لشؤون الحياة. وأخذوا من "الهللينية" تنظيم المدن وأصول الادارة والفن وحولوا مدينتهم الصخرية إلى مدينة حديثة جميلة تنطق حتى اليوم بكفاية أصحابها وبقابلياتهم المدنية. كما اقتبسوا من "الفرث" "Parthian" ما يلائمهم ويوائم حياتهم وحاجاتهم. وضربوا النقود على طريقة اليونان والرومان فأحسنوا في صنعها وأجادوا واثبتوا أن العربي كيفما كان أمره قابل للتطور والابداع والأخذ والاقتباس، وأنه إذا هيئت له الظروف وأرشده المرشدون ووجهوه توجيها حسنا، أفاد نفسه وقومه والبشرية خير افادة.
ومن النبط انتقلت المصنوعات النحاسية والحديدية المصنوعة في بلاد اليونان أو الشام أو في بطرا إلى اليمن، وقد كانوا واسطة لنقل "الهيلينية" إلى العرب الجنوبيين. وقد عثر في "خولان" من اليمن على راس مصنوع من النحاس، محفوظ الان في المتحف البريطاني، يشبه وجهه الوجوه المطبوعة على النقود النبطية المضروبة في القرن الأخير قبل الميلاد، لذلك يرى الباحثون أنه من صادرات مملكة النبط إلى اليمن، وأنه من المصنوعات المتأثرة بالطابع "الهبلليني".

(1/1342)


--------------------------------------------------------------------------------

ويحدثنا "ديودورس" إن "انطيغونس" "Antigonus" الذى خلف الاسكندر في سورية، جر د حملة على النبط قوامها أربعة آلاف جندي من المشاة وستمئة فارس جعلها في قيادة صديقه "أثينيوس" "Athenaeus" ليجبرهم على التحالف معه وتأييد مصالحه.،وأمره بمباغتتهم وسلب كل ما يمتلكون من ماشية. فسار القائد من مقاطعة "أدوم" "Idumaea" بكل حذروتكتم لكيلا يعلم أحد من النبطي به. وباغت الصخرة في منتصف الليل، فقتل من حاول المقاومة وأسر خلفا منهم، وترك الجرحى، واستولى على ما وقعت عليه يده من البخور والتوابل والطيب والفضة. ثم أمر قوته بالاسراع بالرجوع، فلما قطعت مسافة مئتي "اسطاديون" أضناها التعب، ونهكها قطع الطريق، فاضطرت إلى قطع .السير للاستراحة في معسكر أقامته. وفيما كان الجنود ينعمون بنومهم، هاجمهم النبط وأعملوا فيهم السيوف، فلم ينج من رجال الحملة الا خمسون فارسا هربوا بسلام بعد أن أثخن أكرهم بالجراح. وكان ذلك كما يزعم "ديودورس" بسبب تهاون رجال الحملة بأمر الحراسة وعدم تصورهم ملاحقة النبط لهم، وتمكنهم من الصول إلى هذا الموضع في خلال يومين أو ثلاث.
وذكر "ديودورس" إن اليونان تخيروا الوقت المناسب حينما باغتوا "الصخرة" كان من عادة أهلها الذهاب إلى أسواق مجاوريهم للامتيار ولمبادلة سلعهم بسلع يحتاجون اليها من جيرانهم، تاركين في صخرتهم أموالهم ونساءهم وأطفالهم وعجزتهم وشيوخهم. ولم تكن الصخرة مع حصانتها، مسو رة، فانتهز رجال الحملة هذه الفرصة، وباغتوا الحصن على نحو ما ذكرت. فلما بلغ الخبر النبط،تركوا السوق وتراكضوا إلى الصخرة، وأسرعوا يتعقبون أثر اليونان حتى أدركوهم في ذلك الموضع، فانتقموا منهم. شر انتقام، وعلموهم درسا لا ينسى ولا شك في وجوب اتخاذ الحذر والحيطة وتقدير كل أمر حق قدره مهما صغر وتفه، وقد تأتي التوافه بنتائج لا تأتي من عظائم الأمور. أما تأريخ ارسال هذه الحملة، فكان في سنة "312" قبل الميلاد.

(1/1343)


--------------------------------------------------------------------------------

وبعد انتقام النبط ممن حاول استرقاقهم، عادوا إلى الصخرة راضين مطمئنين، فنظموا أمورهم، ثم كتبوا الى الملك "انطيغونس" كتابا كتب بالأبجدية السريانية يلومون في " "أثينيوس" "Athenaeu" على ما فعل بهم، ويعتذرون فيه عما بدر منهم ويحملون صاحب وزر صنعه. وقد أجابهم الملك بأن ما حدث لم يكن بعلمه ورضاه، وأن قائده عمل برأيه فخالف أمره، ولذلك فهو يحمله وزره، ويرجو أن تتحسن العلاقات فيما بينهم وبينه، وأن ينسى ما حدث، وكان غرضه من هذا الكلام التأثير عليهم، وجلبهم إليه ولو إلى حين حتى يرى أمره، فان أبوا ضرب ضربته. ونال ما أراد.
وبعد مدة هيأ قوة قوامها أربعة آلاف مسلح من المشاة، واربعة آلاف من الفرسان جعل قيادتها تحت إمرة ابنه "ديمتريوس" "Demetris "، للانتقام من النبط بأية طريقة كانت. فلما سمع النبط بقدومها، امنوا أموالهم في مواضع حصينة يصعب الوصول اليها، ووضعوا عليها حراسة كافية، وسلكوا طرقا متعددة تؤدي بهم إلى البادية. فلما وصل "ديمتريوس" إلى "الصخرة"، هاجمها بعنف وشدة، غير أنه لم يقلح في اقتحامها والاستيلاء عليها، ورجع بجيوشه قانعا بالهدايا التي قسمت إليه.
ويذكر "ديودورس" أن النبط كانوا قد لجأوا إلى اتخاذ أماكن حراسة وضعوا فيم حراسا، واجبهم تنبيه النبط حين تبدر ظاهرة خطر عليهم، بإيقاد نيران في مواضع مرتفعة من تلك الأماكن، تكون علامة على وجود الخطر. فلما ظهر "ديمتريوس" متجها نحو الصخرة، أوقد الحراس النار، فهرب النبط إلى مواضع أمينة من البادية، وتخلصوا مع أموالهم منه، لأنه خاف من ملاحقتهم لعدم تمكن جيشه من تعقب آثارهم ولخوفهم من ولوج البادية. وقد كان "المقدونيون" يخشون من دخولها.

(1/1344)


--------------------------------------------------------------------------------

كان النبط من الشعوب العربية التي جمعت ثروة عظيمة،واكتنزت الذهب والفضة بفضل اشتغالها في التجارة وموقعها الممتاز الذي تلتقي عنده جملة طرق تجارية برية كانت عمادطرق القوافل في ذلك الزمن اليها يصل طريق اليمن والعربية الجنوبية المهم الموازي للبحر الأحمر، ومتها يتفرع الطريق إلى مصروالشام وغزة والمدن الفينيقية على البحر المتوسط.، واليها يصل طريق تجاري آخر مهم يصل الخليج بمدينة "بطرا". ويصل مدينة تجارية اخرى لم يكن شأنها في التجارة أقل من شأن عاصمة النبط، وأعني بها مدينة جرها Gerrha علىالخليج. فتحمل اليها تجارة الهند وما وراء الهند، وحاصلات ايران والعربية الشرقية لتوزع منها في الشام ومصر وموانىء البحر المتوسط. وقد عمل ملوك النبط بكل ذكاء على الاستفادة من هذه الطرق واستغلالها لمصلحتهم ومصاحة مملكتهم. وقد اقتضى ذلك بالطبع وضع حرس قوي لحماية القوافل واجراء التسهيلات الضرورية لأصحابها والاتفاق مع سادات القبائل لضمان سلامتها مقابل مبالغ تدفع لهم عن المرور "الترانزيت".
وقد أدت سياسة البطالمة الرامية إلى السيطرة. على البحر الأحمر واحتكار التجارة البحرية إلى إلحاق أضرار فادحة بالنبط وبغيرهم من العرب الذين كانوا يتاجرون في البحر الأحمر. فاضطر النبط إلى التحرش بسفن البطالمة وبمهاجمة السفن التي تتجه نحو مصر وبأخذ ما فيها، فاضطر "بطلميوس الثاني" "285 - 6 4 2 قبل الميلاد" إلى انشاء قوة بحرية لحراسة السفن التجارية، وقد ألحقت هذه القوة خسائر فادحة بأسطول النبط، منعت النبط أمدا من التعرص لقوافل البطالمة، غي ان النبط كانوا ينتهزون الفرص، فلما انشغل "بطلميوس" بالحرب مع "سلوقيي" سورية عادوا إلى مهاجمة سفن البطالمة والسفن الذاهبة أو الآيبة من مصر.

(1/1345)


--------------------------------------------------------------------------------

وألحقت سياسة "بطلميوسى فيلادلفيوس" ومشروعاته الرامية إلى السيطرة على البحر الأحمر وعلى تجارة البلاد الحارة،أضرارا خطيرة بالتجارة العربية، أثرت تأثيرا سيئا جدا في الوضع السياسي في جزيرة العرب. إذ أفقدت العرب السيطرة على البحر الأحمر وأوجدت لهم منافسين خطيرين نافسوهم في أسواق إفريقية والهند، ولم يكن من السهل التغلب عليهم، بفضل ما أدخلوا على سفنهم من تحسينات فنية وابتكارات، وما خصصوا بها من قوات لحمايتها من تعرض سفن العرب لها. وقد ابتنى "بطلميوس فيلادلفوس" مدينة " Berenice" على خليج العقبة " Atlantic Gulf" لحماية التجار والسفن من تعرض النبط. ولعل ميناء "امبلونه" "Ampelon" الذي أسسه تجار الروم في جزيرة العرب على ساحل البحر الأحمر تجاه "العلا" على رأي بعضهم، هو من المواضع التي أنشئت لهذه الغاية في هذا الزمن. وبإنشاء هذه المواضع سيطر اليونان على البحر والطريق التجاري القريب منه، كما تمكنوا من ضمان الحصول على حاجاتهم بشراء ما يريدون من حاصلات الجزيرة ومن يبع ما يريدون بيعه في هذه الموانى أيضا.
وكان من نتائج هذه السياسة التي اقتفي أثرها من جاء بعد "بطلميوس فيلادلفوس" من الملوك والقياصرة، مشاطرة تجار العرب أرباحهم العظيمة التي كانوا يجنونها من الاتجار مع مصر والشام. فلم يدخل في امكانهم وضع الأسعار كما يريدون ويشتهون كما كان ذلك سابقا. إذ وضع سادة بلاد الشام ومصر الجدد أسعارا ثابتة للبضائع العربية والهندية التي تصل إلى بلادهم، كما فرضوا عليها ضرائب معينة بحسب قوائم جديدة. بذلك تحكموا في الأسعار التجارية العالمية، وحرموا تجارة جزيرة العرب وسادتها من ملوك متاجرين وأسر غنية متنفذة ربحا عظيما، وألحقوا بخزانتهم خسائر كبيرة. وكان من أثر هذه السياسة الصارمه هبوط الأسعار هبوطا بينا في الأسواق.

(1/1346)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد تمكن الباحثون في تأريخ النبط من ضبط أسماء جملة ملوك حكموا النبط.ولا نستطيع اليوم ذكز اسم أول من أسس مملكة النبط، ولا الزمن الذي أسست فيه تلك المملكة ولا الأسرة التي نسلت اولئك الملوك. وكل ما نستطيع قوله هو إن استقلال النبط كان قبل الميلاد، واننا نعرف أسماء بضعة ملوك حكموا قبل الميلاد، بصورة أكيدة لا مجال فيها لأي شك، كما نعرف أسماء ملوك كان حكهم بعد الميلاد.
ويكثر اسم "الحارث" "ارتاس" "ارتياس" "Aretas=" Arethas" بين أسماء الملوك، حتى لقد ذهب الظن ببعض الباحثين إلى إن هذا الاسم هو لقب، وانه في معنى "فرعون" بالنسبة إلى ملوك مصر، و "قيصر" بالنسبة إلى ملوك الرومان والروم، و "النجاشي" بالنسبة إلى ملوك الحبشة،و"كسرى! بالنسبة إلى ملوك الفرس، و "تبع" بالنسبة إلى ملوك اليمن. أما الاسم الذي يليه في المرتبة فهو "عبادة" و "مالك" و "رب ال" "رب ايل". وذهب بعض آخر إلى إن لفظة " Aretas" هي اسم الأسرة الحاكمة التي حكمت النبط، وانها من أصل "آرامي" هو "حرتت" "Charethath".

(1/1347)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي الفصل الخامس من أسفار "المكابيين الثاني" إن "أرتاس" زعيم العرب طرد "ياسون" "Jason" من أرضه "فجعل يفر من مدينة إلى مدينة والجميع ينبذونه ويبغضونه بغضة من ارتد عن الشريعة، ويمقتونه مقت من هو قتال لأهل وطنه حتى دحر إلى مصر". ويظهر من هذه الاية إن الحارث كان قد طرد "ياسون" من أرضه، وتعلب عليه، وصار يتعقبه حتى هرب إلى مصر. وكان "ياسون" قد اختلف مع أخيه "أونياس الثالث" "Onias !!!" في يهوذا على الكهانة العظمى. وقد حكم "أرتاس" أي "الحارث" المعروف ب "حرثت" "حرتت" "حارثة" "Harithat" في الكتابة النبطية في حوالي سنة "169" قبل الميلاد. ونظرا إلى انه أول ملك وصل اسمه الينا في الأخبار، أطلق الباحثون عليه لقب الأول" تمييزا له، عن بقية من جاء بعده حاملا هذا ا لأسم. ويلاحظ أن الاية المدكورة لم تلقب "الحارث" بلقب "ملك"، وإنما نعتته ب "زعيم"، أو بما شابه ذلك من معان، هي دون درجة "ملك". أما الموارد التأريخية، فقد لقبته بلقب "ملك".
وقد وردت كلمة "النباطين"، وهم النبط، في موضع من الفصل الخامس من سفر المكابيين الأول، وذكرت بعدها بجملة آيات كلمة "العرب". وكان هؤلاء العرب يشدون أزر "تيموتاوس" الذي حارب "يهوذا المكابي" "يهوذا مكابيوس" "Judas Macaabaeus" "161 ق. م". أما النبط فكانوا على وئام مع المكابيين: "يهوذا المكابي" وأخوه "يوناتان" وكانت صلاتهم بجيرانهم المكابيين حسنة. ويظهر من الآية الني ذكر فيها اسم "العرب" أن "تيموتاوس" وأنصاره كانوا قد استأجروا العرب للقتال معهم. وأغلب الظن ان المراد ب "العرب". في هذه الاية هم جماعة من الأعراب.

(1/1348)


--------------------------------------------------------------------------------

وطلب "يوناثان" "المتوفى سنة 143 ق. م." - الذي انتخب مكان أخيه يهوذا المكابي بعد مقتله - من النبط مساعدتهم، أن يعيروه عدة يستعين بهاعلى أعدائه، وذلك حين طلب "بكيديس" قتله. وأرسل "يوحنا أخاه في جماعة بقيادته يسأل النابطين أولياءه. أن يعيروهم عدتهم الوافرة"، فلما كان يوحنا في "ميدبا" "مأدبا"، خرج عليه "بنو يمرى، وقبضوا عليه وعلى كل من كان معه وذهبوا بالجميع. ويظهر من ارسال "يوناثان" أخاه النبط ومن جملة "يسال النباطيبن أولياءه" الواردة في "المكابين" أن علاقة المكابيين بالنبط كانت حسنة جدا، وأن النبط كانوا إذ ذاك أقوياء أصحاب عدة وعتاد.
وأما "بنو يمري" Bene-Amri Jambri الذين قتلوا "يوحنا" شقيق "يوناثان"، وهو المعروف "يوحنا المكابي"، فقبيلة عربية يظهر إن منازلها كانت في "ميدبا" "مادبا" من أقدم مدن "مؤاب"، وهي تبعد ثمانية اميال إلى الجنوب الشرقي من "حسبان" ""Heshbon " و "14" ميلا شرقي بحر "لوط"، وهي مدينة " Mydava" التي ذكرها "بطلميوس" وذكر انها تقع في "العربية النبطية" "Arabia Petraea" و "اندبه" "Undaba" و"Ueddaba" لدى" أويسبيوس" و " Medaba" لدى"جيروم".و صارت في العصور المسيحيه مركزا لأسقف المقاطعة المعروفة باسم "المقاطعة العربية" "Provincia Arabia". ولا نعرف في الزمن الحاضر شيئا من أمر هذه القبيلة " Bene Amri"، التي لا يستبعد أن يكون اسمها الصحيح "بنو عمرو".

(1/1349)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر "يوسفوس" إن "يونا ثا ن" وشقيقه "سمعان" "Simon" سمعا إن "بني عمرى" " Amri" "Amaraeus" سيقيمون عرسا عظيما ويزفون العروس من مدينة " Gabatha"="Gabbatha"، وهي من أشراف العرب، فقررا الانتقام من قتلة شقيقهما، فذهبا مع قوة كبيرة ووضعا كمينا في "ميدابا" "مادبا". فلما وصل الموكب، خرج الكمين، فسقط قتلى كثيرون، وهرب من تمكن من النجاة إلى الجبل. وحكم بعد "الحارث ا لأول" الملك "زيد ال" "زيد ايل"، وذلك في حوالي السنة "146" قبل الميلاد. ثم الملك "الحارث الثاني"حرتت" "حرثت"، الذي حكم حوالى سنة "110" قبل الميلاد، ودام حكمه حتى حوالي عام "96" قبل الميلاد.
ويرى "شرادر" أنه حكم حوالى سنة "139" قبل الميلاد، ودام حكمه حتى سنة "97" قبل الميلاد ويرى بعض آخر أنه حكم حوالي سنة "0 2 1 ق ة م". ويظهر أنه كان يعرف ب "ايروتيموس" "Erotimus"="Herotimus" ويظن "شرادر" أنه هو الذي قصده "يوسفوس" حين ذكره في حوادث سنة "97" قبل الميلاده..
وتوقف بعض آخر في تثبت اسم من حكم بعد الحارث الأول، فوضع فراغا قدره بنحو نصف قرن، ذكر أنه لا يدري من حكم فيه، ثم وضع بعده اسم "الحارث" الثاني المعروف ب "Erotimus II"، وقد قدر حكمه فيا بين السنة "0 2 1" والسنة "96" قبل الميلاد.
ولم تصل الينا أخبار واضحة أكيدة عن هذا "الحارث". ويذكر المؤرخ اليهودي "يوسفوس" أن أهل "غزة" طلبوا منه العون والمساعدة ليتمكنوا من الثبات أمام محاصرة "اسكندر جنيوس" "Alexander Jannaeus" لمدينتهم، غير أنه خيب آمالهم، فلم يساعدهم. وقد نعته هذا المؤرخ ب "ملك"، مما يدل على أن هذا اللقب صار لقبأ رسميا لحكام النبط في هذا العهد.
وذكر أن "ايروتيمس" Erotimus"="Herotimus" "الحارث الثاني" كان قد اهتبل فرصة ضعف الأوضاع في مصر وبلاد الشام، فهاجم بأولاده وبجنوده تلك الأرضين، وغنم منها غنائم كثيرة، فكون بذلك لنفسه وللعرب صيتا بعيدا.

(1/1350)


--------------------------------------------------------------------------------

وتبين للنبط على ما يظهر انهم اذا. استمروا في تأييدهم ومساعداتهم للحسمونيين "Hasmoneans" المناضلين للخلاص من حكم السلوقيين السورين، ألحقوا أضرارا بمصالحهم الخاصة وبحكومتهم نفسها، فلم تكن سياسة المكابيين مقتصره على طلب الاستقلال التام والخلاص من الحكم الأجنبي، بل كانت تنطوي، على الاستيلاء على الأردن والتوغل في مناطق النبط نفسها، وانشاء حكومة قوية قد تزاحم حكومتهم في يوم من الأيام، فرأوا إن من الخير لهم إن يدعوا هذا التأييد، وأن يقاوموا إن احتاج الأمر إلى المقاومة. وقد حدث ذلك بالفعل في عهد الملك المكابي "اسكندر جنيوس" "اسكندر ينيوس" "Alexander Jannaeus" "103 - 76 قبل الميلاد" حيث وقعت حرب بينه وبين النبط بسبب الأردن.
فلما تمكن الملك المكابي مستعينا بجنود مرتزقة من اليونان ومن أهل آسية الصغرى ومن "المؤابيين" ومن "الجلعاديين" أهل "جلعاد"، وهم من العرب كما يقول المؤرخ اليهودي "يوسفوس"، واجبرهم على دفع الجزية اصطدم بمعارضة الملك "عبادة" "Obedas" الذي أعلن حربا عليه، كاد "اسكندر" يهلك فيها لولا الأقدار التي احتضنته ففر مسرعا هاربا بنفسه إلى القدس،وبذلك كتب لنفسه السلامة والنجاة.
إن "عبادة" "Obedas"="Obodas"="Obadath" هذا الذي ذكره "يوسفوش"، هو "عبادة" المعروف عند المؤرخين ب "عبادة الأول" تمييزا له عن ملوك آخرين عرفوا ب Obedas، وقد حكم حوالي سنة تسعين قبل الميلاد. وجعل "شرادر" حكمه في عام "93" قبل الميلاد. وقد ورد اسمه مضروبا على النقود.

(1/1351)


--------------------------------------------------------------------------------

لم ينعم "اسكندر جنيوس" "اسكندر يانيوس" بعد عودته إلى القدس بأيام طيبة هادئة، فلقد جوبه بمعارضة قوية وبجماعة شديدة أخذت تعارض سياسته وتقاومه، ودبت الفتنة في كل مكان من مملكته وبلغ من حقد الجماعة عليه انها استدعت "ديمريوس أويكروس" "Demetrius Eukarus III" المعروف با لثالث من بقايا حكام مملكة السلوقيين السوريين المتداعية ونصبته ملكا عليها وحاكما. وهكذا نجد الشعب اليهودي الذي استعاد استقلاله يعود إلى طبيعته الأولى، فينقسم على نفسه، ويشعل نار حرب أهلية في مملكته، ويفضل حكم الغرباء على حكم أبنائه. ولما وجد الملك المكابي مركزه حرجا وخصمه قويا وانه قد يتغلب عليه، وأن له في الجنوب خصما آخر طموحا أقوى من خصمه "ديمتريوس" وأعنف، رأى التودد إلى العرب والتحبب اليهم، فنزل لهم عن "موآب" و "جلعاد" وعن أماكن أخرى كان يخشى من احتمال انضمامها إلى خصومه، وقدمها إلى ملك النبط وتساهل في أمور أخرى ليأمن على ما تبقى من مملكته على الأقل.
وأما "ديمريوس" الذي ترك "يهوذا" "Judaea" وارتحل عنها، فقد ذهب إلى "حلب" "Boroea"، وانتصر على أخيه "فيليب" "Philip". غير أن "ستراتو" "Strato" حليف "فيليب" وأحد حكامه،أسرع فاستنجد في " Zizus" بسادات القبائل العربية وبالفرث " Parthians ""، فاأجدوه وساروا بقوات كبيرة على "ديمتريوس" فانتصروا عليه.

(1/1352)


--------------------------------------------------------------------------------

وحكم بعد "عبادة الأول" ملك اسمه "رب ال" "Rabb il"="Rabilus". يظهر أن حكمه كان حوالي السنة "87" أو "86" قبل الميلاد. ويعرف عند المؤرخين ب "رب ايل الأول" تمييزا له عن عدد من الملوك حكموا بعده عرفوا باسم "رب ايل". وقد عثر على كتابة وسمت ب "CIS II, " مؤرخة قي شهر "كسلو" وشهر "شمادا" "Schemada" في قراءة و "شمارة" شمرة" "Schamara" في قراءة أخرى من سنة "18" على قراءة أو سنة "16" على قراءة أخرى من سني ملك اسمه "حرتت ملك"، أي "حارث الملك"، أو "الملك الحارث" بتعبير أصح. وقد دونت هذه الكثابة على قاعدة تمثال عثر عليه سنة "898 1 م" عند " بطرا" "Petra" دونت عليها: "هنا تمثال رب ايل ملك النبط بن.... ت ملك النبط عملها.... ب رحيم "حيم" "ننى" "مجنى" الأقدم". فيظهر من هذه الكتابة إن تمثالا أقيم للمملك "رب ايل" عمل في السنة الثامنة عشرة أو السادسة عشرة من سني ملك اسمه "حرتت"، أي "الحارث"، وان الذي عمل التمثال شخص لعب القدر يبعض حروف اسمه الأول، فلم يبق منه الا الحرف الأخير، وهو "ب"، كما لعب في طمس معالم بعض الحروف الأخرى من الاسم،حمل الباحثين على الاختلاف في قراءتها.
اما اسم الملك وهو "رب ال ملك نبطو"، فهو ظاهر واضح. وأما اسم أبيه الذي هو- "ملك نبطو" أي ملك النبط، فقد سقطت حروفه ولم يبق منه الا الحرف الأخير وهو "ت"، لذلك اختلف فيه الباحثون، فمنهم من قرأه "عبدت"، أي "عبادة"، فجعل لذلك "رب ايل" ابنا له، أي ل "عبادة الأول"، ومنهم من قرأه "حرتت"، أي "الحارث"، فجعل أباه ملكا اسمه "الحارث".

(1/1353)


--------------------------------------------------------------------------------

ولانعرف شيثا يذكر من أعمال "رب ايل". ولعل ما ذكره "اصطيفان البيزنطي" "Stephanos Of Byzanz" نقلا عن "أورانيوس" من أن ملك العرب المسمى "ربليوس" "Rabilus"="Rabilos " قتل "انتيغونس" "Antigonos" المقدوني في موضع يقال له "Matho"، وهو قرية عربية، أريد به الملك "رب ايل" الذي نتحدث عنه. وقد ذهب بعض الباحثين إلى إن المراد من لفظة."موثو" "موتو" الموت، وان المقصود موضع الموت أو قرية الموت، لما وقع فيه! من موت لا، فعرفت به.
ولا نعلم من أمر "رب ايل" شيئا يذكر، والظاهر إن حكمه كان قصيرا، جعله بعضهم نحو سنة، أي سنة "87" قبل الميلاد، ثم وضع بعده حكم "الحارث" المعروف بالثالث. وهو من أشهر الملوك المتقدمين من النبط، وأخباره أوضح من أخبار من تقدمه ممن ذكرت. وقد ذهب بعضهم إلى احتمال كونه هو "اروتيموس" Erotimus"" المذكور في التواريخ اليونانية. وذهب بعض الباحثين إلى أن حكم الحارث كان من سنة "85" حتى سنة "60" قبل الميلاد، أو من سنة "87" حتى سنة "62" قبل الميلاد. وإذ صح أنه أدرك سنة "62" أو "65" قبل الميلاد، يكون الرومان قد استعادوا مدينة دمشق في أيام هذا الملك، إذ يرى كثير من المؤرخين ان "اللجيونات" الرومانية العاملة بإمرة القائدين "لوليوس" "Lollius" و "ميتيلوس" "Metellus" قد احتلت المدينة عام "65" قبل الميلاد،ثم دخلها "بومبيوس".في سنة "64" قبل الميلاده. وذهب بعض الباحثين إلى أنه اضطر إلى اخلاء "دمشق" سنة "70" قبل الميلاد، إذ لم تستطع جيوشه الوقوف أمام جيش الملك الأرمني "تيكرانس" "Tigranes" التي زحفت على بلاد الشام.

(1/1354)

admin
12-27-2010, 01:12 AM
وقد عرف الحارث الثالث ب "فيلهيلن" "Philhellen"، وهو لقب يوناني " Aretas Philhellen"، معناه محب اليونان. وقد اشتهر بتوسيعه رقعة ملك النبط. فلما هاجمه "أنطيوخس الثاني عشر" "أنطيخس" "Antiochus XII" وأخذ يتوغل في أرض النبط، أسرع "الحارث" فجمع قواته ووقف بحزم أمام القوات المهاجمة، ثم اصطدم به عند موضع " Cana" "Kana "، حيث قضى على معظم جيش "أنطبوخس" وألحقه مع من قتل بالعالم الأخر. وقد وقعت هذه المعركة في سنة "86" أو "84 83" قبل الميلاد.
ويرى بعض الباحثين استنادا إلى النقود الني ضربت باسم "أنطيوخس"، بسنة "87 - 86" قبل الميلاد، والني استمر ضربها ثلاث أو أربع سنين ثم انقطعت أن نهاية هذا الملك كانت بسنة "85 - 84" أو "84 - 83"، وهي السنة التي قتل فيها، وانتهت بانتصار "الحارث" عليه.
وقد مكن سقوط "أنطيوخس ! في تلك المعركة النبط من تقوية أنفسهم ومن شد عزمهم، فلما مات الملك "رب ايل" الأول سنة "87" قبل الميلاد على بعض الاراء، وتولى "الحارث" الثالث "حارثة" "Aretas" الحكم من بعده انتهز تلك الفرصة فاستولى سنة "850 ق. م." على دمشق، وتوسعت بذلك رقعة مملكته وأحاطت بملكة المكابيين من الشرق والجنوب.
وقد افتتح عهد "الحارث الثالث" باستيلائه على "دمشق" وعلى "سهل البقاع" "Coile-Syria"="Koile-Syria""فقد استدعاه أهلها لانقاذهم من مهاجمة "اليطوريين" "Ituraer" لهم، بقيادة ملكهم "بطلميوس بن منيوس" "Ptolemaios Mennaios"، أي "بطلميوس بن معن". وهو من أصل عربي أيضا، فأسرع اليها، وكانت يومئذ. قصبة "السلوقين"، فاستولى عليها، ودخلت في جملة أملاكه، ولقبه أهلها "محب اليونان وحاميهم"Philhellen" لأنه أنقذهم من غزوالأعراب لهم.

(1/1355)

والآن وقد اصبح "الحارث" علىمملكة واسعة الأطراف، وتشرف على مملكة "يهوذا" المتداعية وبإمرته جيش قوي، كان لا بد له من التداخل في شؤون هذه الجماعات المتخاصمة إلمتنافرة الني تكون مملكة، ولكنها لا تخضع لا لسلطان. واذا لم يتدخل هو بنفسه فإن الأحزاب اليهودية نفسها لا تتركه على الحياد. وهذا ما حدث. فغزا "الحارث" أرض يهوذا، وفي معركة واحدة وقعت عند موضع "اديدا" "Addida"="Adida" انهار الجيش اليهودي، وتشتت شمله، فلم يبق. أمام "اسكندر ينيس" "Alexander Jannaeus"="Alexandros Iannaios" غير طلب الصلح، فعقد الصلح وعاد النبط إلى ديارهم إلى حين. ولم يشر المؤرخ "يوسفوس" إلى محتويات معاهدة الصلح. أما " Adida"="Addida" المكان الذي وقعت فيه المعركة، فهو "الحديثة" على مقربة من "اللد" "Ludda"، المسماة أيضا باسم " Diospolis"، وقد عرفت " Adida" با سم "حا ديد" "Hadid"و "حديد" "Hadid" "Aditha ". لقد تمكن "الحارث" من بناء جيش يعتمد عليه في المعارك، فبعد أن كان جيش النبط في بادىء امره جماعات غزو غير منظمة ولا منقسة تهاجم عدوها وتباغته على طريقة الأعراب ثم تتراجع، يسيرها العرف القبلي، تحسن جيش النبط بعض التحسن، وأدخلت على القوات الراكبة بعض الاصلاحات، غير انها بقيت مع ذلك متأثرة بروح البداوة، التي لا تقبل الخضوع للانظمة والأوامر، والتي لا تهتم الا بالغنائم، فاذا حصلت عليها رجعت إلى مواطنها دون تفكيرفي العاقبة. فلما استولى "الحارث" على دمشق، وفيها عدد كبير من اليونان، انضم بعضهم اليه، فعملوا على تحسين جيشه وتدريبه، وعلى تكوين جيش مدرب نظامي، استعان به في تقوية مركزه حتى صار به من أقوى ملوك النبط الذين حكموا حتى أيامه، مما حمله على التدخل في شؤون مملكة يهوذا، ثم على مجابهة الرومان، وهم أصحاب جيوش منظمة مدربة، بجيش لم يتعود دخول الحروب النظامية، فتغلب الرومان من ثم عليه.

(1/1356)


--------------------------------------------------------------------------------

فلما دب الخلاف بين الأخوين "أرسطوبولس" "Aristoboulus" و"هركانوس" Hyrcanus"، ابني "اسكندرة" "Alexandra على الملك، وانقسمت "يهوذا" إلى أحزاب وجماعات أبرزها جماعة "الفريسيين" "Pharisees" يؤيدون "هركا نوس" وجماعة "الصدوقيين" "Sadducees"" أنصا ر "أرسطو بو لس"، وجمع "أرسطو بولس" حوله أنصاره وجيشا من العرب ومن جنود مرتزقة، وتفوق على أخيه، طلب "رهركانوس" مساعدة النبط، وبعث صديقه "انتيبطر" "أتيباطر" "Antipater" إلى "بطرا" ليتوسط لدى "الحارث"، وكا ن صديقا له، في أمر مساعدة "هركانوس" وفي أمر الالتجاء إليه. فلما نجحت الوساطة، هرب من للقدس ليلا متجها إلى النبط، وطلب من الملك بإلحاح أن يعيده إلى "يهوذا"، وأن يأخذ له التاج من أخيه، ويثبته في ملكه، ويتعهد في مقابل هذه المساعدة بإعادة المدن الاثنتي عشرة التي أخذها أبوه "اسكندر" من العرب، وهي: "مادبا" "مأدبا" "Medaba" و "نبالو" "Naballo" و "ليبياس" "Libias" "وثربسة" "Tharabasa" و "اكلة " Agalla" و "اتونة" "Athone" و "زورة " "Zoara" و "اورونة" "Oronae" و "ريدة" "Rydda" و "لوسة" "Lusa" و"اوريبة" "Oryba" و "مريسة" "Marissa" إلى النبط. فوافق "الحارث" على هذه الشروط، وهجم على يهوذا" "66 - 65 ق.م." بحيش قوامه خمسون ألف جندي راجل وفارس شتت شمل أصحاب "أرسطو بولس" وتركه وحده فهرب إلى القسس. فتعقبه الحارث على رأس جيش. عربي يهودي كبير، وأحكم عليه الحصار، وكادت العاصمة تسقط في بديه لولا حدوث تطور سيامي عسكري خطير قلب الوضع، ذلك هو هجوم الرومان فجأة في أيام "بومبيوس" على دمشق وسورية هجوم قائدهم "سكورس" على "يهوذا" وتدخله في هذا النزاع.

(1/1357)


--------------------------------------------------------------------------------

لقد كان تقدم الرومان هنا في بلاد الشام تهديدا صريحا لليهود وللنبط.، أدى بعد قرون إلى الاستيلاء التام على كل فلسطين والأردن وإلحاقهما بالمستعمرات الرومانية. وقد كانت فاتحة ذلك تدخل الرومان في شؤون يهوذا، وتوجيه انذار. إلى "الحارث" بوجوب فك الحصار عن "القدس" والتراجع عن بهوذا مع جميع جيشه فورا إن أراد أن تكون علاقاته ب "رومة" حسنة، والا عد عدوا لها ومشاكسا. وقد أدرك "الحارث" إن جيشه لا يستطيع الوقوف أمام جيوش الرومان المدربة المنظمة المسلحة تسليحا جيدا حديثا بالنسبة إلى أسلحة النبط. ففك الحصار، وتراجع ومعه "هركانوس"، فاغتنم "أرسطوبولس الفرصة، وكان قد اكتسب ثقة "سكوروس" قائد الرومان، وتعقب المتراجين في طريقهم إلى "ربت - عمان" "فيلادلفيا" "عمان"، فالتحم بهم في معركة عند موضع اسمه "بابيرون" "Papyron "، فانتصر على "الحازث" وقتل ستة آلاف من أتباعه.
وتعقدت الأمور ثانية بين الرومان والنبط، وهدد "سكوروس" النبط بالزحف عليهم وتخريب بلادهم، وقرر الحارث في بادىء الأمر تحديه، ثم وجد إن من المستحيل عليه الثبات له، وتوسط "انتيباتر" فيما بينه وبين "سكوروس" بأن يدفع الحارث جعالة للرومان، وتصالح، بذلك معهم. وقد سر "بومببيوس" من. هذه النتيجة حتى انه أمر بوضع صورة "الحارث" في موكب نصره، كما سر "سكوروس" بذلك اذ أمر بضرب نقد، صوز الحارث علية وقد أحنى رأسه راكعا وحاملا سعفة تعبيرا عن استسلامه له.
لقد وقع كل ذلك في حوالي السنة "62" قبل الميلاد، السنة التي هلك فيها هذا الملك، وذهبت بوفاته معه كل آماله وأحلامه في أن يكون وريث مملكة السلوقيين في بلاد الشام. ولعل النكسة التي وقعت له قد أثرت فيه فعجلت منيته.

(1/1358)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ورد اسم "الحارث" في كتابة عثرعليها في القسم المعروف ب "المدراس" "المدرس" "Elmadras" من "بطرا". و "المدراس" معبد خصص بعبادة الإله "ذوالشرى" "Duschara" إله النبط الكبير. وقد دونها أحد قواد الملك في السنة السادسة عشرة أو السابعة عشرة من حكم "حرتت" "Haritat" في مناسبة تقربه إلى الإله "ذو الشرى" بصنم لخيره ولخير. ملكه.
وحكم بعد "الحارث الثالث" ابنه الملك "عبادة الثاني"،حكم من سنة "62" حتى سنة "47" قبل الميلاد، أو من سنة "62 "حتى سنة"0 6" على رأي آخر. ولا نكاد نعرف من أمره شيئا يذكر. وقد عثر على نقد من الفضة ضرب بامره وهو من فئة ال "دراخما" "Dirakhma"، ضرب في السنة الثانية أو الثالثة من سني حكمه. وقد صور عليه وجه الملك حليقا، وشعر راسه قصيرا. ويظهر من رواية أوردها المؤرخ "يوسفو س"0 أن القائد " A.Gabinius"، انتصر على النبط في إحدى المعارك، وأن النبط قد هزموا هزيمة منكرة. ولم يذكر اسم الملك الذي انتصر عليه هذا القائد. وإذا أخذنا برواية من يجعل هذا الانتصار في السنة "55" قبل الميلاد، فمعنى هذا أن الملك المغلوب هو "عبادة الثاني" على رأي من يرى أنه حكم من سنة "62" حتى سنة "47" قبل الميلاد، أو في أيام "مالك الأول" على رأي من يجعل ابتداء حكم هذا الملك من سنة "65" قبل الميلاد.
وحكم الملك "مالك" "Malichus"="Malchus" المعروف ب "الأول" بعد "عبادة الثاني"، وهو ابنه، من سنة "47" حتى سنة "30" على رأي. ومن سنة "50" أو حوالي السنة "47" حتى سنة "30" قبل الميلاد على رأي آخر وذهب بعض المؤرخين الى أى أن "مالكا" كان قد حكم بعد "الحارث الثالث"، وأن حكمه كان فيما بين السنة "62" والسنة "35" قبل الميلاد.

(1/1359)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد انجد النبط في أيام ملكهم "ملكوس" "مالكوس" "Malichus"، أي "مالك الأول"، "يوليوس قيصر" "Juluis Caesar" سنة "47" أو "48." قبل الميلاد في حصاره لمدينة الاسكندرية، فامده بقوة من جيشه كما ساعده أيضأ عدد من سادات القبائل توسط في ارسالهم إليه "أنتيباطر" "Antipater"، لعلهم من سادات قبائل طور سيناء.
وكان "انتيباتر" قد تزوج امرأة عربية من أسرة كبيرة معروفة، نجلت له أربعة أولاد وبنتا، وتمكن بهذا الزواج من تكوين صداقة متينة مع ملك العرب "النبط" كما يقول ذلك "يوسفوس". ولما وقعت الحرب بينه وبين "ارسطوبولس" "Aristobulus"، أرسل أولاده إلى جدهم ملك العرب ليكونوا في مأمن هناك. وكان "لبطرا" أثر مهم في الخصومات الشخصية التي وقعت في مملكة "يهوذا" ايام ا الملك "هركانوس بن اسكندر"، هذه الخصومات التي أدت إلى تدخل "الفرث" " Parthians" من جهة، والى تدخل الرومان من جهة أخرى في شؤون مملكة يهوذا، ولكل دولة مصلحة في هذا الجزء المهم من الشرق الأدنى ومطمع. وللدولتين أنصار وأعوان، وطامعون في الملك يريدون المساعدة والمعونة للحصول على العرش. والطامعون في العرش والراغبون في الفن والخصومات في "يهوذا" كثيرون. فلما بلغت جيوش، الفرث حدود "القدس"، بتحريض من "اطيغونس" ابن أخ "هركا نوس"، أسرع "هيرودوس" "Herodus" ابن القتيل "انتيباتر" الذي كان الحاكم الحقيقي في "يهوذا"، وصاحب النفوذ في المملكة، وصاحب الحظوة عند الرومان، فهرب إلى النبط، إلى ملكهم "مالك" "Malchus" في عاصة "بطرا"، يلتمس منه العون والمساعدة والمال على، سبيل الهبة أو الدين لما كان لوالده القتيل من صداقة به، ليرشو به من ينقذ حياة أخيه. فلما كان في طريقه إلى بطرا وصلت رسل الملك تخبره أن الملك لن يتمكن من مقابلته، وذلك بناء على طلب ورجاء تقدم به الفرث إليه، واتصل عندئذ بسادات قبائل عربية.كانت لهم صلات وصداقة بوالده، فلما رأى ذلك آثرالذهاب إلى مصر

(1/1360)


--------------------------------------------------------------------------------

ومنها إلى ايطالية كان له فيها أصدقاء ليساعدوه في الإنتقام من قتلة أبيه. والى هذا الملك أي ملك النبط "مالك" هرب "يوسف" "Joseph" شقيق "هيرودس" مع مئتي رجل من رجاله، غلى أثر هجوم "انطيغونس"، وحينما بلغه تغير رأيه.بالنسبة الى "هيردوس" أخيه.
وعاد "هيرودس" من "رومة" ملكا، لقد تفضل "اغسطس" و "أنطونيوس" ومشايخ الرومان عليه فنصبوه ملكأ على اليهود، على مملكة يعين ملوكها الرومان أو الفرث. عاد بفضل الرومان، فصار بالطبع آلة في أيدي سادة "رومة". ولما نشبت الحرب بين "انطو نيوس" و "أوكتافيوس" سنة "32" قبل الميلاد، انضم إلى حزب"انطونيوس" صاحب الفضل عليه. أما واجبه الذي كلفه، فقد كان محاربة النبط، الذين رفضوا دفع الجزية للرومان، وأبوا الخضوع لهم، والذين أيدوا الفرث. ولما تمكن القائدء "فنتديوس باسوس" "Ventidus Bassus" من ضرب الفرث ومن انزال هزيمة بهم، أصاب الضرر الملك "مالك" حليف "الفرث" فانتزعت منه بعض أملاكه. لذلك فرح "هيرودس" بهذا التكليف، وشجعته على ذلك "كليوبطرة" ملكة مصر وصاحبة "انطونيوس"، التي طلبت منه الاسراع في محاربة "ملك العرب" الذي أبى دقع الجزية لها، وكانت تكره "هيرودس" وتريد هلاكه إن أمكن، فأرادت بعملها هذا أن تقضي عليه، أو أن تضعف من مركزه ومن مركز ملك العرب، بمحاربتهما بعضهما بعضا فتتمكن من الملكين فيخضعان لها وتكون سيدة "العربية". وبادر "هيرودس" بمحاربة النبط، فالتقى بهم عند "اللد" "Diospolis" وانتصر عليهم، ثم التحم بهم في "قنا" ""Cana" "قنوات" "Canatha" في البقاع " Coele Syria" وكاد يتغلب عليهم لولا هجوم "أثنياوس" "Athiniaus" فتغيرت الحال وهاجمه النبط أيضا فسقط عدد كبير من جيشه في ساحات القتال وأسروا من فر منهم إلى " Ormiza" فاضطر عندئذ إلى الرجوع إلى "القدس" وفي القدس أخذ "هيرودس" يحرض قومه على الانتقام من العرب، والأخذ بالثأر، ولا سيما بعد هجوم العرب على مملكته

(1/1361)


--------------------------------------------------------------------------------

ومباغتة مدنه. فنشبت سلسلة من الحروب كلفت اليهود والعرب خسائر كييرة، اذ طالت الحروب، ولم تنته الا بعد مشقة. ويدعي المؤرخ "يوسفوس" إن النصر كان في الخاتمة في جانب اليهود. فقد جمع "هيرودس" كل قواته وأعاد تنظيمها، ثم عبر الأردن. ولما بلغ "عمان" "Philadelphia" التحم بالنبط، نأنزل بهم خسائر كبيرة. إذ سقط منهم خمسة آلاف قتيل، واستسلم منهم أربعة آلاف رجل كانوا قد تحصنوا في معسكر حصين،ولكن أجبرهم العطش في الأخير على الاستسلام. كما قتل سبعة آلاف آخرون كانوا حاولوا الفرار من الحصار، فتعقبهم اليهود وقتلوهم. واضطر النبط عندئد إلى دفع الجزية إلى "هيرودس"، وعقدوا صلحا معه، ولم تخالفه العرب بعد ذلك.
يقول "يوسفوس": إن العرب كانوا يكرهون "هيرودس" وحاولوا الثورة عليه والانتقام منه حتى بعد عقد هذا الصلح. وقد كان في جملة من دقع الجزية إليه العرب الساكنون في "حوران" "Aurantitis"، بحكم تبرع القيصر "اغسطس" بأرضهم له،إلا أنهم كانوا يدقعون الجزية إليه أحيانا، وكانوا يمتنعون من دفعها أحيانا، أخرى، ويحاولون التخلص منه. ولم تكن قوة "هيرودس" في الحقيقة هي التي جعلت هؤلاء الأعراب يقبلون بمصالحة اليهود أو دفع الجزية. لهم، إنما كانت قوة الرومان الني تسخرها أيد إدارية قوية تحسن التوجيه للبطش في القبائل المتعادية وفي سادات القبائل المتنافسين على الزعامة المتباغضين، وفي العساكرالمسخرين للذين أكرهوا على القتال، ولم يكن لديهم علم بأسلوب القتال ولا بكيفية استخدام الأسلحة، ولا عزم على الوقوف في وجه الخصم، وليس لهم ضباط وقادة مجربون محنكون، لهم هدف وطني وخبرة بأساليب القتال، ولم يكونوا يرون في الفرار ما لا يتفق مع واجبهم العسكري.

(1/1362)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا ندري متى كانت نهاية الملك "مالك" بعد هذه الخسائر التي حلت بالنبط. والظاهر انه لم ذهب "هيرودس" إلى "رومة" ليرفع شكايته عن ابنه " اسكندر" إلى القيصهر، والتماسه من القيصر شمول ابنه الاخر "انتيباتر" بالعطف والحماية، انتهز أهل اللجاة "Trachonites" فرصة غيابه فأعلنوا الثورة وهاجموا الحدود، وعادوا إلى الغزو، وكان "هيرودس" قد منعهم منه، وضرب على أيدهم بشدة، فلما تعقبهم وكلاء "هيرودس" وقتلوا خلقا منهم، هرب عدد من رؤسانهم إلى النبط واحتموا بهم ولما عاد "هيرودس" أراد الانتقام منهم، فطلب الاذن من حكام سورية الرومان بتأديبهم والموافقة على ارسال قواته إلى المقاطعة لمقاتلتهم. ورجا من "عبادة" ومن وزيره "صالح" اجلاء رؤساء أهل "اللجاة" عن أرض النبط وعدم حمايتهم. فلما رفضا ذلك، طلب من "صالح" اعادة المال الذي اقترضه منه "عبادة" بوساطته. ولما لم تثمر المفاوضات شيئا، هجمت قوات "هيرودس" على المناطق التي التجأ اليها الهاربون من أهل "اللجاة"، فاستولت على " Raipta" معقلهم وهدمته. فلما سمع النبط بذلك، بادرت جماعة منهم برئاسة قائد يدعى " Nacebus" لمساعدتهم، فاصطدمت بجنود "هيرودس" وسقط " Nacebus" ". مع زهاء عشرين رجلا" من أتباعه قتلى في هذه المعركة. ثم أمر "هيرودس" بإسكان الأدوميين في "اللجاة"، وكتب بذلك إلى حاكم "فينيقية" يبين له الأسباب التي حملته على ارسال هذه الحملة على "التراخونيين" أهل اللجاة. ويدعي "يوسفوس" أن "Syllaeus" استغل فرصة وجوده في "رومة" وذهب إلى القيصر شاكيا من العمل الذي قام به "هيرودس" ووشى به كثيرا، فغضب عليه "أغسطس". غير إن القيصر بدل رأيه في "صالح" حين اطلع على الخبر الصحيح، ولما بلغته أخبار وفاة الملك "عبادة" وانتقال العرش إلى " Aeneas" الذي غير اسمه حينما تولى الملك ودعا نفسه "Aretas" على عادة أكثر ملوك النبسط دون أن يكتب ملك النبط إليه ويخبره بالحدث، فغضب على "صالح"

(1/1363)


--------------------------------------------------------------------------------

وأمر بمعاقبته. ويدعي "يوسفوس" إن الملك الجديد كان مبغضا ل "صالح"، لأنه كان يعتقد انه كان نفسه يطمع في الملك لما كان له من نفوذ ومال، وانه كتب إلى "أغسطس" يخبره بأنه سم "عبادة" الملك السابق، وانه ققتل عددا من أشراف المملكة في "بطرا"، من بينهم "Sohemus" السيد النببل، الذي يحترمه قومه ويجلونه،وانه قتل " Fabatus" خادم "أغسطس" وفعل أمورا أخرى منكرة تستوجب العقاب.
أما " Nacebus" الذي قتل في معركة "Raipta"،وهو في موضع في العربية، فكان صديقا ل" Syllaeus" ومن أبناء عشيرته. ويخيل إلي أن كلمة " Nacebus" ليست علما لقائد الحملة، وإنما هي درجة ومنزلة، وأن معناها "نقيب"، وهي درجة من درجات الجيش، ولكني لا استبعد كونها إسما حرف في اليونانية حتى صار على الشكل المذكور، وأن الأصل هو "نقيب" أو "نسيب" أو "نجيب" أو ما شاكل ذلك من اسماء. وأما " Sohemus"، فهو اسم علم قد يكون "سخيما" أو "سحيما" أو ! سهيما"، وكلها أسماء معروفة في الجاهلية.
وقد الشار "موسل" إلى رواية ذكرها "أورانيوس" "Uranius" و"اصطيفان البيزنطي" عن تأسيس مدينة " Auara" في أيام الملك "عبادة"، خلاصتها أن "حارثة" "Aretas" ابن الملك حلم أن والده سينشىء مدينة، وأن هذه المدينة هي "Auara" من كلمة "حوراء" أي "البيضاء". فلما قص "حارثة" حلمه على والده، اخذ يفتش عن موضع أبيض ينشىء عليه المدينة، وبينما كان يفتش عن هذا الموضع تراءى له شبح رجل أبيض على جمل أبيض استخفى فجأة. فلما دنا من مكان الشبح، وجد بقايا شجرة ذات عروق ممتدة، فامر أن يكون موضع "حوراء" "Auara".
ويرى "موسل" إن هذه المدينة هي "الحميمة"، وهي أيضا " Auara" التي ذكرها "بطلميوس" وتقع في "العربية الحجرية" "Arabia Petraea" على الطريق بن "أيلة" و "بطرا"، وأن الملك المقصود هو "عبادة الأول". وأما الوقت، فكان في حوالي سنة "93" قبل الميلاد. وقد ذكرت أنه حكم على

(1/1364)


--------------------------------------------------------------------------------

رأي أكثر الباحثين حوالي سنة "95" قبل الميلاد. وأرى أن "Obadus" الني ذكر "أورانيوس" و "اصطيفانوس البيزنطي" أنه كان صاحب ولد اسمه "حارثة" "Areta"، هو "عبادة" الثالث، فقد كان صاحب ولد اسمه "حارثة" وهو المعروف عندنا ب "Aretas" الرابع. أما "عبادة"، فالذي خلفه هو "رب ايل"، لذلك يكون "عبادة" الثالث الذي نتحدث عنه أكثر ملاءمة لرواية المؤرخين من "عبادة الأول".
وحكم بعد "عبادة الثالث" الملك "الحارث" "حرتت" "Aretas" المعروف ب "الرابع" والملقب ب "راحم عمه" Philopatris" وب "ملك النبط". وقد حكم من حوالي سنة "9" قبل الميلاد حتى حوالي سنة "40" بعد الميلاد. وورد اسمه في عدد من الكتابات، منها النصوص المرقة ب "CIS 11,160" و "CIS II,354" "CIS II,197-217"0أما الكتابة الموسومة ب "CIS 11,160" فقد ارخت بالعام الخامس من حكمه، أي سنة "4" قبل الميلاد، وقد ورد فيها اسم الإله "دوشرا" أي "ذو الشرى".
وأما النص الموسوم ب "CIS 11,197" فأرخ بشهر نيسان من السنة التاسعة من حكم "حرتت" "الحارث"، "بيرح نيسن ششت تشع لحرثت ملك نبطو"، أي في السنة الأولى للميلاد، وورد فيه أسماء الآلهة: "دو شرا" "ذو الشرى"، و "منوتو" "مناة" "Manutu" و "قيشح". وقد ذكرت في هذا النص بعد جملة: "لحرثت ملك نبطو....." جملة "رحم عمه"، أي "محب شعبه"، وهي من النعوت التي ظهرت في الكتابات في هذا العهد.
وأرخ بأيام صاحبنا "حرثت" "الحارث" النص المعروف ب "CIS 11,198" وهو أيضا من النصوص التي عثرعليها في "الحجر". ويعود عهده إلى شهر "طبت" من السنة التاسعة من حكم هذا الملك، أي إلى السنة الأولى للميلاد. وقد وردت فيه بعض الأسماء، مثل "كمكم" "كمكام" و ! ودلت" و "ودلات" و "حرم" "حرا م" و "كلبت" "كلبة" "كليبت" "كليبة" و "وهب اللات" و "عبد عبادة !. وأسماء الآلهة: "دوشرا" و "هبلو" و "هبل" و "منوتو" "شا ة" و "اللت" "اللات".

(1/1365)


--------------------------------------------------------------------------------

أما النص " CIS11,199"، فقد كتب في شهر "شباط" من السنة الثالثة عشرة من سني حكم "الحارث" "حرثت" وهي السنة الرابعة بعد الميلاد. وقد أرخت بقية النصوص من "CIS11,200" حتى "CIS11,217" بسني "الحارث" كذلك، وهي تفيد مثل غيرها فائدة كبيرة من حيث تتبع تأريخ الأسماء، فوردت فيها أسماء كثيرة مثل "كهلن" "كهلان" و "وعلن" "وعلان" و"سعد الله" و "مر ت" "مرة" و "سكينت" "سكينه "" و "حميد" و "حوشب" و "خلف" و "قين" و "جلهمة" و "تيم الله" و "عميرت "عميرة" و "وهب" وأمثالها مما كان شائعا معروفا عند العرب قبل الإسلام.
وذكرت في الكتابة "CIS 11,354" مع اسم "الحارث" أسماء "شقيلت" "شقيلة" ملكة النبط و "مالك" و "عبادت" "عبادة" و "رب ال" "رب ايل". وقد دونت في السنة التاسعة والعشرين من حكم الملك، وهي سنة عشرين بعد الميلاد، وذلك عند صنع صنم يوضع في معبد "بطمون". ويلاحظ إن معظم المقابر الكبيرة التي عثر عليها في "الحجر" هي من السنين الاخيرة من حكم "ا لحا رث".
إلى هذا الملك يرجع النصى الموسوم ب "REP.EPIC.54" ويرجع تأريخه إلى السنة الثالثة والأربعين من حكم "الحارث"، وقد دعي فيه ب "محب شعبه" "رحم عمه" "رحبم عمه" كما ذكر فيه اسم زوجته "شقيلة". وكذلك النص الموسوم ب "REP. EPIG.1103" المكتوب في سنة "40" من حكم "الحارث"، أي سنة "31" للميلاد، وهو من النصوص التي عثر عليها في "مدائن صالح".
وأرخ بحكم هذا الملك النص " REP.EPIG.674"، وهو شاهد قبر من مدينة "مأدبا" يرجع تأريخه إلى سنة "37" بعد الميلاد.

(1/1366)


--------------------------------------------------------------------------------

و "الحارث" "Aretas" الذي أمد القائد الروماني "واروس" "فاروس" "Varus" بقوة من المشاة والفرسان حين زحف على "يهوذا"، هو "الحارث" الرابع الذي نتحدث عنه، فعل ذلك كما يقول "يوسفوس" انتقاما من "هرودس" وتقربا إلى الرومان. وبعد لن استولى "فاروس" على مدن عدة وهو ذاهب إلى القدس، منها مدينة "عكا" "Ptolemais" "Acco"، اتجه نحو "الجليل" "Galilee" ثم السامرة فالقدس. أما القوات العربية، فقد سارت إلى مدينة "Arus" فأحرقتها ثم سارت إلى مدينة "Sampho" وهي مدينة محصنة جدا فاستولت عليها وأحرقتها، واستولت على أماكن أخرى. حدث ذلك حوالي سنة "4" قبل ا لميلاد.
واصطدم النبط باليهود في أيام القيصر "طيياريوس" و "هيرودس" ملك "يهوذا" المعروف ب "هيرود انتيباس" "Herodes Antipas"، وذلك في سنة "36" بعد الميلاد، بسبب زواج "هيرودس" من زوج أخيه على زوجه الأولى، وهي ابنة "الحارث" "حرثت". وبسبب اختلافهما على حدود منطقة " Gamalites"، فجرت حروب بين الطرفين انتهت بانتصار "الحارث" على خصمه انتصارا كبيرا في "جلعاد" "Gilead" وبتشتيت شمل جيوشه، فاستنجد "هيرودس" بسيده وحاميه القيصر "طيباريوس"، فغضب القيصر وكتب إلى عامله على سورية "فيتليوس" "Vitellius" ان يسير فورا بجيشه لمحاربة "الحارث" والقبض عليه حيا وارساله مكبلا بالسلاسل إلى "رومة" أو ارسال رأسه إليه إن قتل. وبينما كان العامل يهم بالزحف على مملكة النبط وتنفيذ أمر القيصر، جاءته الأخبار بوفاة "طيباريوس" سنة "37 " بعد الميلاد فتوقف عن الحرب، وقرر الرجوع إلى مكانه. وساء موقف "هيرودس" ثم نحاه الرومان عن عرشه ونفوه إلى "اسبانية"، حيث مات هناك.

(1/1367)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من رسالة "بولس" الرسول الثانية إلى أهل "كورنتوس" إن "دمشق" كانت في أيدي ملك اسمه "الحارث"، وانه هم بالقبض عليه، غير انه هرب ونجا منه. قال: "في دمشق والى الحارث الملك كان يحرس مدينة الدمشقيين يريد أن يمسكن، فتدليت، من طاقة في زنبيل من السور ونجوت من يديه". ونرى "بولس الرسول" أيضا في رسالته إلى أهل "غلاطية" وفي حديثه عن نفسه وعن كيفية اهتدائه إلى ديانة المسيح، يقول: "ولا صعدت إلى اورشايم الى الرسل الذين قبلي، بل انطلقت إلى العربية، ثم رجعت أيضا إلى دمشق. ثم بعد ثلاث سنين صعدت إلى اورشليم لأتعرف ببطرس فمكثت عنده خمسة عشر يوما". فهو يذكر هنا العربية وبعدها دمشق فهل أراد بالعربية البادية ? أو أرادعربية النبط، وانه من عربية النبط أو البادية عاد إلى دمشق ?.
والرأي الراجح بين علماء العهد الجديد، هو أن "الحارث" الذي قصده "بولس الرسول" هو هذا "الحارث"، أي "الحارث" الرابع، وأما الوقت الذي استولى فيه "الحارث" على دمشق، فقد كان في حوالي سنة "37" بعد الميلاد، وذلك على أثر الحرب التي شنها على "هيرود انتيباس"، وتدخل "طيباريوس" في الموضوع. ويظهر إن تدخل الرومان هذا أثار غضب "الحارث" عليهم، فسار بعد انتصاره على "يهوذا" إلى "دمشق" فاستولى عليها وأعادها بذلك مدة لانعلم طولها إلى مملكة النبظ. ويتخذ هؤلاء من وجود فجوة في النقود الرومانية الدمشقية، تبدأ بسنة "34" بعد الميلاد وتنتهي بسنة "2 6 - 63" بعد الميلاد دليلا على صحة نظريتهم في أن المدينة تحررت في خلال هذه الفجوة ضمن حكم الرومان ودخلت في حكم النبط، ولهذا السبب حدثت هذه الفترة في ضرب النقود الرومانية في الشام.
وفي أيام هذا الملك دو نت الكتابة المعروفة ب "REP.EPIG.1108"، وهي من الكتابات المدو نة في "الحجر" "Hegra"، أي "مدائن صالح"، دونت في السنة "38". للميلاد.وفي جملة الأسماء المذكورة في هذا النص امسم "عبدعدلون" أي "عبد عدنان".

(1/1368)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عثرعلى كتابة قبرية مؤرخة بالتقوم السلوقي من سنة "4 - ه" قبل الميلاد، وهي أيام حكم "الحارث" الرابع، صاحبها رجل اسمه "قصي بن تعجلة"، ولم يشر في الكتابة إلى حكم ملك النبط الذي في أيامه دونت هذه الكتابة. ويرى "ليتمان" أن الذي حمل "قصي" على إغفال الاشارة إلى اسم الملك هو أن القيصر "أغسطس" كان قد فو ض أمر" Trachonitis" و "Batanaea" "Auranitis" في عام "23" قبل الميلاد إلى ملك "يهوذا" "هيرودس" "Herodes"، وقد كان صاحب الكتابة من سكان هذه الأرضين، فلم يؤرخ بسني حكم ملك النبط الذي في أيامه أنشأ ذلك القبر.
لقد كان الحارث الرابع من المتأثرين بالثقافة الهيلينية وبالحياة الهيلينية. ويظهر هذا الأثر في المباني العامة التي أقيمت في أيامه وفي الكتابات اليونانية من عهده. ولا يستبعد أن يكون قد أتقن اللغة اليونانية وأخذ يتكلم بها مع اللسان الإرمي والنبطي، إذ كانت تلك اللغة هي لغة القوة والثقافة في تلك الأيام.

(1/1369)


--------------------------------------------------------------------------------

وحكم بعد "الحارث الرابع" ابنه الملك "ملكو" "مالك" المعروف بالثاني، وذلك من سنة "40 " حتى سنة "71".أو "75" بعد الميلاد. ويظهر أن النص المعروف ب "CIS11.195" لصاحبه "عبد ملكو بن عبيشو"، أي "عبد الملك ابن عبيش" والمؤرخ بالسنة الأولى من حكم "ملكؤ" "مالك"، قصد ب "ملكو" "مالك الثاني" هذا، ويرجع تأريخه إلى سنة "41" بعد الميلاد. أما ناشر النص في " CIS11"، فقد ذهب إلى أنه "مالك الثالث" وانه كتب في حوالي سنة "39" بعد الميلاد. ومعنى هذا إن "مالك الثالث" حكم في سنة"38" بعد الميلاد، وهو وهم. وقد عثرعلى هذا النص في موضع "أم الرصاص". وفي السنة الأولى من. حكم "ملكو" "مالك" دو نت الكتابة الموسومة ب "CIS11,218". وقد ذكر ناشرها إن "ملكو" المقصود هو "ملكو" الثالث، وأن تأريخها يرجع إلى سنة "39" بعد الميلاد، وهو وهم. وأما النص "CIS11,182"، فقد أرخ كذلك بأيام "ملكو"، أرخ بشهر "اب" "آب" من السنة السابعة عشرة من حكم "ملكو ملك نبطو برحرثت"، أي من حكم الملك "مالك النبط بن حارثة". ويصادف هذا التأريخ عام "57" بعد الميلاد. أما ناشر النص، فقد جعله أيضا "ملكو" "مالك"، وجعل تأريخ التدوين في حوالي سنة "50" بعد الميلاد. وهو يناقض ما ذهب إليه كثير من الباحثنن من إن حكم الملك "مالك الثاني" كان من سنة "40" حتى سنة "71" بعدالميلاد. ثم إن ما ذهب إليه ناشر النص من أن تأريخه يوافق سنة "50" بعد الميلاد، هو وهم أيضا، اذ يجب أن يكون سنة "57" للميلاد، لأن ابتداء حكم هذا الملك كان سنة "40". ولما كان النص قد أرخ بالسنة السابعة عشرة من حكمه تكون السنة إذن مسنة " 57" للميلاد.
لقد انتزعت "دمشق" من حكم "مالك الثاني"، في زمن لا نعرفه، إلا أن الأرضين في شرقها وفي جنوب شرقيها بقيت جزءا من مملكة النبط.

(1/1370)

admin
12-27-2010, 01:13 AM
وانتقل الحكم الى "رب ال "رب ايل" "ربئيل" الثاني المعروف "سوتر" "سوطر" "Soter" بعد وفاة "ملكو" "مالك" الثاني. وقد حكم من حوالي سنة "70" حتى سنة "106" بعد الميلاد على رأي،ومن سنة "75"حتى سنة "101" على رأي آخر، أو شئيا آخر قريبا من ذلك أو بعيدا بعدا قليلا، بحسب تعدد أنظار الباحثيبن، لعدم وجود تقاويم ثابتة لدينا أو كتابات تنص على تواريخ حكم كل ملك من هؤلاء الملوك.
والى عهد هذا الملك تعود الكتابة المعروفة ب "CIS11,183" المؤرخة في السنة الخامسة والعشرين من سني حكم "رب ال" "رب ايل". وصاحبها رجل اسمه "قصي بن ادينت"، أي "قصي بن أذينة ". وتكون سنة تدوين هذه الكتاية اذن في سنة "95" أو " 100" بعد الميلاد. أما الكتابة " CIS11,161"، فتعود إلى أيامه كذلك، وقد دونت في شهر "أيار" من السنة الرابعة والعشرين من حكم "رب ايل"، وقد دون مع التأريخ النبطي ما يقابل بالتقويم المستعمل عند الرومان آنئذ وهو سنة "405".
والتقويم الروماني هو تقويم السلوقيين. وتقابل هذه السنة سنة "94" للميلاد ويكون مبدأ حكم "رب ايل" اذن في سنة "381" من التقويم السلوقي، أي سنة "70" بعد الميلاد. ووردت في هذه الكتابة بعض الأسماء، مثل: "هنى" "ها نىء" و "جد لت" "جد لة" و "بجرت" "بجرة" "بجير ة" و "ادرم" و "عبد الملك"، وهي من الأسماء المعروفة أيضا عند عرب الحجاز ونجده.

(1/1371)


--------------------------------------------------------------------------------

والى عهد الملك "رب ايل" الثاني تعود كذلك الكتابة التي دو نها "منعت بن جديو" "منعة بن جدي" "ببصرابشنت 23 لرب ايل ملكا ملك نبطو"، اي بمدينة "بصرى"، وذلك في السنة الثالثة والعشرين لحكم "رب ايل" ملك النبط. وقد دونت هذه الكتابة بمناسبة تقرب صاحبها إلى الإله "دوشرى واعرى" بتقديمه مذبحا إلى معبده في مدينة "بصرى". ويكون تأريخ تدوين هذه الكتابة سنة "3 9" للميلاد. وكذلك الكتابة القبرية المؤرخة بالسنة الثالثة والعشرين من حكم "رب ايل"، أي في سنة "93" للميلاد. ولدينا كتابة أخرى سجلت في أيام هذا الملك صاحبها رجل اسمه "عذرو برجشمو"، أي "عاذر بن جشم" "عذره بن جشم" "عذير بن جشم" "عذر بن جشم"، ورد فيها اسم الإله "شيع القوم" دو نها في السنة السادسة والعشرين من حكم الملك، أي في حوالي سنة "96" بعد الميلاد.
وترينا الكتابة الموسومة ب "REP.EPIG.1434" أن للملك شقيقين هما:
"جميلت" أي "جميلة" و "هجرو" أي "هاجر"،وقد نعتتا فيها ب "ملكتي النبط". ويظهر إن هنالك شقيقة ثالثة اسمها "فصائل"، وربما كانت له شقيقة رابعة سقط اسمها من النص.
وقد ذكرت "شقيلت" "شقيلة" أم الملك "رب ايل" الثاني مع ابنها في نقد، وذلك في أثناء عهد وصايتها عليه حين انتقل العرش إليه، وكان على ما يظهر صغيرا. وكان للملك شقيق ساعدها في تحمل أعباء الحكم اسمه "انيشو" "Oneishu" لعله "أنيس". ولما تزو ج "رب ايل" من زوجه "جميلت" "جميلة" "Gamilath" أمر بضرب اسمها مع اسمه على النقود.
وقد ذكر بعض الباحثين ان بعض ملوك النبط ولا سيما المتأخرين منهم، أقاموا في أكثراوقاتهم في "بصرى" "Bostra"، مما أدئ إلى اضعاف شأن عاصمتهم القديمة "بترا" والى اضعاف ادارة أمور النبط.

(1/1372)


--------------------------------------------------------------------------------

وآخر ملك نعرفه من ملوك النبط، هو الملك "ملكو" "مالك" الثالث،الذي حكم من سنة " 101"حتى سنة"106" بعد الميلاد على بعض الآراء. وفي أيامه قضى "تراجان" في سنة "6. ا" بعد الميلاد على استقلال هذه المملكة وجعلها تحت حكم حاكم "سورية" "كورنليوس. بالما" "Cornelius Palma" "98 - 117 م"، وأطلق عليها اسم "الكورة العربية" " Provincia Arabia". وقد نقل مقر الحكم من "بترا" إلى "بصرى"، فتضاءل بذلك شأن العاصمة القديمة فلما كان القرن الثالث للميلاد، صارت "بترا" مجرد موضع قليل الشأن.
لقد قضى الرومان على استقلال النبط في العربية الحجرية، فأضافوا بلادهم إلى جملة الأرضين التي استولوا عليها. وخسر النبط ملكهم ودولتهم،ثم خسروا أرضهم فيما بعد. واضطرهم ضغط القبائل العربية الأخرى عليها إلى الرحيل إلى أماكن أخرى، والهجرة إلى مواطن جديدة طلبا للرزق.كما هاجر من قبلهم سكان الأرضين التي استولى النبط عليها في أيام عزهم وملكهم واندمج أكثرهم في القبائل الجديدة الفتية التي سادت على أرض النبط، وتسموا باسمهم وانتسبوا اليهم حتى نسوا اصلهم القديم فزال النبط بزوال دولتهم، وبقي اسمهم، وبعض رسومهم التي يعود الفضل في إحيائها إلى المستشرقين.

(1/1373)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد بقي النبط يمارسون التجارة وقيادة القوافل حتى بعد فتح الرومان لبلادهم كما يتبين من بعض الكتابات النبطية المؤرخة التي عثر عليها في "طور سيناء" وفي مصر. ومنها كتابة مؤرخة بسنة " 160" من تقويم " بصرى" المقابلة لسنة "266" بعد الميلاد. وقد تبين إن أكثر الكتابات التي عثر عليها في الأماكن المذكورة وفي أماكن أخرى هي كتابات وجدها العلماء والباحثون والسياح على الطرق القديمة الموصلة إلى جزيرة العرب أو البحر الأحمر، وفي وجودها في هذه الأماكن دلالة على أن أصحابها كانوا أصحاب تجارة يتجرون بين مصر وجزيرة العرب وموانى ساحل البحر الأحمرولاسيما ساحل النبطالمقابل لبر مصر. ويظن جماعة من المستشرقين ان عرب "الحويطات" الساكنين في منطقة "حسمى" في الأقسام الشمالية من الحجاز، في المنطقة التي كانت تسكنها "جذام"، هم من بقايا النبط وتنسب "الحويطات" إلى جد أعلى لهم اسمه "حويط"، وهو على زعمهم من أهل مصر، جاء بيت الله الحرام حاجا فمات في "العقبة" ودفن في "حسمى". وهم عشائر يتراوح عددها من عشر عشائر إلى اثنتي عشرة عشيرة تسكن في طور سيناء وفلسطين والحجاز، وتجاور قبيلتي "بلى" و "جهينة"،. وهم في الجملة ميالون إلى الحرب والغزو، ولذلك كانوا يغزون العشائر المجاورة لهم، ويأخذون الأتاوة من القرى والمدن الواقعة في مناطق نفوذهم في أيام العثمانيين. وتتألف "الحويطات" من ثلاثة بطون هي: "حويطات التهمة أ و أخويطات العلويون" "العلاوين" ويعرفون أيضا ب "حويطات ابن جاد" "حويطات ابن جازى". وتتألف "حويطات التهمة" "حويطات التهم" التي تقع منازلها على سا حل البحر الأحمر حتى "الوجه" في الجنوب، من عشائر عديدة هي: "العمران" و "العميرات" و "المساعيد" والذبابين والزماهرة والطقيقات و السليمانيين والجرافين والعبيات والمواسة والمشاهير والفرعان والجراهرة والقبيضات والفحامين. وأما"حويطات العلويون"، فتتألف من: "الصوياحين أ و

(1/1374)


--------------------------------------------------------------------------------

"المقابلة" "المحاميد" و "الخضيرات" و "السلامين" و "العزاجين". و "القدمان" و "العواجة" و "السلامات". ومن "حويطات ابن جازى" "المطالقة" "الدراوشة" و "العمامرة" و "المرايع" و "الدمانية" و "العطون" "التوايهة".
لقد عثر كل كتابات مدونة بالنبطية وعلى كتابات مدونة بثلاث لغات هي النبطية والإرمية واليونانية، بعضها من بعد ضم مملكة النبط إلى "الكورة العربية"، أي بعد سقوطها في ايدي الرومان، وقد تبين منها أن النبط بقوا أمدا يكتبون ويدو نون بلغتهم، وان كانوا يستعملون معها اليونانية أو الإرمية أو كلتا اللغتين في بعض الأحيان، كما تبين أن اليهود دو نوا بالنبطية أيضا، أولئك اليهود الذين كانوا على اتصال بالنبط، وكانت لهم صلات تجارية بهم. وقد دونوا بهذه اللغة حتى بعد سقوط دولة النبط. وقد وصلت كتابات أصحابها يهود فيها عقود بيع وشراء مع النبط، كما وصلت كتابات نجد فيها خلاصات من عقودومكاتبات دو نت باليونانية أو بالإرمية، على حين دونت الخلاصات بالنبطية وبالعكس. ولا نعرف شيئا يذكر عن أصول تنظيم الدولة وكيفيتها عند النبط. والملك بالطبع هو رئيس الدولة والشخص الوحيد الأعلى للحكومة. وهو الذى يختار من يوكل اليهم ادارة الأعمال وتسييرأمور الرعية وللملك حاشية القربة عنده، وكل اليها النظر في المسائل العليا للدولة وتقديم الاستشارة إلى الملك، ويقال للواحد منها "اخ ملكا"، أي "أخو الملك". ويظهر انها كانت طبقة خاصة من الطبقات الإرستقراطية انحصرت فيها هذه الوظائف انحصار الملكية في الأسر المالكة.

(1/1375)


--------------------------------------------------------------------------------

ومما يلاحظ على النبط إن ملوكهم كانوا ينعتون أنفسهم بنعوت لا نجدهسا في الكتابات العربية الأخرى، فجملة: "ملك رحم عمه"، أي "الملك الرحيم بشعبه"، أو "الملك المحب لشعبه" لا تجدلها مثيلا في الكتابات الأخرى من كتابات ما قبل الإسلام. لكنهم لم يتركوا الجمل التي تنعتهم أيضا ب "ملوك النبط"، اذ نجدهم يكتبون بعد اسمهم: "ملك ملك نبطو"، أي "الملك: ملك النبط".
ويلاحظ انه قد كان للمرأة منزلة رفيعة عند النبط، بدليل ما نجده في كتاباتهم وفي نقودهم من ذكر اسم الملكات مع الملوك. فقد كان من عادتهم ورسومهم ذكر الملكات مع الملوك رسميا، فقد ورد مثلا: "شقيلت أخته،ملكت نبطو". أي "شقيلة أخته، ملكة النبط". وورد: "شقيلت امه، ملكت نبطو، أي: "شقيلة أمه: ملكة النبط"، وهكذا. ونجد النقود النبطية وقد أشارت إلى اسم الملك الذي أمر بضرب ذلك النقد، كما نجد اسم زوجته أو أمه معه. وقد ضربت صورة رأس الملك ورأس الملكة معه في النقود المضروبة باليونانية. وبالرغم من ظفر العلماء بنقود نبطية ويونانية، لم يتمكنوا حتى الآن من الاتفاق على تثبيت أسماء ملوك النبط تثبيتا زمنيا، ولم يتمكنوا أيضا من تعيين سنة حكم كل واحد منهم ويظهر أن النبط كانوا مولعين بالشراب وبالخمور، ونجد لصور الكروم مكانة بارزة في فن النحت والنقش عندهم. وقد أظهروا براعة فائقة في حفرصور الكروم وعناقيدها على الألواح، كما يظهر ذلك من آثارهم التي درسها الباحثون في النبطيات.
مدن النبط

(1/1376)


--------------------------------------------------------------------------------

و "بترا" "البتراء" "بطرا " "Petra"، هي عاصمة النبط القديمة. ومعنى " PETRA" "بطرا" في العربية "الصخر" 0 أما اسمها القديم ف " ه سلع" "ها - سلع"، "SELA"="SELAH"، ويعني أيضا "الصخر" لغة الأدوميين. وهي على خمسين ميلا تقريبا إلى الجنوب من البحر الميت ولما افتتحها "أمصيا " "837 - 9 0 8 ق. م."، سماها "يقتئيل" أي "الخاضع لله". وكانت عاصمة ""أدوم". وكانت من أشهر المدن في العالم القديم، ثم صارت لمؤاب. وقد ذكرها "ياقوت الحموي" في مادة "سلع"، فقال: "وسلع أيضا حصن بوادي موسى عليه السلام بقرب بيت المقدس". وتقع آثار المدينة وبقاياها اليوم قي وادي موسى، ويسمى أيضا "وادي السيق". وقد عرف هذا الوادي بوادي موسى، لما زعم إن موسى ضرب الصخر بعصاه فشقه فجرى الماء من موضع العين إلى النهر، فسميت لذلك بعين موسىوكان السيق مبلطا، ولا تزال آثار التبليط باقية في بعض المواضع وتجاه نهاية السيق هيكل منحوت في الصخر، يسمى: "خزنة فرعون"، وداخل باب الهيكل دار، وعلى بعد "600" قدم تقريبا من هذا الهيكل بقايا آثار مسرح عظيم منحوت في الصخر يتسع لزهاء أربعة آلاف انسان.
ومن آثارها المهمة، الأثر المعروف باسم "خزنة فرعون"1، وقوس النصر وهياكل وقبور عدة، بعضها على الطراز النبطي القديم، وبعضها متأثرة بالفن المصري الآشوري أو اليوناني أو الروماني.

(1/1377)


--------------------------------------------------------------------------------

.وتشاهد في "بطرا" كتابات كهثيرة، منها ما هو مؤرخ يعود بعضها إلى ما قبل الميلاد، أكثرها كتابات نبطيه من نوع الكتابات التي توضع على القبور، وبعضها لاتينية وأخرى يونانية. ووجدت كتابة باليونانية دو نها أسقف سكن معبدا من معابد المدينة القديمة التي تعود إلى ما قبل الميلاد في حوالي سنة"447" للميلاد. كما وجدت كتابة لاتين ية على قبر بني على النمط "الروماني" صاحبها ضابط روماني اسمه "سكستيوس فلورنتينوس "SEXTIUS FLRENTINUS" لا يعلم زمانه على وجه الصحة، ويرى بعضهم انه من أيام "هدريانوس" "HADRIANUS" أو "أنطونيوس بيوس" "ANTONINUS PIUS".
وقد منحت "بطرا" درجه "COLONIA" رومانية في أيام حكم الرومان كما يظهر ذلك من بعض النقود الرومانية التي عثر عليها. ويرى بعض الباحثين ان ذلك كان في أيام حكم "ELAGABALUS""18 2 - 222 1 للميلاد. لكن هنالك من يعارض هذا الرأي من الباحثين في علم النميات.
وقد وصف "سترابو" "بطرا" "بترا" بقوله: كانث "بطرا" عاصمة النبط ومقر حكمهم ودولتهم وهي لا تبعد الا أربعة أيام عن "اريحا" "JERICHO" وخمسة ايام عن غابة النخيل بوسيديون" "POSEIDION". وهي موضع غني بالماء كثير البساتين بالنسبه الىمن يأتي إليها من البوادي القاحلة الجرد. وقدزارها "أثنودور" "ATHENODOR" صديق "سترابو"، فوصفها له،ذكر له انه وجد بها أجانب، بينهم جمع من الروم. ويظهرمن أخبار "سترابو" ان النبط كانوا قد بنوا بيوتا لهم في هذه المدينة كذلك، وقد أيدت التنقيبات التي أجريت عند مدخل المدينة هذا الرأي.
?????الحجر

(1/1378)


--------------------------------------------------------------------------------

?? ???????أما "الحجر"، فمدينة من مدن النبط للقديمة المهمة تقع على شريان التجارة في العالم القديم، وهي "EGRA"="HEGRA" التي أشار اليها "سترابو" في أثناء حديثه عن حملة "اوليوس غالوس" و "HAEGRA"="HEGRA" التي ذكرها "بلينيوس" على أنها مقر القبيلة المسماة " ليانيته" "LAENITAE". وقد ذهب بعض الباحثين إلى أنها "مدائن صالح"، وذهب بعض آخر إلى أن "مدائن صالح"، هي "العلا" لا "الحجر". وفرق بعض آ خر بين موضع مدائن صالح و "العلا". وقد ذكر "بطلميوس" المدينة ايضا، وذكرها المؤ رخ "اصطيفانوس البيزنطي" كذلك. وقدكانت من مواضع النبط المهمة، وقد عثرعلى خمس كتابات في مدائن صالح" خرج بعض الباحثين من دراستها الى أن "الحجر" هي من الأمان التي انشأها "المعينيون". وقد كان اسمها القديم "حجرا" "هجرا" او "حجرو" "هجرو"، و"ال- حجر" في الكتابات..
و "حجرو" و "ال - حجرو" هي "الحجر" في العربية. وقد ذكر هذا الموضوع في المؤلفات الغربية. وذكر "ابن حبيب" أن قوم ثمود نزلوا "الحجر". وذكرعلماء اللغة أن"الحجر" ديار ثمود ناحية الشام عند وادي القرى"، وهم قوم صالح النبي،وقد جاء ذكرالموضع في القرآن: "وقد كذب أصحاب الحجر المرسلين"، كما جاء ذكره في كتب الحديث. وقد تضاءل شأنها في الإسلام، حتى صارت قرية صغيرة في القرن العاشر للميلاد، ثم تركها أهلها، وتقع خرائبها اليوم بين "جبل اثلت" و "قصر البنت" وخط سكة حديد الحجاز، حيث تشاهد آثار حصن قديم وبعض بقايا أبراج وآثار سور، كما عثر على بقايا تيجان أعمدة قديمة وعلى مزولة شمسية، وعلى نقود يرجع عهدها إلى "الحارث الرابع". ويظهر من أسس بعض الدور أنها بنيت بالحجارة. أما الجدران، فقد بني أكثرها باللبن. وتقع خرائب "العلا" إلى الجنوب من "الحجر".

(1/1379)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عثر الباحثون على قبور من بقايا قبور الحجر القديمة، نقشت مداخلها وجدرانها بنقوش تدل على حذق ومهارة، ولا سيما المقبرة التي هي من القرن الأول للميلاد، ومن عهد الملك "الحارث الرابع". وقد تألفت من غرف نحتت في الصخور، ولبعضها دروب وطرق توصل بعضها ببعض.. وهي قبور لأسر، ومن هذه المقابر الموضع المعروف ب "قصر البنت"، وقد نحت في داخل تل، ويعد من أغنى تلك المقابر من الناحية الفنية، وله مدخل خارجي، ارتفاعه عشرون مترا. وقد زين بالزخارف والنقوش.
ويعد الموضع المعروف ب "ديوان" من الآثار القيمة الباقية من "الحجر". وقد عمل في "جبل اثلب". وهو معبد يذكرنا بمعابد "بطرا". وهو على قاعة ذات زوايا مربعة، عرضها عشرة أمتار، وعمقها اثنا عشر مترا،وارتفاعها ثمانية أمتار، ولها مدخل عرضه ثمانية أمتار و "35" سنتمترا،وارتفاعه سبعة أمتار وزهاء خمسة سنتيمترات، على كل جانب منه عمود من حجر، جعلت زواياه مربعة أما الباب، فقد تلف. ويوصل إلى هذا المدخل مدرج. وهناك معبد آخر صغير يقع على مسافة "150" مترا إلى الجنوب من "جبل اثلب".
وقد وجدت في "القرية" بالحجاز وهي أطلال، مدينة قديمة على خمسة وأربعين ميلا إلى الشمال الغربي من "تبوك" في أرض "حسمى" كتابات نبطية ويونانية، كما عثر على معبد قريب منها في البادية دعاه "موسل" "غوافة" و "روافة"، وجدت عليه كتاية نبطية يونانية طويلة ورد فيها اسم "مارقوس أورليوس انطونينوس" "MARCUS AURELIUS ANTONINUS" و "لوقيوس أورليوس فيروس" "LUCIUS AURELIUS VERUS". ويظهر إن هذه المدينة كان لها شأن في أيام النبط، ولا سيما في أواخر أيام مملكتهم، وان هذا المعبد كان قد ابتناه قوم ثمود في أوائل منتصف القرن الثاني للميلاد.
? الكورة العربية

(1/1380)


--------------------------------------------------------------------------------

ضمت "العربية النبطية" سنة "105" أو "6 0 1" بعد الميلاد. إلى الأملاك الرومانية وكو ن منها ومن أرضين أخرى ضمت إليها مقاطعة جديدة عرفت باسم "الكورة العربية" " PROVINCIA ARABIA" "المقاطعة العربية" وجعلت نحت حكم حاكم بلاد الشام المدعو "كورنليوس بالما " "A.CORNELIUS PALMA".. ولا يعلم على وجه التحقيق أعين الرومان واليا على هذه الكورة حال تكوينها، ام انها جعلت تحت ادارة حاكم "سورية" المباشرة ثم عين لها حاكم خاص. والمعروف إن اول وال " LEGAT"عين عليها انما عين في سنة "111" بعد الميلاد.
ولم تكن حدود "الكورة العربية" "المقاطعة العربية" ثابتة،بل كانت تتغير وتتبدل، وتتقلص وتتوسع تبعا لمراكز الحكام ومنازلهم. ففي سنة "195" بعد الميلاد مثلا أضيف اليها بعض الأرضين الجنوبية من مقاطعة "سورية الفينيقيه" "SYRIA PHONICE"، ولكن هذه الحدود تغيرت مرارا قبل هذا التاريخ وبعده. وتساعدنا "السكة الرومانية" التي أنشأها "تراجان" ثم وسعت فيما بعد مساعدة كبيرة في تعيين حدود ومساحة هذه المقاطعة. وقد أنشئت هذه السكة لأغراض عسكرية لتيسر للجيوش الرومانية الوصول بسرعة إلى المواضع المهمة من الوجهة العربية، ولتتمكن بواسطتها من السيطرة على الوطنيين وضبط الأمن.

(1/1381)


--------------------------------------------------------------------------------

ويمكن الاستدلال من أنصاب الأميال، التي وضعها الحاكم "قلوديوس سوريوس" "قلوديوس سفيروس" "CLAUDIUS SEVERUS"على هذه الطرق للوقوف بواسطتها على الأبعاد والمسافات والاتجاه، على معرفة طريقين مهمين: أولهما طريق جديد انتهى منه في سنة "111، للميلاد، يمتد من الحدود الشمالية للمقاطعة العربية أي من بلاد الشام إلى "بصرى" "BOSTRA" ثم إلى "فيلادلفيا"،"عمان" "PHILADELPHIA"، ومنها في اتجاه الجنوب ثم الغرب على طريق "بطرا" حتى البحر الأحمر. وثانيها الطريق الممتد من "فلادلفيا" مارا ب "جرش" "GERASA" وربما ب "أذرح" "ADRA" نحو "بصرى" "BOSTRA". وقد كان هذا الطريق معروفا قبل سنة "105" للميلاد، غير انه اصلح وعمر، وربما حول إلى طريق عسكري في سنة "112" للميلاد، أي في أيام "تراجان".
وقد عرفت أسماء اكثر الحكام الذين تولوا منصب حاكم المقاطعة العربية من رومان وبيزنطيين،وردت أسماؤهم مدونة على أنصاب الأميال وفي الكتابات الأخرى التي عثرعليها في مواضع متعددة من هذه المقاطعة. وأولهم "كورنليوس بالما". وقد تبين أن الألقاب الرسميه التي كان يتلقب بها حكام هذه المقاطعة في القرن الثاني بعد الميلاد كانت من درجة الألقاب الرفيعه التي تمنح عادة لحكام مقاطعة "قيصرية" مثل لقب: "LEGATUS AUGUSTI PRO PRAETORE" أو "AUGUSTROUM" تضاف إليه جملة: "CONCUL DESIGNATUS" متى يكون الحاكم في درجة "قنصل" "CONSUL"، وذلك يكون عادة بالنسبة الى حكام المقاطعات من درجة
"LEGATUS PRO PRAETORE" وقد يقتصر اللقب على كلمة" CONSULARES" اذا كان صاحبه قنصلا. غير ان هذه الألقاب الرسمية لم تكن ثابتة، بل كانت تتغير بحسب اهمية الحاكم ومنزلته، والوظيفه. التي يشغلها، والزمان الذي حكم فيه.

(1/1382)


--------------------------------------------------------------------------------

وتفيدنا وثائق المجامع الكنسية التي انعقدت في أوقات مختلفة لمعالجة المشكلات الي جابهت الكنيسة، وحضرها ممثلون عن كنائس "الكورة العربية" فائدة كبيرة في تعيين أسماء مدن هذه الكورة وتأريخها ومن هذه المجالس مجلس "نيقية" "NICAEA" الذي انعقد في سنة "325" بعد الميلاد،ومجمع "انطاكية" "ANTIOCHIA" المعقود قي سنة "341" بعد الميلاد، ومجمع " SARDICA" الملتئم، عام "347" للميلاد، ومجمع "القسطنطينية" المنعقد عام "381" بعد الميلاد، ومجمع "أفسوس" " EPHESUS" المجتمع عام "431"، ومجمع "خلقدونية" "CHALCEDON" الذي انعقد في عام "451،"، للميلاد، ومجمع "القسطنطينية" المنعقد سنة "536" للميلاد، مجمع "القدس" الملتئم عام"536" لما بعد الميلاد، وغيرها من المجالس والمجامع الدينية.
وقد عثر على نقود ضربث في أيام الرومان والبيزنطيين في عدد من مدن العظيمة. وقد اشتهرت "أدرعات" بخمرها عند العزب، وقال عنها علماء اللغة إنها موضع بالشام تنسب إليه الخمور.

(1/1383)


--------------------------------------------------------------------------------

و "أذرعات" موطن "عوج" "og" ملك "باشان"، وكان جبارا قامة وبأسا، من سلالة الرفائيين، حاول أن يمنع مرور بني اسرائيل بأرضه، فاصطدم بهم بأذرعات، وتغلبوا عليه، فقتل هو وبنوه، وانقسمت مدنه الستون المحصنة بين "الرأوينين" و "الجاديين" ونصف سبط "منى". وتقع "اذرعات" في واد يكون القسم الجنوبي من وادي "حوران" وعلى مسافة ستة أميال إلى الشرق من طريق الحج، وفيها كهوف عديدة وصهاريج كبيرة، وبها خرائب وآثار يقرب محيطها من ميلين يظهر أنها من عهد الرومان. ومن بقاياها "قناة فرعون"، وهي تأخذ مياهها من بحيرة صغيرة قرب موضه، "يابس" في حوران. ومسجد يشبه بناؤه "كاتدرائية" بصرى،. وآثار الشوارع والحوانيت التي كانت عليها، وموضع سوق. وعثر في خرائبها على كتابات باليونانية كما عثر فيها على نقود ضربت فيها من سنة "83" قبل الميلاد. وقد ألحقها "بومبيوس" "pompeius" بمقاطعة سورية الرومانية، وألحقها "تراجان" بالمقاطعة العربية، وذكر "أويسبيوس" "Eusebius" و "جيروم" انها من اشهر مدن "العربية"، وكان بها أسقف حضر مع من الأساقفة في المجالس الكنسية الني انعقدت في "سلوقية" "Seleucia" و "القسطنطينية" و "خلقدونية" "Chalcedon" "45 م".
بعضها إلى "دو شرى" "ذي الشرى" إله النبط. كما صور على بعضها صور القياصرة الذين في أيامهم ضرب ذلك النقد.

(1/1384)


--------------------------------------------------------------------------------

و "باشان"، ومعناها "التربة الخفيفة"، مقاطعة من أرض كتعان واقعة شرقي الأردن بين جبلي حرمون و "جلعاد"، وسميت "باشان" من جبل في البلاد 2. وسكانها القدماء هم "الرفائيون" "Raphalite"، ولهم مملكة ذكر في التوراة من ملوكهم اسم الملك "عوج" الذي قتله الاسرائيليون، وهو المعروف ب "عوج بن عوق" عند أهل الأخبار، والمعروف ب "عوج بن عنق"،عند العوام. وقد ذكر الأخباريون انه رجل "ذكر من عظم خلقه شناعة"، وانه كان ولد في منزل آدم فعاش إلى زمن موسى، وقد قتله موسى. وقد أخدوا أخبارهم هذه عنه عن أهل الكتاب، أو من وقوفهم على ما جاء في اسفار "التثنية" و "يشوع" و "العدد" عنه. وكان قد حاول منع الاسرائيليين من المرور بأرضه، فقتلوه، وجاء انه كان ينام على سرير من حديد طوله تسع أذرع وعرضه أربع أذرع، وذلك لبيان ضخامة جسمه. ونجد في الأسفار المذكورة مع بني اسرائيل ومقاومته لهم.
وكانت باشان تشمل حوران والجولان واللجاة، وكلها مؤلفة من صخور وأتربة بركانية، وتربتها خصبة، وماؤها غزير، ويحدها شمالا أرض دمشق، وشرقا بادية الشام، وجنوبا أرض "جلعاد"، وغربا "غور الأردن"، ويخترق جانبها الشرقي جبل الدروز، وهو جبل "باشان" القديم. ويمر بالجولان سلسلة تلال من الشمال إلى الجنوب. أما مقاطعة "اللجاة"، فهي حقل من "اللافا" أي الصخر البركاني، سالت من" تل شيحان"، وهو فم بركان قديم بقرب شحبة.

(1/1385)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن أشهر مدن "باشان" "الجولان" "Golan"، وهي من منطقة"الجولان" "Gaulanitis" وتعني الكلمة "الدائرة"، وأصلها مدينة "جولان" "وبها سميت المقاطعة. وتقع في "باشان"و "عشتاروت" "عشتروت" "بعشترة" "Aschtaroth"="Ashtoreth"="Be-Eshterah"،و يظهر ا نها "تل عشترة" "تل أشعرى" في الجولان. ومدينة "عشتاروت قرنايم" "Asther Karnaim" وهي "قرنيون" "Carnion" أو "قرنين" "Carnain" التي استولى عليها "يهوذا المكابي" "Judas Maccabaeus" سنة "64 ا" قبل الميلاد على ما يظن. وهي من مدن "الرفائيين" في "باشان"،. وقد اختلف الباحثون في مكانها في هذا اليوم، فذهب بعضهم إلى انها "الصمان" وذهب بعض أخر الى انها "قنوات" وذهب آخرون إلى انها "تل عشترة".
ويظهر أن كثيرا من "الباشانيين" كانوا يعيشون عيشة سكان المغاور والكهوف "Troglodytes"،إذ تبين أن قسما منهم سكن الكهوف والمغاور، وسكن بعض منهم في نفاق وكهوف تحت الأرض يبلغ طولها "150" قدما، وتتفرع منها أزقة تحت الأرض بجانبها بيوت تنفتح كواها في سقوفها، فهي في الواقع مدن تحت الأرض. وفضل نفر آخر السكنى في بيوت منقورة في الصخر. وسكن بعض منهم في بيوت منفردة مبنية من الحجر.

(1/1386)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما "بصرى" وتعرف ب "Bostra"، فقصبة " حوران"، ومن أشهر مدنها. وقد عرفت في أيام الرومان ب "Nova Trajana.Bstra". وقد الحقت بالمقاطعة العربية في مبدأ تأسيس هذه المقاطعة، أي في أيام "تراجان"، ويعني هذا حدوث تغير في النظام الاداري لهذه المدينة في هذا العهد. ويرى بعض الباحثين أنها جعلت في درجة مستعمرة، أي " Colonia" قبل ايام "سويروس"، وبقيت في هذه المرتبة حتى عهد "سبتيميوس سويروس" "Septimius Severus" غير أن "هل" وآخرين يعارضون هذا الرأي ويرفضونه،. ويرون أن ذلك كان في أيام "سويروس اسكندروس"، لا قبله، وانها لم تعرف ب "Colonia Bostra Nova Traiana Alexandriana"إلا في أيامه. وأما في نقود "يولية مامية" "Julia Mamaea"، فقد دعيت ب "Colonia Bostra" كذلك. .
وأعيد النظر في مرتبتها في أيام "فيليب سنيور" "فيليب الأقدم" "Philip Senior"" على ما يظهر،فجعلت في درجة "متروبوليس" "Metropolis"، فدعيت "Colonia Metropolis Bostra". وحافظت على درجتها هذه في أيام "، فيليب الأصغر" "Philip Junior". ولم يعثر على نقود. ضربت في "بصرى" بعد أيام "نراجان دسيوس" "Trajan Decius" أو "تويبونيانوس غالوس" "طريبونيانوس غالوس" "Trebonianus Gallus".
وأما " Charachmoba"، فإنها "قير موآب" "Kir Moab" في التوراة والتركوم. و "قير حاراش" "قير حراشات" "قير حارسة" من "موآب" وهي "الكرك". وقد عثرعلى نقد يعود إلى عهد " Elagabalus" يطن انه من نقود هذه المدينة،وان الصورة المضروبة في الوجه المقابل لصورة "Elagabalus " ترمز إلى الإله "دو شرى".

(1/1387)


--------------------------------------------------------------------------------

. وتختلف وجهات نظر الباحثين في موضع مدينة "ديوم" "Dium" "ديون"" Dion" فمنهم يرى انها "الحصن" "قلعة الحصن" على مقربة من "اربد" وانها "Dia" عند "بطلميوس ومنهم من يرى انها "كفر أبيل"، وآخرون يرون انها "تل الأشعري"، وهكذا. وهي من مدن " Decapolis"، ثم ألحقت ب "المقاطعة االعربية" في عهد "سبتيميوس سويروس" "Septimius Sevsrus" على ما يظن. وقد عثر فيها على نقد ضرب باسم "Geta"، وأرخ تأريخ الضرب بتقويم "بومبيوس"، وأشير في أحد وجهي النقد إلى الإله "هدد" الذي صورته بعض النقود المضروبة في بعض المدن السورية. وهو يقابل الإله "زيوس" "Zeus" عند اليونان.
ويراد ب "Decapolis" الحلف المؤلف من عشر مدن، تحالفت لدفع غزو القبائل لها. ويظهر أنه ظهر إلى الوجود في القرن الأول للميلاد. والمدن المذكورة هي: "Pella " و "Scythopolis" و "Dion" و "Gerasa" و "Philodelphia" و "Raphana" و "Kanatha " و "Hippos" و "دمشق". وقد انضمت إليه مدن أخرى بين حين واخر. فلكون أرض هذا الحلف ممتدة من دمشق إلى الجنوب الشرقي لبحر الجليل "Sea Of Galalee".
ومدينة "Eboda"، هي "عبدة " "العبدة" في "العربية الحجرية" "Arabia Petraea ". وقد أشار "بطلميوس" إلى أن "Eboda"="Oboda" و "Gerasa" و "Gypsaria" و "Lysa" هي من مدن "العربية الحجرية"، وجعلها بعضهم من "النقب". وتقع خرائب "عبدة" في جنوب "بئر السبع" "Beerscheba" وفي غرب "بطرا". وفي جنوبها سباخ، غير أن من المشكوك فيه أن تكون هذه السباخ موضع "Geham Maleh"، أي وادي الملح ا. وأما صنم "Eboda"، فقد عرف باسم "زيويوس عبودة" "Zeus Oboda".

(1/1388)

admin
12-27-2010, 01:14 AM
وأما "Esbus"، فإنها "حشبون" "Heshbon" في التوراة، وتعرف اليوم ب "حسبان"، وتقع بن "فيلاذلفيا" "عمان" و"مأدبا"،وعلى مسافة "26" كيلومترا من شرق النهاية الشمالية للبحر الميت في صعيد "موآب". وهي من مدن العربية القديمة الشهيرة. وفي التوراة انها كاتت من مدن "الموآبيين" ثم استولى عليها الملك "سيحون" ملك "الأموريين" وجعلها عاصمة له، ثم تغلب عليها الاسرائيليون، ثم استعادها "الموآبيون". والظاهر انها كانت من مدن النبط، ثم دخلت أخيرا في أملاك الرومان فالبيزنطبين. ولا تزال آثار المدينة القديمة باقية حتىالآن. وأما النقود التي، ضربت فيها،فهي من أيام "Elagabalus" وبعضها من عهد "كركلا" "كاركلا" "Caracalla". ويظهر من بعض النقود انها كانت تعرف أيضا ب "Aurelia". و "Gerasa" هي "جرش" في الزمن الحاضر، ونسبها "ياقوت الحموي" إلى رجل زعم أن اسمه هو "جرش بن عبد الله بن عليم ين جناب بن هبل بن عبد الله بن كنانة بن بكر ابن عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة". وتقع عند الحافة الجنوبية الشرقية لسلسلة "عجلون"، ولا يعرف أصلها ومبدأ تأريخها على وجه التحقيق. ولم يرد اسمها في التوراة. وقد أشير اليها في كتب "الحديث".

(1/1389)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظن بعض الباحثين انها " راموت جلعاد" "Ramoth-Gilead" المذكورة في العهد العتيق.ويظهر انها من المدن التي عرفت بعد عهد "اسكندرالكبير"، وقد استولى عليها "اسكندرينيوس" "اسكندر جنيوس" ملك "يهوذا"، ثم تحررت من اليهود في عهد "بومبيوس"، وألحقت بكورة "سورية الرومانية"، ثم أضافها " تراجان" في عام " 06 ا" بعد الميلاد إلى "الكورة العربية"، وضمت بعد ذلك إلى كورة " فلسطين الثانية" "Plestina Secunda" "أي الأردن. وكانت "جرش" مركزا لعبادة الإله "ارتيمس" "Artemis"، وهو "ديانا" "Diana" عند الرومان، وابنة "زيوس" "Zeus" و "ليتو" "ليطو" "Leto" عند الإغريق، كما كانت أسقفية معروفة بركة، والى الشرق والشمال برك أخرى. وتوجد آثار هيكل كبير بينها عمودان واقفان. ومن أنفس ما عثرعليه في هذه المدينة القديمة خارطة من "الموزاييك" "الفسيفساء" "Mosaic" لفلسطين النصرانية ومصر، كما عثر فيها على نقود من أيام الرومان واليونان. وقد ازدهرت بعد الميلاد: فصارت مركز "أسقف"، ومثلث في مجمع "خلقيدون" "Chalcedon".

(1/1390)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما "فيلادلفيا" "Philadelphia"، فهي "ربة" و "ربة بني عمون" "Rabbath-bene-Ammon" في التوراة. وهي في "جلعاد" بالقرب من مخرج نهر " يبوق" وعاصمة " بني عمون". وذكر "اصطيفانوس البيزنطي" انها كانت تعرف ب "Astarty". وقد يكون لهذا القول أصل، فقد ورد في بعض الكتب إن من مدن " سورية" مدينة عرفت ب "Asteria"، وللتسميتين علاقة بالصنم "عشتروت" "Asteria". وعلى أنقاض هذه المدينه القديمة تقع " عمان" عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية. وأما سبب تسميتها ب "فيلادلفيا"، فلتجديد بنائها واعادة تعميرها في عهد " بطلميوس فيلادلفوس" "Ptolemy" "Philadelphus" "285 - 47 2" قبل الميلاد فعرفت به. وصارت من أشهر مدن " Decapolis". وقد ا نتزعها " أنطيوخس أبيفا نوس" "Antiochus Epiphanes" من "بطلميوس فيلوباتر" "بطلميوس فيلوباطر" "Ptolemy Philopater" في سنة "218" قبل الميلاد، وكان يحكمها في أيام "هركانوس" ملك "يهوذا" "135 -107" قبل الميلاد، حاكم اسمه "زينو كوتيلوس" "Zeno Cotyles". وكانت بأيدي النبط في سنة "65" قبل الميلاد.
وتنسب " فيليب بولس" "Philippopolis"، وهي "شهبة" "شحبة" في الزمن الحاضر، وتقع على مسافة سبعة كيلومترات شمال " القنوات" إلى "فيليب" "فيلفوس" المعروف بالعربي "M.Julius Philippus Arabus" "4 24 - 9 24 م". وقد عرف بالعربي لأنة كان عربي المولد. وكان قد نشأ وترعرع في "بصرى"، ثم دخل الجيش الروماني وتقدم فيه، وأصبحت له مكانة كبيرة أوصلته إلى أعلى مراتب الدرلة، وهي "قيصر".

(1/1391)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرى بعض الباحثين انه أنشأ هذه المدينة في سنة "248" بعد الميلاد أو بين " 47 2" و "48 2" بعد الميلاد. ويرى، " كوبيجك" "Kubitschek" انه أسسها في عام " 244"، أي قبل ذهابه إلى "رومة". وجعلها في درجة " مستعمرة" "Kolonia"="Colonia" رومانية. ولا تزال أنقاض هذه المدينة باقية حيث تشاهد آثار معابدها وشوارعها وبعض أبنيتها ومسرح وغير ذلك مما جاء وصفه في كتاب: "Die Provincia Arabia"، كما عثر فيها على كتابات ورد فيها اسم "القيصر" "فيليب"، كما عثر فيها على نقود.
وأما "Rabbathmoba"، وتعرف في اليونانية باسم" Areopolis"، فإنها "ربة" "ربا"، وهي مدينة بنيت في عهود الرومان المتأخرة على رأي بعض الباحثين. وقد عثر فيها على نقود ضرب عليها اسم "سبتيميوس سويروس" وأسرته. ويظن أن الصورة الرمزية المضروبة على عدد من نقود "ربة" تشير إلى إله لعله الإله "Kemosh" أو إلى معبده الخاص به، على نحو ما رأينا في بعض النقود من ذكر " متاب"، وهو معبد " دوشرى" ليرمز إلى الإله. ويرى بعض الباحثين أن "Kemosh" هو إله الحرب.
ومن مدن الكورة العربية الأخرى: "Sodoma"، ولعلها "الزوراء"، و "السويداء" "Dionysias"، و "Beretana"، وقد وردت اسماؤها في مجمع " نيقية". وقد ألحقت " السويداء" بالكورة العربية. في أيام "سويروس" و "Adrama" و "Constantine" و"Neapolis" وقد وردت اسماؤها في جملة الأسماء المدو نة في أعمال مجمع " القسطنطنية المنعقد عام "381" للميلاد. و"Ziza" و "Dia-Fenis" و "Tricomia" و "Areopolis" و "Canotha" و"Nela" و "Zerabena" و "Anitha" و "Eutymia" و "Chrysopolis" و "Erra" و "Neve" و" Maximianopolis" و "Phaena" و "Aena"، وقد وردت أسماؤها في سجلات أعمال مجمع " خلقدون" "خلقيدون" "Chalcedon" "451 م.

(1/1392)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر "بطلميوس" أسماء مواضع أخرى يقع بعضها في النقب "Begeb"="Negev" غرب " العربة". وسجلت في "Notitia Dignitatum" أسماء " Motha"، وهي: "أمنان" "Speluncae"، وهي "دير الكهف"، " Mefa" "Gada" و هي " خو"، و "Betthoro" و "Dia-Fenis" و "Auatha" و "Gomotha" و "Libona" "و "Naarsafari" و "Thainatha" و "Adittha" وهي "الحديد" و "Asabaia" و "Ultha" و "Uade Afar" و "Castra" "arnonensia"، على انها من مواضع الكورة العربية. وهناك أماكن أخرى ذكرت أسماؤها في كتاب: "Die Provincia Arabia"، قد يخرجنا تعدادها عن أصل الموضوع.
وقد أوكلت مهمة المحافظة على الأمن في " الكورة العربية" إلى الكردوس "اللجيون" "Legion VI Ferrata " الروماني الذي كان معسكرا منذ أمد في " سورية"، فصدر الأمر إليه في سنة "106" للميلاد على ما يظهر بنقل مقره من شمال سورية إلى هذه الكورة الجديدة التي أنشاها " تراجان". ثم نقل مقره في أيام "هدريا نوس" "Hadrianus" إلى "اللجون" "Caparconta" في " الجليل "Galilee" وفي ايام "هدريانوس" أيضا وفي سنة" 135" للميلاد: وهي سنة استيلائه على القدس واخماده الثورة التي قامت في " اليهودية" أمر بانشاء "Aelia Capitolina"، لأغراض عسكرية على ما يظهر.
ويرى بعض الباحثين أن الكورة العربية قد قسمت في القرن الثالث للميلاد وفي "د يوقليطيان" "ديوقليانوس" "Diocletianus"="Diocletian" الى كورتين: كورة شمالية عاصمتها " بصرى" وعرفت ب "كورة بصرى" "Provincia Bostron"، وكورة جنوبية وعاصمتها " بطرا" وعرفت باسم " كورة بطرا"، وبعبارة أصح "الكورة الحجرية" "Provincia Petrae"، وتعرف ب "العربية" أيضا.

(1/1393)


--------------------------------------------------------------------------------

أما في القرن الرابع وفي حوالي سنة "307" للميلاد تقريبا، فقد اقتطعت منها بعض المدن، مثل " أيلة" و"Phainon"، وألحقت بفلسطين، وبذلك تقلصت "Praeses Arabiae" وتوسعت رقعة فلسطين "Praeses Palestinae" كثيرا. ويظهر أن الضرورات العسكرية هي التي دفعت إلى احداث هذه التغيرات. وحدثت تغيرات أخرى في " الكورة العربية" في القرن الخامس والسادس للميلاد،فانتزعت منها مدن أخرى ألحقت ب "فلسطين الثالثة" "Palestina Tertia" وتعرف أيضا ب "Palestina Salutaris".
أهل الكهف والرقيم
ولا بد لي وقد انتهيت من الحديث عن النبط وعن " الكورة العربية" من الكلام عن أهل الكهف والرقيم، الذين ذكروا في القرآن الكريم: )أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا(" 0إذ ذهب بعض علماء التفسير إلى أن الرقيم واد دون فلسطين فيه اللأضف، وهو قريب من "أيلة". كان اليهود قد أوحوا إلى المشركين من أهل مكة،أن يسألوا. الرسول عنهم، امتحانا له. وكانوا يتداولون أخبارهم، ويروون قصصا عنهم، كان شائعا فاشيا اذ ذاك بين النصارى أيضا، فجاء الجواب منهم في سورة " الكهف".
وهناك من زعم أن "الرقيم" على فرسخ من "عمان"، أو قرية صغيرة بالقرب من البحر الميت، أو أنها " البتراء": وذلك بالإضافة إلى روايات أخرى ر جعت مكان " الكهف" إلى "أفسس" "أفسوس"، بالأناضول، أو إلى أماكن أخرى لا داعي إلى ذكرها في هذا المكان، لعدم وجود علاقة لها بهذا البحث. وقد بحث عنها المتخصصون، كما قامت بعثات آثارية بالبحث عن كهف " أهل الكهف" في الأماكن المذكورة، للتأكد عما جاء عنه في الموارد النصرانية والاسلامية، فإليها أحيل من يريد التبسط في الكلام عنه.

(1/1394)


--------------------------------------------------------------------------------

ولقد تبين الان إن الكتابات المدونة عند مدخل " الشق" في "البتراء"، لا صلة لها بأهل الكهف، وانما كتبت تخليدا لذكرى جماعة من اليونان البارزين جاءوا من "جرش" فوافاهم اجلهم ب "البتراء"، ماتوا قبل "أصحاب الكهف" بأمد. وقد شرح تلك الكتابات "ستاركي" "Starkey". وذهب الباحثون في "دائرة الآثار في المملكة الأردنية الهاشمية" إلى أن كهف "أهل الكهف"، هو "كهف الرجيب"، وهو على مقربة من قرية صغيرة تدعى "الرجيب"، وجدت بداخله مدافن يرجع عهدها إلى زمان !لقيصر "ثيودوسيوس الثاني" "TheodosiusII" "458 - 450 م"، الذي في زمانه كان بعث أهل الكهف. وذهبوا إلى إن اسم هذا الموضع في القديم هو " الرقيم"، تحو ل إلى "الرجيب" فيما بعد. وأيد هذا الرأي الأستاذ " هج نيلي" "Hugh Nilley" الذي زار الموضع ودرسه، وكتب مقالا عنه.
وذهب من رأى إن كهف الرجيب هو "كهف أهل الكهف"، إلى أن دخول الفتية الكهف، كان في أيام الطاغية " تراجان" "1 9 - 17 1 م". المشهور، فاتح " الكورة العربية" ومؤسسها والآمر يانشاء الممر الحربي المعروف باسم " طريق تراجان" وباني مدينة "أيلة" الرومانية وصاحب الملعب الروماني. والآثار العديدة للمباني التي أقامها بعمان وبمدن أخرى من الأردن. وقد كان شديدا عاتيا قاسيا على النصارى، عد هم خونة مرقة خارجون على الدولة والقانون لذلك أصدر امره سنة "112 م" بقتل كل نصراني لا يخلص للقيصر والدولة، فخاف منه النصارى وتكتموا، و كان من جملة من تكتم وانزوى " أصحاب الكهف".

(1/1395)


--------------------------------------------------------------------------------

ووجدت البعثة الأميركية لمدرسة الأبحاث الشرقية بالتعاون مع دائرة الاثار الأردنية في موضع " أم الرجوم" الواقع على بعد "15" كيلومترا شمال " عمان"، آثار بئر قديمة استدل من كتابة عثر عليها مدونة على جدرانها إنها تعود إلى ما قبل الميلاد. وأن الموضع المذكور هو حصن التي كانت تدافع عن مدينة "ربة عمون"، عاصمة مملكة "عمون"، التي عاشت بين القرن الثالث عشر والقرن السادس عشر قبل الميلاد. و "ربة عمون"، هي "عمان" العاصمة الآن. وقد كتب بخط الكتابة بخط مشتق بخط مشتق من القسلم العربي الجنوبي، يظن البعض أنها من كتابات القرن السابع قبل الميلاد.
ويظهر من هذه الكتابة المهمة، أن أصحابها كانوا يكتبون بقلم قريب من القلم المسند، وقريب من القلم اللحياني والثمودي والصفوي، وأن لهجتهم كانت لهجة عربية، أي إن أصحابها من العرب. وقد كتبوها لمناسبة إقامة تلك البئر التي حفرها وهيأها " شمان" و "سمان" و "ساعدن" "سعد" "ساعد" وهما أصحاب هذه الكتابة والبئر.
الفصل الخامس والثلاثون
مملكة تدمر
ويتصل الحديث عن النبط بالحديث عن مكان آخر له علاقة بهم أيضا، هو "تدمر" المعروف ب "Palmyra" عند الغربين الذين ورثوا هذه التسمية عن الرومان واليونان. وهو " تدمر امور" المذكور في كتابة من كتابات " تغلت فلاصر الأول" Tigalet"="Tigalath -Piles" "1117- 1080 ق.م." على رأي بعض الباحثين. وقد ورد اسم المدينة وهو "تدمر" في عدد من الكتابات كما ورد اسم علم للأاشخاص.

(1/1396)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد رأى بعض الباحثين إن "Palmyra" من لفظة "Palma" اللاتينية ومعناها " نخل" "نخلة"، وان الاسكندر ذا القرنين لما تغلب عليها أطلق عليها "Palmyra" أي مدينة النخل، وذلك لما يكتنفها من غابات النخل العظيمة، فعرفت عند اليونان واللاتين منذ ذلك الحين بهذا الاسم. غير إن هذا رأي يحتاج إلى اثبات، فليس لدينا دليل من عهد الاسكندر يؤيد هذا القول. وليست لدينا حجة دامغة تثبت وجود النخل في هذه المدينة اثباتا يستوجب تسمية الموضع ب "Pamyra" أي مدينة النخل.
وهناك آراء متباينة في سبب تسمية "تدمر" بهذا الاسم، هي موضع جدل، وليس فيها رأي يمكن الاطمئنان إلى صحته وترجيحه على غيره،لذلك أترك البحث عنه إلى،المراجع التي بحثته.

(1/1397)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظن بعض الباحثين أن "Palmyra" هي ترجمة لكلمة " تمار" "تامار" "تمر" "Tamar" العبرانية ومعناها " نخلة" "Date-Palm"، وهي في الأصل اسم موضع إلى الجنوب الشرقي من يهوذا ورد ذكره في " حزقيال"، لا يعرف موضعه اليوم على وجه التحقيق. ويرى علماء التوراة أنه الموضع الذي بناه سلمان والمذكور في " الملوك الأول" وان خطأ وقع قديما في تعيين الموضع فجعل "تدمر"، سببه أن كتبة أسفار " أخبار الأيام" أو الكتبة قبلهم أخطأوا في معرفة موضع " تامار" "Tamar" الواقع في الصحراء اليهودية جنوب البحر الميت، فظنوا انه "تدمر" المدينة الشهيرة المعروفه، وكتبوه "تدمر" في محل "تامار". فالأصل اذن هو " تامار". وصارت "تدمر" نتيجة لهذا التغير في جملة المدن التي بناها "سليمان". وقد كتبت "أسفار أخبار الأيام" "Chronicles" في حوالي سنة "300" أو "200" قبل الميلاد، لذلك يكون هذا التبديل والتغير قد ظهر في حوالي هذا الوقت. ومنه صارت "تامار" "تدمر" ومنه أصبح معنى "تدمر" مدينة النخل، أي "Palmyra" عند اللاتين واليونان وقد ظهرت هذه الترجمة بعد تدوين أخبار الأيام بالطبع. ومنها جاءت اسطورة بناء سليمان لمدينة "تدمر" في هذه المنطقة البعيدة عن حدود مملكة اسرائيل.
وعلى كل حال، فإن الذي نستنبطه من قصة إضافة " تدمر" إلى المباني التي نسب بناوها إلى سليمان، هو أن هذه المدينة كانت قد اكتسبت شهرة فى أيام تدوين أسفار " أخبار الأيام" وأنها كانت مدينة عامرة شهيرة فيما بين السنة "300" و "200" قبل الميلاد.

(1/1398)


--------------------------------------------------------------------------------

ويجوز أن تكون الشهرة التي اكتسبتها مدينة "تدمر" "تذمر" في أيام كتبة أسفار "أخبار الأيام" هي التي حملتهم على إضافتها إلى أعمال " سليمان"، لأنها "بمباني سليمان" أليق وأنسب من موضع صغير هو "تامار"، فأضافوا هذه المدينة المشهورة إليه، لتدل على شهرته وعلى مدى بلوغ ملكه في أيامه. وقد أضيف إلى ملك سليمان على هذا النحو من الإضافات ما لا تصح إضافته إليه، وبولغ ملكه وحكمه في الأيام القديمة التي تلت أيامه، لأنه كان من أشهر ملوك "بني اسرائيل"، حتى صارت أخباره من قبيل الأساطير.
وذهب المؤرخ اليهودي " يوسفوس فلافيوس" هذا المذهب أيضا،فنسب بناء "تدمر" إلى "سليمان". أخذ رأيه هذا من هذا الموضع من التوراة بالطبع، ومن الروايات التي وصلت إليه وكانت قد ظهرت قبله، للسبب المذكور.
. أما الروايات العربية، فهي لا تفيد علما ولا تصلح أن تكون دليلا، فهي روايات متأخرة دخلت إلى المسلمين من أهل الكتاب، أشاعها ورو جها أمثال، " ابن الكلبي" بين الأخباريين، فأخذوها بغير تحقيق ولا تدقيق، وقد ذكر " ياقوت الحموي" إن قوما" يزعمون انها مما بنته جن سليمان، وان أهل" تدمر" يزعمون إن ذلك البناء قبل سليمان بزمان.
ولدينا أبيات نسبت إلى "النابغة الذبياني" تتضمن أسصوا رة بناء جن سليمان لتدمر، امتثالا لأمره الذي أصدره اليها، فقد نسب إليه قوله: الا سليمان إذ قال الإله له قم في برية فاحددها عن الفند
وجيش الجن اني قد أمرتهم يبنون تدمر بالصفاح والعمد

(1/1399)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا يصلح شعر النابغة ولا أمثاله من شعراء الجاهلية أن يكون حجة في بناء "سليمان" لتدمر. فمن الجائز أن يكون النابغة أو غيره، قد أخذ فكرته هذه من أهل الكتاب، ومن الجائز أن يكون هذا الشعر من وضع الوضاعين نسبوه إليه. وقد وضعت أشعار في الإسلام ونسبت إلى الجاهليين، والى آدم وهابيل وقابيل والجن وابليس وبين الأخباريين من ينسب بناء "تدمر" إلى "تدمر بنت حسان بن أذينة ابن السميدع بن يزيد بن عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح". وذكروا قصة تفيد عثورهم على قبر "تدمر بنت حسان". وقد اعجبوا ببنائها ووصف الشعراء صورتين جميلتين من بقية صور كانت فيها. وقد حاصرها خالد بن الوليد ثم ارتحل عنها فبعث أهلها رسلا وصالحوه على ما أدوه له ورضي به. أما قصة العثور على قبر في تدمر ووجود جثة فيه، فأمر ليس ببعيد ولا بغريب. وأما قصة " تدمر بنت حسان" ونسبها والكتابة التي على قبرها، فهي من وضع الأخباريين والقصاص ولا شك.
وقد أشار " بلنيوس" "بلينيوس" إلى مدينة " Palmyra"، وهو أول كاتب " كلاسيكي" عرض لها، فذكر أنها مدينة شهيرة، ولها موقع ممتاز، أرضها خصبة، وبها ينابيع وعيون، تحيط بحدائقها الرمال. وقد عزلتها الطبيعة عن العالم ببادية واسعة الأطراف، بعيدة المسافات، وتقع بين انبراطوريتين عظيمتين ا نبراطورية "رومة"، وامبراطورية "الفرث" "Parthia"، ولهذا" وخيس استرعت أنظارالدولتين. وورد اسمها في كتب " الكلاسيكيين" الذين عاشوا بعد " بلينيوس" مما يدل على ازدياد شهرة هذه المدينة بعد الميلاد.

(1/1400)


--------------------------------------------------------------------------------

ويعود الفضل في حصولنا عاى معارفنا التأ إيخية عن تدمر إلى الكتابات التدمرية التي درسها المستشرقون وترجموها الى لغاتهم وشرحوا ما جاء فيها، وهي يالإرمية واليونانية ثم اللاتينية والعمرانية، نشرت في كتب خاصة وفي كتب الكتابات السامية وفي ثنايا المجلات، والى كتب المؤلفين اليونان واللاتين والسريان. من هذه الموارد الرئيسية استقى المؤرخون معارفهم عن تأريخ هذه المدينة، تضاف اليها موارد ثانوية ذكرت "تدمر" عرضا لوجود منا سبة دعت إلى ذلك مثل سجلات المجامع الكنيسية والتلمود.
أما تأريخ المدينة فلا نعرف من أمره شيثا يذكر يعود إلى ما قبل الميلاد. وآخر ما كتب عن مدينة "تدمر" يعود إلى ما بعد الميلاد.
وكان غالبية أهل "تدمر" برغم كتابة أمورهم بالإرمية وبالقلم الإرمي من العرب على رأي أكثر الباحثين، شأنهم في ذلك شأن نبط " بطرا". وهم يرون إن القبائل العربية التي أخذت تستولي على المناطق الخصبة الواقعة في شرقي أرض "كنعان"، بعد سقوط الدولة البابلية، كتبوا بالإرمية، لأنها كانت لغة الكتابة والثقافة في المنطقة الواسعة الواقعة غربي الفرات. وتظهر في بعض الكتابات بعض المصطلحات والكلمات العربية الأصيلة،.كما نجد فيها أسماء أصنام عربية مع أصنام إرمية. وبالجملة فإن في "تدمر" ثقافة هي خلاصة جملة ثقافات: عربية وإرمية ويونانية ولاتينية" وأقدم كتابة عثر عليها فيها لا يتجاوز تأريخها سنة "304" من التأريخ السلوقي، أي سنة "9" قبل الميلاد.

(1/1401)


--------------------------------------------------------------------------------

كانت تدمر عقدة من العقد الخطيرة في العمود الفقري لعالم التجارة بعد الميلاد تمر بها القوافل تمحل اثمن البضائع في ذلك الوقت. كانت على اتصال بأسواق العراق وما يتصل بالعراق من أسواق في ايران والهند والخليج والعربية الشرقية، كما كانت على اتصال بأسواق البحر المتوسط ولا سيما ديار الشام ومصر، كما كانت على اتصال بالعربية الغربية وبأسواقها الغنية بأموال افريقية والعربية الجنوبية والهند. إن هذه التجارة هي التي أحيت تلك المدينة كما إن تغير طرق المواصلات بسبب تغيرالأوضاع السياسية هو الذي شل " جسم تلك المدينة فأقعدها عن الحركة بالتدريج.
لقد كانت القوافل الذاهبة من العراق إلى بلاد الشام والقادمة من بلاد الشام إلى العراق، تمر بمدينة "تدمر". وكان الموضع الذي تحط فيه قوافل "تدمر" هو موضع " Vologesias"="Vologesokerta" على نهر الفرات. ومن هذا المكان تنقل التجارة إلى الجهات المقصودة في العراق، ومنه تحمل تجارة العراق بالبر إلى "تدمر" فدمشق.
ويظهر من كتابة عثر عليها في احدى المقابر أن القوافل التجارية كانت تمر في حوالي سنة مئة قبل الميلاد بمدينة "تدمر" في أثناء أسفارها بين مدينة "دورا" "Doura" والشام. وبين الطريق القديم وهذا الطريق، تسكن قبائل عربية من سكان الخيام، أي من النوع المعروف باسم "سكينيته" "Skenita" عند "الكلاسيكيين".

(1/1402)


--------------------------------------------------------------------------------

الرومان بهم في جيوشهم، فاستخدموهم في حروبهم في شمال إفريقية. وقد عز على كتابات أثبت انهم كانوا في جملة القوات الرومانية التي كانت في بريطانية. واشتهر التدمريون بفرسانهم كذلك، فقد ألف "أذينة" قوة من القوات الراكبة لمحاربة أعدائه، جهزها بأسلحة واقية من دروع ومن صفائح من المعدن يلبسها الفارس من أعلى رأسه إلى أسفل قدمه، فلا يستطيع عدو ه أن يناله باذى، كما درعت الخيل والجمال بصفائح الوقاية، على نحوما كان يفعله الفرس في قوافلهم الراكبه في أثناء القتال. وقد اكتسبت هذه القو ات شهرة واسعة في حروبها مع الفرس والرومان.

(1/1403)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان أهل تدمر خليطا من تجار ومزارعين. أما أطرافها وحواليها، فكانوا أعرابا ورعاة. وكانت مدينة يونانية ولكنها لم تكن مثل المدن الأخرى المتأثرة بالهيلينية في الشرق، ولم تخضع لنظام المدن اليونانية " Greek Polis"، وكانت خاضعة للرومان وبها حامية رومانية، ولكن خضوعها كان في الواقع صوريا، كما أن الحامية لم تكن شيئا تجاه أهل المدينة والقبائل المحيطة بها. كانت المدينة بالرغم من الطابع الهليني- الروماني الذي يبدو عليها، مدينة شرقية، الحكم فيها في يد الأسر ذات السلطان في البلدة تحكمها في السلم والحرب. لقد خلقت الاضطرابات السياسية التي حدثت في الشرق لضعف الحكومات الكبرى وانحلالها وانقسامها إلى "ملوك طوائف". جماعة من الحكام السادات "Tyrannies" تزعموا القبائل أو المدن، وشاركوا الحكومات في الحكم. ومن هؤلاء الأسرة التي حكمت "تدمر". والأسرة التي حكمت "حمص" "Emesa"="Hemesa". وكانت في تدمر جاليات يونانية ورومانية، أقامت فيها وفضلت السكنى فيها على المواضع الأخرى. أقامت بين أهل المدينة حتى صارت من سكان المدينة، كما كانت فيها جاليات يهودية نزحت اليها في زمن لا نستطيع تعيينه بالظبط، قد يكون قبل سقوط القدس في أيدي الرومان بأمد للاتجار، قامت بأعمال التبشر بين. السكان، فتهو د أناس منهم، ورحل قسم من هؤلاء. المتهودين إلى القدس، أقاموا فيها قبل خراب الهيكل بأمدا.

(1/1404)


--------------------------------------------------------------------------------

تمكنت هذه المدينة الصحراوية من رفع منزلتها من منزل منعزل في البادية تنزل به القوافل إلى مكانة مدينة من الدرجة الأولى، ومركز ديني خطير لعبادة الأصنام يحج إليه أعراب البادية،وسوق للتجارة تكلست فيه أنفس البضائع وأثمنها وتجمعت فيه رؤوس الأموال والذهب والفضة والجواهر ولا سيما بعد سقوط "بطرا" بأيدي الرومان، وذهاب ملكهم، فانتقلت اسواقهم الي أيدي للتدمريين. وتولت قوافل "تدمر" نقل البضائع بين العراق والشام مخترقة البادية إلى المرافىء العراقية على الفرات. وقد عادت هذه القوافل على المدينة بخيرعميم من أجور الوساطة في البيع والعشراء ومن الضرائب التي تجبيها عن البضائع التي تمر بها أو تباع فيها، والتي يحددها مجلس سادات المدينة. وتتبين مظاهر هذه الثروة في المباني الجميلة المنقوشة والتي تتحدث آثارها عنها، وفي بقايا الهياكل والأعمدة المرتفعة الجميلة المصنوعة من الحجر الصلد المصفوفة على جانب الشارع الكبير من قوس النصر المقام عند المعبد الكبير إلى نهايته في مسافة لا تقل عن "1245" ياردة.

(1/1405)


--------------------------------------------------------------------------------

ولما كانت "تدمر" مدينة حياتها الأساسية بالتجارة، صار للتجار وأرباب القوافل ولزعماء القوافل شأن خطير في الحياة الاجتماعية للمدينة، حتى أشير اليهم في الكتابات، حيث كثر فيها ورود ذكر "زعيم القافلة" و "زعيم السوق". ومدينة مهمة لها مال وثروة وليس لها جيش ضخم قوي ولا مجال لتكوين هذا الجيش فيها،لا يمكن أن تبقى في مأمن ومنجاة من مطامع الطامعين. ولو كانت في بقعة منعزلة وفي بادية بعيدة. فقد كان لعاب الدول القوية يسيل عند سماعها بوجود شعوب صغيرة أو حكومات مدن أو مواضع ذات ثراء ومال، فتكتب اليها إما باغطاء ما عندها اليها، وإما بدفع جزية ترضيها،راضية مرضية، وإما أن تمتنع فتنرحف جيوشها عليها عندئذ فيكون كل ما يصل إليه يدها حلالا طيبا، ويكون الناس لها ****ا وخولا، لا نستثني "تدمر" من هذا الولع . الانساني بالحصول على الثراء السهل بالطبع. لذلك طمع فيها الطامعون من شرقيين و وغربيين. طمع فيها أهل العراق، وطمع فيها الفرس، وطمع فيها لليونان والرومان والبيزنطيون. وكان أول طامع فيها وصل خبره الينا من الفاتحين الأقوياء هو الملك " تغلت فلاصر" "تغلات برليزر"Tiglath-Pilezer " الأول تلاه جملة غزاة ورثوا الحكم والملك والتسلط في أرض الشرق الأدنى.

(1/1406)


--------------------------------------------------------------------------------

واذا عرفنا أن "تغلت فلاصر الأول" "17 1 1 - 080 1 ق. م."، كان قد استولى عليها، فإن ذلك ينفي ما ورد في أخبار اليهود من بناء سليمان لتلك المدينة على نحو ما ذكرت. فقد جاء حكم "سليمان" بعد حكم هذا الملك الاشوري بنحو قرن، وقد كانت المدينة قائمة قبل ذلك الملك بالطبع. وقد صارت "تدمر" في جملة الأرضين التي أخضعها "الاسكندر" الكيير لحكمه. لحكم تلك الامبراطورية التي أراد آن يكو نها في ذلك العالم، ليوحد فيها الأجناس والأديان، وليقيم مملكة واحدة على هذه الأرض. ومن عهد الاسكندر ظهر اسم "تدمر" الأجنبي، أي " بالميرا" "Palmyra" بين اليونان واللاتين. ولما انقسمت دولة "الاسكندر" قسمين، صارت "تدمر" من نصيب "السلوقيين" على ما يظهر. ولكننا لا نعلم شيئا عن عهد استيلائهم عليها،ولا عن مدة بقائهم فيها. وقد حاولت "تدمر" أن تقف موقف الحياد بن " الفرث" والرومان، وتمكنت من ذلك أمدا، اذ كان من مصلحة الدولتين المتنافستين وجود محل منعزل محايد، كي يتمكن تجار الدولتين من الاتجار فيه ومن التسوق منه.وقد قام أحد القادة السلوقيين ببناء حصن ليضم إليه الجنود المقدونيبن

(1/1407)

admin
12-27-2010, 01:14 AM
في مدينة "تدمر". فعل ذلك سنة "280" قبل الميلاد. ولعل هذا الحصن، هو واحد من سلسلة حصون أقامها السلوقيون في المواضع المهمة ذات المكانة الخطرة من الوجهة السياسية والعسكرية والتجارية لحماية مصالحهم فيها ولا يعرف تأريخ خضوع تدمر للرومان معرفة أكيدة. وقد ورد في تأريخ "أفيفانوس" أن "مرقس أنطو نيوس" القائد الروماني بعد أن حارب الملوك. "الأرشكيين"، ودارت عليه الدوائر،توجه إلى الشلم عائدا من ثم إلى "رومة". فلم قرب من "تدمر" أوفد إلى أهلها رسلا يخبرونهم أنه قاصد مدينتهم ليريح فيها جنوده من أتعاب الحرب ومشقة الطريق. وكان يريد في نفسه الاستيلاء على المدينة وأخذ ما فيها من اموال. ونفائس. فأحس التدمريون بالمكيدة، وبادروا إلى نقل أموالهم وما يملكون من أشياء ثمينة، فتعقبهم الرومان حتى أدركوهم فاقتتلوا قتالا شديدا تهانت الغلبة فيه للتدمريين. أما المدينة نفسها فقد حل بها الخراب وأصبحت ركاما، وكان ذلك فى حوالي سنة "41" قبل الميلاد، وفي أيام القيصر "طيباريوس" "طبريوس" "Tiberius" "14 - 107 م" كانت "تدمر" في جملة الأرضين التابعة لحكم الرومان.

(1/1408)


--------------------------------------------------------------------------------

ونجد بين الكتابات التي عثر عليها في هذه المدينة قوائم " كمركية" تبين بعض الرسوم التي كانت تجبى عن البضائع وأثمانها باليونانية والتدمرية يعود تأريخها إلى سنة "17" بعد الميلاد ويظهر من قائمة الضرائب التي وضعت في أيام "جرمانيكوس" "Germanicus" ""17 - 19 م" لجبايتها عن البضائع التي ترد دوائر "كمارك" المدينة، وفي أيام "دوميطيوس كو ربولو" "Domitius Corbulo" "57 - 66 م" أن مدينة "تدمر" كانت في نفوذ وحكم "رومة" في العصر الأول للميلاد. وقد كانت تابعة للرومان في أيام الأنبراطور " فيسبسيان" "Vespasian" 60-79 م". غير أن هذا لا يعني انها كانت خاضعة للرومان خضوعا تاما، وأن الاشراف على شؤون المدينة كان كله بأيدي موظقي "رومة"، بل كان ذلك اشرافاعاما، أما الادارة،فكانت بأيدي أهل المدينة. وأن الحكم الروماني لم يتدخل في أمورها تدخلا فعليا. حتى إن الرومان سمحوا للمدينة الاحتفاظ بحامياتها " Militia" التي كانت لها في الخارج في مثل موضع "Vologasia" وفي مواضع أخرى.
وقد زارها الانبراطور "هدريانوس" "Hadrianus" "7 1 1 - 38 1 م" سنة "130" بعد الميلاد،ومنحها لقب " هدريانا بالميرا" "Hadriana Pamyra" و "هديريا نوبوليس" "Hadrianopolis"، وعثر فيها على كتابة مدو نة بالإرمية واليونانية يرتقي تأريخها إلى سنة "137" بعد الميلاد، أي إلى أيام هذا الانبراطور، جاء فيها أشياء تخص الأحوال التجارية في هذه المدينة أصدرها مجلس سادات المدينة لتنظيم التجارة، وتثبيت الضرائب، وكيفية الجبايه وما إلى ذلك من أمور. وهي من الكتابات المهمة الطويلة التي ترينا ناحية خطيرة من نواحي حياة تدمر.

(1/1409)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد بذل "هدريانوس" عناية كبيرة ب "تدمر"، حتى قيل فيه انه مؤسس المدينة الثاني. واعتنى عناية خاصة بحماية الطرق البرية التي تصلها بنهر " الفرات" الذي كان شريانا مهما من شرايين التجارة العالمية في ذلك العهد، فقد كان يقوم بالمهمة الني عهدت إلى "قناة السويس"، فيما بعد. ولأهمية هذا النهر الذي هو الممر المائي الذي يوصل تجارة ذلك المحيط الغالية الى الموانىء الواقعة عليه، سعى لتحسين صلاته بالفرس وبالمحافظة على الأمن في البادية، لتنمكن القوافل من المرور منها بأمن وسلام. وأوصل حامياته إلى شواطىء الفرات الغربية، بل يقال انه أنشأ أسطولا فيه،وان التجار التدمريين أقاموا في مدينة "Vologasia" وأقاموا لهم معبدا هناك، ليتعبدوا فيه لإلههم الذي منحهم الخير والرفاه.
وقد منحت "تدمر" درجة مستعمرة رومانية عليا، فاكتسبت بذلك حق الامتلاك التام والاعفاء من الخراج، والحرية الكاملة في ادارة سياسة المدينة. ونالت الحقوق الايطا لية "Colonia Juris Italici" "Italici Juris" "Jus Italicum".
منحت هذه الدرجة في ايام "هدريانوس" على رأي أو في ايام "سبتيميوس سويروس" "Septimius Severrus" 0 " 93 1 - 1 1 2 م" على رأي آخر. وكانت تتمتع بهذه المنزلة في ايام "كراكلا" "Caracalla" "1 21 - 217 م" كذلك. ولكن منحها درجة " مستعمرة" لا يعني انها صارت مقاطعة رومانية مئة بالمئة، بل كانت في الواقع حكومة مستقلة ذات سلطة واستقلال في ادارة شؤونها خاضعة خضوعا شكليا لحكم الرومان.

(1/1410)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد استفادت "تدمر" من سياسة "هدريانوس" المنطوية على الميل إلى السلم ومجانبة الحرب، ومن سياسة "انطونينوس بيوس" "Antoninus Pius" "138 - 1 6 1 م" الذي نشر ألوية السلم والطمأنينة، فوسعت تجارتها، وزادت في عدد قوافلها، وحصلت على ثروة طائلة. وتعد المدة المنصرمة بين سنة "130" و "270" بعد الميلاد من احسن أيام هذه المدينة. فالى هذه الأيآم ترجع معظم النصب والآثار العظيمة التي ما برحت تشاهد بقاياها في جملة ما يشاهد من أشلاء المدينة وجدثها المهشم بين الأتربة والصخور.
وقد كانت في تدمر حامية رومانية ايام "ماركوس أوريليوس" "مارقوس أوريليوس" "Marcus Aurelius" "1 16 - 180 م"، على طريقة من سبقه من الحكام في وضع حامية رومانية في هذه المدينة.
ولسلطان "رومة" على تدمر، استفاد الرومان من المحاربين التدمريين وكونوا منهم فرقا وكراديس لحماية الطرق ومصالحهم الممتدة في البوادي، فأودعوا أمر الدفاع عن "دورا" "Doura" "إلى الكردوس الستدمري العشرين "Xxth Cohore Palmyrenorum". وتركوا مهمة حراسة "الفنادق" "Funduq" التي أقامها الرومان على الطريق إلى كراديس الرماة التدمريين لحماية القوافل من لصوص الطرق والسالبين.
وقد تأثرت "تدمر" بأصول اليونان والرومان وطرقهم في ادارة الحكم،فكان للمدينة مجلس " شيوخ" "Senatus" له سلطة سن القوانين والتشريع، وله رئيس وكاتب وجملة أعضاء.ويشرف على السلطة الاجرائية شيخان "Archontes" وديوان يتألف من عشرة حكام. أما السلطة القضائية فينظر فيها بعض الوكلاء "Syndices" وغيرهم من العمال.

(1/1411)


--------------------------------------------------------------------------------

ويحمل موظفو المدينة عناوين يونانية تشر إلى اثر التنظيم اليوناني فيها، والى انها كانت تنفذ النظم الادارية اليونانية في اعمال الشعب.فالرئيس هو "Proedros" والكاتب أي "السكرتير" هو "Grammateus"، وهنالك عناوين وظائف أخرى هي: "Archontes" و"Syndicus" و"Dekaprotoi"، وهي المجالس المحلية التي يتألف كل مجلس منها من عشرة أعضاء. جرى هذا التنظيم على وفق نظام المدن اليونانية في حماية "الامبراطورية" الرومانية ودعيت السلطة التنفيذية، المؤلفة من أعضاء مجلس الشيوخ، وكذلك الشعب ب "Strategoi" و هي تعادل "Duumviri" "Dumviri" عند الرومان. وتجمل التدمريون الذين حصلوا على حقوق "مواطن روماني" بأسماء رومانية مثل "سبتيميوس" "Septimius" و "يوليوس أوريليوس" "Julius Aurelius" وضعوها في مقدمة أسمائهم النبطية أو العربية. وقد فعل ذلك قبلهم العبرانيون ونبط "بطرا" وسكان بلاد الشام وغيرهم من الضعفاء الذين يظنون انهم سيكتسبون بهذه المحاكاة الاحترام والتقدير. والضعيف انما يتشبه بالأقوياء ليخفي ضعفه.
أسرة "أذينة"
.
كان للانقلاب الذي وقع في مملكة الفرث. أثر كبير في حياة مدينة تدمر، وأعني بهذا الانقلاب ثورة "أردشير بن بابك بن ساسان" على الملك "أرطبان" الخامس ملك الفرث، وتأسيسه حكومة جديدة هي دولة "الساسانيين" "226 م". فكان من نتائج ظهور الدولة الساسانية تجدد الحروب بين الرومان والفرس ووقوع معارك بين الدولتين..

(1/1412)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد أحسنت أسرة عريقة من أسر "تدمر" الاستفادة من هذه الحروب، وجر المغانم اليها، والحصول على مركز عال لدى الرومان. وزعيم هذه الأسرة هو "أذينة" من "بني السميدع"، ينسبه "الطرفي" إلى "هوبر العمليقي"، "العملقي" من عاملة العماليق، فهي من بقايا " العماليق." على رأي الأخباريين. و "أذينة" من أسرة قديمة معروفة، تولى رجالها رئاسة تدمر والزعامة عليها، واستطاعت بفضل تأيدها للرومان وتقربها اليهم أن تكتسب ود القياصرة وعطفهم عليها والانعام على أفرادها بالألقاب والأوسمة وبالمال في بعض الأحيان، وبالقوة والمعونة وهي غاية كل سيد قبيلة وأمنية كل رئيس في مجتمع قبلي يقوم النظام السياسي والاجتماعي فيه على مفهوم الحكم القبلي في كل زمان ومكان. ولم يتعرض الرومان لحكم أفرادها على المدينة اذ كانت أحكامهم لا تعارض أحكام "رومة" ولا تصطدم بها. فتركوهم يديرون شؤونها على وفق السياسة الرومانية وادارة القياصرة وأوامرهم التي يصدرونها إلى "المشيخة"، فكانوا يعد ونهم "Procuratores" لدى قياصرة الرومان.
ووردت في الكتابات التدمرية أسماء نفر من رجال هذه الأسرة،منهم "نصور" "Nasores" "Naswar" "نصر" "ناصور"، وقد جد "أذينة" واسمه يشير إلى اسم عربي الأصل هو "نصور" أو " ناصر" أو "نصر" تحول إلى "نصرو" ليلائم النطق النبطي. وهو والد "وهبلات" "وهب اللات" "Vahballatat" "Vaballathus" و" وهب اللات"، هو والد ولد اسمه "خيران" "حيران" "Airanes". و "حيران" "خيران"، هو والد "أذينة".

(1/1413)


--------------------------------------------------------------------------------

و " نصور" اذن هو أقدم من وصل الينا اسمه من أسماء الأسرة التي حكمت مدينة "تدمر". وهو شخص لا نعرف عنه شيئا ما. وقد يكون من سادات الفبائل في الأصل من جاء إلى هذا المكان فاستقر فيه، وتولى نسله أو هو الحكم فيه. وقد يكون لهذا الاسم صلة ب "نصر" الذي ينسب أهل الأخبار ملوك الحيرة إليه، فيقولون انهم من "آل نصر" وكان "سبتيميوس خيران"، على رأس مجلس المدينة، ولقبه الرسمي الذي عرف به عند أهل مدينته "رأس تدمر" "رش تذمور" إضافة إلى لقبه الذي لقبه به الرومان. وقد تمكن من تثبيت سحكم أسرته ومن الهيمنة على شؤون المدينة ومن توسيع تجارتها، فاكتسب بذلك منزلة كبيرة عند أهل تدمر، وعند الرومان. ورافق "سبتيميوس مويروس" "193 - 1 1 2 م" في حروبه مع الفرث وتقرب إليه، ولقب نفسه ب "سبتيميوس"، فصار اسمه "سبتيميوس خيران" "سبتيميوس حيران".
وقد عثر على كتابة يرجع الباحثون زمان كتابتها إلى حوالي السنة "235" للميلاد، أو بعد ذلك بشىء قليل، ورد فيها اسم "أذينة بن خيران بن وهب اللات ابن نصور". وقد لقب "أذينة" فيها بلقب " سقلطيق" "Skiltyk". وقد كان يحمل لقب عضو في مجلس "الشيوخ" الروماني وقد نعت "سبتيميوس أذينة" ب "سقلطيقا" "Skiltyka" في الكتابة التي دونت لتكون شاخصا لأحد القبور. وقد حصل على لقب عضو مجلس الشيوخ، ثم لقب نفسه بلقب " ملك" "Rex"، وذلك في حوالي سنة "255" للميلاد.
وجمع الناس عليه، فأدرك الرومان ما وراء هذه الدعوة من خطر على مصالحهم، فأوعز القيصر إلى "روفينوس " Rufinus" باغتياله، فقتل وتخلص الرومان منه. ومن ولد "أذينة"، " سبتيميوس خيران" "حيران" "Septimius Hairan" "تولى رئاسة تدمر بعد مقتل أبيه. وقد ذكر اسمه في كتابة دونت سنة "251" للميلاد، ولم يصطدم بالرومان. وقد كان مثل أبيه بدرجة Senator" كما لقب ايضا بلقب "رش تدمور"، أي "رأس تدمر" "رئيس تدمر". ولقب بلقب " Exarkus" "Exarchus". .

(1/1414)


--------------------------------------------------------------------------------

ولما مات "سبتيميوس خيران"، خلفه "أذينة" "Odenatus" على شؤون المدينة. ولم يرد نسبه في النصوص،فلا ندري أكان ابنا أم شقيقا ل "سبتيميوس خيران". وقد ذهب بعضهم إلى انه كان اخاه. وكان شجاعا فارسا ألف حياة البداوة جريئأ، محبا للصيد ولا سيما صيد الذئاب والفهود والأسود. تولى قبل انتقال الحكم إليه قيادة الجيش والقوافل ورئاسة قبائل البادية،فكانت له مؤهلات خاصة وكفايات حسنة مكنته من رفع شأن "تدمر" في أعين الرومان، ومن تكوين اسم لها عند رجال الدولتين المتزاحمتين.
وقد تبين من كتابه دونت سنة "258" للميلاد ومن كتابتين أخريين انه كان يحمل درجة قنصل "Vir Consularis" في عهد القيصر "فالريانوس" "Valerianus"، كما كان يحمل لقب " مرن"، أي "سيدنا"، وهو اللقب الذي يستعمله أهل "تدمر"، وهو يعادل لقب " Exarkos" "Exarchos" في اليونانية.

(1/1415)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذكر بعض المؤرخين أن "اذينة" الذي نتحدث عنه كان ابنا ل "أذينة" ابن "خيران" ووالد "سبتيميوس خيران"، وانه كان قد هرب إلى الجبال وألف حياة البداوة والربى منذ صغره لينتقم من الرومان الذين اغتال قائدهم "روفينوس" "Rufinus" أباه. فلما انتقل الحكم إليه، عمل جهده على الأخذ بثأر أبيه، فراجع " فالريانوس" "والريانوس" شاكيا إليه ما فعله "روفينوس" بأبيه، طالبا منه انزال العقاب به. أما القيصر، فلم يأبه لهذه الشكوى، ولم يحسب لها حسابا، فغاظ ذلك "أذينة" وأزعجه وحمله على التفكير في الاتصل بأعداء الرومان،وهم الفرس. فلما بلغه نبأ زحف "فالريانوس" على الفرس في عام "259" بعد الميلاد وخيانة قائده "مكريانوس" وسقوط القيصر أسيرا في أيدي الفرس على مقربة من "الرها"، أرسل رسلا إلى "سابور" حملهم هدايا كثيرة وكتابا يتودد فيه إليه ويظهر رغبته في مصالحته ومحالفته. فلما بلغ الرسل معسكر الملك، وطلبوا ملاقاته لابلاغه الرسالة، استكبر عليهم وتجبر وأظهر عجبه من تجاسر" شيخ" على الكتابة إليه، ومخاطبته مع أنه "ملك الملوك"، وهو رئيس مدينة في بيداء قفرة لا قيمة لها ولا أهمية ومن يكون أذينة ? هذا الرجل، الذي دفعته حماقته إلى التجاسر عل سيده بالكتابة اليه ? فإن كان له أمل في عقوبة خفية فليأت إلي ويداه مغلولتان إلى ظهره ا وإن لم يفعل، فليعلم بأني سأهلكه وأهلك أسرته وأنزل الدمار بمدينته ? ثم مز ق الرسالة، ورمى بالهدايا تحت قدميه. فعاد الوفد كاسف البال خائفا مما قد يقوم به هذا الملك المغرور الطائش من عمل تجاه مدينة خسرت الرومان، ولم تحظ بالاتفاق مع الساسانيين.

(1/1416)


--------------------------------------------------------------------------------

ولما رجع الرسل إلى تدمر وأعلموه بما جرى، قرر الأخذ بثأره من هذا الملك المتغطرس الطائش، فجمع القبائل بظاهر. تدمر وجعلها تحت امرة ابنه "هروديس"، وضم اليها فرسان تدمر بقيادة "زبدا" كبير قواده، وقواسيها بقيادة "زباي"، وهما من "آل سبتيميوس" أي من أقرباه أذينة، وحشد معهم بعض الكتائب الرومانية وفلول جند "والريانوس" وسار على رأس هذا للجيش قاصدا المدائن للانتقام من "سابور" الذي كان قد انشغل بغزو الأنحاء الشمالية، ولانقاذ القيصر من الأسر وفي أثناء زحف "أذينة" على المدائن، وصلته أنباء تغلب القائد الروماني "كاليستوس" على الفرس، وتشتت شملهم وهربهم، فغير اتجاهه وأسرع اليهم لملاقاتهم، وقد أدركهم قبل تمكنهم من عبور نهر الفرات،فالتحم بهم وتغلب عليهم،وولى " سابور" مع فلول جيشه مذعورا تاركا أمواله وحرمه غنيمة في أيدي التدمريين.ولم يتمكن الفرس من عبور نهر الفرات الا بعد تعب. ولما عبروه هنأ بعضهم بعضا على السلامة والنجاح. اما أذينة، المنتصر الظافر، فكتب إلى "غاليانوس ابن والريانوس" "كاليانوس بن والريانوس" يخبره بهزيمة الفرس، وباخلاصه للامبراطورية، ففرح القيصر بالطبع بخبر النصر فرحا عظيما، وأنعم عليه بدرجة قائد عام على جميع عساكر المشرق "Dux Romanorum"، وحثه على مواصلة الحرب لانقاذ "والريانوس" والده من الأسر.
وقد أشار المؤرخ "ملالا" "ملالس" إلى ملك دعاه "Enath"، ذكر انه كان ملك العرب "السرسين" "Saracens" الأجلاف الغلاظ وحاكم "العربية" وحليف الرومان، وذكر انه هاجم ملك الفرس "سابور" في ايام "والريانوس" وكان قد سار إلى حدود الامبراطورية الساسانية،وتوغل فيها وأوقع خسائر بالفرس. وقد قصد به الملك "أذينة" هذا الملك الذي نتحدث عنه.

(1/1417)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر أن "أذينة" كان يتحبب إلى الرومان، فأنعموا عليه بالألقاب، ومن ذلك لقب"Vir Concularis" الذي كان يحمله في عام "258" للميلاد. وقد منح قبل هذه السنة على ما يظهر. ولعل ضغطه المتزايد على الفرس هو
الذي حملهم على ترك "دورا" "Dura" "Doura" ففسح بذلك المجال لعودة الحامية الرومانية إلى هذه المدينة، فرقع ذلك من شأنه في أعين الروسان. وتمكن "أذينة" من تحرير الجزيرة من الفرس، وفتح "نصيبين" "Nicibis" "Nisibis" و "حران" فاستقبل هو وجنوده استقبالا عظيما. وكان الناس يذكرون بازدراء "غاليانوس" الذي تركهم فريسة للفرس. ثم سأر بجيوشه إلى "Ktesiphon" "264 م"، فخاف " سابور" وأمر بجمع كل ما عنده من قوات للدفاع عن عاصته، غير انها لم تتمكن من وقف زحف التدمريين فوصل "أذينة" إلى "المدائن" وحاصرها، ونصب المجانيق وآلات الحصار لفتحها، وكاد " سابور" يلتمس منه الأمان لولا حدوث حادث أكره أذينة على ترك الحصار والتراجع، هو خروج " مكريانوس" "Macrianus" "Macrinus" القائد الذي كان السبب في وقوع "والريانوس" في السصر على القيصر "غاليانوس" وتنصيبه نفسه قيصرا على آسية الصغرى ومصر وفلسطين والشام. فاضطر هذا الانقلاب "أذينة" إلى الرجوع إلى مدينته بسرعة، لاتخاذ موقف حاسم تجاه هذا الوضع السياسي الجديد.

(1/1418)


--------------------------------------------------------------------------------

لم يكن "أذينة" مطمئنا إلى "مكريا نوس" "Macrianus" "Macrinus" كان يكرهه ويخشى أن يستولي على ملكه إن تمكن واستأثر في الحكم، فقرر منازلته قبل منازلة " مكريانوس" له. وبينما كان يهم بالزحف على "حمص" "Emisa" "Emissa" جاء نبأ مقتل، "مكريانوس"، فأعلن السوريون ولاءهم لأذينة وخروجهم على "كياثوس بن مكريانوس" وساروا مع التدمريين لمحاصرة "كياثوس" في مدينة "حمص". ولما اشتد الحصارعلى المدينة وطال، قتل "كاليستوس" سيده "كياثوس." ورمى برإسة من فوق السور تحت قدمي "أذينة" ثم فتح له أبواب المدينة والتمس منه الأمان، فمنحه اياه ودخل المدينة في سنة "262" للميلاد.
ولم يكن استسلام أهل "حمص" للتدمربين أمرأ سهلا عليهم فقد كانت بين الفريقين شحناء وبغضاء. نظر أهل حمص إلى أهل تدمر نظرة ازدراء وغضاضة.، إذ كانوا يرونهم ناسا أجلافا، ليس لهم حظ من حضارة وثقافة، أهل بادية حفاة جفاة. وقد يكون لاتصال حدود "تدمر" بحدود حكومة "حمص" وغارات أعراب تدمر على أرض حمص يد في خلق هذا النزاع. وقد لاقت حمص من استيلاء أهل تدمر عليها عنتا شديدا إذ،حل بها حمار وخراب لرفضها الاستسلام ل"برابرة تدمر". لقد سقطت حمص في أيدي التدمريين،بالرغم من تضرع أهلها وتوسلهم بالإلهة "الشمس" لتنصرهم على أعدائهم وتنزل بهم خسائر فادحة. وقد كانوا من عبادها المخلصين. ولكن أهل تدمر كانوا يتعبدون للشمس كذلك، وقد توسلوا وتفرعوا اليها تتنصرهم على أعدائهم أهل حمص. لقد كان موقف "الشمس" موقفا حرجا. فالطرفان المتخاصمان، من عبادها. وقد أقام كل منهما معبدا ضخما فخما لعبادتها، زوقت أبوابه وذهبت قبابه، وكل منهما يتوسل اليها، فأي طرف تؤيد إذن ? والظاهر إن اختيارها وقع على تدمر إذ انتصروا على أهل حمص، ودخلوا المدينة ظافرين.

(1/1419)

admin
12-27-2010, 01:16 AM
وسر "أذينة" ولا شك من هذه النتيجة، فقرر بعد استراحة جنوده بضعة أيام أن يسير نحو الشمال للقضاء على المنشقين. وبينا هو في طريقه، تلقى أنباء تمرد "كاليستوس" وخروجه عليه واعلان نفسه ملكا، فأمر نفرا من رجاله بالذهاب إلى معسكر "كاليستوس" لاغتياله، فذهبوا إليه، وتمكن فارس من الدخول إلى خيمته وقتله. عندئذ تحسن موقفه،فسار إلى الجزيرة، وتعقب الفرس فقبض على عدد من "المرازبة" "Satrapen" وأرسلهم إلى "رومة"، وأظهر اخلاصه وطاعته لقيصر، فرضي عنه واطمأن إليه، وأعطاه منزلة رفيعة هي: "Imperator Totius" "Dux Orientis" ودعاه انبراطورا على جميع أنحاء المشرق، أي علي الشام والجزيرة وآسية الصغرى عدا "بتينية" وبضع نواح شمالية، " 264 م". وضربت نقود باسمه صور عليها أذينة ووراءه بعض أسرى الفرس. وجعل تحت امرته جميع القوات الرومانية المعسكرة في المشرق. وكلفه القضاء على فلول جيش "مكريانوس" وتطهير المقاطعات الرومانية منهم.
واختار أذينة لنفسه لقبا آخر حبيبا إلى نفوس الشرقيين هو لقب "ملك الملوك"
" ملك ملكا" 3، لعله فعل ذلك محاكاة لملوك الفرس. ومنح لقبا آخر هو "أغسطس" "Augustus" لقب قياصرة الرومان. والانسان متى أبطرته النعمة مال إلى اتخاذ أمثال هذه الألقاب وفي رواية أن مجلس الشيوخ الروماني منحه لقب "أغسطس"، فصار مساويا للقيصر، وأنه أمر بوضع صورته مع صورة الانبراطور على النقود التي أخذت غنيمة من الفرس.
وعرف "أذينة" ب "متقنا دي مدنحا كله"، "متقنا متقنانوتا"، وتقابل معنى "Reparator Totius Orientis" أو "Correctores Italiae" "Utriusque Italiae, Italiae Regionis Transpadanae"، وتقا بل درجة "Correctores" منزلة "رئيس" "praesides"، أي رئيس مقاطعة من المقاطعات.

(1/1420)


--------------------------------------------------------------------------------

وقام "أذينة" باصلاحات جمة أظهر فيها أنه لم يكن قائدا قديرا فقط، بل كان إلى ذلك رجل ادارة وسياسة وتسامح أيضا. فمنع تعصب الوثنيين على النصارى واضطهادهم لهم، ومنح كل طائفة حريتها في ممارسة شعائر دينها، وخو ل النصارى حق بناء الكنائس حيثما شاؤوا. وتعقب اللصوص وقطاع الطرق من الجنود الهاربين والمسرحين من الخدمة والصعاليك الذين وجدوا في الاعتداء على الامنين ومهاجمة القوافل والقرى والمدن خير مصدر للحصول على الكسب والمغانم والمال، وقتل "كاليستوس" زعيم الصعاليك الذي اسمال من لا عمل له إلا الفتنة والاعتداء على الناس، وبذلك أراح أذينة نفسه وأراح المقاطعات الرومانية من اثر هؤلاء، واطمأن الناس على أنفسهم، وعادوا إلى أماكنهم التي اضطروا إلى تركهم لها بسبب تلك الاعتداء ات التي قام بها من أطلق عليهم الكتاب اسم "الظالمون".
وصمم "امبراطور الشرق" و "ملك الملوك" بعد هذه الأعمال على انتزاع القيصر "والريانوس" من أيدي الفرس، ومحاربة خصمه المتغطرس المتلقب بلقب "ملك الملوك" كذلك. قد يكون حبا في اذلال من استهان به فمزق رسالته أمام أعين رسله، وقد يكون تقربا للرومان وتوددا إلى القيصر "غاليانوس". والشرقيون مبالغون ويا للاسف في اكرام الغرباء، متزلفون إلى القوي منهم، ولو كان في ذلك هلاك الوطن والرعية. عين ابنه البكر " سبتيميوس هيرودس" ""Septimuis Herodes" من زوجته الأولى نائبا عنه في ادارة شؤون الملك، وأخذ هو جيشه وسار به لمحاربة الفرس في أوائل عام " 265" بعد الميلاد. سار به إلى "طيسفون" عاصمة "سابور" فحاصرها أمدا، ويظهر أن "سابور" أظهر استعداده لعقد صلح لولا اشتراط "أذينة" فك أسر "والريانوس"، وهو شرط كان في نظر الفرس جد عظيم.

(1/1421)


--------------------------------------------------------------------------------

ووقع حادث مهم اضطر "أذينة" إلى تبديل خططه العسكرية وترك حصار"طيسفون". ذلك هو انتهاز "القوط" فرصة محاصرة "أذينة" للمدائن وابتعاده عن آسية الصغرى وبلاد الشام، فعبروا بحر "بنطس" "Pontus" أي البحر الأسود ونزلوا بميناء " هرقلية" "Heraclea" ثم زحفوا على " بتينية" و "فريجية" و "غلاطية" و "قيادوقية"، وكانوا يقصدون من وراء زحفهم هذا التوسع والاستيلاء على آسية الصغرى وبلاد الشام وكل ما يمكن الاستيلاءعليه من بلاد الشرق. فلما علم "القوط" بمجيء "أذينة" هربوا إلى ميناء "هرقلية" مسرعين، ومنه ركبوا الى بلادهم التي جاءوا منها. فقرر عندئذ الرجوع إلى العراق لفتح "طيسفون". وبينما كان "أذينة" في "حمص" لاراحة الجند، أعد وليمة كييرة تذكارا ليوم ميلاده حضرها قواده وكبار القوم. فانتهز "معنى" "Maeonius" ابن اخيه "خيران" هذه الفرصة، فقتل هو وعصابته عمه "أذينة" وابن عمه "هيرودس" "Herodus"، لاغتصاب عمه منه ملكه الذي ورثه من أبيه. ونادى بنفسه ملكا على المملكة التي أنشأها وكو نها "أذينة" القتيل، وبذلك استرجع حقه من المقتول. ولكن حياة القاتل كما يقول المثل الشرقي لا تطول، وذلك قولهم: "بعثر القاتل بالقتل"، فما كاد يتربع على العرش اياما حتى انتقمت منه سيوف "حمص"، وألحقته بالعالم الواسع الذي ذهب إليه القتيلان "66 2 - 67 2 م".

(1/1422)


--------------------------------------------------------------------------------

مأ أعجب الحياة في مدة قصيرة ظفر فيها رجل "تدمر" من رئيس في مدينة صحراوية إلى ملك على عرش مملكة، فقائد كبير في أعظم،انبراطورية في عالم ذلك الزمن، ومنافس للقيصر وملك على الشرق، وفي لحظة واحدة انتقل فيها هذا القائد الملك من هذا العالم إلى عالم القبر. انها الحياة لا بد لها من نهاية مهما بلغ الإنسان من منزلة ومكانة، لا تعرف قوة وصولة ولا فقرا وضعفا، الجميع إلى هذه النهاية منتهون، وللفيلسوف أن يستخرج منها حكمة الحياة. هل قتل "معنى" عمه لاغتصابه حقه الطبيعي في الملك ? أو قتله لأسباب أخرى وهل كان لأحد مثل الملكة "الزباء" ضلع في الحادث ? وهل كان للرومان يد في هذه الجريمة ? وهل كان للحزب الوطني التدمري الذي كان يكره اليونان والرومان وكل سيطرة غريبة يد في هذا الاغتيال لما عرف عن "أذينة" من دفاعه عن الانبراطورية الرومانية وحماسته في الدفاع عنها ? هذه أسئلة سألها المتعمقون في تأريخ "تدمر" والباحثون فيه، وأجابوا عنها أجوبة مختلفة. فمنهم من رأى إن الجريمة هي انتقام شخس بسبب اغتصاب "أذينة" حق القاتل الذي ورثه من أبيه، ومنهم من رأى انها مسألة مسيرة مدروسة وان للزباء يدا فيها. ومنهم من رأى انها بتدبر الرومان وعلمهم، فعلوها للتخلص من رجل أخذوا يشكون في اخلاصه، ويرتابون منه ومنهم من رأى عكس ذلك: رأى انها فاجعة للرومان وخسارة كبيرة لسياستهم في الشرق، وانها من أعمال الوطنيين الذين رأوا في ملك تدمر أداة طيعة مسخرة في ايدي سادة"رومة" فقرروا لذلك الانتقام منه، أما نحن فنرى أن من الصعب البت في سر قتل "أذينة" وابنه، فالأخبار الواردة في هذا الموضوع غامضة، والأدلة غير متوفرة، ومبايعة الجيش وقواده للقاتل في سرعة ومن غير كلام أو قتال، ثم قيام أهل حمص بقتل القاتل بعد أيام، وتولى الملكة "الزباء" بعده وبسرعة هي قضايا فيها نظر. ولهذا تعددت الاراء، ولن تتفق ما دامت الروايات المقدمة الينا على هذا النحو

(1/1423)


--------------------------------------------------------------------------------

من التعقد والأمور.
أظهر "أذينة" مقدرة فائقة جديرة بالاعجاب، استطاع أن يكو ن جيشا قويا يخيف الفرس ويلحق بهم الخسائر ويكتسب تقدير الرومان واحترامهم في مدة قصيرة، واستطاع أن يكون من القلعة الصغيرة المبنية في البادية مملكة كان لها أثر خطير في النزاع السياسي العسكري بين الرومان والفرس. لقد قام بعمل عسكري عظيم في محاولاته الحربية لانقاذ القيصر "والريانوس" محاولات لم يقم بها سيد "رومة" وابن القيصر الأسير ولا أتباعه الرومان. لقد "أرسلته الشمس اسدا مخيفا مرعبا".
لقد وقعت في ايام "أذينة" أحداث خطيرة عظيمة في الشرق الأدنى من المعسكرين: المعسكر الشرقي وهو معسكر الفرس، والمعسكر الغربي وهو معسكر الرومان يساعدهم التدمريون. كانت انتصارات الفرس في سنة "260" بعد الميلاد، ثم أسر القيصر "والريانوس"، وغزو بلاد الشام، وقيام " أذينة.، بالهجرم على الفرس، وطردهم من الأرضن التي احتلوها من الأمور الخطيرة التي وقعت، في ذلك العهد، أفادت الرومان ولا شك كثيرا، ولكنها لفتت أنظارهم في الوقت نفسه إلى الخطر الجديد الذي أخذ يتهددهم من ظهور قوة "تدمر"، وتدمر في بلاد الشام. وقد تزعم الحركات الوطنية المعادية للرومان في الشرق،، فتكون كارثة على "رومة". ونجد أخبار "أذينة" وأعماله خاصة بعد معركة "الرها". Edessa" "في تأريخ " سوزيموس" "Zosimus"".

(1/1424)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا بد لي في هذا الموضع، وقد انتهيت من الحديث عن لذينة، من الإشارة إلى رجل كان له شأن وذكر في ايام "أذينة"، وكان أقوى شخصية في تدمر الا وهو " ورود" Worod" "الذي ورد ذكره في عدد من الكتابات، أقدمها الكتابة المدونة بشهر نيسان من سنة "262" للميلاد وقد لقب فيها ب "Procurator Ducenarius""، كما لقب بلقب "مرن" الذي تلقب به "أذينة" أيضا، أي " سيدنا" و "أمر نا"، وبألقاب أخرى، مثل "Cursus Honorum" و "قائد القافلة" و "شريف المستوطنة" وغيبر ذلك من نعوت حملها "أذينة" نفسه، مما يحملنا على الاعتقاد بأنه كان الرجل الثاني في تدمر بعد "أذينة"، ومن الغريب إن اسمه اختفى مع اسم أذينة في السنة التي قتل فيها الملك نفسها، فلم نعد نقرأه في الكتابات.
وكان " ورود" يقوم مقام "أذينة" بأعباء الحكم عند غياب "أذينة" عن عاصمته. ويرى بعض الباحثين إن اسمه الكامل هو " يوليوس أورليوس سبتيميوس ورود" Jolius Aurelius SeotimiusWord" وانه كان من الطبقة " الأرستقراطية"، وهو من أصل فارسي روماني. وقد نال أعلى الألقاب المعروفة في أيامه، حتى ضاهت الألقاب التي لقب بها "أذينة". والظاهر انه كان شخصا كفؤأ حازما لذلك نال مركزا لم يبلغه أحد غير "أذينة"، اذ كان الرجل الثاني في تدمر بعد الملك.
ولا نعرف شيئا كثيرا عن المكانة التي حصل عليها بعد مقتل "أذينة" وتولى"الزباء" اعباء الحكم نياية عن ابنها "وهبلات"، والظاهر انه لم ينل عند الملكة المنزلة التي بلغها عند "أذينة"، وان عينته الملكة نائبا عنها في بعض الأوقات، وكل ما وصل إليه عندها هو منصب "مستشار"، فقد كانت تستدعيه عند الحاجة لاستشارته في بعض الأمور الخطرة. وقد كان لها جماعة مستشارين تستعين برائهم في ادارة الحكم وفي تنظيم الأمور المالية،ولا سيما الجباية من التجارة و التجار.

(1/1425)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم يشر "الطبري" ولا غيره من المؤرخين المسلمين إلى حروب "أذينة" مع "سابور" على أهميتها وبلوغ ملك "تدمر" فيها العاصة "طيسفون". وهذا أمر يدعو إلى العجب حقا اذ كيف يهمل المؤرخون والأخباريون هذا الحدث الخطير ? فلا بد أن يكون هنالك سيب. ورأيي إن سببه الموارد الأصيلة التي اعتمد عليها المؤرخون المسلمون والأخباريون واخذوا منها، وهي موارد فارسية الأصل متعصبة للفرس، أو موارد عراقية ميالة الهم.
وقد أخذ المؤرخون المسلمون لأريخ الفرس من موارد فارسية، أما تأريخ الرومان واليونان، فقد أخذوه من موارد نصرانية سريانية في الغالب، ولكنهم أخذوه بقدر، ولم يتوسعوا في الطلب، لذلك كان تأريخ الرومان واليونان مختصرا جدا وضعيفا يالقياس إلى ما دو ن عن تأريخ الفرس، عبارة عن جريدة بأسماء القياصرة جافة في.الغالب، ونتف وقطع مبثوثة هنا وهناك في الفصول المدو نة عن تاريخ الدول الفارسية ذكرت في المواضع التي تكون لها صلات بتأريخ الفرس، ولذلك أيضا أدمج أكثرما دون عن تأريخ الغساسنة وعرب الشام في الأوراق التي دونت عن تأريخ الحيرة وعرب العراق. وقد انتزعت من موارد فارسية- عراقية، ففيها تعصب للفرس وللعراق على الروم والرومان وبلاد الشام.

(1/1426)


--------------------------------------------------------------------------------

واظن إن الموارد الأولى الني نقل منها الأخباريون والمؤرخون كلامهم عن تاريخ الفرس لم ترقها الاشارة إلى انتصارات ملك كو ن مملكة في البادية بنفسه، على "سابور" صاحب انبراطورية واسعة تتباهى بنفسها على الرومان، فأهملت الكلام عنها بداقع العاطفة والنزعات القومية. فلما ترجمت تلك الموارد إلى العربية أو نقل منها، لم يجد الأخباريون والمؤرخون شيثا يقولونه عن انتصارت "أذينة" على "سابور"، وإلا ذكروه كما ذكروا حادث أسر " سابور" للقيصر "والريانوس" في أثناء كلامهم عن سابور. وقد ذكره الطري فقال: "وانه حاصر ملكا كان بالروم يقال له الريانوس بمدينة انطاكية، فأسره وحمله وجماعة كثيرة معه وأسكنهم جنديسابور".
الزباء
انتقل الملك بعد مقتل "أذينة" و "معن" إلى "وهبلت" و "هبلات" "وهب اللاث". ، وهو ابن "أذينة" من زوجه " الز باء" ويعرف في اليونانية ب "اتينودورس" Athenodrus" ". وكان لوهبلات اخوة هم: "حيران" "خيران" و " تيم الله" من أذينة "أذينة" وامه "الزباء". وكان قاصرا، لذلك تولت الوصاية-عليه وتأديبه بأدب الملوك حتى يبلغ سن الرشد، فعلمته "اللاتينة" والفروسية، وهيأته ليكون ملكا. كبرا كقياصرة الرومان أو أكاسرة الفرس وسعت هي لتهذيب الدولة وتوسيعها وبسط نفوذها على أماكن واسعة لم تكن خاضعة لتدمر، لذلك كان لا بد من حدوث احتكاك وتصادم بينها وبين الرومان.

(1/1427)


--------------------------------------------------------------------------------

وللاخباريين احاديث واقاصيص عن الزباء، واسمها عندهم "نائلة بنت عمرو ابن الظرب بن حسان بن أذينة بن السميدع بن هوبر العميلقي" "العملقي" من العماليق. و "الزباء بنت عمرو بن الظرب بن حسان بن أذينة بن السميدع ين هوبر" على زعم، و "ليلى" في زعم آخر. وزعوا إن لها اختا اسمها "زبيبة" بنت "الزباء" لها قصر حصين على الشاطئ الفرات الغربي، وكانت تشوعند اختها وتربع ببطن النجار، وتصير الى تدمر. كما كان لها جنود هم نظرهم بقايا من العماليق والعاربة الاولى، وتزيد وسليح ابن " حلوان بن عمران ابن الحاف ين قضاعة" ومن كان معهم من قبائل قضاعة. وذكر "ابن خلدون" إن ملك العرب بأرض الحيرة ومشارف الشام كان.لعمرو بن الظرب،و.كان جنود ألزباء من بقايا العمالقة من عاد الأولى ومن نهد وسليح ابني حلولن ومن كان معهم من قبائل قضاعة، وكانت تسكن على شاطىء الفرات وقد بنت هنالك قصرا، وتربع عند بطن المجاز، وتصيف بتدمر، أخذ قوله هذا من. تأريخ الطبري وتصر ف فيه بعض التصرف. أما الأصل، فخبر من اخبار الأخبارين، واما النقل فحكمه حكم الأصل بالطبع. وأما ان جنود "الزباء" من بقايا "العمالقة"، فهو أمر مقبول في نظر اصحابنا الأخباريين، و لم لا ? أن "الزباء" في رأيهم من بقايا العمالقة، اي من العرب الأولى فلم لا يكون جنودها اذن من اولئك لقوم ? وزعم بعض الأخباريين إن "الزياء" من ذرية "السميدع بن هوثر" من "بني قطورا" اهل مكة، وهي بنت " عمرو بن أذينة بن، الظرب بن حسان". ويبن " حسان" و "السميدع" آباء. وزعم آخرون أن "عمرو بن الظرب" كان على مشارف الشام والجزيرة، و كان منزله بين " الخابور" و "قرقيساء"، فوقعت بينه " وبين "مالك بن فهم" حروب هلك "عمرو" في بعضها، فقامت بملكه من بعده ابنته "الزباء". وقد استمرت الحرب بين "مالك" و "الزباء" إلى إن الجأها إلى اطراف مملكتها. وكان " مالك" على ما يصفه الأخباريون رجلا قديرا يغير على ملوك الطوائف حتى

(1/1428)


--------------------------------------------------------------------------------

غلبهم على كثير مما في ايديهم. وهو في نظرهم اول من ملك من "عرب الضاحية". وكان منزله مما يلي "الأنبار"، ثم ملك بعده أخوه "عمرو بن فهم". فلما هلك تولى من بعده "جذيمة الأبرش" الشهير في تأريخ الحيرة.
والذي حارب "عمرو بن الظرب" على رواية منسوبة إلى "ابن الكلبي" ذكرها " الطبري" هو "جذيمة الأبرش"، وكان جذيمة على هذه الرواية قد جمع جموعا من العرب سار بها يريد غزاة "عمرو"، وأقبل "عمرو" بمجموعة من الشام فالتقوا فاقتتلوا قتالا شديدا فقتل "عمرو بن الظرب" وانفضت جموعه. فأجمعت الزباء رأيها لغزو "جذيمة" للاخذ بثأر أبيها، ولستعدت لذلك. غير إن اختا لها هي " زبيبة"، وكانت ذات رأي ودهاء وأدب، نصحتها بترك الحرب، فإن عواقبها غير مضمونة، فاستجابت لنصيحتها، وعمدت إلى طرق المكر والحيل فراسلته واستدرجته إلى عاصمتها في قصة معروفة مشهورة لا حاجة بي إلى اعادتها، فغدرت به وقتلته. وطلب "قصير بن سعد بن عمرو ابن جذيمة بن قيس بن ربي بن نمارة بن لخم"، وكان اريبا حازما أثيرا عند "جذيمة ين الأبرش" من "عمرو بن عدي" خليفة " جذيمة" على الحيرة الخروج لقتال "الزباء"، فأحجم فلما رأى ذلك منه، صمم على أن يأخذ هو بالثأر، فذهب اليها مدعيأ انه مضطهد ممقوت لتهمة نسبت إليه هي انه ساهم في - قتل "جذيمة" فوثقت به واطمأنت إليه وهي لا تعلم ما في يخفي لها، ثم طلب منها أن يعود إلى بلده ليعود بأمواله ونفائس ما لديه فسمحت له وأعطته تجارة لتصريفها هناك، فباعها وعاد بأرباح طائلة وبأموال كثيرة، فزادت ثقتها به وتكرر الحال، حتى اذا ما وثق من اطمئنانها إليه عاد في المرة الأخيرة برجال أشداء من بني قومه ومعهم "عمرو بن عدي"، وضعهم في جوالق كبيرة فلما توسطوا في المدينة، أنزلت الجوالق وخرج الرجال منها، فوضعوا سيوفهم في رقاب أهلها، فلما رأت الزباء ذلك. أرادت الهرب من نفق حفرته لمثل هذه الأيام، اطلع قصير عليه، فوضع "عمرو بن عدي" على

(1/1429)


--------------------------------------------------------------------------------

بابه. فلما رأته الزياء مصت خاتمها، وكان فيه سم، قائلة: "بيدي لا بيدك يا عمرو"، وتلقاها عمرو بن عدي بالسيف فجللها به وقتلها، وغنم كثيرا، وانكفأ راجعا إلى العراق.
وهي قصة محشوة بالأمثال المنسوبة إلى أبطالها: جذيمة وقصر والزباء وعمرو ابن عدي، وفيها على عادة الأخباريين في رواية أمثال هذا القصص شعر نسب بعضه إلى هؤلاء الأبطال، ونسب بعضه الآخر إلى شعراء أقحمت أسماؤهم في القصة ليؤكد واضعوها ولا شك صدق حديثهم،وليلو نوا كلامهم بعض التلوين. ونجد قصة الزباء وجذيمة وقصير المطالب بالثأز في شعر ينسب إلى "عدي بن زيد العبادي"، جاء فيه: ألا أيها الملك المرجى ألم تسمع بخطب الأولينا
دعا بالبقة الأمراء يوما جذيمة عصر ينجوهم ثبينا
فطاوع أمرهم وعصى قصيرا وكان يقول لو تبع اليقينا
ثم يستمر في نظم القصة شعرا حتى تنتهي. وقد ختمت بنصح للانسان ليتعظ بالحوادث والمنايا، التي لا تعرف أحدا مهما كانت درجته ومنزلته، إلا أخذته، ثم صيرته أثرا بعد عين.
وذكر أهل الأخبار أن "الزباء" كانت تأتي الحصون، فتنزل بها، فلما نزلت ب "مارد"، حصن دومة الجندل، وبالأبلق، حصن تيماء، قالت تمرد مارد وعز الأبلق، فذهبت مثلا.
ولم يبخل الأخباريون على الزباء، فمنحوها ابياتا زعموا انها قالتها، وجعلوها أديبة في العربية بليغة إلى اعلى درجات البلاغة. لها حكم وامثال بهذه العربية، عربية القرآن الكوريم. ولا غراية في ذلك، فالذي ينسب شعرا عربيا إلى آدم وابليس ويرويه مشكلا مضبوطا على وفق قواعد النحو والصرف، لا يعجز عن رواية شعر ينسب إلى "عمرو بن الظرب" والى ابنته الزباء.
وذكر إن معاوية ذكر في أحد مجالسه "الزباء" وابنة "عفزر"، فقال: "اني لأحب إن أسمع حديث ماوية وحاتم، فقال رجل من القوم: أفلا أحدثك يا امير المؤمنين ? فقال: بلى، فقال: إن ماوية بنت عفزر، كانت ملكة وكانت تتزوج من أرادت".

(1/1430)


--------------------------------------------------------------------------------

ويذكر اهل الأخبار أن "ابنة عفزر" قينة كانت في الدهر الأول، لا تدوم على عهد، فصارت مثلا. وقيل: قينة كانت في الحيرة، وكان وفد النعمان اذا اتوه لهوا بها. وذكر أن "عفزر" اسم اعجمي، ولذلك لم يصرفه "امرؤ القيس" في قوله: أشميم بروق المزن أين مصابه ولا شيء يشفي مناك يا ابنة عفزرا
ولم تشا الكتابات التدمريه الاعلان عن اسم ملكة تدمر، بل ذكرتها على هذه الصورة: "بت زباي" اي " بنت زباي". و "زباي" هو اسم والد الملكة، حذفت كلمة "بت" وهي "بنت" في العربية، وقلب الحرف الأخير وهو الباء من كلمة "زباي" وصير همزة، فصار " زباء"، وعرفت ملكة تدمر عند العرب باسم "الزباء".
وقد ذكر المؤرخ "فلافيوس فوبسكوس" Flavius Vopiscus"" إن والد "الزباء" رجل من تدمر اسمه "اخليو" "Achilleo"، و Achilleo"" هو "انطيوخس" "Antiochus" في رواية اخرى.
وقد أثنى عليها المؤرخ "تريبليوس بوليو" "Trebellius Pollio" "ووصفها وصفا جميلا، واشار إلى مقدرتها وقابليتها، وذكر انها كانت تتكلم اليونانية وتحسن "اللاتينية"، وتتقن اللغة المصرية وتتحدث بها بكل طلاقة، وتهتم بشؤون المملكة، وتقطع المسافات الطويلة سيرا على الأقدام في طيعة رجال جيشها، إلى غير ذلك من كلام فيه ثناء واطراء على هذه الملكة.

(1/1431)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد بلغتنا روايات تفيد إن الملكة ادعت انها من مصر، من سلالات الملوك وانها من صلب الملكة الشهيرة "قلبطرة" "كليوبطرة" Celopatra"" "، وانها كانت نفسها تتكلم المصرية بطلاقة، وانها ألفت كتابا كتبته بخط يدها اختصرت فيه ما قرأته من تواريخ الأمم الشرقية ولا سيما تأريخ مصر، وانها استقدمت مشاهير رجال الفكر إلى عاصمتها، مثل الفيلسوف الشهير " كاسيوس ديونيسيوس لونجينوس" Cassius Longinus" "" 0 2 2 - 273 م" بعد الميلاد. وكان فيلسوفا على مذهب الأفلاطونية الحديثة ومن أصدقاء الفيلسوف " فرفوريس" Phorphyrios" "، استقدمته الملكة إلى عاصمتها واستضافته عندها وجعلته مستشارا لها، فأخلص لها في مشورته،فكان ذلك سببا في قتله. فقتله القيصر " أوريليانوس" Aurelianus" "، لاتهامه انه كان يحرض الملكة على الرومان.
ومثل الكاتب المؤرخ " كليكراتس الصوري"، و "لوبوكوس" البيروتي اللغوي الفيلسوف، و "بوسانياس" الدمشقي المؤرخ، "ونيوكوماخس" "Nicomachus " من زمرة الكتاب المؤرخين، المتضلعين بالإغريقية،ومن الفلاسفة، وقد تولى الكتابة باللغة الإغريقية، وصار من مستشاريها كذلك. ولذلك أمر به القيصر "أورليانوس" فقتل بعد محاكمته بمدينة حمص، في الوقت الذي حوكمت فيه الملكة والفيلسوف "لونجينوس"، الذي قطع رأسه بعد إن مثل به. وفي حشد هذا النوع من الرجال دلالة على ميول الملكة الفلسفية الأدبية وثقافتها العالية ولا شك.

(1/1432)


--------------------------------------------------------------------------------

وملكة شأنها هذا، لا بد إن تكون حرة الفكر، متساهلة مع اصحاب العقائد والاراء. وهذا ما كان. ففي مدينة "تدمر" الوثنية عاشت جالية كبيرة من اليهود يمتعت بممارسة شعائرها الدينية يكل حرية، ونالت حقوق المواطنة التي كان يتمتع بها التدمريون، جاءت إلى المدينة مهاجرة من فلسطين خاصة،بعد خراب القدس على ايدي القيصر " طيطوس" "تيتوس" "Titus" في سنة "70" بعد الميلاد. فاشتغلت فيها بالتجارة، فحصلت على ارباح طائلة جدا، وصار لها في المدينة اسم وشأن حتى إن مجلس المدينة والشعب اقام تمثالا في سنة "569" السلوقية المقابلة لسنة " 257" الميلادية ليهودي يدعى " يوليوس أورليوس شلميط" "Julius Aurelius Schalmath" "قائد القافلة، لأنه ترأس القافلة، وأنفق عليها من ماله.
وقد بالغ المؤرخين في عدد اليهود الذين كانوا في "تدمر" ايام حكم الزباء فزعم انه بلغ نصف عدد سكان المدينة، وهو زعم يحتاج إلى اثبات. وزعم القديس "أثناسيوس" "St.Athanasius" إن ملكة تدمر كانت تدين باليهودية ولكنها مع تهودها لم تهب أبناء دينها الكنائس لتكون لهم مجامع ومحافل. وذهب إلى هذا الرأي المؤرخ "فوتيوس" "Photius"". وذكر "فيلاستريوس" Philastrius"" إن الذي هو د الملكة هو "بولس السميساطي" "paulus Samosatius" وهو أسقف كان مقربا إلى الزباء، وله منزلة عاليه لديها. ونسبت إليه آراء في المسيح وفي بعض الأمور الدينية الأخرى دعت إلى محاكمته في مجمع "انطاكية" الذي انعقد في سنة "264" للميلاد، فوجد المجمع إن تعاليمه تشبه تعاليم "ارتاماس" "أرتامون" الذي حكم عليه قبلا، فحرموا آراءه كذلك، ثم حكم عليه في "انطاكية" سنة "269" بعزله عن الأسقفية، ولم تتدخل "الزباء" في القرارات التي اتخذها رجال الكنيسة تجاه بولس، كما انها لم تنفذ قراراتهم بحقه، بل أبقته في مركزه وتركته على ما كان عليه.

(1/1433)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرى بعض المؤرخين أن خبر تهود الملكة خبر مختلق، وضعه آباء الكنيسكة للاساءة إلى سمعه "بولس السميساطي" والطعن فيه والحط من تعاليمه وللتأثير في نفوس أتباعه. وقد لاقى "بولس" من خصومه عنتا شديدا. ولا يعقل بالطبع أن يعمد رجل كنيسة إلى تهويد شخص مهما كان مذهبه ورأيه في طبيعة المسيح واللاهوت، بل المعقول أن يعمد للتأثير فيه وادخاله إلى مذهبه. ولدينا خبرآخر أراه من جنس خبر "فيلاستريوس" ذكره "تيودوريت" "Theodoret"، خلاصته: أن الأسقف "بولس" أخذ رأيه في "الثالوث" من آراء الملكة المتأثرة باليهودية، وأنه كان قد تأثر بالمرأة حتى سقط إلى الحضيض. ولايخفى ما في هذا الخبر من طعن في عقيدة الرحل الذي أبدى رأيا فى " الثالوث" سبب غضب الاباء عليه.
ولم نجد في الآثار اليهودية التي بين أيدينا ما يفيد تهود "الزباء"، نعم ورد في التلمود خبر يفيد حماية " الزياء" للأحبار، غير أنه وردت أخبار أخرى تفيد أن اليهود كانوا ناقمين على "تدمر" حاقدين عليها يرجون من الله أن يطيل في عمرهم ليروا نهايتها. هذا الحبر الكبير "يوحانان" "يوخانان" "Johanan" "" Jochanan" " رئيس "أكاديمية" "طبرية" و المعامر لأذينة والزباء، يقول: "مخلد وسعيد من يدرك نهاية أيام تدمر". و لو كانت الملكة على دين يهود، لما صدرت هذه الجملة من فم ذلك الحبر ولا شك. ويفهم من بعض الروايات المروية عن فقهاء اليهود وأحبارهم في فلسطين في ذلك العهد، أن الملكة اضطهدت اليهود وعذبتهم. وهي روايات. لا يمكن التسليم بصحتها ايضا، ويجوز انها ظهرت على أثر توسع.الملكة في الأرضين التي كانت تحت سسطرة الرومان ومنها "اليهودية" غير أن هذا الاستيلاء لم يكن أمده طويلا.

(1/1434)


--------------------------------------------------------------------------------

ووردت روايات أخرى تشير إلى كراهية يهود منطقة الفرات لتدمر، ورد إن الحبر "يهودا" "R.Juda" تلميذ الحبر "صموئيل" "Samuel" تحدث عن تدمر، فقال: "سيحتفل الاسرائيليون في أحد الأيام بعيد، انه عيد هلاك ترمود "Tarmud"، انها ستهلك كما هلكت تمود " Tarmud" وقد هلكت. وورد إن الحبر "آشة" "R.Asche" ذكر "ترمود" "Tarmud" فقال: ترمود مثل تمود، انهما شيئان لأمر واحد، اذا هلك أحدهما قام الثاني مقامه.
. ويراد ب "ترمود" مدينة "تدمر". وقد اشترك عدد كبير من اليهود في صفوف أعداء الزباء، واشتركوا مع الفرس في حروبهم مع تدمر كما اشتركوا مع الرومان. وقبض على عدد من الأحبار أحضروا إلى الملكة كانوا يحرضون الناس على التدمريين.
أما "تمود"، الذين هلكوا قبل هلاك "ترمود"، فهم قوم ثمود. ويظهر انهم حلت بهم نكبة أدت إلى هلاكهم حتى صار هلاكهم مضرب الأمثال. ولم يشر الى زمن حلول تلك النكبة. ولكن ذلك كان قبل سقوط "تدمر" في أيدي الرومان على كل حال، كما يفهم من كلام الحبر "يهودا" المتوفى سنة "257" للميلاد.

(1/1435)

admin
12-27-2010, 01:16 AM
أما أسباب هذا البغض، فلم تذكر. ويظهر إن هنالك جملة عوامل دعت إلى ظهوره، منها اراء الملكة الفلسفية وآراء الفلاسفة والكتاب الذين كانوا يحيطون بها، وكانوا يبثونها في تدمر وفي البقاع التي استولى عليها التدمريون، فنفقت نفاقا كييرا بين يهود "تدمر" ويهود "الكالوتات" على نهر الفرات، فأثارت هذه الاراء "الالحادية" عند اليهود حقد الأحبار والمتدينين. ومنها الزواج المختلط الذي انتشر في تدمر بين اليهود وغير اليهود، ونشوء جيل جديد من هذا الزواج أضاع الدين وتقاليد الإسرائيليين. وهو أمر نهى عنه اليهود. ومنها الحالة السياسية التي نشأت من أسر الفرس للقيصر "والريانوس"، وهجوم أذينة على الفرس وما أعقب ذلك من حروب ألحقت ضررا كبيرا بالجاليات اليهودية الكبيرة التي كانت تسكن شواطىء القرات، ومعظمها من التجار الذين كانوا يتاجرون مع الفرس والروم، ويبن العراق وديار الشام، فأصيبت هذه "الكالوتات" اليهودية التي كانت تتمتع بشبه استقلال بأضرار كبيرة، وفقدت استقلالها خلال مدة استيلاء التدمريين على شواطى الفرات. فلهذه الأسباب كانت نقمة اليهود على التد مريين.
وحرص بعضى المؤرخن على ادخال الملكة في زمرة النصارى فزعموا. انها كانت على دين المسيح. وتساهل آخرون بعض التساهل فقالوا انها لم تكن نصرانية أصيلة ولكنها كانت قريبة منها ميالة اليها، وجحد ححج من قال بتهود الملكة وسخفها. وتوسط آخرون فقالوا انها لم تكن يهودية محضة، ولا نصرانية خالصة، إنما كان دينها وسطا بين الدينين: كانت تعتقد بوجود الله، وترى التوحيد،ولكنها لم تكن على اليهودية وعلى النصرانية، بل رأت الخالق كما يراه الفيلسوف.

(1/1436)


--------------------------------------------------------------------------------

وللمؤرخين آراء في أصل "الزباء" ونسبها وأسرتها، فمنهم من ذهب إلى أنها مصرية، ومنهم من ذهب إلى أنها من العماليق ومن هؤلاء المؤرخ "آيشهورن" "Eichhorn". وقد أخذ هؤلاء آرامهم من الكتب العربية على ما يظهر. وذهب المؤرخ اليهودي "كريتس" "Graetz" " Graetz" إلى أنها "ادومية" من نسل "هيرودس وا نها يهودية الدين. ورأى "رايت" "Wright" " و "أو بردك" "Oberdick" وآخرون انها من أب عربي ولكنها من دم مصري من ناحية الأم. والذي عليه أكثرهم. أنها عربية الأصل.
وقد ذكر "المسعودي" إن بعض المؤرخين كانوا يزعمون انها "رومية" تتكلم العربية.
أظهرت "الزباء" مقدرة فائقة في ادارة شؤون الملك، فخاف منها الرومان، وعزم "غاليانوس" بتحريض من شيوخ "رومة" على القضاء عليها قبل استفحال أمرها، فأرسل جيشا إلى الشرق تظاهر انه يريد من ارساله محاربة "سابور" غير انه كان يربد في الواقع مهاجمة تدمر واخضاع الملكة. فبلغ خبره مسامع "الزباء" فاستعدت لمقابلته وخرجت له، والتحمت فعلا بكتائب الرومان،وانتصرت عليه انصارا باهرا، وولت هاربة تاركة قائدها "هرقليانوس" "Heraclianus" قتيلا في ساحة الحرب.
ورأت الملكة الحذر من الفرس، وذلك بتقوية حدود مملكتها، فأمرت بانشاء حصن "زنوبيا" "Zanobia" على نهر الفرات، ليقف أملم الهجمات التي قد يوجهها الساسانيون عليها من الشرق. ويقول "بروكوبيوس" انه سمي بهذا الاسم نسبة إلى الملكة مؤسسته.

(1/1437)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد اتبعت "الزباء" بعد مقتل زوجها سياسة عربية، سياسة تعتمد على التقرب من الأعراب والتودد اليهم والاعتماد عليهم في القتال والحروب. وذلك بعد أن رأت إن الرومان هم أعداء تدمر، وانهم لا يفكرون الا في مصالح الرومان الخاصة. وبهذه السياسة تقربت أيضا إلى العناصر العربية المستوطنة في المدن، وأخذت تعمل على تكوين دولة عربية قوية واحدة بزعامتها، وخاصة بعد أن أدركت إن الأعراب قوة لا يستهان بها، وانهم لو نظموا واستغلوا استغلالا جيدا، صاروا قوة يحسب لها كل حساب، فأخذت تعمل لتكوين هذه القوة، ولكن الرومان كانوا أسرع منها، فقضوا على مآربها قبل أن تتحقق، فاستولوا على تدمر وأزالوا مملكة ملكة الشرق.

(1/1438)


--------------------------------------------------------------------------------

وجهت "الزباء" أنظارها إلى مصر، ووضعت الخطط للاستيلاء على هذا القطر، بعد أن مهدت لنقسها الدعوة فيه باعلانها انها مصرية وانها من نسل الملكة "كليوبطرة" "قلبطرة" فلها إذن فيه ما يسمح لها بالتدخل في شؤونه، وأخذت تترقب الفرص وتتحين الأسبالب، فلما قتل القيصر "غاليانس" سنة "268" للميلاد، وانتقل الحكم إلى "أوريليوس فلوديوس" "Marcus Aurelius Claudius" "" 268 - 5 27 م"، وجدت الجو صالحا للتدخل،كان الألمان "Alemannen" قد هاجموا حدود الإمبراطورية في مطلع هذا العام، وكان "الغوظ" "القوط" "Gothen " "Goths" قد أربكوا الدولة. وكان أثر الخسارة التي ألحقتها الملكة في الجيش الروماني، ومقتل "هرقليانوس" بالغا في نفوس الرومان، يتجلى في صياح أعضاء مجلس الشيوخ بصوت واحد سبع مرات في أثناء مبايعة القيصر الجديد: "ياقلوديوس أغسطس نجنا من فكتوريا ومن زنوبيا، ياقلوديوس أغسطس أغثنا من التدمريين". وفي للرسالة المؤثزة للتي وجهها القيصر إلى مجلس الشيوخ ومدينة "رومة" وهو في طريقه لتأديب المهاجمين، وفيها "إن جبيني ليندى خجلا كلما تذكرت أن جميع الرماة بالقسي هم في خسمة زنوبية" فانتهزت الملكة هذه الفرصة المؤاتية وأرسلت جيشها لاحتلال مصر.

(1/1439)


--------------------------------------------------------------------------------

كان القيصر قد أمر عامله. على مصر المدعو "بروبوس" "Probus" بالخروج على رأس اسطول الاسكندرية إلى عرض البحر: لمطاردة "الغوط" " القوط" "Goths" ولمنعهم من الهرب عبر المضايق فخرج علي رأس قوة كبرة من الرومان لمطاردتهم فانتهز الوطنيون والمعارضون لحكم الرومان - وعلى رأسهم "تيماجينيس" "Timagenes"، وهو رجل يوناني الأصل مبغض للرومان - هذه الفرصة، فكتبوا إلى الملكة يحضونها على تحرير مصر من حكم "رومة" وتولى الحكم فيها. وأظهر "فيرموس" "Firmus"، وهو رجل ثري جدا، استعداده لمساعدة الملكة بالمال وبكل ما ينبغي اذا أرادت الاستيلاء على مصر. فأمرت "الزباء" قائدها "زبدا" بقصد مصر على رأس جيش قوامه سبعون الف رجل. وقد قاتل الجيش الروماني الذي كان مؤلفا من خمسبن الف مقاتل وتغلب عليه، ثم قرر العودة إلى تدمر تاركا في مصر حامية صغيرة من خمسة آلاف رجل، ويظهر انه تركها تحت إمرة "تيماجينيس" الذي عين نائبا عن الملكة على مصر. فلما سمع "بروبوس" بهجوم التدمريين وتغلهم على الرومان، أسرع عائدا الى مصر، فألف جيشا من المصريين الموالين للرومان، وزحف على الالسكندرية وأخذ يتعقب التدمريين، وأعمل فيهم السيف، فلما سمعت "الزباء" بذلك، أمرت قائدها بالعودة ثانية الى مصر، فجرت معارك بين الطرفين انتهت بانتصار التدمرين على "بروبوس" عند "بابلون" أي "الفسطاط"، وكتب النصر لجيش الملكة في مصر.
وقد ساعد عرب مصر من سكان الأقسام الشرقية من مصر، جيش تدمر مساعدة كبيرة، ولا سيما فيما جرى من قتال حول حصن "بابلون" "Babylon" الذي عرف ب "الفسطاط" فيما بعد. ويظن بعض الباحثين أن "تيماجينس" "Timagenes" الذي وصفه المؤرخ "زوسيموس" "Zosimos" "Zosimus" بأنه مصري، كان في الحقيقة عربيا، واسمه عربي أخذ من "تيم اللات"، أو من "تيم جن". وكان من المبغضين للرومان.

(1/1440)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم تتحدث الموارد التأريخية عن الحوادث التي جرت في مصر بعد هذا النصر ولا عن موقف الرومان من هذا التطور الذي وقع في منطقة خطيرة من مناطق الانبراطورية. ويظهر إن الملكة تراضت مع "رومة" وعقدت اتفاقية معها، وافقت "رومة" فيها على بقاء جيوش تدمر في مصر، مع اعتراف "تدمر" بسيادة الرومان على وادي النيل. وقد عقدت هذه الاتفاقية في أواخر ايام حكم " قلوديوس".
كما يتبين ذلك من خبر ذكره " تربيليوس بوليو" "Tebellius Pollio" ما له حلف المصريين يمين الولاء والاخلاص للقيصر. وقد دام هذا الاتفاق في أوائل سني حكم القيصر "اورليانوس" "Aurelianus" "275 - 275 م" أيضا كالذي يتبين من نقد ضرب في الإسكندرية في سنتي "275" و "271" للميلاد، وقد ضربت على أحد وجهي النقد صورة مزدوجة لوجه القيصر "اورلبانوس" " Aurelianus " حاملا لقب "أغسطس" " Augustus " مع وجه " هبلات"، وقد نعت ب: Vir Consularis Romanorum" Imperator Dux Romanorum" ويشير إلى اللقب الذي تلقب به أيام حكمه. وأما ازدواج صورة القيصر مع صورة "وهبلات"، فيشير إلى الحكم المزدوج على مصر.

(1/1441)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم يدم هذا الاتفاق بين الرومان وبين الملكة طويلا، فقد ضغط سادات "رومة" على الإمبراطور بان ينقذ الامبراطورية مما حاق بها من تصدع في أوروبة وفي الشرق. وفي جملة هذا التصدع ظهور ملكة "تدمر" وأطماعها في مصر وفي الأرضين الأخرى من بلاد الشام وآسية الصغرى. واضطر القيصر "اوريليانوس" بعد الانتهاء من فتنة "رومة" ومن تأديب الجرمان إلى التدخل والعمل للقضاء على عصيان العصاة وطمع الطامعين. وبلغ سمع الملكة من أصدقائها و مخبريها في "رومة" عزم الانبراطور على القضاء عليها، فقررت القيام بعمل سريع قبل مباغتة القيصر لها، فألغت الاتفاق المعقود مع الرومان في ايام "قلوديوس"، وأمرت بمحو صورة "اوريليانوس" من النقود لتبرهن على قطع علاقتها بالقيصر، وعدم اعترافها بسيادة "رومة" الاسمية عليها، وأمرت بضرب صورة "وهبلات" وحده، مع اللقب. " الانبراطوري" المخصص بقياصرة "رومة" وذلك في السنة الخامسة من حكمه. وقد تلقبت الزباء نفسها بهذا اللقب في النقود التي ضربت باسمها في الخارج. اما نقود "تدمر"، فقد لقبت فيها بلقب "ملكة"، ولقبت في مصر هي وابنها بلقب "أغسطس". وهو لقب القيصر "أوريليانوس". وفي هذا التحدي الصريح، دليل واضح على ما حدث من نزاع شديد في العلاقات السياسية بين تدمر ورومة.
وتفاوضت الملكة "الزباء" على رواية مع الملكة " فيكتوريا" "فيكتورية" Victoria " عاهلة إقليم "الغال"، لتوحيد الخطط في مهاجمة القيصرية الرومانية واقتسامها، وأمرت جيوشها بالسير إلى "بيتينية" " Bithynia" فاستولت عليها، وظلت تتقدم دون ملاقاة معارضة تذكر حتى بلغت "خلقيدون" بازاء " القسطنطينية". ويقال إن الملكة كانت قد امرت بصنع عجلة فاخرة للدخول بها في موكب الظفر إلى عاصمة الرومان.

(1/1442)


--------------------------------------------------------------------------------

واضطرت الملكة لتنفيذ خطتها هذه إلى سحب القسم الأعظم من جيشها المعسكر في مصر معتمدة على دفاع المصريين انفسهم اذا هجم عليهم الرومان. فانتهز "اوريليانوس" هذه الفرصة فأرسل مددا إلى "بروبس"، وكان القائد "زبدا" قد وصل إلى مصر لمساعدة "فيرموس" نائب الملكة على صد الرومان. فوقعت معارك بين الفريقين كاد يكون النصر فيها للتدمريين لولا استمالة " يروبس" جماعة من المصريين، فآزروه ودحروا جيش " زبدا" في سنة "271" للميلاد. واضطر التدمريون إلى ترك مصر إلى أعدائهم، فكانت هذه أول نكبة عظيمة تنزل بالزباء. ومنذ " 29" أغسطس من سنة "271 م" انقطع في الاسكندرية ضرب النقود التي تحمل صورة الزباء ووهبلات.
ولا نعرف اليوم شيئا من الموارد التأريخية عن الأثر الذي تركه انتصار "بروبس" في مصر على التدمريين. ولكننا نستطيع أن نقول انه وقع وقعا عظيما على الملكة "الزباء". فخسارة مصر على هذه الصورة، كانت خسارة كبيرة عليها، ولا بد أن تكون قد أثرت فيها، فقد مكنت الرومان من القضاء على سلطان الملكة في تلك البقعة المهمة وجعلت في امكانهم تهديدها من الجنوب، كما إن موقف جيشها عند " خلقيدون"، وعدم تمكنها من الإستيلاء على " نيقية" وتوقف خططها العسكرية الهجومية، ثم اتخاذها خطة الدفاع ثم التراجع ومجيء "أورليانوس" بقوات كبيرة نحو الشرق، كل ذلك قد يكون نتيجة من نتائج هذا الاندحار الذي مني به جيش الملكة وأحزابها الموالية لها بمصر، فأضعف معنويات التدمريين ومن كان يواليهم وشد من أزر الرومان ومن كان يناصرهم.

(1/1443)


--------------------------------------------------------------------------------

قاوم أهل "خلقيدون" التدمرين، وأبوا التسليم لهم، وأرسلوا إلى القيصر لينجدهم ويظهر إن الملكة عرفت حراجة وضعها العسكري، وعدم استطاعتها التقدم،فقررت التراجع إلى مواضع جديدة تدافع فيها عن نفسها اذا هاجمها الرومان. وقد هاجمها الرومان فعلا، اذ عبر القيصر مضيق "البسفور" وفاجأ التدمريين في "بيثينية" في أواخر سنة "271 م" أو أوائل السنة التالية،وأجلاهم عنها، ثم سار إلى "غلاطية" " Galatia " و "قفادوقية" "Cappadocia " حتى بلغ " أنقرة" " Ancyra "، فسلمت له. وأخذ الرومان يتقدمون بسرعة إلى بلاد الشام.
أفزع تقدم الرومان السريع الزباء ورجالها ولا شك، وأخذت المدن التي كانت تساندها تشك في تمكن الملكة من الدفاع عن نفسها، وشاعت بين الناس قصص عن نهاية تدمر وخرابها بايدي الرومان وعن سقوطها لا محالة، أثرت مع وصول أنباء اعتزام القيصر القضاء على حكم الملكة واخضاع "تدمر" لحكم الرومان. ومن يدري ? فلعل الرومان وأنصارهم وأعوانهم وجواسيسهم هم الذين صنعوها وأذاعوها بين الناس لإماتة همة جيش الملكة وأعوانها، والايحاء إليه انه مغلوب لا محالة وان ارادة الالهة قد قضت بذلك ولا راد لها. فكان من بين ما أشيع إن معبد "الزهرة" في "أفقة" " Aphca" أنبأ الحجاج التدمريين الذين حجوا قبل سنة من سقوط مدينتهم، يستفتون "الزهرة" فيما سيحل بهم في السنة المقبلة بمصير سيئ سيلحق بتدمر، وان كارثة ستنزل بهم، أنبأهم بذلك على عادة المعبد في موسم الحج الذي يلي الموسم الذي سئل فيه السؤال.

(1/1444)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان من بين ما أشيع تخرصات زعم أنها صدرت من معبد "أبولو" "Apollo" تنبئ بزوال دولة التدمريين ومشيئة الآلهة بانتصار "أورليانوس" على الزباء، وتخرصات تزعم أن الحبر " يهودا" " R.Juda" تلميذ الحبر "صموئبل" Samuel" تنبأ بها عن تدمر، إذ كان قد قال: "سيحتفل الاسرائيليون في أحد الأيام بعيد، إنه عيد هلال "ترمود" "Tarmud"، انها ستهلك كما هلكت "تمود" " Tamud" وقد هلكت". وورد إن الحبر "أشه" " R.Asche" ذكر "ترمود" " Tarmud" فقال: "ترمود مثل تمود، انهما شيئان لأمر واحد، اذا هلك أحدهما قام الآخر مقامه". ويراد ب "ترمود" مدينة "تدمر".
إلى غير ذلك من تخرصات أوحت بها دعاية الرومان، وأعداء الملكة من يهود ومن قوميات أخرى قهرتها "الزباء" فأذاعتها بين الناس، لافهامهم أن من العبث مقاومة القيصر وجنوده، وان من الخير ترك المقاومة والاستسلام، وأن اليوم الذي ستحرر فيه تلك الشعوب من حكم الملكة آت قريب، لأن ارادة الالهة قضت ان يكون ذلك، ولا راد لأمر الآلهة: نعم، لم تصدق الملكة العاقلة الحكيمه بهذه الخرافات، فحاربت. ولكن عقول العامة لم تكن على شاكلة عقل الملكة، لقد أثرت فيها هذه الدعاية، وقضت على معنويات التدمريين الوثنيين الذين يدينون بهذه الخرافات ويؤمنون بها، وما زال من طرازهم خلق كثر في القرن العشرين الميلادي هذا.

(1/1445)


--------------------------------------------------------------------------------

تهيأت الملكة "الزباء" لملاقاة "أورليانوس" عند مدينة "انطاكية" "Antiochia"، وكانت هي على رأس الجيش فارسة تحارب في الطليعة. أما القيادة، فكانت لقائدها "زبدا". وفي الوقعة الأولى هجم فرسان تدمر على الكتائب الرومانية فشتتوا شملها، فأمر القيصر جنوده بالرجوع إلى مسافات بعيدة، ليوهم التدمريين أنه قد فر،فإذا ساروا في أثرهم وابتعدوا عن قواعدهم باغتهم بالهجوم، فلا يتمكن فرسان تدمر من الهزيمة لثقل أسلحة الفرسان ومعداتهم وبطئ خيلهم بالقياس إلى خيل الرومان. وهو ما حدث. فقد خدع التدمريون وظنوا رجوعهم هزيمة، فتعقبوهم إلى مسافات بعيدة، وفجأة انقلبت الكتائب الرومانية على التدمريين، وأطبقوا عليهم، وأعملوا فيهم السيوف وانهزموا هزيمة منكرة إلى مدينة "انطاكية". وفي هذه المدينة قر رأي الملكة على ترك أنطاكية والارتحال عنها بسرعة لأسباب، منها وجود جالية يونانية كبيرة فيها كانت تفضل حكم الرومان على حكم الشرقيين عليهم، وقد كان لها النفوذ والكلمة في المدينة. ومنها نفرة النصارى من الملكة بسبب موقفها من "بولس السميساطي" الذي قرر مجمع "انطاكية" عزله من وظيفته، فلم تنفذ الملكة قرار المجمع، وتركته يتصرف في أموال الكنيسة،ولم تكتف بذلك بل عينته "على Procurator Decenarius" على المدينة، أي انها جعلته الرئيس الروحي والدنيوي على الانطاكيين. أضف إلى ذلك كره اليهود الذين في المدينة للتدمرين. وقد نفذت الملكة هذا القرار في اليوم الذي دخلت فيه جيوشها المدينة، فأمرت قائدها بتركها والسير إلى "حمص" فورا. وفي اليوم الثاني دخل "أورليانوس". تلك المدينة وأعطاها الأمان.
وتعقب القيصر أثر الملكة ففتح جملة مدن حتى بلغ "حمص" " Emisa"، وهناك وجدها على رأس جيش قوامه سبعون الفا في مفازة عريضة تقع شمالي المدينة.

(1/1446)


--------------------------------------------------------------------------------

فاشتبك الرومان والتدمريون في معركة حامية ربح فيها التدمريون. الجولة الأولى، فولى الرومان مدبرين مذعورين تفتك فيهم سيول تدمر. غير إن القيصر حزم رأيه، وأدرك وجود ضعف في خطة قتال الملكة، سببه ابتعاد فرسان تدمر عن مشاتهم في أثناء تعقب فرسان الروم، فأمر جنوده بالهجوم على مشاة التدمريين، ولم يكونوا في التدريب والقابلية مثل مشاة الرومان، فمزقوا مشاة الملكة كل ممزق وحلت هزيمة منكرة عامة بجيش الزباء اضطرتها إلى ترك "حمص" وتفضيل الرجوع إلى عاصمتها تدمر للدفاع عنها، فلعل البادية تعصمها منه وتمنعه من الوصول اليها. ودخل القيصر مدينة "حمص"، فتوجه بالشكر والحمد إلى إله "حمص" "الشمس" قاطعا على نفسه عهدا إن يوسع المعبد ويجمله ويزينه أحسن زينة، مقدما له نذورا هي أكثر ما غنمه من الغنائم من التدمريين.

(1/1447)


--------------------------------------------------------------------------------

أدرك القيصر إن النصر الحقيقي لن يتم له الا بالقبض على "الزباء" وفتح "تدمر"، وانه لن يدرك هذا الا اذا سار هو بنفسه على رأس جيشه لفتح تلك المدينة. لذلك قرر الزحف اليها بكل سرعة قبل أن تتمكن الملكة من تحصين مدينتها ومن الاتصال بالفرس وبالقبائل العربية الضاربة في البادية، فيصعب عندئذ الاستيلاء عليها. فسار مسرعا حتى بلغ المدينة. برغم الصعوبات والمشقات التي جابهت الكتائب "اللجيونات" 0 الرومانية في أثناء قطعها الصحراء، وألقى الحصار على "تدمر" القلعة الصحراوية الحصينة، غير إن المدافعين عنها قابلوه بشدة وصرامة برمي الحجارة والسهام والنيران على جيشه وبالشتائم والسخرية والهزء ترسل إليه من أعالي السور. ويظهر أن "رومة" سمعت بذلك فسخرت من عجز القيصر عن احتلال مدينة صحراوية، ومن التغلب على امرأة، فساء "أورليانوس" ذلك كثيرا، فكتب إلى مجلس الشيوخ يقول: ". ... قد يستضحك مني بعض الناس لمحاربتي امرأة.... فاعلموا إن الزباء " Zenobia" اذا قاتلت كانت أرجل من الرجال 0000". وبعثت سخرية أهل تدمر وهزؤ أهل "رومة" منه في القيصر عزما جديدا على فتح المدينة ودكها دكا مهما كلفه الأمر، ليمحو عنه هذه الوصمة المخجلة التي لحقت به. فكاتب الملكة طالبا منها التسليم والخضوع للرومان لتنال السلامة وتستحق العفو، فيسمح لها بالاقامة مع أسرتها في مدينة يعينها مجلس الشيوخ لها. أما جواب الملكة، فكان: " إن ما التمسته مني في كتابك لم يتجاسر أحد من قبلك أن يطلبه مني برسالة. أنسيت إن الغلبة بالشجاعة، لا بتسويد الصفحات. إنك تريد أن أستسلم لك. أتجهل أن كليوبترة "كليوبطرة" قد آثرت الموت على حياة سبقها عار الدبرة. فها أنا في منتظرة عضد الفرس والأرمن والعرب " Saracens" لفل شباتك وكسر شوكتك. واذا كان لصوص الشام قد تغلبوا عليك وهم منفردون، فما يكون حالك إذا اجتمعت بحلفائي على مقاتلتك. لا شك أنك ستذل وتخنع لي فتجرد نفسك من

(1/1448)


--------------------------------------------------------------------------------

كبريائها التي حملتك على طلب المحال كأنك مظفر منصور في كل أين وآن".
لم ينجد الفرس ملكة الشرق، ولم يرسلوا اليها مددا ما. فقد كانوا هم أنفسهم في شغل شاغل عنها. توفي "سابور" الأول في عام " 271" للميلاد، فتولى "هرمز" " Ormidus" الملك من بعده، وكان رجلا ضعيفا خائر القوى، فعزل بعد سنة قضاها ملكا. وظهرت فتن داخلية بسبب ذلك لم تسمح للفرس وهم في هذه الحال أن يرسلوا قوة لمساعدة ملكة البادية عدوة "أورليانوس" قيصر الروم. وأما القبائل، فأمرها معروف، إنها مع القوي ما دام قويا، فإذا ظهرت عليه علائم الضعف، صارت مع غيره. تحرش قسم منها بجيوش الرومان المحاصرة للمدينة وهاجمتها، غير أنها منيت بخسائر فادحة، فتركت التحرش بالمحاصرين. ورأى قسم منها الاتفاق مع القيصر، ففي الاتفاق الربح والسلامة. وما الذي يجنيه سادات القبائل من ملكة محاصرة، لم يبق من ملكها غير مدينة في بادية وثروة سيستولي عليها الرومان. وإن بقيت لها فلن يصيبها منها ما يصيبهم من القيصر من مال كثير. ومن لقب وجاه يأتيهم من حاكم مدني قوي. وقد عرف القيصر فيهم هذه الخصلة فاشترى أنفس الرؤساء بالمال. فأمن بذلك شر القبائل، وسلم من عدو يحسب لعداوته ألف حساب.

(1/1449)


--------------------------------------------------------------------------------

ولما رأت الزباء إن ما كانت تأمله من مساعدة الفرس والقبائل والأرمن لم يتحقق، وان ما كانت ترجوه من مساعدة الحظ لها بإطالة أمد الدفاع لاكراه عدوها على فك الحصار والرجوع لم يتحقق نحلك، وان وضع القيصر قد تحسن بوصول مدد عظيم إليه من الشام وبوصول مواد غذائية اليه كافية لاطالة مدة الحصار، قررت ترك عاصمتها للاقدار، والتسلل منها ليلا للوصول بنفسها إلى الفرس علهم يرسلون لها نجدة تغير الموقف وتبدل الحال، ودبرت أمر خطتها بكل تكتم وهربت من مدينتها من غير إن يشعر بخروجها الرومان، وامتطت ناقة اتجهت نحو الفرات، ولعلها كانت تقصد الوصول إلى حصنها " زنوبية" ومنه إلى الفرس. على كل حال، فقد حالفها الحظ في أول الأمر، فأوصلها سالمة إلى شاطئ النهر، عند " الدير" "دير الزور" قريب من "زليبية" Halebiya" ثم خانها خيانة فظيعة. فلما علم "أورليانوس" بنبأ هرب الملكة، أيقن إن أتعابه ستذهب كلها سدى إن لم يتمكن من القبض عليها حية. لهذا أوعز إلى خيرة فرسانه وأسرع رجاله باقتفاء أثر الملكة والقبض عليها مهما كلفهم الأمر. وقال الحظ كلمته. انه سيكون في جانب القوي ما دام الناس في جانبه. نقل فرسان القيصر إلى موضع وجود الملكة على الشاطىء، في اللحظة الدقيقة الفاصلة الحاسمة بين الموت والهلاك والدمار وبين العز والسلطان واسترجاع ما ذهب من ملك. كانت الملكة تهم بوضع نفسها في زورق لينقلها إلى الشاطئ الثاني من نهر الفرات. ولو عبرت لتغير اذن كل شيء. واذا بالفرسان ينقضون عليها ويأخذون "ملكة الشرق" معهم مسرعين الى معيد الشرق للرومان: " Recepto Orientis"، وهو على رأس جنوده يحاصر هذه المدينة العنيدة التي أبت الخضوع لحكمه والتسليم له.

(1/1450)


--------------------------------------------------------------------------------

من الباحثين من يرى إن الملكة هربت من نفق سري يصل معبد المدينة بالخارج يمر من تحت السور له باب سري خارج الأسوار أعد لمثل هذه المناسبات، أو من أنفاق أخرى، اذ يصعب تصور خروج الملكة ليلا من مدينتها ولو بحفر نفق في السور دون أن يشعر بذلك الرومان. ويستشهدون على صحة رأيهم هذا بالسراديب والقنوات التي ترى بقاياها تحت أسوار تدمر وقلاعها إلى اليوم. أحضرت الزباء أمام القيصر، فقال لها: "صرت في قبضتنا يا زينب، ألست أنت التي أدت بك الجسارة إلى أن تستصغري شأن قيصر روماني ". فأجابت: "نعم، إني أقر لك الان بكونك قيصرا، وقد تغلبت علي". وأما غاليانوس وأورليوس وغيرهما، فلست أنظمهم في سلك القياصرة. وإنما بارني فيكتورية في السلطنة والعز، فلولا بعد الأوطان لعرضت عليها أن تشاركني في الملك". فأثرت كلمات الملكة في نفس "اوريليانوس"، فمنحها الأمان. وقد أثر أسرها في نفوس التدمريين المتحصنين في بلدتهم، فرأى قسم منهم الاستمرار في الدفاع وعدم تسليم المدينة مهما كلف الأمر، ورأى قسم آخر فتح الأبواب والتسليم، وصاحوا من أعلى الأسوار في طلب الأمان، وفتحوا له أبواب المدينة في بدء السنة "273" للميلاد. فدخلها دخول الظافرين، فقبض على حاشية الملكة السابقة ومستشاريها ومن كان يحرض على معارضة الرومان، واستصفى أموال الملكة وجميع كنوزها، وأخذ الزباء ومن قبض عليهم معه وتوجه بهم إلى "حمص".
وتذكر بعض الروايات أن القيصر كان اول ما فعله عند دخوله إلى المدينة أن توجه إلى معبد الإله "بعل" " Bel"، فشكر الإله وحمده على توفيقه له ونصره له على أهل تدمر. ثم.اختار له قائدا نصبه على "تدمر" اسمه "Sandarion" على رواية و " Aspaeus" على رواية أخرى، ليحافظ على الأمن ويحكم المدينة. وجعل في إمرته حامية فيها ستمائة من الرماة، ثم غادر تدمر تاركا أمرها إلى هذا القائد.

(1/1451)

admin
12-27-2010, 01:17 AM
في حمص كما زعم المؤرخ: "زوسيموس" " Zosimus" حاكم القيصر الملكة وأصحابها "استحضر القيصر سلطانة تدمر وأشياعها فلما مثلت بين يديه، جعلت تعتذر إليه وتتنصل وتدافع عن نفسها مدافعة الداهية حتى قرفت كثيرين من اصحابها بأنهم أصلوها بسوء نصائحهم وورطوها في الغرور. وكان من جملة الذين وشت بهم عند القيصر "لونجينوس". ... فحكم عليه القيصر من ساعته بالموت بعد أن مثل به. فكابد لونجينوس العقاب بشجاعة وصبر جميل حتى انه عند وفاته كان يعزى أصدقاءه وأقاربه. وكذلك نكل بكل من تجرمت زينب عليه".
وقد اختلف الباحثون في صحة رواية هذا المؤرخ، فمنهم من شك فيها ومن هؤلاء "الأب سبستيان رتزفال" الذي نقلت ترجمته العربية لرواية " زوسيموس" فقد استبعد صدور الوشاية والخيانة من ملكة كانت على جانب عظيم من سمو الأخلاق والثقافة. ومنهم من اعتقد بصحتها وسلم بها ولام الزباء على صدور مثل هذا العمل الشائن منها، ومن هؤلاء المؤرخ الألماني "مومزن" " Mommsen" الشهير في تأريخ الرومان.

(1/1452)


--------------------------------------------------------------------------------

وغادر "أورليانوس" مدينة حمص إلى "رومة" ومعه "الزباء" وأبناؤها وعدد من الأسرى أراد إلحاقهم بموكب النصر الذي سيقيمه عند دخوله العاصمة ليتفرج عليهم الناس. وفي أثناء عبور "البسقور" غرق عدة من أصحاب "الزباء" في جملتهم "وهبلات" على رواية المؤرخ "زوسيموس". وبينما كان القيصر في "تراقية" " Thrazien" اذ جاءته الأخبار تنبئ بثورة أهل تدمر على قائد المدينة "سنداريون" " Sandarion" الذي عينه القيصر اكما على تدمر، وبظهور ثورة أخرى في مصر بطلها "فيرموس" " Firmus" الثري الشهير. وكان هدف الثورتين واحدا،هو التحرر من حكم الرومان والحصول على الاستقلال، فأنقق " فيوموس" وهو من كبار رجال المال في العالم في ذلك الحين أموالا كبيرة على الجمعيات الوطنية المناهضة لرومة، وألف جيشا تمكن به من الاستيلاء على الاسكندرية، وجمع حوله أشياع "الزباء" في مصر، ولقب نفسه بألقاب القياصرة، وأخذ يتفاوض مع التدمريين في توحيد الخطط والعمل بجد في تقويض الانبراطورية الرومانية في الشرق.
وقرر القيصر الاسراع في العودة إلى الشرق لمعالجة الحالة قبل فوات الوقت، فوصل إلى "تدمر" بسرعة كبيرة أذهلت المدينة الثائرة، فلم تدر ما تصنع. كانت قد قتلت القائد "سنداريون" "سوداريون" " Sandarion"، وفتكت بالحامية الرومانية، ورفعت راية العصيان في الشرق وتزعمت الحركة الوطنية المعادية للدخلاء وتبنتها، فبأي وجه ستقابل "أورليانوس" القيصر المتغطرس الجبار وماذا سيكون موقفه منها ? وهي في وضع حرج لا تأمل الحصول على مساعدة لا من الفرس ولا من المصريين. وتداعت المدينة بسرعة حينما مثل أمامها الرومان وسلمت نفسها للقيصر، فسلمها هو غنيمة إلى جنده يفعلون بها ما يشاءون بغير حساب.

(1/1453)


--------------------------------------------------------------------------------

عفا القيصر "أنطيوخس" عن أقارب الزباء، وكان التدمريون أقاموه ملكا عليهم. ولم يعف عن الرعية فتناولتهم سيوف الرعاع من جنود "رومة" وخناجرهم من غير تمييز في العمر أو تفريق في الجنس. أباح القيصر لجنوده تهديم أبنية المدينة، فدكت الأسوار وهدمت الأبراج وقوضت الأبنية، حتى إن القيصر نفسه رق قلبه على من تبقى حيا من المدينة، فكتب إلى " Cerronius Bassus" قائد المدينة أن.يصفح عنهم، وأن يعيد بناء هيكل الشمس إلى ما كان عليه، وكان جنود "اللجيون" الثالث قد نهبوه وخربوه، وأمر بالانفاق عليه وبتزيينه وتجميله من الأموال التي استصفيت من خزائن "الزباء". وطلب من مجلس الشيوخ في "رومة" ارسال كاهن ليدشن المعبد. وأرسل بعض نفائس الهيكل إلى عاصمته لتوضع في معبد الشمس الذي أقامه هناك، ومنها أعمدة مصورة غير أن ما أفسده الدهر لا يصلحه العطار. ولم يتمكن القيصر من اصلاح ما أفسده السهر على يديه، فلم يعد المعبد معبدا كما كان، ولم تعد "تدمر" تدمر الزباء.

(1/1454)


--------------------------------------------------------------------------------

وقبل أن يرحل "اوريليانوس" عن أرض تدمر، غزا الفرس ويظهر أنه غزا قوة كانت قد أرسلت لمساعدة "تدمر"، فأرجعها على أعقابها، ثم عين قائده المحنك " ساترنينوس" " Saturninus" بدرجة " Dux" قائدا على الحدود لحمايتها من الفرس، وتوجه إلى مصر للقضاء على ثورة "فيرموس"، فكان الحظ فيها حليفه و احتل الإسكندرية وقبض على التاجر الحاكم، الذي لقب نفسه قيصرا، فأمر بمعاقبته بعقاب السراق واللصوص، أي بصلبه على الصليب. وبذلك أعاد معيد الشرق إلى الرومان الشرق المنفتل منهم مرة أخرى إلى الرومان. بعد هذه الانتصارات وانتصارات أخرى أحرزها في غالية، عاد إلى عاصمته في سنة "274" للميلاد في موكب قيصري عظيم وصفه المؤرخ "Flavius Vopiscus" وصفا رائعا، اشترك فيه "1600" مصارع وعدد غفير من الأسرى من مختلف الأقوام، ومن بينهم الملكة الزباء ومعها أحد أبنائها، وقيل كلاهما، وبعض رعاياها، وثلاثة عجلات ملكية: عجلة "أذينة" زوج الزباء وهي مزينة بالذهب والجواهر، وعجلة أهداها "هرمز بن سابور" إلى القيصر، وعجلة "الزباء" الخاصة التي أعدتها لتدخل فوقها منتصرة عاصمة الرومان. وتقدم الموكب عشرون فيلا وعدة وحوش وحيوانات جيء بها من فلسطين وليبيا ومصر وأماكن أخرى. سار إلى "الكابيتول" ثم إلى قصر "الانبراطور". واحتفل الشعب في اليوم الثاني احتفالا خاصا كانت فيه ألعاب مختلفة وكان فيه تمثيل وسباق مختلف الأنواع. كان هذا الاحتفال نهاية فصل وبداية فصل جديد، قضى على الملكة أن تقبع منذ نهايته في بيت خصص بها في "تيبور" "Tibur" مع أولادها، وأن تعتزل السياسة والشرق. عاشت في عزلة في هذه البقعة من ايطالية، ولم يتحدث عنها مؤرخو عصر "أورليانوس" شيئا بعد أن صارت من سواد الناس. ويظهر إن ما ذكره. بعض المؤرخين اليونان عن زواج الزباء بعضو من أعضاء مجلس الشيوخ هو أسطورة من الأساطير العديدة التي راجت بعد ذلك عن حياة ملكة الشرق.

(1/1455)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما أولاد الملكة، فقد ذكرت قريبا إن بعض المؤرخين أشار إلى غرق "وهبلات" في أثناء عبور القيصر مضيق "البسفور". وأشار آخرون إلى انه نقل مع أمه إلى "رومة". وأما "تيم الله" "Timolaus"، فأسكن مع أمه أيضا في "تيبور". وزعم في رواية انه مات مع أخيه "خيران" "حيران" "Herennanus" في أثناء الاحتفال بموكب النصر. وزعم أيضا انه عاش وصار خطيبا مصقعا من خطباء "اللاتين". وروي أيضا انها زوجت بناتها بأعيان من الرومان. وروى المؤرخ "تربيليوس بوليو" "Trebellius"، وهو من رجال القرن الرابع للميلاد "حوالي سنة 354 م"، إن ذرية الزباء كانت في ايامه. وذكر إن الأسقف الشهير القديس "زنوبيوس" "Zenobius" أسقف مدينة "فلورنسة" ومعاصر القديس "أنبروميوس" "Ambrosius" كان من نسلها أيضا.
ولم تكن تدمر في عهد "ديوقليطيانوس" "ديوكليتيانوس" "Diocletian" "Diocletian"" 285 - 305 م" سوى قرية صغيرة وقلعة من قلاع اسود لحمايتهما من هجمات القبائل وغزوها للمدن القريبة من البادية. ويخبرنا المؤرخ "ملالا" أن "ديوقليطيانوس" ابنتى "Castra" فيها، وذلك بعد عقده الصلح مع الفرس، ورمم بعض ابنيتها. ويرى "الاب سبستيان رتزفال" أنه اضطهد نصارى تدمر كما فعل في سائر الاقاليم.
وفي حوالي القرن الحامس. للميلاد "450 م" كانت تسمر مقاطعة تابعة لولاية "فينيقية" وقد عين "تاودوسيوس" "تيودوسيوس" "ثيودوسيوس" الثاني "408 - 450 م" فرقة من الجند لحراسة "تدمر". والظاهر أن وظيفتها كانت حماية الحدود من هجمات رجال البادية. أما الكتيبة الرومانية التي عسكرت فيها في حوالي سنة "400" بعد الميلاد، فهي "اللجيون الأليري" "Illyrian" الأول.

(1/1456)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر الراهب "إسكندر" "Alexander the Acoemete" المتوفى في حوالي سنة "435" للميلاد أنه في أثناء سفره من الفرات إلى مصر قابله الجنود الرومان المعسكرون في القلاع بكل ترحاب وقدموا له ولمرافقيه كل المساعدات الممكنة، وانه وجد قلاعا مقامة على طول حدود الفرس والروم على مسافات تتراوح من عشرة أميال إلى عشرين ميلا رومانيا. وقد قطع الحدود هذه حتى بلغ مدينة "سليمان"، ويقصد بها مدينة تدمر.
وأمر القيصر "يوسطنيانوس" "جستنيانوس" "Justinianus" "527 - 565م." في أوائل تبوئه الحكم "527م" "أرمينيوس" "Armenius" بالذهاب إلى "تدمر" لترميم ما تهدم من المباني واعادة المدينة إلى ما كانت عليه. وأمده بالأموال اللازمة لهذا المشروع، كما أمر بتقوية حامية المدينة، وان تكون مقر حاكم "Dux" مقاطعة "فينيقية لبنان" "Phoenice Libanesia" وذلك لحماية الحدود خاصة حدود الأرض المقدسة، وذكر المؤرخ "بروكوبيوس" "Procopius"" إن القيصر المذكور قوى أسوار المدينة وقلاعها وحصنها تحصينا قويا، وحسن موارد مياهها. ولا تزال آثار هذا العهد باقية حتى الآن.

(1/1457)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد كانت مدينة "تدمر" على الحدود الداخلية "Limes Interior" للانراطورية في أيام "يوسطينيانوس". ويسكن في المناطق التي بين هذه الحدود وبين الحدود الخارجية "Limes Exterior" القبائل المحالفة للرومان. ومن هذه المنطقة تغزو القبائل الحدود. وقد كان سلطان الروم وقواتهم العسكرية أقوى في الحدود الداخلية منها على الحدود الخارجية التي كان يقوم بالدفاع عنها رجال القبائل الحليفة بالدرجة الأولى بأجور ومخصصات تدفعها الحكومة إلى رؤسائها لضمان حماية تلك الحدود. وقد كانت القبائل العربية قبل الميلاد وبعده تقلق راحة سكان الحدود وتزعج الحاميات الموكول اليها أمر سلامتها، وتكون مصدر خطر دائم للحكومات. وكان من الصعب الاطمئنان اليها ثم إن البادية كانت تصدر لهم بين حين وآخر بضاعة جديدة منها، وموجة عنيفة تزعج القبائل القديمة والحدود معا، "فكان على تلك الحكومات مداراتها واكتساب ود القوية منها، ويقال إن القيصر "دقيوس" "Decius" "249-251م" في زمانه من هذا الوضع وبرم به، ففكر في ادخال الرعب في نفوس هذه القبائل وقهرها، فجاء بأسود اصطادها من افريقية في البادية لتتناسل وتتوالد ولتكون مصدر خطر ورعب للاعراب.
وقد اتخذ بعض ملوك الغساسنة تدمر منزلا لهم ومحل اقامة. ولم تزل على هذا الشأن حتى فتحها المسلمون سنة "634 م". غير انها منذ تركتها الزباء لم ترجع إلى ما كانت عليه. وقد أثر تحول الطرق التجارية في مركز هذه المدينة كثيرا ولا شك.

(1/1458)


--------------------------------------------------------------------------------

وانتهت الينا أسماء عدد من أساقفة مدينة "تدمر" مدونة في سجلات الأعمال الكنسية، منهم: الأسقف "مارينوس" "Marinus" وقد حضر المجمع النيقاوي "Nicaa" "Nicaea" الذي انعقد سنة "325" للميلاد، والأسقف "يوحنا" "357 م" وقد ورد اسمه في سجلات أعمال مجمع "خلقيدون" "Chalcedon" المنعقد عام "451 م"، و "يوحنا" الثاني المشهور في أيا "انستاس" "أنسطاس" "نسطاس" القيصر "491- 581م". وكان نفي في عهد "يوسطينوس" خليفته لدفاعه عن "المجمع الخلقيدوني" ولقوله بطبيعتين في المسيح سنة "518م". ويستدل من وجود أساقفه في تدمر على انتشار النصرانية في هذه المدينة.
وفي "تدمر" في الزمن الحاضر ثروة تأريخية مطمورة تحت الأنقاض ستفيدنا ولاشك فائدة كبيرة في تدوين تاريخ المدينة وتأريخ صلاتها بالخارج. لقد عثر فيها على كتابات آفادتنا كثيرا في تدوين تأريخ المدينة، ولكن ما سيعثر عليه منها مما هو مطمور سيفيدنا ايضا، وقد يفيدنا أكثر في كتابة تأريخها. وقد قام علماء بالتنقيب في مواضع منها، للكشف عن المواضع المهمة منها، وكتبوا عنها. غير إن المدينة لا تزال في انتظار من يكشف عنها.
ووردت في الكتابات التدمرية أسماء اصنام عديدة عبدها التدمريون، بلغ عددها زهاء اثنين وعشرين صنما، منها ما هو معروف ومشهور عند العرب، وأسماؤها أسماء عربية. ومنها ما هو إرمي، وعلى رأس آلهة تدمر الإله "شمش" "شمس". وقد اتصفت دياناتهم بمزايا النظام الشمسي الذي تركزت عليه ديانة عرب الشمال. ومن هذه الأصنام "بل"، أي "بعل"، و "يرح بل" "يرح بول" "يرح بعل"، و "عجل بل" "عجل بول" و "عجل بعل" و"الت" أي "اللات"، و "رحم" "رحيم"، "اشتر" أي "عشتار"، و "عثتر" عند العرب الجنوبيين، و "ملك بل" "ملك بعل"، و"عزيزو" "عزيز".
و "سعد"، و "اب جل"، و "اشر"، و "بل شمن" "بل شمين" "بعل شمين"،أي "بعل السماوات" "رب السماوات" و "جد" وغيرها.

(1/1459)


--------------------------------------------------------------------------------

وعثر في تدمر على مقابر عديدة خارج أسوار المدينة على التلال المشرفة عليها تذكر الأحياء عباد المال بالمصير المحتوم الذي سيواجه كل حي غني أو فقير أو متوسط، تضم رفات من تستقبلهم ثم لاتسمح، لهم بالانتقال منها إلى دار أخرى.
انها دور الأبدية والاستقرار، وقد أجاد أهل المدينة كل الاجادة باطلاقهم "بيت الأبدية" على القبر. ضمت بيوت الأبدية هذه رفات الآباء والأبناء إلى الأبد: بعضها على هيأة أبراج ذوات غرف تودع فيها الموتى، وبعضها على هيأة بيوت ذوات غرفة واحدة مزينة بالنقوش وأنواع الزخرفة كتبت على جوانبها أسماء ساكنيها في الأبدية ورسمت صورهم عليها. هذه هي مدينة الأموات تشرف على مدينة الأحياء وتضحك منها.
حصن "زنوبية"
لم تفكر "الزباء"، على ما يظهر، في نقاط عاصمتها إلى موضع آخر، وقد عملت على تقوية "تدمر" وتحصينها وتجميلها، ومعظم الاثار الباقية فيها هي من أيامها. ولو إن كثيرا من الأبنية التي كانت فيها قبل أيام الملكة قد صيرت باسمها، غير انها عنيت عناية فائقة بتحسين عاصمتها ولا شك.وابتنت مدينة على نهر الفرات لحماية حدودها من المشرق عرفت ب "زنوبية" وهو اسمها باليونانية. ويظهر إن هذه المدينة هي التي أشار اليها "الطبري" بقوله: "وكانت للزباء أخت يقال لها زبيبة، فبنت لها قصرآ حصينا على شاطىء الفرات الغربي"، فجعل المدينة قصرا، وصير اسم المدينة وهو "زنوبية" "زبيبة" وجعله اسم أخت للزباء. وذكر "المسعودي" إن مدائن الزباء على شاطىء الفرات من الجانب الشرقي والغربي، "وكانت فيما ذكر قد سقفت الفرات وجعلت من فوقه أبنية رومية، وجعلته أنقابا بين مدائنها". وذكر أيضا انها حفرت سربا من تحت سريرها وبنته حتى خرج من تحت الفرات إلى سرير أختها. وقد أشير إلى هذا النفق في قصة مقتلها. وذكر "ابن الكلبي" إن أبا الزباء اتخذ النفق لها ولأختها، وكان الحصن لأختها داخل المدينة.

(1/1460)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر "البكري" إن المدينة التي بنتها الزباء على شاطىء الفرات هي "الخانوقة"، وزعم إن "الزباء" "عمدت إلى الفرات عند قلة مائه فسكر، ثم بنت في بطنه ازجا جعلت فيه نفقا إلى البرية وأجرت عليه الماء، فكانت اذا خافت عدوا دخلت إلى النفق وخرجت إلى مدينة اختها الزبيبة". وسمى "ياقوت الحموي" تلك المدينة "الزباء"، قال: انها "سميت بالزباء صاحبة جذيمة الأبرش". ودعاها في موضع آخر "عزان" وقال: إن في مقابلها على الضفة الثانية من الفرات مدينة تدعى "عدان"، وهي لأخت الزباء.
ويظهر إن هرب "الزباء" سرا من نفق سري، يمر من داخل المدينة من معبدها أو من قصر الملكة ومن تحت السور إلى الخارج، هو الذي أوحى إلى أهل الأخبار قصة ذلك النفق الطويل الذي زعموا أن الملكة بنته تحت الأرض من قصرها إلى نهر الفرات، حيث مدينتها الثانية، وهو نفق يجب أن يكون طوله مئات من الأميال. وقد عثرعلى بقايا سراديب وقنوات. تحت أسوار تدمر وقلاعها تشير إلى وجود أنفاق للهرب منها عند الاضطرار، ولكنها لا يمكن أن تكون على شاكلة نفق أهل الأخبار بالطبع.
ولا يستبعد احتمال وجود نفق في حصن "زنوبية" على الفرات أيضا، ساعد وجوده في تثبيت هذه القصة في رواية الأخباريين.
ويرى "هرتسفلد" "E.Herefeld" أن هذه المدينة هي الموضع الذي يعرف اليوم باسم "الحلبية"، ويقابله في الضفة الثانية من النهر موضع آخر يسمى "الزليبية". وهو يعارض رأي من يدعى أن "الزليبية" هي المدينة التي بنتها الزباء. وينسب بناء موضع "حلبية" "الحلبية" إلى "الزباء" كذلك. ويرى بعض الباحثين احتمال كون "الحلبية" القصر الثاني الذي نسب بناؤه إلى الزباء، وذكر في الروايات العربية. وذهب بعض آخر إلى أن "زنوبية" هي مدينة "السبخة" الحاليه.

(1/1461)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرى "موسل" أن "الحلبية" هي "دور كرباتي" "Dur Karpati"" "Nibarti Aschur" التي بنيت بأمر "آشور نصربال الثالث" "Asurnazirpal" عام "877" قبل الميلاد، وأنها عرفت ب "زنوبية" ثم "الزباء" فيما بعد.
ويعزو "سبستيان رتزفال" سيب بناء مدينة "زنوبية" الى عزم الملكة على اذلال مدينة "فلوغيسية" "Vologasia"Vologesias"" المعروفة في الكتابات التدمرية باسم "ألجيسيا" "Ologesia" "ألجاشيا"، وهي في نظر بعض الباحثين "الكفل" على نهر الفرات في لواء الحلة بالعراق، بناها "فلوجاس" "فلوكاس" من ملوك "إلأرشيكيين" "بنو أرشك" حوالي سنة "60" لئميلاد. وذلك لاستجلاب التجارات الواردة عن طريق نهر الفرات من أقاصي الهند والشام وآسية الصغرى. فرأت "الزباء" منافسة هذه المدينة ببناء مدينة جديدة تقع في منطقة نفوذها على نهر الفرات.
وكانت قوافل "تدمر" تتاجر مع هذه المدينة العراقية "ألجاشيا"، تحمل اليها بضائع أهل الشام وسواحل البحر المتوسط، وتنقل منها إلى "تدمر" بضائع الهند وايران والخليج والعراق. يقود هذه القوافل زعماء شجعان خبروا الطرق وعرفوها معرفة جيدة، ولهم في المدينة مقام محترم. وطالما عمل لهم رجال القافلة والمساهمون في أموالها، التماثيل، تقديرا لهم وتخليدا لأسمائهم وكتبوا شكرهم لهم على الحجارة، ولدينا نماذج عديدة منها. من ذلك كتابة دونها رجال قافلة لزعيمهم وقائدهم "يوليوس أورليوس زبيد بن مقيمو بن زبيدا عشتور بيدا"، لأنه أحسن اليهم حين قاد قافلتهم وأوصلها سالمة الى "الجاشيا" في العراق. وكغاية أخرى دونها جماعة قافلة تولى قيادتها زعيم اسمه "نسى بن حالا" لمناسبة توفيقه في حمايتهم وحماية أموالهم في أثناء ذهابهم وعودتهم الى "الفرات" والى "ألجيسيا" "Ologesia" وقد صنعوا لذلك تمثالا له في شهر "نيسان" من سنة "142" للميلاد تخليدا لاسمه.

(1/1462)


--------------------------------------------------------------------------------

قد استولى "خسرو" الأول في حوالي سنة "540" بعد الميلاد على "زنوبية" فدمرها. فلما استرجعها "يوسطنيانوس" "جستنيانوس" "Justinianus" "527 - 565م"، أعاد بناء ما تهدم منها. وقد عثر على بقايا المباني التي تعود الى أيامه، وبعضها من عمل معماريه "يوحنا البيزنطي" و "أزيدوروس الملطي" "Isidoros Miletus" حفيد البناء البيزنطي الشهير "أيا صوفيا" "Hagia Sophia" كلفهما القيصر انشاء تلك العمارات. غير إن اصلاحات هذا القيصر لم تضف الى حياة المدينة عمرا طويلا، لقد كانت نوعا من أنواع الحقن المقوية،تقوم الجسم الى حين ولكنها لا تمنحه الابدية. ففي سنة "610" للميلاد. وفي أيام القيصر "فوقاس" "Phokas" هاجمها "خسرو" الثاني وأنزل فيها الخراب والدمار. فقد عبر "شهربراز" "Shahrvaraz" نهر القرات في اليوم ألسادس من شهر "أغسطس" من عام "610" للميلاد، واستولى على مدينة "زنوبية" "Zenobia". وأخذ نجمها منذ ذلك الحين في الأول، فلم يسمع عنها شيء، حتى انها لم تذكر في اخبار الفتوح، ويدل هذا على أنها لم تكن شيئا يذكر في ذلك الحين ويحدثنا المؤرخ "بروكوبيوس" أن الأيام أثرت في مدينة "زنوبية" "Zenobia" مدينة "الزباء"، فأنزلت فيها الخراب، وتركها أهلها، فانتهز الفرس هذه الفرصة ودخلوها وتمكنوا بذلك من الولوج في الأرضين الخاضعة للروم دون أن يشعر الروم بذلك، ولذلك أعاد "يوسطنيانوس" بناء هذه المدينة وأحكم حصونها وجدد قلاعها وأنزل الناس فيها، وأسكن فيها حامية قوية جعلها تحت امرة قائد، وأقام لها سدودا من الحجارة لحمايتها من فيضان الفرات، وقد كانت مياه الفيضان تصل اليها فتلحق بها أضرارا جسيمة.

(1/1463)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر المؤرخ "بروكوبيوس" أن الفرس والروم ابتنوا قلاعا بنيت جدرانها باللبن لحماية كورة "قوماجين Commagene" وهي الكورة التي كانت تعرف قبلا بأسم "كورة الفرات" "Euphratesia"، وحماية حدود الانبراطورية الفارسية الواسعة المشرفة على البادية من الغزو أيضا، ومن جملة هذه الحصون ثلاثة حصون أمر القيصر "ديوقلطانوس" "ديوقليتيانوس" "Diocletianus"" ببنائها، منها حصن "Mabri" "Mambri" الذي أصلحه القيصر "يوسطنيانوس" "جستنيانوس" "Justinianus" ورممه، ويقع على مسافة خمسة أميال رومية من "زنوبية" "Zenobia". و "Mambri"، هو خرائب "شيخ مبارك" على مسافة سبعة كيلومترات من "الحلبية".
ولم يبق من آثار عهد "تدمر" في "الحلبية" إلا مقابر خارج أسوار المدينة. وهي على هيأة أبراج تتألف من طابقين أو ثلاثة طوابق وأهرام بنيت على الطريقة التدمرية في بناء القبور، غير أنها دونها كثيرا في الصنعة وفي الفن. وتشاهد بقايا قبور مشابهة لهذه القبور في المدن الواقعة قي منطقة الفرات الأوسط، أي المنطقة التي خضعت لحكومة "تدمر".
ويلاحظ انتشار هذا النوع من القبور في المناطق التي سكنها العرب في أطراف الشام والعراق في العهد البيزنطي، خاصة في "تدمر" وفي "حمص" و "الرها" "Edessa" وفي "الحضر" كذلك. بل وفي "بطرا" أيضا حيث نجد شبها كبيرا في أشكال القبور المنحوتة من الصخر على هيأة أبراج ذوات رؤوس تشبه الهرم في بعض الأحيان. ولانتشار هذا النوع من القبور في مناطق سكنتها أغلبية من العرب المتحضرين، نستطيع أن نقول انها نمط خاص من أنماط بناء القبور كان خاصا بالعرب المتحضرين.

(1/1464)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر "بطلميوس" أسماء عدد من المواضع جعلها في عداد أماكن "كورة تدمر" "Palmyrena"، وهي: "Resapha" و "Cholle" و "Oriza" و "Putea" و "Adaba" و "Palmyra" و "Adacha" و "Danaba" و "Goaria" و "Aueria" و "Casama" و "Admana" و "Atera" و "Alalis" و "Sura" و "Alamatha"، وتقع هذه المواضع الثلاثة الأخيرة على نهر الفرات. أما "Palmyra"، فهي "تدمر" العاصمة. و أما "Resapha"، فهي "الرصافة" وهي مدينة قديمة ورد خبرها في النصوص المسمارية فدعيت فيها ب "Ra-sap-pa" ومن ذلك نص يعود إلى سنة "840" قبل الميلاد، وقد اشتهرت بوجود ضريح القديس "سرجيوس" "St.Sergius" بها، المقدس عند الغساسنة.
و أما "Cholle"، في "الخو لة" "الخلة". وأما "Oriza"، فهي "الطيبة"، وتقع هذه المواضع على السكة الرومانية الممتدة من الفرات إلى "تدمر".
ويرى "موسل" أن "Putea"، هو "Beriarac"، وهو موضع "بيار جحار"، ويقع على السكة الرومانية المارة من "تدمر" إلى موضع "Occaraba".
أما المستشرقان "ميلر" "Muller" و "موريتس" "Moritz"، فقد ذهبا إلى أنه "أبو الفوارس" الواقع على مسافة سبعة كيلومترات في غرب جنوب غربي تدمر. وذهب "موريتس" أيضا إلى احتمال كونه "القطار"، وهو على مسافة خمسة وعشرين كيلومترا إلى الشمال الشرقي من "تدمر".
أما موضع "Adada"، فكان حصنا رومانيا كذلك، يعرف في الزمن الحاضر ب "الحير"، ويقع على أربعة عشر كيلومترأ الى الجنوب الشرقي من "الطيبة" "Oriza"، وعند الحافات الغربية لمرتفع "Adidi"، وهو اسم قريب من "Adaba" وقد ذهب "ميلر" إلى أنه الموضع المسمى ب "خربة العاشجة" "خربة العاشقة" الواقع على الحافات الشمالية لهضبة تدمر.
ويرى "موسل" أن في كلمة "Adacha" بعض التحريف، وأن الأصل الصحيح هو "Archa" و "Harac"، وهو "أرك" "رك" الواقع على طريق تدمر وفي الشمال الشرقي من المدينة.

(1/1465)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما "Danaba"، فيقع على طريق "دمشق" "تدمر"، وهو موضع خرائب "البصيري" على رأي "موسل".
وأشار المؤرخ "اصطيفانوس البيزنطي" إلى "Goaria" كذلك، ذكرها على هذا الشكل "Goareia". ويظهر إن هذه المدينة كان لها شأن في تلك الأيام، واذ أطلق اسمها على منطقة واسعة دعيت باسم "Goarene"، ويظن انما "البخراء" وهي في زمننا خرائب تقع على ستة وعشرين كيلومترا إلى الجنوب من "تدمر". وقد عرفت ب "Goareia" عند بني إرم "الآراميين". وذهب "ميلر" و"بينتزنكر" "Benzinger" الى إن "Goaria" هو الموضع المسمى ب "Cehere" على الخارطة الرومانية لأيام الانبراطورية. وهو رأي يعارضه "موسل"، ويرى ان "Cehere" هو المكان المسمى ب "خان عتيبة" الواقع على مسافة تزيد على مئة كيلومتر في جنوب غرب "البخراء.
ويظهر إن "Aueria" "Aueira" "Aberia"، هو موضع "Eumari" "Euhara" "Euarius" في مؤلفات أخرى، وهو موضع "الحوارين".
وأما "Casama"، فهو على طريق دمشق المؤدي إلى تدمر، وهو خرائب خان "المنقورة" على رأي "موسل". وأما "Admana" "Odmana" "Ogmana"، فهو موضع "Ad-Amana" في الخارطات الرومانية للانبراطورية على ما يظهر، وهو موضع "خان التراب" على رأي "موسل" كذلك.
وأما "Atera"، فالظاهر انه موضع "Adarin" على الخارطة الرومانية، وهو موضع "خان الشامات" "أبو الشامات" "خان أبو الشامات" على رأي "موسل". أما "ميلر" فيرى انه موضع "دير عطية"، وهو رأي لا يقره "موسل"عليه.
وموضع "Sura" هو "سورية" على رأي "موسل". وأما "Alalis" فيقع في غرب "Sura" عند "بطلميوس". ويظن "موسل" أنه يقع بين موضعي "Sura" و "Alamatha" في مقابل "طابوس".
عانة

(1/1466)


--------------------------------------------------------------------------------

ذكرت أن التدمريين كانوا قد وضعوا حاميات لهم في مدينة "Anatha"، أي "عانة". وهي لا تزال موضعا معروفا حيا على نهر الفرات في العراق وعرفت "عانة" ب "Anat" و "An-at" و "A-na-at" "A-Na-Ti" في الكتابات المسمارية. وعرف موضعها ب "خ -نا" "H-na" و "خا-نا -ت" "Ha-na-at" في النصوص البابلية القديمة. وقد تكونت مملكة صغيرة بهذا الاسم أمتدت رقعتها إلىالخابور،وعرفت المدينة ب "Anatha" في مؤلفات "الكلاسيكيين".
ويشك المستشرق "أدور ماير" "Eduard Meyer" في وجود صلة بين اسم الإله "Ana-tu" "Anat"، واسم مدينة "An-at"، أي "عانة".
ومركز "عانة" الجزر الواقعة في النهر، وهي خصيبة، وفي مأمن من غارات الأعراب. وقد تمكن أصحابها بفضل موقعهم هذا من التحكم في القبائل المجاورة لها ومن أخذ الجزية منها. ولهذا السبب استعمل الآشوريون في الغالب رجالا من أهلها لحكم منطقة "سوخي" "Suhi". وفيها كان يقيم "ايلو ابني" "Ilu Ibni" حاكم "سوخي" الذي دفع الجزية الى الملك "توكلتي أنورتا الثاني" "Tukulti Enurta" "889 - 4 88" قبل الميلاد.
:قد ذكر اسم "عانة" و "الحيرة" في الكتابة المرقمة برقم "Littmann". ويرجع تأريخها إلى شهر أيلول من سنة "443" من التأريخ السلوقي، أي شهر "سبتمبر" من سنة "132" للميلاد، وورد فيها اسم الإله "شيع القوم" حامي القوافل والتجارات. ويظهر إن المراد ب "حيرتا" الحيرة الشهيرة في العراق. فإذا كان ذلك صحيحا، دل على إن نفوذ تدمر قد بلغ هذا المكان، وان للقصص الذي يرويه الأخباريون عن ملوك الحيرة والزباء أصلا تطور على مرور الأيام فتكونت منه قصة "جذيمة" والزباء.

(1/1467)

admin
12-27-2010, 01:19 AM
وصاحب هذه الكتابة رجل اسمه "****و بن غانمو بن سعدلات"، من قبيلة "روحو" أي "روح"، وكان فارسا في حامية مدينة "عنا" وهي "عانة". وقد دون كتابته هذه بمناسبة تقديمه مذبحين إلى الإله "شيع القوم" الذي لا يشرب خمرا، وهو حامي القوافل. ويلاحظ أن أكثر الكتابات تذكر جملة "الذي لا يشرب خمرا" بعد اسم هذا الإله. وهي تعني أن هذا الإله كان يشرب الخمر ولا يحبها، فعلى أتباعه تجنبها. ويظهر إن طائفة من الناس حرمت عليها الخمرة، ودعت إلى مقاطعتها، واتخذت "شيع القوم" حاميا لها. وهي على نقيض عباد الإله "دسره" "دشرة" "Dussares" أي "ذو الشرى" الذين كانوا يتقربون إلى إلههم هذا بشرب الخمر.
ولا نعرف متى استولى الرومان عليها. ولم يرد ذكرها في قائمة "ماريوس مكسيموس "Marius Maximus" التي عثر عليها في "Dura" والتي يعود تأريخها إلى سنة "211" للميلاد في ضمن المخافر الرومانية التي كانت في المناطق الوسطى لنهر الفرات. ويظهر منها أن "عانة" "Anath" كانت في ذلك الوقت في أيدي "الفرث" "Parthians"، وأن الرومان دخلوها بعد ذلك. قد يكون في أثناء حملة "اسكندر سويرس" "Alexander Severus" كما ذهب "روستوفستزف" "Michael Rostovtzeff" الى ذلك، أو في أيدي "غورديانوس" "Gordianus" كما ذهب "اولمستيد" "A.T.Olmstead" الى ذلك.
وقد ذكر "عانة" "Anatha" المؤرخ "أريان" في أثناء حديثه عن أسطول "تراجان" الذي مر بها. وورد اسمها "Anath" في خبر "معين" "Ma'ajn" أحد قواد الملك "سابور الثاني" "309 - 379 م"، وكان قد اعتنق النصرانية وبنى جملة ديارات، ونصب القس على"سنجار" "شجار" "Schiggar"، ثم لم يكتف بذلك، فذهب إلى "عانة"، فبنى على شاطىء الفرات وعلى مسافة ميلين منها ديرا استقر فيه سبع سنوات.

(1/1468)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي سنة "363" للميلاد حاصرها الروم، وألحقوا بها أضرارا كبيرة. وأجلوا السكان عنها. ولما أرسل "فاراموس"Varamus" "Varaious" في عام "591" للميلاد قوة على "عانة" لمناوشة "كسرى" "Chosroes" وصده عن الرجوع الى فارس، قتل الجنود قائدهم، وانضموا إلى "كسرى". وفي القرن السابع للميلاد، كان مقر أسقف قبيلة "الثعلبية" في هذه المدينة.
الفصل السادس والثلاثون
الصفويون
والى هذا العهد تجب اضافة قوم من العرب أطلق المستشرقون عليهم لفظة "الصفويين"، نسبة إلى أرض "الصفاة". وهم أعراب ورعاة كانوا يتنقلون من مكان إلى آخر طلبا للماء والكلأ. وقد دونوا خواطرهم أحيانا على الأحجار، وتركوها في مواضعها، ومنها استطعنا الإلمام بعض الشيء بأحوالهم وأخبارهم. وقوم تنتشر الكتابة بينهم على هذا النحو، لا يمكن أن نتصورهم أعرابا على النحو المفهوم من الأعرابية، بل لا بد أن نتصور انهم كانوا على شيء من الثقافة والإدراك.
واذا سألتني عن سبب اختيار المستشرقين لهذه التسمية واطلاقها على أصحاب هذه الكتابات، فإني أقول لك: انهم أخذوها من اسم أرض بركانية عرفت بالصفا وبالصفاة، تغطي قشرتها الخارجية حتى اليوم صخور سود تقول لك انها خرجت إلى هذا المكان من باطن الأرض، وان براكين ثائرة مزمجرة غاضبة كانت قد قذفت بها إلى ظهر الأرض فاستقرت في أمكنتها هذه، ومن يدري? فلعلها أصابت أقواما كانت تعيش في هذه المواضع أو مارة بها فأهلكتها. وهي تسمية قديمة تعود إلى ما قبل الإسلام، بدليل انها وردت في نص يوناني على هذه الصورة: "Safathene" وورود اسم إله عرف ب "زيوس الصفوي" "Zeus Safathenos"، أي نسبة الى هذه الأرض.

(1/1469)


--------------------------------------------------------------------------------

أما "الصفوية"، فتسمية ليست بتسمية عربية قديمة، وليست علما على قوم معينين أو على قبيلة معينة، وانما هي تسمية حديثة أطلقها المستشرقون على قبائل عديدة كانت تنتقل من مكان إلى مكان طلبا للماء وللكلأ، لرعي ماشيتها التي تكون ثروتها ورأس مالها، تراها يوما في أرضع النبط، ويوما آخر في بلاد الشام حيث كان الرومان ثم البيزنطيون يسيطرون. فنحن في هذا الموضع لسنا أمام مملكة أو حكومة مدينة، بل أمام قبائل عديدة حرفتها الرعي والغزو وكفى.
ومن نسميهم بالصفويين إذن ليسوا بقبيلة واحدة ولا بجنس معين، وإنما هم قبائل متنقلة، كانت تتنقل في هذه الأرضين الواسعة، في أزمنة مختلفة متباينة. ويعود الفضل إلى الكتابات التي عثر الباحثون عليها في اعطائنا فكرة عن تلك القبائل المتنقلة، وفي حصولنا على أسماء بعض تلك القبائل التي كان ينتسب اليها أصحاب تلك الكتابات.
أخرى، في مثل الدراسات اللغوية والدينية وتطور الخطوط ودراسة أسماء الأشخاص والقبائل وما شاكل ذلك.

(1/1470)


--------------------------------------------------------------------------------

وانتشار هذه الكتابات وتناثرها في أرضين صحراوية، أمر يلفت النظر ويدعو إلى العجب من أمر الأعراب في ذاك العهد الذين كانوا يقرأون ويكتبون مع انهم أبناء بادية، وقد عاشوا قبل الإسلام بزمان طويل، ثم إن خطها يلفت إليه النظر أيضا، فهو خط عربي، ولد من الأم التي نسلت الخط العربي الجنوبي، وهو قريب من الخط الثمودي والخط اللحياني، ويعني هذا أن العرب كانوا يكتبون قبل الميلاد بخط أود أن أسميه بالقلم العربي الأول، أو القلم العربي القديم منه تفرعت الأقلام العربية المتنوعة فيما بعد، فوجد ما نسميه بالقلم المسند وبالأقلام العربية الشمالية، وذلك لظروف كثيرة لا مجال للكلام عليها في هذا المكان. وهو يدل على أن الصفويين وأمثالهم من الأعراب لم يتأثروا بالثقافة الإرمية مع قربهم منها واتصالهم بها، وطغيانها على الثقافات الأخرى في العراق وفي بلاد الشام، فبقوا مخلصين لقلمهم القديم، فكتبوا به، ولم يستعملوا قلم بني إرم كما فعل "أهل المدر" المقيمين في مدن العراق والشام وقراهما. وكتبوا بلهجاتهم أيضا ولم يكتبوا بلغة بني إرم كما فعل غيرهم من العرب الحضر.
وقد رأى "دوسو" "Dussaud" أن الصفويين كانوا يحاكون الجنود الرومان واليونان في تسجيلهم خواطرهم وذكرباتهم على الحجارة، فقد وجد الباحثون أحجارا دون عليها أولئك الجنود في أثناء أدائهم واجباتهم العسكرية في بلاد الشام وعلى الطريق الرومانية ذكرياتهم وخواطرهم ونزولهم في تلك الأمكنة. ولكن وجود كتابات صفوية عديدة من القرن الأول قبل الميلاد يثبت إن الصفوين كانوا يدونون خواطرهم بهذا الأسلوب، وذلك قبل شروع أولئك الجنود الرومان واليونان في تدوين خواطرهم على هذا الأسلوب، وانهم كانوا يدونون خواطرهم هذه على الأحجار وبهذا الشكل لأن هذه الحجارة كانت هي ورق كتابة أهل البادية، فكتبوا عليها كما يكتب أهل الحضر على الرق والخشب والورق وغيرها من وسائل الكتابة.

(1/1471)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرجع علماء الصفويات عمر أقدم الكتابات الصفوية الى القرن الأول قبل الميلاد.
أما آخر ما عثر عليه من كتابات، فيرجع إلى القرن الثالث بعد الميلاد، على رأيهم أيضا. فما عثر عليه من الكتابات الصفوية، هو من عهد تبلغ مدته زهاء أربعة قرون.
وقد أرخت بعض هذه الكتابات بحوادث محلية عرفت عند أصحابها، الا انها مجهولة لدينا، لذلك لم نستطع الاستفادة منها في تكوين رأي في زمن كتابتها. فقد أرخ بعضها بسنة وفاة قريب لصاحب الكتابة، أو بوقت نزوله في المكان الذي كتب به الكتابة، أو بوقت نزوله في المكان الذي كتب به الكتابة،أو بوقت هربه من الرومان أو بعد كذا من الأيام أو من السنين من رؤية قريب له أو وفاته، ومثل هذه الحوادث، لا تفيد المتأخرين شيئا، ولا تساعدهم في تثبيت زمن تدوينها بوجه صحيح مضبوط. وأرخ بعضها بحوادث أعم، الا انها ذكرت بأسلوب فوت علينا معرفة زمان وقوع الحادث بوجه مضبوط، فقد أرخت كتابة منها ب "سنت نزز اليهد"، أي "سنة الخصام مع اليهود". وهي سنة كان يعرفها صاحب الكتابة وأصحابه. أما نحن فلا نعلم من أمرها شيئا، فقد خاصم العرب اليهود كثيرا في تأريخهم. فأية خصومة من تلك الخصومات قصد صاحب الكتابة. فإذا كان قد قصد ثورة العرب أهل اللجاة "Trachonitis" على "هيرود الكبير" الملك المكابي، فهذه الثورة يجب أن تكون قد وقعت فيما بين السنة "23 ق. م." والسنة "14 ق. م.". أما اذا كان صاحب النص قد قصد خصاما آخر، فإننا لا نستطيع التكهن عنه من نصه هذا، لما قلناه من تعدد الخصومات بين العرب واليهود.

(1/1472)


--------------------------------------------------------------------------------

وأرخت كتابة أخرى بزمن تمرد صاحب الكتابة على الروم، وذلك سنة مجيء "الميديين" الفرس إلى "بصرى"، "ومرد على رم سنت أتى همذى بصرى" وقصد ب "همذى" "الماذويين"، أي الميديين من الفرس. ولما كانت الأخبار لم تشر إلى اكتساح الفرس ل "بصرى" قبل سنة "614 م"، ظن من عالج هذه الكتابة أن صاحبها قصد استيلاء الفرس عليها في ذلك الزمن، أي في السنين الأولى من سني مبعث الرسول، حيث غلبت الفرس على الروم، كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم، غير أن هذا الفريق عاد فأبدل رأيه، لأنه وجد أن هذا الرأي لا ينسجم مع نوع الكتابة والأبحاث الاثارية التي دلت على إن الكتابة يجب أن تكون أقدم عهدا من سنة "614 م"، ورأى لذلك أن استيلاء الفرس على "بصرى" يجب أن يكون قبل ذلك بكثير، وقد يكون وقع في القرن الأول قبل الميلاد، غير أننا لا نملك نصوصا تأريخية تشير الى وصول الفرس إلى هذا المكان، واستيلائهم عليه في ذلك الزمن. وهكذا نجد أن تلك الكتابة المؤرخة قد أوجدت لنا مشكلة، لم نتمكن من حلها بسبب الغموض الوارد فيها عن سنة استيلاء الفرس على بصرى.
وطالما قرأنا في الكتابات أن أصحابها "نجوا من الروم" أو فروا من الروم، أو تمردوا على الروم وأمثال ذلك من تعابير. وقد قصدوا بالروم بلاد الشام التي كانت في أيدي الرومان، ثم انتقلت إلى الروم، وهم اليونان البيزنطيون. ولما كانت بلاد الشام تحت حكم المذكورين، عبروا عنها ب "رم" "روم" أي "الروم" "وبلاد الروم".

(1/1473)


--------------------------------------------------------------------------------

لقد كان الصفويون بحكم نزولهم في أطراف بلاد الشام على اتصال بالروم بل اضطروا الى الخضوع لحكمهم والاعتراف بسيادتهم عليهم. والتوغل شمالا وجنوبا في بلاد الشام بحثا عن الماء والكلأ وعن القوت، كما اضطروا الى مراجعة قرى بلاد الشام ومدنها للامتيار ولبيع ما عندهم من فائض منتوج أيديهم ومن حاصل حيواناتهم. وهذا مما يدفعهم الى التخاصم أحيانا مع موظفي الأمن الروم وحراس الحدود ورجال الجباية و "الكمارك"، في شأن أمور الأمن، أو أخذ حقوق الحكومة منهم، فيقبض الروم على من يقاوم منهم، أو يتهرب من الأداء، أو يقتل، أو يقوم بأعمال مخالفة، فيلقونه في السجن في و يقتلونه، ولهذا نجد بعض الكتابات وقد سجلت حين هرب صاحبها من سجن الروم. وعاد إلى حريته. وهربه من الروم واستنشاقه نسيم الحرية، معناه اللجوء إلى البادية والأحتماء بها حيث يصعب على الجنود الروم الوصول اليها للقبض عليهم والاقتصاص منهم. والبادية حصن أمين للأعراب.
ويظهر من هذه النصوص أن شأن الصفويين بالروم لم يكن يختلف عن شأن سائر العرب بهم وبأمثالهم من الدول الأجنبية مثل الفرس، فهم مضطرون بحكم وضعهم إلى التسليم لسلطان الدول الأجنبية ما داموا ضعفاء لا يستطيعون مقاومة الأعاجم، فإذا تغيرت الأحوال، وظهرت مواضع ضعف في الأجنبي، اهتبل الأعراب الفرص، فانقلبوا عليه حتى يرضيهم أو يظهر قوته. وهكذا كان الصفويون ينتهزون الفرص، فمتى وجدوا تغرة في سلطان الروم وموضع ضعف في حراسة حدودهم، هاجموهم منها حتى ينالوا ما يبتغون من مغنم، وقد ينقلب الحادث عليهم بالطبع، لسوء تقدير في الموقف، وهذا ما يحدث في كل غزو أو حرب، وهو شيء طبيعي فقد ينتصر المحارب فيربح، وقد يندحر فيخسر كل شيء.
"تر"، و "هجد ل" "هكدل"، و "جر" "كر" و "حز ن" و "حضى"، و "حولت" "حوالة"، و "دمصى" و "سلم"، و"صبح"، و"ضف"، و"عبد"، و"عوذ"، و"غر"، و "فرث"، "وقمر"، و "يحرب"، و "همضر"، و "املكت".

(1/1474)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن القبائل الصفوية: "اشلل"، و "بكس"، و "جعبر"، و "جوا"، و "حمد"، و "حرم"، و "حظى" "حضى"، و "حمي"، و "زد" "زيد"، و "زهر"، و "عذل"، و "عمرت" "عمرة"، و "فضج"، و "مسكت" "ماسكة"، و "معصى" "معيص"، و "نمرت" "نمرة" "نمارة" "نميرة"، و "هذر" "هذير" "هذار"، و "نسمن" أي "نسمان"، و "حمد" "حماد" "حميد".
وترد لفظة "ال" قبل اسم القبيلة في كثير من الكتابات الصفوية، وتؤدي فيها معنى "آل" عندنا، مثل: "ال تم" أي "ال تيم"، و "ال عوذ" بمعنى "آل عوذ" و "0 ال ادم" "آل آدم"، و "ال حد" "ال حد". وهي بمعنى إن المذكور أو المذكورين من القبيلة المسماة، أو من العشيرة المذكورة، أو من البيت المسمى.
وورود "ال" بهذا المعنى في النصوص الصفوية يدل على إن لغة هذه القبائل وهي قبائل عربية شمالية تشارك لغة القرآن الكريم في هذه الخاصية.
وقبيلة "عوذ" ورد اسمها في عدد من الكتابات الصفوية. وقد ورد في احداها إن حربآ كانت قد نشبت بينها وبين قبيلة أخرى، أسمها "وعل" أو "ويل" أو "وائل". وقد يكون لاسم هذه القبيلة صلة باسم الإله "جد عوذ".
وقد عثر على اسم قبيلة "نعمن"، أي "نعمان" في بعض االكتابات الصفوية التي عثرعليها في "وادي حوران" بالعراق، ويرد "نعمان" اسما لأشخاص، ومنهم بعض ملوك الحيرة.
وقد ورد اسم قبيلة في احدي الكتابات التي عثر عليها في العراق، وهي قبيلة "ال صح"، أو "آل صح"، أي "آل صائح"، أو "آل صيح"، أو "الصائح". وما زال اسم "الصائح" معروفا في ائعراق، وهو اسم عشيرة فقد يكون له صلة بهذه التسمية القديمة.
وقد أفأدتنا هذه الكتابات من الناحية الجغرافية، اذ قدمت الينا أسماء مواضع عديدة لا يزال بعضها يسمى بالأسماء الواردة في تلك الكتابات. وقد يمكن في المستقبل دراسة الأسماء الأخرى لتثبيت مواضعها وتعيينها على مصورات الأرض "الخارطات".

(1/1475)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن المواضع التي ورد اسمها في الكتابات الصفوية، موضع "رحبت"، وهو "الرحبة". وقد ورد في نص سجله رجل اسمه "حنن بن هعتق"، "حنان ابن العاتق"، أو "حنين بن العاتق"، أو "خنن بن العاتق"، وذكر انه "بن ال - رحبت"، أي "من الرحبة"، أو "من آل رحبة"، وانه كتب كتابته هذه في السنة التي دار فيها قتال مع قبيلة "ال حمد" "الحمد" أو "آل حمد". وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن "الرحبة" هو اسم موضع. كما إن "الحمد" هو اسم موضع كذلك، وان الذين نزلوا في هذين المكانين وفي أمكنة أخرى نسبوا أنفسهم اليها فقالوا: "آل رحبة" و "آل حمد"، وذلك على نحو ما نجده في عربيتنا من ذكر "آل" في الانتساب، وان هذا معناه إن أولئك الأعراب الذين نزلوا في الموضعين انتسبوا إلى المكانين، فاستعملوا لذلك لفظة "ال"، أي "آل"، قبل الموضع، فظهر الاسم "ال رجبت" "ال رجبة" وكأنه إسم قبيلة.
ولهذا المظهر من التسميات والانتساب شأن كبير في موضوع دراسة أنساب القبائل، إذ فيه برهان ودليل على أن إلاقامة في موضع تكون سببآ للانتساب إليه، ثم لتحويل ذلك النسب الى اسم جد، وأن ما يرويه أهل الأخبار في هذا الباب مثل انتساب الغساسنة الى "غسان"، وأن "غسان" اسم موضع ماء نزلوا عليه فدعوا ا به، يجب أن ينظر اليه نظرة اعتبار، لا رفض وازدراء. وفي أسماء القبائل العربية المدونة في كتاب الأنساب والأدب، أو الواردة في الكتابات الجاهلية أمثلة عديدة من هذا القبيل.
ومن الأماكن التي ورد ذكرفي النصوص الصفوية: "بصرى"، وقد ذكرت على هذه الصورة "بصر"، و "هنمرت"، "النمرت"، أي "النمارة"، و "هشبكى" أي "الشبكي" و "حجر".
و "حجر" موضع قد يراد به "الحجر" المعروف في عربيتنا، وهو "Hegra" و "Hegrae" عند اليونان واللاتين، و "حجرا" و "حجرو" عند النبط.

(1/1476)


--------------------------------------------------------------------------------

وورد إسم مدينة "تيما" أي:تيماء" في الكتابات الصفوية كذلك، كالذي ورد في نص دونه رجل اسمه "خل - ال بن شبب" أي "خليل - ايل ابن شبيب"، وقد تذكر فيه رجلا اسمه "أبرش"، وهو من أهل "تيماء".
ولم يكن الصفويون كما يبدو بوضوح من كتاباتهم ومن صور الحيوانات التي نقشوها على الأحجار أعرابا ممعنين في الأعرابية على نحو عرب البوادي البعيدين في البادية، حيث يقضون حياتهم فيها، فلا يختلطون بالحضر، ولا يمتزجون بالحضارة، وإنما كانوا أشباه أعراب وأشباه حضر، وربما كان تعبير "رعاة" خير تعبير يمكن اطلاقه عليهم ليميزهم عن غيرهم. فقد كان الصفويون أصحاب ماشية، لهم ابل، يعيشون عليها، ويتاجرن بها، ولهم خيل يركبونها، والخيل كما هو معروف لا تستطيع الحياة في البوادي القاحلة العميقة والرمال القليلة المياه، ولهم المعز والغنم والحمير والبقر، وهي من الحيوانات التي تحتاج إلى رعي ومراعي. ولذلك يجب أن يكون أصحابها من طبقة الرعاة. وقد كانت حياتهم حياة رعي، نجدهم في الشتاء في مكان، ثم نجدهم في الصيف في مواضع أخرى قريبة من الجبال حيث يكون الجو لطيفا والمياه كثيرة، ليكون في استطاعتهم الابتعاد من حر الحرار ومن سموم الأرض القاحلة في الصيف، ولتستمتع ماشيتهم بجو لطيف فيه ما يغريها من خضرة نضرة ومن ماء عذب زلال.

(1/1477)


--------------------------------------------------------------------------------

إن في بعض هذه الكتابات تعبيرا عميقا عن ذكاء فطري يعبر عن طراز حياة الصفويين، فكتابة مثل: "ورعى همعز وولد شهي"، ومعناها: "ورعت المعز وولدت الشياه !، أو "ورعى بقر هنخل"، أي "ورعت البقر في هذا الوادي"، أو "وقف على قبر فلان وحزن"، هي تعابير، وان بدت ساذجة مقتضبة لا يكتبها حضري، غير انها تمثل في الواقع ذكاء فطريا عميقا، ونوعا من التعبيرعن حس أهل البادية أو أهل الرعي، وهو حس مرهف فيه بساطة وفيه اقتضاب في نبتا من وحي الصحراء البسيطة الممتدة إلى ما وراء البصر على نمط واحد، وشكل لا تغيير فيه ولا تبديل. وكتابات يكتبها أناس يحيون بعيدين عن حضارة المدن، ويعيشون بين أشعة الشمس وضوء القمر في بيوت وبر أو شعر معز لا تقي ولا تنفع الا بمقدار، لا يمكن أن تكون الا على هذا النحو من البساطة، ولكنها بساطة ذكي يحاول بذكائه التعبيرءن حياته تلك.
ونجد هذا الذكاء الفطري في الصور المرسومة للحيوانات، فقد أراد مصوروها أن يعبروا عن غرائزهم الفنية بصورة محسوسة ترى، فرسموا صور حيوانات ألفوها ورأوها، بصورة بدائية، ولكنها معبرة أخاذة. ورسموا بعض المناظر المؤثرة في حياتهم مثل الخروج للصيد ومعارك الصيد، فنرى على بعض الأحجار فارسا وثد حمل رمحا طويلا، ونرى مشاة وقد حملوا أقواسا وتروسا صغيرة مستديرة لوقاية أجسامهم من السهام أو من الحيوان، ونرى رجالا يطاردون غزالا أو ضأنا، ونرى أناسا فرسانا ومشاة يطاردون أسدا، ونرى غير ذلك من صور بدائية من هذا القبيل، مهما قيل فيها، فإنها صور رائعة لا يمكن أن يحفرها فنان بأحسن من هذا الحفر، وهو في مثل هذا المحيط، وليست لديه من آلات الحفر غير هذه الالات.

(1/1478)


--------------------------------------------------------------------------------

والصور المنقوشة على الأحجار التي ترينا الصفوي وقد ركب حصانه معتقلا" رمحا طويلا، هي صورة المحارب الفارس عند الصفويين، وهي في الواقع صورة الفرسان الأعراب، سلاحهم الرئيسي الرماح، يطعنون بها خصمهم. وما زال البدو في بعض البوادي من جزيرة العرب يحملون ذلك السلاح التقليدي القديم، يحاربون به خصومهم في المعارك القبلية البدائية. وأما المحارب الماشي، فإنه يحارب بالقوس وبيده الترس كما يظهر من بعض الصور، وهو لا بد أن يكون قد استعان بأسلحة أخرى بالطبع، مثل السيوف والفؤوس والحجارة وكل ما ثقع يده عليه مما يصلح أن يكون مادة للقتال والعراك.
إن الصور التي تمثل الناس، وهم يطاردون الغزلان أو بقر الوحش و الأسد أو الحمار الوحشي، هي صور مفيدة جدا تتحدث عن وجود تلك الحيوانات في تلك الأماكن وفي تلك الأوقات، وعن طرقهم في صيدها. وقد كانت لحوم بعض تلك الحيونات طعاما شهيا لمن يصطادها ولآلهم وجماعتهم، كما أن لوجود صورة الحصان شأنا في اظهار أن الصفويين وغيرهم كانوا يعرفون الخيل في تلك الأزمنة، وأن الحصان العربي كان موجودا يومئذ.
وفي جملة ما عثر عليه من أسماء آلهة الصفويين اسم إله عرف ب "إله هجبل" "إلاه هاجيل" "إله الجبل"، وهي تسمية تدل على أن عبدته كانوا من سكان جبل أو أرض مرتفعة، ولهذا نعتوا إلههم ب "إله الجبل" أو أن عبدته هؤلاء قد أخذوه من أناس كانوا قد خلقوا إلههم من ارتفاع أرضهم، وصار إلها من آلهة الصفويين. وهو يقابل الإله المسمى ب "الاجبل" "أو"Elagabal" وهو كناية عن الشمس، وكان يعبد في "حمص" "Emesa" فإن لفظة "Elagabal" تعني "إله الجبل" "وقد رمز إليه ب "حجر أسود" وعباد الحجر الأسود كانت معروفة عند الجاهليين. وقد كان أهل مكة يقدسون الحجر الأسود في مكة ويتقربون إليه.

(1/1479)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا ندري من حل في محل الصفويين فأخذ مواطنهم، ولم اختفت كتاباتهم بعد عهدهم هذا ? هل كان الذين أخذوا مكانهم أميين لا يقرأون ولا يكتبون فكانت أيامهم صما بكما? الذين أخذوا مكانهم هم أعراب مثلهم، كانوا أقوى منهم، لذلك تغلبوا عليهم على وفق سنة البادية. هذا جواب لا شك فيه. ولكننا لا نستطيع تحديد هوية أولئك الأعراب وتعيين أسماء قبائلهم، كما أننا لا نستطيع التحدث عن سبب سكوتهم وعدم ترك آثار كتابية لهم تتحدث عن أيامهم وعن قبورهم وأصدقائهم وما شاكل ذلك من أمور الى زمن مجيء الإسلام. إن الغساسنة، هم آخر من نعرف أنهم كانوا في هذه الأرضين وفيما جاورها وكذلك قبائل عربية أخرى مثل لخم وكلب،ولكننا لا نعرف أنهم تركوا كتابات تتحدث عنهم.
وبين أسماء الأشخاص المدونة في النصوص الصفوية أسماء تشبه أسماء أهل مكة والعرب الشماليين شبها كبيرا، ويحملنا هذا على تصور إن ثقافة الصفويين عربية شمالية. ونجد هذا التشابه في أمور ثقافية أخرى،سأتحدث عنها في الأماكن المناسبة.
ومن الأسماء الواردة في النصوص الصفوية: "قصيو"، أي "قصي". وقد ورد اسم "قصيو بن كلبو"، أي "قصي بن كلاب" في أحد النصوص. وكان من رجال الدين. وورد "قصيو بن روحو" أي "قصي بن روح". و "قصيو بن اذينت"، أي "قصي بن أذينة".

(1/1480)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرى بعض المستشرقين إن الصفويين هم مثل سائر القبائل العربية الشمالية هاجروا من جزيرة العرب إلى الشمال، فسكنوا في منطقة "الصفاة"، غير انهم لم يكونوا قد اندمجوا في أثناء تدوينهم كتاباتهم بالثقافة السامية الشمالية كما اندمج غيرهم مثل النبط، بل كانوا لا يزالون محافظين عاى صلاتهم بالجزيرة ولا سيما بالعربية الجنوبية منها موطنهم القديم. وتعبر عن هذه الصلة بعض الخصائص اللغوية التي ترجع على رأيهم إلى أصل عربي جنوبي، غير إنهم تأثروا بالطيع بمن اختلطوا بهم وبمن تجاوروا معهم من الساميين الشماليين أو العرب الشماليين، ويظهر أثر هذا الاختلاط على رأيهم أيضا في الأسماء والكلمات والتعابير الخاصة التي نقرأها ثي هذه النصوص.
قلت: إن كلمة "الصفويون" لا تعني شعبا معينا أو قبيلة معينة، وإنما هي اصطلاح أوجده "هاليفي" ليطلق على الكتابات التي عثرعليها في مواضع متعددة من "اللجاة" و "حوران" ومواضع أخرى، لذلك يجب ألا يفهم أننا نقصد أناسا تركوا لنا كتابات متشابهة كتبت بقلم واحد، ليظهر أنهم كانوا بين البداوة والحضارة فلاحين ورعاة لهم قرى ومزارع، وربما كانت لهم تجارات أيضا، غير أننا لا نعرف من أمرهم شيئا كثيرا. فقد يكونون اذن من قبيلة واحدة، وقد يكونون جملة قبائل، وقد تكون لهم "امارة" لا نعرف من أمرها شيئا، وربما لا يكون لهم ذلك.. وربما كانوا أتباعا للسلطة القائمة في بلاد الشام تتحكم فيهم بنفسها أو بواسطة أمراء أو سادات قبائل.
وقد يكون الصفويون أناسا وصلت أسماؤهم الينا، وكتب المؤرخون عنهم، ولكننا لا نعرف أنهم هم الذين نبحث عنهم، لأننا أمام أصطلاح جديد مبهم، ظهر كما قلنا في القرن التاسع عشر، ليست له حدود واضحة ولا معالم مرسومة، فلا ندري نحن في الواقع ما نريد، قد يكون هؤلاء أسلاف غساسنة الشام، وقد يكونون غيرهم.
الفصل السابع والثلاثون
مملكة الحيرة

(1/1481)


--------------------------------------------------------------------------------

وللاخباريين واللغويين وعلماء تقويم البلدان، آراء في أصل اسم "الحيرة"، وبينهم في ذلك جدل على التسمية طويل عريض، كما هو شأنهم في أكثر أسماء المدن القديمة التي بعد عهدها عنهم فحاروا فيها. وايرادها هنا يخرجنا عن صلب الموضوع، وهي أقوال لا تستند إلى نصوص جاهلية، ولا إلى سند جاهلي محفوظ، ومن أحب الوقوف عليها، وتعرف مذاهب القوم فيها، فعليه بمراجعة تلك المظان، كما إن لبعض المحدثين آراء في هذا الباب.
ومعظم المستشرقين، يرون انها كلمة من كلمات بني إرم، وانها "حرتا" "Harta" "Hirta" "Herta" "حيرتا" "حيرتو" السريانية الأصل، ومعناها المخيم والمعسكر وانها تقابل في العبرانية كلمة "حاصير" "Haser"، وان "حيرتا" "حيرتو" في التواريخ السريانية تقابل "العسكر" عند الاسلاميين وهي في معنى "الحضر" و "حاضر" و "الحاضرة" كذلك. ولهذا زعم بعض المستشرقين إن "الحضر" اسم المكان المعروف في العراق أخذ من هذا الأصل العربي، أي من "الحضر".
وقد عرفت "الحيرة" في مؤلفات بعض المؤرخين السريان، فعرفت ب "الحيرة مدينة العرب"، "حيرتا دي طياية"، كما عرفت بأسماء بعض ملوكها مثل "النعمان"، فورد "حيرتو د نعمان دبيث بورسويي"، أي: "حيرة النعمان التي في بلاد الفرس".
ويلاحظ إن تعبير "حيرة النعمان" "حيرتا دي نعمان"، تعبير شائع معروف في العربية كذلك. ولا بد أن يكون لاشتهار "الحيرة" باسم "النعمان" سبب حمل الناس على نسبة هذه المدينة إليه.
ويرى بعض، علماء التلمود أن مدينة "حواطره" "حوطرا" التي ورد في التلمود أن بانيها هو "برعدى" "بن عدى"، هي الحيرة. وقد حدث تحريف في الاسم، بدليل أن التلمود يذكر أنها لا تبعد كثيرا عن "نهر دعه" "Nehardea"، وأن مؤسسها هو "برعدى"، ويقصد به "عمرو بن عدي".

(1/1482)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظن أن موضع "حرتت دار جيز" "حارتا دار جيز" "حرته دار جيز"، الوارد في التلمود، هو "الحميرة". وقد ورد أن "ارجيز" وهو ساحر، هو الذي بنى تلك المدينة. ويرى بعض الباحثين احتمال وجود صلة بين هذا الساحر وبين قصة "سنمار" باني "الخورنق". وعرفت في التلمود ب "حيرتا دي طيبه" أيضا، أي "معسكر العرب" و "حيرة العرب".
وقد ذكر اسم الحيرة في تأريخ "يوحنا الأفسوسي" "John of Ephesus" من مؤرخي القرن السادس الميلاد "توفي سنة 585 م"، فقال: "حيرتود نعمان دبيت بور سوبي"، أي: "حيرة النعمان التي في بلاد الفرس"، كما ذكرها "يشوع العمودي" "Josua Stylites". وورد اسمها في المجمع الكنسي الذي انعقد في عام "410 م"، وكان عليها إذ ذاك اسقف اسمه "هوشع" "Hosha" اشترك فيه ووقع على القرارات باسم "هوشع" اسقف "حيرته" "حيرتا".
وقد أشرت في أثناء حديثي عن مملكة "تدمر" إلى ورود اسم مدينتين هما "حيرتا" "الحيرة" و "عاناتا" "عانة" في كتابة يرجع تأريخها الى شهر أيلول من سنة "132" للميلاد. وقلت باحتمال أن تكون "حيرتا" هذه هي الحيرة التي نبحث فيها الآن. فإذا كان ذلك صحيحا، كانت هذه الكتابة أقدم كتابة وصلت الينا حتى الآن ورد فيها هذا الاسم.
ومدينة "Eertha" التي أشار اليها "كلوكس" "Glaucus" و "اصطيفان البيزنطي" "Stephen of Byzantium"، وذكر أنها مدينة "فرثية" "Parthian" تقع على الفرات، هي هذه الحيرة على ما يظن.
وورد في بعض مؤلفات السريان مع "الحيرة" اسم موضع آخر قريب منها هي "عاقولا"، وقد ذهب "ابن العبري" إلى أنه "الكوفة"، وأشار "ياقوت" إلى "عاقولاء" غير أنه لم يحدد موقع هذا المكان.

(1/1483)

admin
12-27-2010, 01:20 AM
وقد اشتهرت الحيرة في الأدب العربي بحسن هوائها وطيبه، حتى قبل "يوم وليلة بالحيرة خير من دواء سنة ". وقيل عنها انها "منزل برئ مرئ صحيح من الأدواء والأسقام"، وهي على "سيف البادية" ليست بعيدة عن الماء، وقد ورد ذكرها كثيرا في شعر الشعراء الجاهليين والاسلاميين، وهي لا تبعد كثيرا عن "النجف" و "الكوفة".
وقد ذكر "حمزة الأصفهاني" انه بسبب حسن هواء الحيرة وصحته لم يمت بالحيرة من الملوك أحد، الا قابوس بن المنذر. أما بقية الملوك، فقد ماتوا في غزواتهم ومتصيدهم وتغربهم، وانه بسبب ذلك قالت العرب: "لبيتة ليلة بالحيرة أنفع من تناول شربة".
وقد نعتت في المؤلفات الاسلامية بنعوت منها: "الحيرة الروحاء"، و "الحيرة البيضاء"، أخذوا ذلك من شعر الشعراء. وزعم بعض أهل الأخبار: إن وصفهم اياها بالبياض، فإنما أرادوا أحسن العمارة.
ويظهر من وصف أهل الأخبار للحيرة أنها لم تكن بعيدة عن الماء وأن نهرا كان يصل بينها وبين الفرات. بل يظهر إن هذا النهر كان متشعبا فيها، بحيث كون جملة انهار فيها. اما نواحيها، فكانت قد بنيت على بحر النجف وعلى شاطئ الفرات، وربما كانت مزارع الحيرة واملاك أثريائها قائمة على البحر وشاطئ النهر ومن أنهار الحيرة نهر كافر. ويرى بعض أهل الأخبار إنه هو نهر الحيرة.
وقد أدى ميلاد الكوفة في الإسلام الى أفول نجم الحيرة، اذ انتقل الناس من المدينة القديمة الى المدينة الاسلامية الجديدة، واستعملوا حجارة الحيرة وقصورها في بناء الكوفة، وهذا مما ساعد على اندثار تأريخ تلك المدينة الجاهلية ولا شك. غير انها ظلت أمدا طويلا تقاوم في الإسلام الهرم إلى أن جاء أجلها فدخلت في عداد المدن المندثرة.
وقد عرف ملوك الحيرة عند أهل الأخبار ب "آل لخم" وب "آل نصر".

(1/1484)


--------------------------------------------------------------------------------

كما عرفوا ب "النعامنة" وب "المناذرة"، وذلك لشيوع اسم النعمان واسم المنذر فيما بينهم. وعرفوا أيضا ب "آل محرق"، وفيهم يقول الشاعر الأسود بن يعفر: ماذا أؤمل بعد آل محرق تركوا منازلهم وبعد إياد
أرض الخورنق والسدير وبارق والقصر ذي الشرفات من سنداد
وفي طليعة أهل الأخبار الذين عنوا بجمع أخبار الحيرة الأخباري الشهير، بل رأس أهل الأخبار في أمور الجاهلية: "هشام بن الكلبي". فله كتاب في "الحيرة" سماه "ابن النديم" "كتاب الحيرة وتسمية البيع والديارات ونسب العباديين"، وكتاب ثان سماه "ابن النديم" "كتاب المنذر ملك العرب"، وكتاب ثالث اسمه "كتاب عدي بن زيد العبادي". وهي مؤلفات لم تصل الينا - وبا للأسف ! - نرجو أن تكون في عالم الوجود، ليتمكن من يأتي بعدنا من الظفر بشيء جديد فيها، قد يفيد عشاق تأريخ الحيرة ويزيد في معارفهم.
وقد زارها نفر من السياح وكتبوا عنها، كما نبشت بعض البعثات الآثارية آثارها، وعالجت مديرية الآثار القديمة في العراق بعض نواح من تأريخها، وقد توصل الحفارون إلى العثور على نقوش من الجبس مما تكسى به الجدر للزينة، وعلى جرار متعددة وآثار من هذا القبيل صغيرة بعضها من العهد الجاهلي وبعضها من العهد الاسلامي. غير انهم لم يعثروا حتى الان على كتابات جاهلية تتحدث عن تأريخ تلك المدينة القديمة السيئة الحظ.
وتأريخ هذه المدينة قبل الميلاد غامض لا نكاد نعرف من أمره شيئا، فلم يرد خبرها في نص تأريخي مدون أو كتابة مدونة قبل الميلاد. وأقدم ذكر لها هو ما أشرت اليه، غير إن ذلك لا يتخذ دليلا على انها لم تكن مولودة قبل هذا العهد، اذ يجوز انها كانت قبل هذا العهد قرية صغيرة، أو مدينة تسمى باسم غير هذا الاسم. ولعل المستقبل سيكشف عن تأريخها القديم بالسماح لبطن الأرض بإخراج ما في جوفها من أسرار عن ذلك التأريخ.

(1/1485)


--------------------------------------------------------------------------------

أما الأخباريون، فيرجعون عهدها إلى أيام "بختنصر". هم يقولون: إن "برخبا" لما قدم من "نجران" وأخبر "بختنصر" بما أوحى الله إليه، وقص عليه ما أمره به من غزو العرب الذين لا أغلاق لبيوتهم ولا أبواب، وان يطأ بلادهم بالجنود فيقتل مقاتلتهم ويستبيح أموالهم، وأعلمه كفرهم به، واتخاذهم آلهة دون الله، وتكذيبهم الرسل والأنبياء، وثب "بختنصر" على من كان في بلاده من تجار العرب، وكانوا يقدمون عليه بالتجارات والبياعات، ويمتارون من عندهم الحب والتمر والثياب وغيرها، فجمع من ظفر به منهم، فبنى لهم حيرا على النجف وحصنه ثم ضمهم فيه، ووكل بهم حرسا وحفظة، ثم نادى في الناس بالغزو، فتأهبوا لذلك، وانتشر الخبر فيمن يليهم من العرب فخرجت إليه طوائف منهم سالمين مستأمنين. فاستشار "بختنصر" فيهم "برخيا"، فقال: إن خروجهم اليك من بلادهم قبل نهوضك اليهم رجوع منهم عما كانوا عليه، فأقبل منهم، فأحسن اليهم، فأنزلهم "بختنصر" السواد على شاطئ الفرات، فابتنوا موضع عسكرهم بعد، جزاني، لا جزاه الله خيرا سليمة، أنه شرا جزاني
اعلمه الرماية كل يوم فلما اشتد ساعده رماني
فلما قال هذين البيتين فاظ أي مات، وهرب سليمة. هرب إلى عمان.
وحكم بعد "مالك بن فهم" أخوه "عمرو بن فهم" على رواية، و"جذيمة الأبرش" المعروف بجذيمة الوضاح أيضا على رواية أخرى. ولا نعرف من أمر "عمرو" هذا شيئا يستحق الذكر.
وتزعم رواية أن الذي حكم بعد "مالك بن فهنم" هو "جذيمة الأبرش"، وقد جعلته ابنا لمالك، وجعلت نسبه على هذه الصورة: "جذيمة بن مالك بن فهم ابن غانم بن دوس بن عدنان بن عبد الله بن الغوث". وقالت: إن والده "مالك" هو أول من ملك الضاحية في حكم ملوك الطوائف.

(1/1486)


--------------------------------------------------------------------------------

أما حظ جذيمة الأبرش، فهو خير من حظ الرجلين السابقين عندالأخباريين، فله في رواياتهم شعر وحديث. وقد تحدثوا عنه، ونسبوا إليه الغزوات، وجاد عليه بعض الرواة فرفعوا زمانه وجعلوه في العاربة الأولى. جعلوه من بني "وبار ابن أميم بن لوذ بن سام بن نوح"، وصيروه "من أفضل ملوك العرب رأيا، وأبعدهم مغارأ، وأشدهم نكاية، وأظهرهم حزما. وأول من استجمع له الملك بأرض العراق، وضم إليه العرب، وغزا بالجيوش"، وذكر "المسعودي" انه أول من ملك الحيرة.
وقد وصفوه أيضا، فقالوا: إنه "كان به برص، فكنت العرب عنه، وهابت العرب أن تسميه به، وتنسبه إليه، إعظاما له. فقيل: جذيمة الوضاح وجذيمة الأبرش". -وذكر "المسعودي" أن جذيمة هو صاحب النديمين اللذين يضرب بهما المثل، واستشهد على ذلك بشعر ل "متمم بن نويرة اليربوعي" في مرثيته لأخيه مالك بن نويرة: وكنا كندماني جذيمة حقبة من الدهر حتى قبل لن يتصدعا
وقد ذكر ان النديمين المذكورين هما: مالك وعقيل، وهما ابنا "فرج بن مالك" من "بلقين"، وكانا قد قدما من الشام، يريدان جذيمة، فوجدا فتى قد تلبد شعره، وطالت أظافره، وساءت حاله، أسرع نحوهما يرجو الطعام والرعاية، فلما سألاه عن حاله، وتبين لهما انه "عمرو بن عدي"، سرا به كثيرا، وعنيا به، وأخذاه معهما إلى "جذيمة"، فلما رآه، فرح به فرحا كبيرا، لعودته إليه، ونظر إليه، ثم أعاد عليه الطوق، وكان جذيمة قد صنعه له قبلا، ثم قال: "كبر عمرو عن الطوق، وكان الجن قد استطارته، أي خطفته. وقال جذيمة. لمالك وعقيل: ما حكمكما، أي ما طلبكما ! قالا حكمنا منادمتك. فأصبحا يضرب بهما المثل.
وذكر "المسعودي" إن كنية "جذيمة" التي عرف بها هي "أبو مالك"، وروى في ذلك شعرا، زعم ان قائله هو سويد بن كاهل اليشكري: إن أذق حتفي، فقبلي ذاقه طسم وعاد وجديس ذو السبع
وأبو مالك القيل الذي قتلته بنت عمرو بالخدع

(1/1487)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر الأخباريون إن جذيمة غزا طسما وجديسا،غزاهم في منازلهم من "جو" وما حولهم. فأصاب "حسان بن تبع أسعد أبي كرب"، وقد اغار على طسم وجديس باليمامة، فانكفأ جذيمة راجعا بمن معه، وأتت خيول تبع على سرية لجذيمة، فاجتاحتها وبلغ جذيمة خبرهم، فقال في ذلك شعرا دون منه الطبري احد عشر بيتا. وقد أراد ابن "الكلبي" إن يكون حذرا في هذه المرة، أو إن يظهر نفسه في مظهر الحذر الناقد، فقال: "ثلاثة ابيات منها حق، والبقية باطل". وجميل صدور هذا الحذر من الطبري، أو من ابن الكلبي، وقد عودانا سرد ابيات من الشعر العربي، نسباها إلى من هو اقدم عهدا من جذيمة ولم يذكرا انه باطل، أو إن فيه حقا وباطلا.
وفي جملة ما تحدث به الأخباريون عن جذيمة انه تكهن وتنبأ، وانه اتخذ صنمين يقال لهما الضيزنان، وضعهما بالحيرة في مكان معروف، وكان يستسقي بهما ويستنصر بهما. فلم يقنع الأخباريون بالحديث عن ملك جذيمة وحده، فأضافوا اليه التنبؤ والكهانة وعبادة الأصنام.
وذكر بعض أهل الأخبار إن "جذيمة بن مالك بن فهم" وهو جذيمة الأبرش كان ينزل الأنبار ويأتي الحيرة ثم يرجع. وكان لا ينادم احدا ذهابا بنفسه، و ينادم الفرقدين. فإذا شرب قدحا، صب لهذا قدحا ولهذا قدحا، وهو أول من عمل المنجنيق، وأول من حذيت له النعال، وأول من رفع له الشمع. بقي على ذلك حتى نادمه مالك وعقيل، إلى غير ذلك من أقوال وروايات عنه. وهي تدل على انه كان قد ترك أثرا في المجتمع في ايامه غير أثر الملك، مما حدا بالقوم أن يضعوا هذه الأقوال فيه.
واشتهر "جذيمة" عند أهل الأخبار بفرس له، ذكر انها كانت من سوابق خيل العرب، اسمها "العصا". وفيها ورد في المثل: "إن العصا من العصية". وقد نجا "قصير بن سعد اللخمي" على فرسه هذه، فأخذ بثأره وقتل "الزباء" على زعم أهل الأخبار.

(1/1488)


--------------------------------------------------------------------------------

وهم يروون أن جذيمة كان يغازي إيادا النازلين ب "عين أباغ"، فذكر له اسم غلام من لخم في أخواله من إياد، هو عدي بن نصر، له جمال وظرف، فغزاهم. فبعثت إياد قوما سقوا سدنة الصنمين الخمر، وسرقوا الصنمين،فأصبحا في إياد. فبعثت إليه تفاوضه على ارجاع الصنمين إليه على أن يكف عن غزوهم، ولكنه اشترط عليهم اعطاءه عدي بن نصر مع الصنمين، فوافقوا على ذلك. فانصرف عنهم وضم عديا إليه، وولاه شرابه. ويدعون انه تزوج اخته "رقاش" التي أحبته فيما بعد، في قصه يروونها، ومن هذا الزواج المزعوم كان "عمرو ابن عدي" ابن أخت جذيمة الذي خلف خاله على الملك.
وفي رواية من روايات الأخباريين إن جذيمة زوج اخته من ابن عمه: "عدي ابن ربيعة بن نصر"، فولدت له "عمرو بن عدي" الذي استطار به الجن.
وفي جملة ما نسبه أهل الأخبار إلى جذيمة من حروب حربه مع "عمرو بن الظرب بن حسان بن أذينة بن السميدع بن هوبر العملقي" "العمليقي" من عاملة العماليق. وعمرو هذا هو أبو الزباء عند الأخباريين. ويذكر هؤلاء أن الطرفين استعدا للقتال استعدادا كبيرا،فجمعا كل ما امكنهما جمعه. ولما اصطدما، قتل عمرو، فانهزم أصحابه، وعاد جذيمة بعد هذا النصر إلى قواعده سالما. ولم يشر الطبري إلى اسم الموضع الذي وقع فيه هذا القتال. وملك من بعد "عمرو" ابنته الزباء.
أما ملك جذيمة، فكان على حد قول الأخباريين ما بين الحيرة والأنبار وبقة وهيت وناحيتهما وعين التمر وأطراف البر إلى الغير والقطقطانة وخفية وما والاها ورقة وسائر القرى المجاورة لبادية العرب. ويفهم من بعض الروايات أيضا انه ملك معدا وبعض اليمن. وكانت داره بالموضع المعروف ب "المضيق" بالمصيرة بين الخندقة وقرقيسيا.

(1/1489)


--------------------------------------------------------------------------------

اما الأنبار، فقد تحدثت عنها. وهي -على ما يظهر من روايات الأخباريين- من المواضع التي كان يخضع اعرابها في الغالب لحكم اللخميين. واما بقة، فتقع على الفرات بين هيت والأنبار. وأما هيت، فهي من المواضع القديمة المعروفة قبل الميلاد، وقد ورد اسمها في نص "توكلني أنورتا الثاني" "Tukulti Enurta II" الذي يعود عهده إلى حوالى سنة 885 قبل الميلاد. وقد عرفت ب "ايد" "Id"" و "ايت" "It"، 2. وهي "ايس" "اس" "Is" و "ايس بوليس" "اسبولسي" "Ispolis" "Ispoolis" و "ايديكاره" "Idikara" و "دياكيرة" "Diakira"" في مؤلفات الكلاسيكيين. و "ايهي" "Iha" و "ايهيداكيرة" "Ihidakira" في مؤلفات عصر التلمود.
وفي بقة استشار جذيمة قصيرا على حد قول الأخباريين في أمر زيارته للزباء. وتقع بقة على مقرية من الحيرة. وقيل هي حصن كان على فرسخين من هيت على رواية ياقوت. وقد جعلها "اليعقوبي" على شط الفرات بالقرب من الأنبار وفي ملك الزباء. وهي على الفرات بين الأنبار وهيت، في رواية أكثر الأخباريين.
وأما القطقطانة، فموضع في البرية لا يبعد كثيرا عن الكوفة، وهو بالطف. وأما خفية، فهي أجمة في سواد الكوفة، بينها وبين الرحبة، ينسب اليها الأسود المعروفة بأسود خفية، وهي غربي الرحبة،ومنها إلى عين الرهيمة مغربا. وقيل أيضا عين خفية.
وقد اشتهرت "جمن التمر" القريبة من "شفاثا" بالقصب والتمر، وهي على طرف البادية. فتحها المسلمون على يد "خالد بن الوليد" في سنة 12 للهجرة في ايام أبي بكر.

(1/1490)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد طال عمر جذيمة على حد قول "حمزة الأصبهاني" إلى إن لحق ملك "سابور بن أشلك الأشغاني" "شابور بن أشك"، وحكم على حد قوله أيضا ستين سنة. إما نهايته، فكانت على يد الزباء في قصة مشهورة معلومة، رصعها الإخباريون بشعر وأمثلة، تحدثت عنها في أثناء كلامي على الزباء. وجعل بعضهم مدة حكمه مئة وثماني عشرة سنة، اذ ملك في زمن ملوك الطوائف خمسا وتسعين سنة، وفي ملك أردشير بن بابك وسابور الجنود ثلاثة وعشرين سنة. وملك يحكم هذه المدة لا بد أن تكون مدة حياته أطول من مدة حكمه.
وذكر "أبو حنيفة الدينوري" إن جذيمة لم يزل ملكا مقيما بالخورنق، حتى دعته نفسه إلى تزويج "مارية" ابنة الزباء الغسانية. وكانت ملكة الجزيرة، ملكت بعد عمها الضيزن الذي قتله "سابور"، فقتلت جذيمة، ثم قتلها قصير مولاه. فجعل الملكة القاتلة بنتا من بنات الزباء عينها، فدعاها مارية، وبذلك أنقذ الزباء من تهمة القتل التي ألصقها الأخباريون بهذه الملكة، وجعلها ملكة على الجزيرة، وجعل نسبها في غسان، وغسان معادون منافسون لآل لخم، ثم أبى إلا أن يجعل لجذيمة قصرا منيفا، فوقع اختياره على الخورنق، وهو قصر لائق أن يكون قصر ملك، وخالف في ذلك رأي الأخباريين الذين ينسبون هذا القصر إلى ملك آخر هو النعمان.
وقد جاء اسم "جذيمة" "جديمت" في نص نبطي ويوناني عثر عليه في "أم الجمال"، جاء فيه: "هذا موضع أي قبر فهر بن شلي "سلي" مربي جديمت ملك تنوح". ولهذا النص على قصره أهمية بالغة، لأنه يشير إلى الصلة التي كانت بين الأسرة الحاكمة في الحيرة وعرب الشام. ومن الصعب بالطبع استنتاج كيفية وفاة مربي الملك في هذا الموضع: أكان زائرا هذه الديار فأدركه أجله فقبر هناك ! أم جاء مع سيده في حرب فتوفي في ذلك المكان ! مهما يكن من شيء، فقد أفادنا الحجر فائدة كبيرة بتدوينه اسم صاحب القبر، واسم جذيمة ملك "تنوح" تنوخ.

(1/1491)


--------------------------------------------------------------------------------

ويلاحظ أن النص دون اسم "جذيمة" محرف "الدال" وكتب اسم "تنوخ" محرف الحاء "تنوح" بدلا من الخاء. وينهون هذا النص من أقدم النصوص التي ورد فيها اسم "تنوخ". ويرجع عهده إلى حوالي السنة "270" بعد الميلاد. وجعل "ابن دريد" لجذيمة نسلا، سماهم "بني جهنم"، وجعل لفظة "جهضيم" من "التجهضم"، ومعناها التكبير.
وذكر "حمزة الأصفهاني" أنه لم يلد لجذيمة غير "زينب بنت جذيمة"، وهي أم مرتع. واسمه "عمرو بن معاوية بن كندة"، فغزا في آخر في عمره الشام، فقتل "عمرو بن ظرب بن حسان بن أذينة" ملك العمالقة والد الزباء، فانطوت له الزباء على طلب الثأر حى قتلته.
وانتقل الملك بعد وفاة جذيمة إلى ابن أخته "عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة ببن الحارث بن مسعود بن مالك بن غنم بن نمارة بن لخم. أما أمه، فهي أخت جذيمة، وهي: "رقاش بنت مالك بن فهم بن غنم بن عدثان" على رواية من ينسب مالك بن فهم إلى عدثان.
ويلاحظ أن "الطبري" لم يكن مستقرا في موضوع اسم "عدي" والد عمرو،إذ بجعله "نصرا" في موضع، فيقول "عدي بن نصر بن ربيعة"، ويجعله "ربيعة" في موضع آخر، فيقول:"عدي بن ربيعة بن نصر". ويظهر إن ذلك انما وقع له بسبب أخذه من روايات مختلفة، وعدم تدقيقه ونقده لتلك الروايات.

(1/1492)


--------------------------------------------------------------------------------

ويفهم من رواية يرجع "الطبري" سندها إلى "ابن حميد" عن "سلمة" عن "ابن اسحاق" إن زمان حكم "ربيعة بن نصر اللخمي" كان بين ملك "تبان أسعد ابو كرب" "وملك ابنه "حسان بن تبان أسعد". والرواية مضطربة مشوشة، يفهم منها إن "ربيعة بن نصر" كان نفسه قد حكم اليمن في الفترة الواقعة بين "تبان أسعد" وبين حكم ابنه "حسان"، وان "حسان" هذا لم يتمكن من الحكم. الا.بعد هلاك "ربيعة بن نصر". ويزيدها اضطرابا وتشويشا ذكر "الطبري" رواية الرؤيا التي رآها "ربيعة بن نصر" وعرضها على "سطيح" و "شق" لتفسيرها له، وما كان من جوابهما له في تفسيرها، حيث "وقع في نفسه إن الذي قالا له كائن من امر الحبشة، فجهز بنيه وأهل بيته إلى العراق بما يصلحهم، وكتب لهم إلى ملك من ملوك فارس يقال له سابور بن خرزاذ، فأسكنهم الحيرة، فمن بقية ربيعة بن نصر، كان النعمان ين المنذر ملك الحيرة". فيتبين منها إن "ربيعة بن نصر" كان مقيما باليمن، وقد أقام بها حياته، وان بنيه هم الذين ذهبوا إلى العراق. ولكنها لم تشرح كيف وجد "ربيعة" في اليمن وكيف حكمها وهو من لخم ? وهي رواية شاذة، دسها بعض المتعصبين لليمن - على ما يظهر - على "ابن اسحاق"، فدونها في أخباره. وقد دست أخبار وأشعار على ابن اسحاق، فرواها وصدق بها من غير نقد ولا تحقيق. وللعلماء رأي فيه.
ويزعم بعض أهل الأخبار إن "سطيحا" و "شقا" أخبرا "ربيعة بن نصر" في تأويلهما لرؤيا بما يكون من غلبة الحبش على أرض اليمن، وبغلبة الفرس بعدهم. فلما سمع بذلك، اوجس في نفسه خيفة، فأحب إن يخرج ولده وخاصة اهله من ارض اليمن، فوجه ابنه عمرا إلى يزدجرد بن سابور، أو إلى سابور ذي الأكتاف، فأنزله الحيرة، فيومئذ بنيت، فضم عمرو إليه اخوته وأهل بيته، فمن هناك وقع آل لخم إلى الحيرة، واتصلوا بالأكاسرة فجعلوا لهم على العرب سلطانا، فلما مات خلفه من بعده ابنه "جذيمة بن عمرو".

(1/1493)


--------------------------------------------------------------------------------

وزعم "الدينوري" إن وفاة ربيعة بن نصر كانت في أيام "قباذ بن فيروز" وانه بوفاته رجع الملك إلى حمير، فملك ذو نواس بعده، وهو ذو نواس صاحب تعذيب نصارى نجران نفسه. فأرجع ايام ربيعة إلى قباذ "قباد"، وهو قول يخالف ما يرويه الأخباريون. وجعل ذا نواس المالك من بعده، وقد عاش ذو نواس بعد قباذ أمدا، فخالف في ذلك التأريخ وأقوال الأخباريين.
ووصف "الطبري" عمرو بن عدي، فقال عنه: "هو أول من اتخذ الحيرة منزلا من ملوك العرب، وأول من مجده أهل الحيرة في كتبهم من ملوك العرب بالعراق، واليه ينسبون، وهم ملوك آل نصر، فلم يزل عمرو بن عدي ملكا حتى مات وهو ابن مائة وعشرين سنة، منفردا بملكه، مستبدا بامره، يغزو المغازي ويصيب الغنائم، وتفد عليه الوفود دهره الأطول، لا يدين لملوك الطوائف بالعراق، ولا يدينون له، حتى قسم اردشير بن بابك في أهل فارس". وذكر الطبري أن الحيرة. خربت بعد هلاك بختنصر، لتحول الناس عنها إلى الأنبار، وبقيت خرابا إلى أن عمرت في زمن عمرو بن عدي، باتخاذه إياها منزلا.
وثم رواية تنسب نصرا إلى الساطرون ملك الحضر، وتجعل آل نصر من الجرامقة، من "رستاق باجرمي"، ورواية أخرى تجعل ملوك الحيرة من "أشلاء قنص بن معد". فقد ذكر أن "عمر بن الخطاب" لما أتى بسيف النعمان بن المنذر، دعا جبير بن مطعم فسلمه إياه، ثم قال:يا جبير، ممن كان النعمان ? قال: من اشلاء قنص بن معد. وهو من ولد عجم بن قنص، إلا إن الناس لم يدروا ما عجم، فجعلوا مكانه لخما، فقالوا هو من لخم ونسبوا إليه. وكان جبير من أنسب العرب. والذي عليه اكثر أهل الأخبار إن "آل نصر" هم من اليمن، كانوا قد تركوا اليمن وهاجروا حتى استقروا بالعراق، ونزلوا الحيرة، وأسسوا ملكهم بها.

(1/1494)


--------------------------------------------------------------------------------

ويذكر الأخباريون إن عمرا انتقم من الزباء لقتلها جذيمة، ورووا في ذلك رواياتهم المرصعة بالشعر والأمثال. وهي روايات لا تستند إلى اسس تاريخية، اذا قصدوا، بذلك الزباء ملكة تدمر التي عرفنا تأريخها ونهايتها في مكان آخر من هذا الكتاب.
وجعل " "الدينوري" مدة حكم "عمرو بن عدي" نيفا وستين سنة.
وتولى الملك بعد وفاة عمرو ابن امرؤ القيس. ويقال له امرؤ القيس البدء وامرؤ القيس الأول. أما امه،فهي ماوية بنت عمرو اخت كعب بن عمرو الأزدي على رواية حمزة. وقد عاصر جملة من ملوك الفرس، هم: سابور ابن أردشير "شابور بن أردشير"، وهرمز بن سابور، وبهرام بن هرمز، وبهرام بن بهرام، وبهرام بن بهرام بن بهرام، ونرسى بن بهرام بن بهرام، وهرمز بن نرسى، وسابور ذو الاكتاف على رواية تجدها مدونة في تأريخ حمزة. وجعل مدة ملكه مئة واربع عشرة سنة، وهي مدة تتفق مع ما ذكره الطبري حكاية على لسان ابن الكلبي.
غير اننا اذا ما وازنا بن ما ذكره الطبري حكاية على لسان ابن الكلبى في عدد ملوك الفرس الذين حكم "امرؤ القيس" في ايامهم، وفي مدة حكمه في عهد كل ملك. من هؤلاء الملوك. وبين ما ذكره حمزة نجد اختلافا في العدد واختلافا في المدة، مما يدل على إن حمزة نقل من مورد آخر يختلف عن مورد الطبري.
وإذا كانت مدة حكم امرؤ القيس على نحو ما ذكره ابن الكلبي وغير ابن الكلبي من رواة، فكم تكون مدة حياة هذا الملك ? إنهم لم يعينوا هذه المدة، ولكنها مدة تزيد بالطبع على هذه السنين في نظر أصحاب تلك الروايات، ولم لا تطول ? وقد ساروا على خطة اطالة أعمار الملوك الأولين، فملك يتجاوز حكمه مئة عام بسنين أمر لا بأس به في نظر هؤلاء الرواة.

(1/1495)


--------------------------------------------------------------------------------

غير اننا نلاحظ انهم بخلوا على الملوك المتأخرين، فلم يمنحوهم هذه النعمة، نعمة إطالة مدة الحكم أو مدة العمر، فجعلوا لهم مددا مقبولة في الغالب معقولة. ولو عاش "هؤلاء المتأخرون في زمن بعيد عن اولئك الرواة، بعيد عن ايام تدوين اخبار ملوك الحيرة، لما حرمهم الإخباريون كرمهم هذا، ولأعطوهم ولا شك ما اعطوه من سبقهم من الملوك جملا من السنين.
وقد نعت امرؤ القيس في بعض الروايات ب "المحرق"، ونعت ايضا ب "محرق الحرب". ونصادف كلمة المحرق ومحرق وآل محرق في مواضع من التواريخ المتعلقة بالحيرة. وقد اطقها بعض الأخباريين على الغساسنة ايضا. وهم يرون انها لقب ألحق بأولئك الملوك، لأنهم عاقبوا اعدائهم في اثناء غزوهم لهم بحرق أماكنهم بالنار. ويرى "روتشتاين" انه تفسير لظاهر الكلمة، وهو تفسير مغلوط. والصحيح في نظره انها اسم علم لأشخاص عرفوا بمحرق، ولذلك قيل "آل محرق" لا "آل المحرق".
وفي أصنام الجاهليين صنم يدعى محرق والمحرق، تعبدت له بعض القبائل مثل بكر بن وائل وربيعة في موضع "سلمان". وقد ورد بين أسماء الجاهليين اسم له علاقة بهذا الصنم، هو عبد محرق، أفلا يجوز أن يكون للمحرق إذن علاقة بهذا الصنم، كأن يكون قد اتخذ من باب التيمن والتبرك للملك الذي عرف بالمحرق أو أنه قدم قربانا لهذا الإله أحرقه على مذبحه بالنار، وكان يكثر من حرق القرابين للآلهة، وتلك عادة معروفة وقد وردت أيضا عند العبرانيين، فقيل له لذلك المحرق ? والى هذا الاحتمال ذهب بعض المستشرقين.
ويظهر إن محرقا كان من الشخصيات الجاهلية القديمة الواردة في الأساطير، وقد اقترن اسمه بالدروع. وورد "بردي محرق" كما اقترن اسمه ب "نسيج داوود"، مما يدل على أن هذا الاسم من الأسماء المعروفة قديما في أساطير الجاهليين.
وقد ورد أيضا صوت محرق وفرخ محرق، وذلك يدل على أن "محرقا" في هذا الموضع حيوان قد تكون له علاقة أيضا بأساطير الجاهليين.

(1/1496)


--------------------------------------------------------------------------------

ومما حكاه الأخباريون عن هذا الملك انه كان قد تنصر، وانه لذلك أول من تنصهر من آل نصر. وهو أمر يحتاج إلى دليل، كما ذكروا أن ملكه كان واسعا وانه كان عاملا للفرس "على فرج العرب من ربيعة ومضر وسائر من ببادية العراق والحجاز والجزيرة".
ويظن بعض الباحثين إن امرأ القيس، هو امرؤ القيس الذي ورد اسمه مدونا في نص "النمارة". فإذا كان هذا الظن صحيحا، كان امرؤ القيس أول ملك من ملوك الحرة يصل خبره الينا مدونا، وكذلك خبر تأريخ وفاته في سنة 328 للميلاد، المقابلة لسنة 223 من تقويم بصرى، التقويم المعمول به في تلك الجهات التي قبر فيها امرؤ القيس.
ويظهر من نص النمارة إن امرأ القيس صاحب القبر، كان رجلا محاربا، وقائدا كبيرا، أخضع قبيلتي أسد ونزار، وهزم مذحجا، وأخضع معدا، ووزع بنيه في القبائل، وبلغت فتوحاته أسوار "نجران" مدينة "شمر". وهو بهذه الفتوحات قد تمكن من معظم أنحاء الجزيرة. وهذا النص يناقض، الروايات التي تنسب الفتوحات العظيمة إلى "شمر يهرعش" "شمر يرعش"، فتجعله فاتح العراق وما وراء العراق إلى الصين، وتعكس القضية عكسا تاما. وروايات فتوحات "شمر"، هي روايات يمانية وضعها أناس متعصبون لليمن ولا شك.
وقد سبق لي أن بينت إن المستشرقين يرون إن "شمرا" المذكور في هذا النص أي صاحب "نجران"، هو "شمر يهرعش". "شمر يرعش". وقد ذكرته في باب "ملوك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت". ومعنى هذا إن "نجران" كانت في ملكه يوم أغار "امرؤ القيس" عليها فوصل أسوارها، ويظهر انه لم يتمكن منها وانه فرض سلطانه على القبائل الساكنة في البادية، فاعترفت بسيادته عليها. ولهذا لقب في النص بلقب "ملك العرب كلهم الذي نال التاج"، وختمت الكتابة بجملة "فلم يبلغ ملك مبلغه"، وهي جملة تعبر عن اتساع ملكه وامتداده مسافات شاسعة.

(1/1497)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من ورود كلمة "التبع" أي التاج في هذا النص إن هذه الكلمة كانت معروفة عند العرب الشماليين في ذلك الحين، أي في القرن الرابع للميلاد، وانها وردت بالمعنى المفهوم منها في الزمن الحاضر، أي ما يوضع على الرأس تعبيرا عن الملك والحكم.
ويفهم من هذا النص أن "امرأ القيس" كان قد بسط سلطانه على كل العرب، أي الأعراب، فملكهم وملك خاصة "بني نزار" و "أسد" وقبائل "معد"، وأنه نصب أولاده على القبائل ليضمن طاعتها وخضوعها له، وأن سلطانه بلغ بذلك حدود أرض اليمن. فامتد حكمه إذن من الحيرة وبلاد الشام إلى نجد والحجاز، حتى بلغ حدود مدينة "نجران". وقد كانت منازل "معد" في الحجاز وفي ضمن أرضها "مكة" وتمتد إلى "نجران".
ويظهر من دفن "امرىء القيس" في موضع "النمارة" من بلاد الشام أن "امرأ القيس" كان في بلاد الشام حينما نزل به أجله. ويرى بعض الباحثين أنه كان قد جاء إلى بلاد الشام، لأنه كان من حزب "بهرام" الثالث ومن مؤيديه، فلما وقع الخلاف بين الفرس على العرش وانتصر "نرسي" "293 - 302 م" "293 -303"، خرج امرؤ القيس من العراق، وقصد بلاد الشام، فأقام هناك. ومال إلى الروم فأيدوه وأقروه على عرب بلاد الشام، فيكون قد عمل للفرس وللروم معا.
وكتابة "النمارة" هي شاهد قبر ملك عربي يدعى "امرأ القيس"، عثر عليها في موضع "النمارة" وهو في الحرة الشرقية من جبل الدروز، ويرجع تأريخها إلى اليوم السابع من شهر "كسلول" من سنة "223" من تقويم "بصرى" أي في اليوم السابع من شهر كانون الأول من سنة "328" بعد الميلاد. دونت على ضريح الملك، وهو بناء مربع، لتكون دليلا للناس يعرفون منها اسم صاحب القبر. وتتألف من خمسة أسطر، هذا نصها: 1-تي نفس مر القيس ين عمرو ملك العرب كله ذو اسر التج.
2-وملك الاسدين ونزرو وملوكهم وهرب مدحجو عكدى وجا.
3-بزجى في حبج نجرن مدينة شمر وملك معدو ونزل بنيه.
4-الشعوب ووكلهن فرسو لروم فلم يبلغ ملك مبلغه.

(1/1498)


--------------------------------------------------------------------------------

5-عكدى. ترك سنة 223 يوم بكسلول بلسعد ذو ولده.
وإذا أردنا تقريب هذه الكتابة إلى أفهامنا وتدوينها بلهجتنا العربية، لهجة القرآن الكريم، كتبناها على هذا الشكل: ا - هذا قبر امرىء القيس بن عمرو ملك العرب كلهم الذي نال التاج.
2 - وملك الأسدين ونزارا وملوكهم، وهزم مذحجا بقوته وقاد.
3-الظفر إلى أسوار نجران، مدينة شمر. وملك معدا واستعمل أبناءه على 4 - القبائل. ووكلهم لدى الفرس والروم، فلم يبلغ ملك مبلغه 5-في القوة. هلك سنة 223 يوم 7 بكسلول. ليسعد الذي ولده.
وقد استعمل المستشرقون من عبارة "ذو أسر التاج" "الذي نال التاج" على أن صاحب هذا التاج هو من الملوك الذين كان لهم اتصال بالفرس، وان المقصود به ملك من ملوك الحيرة، لوجود صلة لهم بالانبراطورية الفارسية. ودعواهم في ذلك إن هذه الجملة، وكلمة "تج" "تاج" هما من الاصطلاحات المستعملة عند الفرس وعند من خالطهم من الملوك، فلا بد أن يكون حاملها من الملوك المحالفين لهم. وكلمة "تاج" من الألفاظ المعربة عن الفارسية، من أصل "تاك". ولما كان هذا ملكا عربيا، فهو اذن امرؤ القيس ملك الحيرة.
وكان من عمال"سابور بن أردشير" و"هرمز بن سابور" و"بهرام ابن سابور" "على فرج العرب من ربيعة ومضر وسائر من ببادية العراق والحجاز والجزيرة" في تأريخ الطبري. وورد في تأريخ ابن خلدون نقلا عن"السهيلي": إن"امرأ القيس" كان عاملا للفرس على مذحج وربيعة ومضر وسائر بادية العراق والجزيرة والحجاز. ويظهر إن المورد الذي نقل منه"السهيلي"و"الطبري" يرجع إلى منبع واحد، هو"ابن الكلبي". وما رواه"ابن الكلبي يتفق بوجه عام مع ما جاء في نص"النمارة" من أمر ملك و فتوح"امرئ القيس".

(1/1499)

admin
12-27-2010, 01:21 AM
و "شمر" صاحب مدينة "نجران"، هو "شمر يهرعش" في رأي أكثر المستشرقين، وينطبق زمانه على زمان "امرئ القيس، واذا صح هذا الرأي نكون قد حصلنا على أول نص عربي جاهلي يشير إلى حرب نشبت بين مملكة الحيرة ومملكة "سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت" في عهد أول ملك من ملوكها وهو "شمر يهرعش" المعروف ب "شمر يرعش" عند الاسلاميين.
وفي روايات الأخباريين ما يؤيد نشوب حرب بين عرب الحيرة وعرب اليمن في ايام "شمريرعش"، غير انها تناقض هذا المدون في النص عن تغلب "امرئ القيس" على نجران مدينة"شمر". ف "شمر" عندها بطل من الأبطال، فتح الفتوح العظيمة، وبلغ ملكه حدا لم يصل إليه ملك" اسكندر ذي القرنين". وعندهم أيضا انه هو باني مدينة "سمرقند"، وهو الذي حير "الحيرة". وهو تبع الأكبر وهو وهو، على حين هو - في هذا النص - ملك مغلوب، لم يتمكن من الوقوف أمام "امرئ القيس" الذي بلغت جيوشه مدينة "نجران". فهل تجد تناقضا أغرب من هذا التناقض ? على اننا لو فرضنا إن"شمرا" صاحب نجران هو رجل آخر غير "شمر يرعش"، فهذا النص، يهدم بنيان الأخباريين اليمانيين القائم على أساس المبالغة في المفاخرات والمباهاة بالأجداد نكاية بالعدنانيين الذين تعالوا عليهم في الإسلام بفضل النبي وشرف الإسلام، فأحفظهم ذلك جدا.
وقد سبق أن تحدثت عن عثور العلماء منذ عهد غير بعيد على نص اشار الى غزو غزاه قائد من قو اد "شمس" على "ملك أسد" وأرض "تنوخ" التي تخص الفرس، وذكرت إن "شمر" المذكور هو "شمر يهرعش" في رأي الباحثين، وقد تحدثت عنه حديثا فيه الكفاية في موضعه، وفي أثناء كلامي على "شمر يهرعش"، فلا حاجة بي هنا لإعادة للكلام عليه.

(1/1500)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرى بعض الباحثين أن "المشتى" الأثر الشهير المعروف الذي نقلت أحجار جدرانه المزخرفة إلى متحف "قيصر فريدرش ويلهم" ببرلين، ولا تزال آثاره باقية، هو من بناء "امرئ القيس". وقد استدلوا على ذلك بطراز بنائه الذي يشبه الطراز "الحيري" على رأيهم، وذهبوا إلى أنه أقامه في هذا المكان بعد فراره من أرض الحيرة ومن الساسانيين سنة "293 م"، ليكون قصر له وحصنا يدافع به عن ملكه الجديد.
ويذكر الطبري إن وفاة "امرئ القيس" كانت في عهد "سابور"، أي سابور ذي الاكتاف "0 1 3 - 379 م"، وأنه كان عامل "سابور" على ضاحية مضر وربيعة، وان سابور استعمل ابنه عمرو. بن امرئ القيس في مكان والد ه.
وحكم بعد امرئ القيس البدء ابنه عمرو. وامه هند بنت كعب بن عمرو على رواية، و "مارية البرية" أخت "ثعلبة بن عمرو" من ملوك الغساسنة في رواية أخرى. وكان يعاصر من ملوك الفرس سابور ذا الأكتاف "0 1 3-379 م" وأخاه "أردشير بن هرمز بن نرسي "379 - 383 م" وسابور بن سابور "سابور الثالث" "383 - 388 م". وقد نعته بعض الأخباريين بموقد الحرب "مسعر حرب". وذكروا انه حكم خمسا وعشرين سنة. ونعت الأخباريين له هذا النعت، يدل على انه كان محاربا،ولكنهم لم يذكروا شيئا من تلك الحروب.
وقد ذهب بعض الأخباريين إلى إن مارية التي ضرب المثل بقرطيها فقيل قرطا مارية، هي مارية هذه ام عمرو.
وقد وضع اليعقوبي بعد امرئ القيس شقيقه الحارث ين عمرو بن عدي ملكا وجعل مدة ملكه سبعا وثمانين سنة. ثم وضع عمرا ابن امرئ القيس ملكا من بعده. وحكم هذا على زعمه مدة أربعين عاما.

(1/1501)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا نعرف من أعمال عمرو هذا شيئا. وللاخباريين في مدة حكمه أقوال عدة تتراوح عندهم من 25 سنة الى 65 سنة. وقد ذكر الطبري إن عمرا "بقي في عمله بقية ملك سابور وجميع أيام أردشير بن هرمز بن نرسي، وبعض أيام سابور بن سابور"، ثم قال إن جمع مدة ملكه فيما ذكره ابن الكلبي ثلاثين سنة. واذا أخذنا برواية الطبري المذكورة، تكون مدة حكمه حوالي الستين سنة، ومعنى هذا إن عمرا كان قد عمر اكثر من ستين سنة،وانه توفي بعد وفاة سابور ذي الأكتاف وبعد سنة "383 م"، لأن حكم "سابور بن سابور" المعروف عند المؤرخين ب "سابور" الثالث كان في حوالي السنة "383 م". فقد تولى سابور هذا الحكم فيما بين "383" حتى سنة "387" أو "388 م". واذا أخذنا برواية من يقول انه حكم "25" سنة، أو "30"، وجب أن تكون وفاته في ايام "سابور ذي الأكتاف".
وقد جعل الطبري في موضع آخر من تاريخه وفاة "عمرو" في عهد "سابور ابن سابور"، أي "سابور" الثالث. وبذلك يكون قد أطال مدة حكمه وعمر ه.
ويذكر الطبري أن "سابور بن سابور" استخلف "على عمله أوس بن قلام في قول هشام"، وذلك بعد مهلك "عمرو". ولم يذكر الأسباب التي حملت سابور على هذا التعيين. ويظهر أنه كان من أسرة غريبة عن أسرة "آل لخم" الحاكمة. ويرجع ابن الكلبي نسبه الى العماليق، فيقول إنه من "بني عمرو بن عمليق". وذكر حمزة نسبه على هذه الصورة: أوس بن قلام بن بطينا بن جمهير بن لحيان العمليقي. وجعله ابن خلدون من بني عمرو بن عملاق.
ويتبين من خبر ورد في "الأغاني" أن أوسا كان من أسرة كانت تقيم في الحيرة، وهي من بني الحارث ين كعب. وقد ورد اسم رجل آخر من هذه الأسرة، ذكر انه بنى ديرا في الحيرة.

(1/1502)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا نعرف من أعمال أوس هذا شيئا،وكل ما نعرفه عنه انه حكم خمس سنوات. وان امرءا اسمه "جحجبن بن عتيك بن لخم" "جحجبا " ثار به فقتله على رواية لابن الكلبي ذكرها الطبري 0 أما حمزة فذكر اسمه ونسبه على هذه الصورة، "ححجنا بن عببل أحد بني فاران ". وقال: "قال ابن الكلبي: وهو فاران ابن عمرو بن عمليق، وهم بطن بالحيرة يقال لهم بنو فاران، وححجنا منهم. فقتل ححجنا أوسا، فرجع الملك الى آل بني نصر".
فنحن إذن أمام روايتين في أصل جحجبي "جحجبا" أو ححجنا: رواية ترجعه إلى لخم، ورواية أخرى ترجعه إلى بني فاران، وترجع بني فاران إلى "عمرو بن عمليق"، أي إلى العشيرة التي رجع الأخباريون نسب أوس بن قلام اليها، إذن فهو بموجبها من العماليق.
أما هذا الاختلاف الذي نراه بين الرواة في كيفية ضبط اسم هذا الثائر في جحجبا أو حججنا، وفي عتيك أو عبيل، فيمكن رجعه إلى خطأ وقع في تدوين الروايات، إما سهوا وإما جهلا بحقيقة الاسم، فمن هذين نشأ لدينا هذا الاختلاف.
ولم يذكر الأخباريون الأسباب التي حملت "جحجبى" على الثورة والمنافع التي جرها لنفسه منها. وكل ما ذكروه عنه انه ثار به جحجبى فقتله، وان هلاكه كان في عهد "بهرام بن سابور" "388 - 399 م"، وان "بهرام" استخلف بعده في عمله "امرئ القيس البدء بن عمرو بن امرى القيس البدء" خمسا وعشرين سنة. وكان هلاكه في عهد يزدجرد الأثيم.
فيتبين من ذلك إن "جحجبا" "جحجبى"، قاتل أوس، لم يحكم الحيرة وان حكمها عاد فانتقل إلى آل نصر.
ولم يذكر اليعقوبي أوس بن قلام ولا الثورة التي قام بها جحجبا "جحجبي"، بل نصب رجلا آخر بعد عمرو بن امرئ القيس.هو المنذر بن امرئ القيس، ونعته بالمحرق، نعته بذلك.لأنه أخذ قوما حاربوه، فحرقهم،فسمي لذلك محرقا، وجعل بعده النعمان.

(1/1503)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم يذكر المسعودي كذلك أوس بن قلام ولا جحجبا "جحجبى"، بل ذكر النعمان بن امرئ القيس رأسا بعد عمرو بن امرئ القيس، وقال انه قاتل الفرس خمسا وستين سنة، وان أمه الهيجانه بنت سلول، وكانت من مراد أو من إياد.
وقد نعت الطبري امرأ القيس هذا بالبدء. أما حمزة فلقبه يالبدن. وأظن إن مرد هذا الاختلاف خطأ وقع في الروايات من الرواة أو الكتابة للحرف الأخير من كلمة البدء أو البدن، فصارت الكلمة الواحدة في الأصل كلمتين.
وذكر ابن الأثير إن بهرام بن سابور استخلف من بعد أوس امرأ القيس بن عمرو بن امرئ القيس الكندي، فبقي خمسا وعشرين سنة، وهلك في أيام يزدجرد الأثيم، واضافة الكندي إلى امرئ القيس خطأ، ولا شك، فلم يرو أحد من الأخباريين إن امرأ القيس هذا كان كنديا. ومن المعروف إن ابن الأثير قد اعتمد على تأريخ الطبري اعتمادا كليا، حتى ليمكن أن يقال انه اختصره، والعبارتان خلا زيادة كلمة "الكندي" متشابهتان.،ففي استطاعتنا أن نقول بحدوث هذه الزيادة في تأريخ ابن الأثير إما من النساخ وإما من ابن الأثير نفسه، إذ استعجل دون تفكير فأضاف كلمة الكندي إلى نسب امرئ القيس،لشهرة امرئ القيس الكندي.
ولا نعرف من خبر امرئ القيس شيئا يذكر. وقد ذكر حمزة أنه هو محرق الأول، وانه أول من عاقب بالنار. وفي روايته هذه انه حكم إحدى وعشرين سنة. أما الطبري، فذكر انه حكم خمسا وعشرين سنة.
وذكر الطبري أن "يزدجرد" المعروف بالأثيم "399 - 0 2 4 م"، الذي في أيامه كان هلاك "امرئ القيس" استخلف مكان "امرئ القيس" ابنه "النعمان". وهو فارس حليمة، وصاحب الخورنق.
وهذا النعمان المعروف عند المؤرخين بالنعمان الأول، هو أول ملك نستطيع أن نتحدث عنه بشيء من التأكيد والتحقيق والتفصيل، وهو كما يقول الأخباريون: النعمان بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي.أما أمه، فهي شقيقة ابنة أبي ربيعة ابن ذهل بن شيبان، وهي أخت عمرو المزدلف.

(1/1504)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عرف النعمان بالنعمان الأعور كذلك، كما عرف أيضا بالسائح.. وكان له شقيق من أمه شقيقة، هو "حسان بن زهير.".
ويظهر من وصف الأخباريين للنعمان أنه كان رجلا حازما قويا، محاربا من اشد الناس نكاية.في عدوه. غزا عرب الشام مرارا كثيرة فسبى منهم وغنم. وكان يغزو بكتيبتين كانتا عنده: دوسر وأهلها تنوخ، والشهباء وأهلها الفرس. يغزو بهما من لا يدين له من العرب. وقد اشتهرت دوسر بشدة ضربتها حتى قيل أبطش من دوسر. وقد نسب بعضهم له خمس كتائب، هي: الرهائن والصنائع والأشاهب، والكتيبتان المذكورتان. أما الرهائن، فذكروا أنها كانت تتألف من خمسمائة رجل رهائن لقبائل العرب، يقيمون على باب الملك سنة، ثم يجيء بدلهم خمسمائة أخرى، وينصرف أولئك إلى أحيائهم، فكان الملك يغزو بهم ويوجههم في أموره. وأما الصنائع، فهي: بنو قيس وبنو تيم اللات بن ثعلبة، وكانوا خواص الملك لا يبرحون بابه.
وذكر أنه كانت له كتيبة تسمى "الوضائع"،وقوامها ألف رجل من الفرس يضعهم ملوك الفرس بالحيرة نجدة لملوك العرب،وكانوا يقيمون سنة،ثم يأتي بدلهم ألف رجل، وينصرف أولئك.
وقيل إن وجوه العرب وأصحاب الرهائن كانوا يفدون عند رأس كل سنة، وذلك في أيام الربيع إلى النعمان وبقية من تولى الملك بعده، وقد صير لهم أكلا عند، وهم ذوو الاكال، فيقيمون شهرا، ويأخذون آكالهم ويبدلون رهائنهم وينصرفون إلى أحيائهم. والاكال هم سادة الأحياء. وكانوا يأخذون المرباع، أي ربع الغنيمة في الحرب والغزو.
ونعت بعض المؤرخين مثل الطبري وحمزة النعمان بأنه فارس حليمة، أي معركة حليمة المعروفة التي وقعت في أيام المنذر بن ماء السماء، لا في أيام النعمان على روايات آخرين.

(1/1505)


--------------------------------------------------------------------------------

وإلى النعمان هذا ينسب أكثر الأخباريين بناء قصر الخورنق الشهير في الأدب العربي. قيل: انه بناه لبهرام جور بن يزدجرد الأول "399 - 5 2 4 م" المعروف بالأثيم. وكان يزدجرد لا يبقى له ولد، فسأل عن منزل بريء مريء صحيح من الأدواء والاسقام،فدل على ظهر الحيرة، فدفع ابنه بهرام جور إلى النعمان هذا، وأمره ببناء الخورنق مسكنا له، وأنزله إياه، وأمره باخراجه إلى بوادي العرب.
وذكر "السهيلي" إن الخورنق قصر بناه النعمان اخر ملك الحيرة لسابور ليكون ولده فيه عنده، وبناه بنيانا عجيبا لم تر العرب مثله. واسم الذي بناه له سنمار، وكان بناه في عشرين سنة. ويذكر بعضهم انه بني على نهر "سنداد". وقد ارتبط اسم الخورنق في القصص الذي شاع حوله باسم بانيه المسمى سنمار، وهو في زعم الأخباريين بناء رومي كلفه النعمان بناء القصر، فلما انتهى منه وكمل تعجب من حسنه واتقان عمله، وبدلا من أن يوفيه النعمان وفاء حسنا، أمر به فطرح من رأس الخورنق، فمات في قصص يرويه الأخباريون. ويضرب بهذه النهاية المثل في الأدب العربي في الجزاء السيء، فيقال "جزاه جزاء سنمار". وقد وردت قصة سنمار في أبيات تنسب لعبد العزى بن امرئ القيس الكلبي، وكان أهدى افراسا إلى الحارث بن مارية الغساني ووفد عليه، فأغره واكرمه، ثم عاقبه لما بلغه خبر وفاة ولد للحارث وكان قد استرضعه لدى بني الحميم بن عوف من بني عبد ود من كلب، نهشته حية فتوفي، فظن الملك انهم اغتالوه، لذلك طلب من عبد العزى أن يجيء بهم إليه. فلما أبى، انزل به العقاب.وقد ورد في هذه الأبيات إن سنمار صرف عشرين حجة في بنائه البنيان بالقرميد والسكب، فلما كمل البناء وآض كمثل الطود، وظن سنمار انه سينال من صاحبه المودة والقرب، إذ بصاحب القصر يأمر بقذفه من فوق برجه فيموت. ولم يذكر الشاعر اسم الملك ولا اسم الخورنق، وهو يخاطب في هذه الأبيات إبن جفنة، كما اشير إلى "المرء حارث" ويقصد به الحارث

(1/1506)


--------------------------------------------------------------------------------

الغسانى.
وقد نسب بعض أهل الأخبار قصة نهاية "سنمار" إلى "أحيحة بن الجلاح". فذكروا إن أحيحة أراد بناء أطم له، فبناه له "سنمار". فلما كمل، عجب من بنائه، فقال له "سنمار": "اني لأعرف فيه حجرا لو انتزع لتقوض من عند آخره، فسأله عن الحجر، فأراه موضعه، فدفعه أحيحة من الأطم، فخر ميتا.
وقد ذكر "جزاء سنمار" في شعر لأبي الطمحان القيني،وآخر لسليط بن سعد وآخر ليزيد بن إياس النهشلي.
واقترن اسم هذا القصر في الغالب باسم قصر آخر نسب بناؤه أيضا إلى هذا النعمان، هو السدير.
ويتبين من روايات أهل الأخبار عن "الخورنق" و "السدير" إن القصر الأول لم يكن بعيدا عن الحيرة، وانما كان على مقربة منها، وربما كان على مسافة ميل من الحيرة. أما "السدير" فكان على مسافة بعيدة، وقد ورد انه كان في وسط البرية التي بينها وبن الشام.
ويظهر من وصف أهل الأخبار للسدير، و من انه كان قبة في ثلاث قباب متداخلة، ومن وصفهم للخورنق، إن السدير لم يكن في مثل ضخامة قصر الخورنق، وان الخورنق كان قصرا كبيرا أعد للسكنى وليكون حصنا يهيمن على مشارف البادية.
ويرى بعض الباحثين أن قصر الخورنق لم يكن من بناء "النعمان"، وأنه انما بني قبل ذلك، ويرى أن النعمان قد أسكن "بهرام" فيه.
وقد ورد ذكر الخورنق في شعر لحسان بن ثابت: وحارثة الغطريف أو كابن منذر ومثل أبي قابوس رب الخورنق

(1/1507)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذهب يعض شراح هذا البيت إلى أن المراد ب "ابن منذر" "عمرو ابن هند"، وأن المراد من "أبي قابوس"، "النعمان بن المنذر بن امرئ القيس بن عدي اللخمي"، الذي لبس المسوح وساح في الأرض، والذي نعته الشاعر عدي بن زيد العبادي ب "رب الخورنق". وهو تفسير ينسجم مع رأي المؤرخين في باني القصر، إلا أنه يتعارض معهم في تسمية الملك، فالمعروف عندهم أن "ابا قابوس" هو "النعمان بن المنذر" آخر ملوك الحيرة، وهو قاتل الشاعر "عدي بن زيد العبادي" لا "النعمان السائح". ولا يوجد أحد غيره عرف عندهم ب "أبي قابوس.". وقد حكم هذا بعد "عمرو بن هند" بأمد، فيكون هو مراد الشاعر المذكور. غير إن هذا يدفعنا إلى تخطئة "حسان" في نسبة الخورنق إلى هذا الشاعر، أو تخطئة المؤرخين في نسبتهم القصر إلى "النعمان السائح". والذي اراه إن هذا التفسير، لا يتعارض مع روايات المؤرخين في باني القصر، وان مراد الشاعر من "ومثل أبي قابوس رب الخورنق"، انه صاحب الخورنق، اي مالكه والنازل فيه، لا الباني له. وقد ذكره لشهرة القصر في ايامه وبذلك فلا يقع التعارض بين التفسيرين، ويكون الملك المقصود هو "النعمان أبو قابوس".
وممن اشار إلى القصرين: الخورنق والسدير في شعره من الشعراء الجاهليين، المنخل، قال: - واذا صحوت فانني رب الشريهة والبعير
واذا سكرت فإنني رب الخورنق والسدير

(1/1508)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد نشأ لقب "السائح" الذي لقب به النعمان من القصة الشهيرة التي يرويها الاخباريون عن هذا الملك، وهي إن النعمان جلس في يوم من ايام الربيع في قصره الخورنق فأشرف منه على النجف وما يليه من البساتين والنخل والجنان والانهار... فأعجبه ما رأى من الخضرة والنور والانهار، فقال لوزيره وصاحبه: هل رأيت مثل هذا المنظر قط ? فقال: لا، لو كان يدوم ! قال: فما الذي يدوم،? قال: ما عند الله في الآخرة، قال: فيم ينال ذلك ? قال: يترك الدنيا. وعبادة الله والتماس ما عنده. فترك ملكه من ليلته، ولبس المسوح مستخفيا هاربا لا يعلم به، وأصبح الناس لا يعلمون بحاله، فحضروا بابه، فلم يؤذن لهم عليه كما كان يفعل. فلما ابطأ الإذن عليهم، سألوا عنه، فلم يجدوه، وساح الملك منذ ذلك الحين في الارض، فلم يره انسان.
ويلحق الاخباريون بهذه القصة ابياتا ينسبونها لعدي بن زيد العبادي. ذكروا انه خاطب بها النعمان بن المنذر، هي في الواقع اختصار للقصة، لم يذكر فيها اسم النعمان، وانما اكتفى الشاعر بذكر رب الخورنق، ورب الخورنق هو النعمان في تفسير الاخباريين.
والأبيات المنسوبة إلى عدي بن زيد، وهي: وتذكر رب الخورنق إذ فكر يوما، وللهدى تفكير
سره ملكه وكثرة ما يملك والبحر معرضا والسدير
فارعوى جهله، فقال: وما غبطة حي إلى الممات يصير ?
تشير إلى النعمان السائح، وتذكر قصة مفارقته ملكه، ولبسه المسوح واعراضه عن الملك بعد إن كان ملكا.ولم يقصد بالنعمان: النعمان بن ابي سلمى صاحبه، كما تصور بعض الناس ويظهر انه نظمها للنعمان صاحبه على سبيل العظة والتذكير، ليدخله في النصرانية، وذلك بعد إن كان يتعبد للاوثان. وقد تمكن من التأثير فيه، فأدخله فيها كما يذكر الاخباريون.

(1/1509)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ورد في بعض الروايات تنصر النعمان، ونسب تنصره إلى سلطان القديس "سمعان العمودي" "Symeon Stylites" عليه، وكان يقوم، بالتبشير بين أهل الحيرة. وذكر انه شفاه ببركته من مرض كان به، فتنصر. وهي رواية في حاجة الى دليل. فلم يثبت إن آل لخم كانوا قد تنصروا في هذا العهد.
وقد ذكر الطبري إن تبع بن حسان بن تبع بن ملكيكرب بن تبع الأقرن،تبع حمير ارسل حينما ولي الملك ابن اخته الحارث بن عمرو بن حجر الكندي في جيش عظيم إلى بلاد معد والحيرة وما والاها، فسار إلى النعمان بن امرئ القيس ابن الشقيقة. فقاتله، فقتل النعمان وعدة من اهل بيته، وهزم اصحابه، وافلته المنذر بن النعمان الاكبر، وامه ماء السماء امرأة من النمر. فذهب ملك ال النعمان، وملك الحارث بن عمرو الكندي ما كانوا يملكون.
وقد استدرك الطبري على هذه الرواية، فذكر بعدها مباشرة هذه الجملة،قال: "وقال هشام: ملك بعد النعمان بن المنذر ابنه المنذر بن النعمان، وأمه هر ابنة زيد مناة بن زيد الله بن عمرو الغساني اربعا واربعين سنة". وذلك يدل على إن هذه رواية اخرى منسوبة إلى ابن الكلبي ايضا، ولكنه اخذها من مورد اخر غير المورد الذي نقل منه الرواية السابقة، وهي منسوبة ايضا إلى ابن الكلبي استهلها الطبري بقوله: "حدثت عن هشام بن محمد". وهو ابن الكلبي. وحديث الطبري عن قتل الحارث بن عمرو الكندي للنعمان بن امرئ القيس ابن الشقيقة، يناقض ما رواه هو نفسه وما رواه غيره عن تنسك النعمان واعتزاله الملك وسياسته في الارض وعن اللقب الذي منحه الاخباريون إياه وهو "السائح" ويظهر إن ابن الكلبي وأضرابه رواة هذه الروايات كانوا قد اخذوا رواياتهم من مصادر عربية مختلفة، غير مدونة، فوقع هذا التناقض بين الروايتين.

(1/1510)


--------------------------------------------------------------------------------

وعاد الطبري فتكلم على هذا الموضوع في اثناء حديثه عن الاحداث التي وقعت بين العرب في ايام قباذ، فقال: "وحدثت عن هشام بن محمد، قال: لما لقي الحارث بن عمرو بن حجر بن عدي الكندي النعمان بن المنذر بن امرئ القيس ابن الشقيقة، فقتله، وأفلته المنذر بن النعمان الاكبر وملك الحارث بن عمرو الكندي ما كان يملك، بعث قباذ بن فيروز ملك الفرس الى الحارث بن عمرو الكندي: انه قد كان بيننا وبين الملك الذي قد كان قبلك عهد، واني احب إن ألقاك. وكان قباذ زنديقا يظهر الخير ويكره الدماء. فجعل الطبري والد النعمان في هذه الرواية المنذر بن امرئ القيس مع إن والد النعمان المقصود هو امرئ القيس. وقد ذكر الطبري إن ملك النعمان إلى إن ترك ملكه وساح في الارض تسع وعشرين سنة وأربعة اشهر. من ذلك في زمن يزدجرد خمس عشرة سنة، وفي زمن بهرام جور بن يزدجرد أربع عشرة سنة. واذا اخذنا بهذه الرواية وجب إن يكون ابتداء حكم الملك النعمان في سنة "405 م"، وتركه الملك واختياره في الارض وحياة الزهد في حوالى السنة "434 م". فقد حكم بهرام بن يزدجرد، المعروف ب "بهرام الخامس" عند المؤرخين فيما بين السنة "0 2 4 م" والسنة "38 4". وصار عرش الحيرة بعد النعمان إلى ابنه المنذر، وكانت أم المنذر من غسان.
وهي هند بنت زيد مناة بن زيد بن عمرو الغساني 0 اما المسعودي، فذكر انها: هند بنت الهيجانة من آل بكر.

(1/1511)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذكر الطبري إن يزدجرد لما ولد بهرام جور، اختار لحضانته العرب، فدعا المنذر بن النعمان واستحضنه بهرام، فسار به المنذر، واختار لرضاعته ثلاث نسوة ذوات اجسام صحيحة وأذهان ذكية وآداب حسنة، من بنات الأشراف، وهن عربيتان وعجمية، فأرضعنه ثلاث سنين، فلما بلغ خمس سنين، احضر له مؤدبين، فعلموه الكتابة والرمي والفقه. وأحضر له حكيما من حكماء الفرس. ثم احضر له معلمي الفروسية، فتعلم الرماية والصيد وركوب الخيل حتى صار من أمهر الناس. وظل هذا شأنه لدى المنذر حتى مات يزدجرد. ففرح الناس بوفاته وقرر الاشراف والموبذان والمرازبة صرف الملك عن اسرة يزدجرد، لسوء سيرته في الناس، ونصبوا شخصا آخر مكانه. فلما رأى بهرام ذلك، طلب مساعدة المنذر، فأرسل المنذر قوة بقيادة ابنه النعمان، وسار هو على رأس قوة اخرى قوامها ثلاثون الفا من فرسان العرب، ومعه بهرام، وبعد مفاوضات وافق الفرس على خلع من نصبوه كسرى عليهم، وتعيين بهرام، وبفضل هذه المساعدة استعاد التاج.
وتناقض هذه الرواية كما نرى من الرواية السابقة التي دونها الطبري نفسه في تعليل سبب بناء الخورنق والتي تحدثت عنها قبل قليل.وقد فطن ابن الأثير الذي نقل الروايتين ايضا لهذا التناقض، فقال: "هكذا ذكر أبو جعفر، في اسم بهرام جور، إن اباه اسلمه إلى المنذر بن النعمان كما تقدم، وذكر عند يزدجرد الأثيم انه سلم بهرام إلى النعمان بن امرئ القيس ولا شك إن بعض العلماء قال هذا وبعضهم قال ذاك، الا انه لم ينسب كل قول إلى قائله". وأبو جعفر هذا هو الطبري.
ولا نعلم شيئا من أمر النعمان بن المنذر الذي تولى قيادة القوة التي أمر والده بارسالها للتحرش بمملكة الفرس، بعد إن رفضوا نصب بهرام جور ملكا عليهم على نحو ما رأيناه في رواية للطبري الثانية. فقد سكت الطبري عنه كما سكت الأخرون.

(1/1512)


--------------------------------------------------------------------------------

ونجد رواية نشأة بهرام جور بأرض العرب في رواية لليعقوبي مختصرة، هي في الواقع جمع للروايتين السابقتين. ذكر اليعقوبي إن يزدجرد دفع بهرام جور إلى النعمان، فأرضعته نساء العرب، ونشأ على أخلاق جميلة. ولما مات يزدجرد كرهت الفرس أن تولي ابنا له لسوء سيرته، وقالوا: "بهرام ابنه قد نشأ يارض العرب لا علم له بالملك" "وأجمعوا على أن يملكوا رجلا غيره، فسار بهرام في العرب، فلما لقي الفرس، هابته، فأذعنوا له وأعطوه الطاعة فوعدهم من نفسه خيرا. وكتب إلى الآفاق يعدهم بذلك. وقدم المنذر بن النعمان عليه، فرفع منزلته. فلم تنكر هذه الرواية رواية من زعم إن يزدجرد سلم ابنه إلى النعمان، ولم تنكر صلة المنذر ببهرام جور، ولكنها كما نرى لم تشر إلى اسم من قاد الجيش من العرب وسار على الفرس.
ولا يمنع على كل حال قول الأخباريين في بناء النعمان الأول الخورنق لبهرام من كون ابنه هو الذي ساعد بهراما على أخذ التاج. لقد سلمه والده صغيرا إلى النعمان، فلما كبر وترعرع، ومات والده وهو بين عرب الحيرة، وامتنع الفرس من توليه التاج، ساعده المنذر في ذلك، وأخذ له حقه ممن اغتصبه منه..
ويظهر من أخبار الأخباريين انه كانت للمنذر منزلة عند "يزدجرد". ذكر الطبري إن يزدجرد "دعا بالمنذر بن النعمان، واستحضنه بهرام،وشر فه وأكرمه، وملكه على العرب وحباه بمرتبتين سنيتين، تدعى احداهما "رام ابزوذ يزدجرد" وتأويلها "زاد سرور يزدجرد"، و تدعى الأخرى "بمهشت" وتأويلها "عظم الخول".، وامر له بصلة وكسوة بقدر استحقاقه لذلك في منزلته،وأمره أن يسير ببهرام إلى بلاد العرب.
وتناقض هذه الرواية رواية الطبري المذكورة في قصة بناء الخورنق، ورواية بقية أهل الأخبار عن قصة بناء ذلك القصر، وتؤكد إن وفاة "النعمان" الأول كانت في أيام يزدجرد، لا في أيام بهرام بن يزدجرد، وتفيد إن انتقال الحكم إلى المنذر كان في عهد يزدجرد.

(1/1513)


--------------------------------------------------------------------------------

واشترك المنذر في الحرب التي وقعت بين الروم والفرس بعد مدة قصيرة من تولي بهرام. جور الملك، واختار بلاد الشام ساحة لهجومه. والظاهر أن إسهامه في هذه الحرب كان بطلب من بهرام الذي لم يكن موقفه حسنا في فيها، فكلف المنذر مهاجمة بلاد الشام. ليخفف من شدة ضغط الروم عليه. غير إن التوفيق لم يحالف المنذر في هجومه هذا، فمني بخسارة كبيرة وهو يحاول مع جيشه عبور الفرات، فغرق أكثرهم في النهر. وكان ذلك في سنة 429 م. ولحقت به خسارة أخرى في السنة نفسها، أو في السنة التي تلتها حينما أعاد الكرة على الروم. وقد ذكر المؤرخ "سقراط" "Socrates" المتوفى في حوالي سنة 439 م غرق زهاء مئة ألف رجل من رجال المنذر في النهر، وهو عدد مبالغ فيه ولا شك.

(1/1514)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد استند الطبري إلى رواية يتصل سندها بابن الكلبي، فجعل مدة حكم المنذر بن النعمان أربعا وأربعين سنة، من ذلك في زمن بهرام جور ثماني سنين وتسعة أشهر، وفي زمن يزدجرد بن بهرام ثماني عشرة سنة، وفي زمن فيروز ابن يزدجرد سبع عشرة سنة. وهذه الرواية تناقض روايات ابن الكلبي السابقة نن تولي المنذر الحكم في أيام يزدجرد الأثيم والد بهرام جور، كما مر معنا. وقد أغفلت امر "هرمز" وهو ابن يزدجرد ابن بهرام جور، المعروف بالثالث، الذي حكم من حوالي السنة 457 حتى السنة 459 للميلاد. فإذا فرضنا أن حكم المنذر كان ثماني سنين وتسعة أشهر من زمان بهرام جور الذي حكم من حوالي السنة 0 42 للميلاد حتى السنة 438 للميلاد، صارت السنة 429 هي السنة 430 للميلاد التي يجب أن تكون سنة توليه الحكم، وإذا أضفنا الى هذا الرقم أربعا وأربعين سنة، وهي مدة حكم المنذر، إلى هذه الرواية، صارت السنة 473 - 474 للميلاد، هي سنة انتهاء حكم المنذر بوفاته. تكون سنة وفاته إذن في زمن "فيروز بن يزدجرد بن بهرام جور" الذي حكم من جوالي السنة 459 حتى السنة484 للميلاد. وبحسب هذه الرواية يكون المنذر قد عاصر بهرام جور المعروف ب "بهرام الخامس" عند المؤرخين وعاش في زمن يزدجرد الثاني، وهو ابن "بهرام جور". وفي زمن "هرمز بن يزدجرد"، ثم في زمن شقيقه فيروز ابن يزدجرد بن بهرام جور.
وتولى بعد المنذر ابنه الأسود من زوجته هر ابنة النعمان من بني الهيجمانة ابنة عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان على رواية الطبري. ومن لخم على حد قول حمزة.

(1/1515)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما "الد ينوري"، فذكر أن.الذي ولي الملك.بعد "النعمان بن امرئ القيس " الأعور والسائح، أخوه "المنذر بن امرئ القيس"، وكانت أمه من "النمر بن قاسط" ويقال لها: "ماء السماء" لجمالها وحسنها. وأبوها "عوف بن جشم" وقد ولاه "كسرى أنوشروان" العرش. وزعم أنه تزوج "هندا" ابنة الحارث بن عمرو الكندي آكل المرار، وهي التي أولدته ثلاثة أولاد هم: عمرو بن هند المعروف بمضرط الحجارة، وقابوس المعروف بقينة العرس، والمنذر بن المنذر. وذكر أنه بقي ملكا على الحيرة إلى أن غزا "الحارث ابن أبي شمر الغساني"، وهو الأعرج، فقتله الأعرج بالحيار.
وجعل "الدينوري" "المنذر بن المنذر بن امرئ القيس " بعد "المنذر" المذكور، وقال: إنه خرج يطلب دم أبيه، فقتله الحارث أيضا بعين أباغ، ويقال: إن قاتله هو "مرة بن كلثوم ا!تغلبي"، أخو عمرو بن كلثوم، ثم نصب من بعده شقيقه عمرو بن هند، ثم النعمان بن المنذر أبا قابوس، وبذلك أنهى قائمته لملوك الحيرة. وهي قائمة سقط منها عدد من الملوك.
ولا نعرف من أخبار الأسود شيئا كثيرا. وقد ذكر حمزة أنه حكم عشرين عاما، وذلك في زمن فيروز بن يزدجرد وبلاش بن فيروز وقباذ ين فيروز.
وروى أنه حارب الغساسنة وانتصر عليهم، وأسر منهم، كما روى أنه وقع في احدى معاركه في أيدي الغساسنة، فقتله. و ذكر الطبري أن الفرس أسرته، ولم يذكر سبب هذا الأمر. وأنه حكم عشرين سنة، من ذلك في زمن فيروز ابن يزدجرد عشر سنين، وفي زمن بلاش بن يزدجرد أربع سنين، وفي زمان قباذ بن فيروز، ست سنين.

(1/1516)

admin
12-27-2010, 01:22 AM
وقد حكم "فيروز" من سنة "59 4 م" حتى سنة "4 48 م"، ويكون حكم "الأسود" بحسب رواية الطبري المتقدمة في حوالي السنة "474 م" تقريبا، وقد حكم "بلاش" أربع سنين، من سنة "4 48 م" حتى سنة "88 4 م"، ثم حكم "قباذ الأول"، وهو ابن فيروز من بعده. حكم من سنة "488" حتى سنة "531" للميلاد. ولما كان "الأسود" قد حكم ست سنين من زمان حكم "قباذ"، تكون سنة وفاته في حوالي السنة "494 م".
وورد في رواية انه كان للاسود بن المنذر ولد اسمه شرحبيل، قتل، قتله الحارث بن ظالم، وكان طفلا مسترضعا عند سنان بن أبي حارثة المري.
وكان سبب ذلك على ما تذكره الرواية إن "خالد بن جعفر بن كلاب" كان قدم على "الأسود بن المنذر" أخي النعمان،ومعه "عروة بن عتبة بن جعفر"، فالتقى خالد بن جعفر والحارث بن ظالم بن غيظ بن مرة بن سعد بن ذبيان عند الأسود بن المنذر، فجعل خالد يقول للحارث: يا حمار، أما تشكر يدي عندك إن قتلت عنك سيد قومك زهيرا وتركتك سيدهم ? فقال: سأجزيك شكر ذلك. فلما خرج الحارث، قال الأسود لخالد:ما دعاك الى أن تتحرش بهذا الكلب، وانت ضيفي ? فقال: انما هو عبد من ****ي، ولو وجدني نائما ما أيقظني. وانصرف خالد إلى قبته، فلامه عروة الرحال، ثم ناما وأشرجت عليهما القبة، فلما هدأت العيون، انطلق الحارث حتى أتى قبة خالد، فهتك شرجها، ثم ولجها وقتله. فنادى عروة: واجوار الملك ! فأقبل الناس، وسمع الأسود الهتاف، وقرر الانتقام ممن خرق جوار الملك. وهرب الحارث منه.

(1/1517)


--------------------------------------------------------------------------------

ولما هرب الحارث تنقل في القبائل، فلجأ إلى صديق له من كندة. فطلبه الملك فشخص من عند الكندي، وأضمرته البلاد حتى استجار بزياد أحد بني عجل ابن لجيم، فقام بنو ذهل بن ثعلبة وبنو عمرو بن شيبان، فقالوا لعجل: أخرجوا هذا الرجل من بين أظهركم، فانه لا طاقة لنا بالشهباء والدوسر، وأبت عجل ذلك عليهم. فلما رأى الحارث ذلك، كره أن تقع الفتنة بينهما بسببه، فارتحل من بني عجل إلى جبلي طيء، فأجاروه، فمكث عندهم حينا. ثم إن الأسود لما أعجزه أمره، أرسل إلى جارات كن للحارث بن ظالم استاقهن وأموالهن، فبلغ ذلك الحارث، فخرج من الجبلين، حتى علم مكان جاراته، فأتاهن، واستنقذهن، واستاق ابلهن، فألحقهن بقومهن. واندس إلى بلاد غطفان حتى أتى سنان بن أبي حارثة المري، وهو أبو هرم بن سنان ممدوح زهير. وكان الأسود قد استرضع ابنه شرحبيل عند سنان، ترضعه امرأته. فاستعار الحارث سرج سنان، وهو في ناحية الشرية، فأتى به سلمى امرأة سنان، وقال لها: يقول لك بعلك، ابعثي شرحبيل مع الحارث، وهذا سرجه لك آية. فدفعته إليه، فأتي به من ناحية من الشعرية فقتله، وهرب من فوره، وهرب سنان لما سمع بخبر قتله.

(1/1518)


--------------------------------------------------------------------------------

فلما بلغ الأسود قتل ابنه شرحبيل غزا بني ذبيان، فقتل وسبى،وأخذ الأموال وأغار على بني دودان رهط سلمى، ثم وجد بعد ذلك نعلي شرحبيل في جانب الشرية عند بني محارب بن خصفة، فغزاهم وأسرهم وأحمى لهم الصفا، وقال: اني أحذيكم نعالا، فأمشاهم عليها، فسقطت أقدامهم، ثم إن سيار بن عمرو ابن جابر الغزاوي احتمل للاسود دية ابنه ألف بعير، ورهنه بها قوسه،فوفاه بها. ثم هرب الحارث، فلحق بمعبد ين زرارة فاستجار به، فأجاره، وكان من سببه وقعة رحرحان. ثم هرب حتى لحق بمكة، ثم غادرها إلى الشام، فلحق بيزيد بن عمرو الغساني، فأجاره واكرمه. ومكث عنده. ثم افتقد يزيد ناقة له، ولم يعلم خبرها، فأرسل إلى الخمس التغلبي، وكان كاهنا،فسأله عنها،فأخبره إن الحارث صاحبها، فهم به الملك ثم تذمم من ذلك، فأوجس الحارث في نفسه شرا، فأتى الخمس التغلبي فقتله. فلما فعل ذلك دعا به الملك، وأمر به ابن الخمس فقتله بأبيه. وأخذ ابن الخمس،سيف الحارث، فأتى سوق عكاظ في الأشهر الحرم، فأراه قيس ين زهير العبسي، فضربه به قيس فقتله.
وذكر إن الأسود غزا بني ذبيان وبني أسد بشط أربك وأوقع فيهم،وانه وجد نعل ابنه شرحبيل القتيل في بني محارب بن خصفة بن قيس عيلان. فانتقم منهم شر انتقام، وانه قبل من الحارث بن سفيان دفع دية شرحبيل، فدفعها إليه، وهي ألف بعير، "دية الملوك".
وخبر هذه الغزوة هو جزء متمم لخبر قتل الحارث بن ظالم لابن الأسود، كما جاء في رواية أخرى.

(1/1519)


--------------------------------------------------------------------------------

وروايات أهل الأخبار عن قتل الحارث بن ظالم لخالد بن جعفر بن كلاب، وعن قتل ابن الملك، روايات متناقضة مضطربة قلقة، والتبس الأمر فيها على الرواة، ولا سيما "ابن الكلبي" و "أبي ****ة" اللذين هما مرجعا أكثر رواة تلك الروايات. يتداخل فيها اسم النعمان بن امرئ القيس، مع اسم النعمان بن المنذر واسم الأسود بن المنذر، وتنسب القصة مرة إلى هذا الملك،ومرة إلى ذاك. وقد تتداخل، فيذكر اسم الملك الأسود، ثم يورد بعده اسم الملك النعمان. يذكر الرواة رواية كالرواية.السابقة، جعلت الولد القتيل شرحبيل بن الأسود، وجعلت الحارث بن ظالم يسير متخفيا إلى الحيرة ليفتك بالأسود. ولكنهم جعلوه قي هذه الرواية يسمع صراخ امرأة أخذ جمع الأسود صرمة من إبلها، فتوجع لها، ووعدها على اعادة ابلها فطلب منها أن تذهب إلى موضع عينه لها، ليأتي لها بإبلها. فلما وردت ابل النعمان، أخذ مالها، فسلمه اليها، ثم فر يطلب له مجيرا فلم يجره أحد قائلين له: من يجيرك على هوازن والنعمان ? ويختفي اسم المنذر فجأة في هذه الرواية، ويظهر اسم الملك النعمان كما في الرواية السابقة، ولكن دون تصريح باسم والد النعمان، وهو امرؤ القيس.
ثم تستمر الرواية فتاخذ الحارث إلى الشام، ليستجبر بيزيد بن عمرو الغساني من النعمان وهوازن، فيجيره ويكرمه، ولكنه يذبح ناقة ليزيد، ثم يقتل امرأة أرسلها يزيد لتحري بيت الحارث، ثم يقتل الكاهن الذي تكهن بعقر الحارث للناقة وبقتله للمرأة. فلم يبق أمام يزبد إلا قتل الحارث، فأمر به فقتل. وعلى هذه الصورة انتهت حياة رجل هو في نظر الأخباريين بطل من أبطال المغامرات و المفاجآت.

(1/1520)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما الرواية التي تذكر أن ذلك الملك هو النعمان بن امرئ القيس فتقول إن النعمان بن امرئ القيس كان قد تزوج بنتا من بنات زهير بن جذيمة بن رواحة العبسي، وهو من السادة الاشراف، فأرسل النعمان ذات يوم إلى زهير يستزيره بعض أولاده، فأرسل ابنه شأسا، وكان أصغر ولده، فأكرمه وحباه، ورجع بهدايا وألطاف كثيرة. فلما بلغ ماء من مياه غني بن أعصر، طمع به رباح بن الأشل، فقتله، واستلب ما كان معه. فلما سمع زهير بمقتل ولده، جاء ديار غني، وأخذ يغير عليها، حتى قتل منها مقتلة عظيمة، فاستجارت غني بحلفائهم بني عامر بن صعصة، فأنجدوها. وتوسعت الحرب، فاشتركت بها هوازن، وكانت تحقد على زهير لأنه كان يسر بها خسفا ويجبيها الإتاوة كل سنة بعكاظ، وترأس خالد بن جعفر بن كلاب غنيا وبني عامر وهوازن، فقتل زهيرا، وعاد أبناؤه بجسده ليواروه التراب. وذهب خالد بعد مصرع زهير إلى النعمان مستجيرا به حين علم أن غطفان ستطلبه به، فأجاره، وضرب له قبة وحماه. وبينما كان في مجلس النعمان، قدم الحارث بن ظالم إلى المجلس، وجرى بينه وبين خالد كلام، أغلظ فيه خالد على الحارث، فحقد الحارث عليه وقرر الانتقام منه، فاغتاله وهرب. فجعل النعمان يطلبه ليقتله بجاره، وهوازن تطلبه لتقتله بسيدها خالد. فلحق ببني دارم من تميم، واستجار بهم، فأجاروه على النعمان. فما علم النعمان ذلك، جهز جيشا إلى بني دارم، فلما سمعوا بمجيء الجيش عليهم، استعدوا له، وأرسلوا أموالهم إلى بلاد بغيض، واستعدوا مع بني مالك بن حنظلة وبني عامر للقتال. فلما التقوا بجيش النعمان، قتل رئيس جيش النعمان، وانهزم الجيش. وقيل: إن الحارث بن ظالم ركب الى الحيرة متخفيا، واستاق إبلا له كان قد استولى عليها النعمان، وقتل أحد أبنائه، وفر.

(1/1521)


--------------------------------------------------------------------------------

وهناك رواية تجعل النعمان المذكور النعمان بن المنذر، وتجعل الولد القتيل إبنا لهذا النعمان. وجعلت رواية أخرى قتل الحارث لخالد في عهد الأسود، ثم تذكو أنه هرب منه. ثم إن رجلا من بني زيد مناة كان بعض حشم النعمان قد أخذوا إبله وأهله، استجار بالحارث فركب الحارث حتى أتى النعمان، فقال: أبيت اللعن! إنك أخذت نساء جاري، وماله، وأنا له جار. فذكره النعمان بقتله خالدا، وهو في جوار الأسود أخيه. ثم إن النعمان أوعد الحارث وعيدا شديدا. فمضى الحارث، وندم النعمان على تركه،وطلبه ففاته، وكان للنعمان ابن مسترضع عند "سنان ين أبي حارئة"، وكانت سلمى بنت ظالم تحت سنان، فجاء الحارث إلى أخته على لسان سنان، حتى أعطته ابن النعمان، فضرب عنقه ولحق بمكة. فجاور عبد الله بن جدعان.
وأما قتل "الحارث بن ظالم"، فالروايات مختلفة فيه، منها ما جعل قاتله: "يزيد بن عمرو الغساني" على نحو ما رأيت. ومنها ما جعل قاتله ملكا من ملوك غسان تسميه النعمان. ومنها، وهي رواية من روايات أهل الكوفة، ما جعل قاتل الحارث هو الملك النعمان بن المنذر، وتذكر قصة كيفية استدراج النعمان للحارث ومراسلته له مصرحا له أنه قد رضي عنه وعفا عما بدر منه حتى أمن الحارث. فلما جاء إلى النعمان، وكان في قصر بني مقاتل، أمر به فقتل. قتله ابن الخمس التغلبي، وكان الحارث قد قتل أباه.
وجاء في رواية أن "عمرو بن الخمس" هو الذي قتل الحارث، قتله بأمر الملك الأسود بن المنذر. وذكر "ابن دريد" أن قوما زعموا أن النعمان قتل "الحارث بن ظالم"، وهذا وهم، لأن الذي قتله إنما هو "المنذر بن المنذر أبو النعمان". وذكر "محمد بن حبيب". أن "سيار بن عمرو الفزاري" المعروف ب "ذي القوس"، كان قد رهن قوسه على ألف بعير في قتل الحارث ابن ظالم من النعمان الأكبر.
ويظهر من "رسالة الغفران" إن "آل لخم" كانوا يعظمون. "الأسود بن المنذر"، ولم يذكر سبب هذا التعظيم.

(1/1522)


--------------------------------------------------------------------------------

وحكم بعد الأسود أخوه المنذر بن المنذر بن النعمان، وأمه هر ابنة النعمان. حكم على رواية لابن الكلبي سبع سنين، وذلك في زمان قباذ بن فيروز. ولما كان حكم قباذ، وهو "قباذ الأول" ويسمى ب "قباذ بن فيروز" قد امتد من سنة "488" حتى سنة "531" للميلاد، فيكون حكم المنذر اذن قد وقع في خلال هذه المدة.
واذا أخذنا بهذه الرواية، وجب أن يكون ابتداء حكم المنذر بن المنذر في حوالي سنة "494 م"، وانتهاء حكمه في حوالي السنة "501م"، وذلك بحسب سني حكم ملوك الفرس عند المؤرخين. ولكننا نواجه روايات أخرى رواها أبن الكلبي أيضا وغيره تخالف هذا التقدير.
وبعد المنذر انتقل الملك إلى ابن أخيه النعمان بن الأسود، وأمه هي "أم الملك ابنة عمرو بن حجر، أخت الحارث بن عمرو الكندي". اذن فهي أميرة من أمراء كندة. وقد حكم هذا الملك على رواية لابن الكلبي أربع سنين، وذلك في زمن قباذ.
يظهر من رواية ل "ثيوفانس" إن النعمان هذا أغار على حدود الروم وعلى العرب المحالفين لهم، فاصطدم بالقائد "أوجينيوس" "Eugenius" عند موضع "بثرابسوس" "Bithrapsos" "البئر" على الفرات، فأصيب بخسارة فادحة. ولا نعرف على وجه التحقيق سنة وقوع هذا الحادث، والمظنون انه كان حوالي سنة "498 م".
واشترك النعمان أيضا في الحرب التي وقعت بين الروم والفرس حوالي سنة "502للميلاد"، اذ رجا منه قباذ أن يهاجم حدود الروم من جهة الجنوب، فهاجمها في قطاع "حران" "Carrhae" واصطدم بالقائدين "أوليمبيوس" "Olympius" و "أويجينيوس" "Eugenius" فتغلبا عليه، غير انه أعاد الكرة فتغلب عليهما. وفي المعركة التي وقعت على مقربة من "قرقيسياء" "Circesium" على الخابور أصيب بجرح بليغ في رأسه فقضى عليه.

(1/1523)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي أثناء غياب النعمان ومعظم جنوده عن الحيرة، انتهز العرب الذين في بلاد الروم الملقبون ب "بني ثعلبة" "طايوس دبيت روموين د متقربن دبيت ثعلبة" هذه الفرصة، فأغاروا على عاصمته، وأخذوا كل ما أمكنهم أخذه، فاضطر من كان قد تخلف في الحيرة من جيش النعمان إلى الفرار إلى البادية. ويخيل الي إن ذلك كان على أثر اصابة الملك بجرحه المميت.
وتولى الحكم رجل من "آل لخم" اسمه "أبو يعفر بن علقمة بن مالك بن عدي بن الذميل بن ثور بن أسس بن ربي بن نمارة بن لخم"، بعد النعمان. فهو من "ذميل" و "ذميل" بطن من بطون لخم. ولم يتحدث أصحاب الأخبار عن علاقة هذا الرجل بالأسرة المالكة ولا عن كيفية تعيينه والأسباب التي أدت إلى اختياره لهذا المنصب، وكل ما ذكرته انه حكم ثلاث سنين، ثم انتقل الحكم من بعده إلى المنذر بن امرئ القيس البدء، وقو ذو القرنين، وذلك في رواية للطبري عن ابن الكلبي.
أما حمزة الأصبهاني، فجعل بعد أبي يعفر ابنا للنعمان الأعور سماه امرأ القيس ابن النعمان بن امرئ القيس. قال: انه هو الذي غزا بكرا يوم "اوارة" في دارها، وكانوا أنصار بني آكل المرار وهزمهم. وكانت بكر قبله تقيم أود ملوك الحيرة وتعضدهم. ونسب إليه بناء حصن "الصنبر" زاعما إن الذي بناه له هو البناء الرومي الشهير سنمار، وانه هو الذي قتل ذلك البناء. وجعل مدة حكمه سبع سنين، وذلك في زمن قباد.
وقال "حمزة": وفيه قال المتلمس: جزاني أخو لخم على ذات بيننا جزاء "سنمار"وما كان ذا ذنب.
وذكر حمزة إن حصن صنبر المذكور، وهو من عمل "سنمار"، هو الذي قال فيه أحد الشعراء: ليت شعري متى تخب به النا قة نحو العذيب والصنبر

(1/1524)


--------------------------------------------------------------------------------

ويعرف المنذر هذا عند أكثر الأخباريين بالمنذر بن امرئ القيس بن النعمان وب "ذي القرنين" وب "المنذر بن ماء السماء" وب "ابن ماء السماء". وماء السماء هي أمه على زعمهم، وهي: مارية ابنة عوف بن جشم بن هلال بن ربيعة بن زيد مناة بن عامر الضحيان بن سعد بن الخزرج بن تيم الله بن النمر بن قاسط في رواية ابن الكلبي التي دونها الطبري. وذكر حمزة نسب ماء السماء كما ذكره الطبري، غير أنه جعل الاسم ماوية بدلا من مارية، ولا أراه إلا خطأ من النساخ في كتابة الاسم أدى إلى هاتين الصورتين.
وأما سبب تلقيبه بذي القرنين، فيقال إنه لقب بذلك لضفيرتين كانتا له من شعره، فعرف بهما لذلك.
وتلقيب ابن الكلبي امرأ القيس والد المنذر بالبدء هو خطأ ولا شك، إذ لا يعقل أن يكون هذا المنذر ابنا لامرئ القيس البدء المتوفي سنة 328 للميلاد.
ويلاحظ أن الأخباريين لقبوا امرأ القيس الآخر الذي حكم بعد أوس بن قلام بالبدء كذلك، مع أنه مسبوق على حد قولهم بملك آخر اسمه هذا الاسم. فلا يجوز تلقيب صاحبنا هذا إذن بالبدء. ولا يجوز بالطبع تلقيب امرئ القيس الآخر الذي زعم انه والد المنذر بالبدء أيضا، لأنه ثالث المراقسة في ترتيب اسماء الملوك بحسب رواية الأخباريين.
ولا نعلم شيئا يذكر من أمر امرئ القيس والد المنذر، فهم لم يشيروا اشارة صريحة إلى انه كان ملكا. فهل هو امرؤ القيس بن النعمان الذي جعله حمزة ملكا بعد أبي يعفر ? لا يستبعد أن يكون هو إن صحت رواية حمزة.

(1/1525)


--------------------------------------------------------------------------------

ويلاحظ أن المؤرخين البيزنطيين واللاتين قد أطلقوا على المنذر "Alamoundaros" و. "Alamundarus" و "Alamundarus O Secicis" وغير ذلك، مما يفهم منه انهم قصدوا ب "Sacicus" و "Secicis" "Sicices" وأمثال ذلك كلمة "شقيقة" "الشقيقة" العربية، وأنهم ارادوا المنذر بن الشقيقة، وهو هذا المنذر الذي نتحدث عنه في رأي المستشرقين، لذلك ذهب بعض المستشرقين إلى أن أم المنذر هي "الشقيقة" "شقيقة"، وذهب آخرون إلى أنها لم تكن امه، وإنما قيل له ذلك لأنه كان من آل الشقيقة الشهيرة، فعرف عند أولئك المؤرخين بابن الشقيقة أو بالمنذر ابن الشقيقة كما دعي الملوك بعد المنذر ببني ماء السماء.
أما الأخباريون فقد جعلوا شقيقة أما للنعمان الأعور كما رأيت، ولم يشيروا إلى ملك اسمه المنذر واسم امه شقيقة، فأيهما المصيب ? الأخباريون أم المؤرخون اليونان واللاتين والسريان ? وهل نحن أمام ملك آخر اسمه المنذر بن الشقيقة حكم في أوائل القرن السادس للميلاد ?.
وذكر الأخباريون إن المنذر كان قد تزوج هندا بنت آكل المرار، فولدت له أولادا منهم عمرو بن هند الذي ولى الملك بعده، وقابوس، ثم تزوج أختها أمامة فولدت له ولدا اسمه عمرو وهو المقتول بوادي القضيب.
ويرى بعض الباحثين إن حكم "المنذر" كان في حوالي السنة "508م"، أو قبل ذلك بقليل في حوالي السنة "506م". وأما انتهاء ملكه فكان في حوالي السنة "554م".
وكان قباذ قد عقد صلحا في عام "506" للميلاد مع الروم بعد الحرب التي استمرت من سنة "502" حتى سنة "506م"، غير إن هذا الصلح لم يدم طويلا. ففي سنة "518" للميلاد تجدد الخلاف بين الفرس والروم، وذلك على أثر مطالبة قباذ القيصر "جستينوس" "يوسطينوس" "Justinus" الأول بدفع الاتاوة التي اتفق في صلح "506م" على دفعها للفرس. وبناء على تباطؤ القيصر في دفعها حرض قباذ المنذر على التحرش بحدود الروم، وقام المنذر بغزوها في سنة "519م".

(1/1526)


--------------------------------------------------------------------------------

لقد تمكن المنذر في بعض حروبه مع الروم من أسر قائدين هما "ديموستراتوس" "تيموستراتوس" "Timostratus" "Demostratus" و يوحنا "Johannes". وأراد القيصر أن يفك أسر هذين القائدين ويعقد صلحا وحلفا بين الروم والمنذر، فأرسل - على ما يظهر - رسولا خاصا إلى المنذر هو "ابراهيم" "Abraham" والد الكاتب المؤرخ "نونوسوس" "Nonnosus"، ومعه "شمعون الأرشامي" "Symeon of Beth Arsham" و "سرجيوس" "Sergius" أسقف الرصافة "بيت رصافة". وقد وصل الوفد إلى المنذر في السنة السادسة "السنة السابعة" من حكم "جستينوس" "يوسطينوس" الموافقة لسنة "835" من التقويم السلوقي ولسنة "524" للميلاد. وكان المنذر آنئذ في البادية في موضع اسمه "رمله" "الرملة". وقد نجحت مهمته فيما يخص فك أسر القائدين.
و "سرجيوس" هو مؤلف القسم السرياني الخاص بشهداء العربية الجنوبية، أي شهداء نجران. وقد دونت في عهد أسقفيته على الرصافة أسماء الشهداء على الجدار الشمالي للكنيسة الكبرى، كنيسة القديس سرجيوس.
وصادف وصول وفد الروم إلى المنذر وصول وفد آخر من اليمن أرسله ذو نواس الملك الشهير المعروف بتعذيبه نصارى نجران إلى المنذر ليفاوضه على تعذيب من في مملكته من النصارى. وقد دون "شمعون الارشامي" قصة التعذيب هذه مدعيا انه نقلها من الكتاب الذي قريء على الملك ومن أقوال من عرفه من الحاضرين، دونها في صورة كتاب ليقرأ في الكنائس ويطلع عليه المؤمنون. وقد نشر هذا الكتاب، وطبعت ترجمته كذلك.
وذكر إن القيصر "جستينوس" "يوسطينوس" "Justinus" كتب إلى المنذر ابن النعمان طالبا منه اخراج من في أرضه من القائلين بالطبيعة الواحدة. وقد جادلهم في مجلس عقده بحضرة المنذر "شيلا" الجاثليق. فلما سمع هؤلاء بذلك، هرب بعضهم إلى نجران واقاموا هناك. وكان من مؤيديهم الحجاج بن قيس الحيري صاحب المنذر.

(1/1527)


--------------------------------------------------------------------------------

يظهر إن امل القيصر في عقد هدنة أو معاهدة مع المنذر لم يتحقق، أو أنه تحقق ولكن إلى حين. فلما ساءت العلاقات بين الروم وللفرس، ووقعت الحرب سنة "528م" بين الجانبين، هاجم المنذر الروم مؤيدا الفرس، وكان له أثر خطير في هذه الحرب. وقد توغل في بلاد الشام، وغنم منها غنائم كثيرة، ولكنه لم يبق فيها أمدا طويلا، فعاد مع جنوده سريعا الى قاعدته كعادة سائر الملوك بعد أن أشبع نفسه من غنائم الحرب.
ونجد المنذر يجدد هجومه على بلاد الشام، بعد مدة قصيرة من هجومه الأول. لقد هاجمها سنة "529م" وتوغل فيها حتى بلغ حدود أنطاكية، واحرق عددا من المواضع ومنها موضع "خلقيدون" "خلقيدونية" "Chalcedon". وقد زعم بعض المؤرخين السريان أنه ضحى بأربع مئة راهبة للعزى، وهي دعوى نحتاج بالطبع إلى درس.
وقد عرض ابن العبري لتوغل المنذر في أرض الروم، واستيلائه على أرضين واسعة شملت كل منطقة الحدود، ومنها أرض الخابور ونصيبين، حتى بلغ "حمص" "Emessa" و "أباميا" "فامية" "Apamea" وأنطاكية "Antioch" زاعما أنه قتل عددا كبيرا من السكان، وخرب أكثر تلك الأرضين، ذاكرا أنه اختار من بين الأسرى أربعمئة راهبة أخذهن لنفسه، غير انه لم يذكر أنه قدمهن قربانا الى العزى.
وقد اضطر هذا الغزو القيصر "يوسطنيانوس" "Justinianus" الذي خلف "يوسطينوس" إلى نصب الحارث الجفني "فيلارخا" "فيلاركا" "Phylarch"، أي عاملا على عرب بلاد الشام لحماية الحدود من اعتداءات المنذر وعرب العراق.
وقد عوض قباذ الخسارة التي لحقت به عند موضع "دارا" بربح ناله بواسطة المنذر لقد قام المنذر وأحد القواد الفرس بمهاجمة منطقة الفرات "Euphratesia" وهي منطقة "قوماجين" "Commagene"، فلما تصدى لهما القائد "بليزاريوس" "Belisarius" تراجعا، ثم التقيا به عند الرقة "Callinikos" فانتصرا عليه. وقد كان ذلك في السنة الرابعة من حكم "يوسطنيانوس" "Justinianus" أي في سنة "531م".

(1/1528)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد اشترك الحارث بن جبلة في هذه الحرب مع الروم، وأنيطت به حماية الجانب الأيمن في القتال الذي اضطرم مع الفرس. أما المنذر وجيشه، فكان يكون الجناح الأيسر لجيش الفرس، أي الجناح المقابل لعرب الروم.
في أثناء كلامه على الحبشة في اليمن وعلى دخول الفرس اليها،كما أشار إلى الموادعة والهدنة التي عقدت بين كسرى أنو شروان والقيصر، وقد سماه "يخطيانوس"، أي "جستنيان" "جستنيانوس" "Justinianus"، فقال: "وكان فيما ذكر بين كسرى أنو شروان وبين يخطيانوس ملك الروم موادعة وهدنة. فوقع بين رجل من العرب كان ملكه يخطيانوس على عرب الشام يقال له خالد بن جبلة وبين رجل من لخم كان ملكه كسرى على ما بين عمان والبحرين واليمامة إلى الطائف وسائر الحجاز ومن فيها من العرب يقال له المنذر بن النعمان نائرة. فأغار خالد ابن جبلة على حيز المنذر، فقتل من أصحابه مقتلة عظيمة وغنم أموالا من أمواله فشكا ذلك المنذر إلى كسرى وسأله الكتاب إلى ملك الروم في انصافه من خالد، فكتب كسرى إلى يخطيانوس يذكر ما بينهما من العهد على الهدنة والصلح ويعلمه ما لقى المنذر عامله على العرب من خالد بن جبلة الذي ملكه على من في بلاده من العرب، ويسأله أن يأمر خالدا أن يرد على المنذر ما غنم من حيزه وبلاده ويدفع إليه دية من قتل من عربها وينصف المنذر من خالد وان لا يستخف بما كتب به من ذلك فيكون انتقاص ما بينهما من العهد والهدنة بسببه. وواتر الكتب إلى يخطيانوس في انصاف المنذر فلم يحفل بها. فاستعد كسرى فغزا بلاد يخطيانوس في بضعة وتسعين الف مقاتل فأخذ مدينة دارا ومدينة الرهاء ومدينة منبج ومدينة قنسرين ومدينة حلب ومدينة انطاكية وكانت أفضل مدينة بالشام ومدينة فامية ومدينة حمص ومدنا كثيرة متاخمة لهذه المدائن عنوة واحتوى على ما كان فيها من الأموال والعروض وسبى أهل مدينة انطاكية ونقلهم إلى أرض السواد".

(1/1529)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من سياق هذه الرواية إن الطبري لم يكن على علم واضح بالمنذر بن النعمان ولا بخالد بن جبلة. وقد نقل روايته هذه من غير نقد ولا مناقشة. فالشخص الذي تخاصم المنذر معه هو الحارث بن جبلة، لا خالد بن جبلة. وقد وهم المورد الذي نقل الطبري منه، فظن انه خالد بن جبلة. وهو مورد يظهر كما يتبين من سياق الحديث انه اعتمد على كتاب من كتب التأريخ، لعله من المؤلفات الفارسية أو السريانية، وقد نقل الدينوري منه أيضا،فذكر خالد بن جبلة.
وفي رواية الطبري عن ملك المنذر مبالغة على ما يظهر، فليس في الأخبار التي يرويها الأخباريون عن هذا الوقت رواية واحدة يفهم منها إن نفوذ الفرس قد شمل هذه الأرضين الواسعة الممتدة من الحجاز إلى ساحل الخليج. وليس فيها خبر واحد يفهم منه إن ملك المنذر قد شمل الطائف وسائر الحجاز. ولو كان ملكه قد بلغ هذه البلاد لوعت ذلك ذاكرة أهل الأخبار شيئا عنه،اذ انه لم يكن بعيد عهد عن الإسلام.
ولم تنقطع المناوشات بين الحارث والمنذر، بالرغم من الهدنة التي اتفق الفرس والروم على عقدها لمدة خمس سنوات وذلك في سنة "545م". فبعد مدة قصيرة من التوقيع عليها، عادت نيران الحرب فاستعرت بين الحارث والمنذر من غير أن يتدخل الفرس أو الروم في هذا النزاع. وقد تمكن المنذر من مباغتة أحد أبناء الحارث: وكان يكلىء خيله في البادية، فأسره، وقدمه على ما يقوله بروكوبيوس ضحية إلى العزى "Aphrodite". وبعد أن جمع كل واحد منهما كل ما يملك من قوة ومن حديد، اشتبكا في حرب جديدة انتصر فيها الحارث انتصارا كبيرا، وقتل عددا كبيرا من جنود خصمه. فلما رأى ما حل به، فر هو ومن بقي حيا من أتباعه، تاركا اثنين من أبنائه في جملة من وقع في الأسر.

(1/1530)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد تكون غارة قيس بن سلمة بن الحارث الكندي على الحيرة غارة انتقامية من المنذر لما أنزله بآل كندة من خسائر. ويظهر أن قيسا قد باغت المنذر وفاجأه بغارة خاطفة اضطرته إلى الهزيمة والالتجاء إلى الخورنق مع ابنيه عمرو وقابوس. وبعد مضي عام على هذه الهزيمة، انتقم المنذر لنفسه بغارة أغارها على كندة كلفت الكنديين اثني عشر أميرا من بني حجر بن عمرو وقعوا في أسره في مكان يسمى ذات الشقوق، ثم أمر بعد ذلك بضرب اعناقهم في الجفر، وهو الموضع الذي أطلق عليه لهذه الحادثة جفر الأملاك، وهو موضع "دير بني مرينا" الذي أشير إليه في الشعر المنسوب لامرئ القيس.
ويذكر أهل الأخيار أن الشاعر "امرأ القيس الكندي" كان في جملة من وقع أسيرا، الا أنه افلت من الأسر ونجا بنفسه، فقال شعرا يرثي به من قتل، منه: ملوك من بني عمرو بن حجر يساقون العشية يقتلونا
فلو في يوم معركة أصيبوا ولكن في ديار بني مرينا
ولم تغل جماجمهم بغسل ولكن في الدماء مرملينا
فهو يتألم ويتأفف من سقوط قومه قتلى، لا فى حرب ولا في معركة، ولكن في "ديار بني مرينا"، فأية مصيبة أعظم من هذه المصيبة ? ملوك أحرار شجعان يقتلون في مثل هذه الديار وفي رواية أن الذين قتلوا من بني حجر آكل المرار في جفر الأملاك هم تسعة واستشهدت على ذلك بشعر للحارث بن حلزة جاء فيه: وفديناهم بتسعة أملا ك كرام أسلابهم أغلاء
وأشير في قصيدة هذا الشاعر إلى الجون. وهو جون آل بني الأوس، وهو في شرح الرواة ملك من ملوك كندة، وهو ابن قيس بن معديكرب. قالوا: وكان الجون جاء ليمنع بني آكل المرار، ومعه كتيبة خشناء، فحاربته بكر، فهزموه، وأخذوا بني الجون، فجاؤوا بهم إلى المنذر، فقتلهم.

(1/1531)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي بعض الروايات أن المنذر توسط لعقد الصلح بين بكر وتغلب واشترط إن أي رجل وجد قتيلا في دار قوم فهم ضامنون لدمه، وإن وجد بين محلتين قيس ما بينهما، فينظر أقربهما إليه، فتضمن ذلك القتيل. وأخذ من الفريقين رهنا بأحداثهم، فمتى التوى أحد منهم بحق صاحبه أقاد من الرهن.
وفي عهد هذا الملك وقع "يوم طخفة" بحسب رواية بعض الأخباريين.
ويذكر هؤلاء أنه وقع بسبب "الردافة" وقيل: "الرفادة". فقد كانت ردافة ملوك الحيرة في "بني يربوع"، وكانت لعتاب بن هرمي بن رياح بن يربوع في عهد "المنذر بن ماء السماء". فلما توفي، صارت إلى ابنه "قيس ابن عتاب" "عوف بن عتاب الرياحي" بحكم الوارثة، وكان حديث السن، فأشار "حاجب بن زرارة" على الملك إن يجعلها لرجل كهل له سن وعقل، وأشار عليه باختيار " الحارث بن بيبة المجاشعي" "الحارث بن مرط بن سفيان ابن مجاشع" ولما فاتح الملك "بني يربوع" برأيه هذا: غضبوا وأبوا، وأصر الملك على رأيه، والا حاربهم، فأبوا واستعدوا للقتال، وساروا إلى موضع "طخفة" وتحصنوا به، فأرسل المنذر في أثرهم جيشا كبيرا من افناء الناس، عليه حسان أخوه وقابوس ابنه وبعث معهم الصنائع والوضائع، اشتبك مع "بني يربوع" هذا المكان،وصبر بنو يربوع وثبتوا، ثم أغاروا على جيش المنذر، فانهزم ووقع القتل فيه، وانهزم قابوس ومن معه،وضرب طارق أبو عميرة "طارق ابن عميرة" فرس قابوس. فعقره وأسره،وأراد أن يجز ناصيته، فغال: إن الملوك لا تجز نواصيها، وأسر حسانا بشر بن عمرو بن جوين، فعاد المنهزمون إلى المنذر، وكان المنذر قد احتبس "شهاب بن عبد "قيس" بن كياس اليربوعي" عنده. فلما رأى سوء العاقبة، استدعاه، فقال له: "يا شهاب، أدرك ابني وأخي، فان أدركتهما حيين، فلبنى يربوع حكمهم، وأرد عليهم ردافتهم، وأترك لهم من قتلوا وما غنموا، وأعطيهم ألفي بعير"، فذهب إلى قومه وأعادهما، ووفى الملك بما قال. ونجد للاحوص وللفرزدق ولأم موسى الكلابية

(1/1532)

admin
12-27-2010, 01:25 AM
شعرا في هذا اليوم.
وفي عهد المنذر، كان يوم "أوارة الأول" على قول أهل الأخبار. وسببه أن تغلب لما أخرجت "سلمه بن الحارث" عنها، التجأ إلى "بكر بن وائل" ولما بلغ بكرا أذعنت له تغلب ودانت لحكمه، وقالت له: "لا يملكنا غيرك" فأرسل اليهم "المنذر" يدعوهم إلى طاعته، فلم بجيبوه، فحلف المنذر ليسيرن اليهم فان ظفر بهم ذبحهم على قلة جبل أوارة حتى يبلغ الدم الحضيض، وسار اليهم بمجموعه ليبر بقسمه، والتقى بهم بأوارة، فهزمت بكر، وأسر "يزيد ابن شرحبيل الكندي"، فأمر المنذر بقتله فقتل، وقتل خلق كثير من بكر، وأمر المنذر بذبح الأسرى الرجال على قلة جبل أوارة، وباحراق النساء، والى ذلك أشار الأعشى بقوله.: سبايا بني شيبان يوم أوارة على النار إذ تجلى به فتياتها
وختم عام "554م" هذا النزاع العنيف الذي أتعب الحارث والمنذر فاستراح الجانبان، ختم بسقوط المنذر بن النعمان "مونذر بر نعمن" "ملك العرب" صريعا بيد خصمه الحارث بن جبلة بعيدا عن عاصمة ملكه، ففي منطقة قنسرين على روايات المؤرخين السريان،، ففي السنة السابعة والعشرين من حكم القيصر "يوسطنيانوس" "جستنيان" "Justinianus" هاجم المنذر منطقة "Rhomaye" التابعة لحكم الروم، فنازله الحارث بن جبلة، وتغلب عليه، وقتله عند عين "عودايا" "Wdaja" في منطقة قنسرين. وقد سقط في هذه المعركة أحد أبناء الحارث، فدفنه أبوه فى قلعة هذا الموضع.
و "عودايا"، هو "العذية" على رأي موسل، وهو من مواضع منطقة "بالميرينا" "Palmyrena"، أي منطقة تدمر، ومعظم هذه المنطقة هي من أعمال قنسرين.
وقد فهم "أوليري" من رواية للمؤرخ "ثيوفانس" ان المنذر كان حيا حتى سنة "562م"، وهي السنة التي عقد فيها الصلح بين الروم والفرس، وفيها توفي.

(1/1533)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذكر "هارتمن" "Hartmann" إن المنذر هذا حارب في صفوف الرومان في أيام القيصر "طيباريوس الثاني" "Tiberius II"، غير انه خانهم وغدر بهم في احدى المعارك التي قادها "موريقيوس" "Mauricius"، فلما صار "موريقيوس" قيصرا قبض عليه، ونفى معه زوجته وبعض أبنائه إلى جزيرة صقلية. ولم يقل هذا القول أحد، وانما قصد المورد الذي استند إليه هارتمن وهو "ايوا كريوس" "Evagrius" منذرا آخر غير المنذر الذي نتحدث عنه.
وسبق لأوليري إن ظن هذا الظن، فذكر إن المنذر حدس إن في الفرس ضعفا، وذلك بسبب انقطاع الحروب مدة بين الفرس والروم، فانضم إلى الروم وصار حليفا لهم، وحارب معهم. فلما تبين لديه الأمر، عاد إلى حلفائه القدامى الفرس. فلما وقع في احدى المعارك أسيرا في أيدي الروم، نفاه القيصر موريقيوس سنة "580م" ونفى معه زوجته وبعض أولاده إلى صقلية. ومصدر وهمهما هو اعتمادهما على رواية للمؤرخين "ايواكريوس" "Evagrius" و "نيقيفورس كالستوس" "Nicephorus Callistus" من غير أن يمحصاها. فالمنذر المقصود في هذه الرواية ليس هذا المنذر،. وانما هو المنذر بن الحارث بن جبلة الذي نفي بعد أن اتهمه الروم باتصاله من طرف خفي بالفرس، وانه كان السبب في اخفاق الحملة التي قادها "موريقيوس" يوم كان قائدا، فلما صار قيصرا، انتقم منه بالنفي.

(1/1534)


--------------------------------------------------------------------------------

أما الذي عليه أكثر الأخباريين فهو: إن قتل المنذر كان في عين اباغ في المعركة التي عرفت ب "يوم عين أباع". وعين أباغ بحسب وصف بعض الأخباريين واد من أودية العراق وراء الأنبار على الفرات بين الكوفة والرقة، لا يبعد كثيرا عن الحيرة. وسبب وقوع هذه المعركة على ما يقولونه، هو أن المنذر بن ماء السماء سار من الحيرة في معد كلها حتى نزل بعين أباغ، وأرسل إلى الحارث الأعرج بن جبلة: إما أن تعطيني الفدية فأنصرف عنك بجنودي، وإما ان تأذن بحرب. فأرسل إليه الحارث: أنظرنا ننظر في أمرنا. فجمع عساكره وسار نحو المنذر،فلما التقى به في عين أباغ، اقتتلا، فقتل المنذر، وقتل فيها ابنان للحارث. فسار الحارث بولديه القتيلين إلى الحيرة، فأنهبها وأحرقها ودفن ابنيه بها ثم عاد.
ويذكر أهل الأخبار أن "عين أباغ" كانت منازل "إياد"، وان "أباغ" رجل من العمالقة نزل ذلك المكان فنسب إليه. وقد اختلفت الأقوال في "عين اباغ" فمنهم من جعلها موضعا بين الكوفة والرقة، ومنهم من جعلها عين ماء، ومنهم من ينكر أنها عين ماء، ويرى انها واد وراء الأنبار على طريق الفرات إلى الشام. ومنهم من يجعلها في "ذات الخيار".
ويظهر من تعليقات ابن الأثير على هذه المعركة إن من كان يرى أن اسم الملك الغساني الذي انتصر في هذا اليوم هو أبو شمر عمرو بن جبلة بن الحارث ابن حجر بن النعمان بن الحارث بن الأيهم بن الحارث بن مارية الغساني، أو هو رجل من الأزد تغلب على غيرهما. وقد رجح هو رواية من قال إنه الحارث الأعرج بن جبلة، وهي رواية اكثرية الأخباريبن. ويؤيد هذه الرواية روايات المؤرخين السريان الذين سموا اسم ملك عرب الشام، فدعوه "حرث برجابالا" أي الحارث بن جبلة "حارث بن جبل". ويلاحظ أن ابن العبري استعمل جملة "ملك العرب" للمنذر. كما استعملها غيره من المؤرخين.

(1/1535)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرى "ابن الأثير": أن "الحارث" لما بلغ "عين أباغ" ارسل إلى "المنذر" يقول: إنا شيخان هنا، فلا تهلك جنودي وجنودك، ولكن ليخرج رجل من ولدك، وليخرج رجل من ولدي، فمن قتل خرج عوضه. فإذا فني أولادك وأولادي خرجت أنا اليك، ومن قتل صاحبه ذهب بالملك. فتعاهدا على ذلك. فعهد المنذر إلى رجل من في شجعانه، فأمره إن يخرج، ويظهر أنه ابن المنذر. فلما خرج، اخرج إليه الحارث ابنه "ابا بكر". فلما رآه، رجع إلى أبيه، وقال: إن هذا ليس بابن المنذر، انما هو عبده أو بعض شجعانه. فقال له الحارث:يا بني، أجزعت من الموت ? فعاد إليه وقاتله، فقتله الفارس، فألقى رأسه بين يدي المنذر. وعاد فأمر الحارث ابنه الاخر بقتاله والطلب بثأر أخيه، فخرج إليه، فشد عليه الفارس وقتله. فلما رأى ذلك "شمر بن عمرو الحنفي"، وكانت أمه غسانية، وهو مع المنذر، غضب، وقال للمنذر. أيها الملك، إن الغدر ليس من شيم الملوك ولا الكرام، وقد غدرت بابن عمك. فغضب المنذر. وهرب "شمر" إلى الحارث فأخبره. فلما كان الغد، أرسل الحارث اصحابه، وحرضهم، وكانوا اربعين الفا، واصطفوا للقتال، فاقتتلوا قتالا شديدا، وقتل المنذر وهزمت جيوشه. فأمر الحارث بابنيه القتيلين فحملا على بعير، وسار إلى الحيرة فانتهبها وأحرقها، ودفن ابنيه بها، وبني الغريين عليهما في قول بعضهم. والمعروف إن الذي بنى الغريين هو النعمان بن المنذر فوق قبري نديميه.

(1/1536)


--------------------------------------------------------------------------------

واشار حمزة ايضا إلى اختلاف الرواة في القاتل والمقتول في يوم عين اباغ، فقال: وقتله الحارث الأعرج، وهو الحارث الوهاب الجفني يوم عين اباغ. وهو اليوم الذي قيل فيه ما يوم حليمة بسر. وفي كتاب المعارف: أن الذي قتله الحارث الأعرج في يوم حليمة هو المنذر بن امرئ القيس. وكان يوم عين اباغ بعد يوم حليمة. والمقتول في يوم عين اباغ المنذر بن المنذر. وكان خرج يطلب بدم ابيه. فقتله الحارث الأعرج ايضا. وقد سمعنا إن قاتله مرة بن كلثوم أخو عمرو بن كلثوم التغلبي.
وقد ذكر "ابن قتيبة" في "كتاب المعارف" إن الحارث بن ابي شمر الغساني، وهو الحارث الأعرج، هو الذي قتل المنذر بن امرئ القيس، قتله ب "الخيار". ويظهر من خبره هذا إن قتل المنذر انما كان ب "الخيار"، لا في "يوم حليمة"، وأن "الخيار" أو "الحيار" موضع اقرب ما يكون إلى الحيرة منه إلى بلاد الشام.
وهناك رواية أخرى عن مقل المنذر بن ماء السماء نجدها مدونة في الأغاني، لم تشر الى عين اباغ ولا إلى يوم حليمة، أو ذات الخيار، خلاصتها، إن شمرا ابن عمرو الحنفي احد بني سحيم هو الذي قتل المنذر بن ماء السماء، قتله غيلة لما حارب الحارث بن جبلة الغساني، فبعث إلى المنذر بمئة غلام نحت لواء شمر هذا، يسأله الامان على إن يخرج له عن ملكه، ويكون له من قبله. فركن المنذر إلى ذلك، وأقام الغلمان معه، فاغتاله شمر بن عمرو الحنفي، فقتله غيلة. وتفرق معه من كان مع المنذر، وانتهبوا عسكره. وذكر "ابن دريد" إن قاتل المنذر الاكبر، وهو جد النعمان بن المنذر، يوم عين اباغ، هو "شمر بن يزيد". وهو من "بني حنيفة"، وكان في جند الملك الغساني.

(1/1537)


--------------------------------------------------------------------------------

وتحدث "ابن خلدون" عن "يوم عين اباغ"، فقال: "كان جبلة ين النعمان صاحب يوم عين اباغ، يوم كانت الهزيمة له على المنذر بن ماء السماء. وقتل المنذر في ذلك اليوم ". ولكننا نجده يقول في موضع آخر: "عمرو بن عمرو بن عبد الله بن عبد العزى ؛ قاتل المنذر بن ماء السماء في يوم عين اباغ". وذكر إن "عمرا" هذا هو ابن عم "علي بن ثمامة بن عمر بن عبد العزي بن سحيم بن مرة" وهو الذي توجه كسرى. وقد ذكر إن "جبلة بن النعمان"، صاحب يوم عين اباغ، كان منزله بصفين..
وفي رواية اخرى إن "حليمة" كانت قد اخرجت خلوقا، فخلقت به الفتيان.
ولما خلقت احدهم، واسمه "لبيد بن عمرو"، دنا منها فقبلها، فلطمته وبكت، فأمسكها ابوها، ثم ذهب من ذهب وفيهم "شمر بن عمرو الحنفي" وكانت امه من غسان، الى "المنذر" متظاهرين انهم جاؤوا إليه ليخبروه إن الحارث يدين للمنذر، وهو يريد إن يعطيه حاجته، فتباشر اهل عسكر المنذر، وغفلوا بعض غفلة، فحمل الغلمان على المنذر وقتلوه، فقيل: "ليس يوم حليمة بسر"، فذهب مثلا.
وذكر "ابن قتيبة" أن "الحارث بن ابي شمر الغساني، وهو الأعرج وجه إلى المنذر بن ماء السماء مئة فارس، فيهم الشاعر "لبيد بن رييعة"، وأمره عليهم، فصاروا إلى عسكر المنذر، وأظهروا انهم أتوه داخلين في طاعته، فلما تمكنوا منه قتلوه وركبوا خيلهم فقتل اكثرهم ونجا لبيد، حتى اتى ملك غسان، فأخبره الخبر، فحمل الغسانيون على عسكر المنذر فهزموهم. وهو يوم حليمة. وكانت حليمة بنت ملك غسان. وكانت طيبت هؤلاء الفتيان حين توجهوا وألبستهم الأكفان والدروع وبرانس الأضريج".

(1/1538)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد جعل بعض الاخباريين عين اباغ "ذات الخيار"، ويفيد قولهم هذا إن عين اباغ هو موضع يقع في منطقة تسمى ذات الخيار "الحيار"، ويرى "نولدكه" إن موضع "الحياران" الوارد في معلقة "الحارث" هو ايضا هذا المكان. وللتثبت من هذا القول، لا بد من الوقوف على موضع ذات الخيار "الحيار" و "الحياران". وقد ذكر ياقوت الحموي إن الحيار صقع من برية قنسرين، كان الوليد بن عبد الملك اقطعه القعقاع بن خليد بينه وبين حلب يومان. وهذا الوصف لموقع الحيار ينطبق على ما رواه المؤرخون السريان عن موضع مقتل المنذر كما يوافق رأي من جعل عين اباغ ذات الخيار.
وممن ذهب هذا المذهب، "ابو الفداء"، فقال في حديثه عن "يوم عين اباغ". "ومن ايام العرب يوم عين اباغ، وكان بين غسان ولخم، وكان قائد غسان الحارث الذي طلب أدراع امرئ القيس، وقيل: غيره. وكان قائد لخم المنذر بن ماء السماء. وقتل المنذر في هذا اليوم، وانهزمت لخم، وتبعهم غسان إلى الحيرة، وأكثروا بين هم القتل. وعين اباغ في موضع يقال له. ذات الخيار".
وذكر ابن عبد ربه المتوفي سنة 328ه إن القتيل في يوم عين اباغ هو المنذر ابن ماء المسماء، وهو الذي تولى ملك الحيرة بعد قابوس وقبل النعمان بن المنذر، الذي قربه "عدي بن زيد العبادي" إلى كسرى. واما القاتل، فهو الحارث الغساني. ومرد امثال هذا الاختلاف في اسماء الملوك في الروايات، إلى تشابه الاسماء اذ يصعب على الرواة، وهم يعتمدون في رواياتهم على الحفظ، إن يميزوا بعد مدة بين امثال هذه الاسماء، فيحدث لهم مثل هذا الاضطراب.
ونجد هذا الرأي عند "النويري" كذلك، اذ جعله ايضا والد "النعمان" الملك الاخير من ملوك الحيرة، والذي قتله كسرى كما سنرى فيما بعد. والنويري هو عيال على "ابن عبدربه" في كثير من الاخبار، ولا سيما اخبار الايام.

(1/1539)


--------------------------------------------------------------------------------

ويتبين من غربلة الأخبار الواردة عن "يوم اباغ"، "يوم عين أباغ" إن من الأخباريين من يرى إن يوم عين اباغ ويوم حليمة، هما يوم واحد، ولا فرق بينهما، وقالوا انما عرف ذلك اليوم ب "يوم حليمة"، لبروز اسم "حليمة" فيه، وهي بنت ملك غسان، تخلق المحاربين وتحثهم على القتال. وان من الأخباريين من جعل "يوم حليمة" يوما آخر مغايرا ليوم عين أباغ، ثم اختلفوا فيه، فمنهم من جعله قبل يوم عين اباغ، ومنهم من جعله بعده. وقد ذكروا انه كان يوما عظيما، اشترك فيه عدد كبير من المقاتلين، " وعظم الغبار حتى قيل: إن الشمس قد أنحجبت وظهرت الكواكب المتباعده من مطلع الشمس".
وهذا مما يدل على اشتراك عدد كبير من المقاتلين فيه. وممن ذهب إلى إن "يوم حليمة" هو يوم آخر "ابن الأثير"، وقد جعله بعد "يوم عين أباغ،. وقال: انه وقع في موضع يعرف ب "مرج حليمة"، وسببه إن المنذر لما قتل أراد ابنه "الأسود" الأخذ بالثأر، فسار في جيش لجب، والتقى بجيش "الحارث" في "مرج حليمة". ولما طالت الحرب، أمر الحارث ابنته "هند" بأن تخلق فتيان غسان، ونادى فتيان غسان: من قتل ملك الحيرة زوجته ابنتي هند. فقال لبيد بن عمرو الغساني لأبيه: يا أبي أنا قاتل ملك الحيرة أو مقتول، ثم ركب فرسه، وشد على الأسود، فقتله، وانهزمت لخم ثانية، وقتلوا في كل وجه. وانصرفت غسان بأحسن ظفر في تفاصيل أخرى لا مجال لشرحها هنا.
فتبين من خبر "ابن الأثير" هذا إن الموضع الذي وقع فيه القتال اسمه "مرج حليمة"، وان اسم ابنة الحارث هو "هند" لا حليمة، وان المقتول فيه هو "الأسود" لا المنذر، وان هذا اليوم قد وقع بعد "يوم عين أباغ".

(1/1540)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي رواية إن الغساسنة تمكنوا في المعركة التي سقط فيها المنذر من أسر أحد أبنائه وهو امرو القيس، وبقي في أسرهم إلى أن أغارت بكر بن وائل على بعض بوادي الشام، فقتلوا ملكا من ملوك غسان، واستنقذوا امرأ القيس بن المنذر، وأخذ عمرو بن هند بنتا لذلك الملك يقال لها ميسون. وقد ذهب "كوسان دي برسفال" إلى أن هذه الغارة كانت في بقيادة أحد أبناء المنذر القتيل، وانها كانت غارة انتقامية وقعت بعد المعركة التي سقط فيها ابن ماء السماء. وقد أشار الحارث بن حلزة إلى ذلك في شعره مفتخرا: وفككنا غل امرئ القيس عنه بعد ما طال حبسه والعناء
وقد زعم الشراح أن امرأ القيس هذا كان معروفا بماء السماء أما الملك الغساني القتيل، فلم يشيروا إلى اسمه، وأشك في الذي رواه الأخباريون من أنه كان ملكا. وأرى احتمال كونه أحد أبناء الملوك. واستعمال جملة "رب غسان"، هي من باب التفخيم للعمل الذي قامت به بكر.
وذكر بعض الرواة أن حجرا الكندي، وهو في نظرهم حجر بن أم قطام، غزا امرأ القيس هذا، وكانت مع حجر جموع كثرة من كندة، غير أن بكرا التي كانت مع امرئ القيس قاتلته، وقتلت جنوده.
وذهب بعض الأخباريين إلى أن مقتل المنذر بن ماء السماء هو في يوم حليمة، قتله الحارث بن ابي شمر الغساني. وسبب تسمية ذلك اليوم بيوم حليمة أن حليمة ابنة الحارث كانت تخلق قومها وتحرضهم على القتال في ذلك اليوم. وذهب آخرون إلى أنه موضع.
وفي رواية تنسب إلى ابن الأعرابي أن بني تغلب حاربوا المنذر بن ماء السماء، ولكنهم غلبوا على أمرهم، فلحقوا بالشام خوفا منه. وبقوا هناك، فمر بهم عمرو بن أبي حجر الغساني في رواية، أو الحارث بن أبي شمر الغساني في رواية أخرى، فلم يستقبلوه، فانزعج من ذلك، وتوعدهم، وأن عمرو بن كلثوم نهاه عن ذلك.

(1/1541)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد روى بعض أهل الأخبار أبياتا من الشعر، زعموا أن ابنة المنذر قالتها في رثاء والدها، ففي جملتها: وقالوا: فارسا منكم قتلنا، فقلنا: الرمح يكلف بالكريم
بعين أباغ قاسمنا المنايا فكان قسيمها خير القسيم
وينسب إلى المنذر بناء الغريين في بعض الروايات، وكان السبب في ذلك كما يقول الأخباريون أنه كان له نديمان من بني أسد يقال لأحدهما خالد بن نضلة "مضلل" "خالد بن المضلل" والآخر عمرو بن مسعود "عمرو بن مسعود الأسدي"، فثملا، فراجعا الملك ليلة في بعض كلامه، فأمر وهو سكران فحفر لهما حفيرتان فدفنا حيين. فلما أصبح استدعاهما، فأخبر بالذي أمضاه فيهما، فغمه ذلك، وقصد حفرتهما، وأمر ببناء طربالين عليهما، وهما صومعتان. فقال المنذر: ما أنا بملك إن خالف الناس أمري، لا يمر أحد من وفود العرب إلا بينهما، وجعل لهما في السنة يوم بؤس ويوم نعيم، يذبح في يوم بؤسه كل من يلقاه ويغري بدمه الطربالين، ويحسن في نعيمه إلى كل من يلقى من الناس ويحملهم ويخلع عليهم. وقد ظل المنذر على عادته هذه إلى أن حدث له حادث، أظهر فيه رجل ظهر يوم بؤسه وفاء عظيما، فعفا عنه، وترك تلك العادة وتنصر. وكان الرجل الذي بر بوعده فحضر بعد عام ليأخذه سيف الجلاد نصرانيا،ولذلك تنصر المنذر. وذكروا أنه لم يكن يتورع من ذبح أعز الناس عليه اذا ظهر له يوم بؤسه. فلما ظهر الشاعر الشهير **** بن الأبرص الأسدي، لم ينجه شعره من مصير ذلك اليوم. وذكروا أن الرجل كاد يسلمه سوء طالعه إلى يد الجلاد، هو حنظلة الطائي، وأنه ترهب بعد هذا وابتنى ديرا له هو الدير المعروف بدير حنظلة. وأما الذي كفل ذلك الرجل حتى يعود بعد عام، فرجل من أشراف القوم هو شريك بن عمرو. وذكروا أيضا أن حنظلة هذا هو عم أياس بن قبيصة الطائي ملك الحيرة.

(1/1542)


--------------------------------------------------------------------------------

وورد في بعضن الروايات إن "المنذر بن ماء السماء"، خرج في يوم بؤسه، وكان يوما يركب فيه فلا يلقى احدا إلا قتله، فلقي في ذلك اليوم "جابر بن رألان" أحد "بني ثعل" ومعه صاحبان، فأخذتهم الخيل بالثوبة، فأتى المنذر فقال: اقترعوا، فأيكم قرع، خليت سبيله، وقلت الباقين. فاقرعوا، فقرعهم جابر، فخلى سبيله، وقتل صاحبيه، فلما رآهما يقادان ليقتلا، فال عز بز. ورووا في ذلك شعرأ نسبوه إلى جابر.
ومن الأخباريين من نسب بناء الغريين إلى النعمان الثالث، ومنهم من نسبهما إلى جذيمة، وذهب آخرون إلى نسبة الغري إلى الحارث الغساني. ويرينا هذا الاختلاف مبلغ جهلهم بأصل الغريين.
وقد ذ كر "النويرى" إن الغريين أسطوانتان كانتا بظاهر الكوفة، بناهما "النعمان بن المنذر بن ماء السماء" على جاريتين كانتا قينتين تغنيان بين يديه، فماتتا، فأمر بدفنها، وبنى عليهما الغريين. وذكر أيضا أن "المنذرغزا الحارث ابن أبي شمر الغساني، وكان بينهما وقعة عين أباغ،وهي من أيام العرب المشهورة، فقتل للحارث ولدان، وقتل المنذر، وانهزمت جيوشه، فاخذ الحارث ولديه وجعلهما عدلين على بعير ? وجعل المنذر فوقهما،وقال: ما العلاوة بدون العدلين ? فذهبت مثلا، ثم رحل إلى الحيرة، فانتهبها وحرقها، ودفن ابنيه بها، وبنى الغريين عليهما ". وقد ذكر إن "المنصور" أمر بهدم أحدهما، لكنز توهم انه تحتهما، فلم يجد شيئا.
وهذا الذي يرويه أهل الأخبار عن سبب بناء الغريين، هو من القصص الذي ألفناه، وعودنا أصحاب الأخبار سماعه، فلا قيمة تأريخية له في نظرنا، وان أكد لنا الأخباريون أو حاولوا التأكيد بأنه حق، وانه أمر مسلم به وشائع معروف، وإن ****ا لقي حتفه لظهوره يوم بؤس المنذر أو النعمان. وقد يكون ذلك مسلما به عندهم، غير اننا لسنا من السذاجة بحيث نصدق بأمثال هذا القصص لمجرد انه شائع معروف، فليس كل شائع معروف أمرا صحيحا يجب الأخذ به.

(1/1543)


--------------------------------------------------------------------------------

ونحن لا نريد أن ننكر وجود الغريين، فليس إلى نكرانهما أو نكران "الغري" من سبيل. ولكننا كما قلت ننكر هذا القصص الذي يرويه الأخباريون عن هذين الغريين، لأنه قصص نشأ كما نشأ أمثاله عن جهل الناس أو أهل الأخبار بأصول الأشياء، فلما احتاجوا إلى معرفة الأسباب، أوجدت لهم مواهبهم هذا القصص الطريف، وهو أمر لم ينفرد به زمان دون زمان، فما زال الناس يبتدعون قصصا ثم يروونه، ويتناقلونه على انه شائع صحيح، مع إن تأريخ ابتداعه لا يبعد عن زماننا بكثير، وأهل الحي بهذا القصص عارفون.
أما إن الغريين حفرتان دفن في كل حفرة منهما رجل حي،لأنه عربد وسكر، وتحدث بكلام غاظ الملك، وما اشبه ذلك من قصص، فأمر لا نستطيع أن نقف منه موقفا ايجابيا، ولا نسلم به. ففيه شيء من أثر الصنعة والتكلف. ولكننا نستطيع أن نقول إن الغري أو الغريين من المواضع التي كانت لها صلة بعبادة الأوثان،.ومن الجائز انهما كانا مخصصين لتقديم الذبائح والقرابين في المواسم الدينية وفي الأعياد. وقد عرفت مثل هذه العادات عند شعوب أخرى، فكانت تهرق دماء الذبائح عند الأنصاب ثم تطلى بها. وما الغريان الا نصبان من هذه الأنصاب. على إن الأخباريين أنفسهم قد ذكروا إن الغري نصب كان يذبح عليه العتائر، كما ذكروا إن الغريين كانا طربالين، والطربال صومعة على رأي، وشيء مرتفع عند الأكثرين. فلا يستبعد أن يكون الغريان موضعين من مواضع ذبح القرابين للاصنام.
ويذكر أهل الأخبار أن "شريك بن مطر"، وهو جد "معن بن زايدة"، كان من أكبر الناس عند المنذر. وكان له ولد اسمه "الحارث" ويلقب ب "الحوفزان" وهو من بني "شيبان".
الفصل الثامن والثلاثون
عمرو بن هند

(1/1544)


--------------------------------------------------------------------------------

والذي خلف المنذر على ملك الحيرة بعد وفاته،هو ابنه عمرو بن هند المعروف ب "مضرط الحجارة"، وهو لقب يشير بالطبع إلى قوة ابن هند وشدة بأسة، وقد عرف عمرو بأمه "هند بنت عمرو بن حجر الكندي آكل المرار"، فهو كندي من جهة أمه، وعرف أيضا ب "محرق الثاني" على رواية حمزة، وب "المحرق" في رواية لغيره. وقد كان له من الأشقاء من أمه: قابوس و المنذر.
ويرى بعض الباحثين احتمال كون "هند" من "آل غسان"، واليها ينسب دير هند. ويرى أن حكم ابنها عمرو كان فيما بين السنة "554" والسنة "569م".
وزعم ابن الأثير أن الذي تولى الملك بعد المنذر بن ماء السماء هو ابنه المنذر ابن المنذر بن ماء السماء المعروف ب "الأسود"، وأنه لما استقر الأسود وثبت قدمه جمع عساكره وسار إلى الحارث الأعرج طالبا بثأر أبيه، ونزل برج حليمة. ووصل الحارث إلى هذا الموضع كذلك، واقتتل الطرفان أيامها ولم ينتهيا إلى نتيجة. فلما رأى الحارث طول الوقت، نادى في فتيان غسان: "يا فتيان غسان. من قتل ملك الحيرة زوجته ابنتي هندا". فلما سمع ذلك لبيد بن عمرو الغساني، شد على الأسود فقتله، وانهزم أصحابه، فنزل لبيد واحتز رأس الأسود،واقبل به إلى الحارث، فألقى الرأس بين يديه، فوافق الحارث على اعطاء لبيد ابنته، ثم إن لبيدا انصرف ليواسي أصحابه، فرأى أخا للأسود يقاتل الناس، فتقدم لبيد فقاتل فقتل، ولم يقتل في هذه الحرب بعد تلك الهزيمة غيره. وانهزمت لخم ثانية، وكثر فيها القتل. وذكر الأخباريون أن هذا اليوم هو من أيام العرب الكبرى إذ سار الأسود بجمع من عنده من عرب العراق، وأقبل الحارث بجميع من كان عنده من عرب الشام. فجعلت هذه الرواية بعد المنذر ابنه المنذر الأسود وجعلته صاحب مرج حليمة.

(1/1545)


--------------------------------------------------------------------------------

وتذكر رواية إن جيش الحارث الأعرج بن جبلة أسر كثيرا ممن كان مع المنذر من العرب، وفيهم مئة من تميم، فيهم شأس بن عبدة. ولما سمع أخوه علقمة، وفد الى الحارث مستشفعا وأنشده قصيدة مدح طويلة، فمن عليه،وأطلق له الأسرى من تميم، وكساه وحباه.
وهناك رواية أخرى عن مقتل المنذر بن المنذر، خلاصتها: إن الحارث بن أبي شمر جبلة بن الحارث الأعرج خطب إلى المنذر ابنته هندا. وقصد انقطاع الحرب بين لخم وغسان فوافق المنذر على ذلك. غير إن هندا أبت عليه ذلك، فحقد الحارث على آل لخم. فلما خرج المنذر غازيا، بعث الحارث جيشا إلى الحيرة، فانتهبها وأحرقها، فانصرف المنذر عن غزاته وسار يريد غسان. وبلغ الخبر الحارث، فجمع أصحابه وقومه، فسار بهم، فتوافقوا في عين اباغ. فاصطفوا للقتال، واقتتلوا قتالا شديدا، وحملت ميمنة المنذر على ميسرة الحارث وفيها ابنه، فقتلوه وانهزمت الميسرة. وحملت ميمنة الحارث على ميسرة المنذر، فانهزم من بها وقتل مقدمها "فروة بن مسعود بن عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل ابن شيبان"، وحملت غسان من القلب على المنذر فقتلوه، وانهزم أصحابه في كل وجه، وقتل منهم خلق كثير، منهم ناس ش بني تميم، ومن بني حنظلة، ووقع عدد في الأسر، ومن هؤلاء الأسرى: "شأس بن عبدة" شقيق علقمة ابن عبدة من شعراء الجاهلية المعروفين. فالقتيل في هذه المعركة وعلى هذه الرواية اذن هو المنذر بن المنذر بن ماء السماء، لا المنذر بن ماء السماء.

(1/1546)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد تشكى ابن الأثير كما تشكى قبله حمزة من اختلاف الأخباريين في الروايات، ومن تضارب الروايات بعضها ببعض، ومن تقديم الأيام وتأخيرها، وفي الشخص المقتول، فذكر إن من الأخباريين من يقول إن يوم حليمة هو اليوم الذي قتل فيه المنذر بن ماء السماء، ويوم أباغ هو اليوم الذي قتل فيه المنذر بن المنذر، ومنهم من يقول بضد ذلك، ومنهم من يجعل اليومين واحدا، فيقول لم يقتل الا المنذر بن ماء السماء، وأما ابنه المنذر فمات بالحيرة. وقيل إن المقتول من ملوك الحيرة غيرهما. وقد رجح ابن الأثير رواية القائلين إن المقتول هو المنذر بن ماء السماء، ورجح أيضا رواية من يقول إن المنذر بن المنذر لم يقتل، وانما مات حتف أنفه.
ويذكر أن "علقمة بن عبدة" الشاعر الجاهلي، ذهب إلى الحارث، فمدحه بقصيدة شهيرة، رجاء استعطاف الملك، ليمن عليه بالعفو عن أخيه، فيفكه من أسره، فاستحسن الملك شعره وفرح به، ومن عليه بفك أسره، وبفك أسر جميع من وقع من قومه في الأسر. فلما عادوا إلى ديارهم، أعطوا شأسا اموالا وأكسية وإبلا، فحصل من ذلك له مال كثير.
وفي يوم "حليمة" ورد المثل. "ما يوم حليمة بسر".
أعود بعد الكلام على "المنذر بن المنذر" إلى الحديث عن عمرو بن هند شقيقه.، فأقول: يظهر من هذه الروايات المذكورة عنه، ومن هذا الشعر الوارد اسمه فيه، أنه كان رجلا سريع الانفعال، يتألم بسرعة مما يقال له، ولذلك حدثت له مشكلات عديدة لم تكن لتحدث لولا هذا الحس المرهف عنده، الذي جعله عرضة لهجو الشعراء، والشعراء ألسنة الناس وأبواق الدعاية في ذلك العهد، وقصته مع طرفة بن العبد والمتلمس معروفة مشهورة.

(1/1547)

admin
12-27-2010, 01:27 AM
ويصفه أهل الأخبار بالشدة والصرامة، بل جعلوه شريرا، وزعموا أنه كان له يوم بؤس ويوم نعيم، فيوم يركب في صيده يقتل أول من لقي، ويوم يقف الناس ببابه فإن اشتهى حديث رجل أذن له، فكان هذا دهره. وقالوا: إنه كان لا يبتسم ولا يضحك. وكانت العرب تسميه "مضرط الحجارة" لشدة ملكه، وكانوا يهابونه هيبة شديدة، وكان عاتيا جبارا ويسمى محرقا أيضا، لأنه حرق بني تميم، وقيل: بل حرق نخل اليمامة.
وقد وصف الشاعر "الرهاب العجلي" الملك "عمرو بن هند" بأنه ملك "يعتدي ويجور" وذلك في معرض وصفه للسدير.
وقد أصبحت الحيرة موئل الشعراء في أيام عمرو ين هند، فلأكثر مشاهير الشعراء الجاهليين خبر مع هذا الملك، كانوا يحضرون إليه من أماكن نائية لانشاده شعرهم ولنيل جوائزه، ولم تكن مجالسه لتخلو من منافسة الشعراء بعضهم لبعض، ومن نقد بعضهم شعر بعض، كالذي حدث بين طرفة والمسيب بن علس على ما يذكره الأخباريون. وقد كانت لمثل هذه المنافسات أهمية كبيرة في مجتمع ذلك اليوم، لما كان لها من أثر في نفوس القبائل، وطالما أدت إلى غضب القبائل وغضب الملك نفسه، وغضب الشعراء على منافسيهم وعلى الملك، لاعتقادهم بتحزبه لأحد الخصمين.
وذكر بعض الرواة أن سبب هجاء "طرفة" عمرو بن هند إن عمرو بن هند كان يتباطأ في مجلسه في استقبال الناس. فإذا جلس لشرابه، أخذ الناس بالوقوف على بابه حتى ينتهي من مجلس أنسه، فيسمح عندئذ لذوي الحاجات بالدخول عليه، كما كان يصرف وقته بالتلهي بالصيد والقنص، مما جعل وقته يضيق عن استقبال الناس، فصاروا يتكالبون على بابه ليجدوا وقتا يدخلون فيه عليه، فاستاء طرفة من هذه المعاملة. وقال شعرا يهجوه فيه، كان في جملة ما جاء فيه.
فليت لنا مكان الملك عمرو رغوثا حول قبتنا تخور
لعمرك إن قابوس بن هند ليخلط ملكه نوك كثير
قسمت الدهر في زمن رخي كذاك الحكم يقصد أو يجور

(1/1548)
فبلغ الشعر "عمرو بن هند"، ابلغه إياه "عبد عمرو"، وكان من سادات الناس في زمانه، وكان زوج أخت "طرفة"، وقد هجاه "طرفة" أيضا. فلما أنشد "عمرو بن هند" هجاء طرفة له على سبيل المزاح والاستخفاف بشأنه، قال له "عبد عمرو": أبيت اللعن! ومما قال فيك أشد مما قال في فأنشده الأبيات. فقال عمرو بن هند: أو قد بلغ من امره إن يقول في مثل هذا الشعر. فكتب إلى رجل من عبد القيس بالبحرين، وهو المعلى ليقتله. فقال له بعض جلسائه: إنك إن قتلت طرفة، هجاك المتلمس وهو رجل من مجرب،وكان حليف طرفة، وكان من بني ضبيعة فأرسل عمرو الى طرفة والمتلمس فكتب لهما إلى عامله بالبحرين ليقتلهما، وأعطاهما هدية من عنده وحملهما، وقال: قد كتبت لكما بحباء، فأقبلا حتى نزلا الحيرة، وارتاب المتلمس بأمر الصحيفة واستقبال عمرو لهما، ففك ختمها وعرضها على غلام من أهل الحيرة، فقرأها، فاذا فيها أمر بقتله، فأخذ الصحيفة فقذفها في البحيرة وقال: وألقيتها بالثني من جنب "كافر" كذلك ألقي كل رأي مضلل
وأشار على طرفة بفك خاتم صحيفته أيضا ليقرأها له، ولكنه أبى، وذهب إلى صاحب البحرين، فوجد هناك نهايته في قصص منمق محبر يرويه أهل الأخبار.
ويذكر بعض أهل الأخبار إن قبر طرفة بهجر، وهو معروف هناك. وللشاعر "طرفة بن العبد" شعر يعاتب به "عمرو بن هند"، ويحرضه فيه على الطلب بحق أخيه "معبد"، الذي أغير على إبل له، وكانت في جوار "عمرو بن هند" فانتهبت. ويقول فيه: نحن في طاعتك، ومضر في طاعتك، فما بالنا أغر علينا، وكلنا ندين لك.
ولطرفة شعر في هجاء "قابوس" كذلك. ونرى بعض الأخباريين ينسبون إليه يومين: يوما يصيد فيه، ويوما يشرب فيه، فيقف الناس ببابه حتى يأذن لهم بالدخول إليه، ولذلك سئم منه طرفة فهاجاه وهجا عمرو بن هند شقيقه معه. وينسب بعض أهل الأخبار هذه القصة إلى عمرو بن هند.

(1/1549)


--------------------------------------------------------------------------------

ويتبين من حديث الأخباريين عن صحيفة المتلمس، ومن قصة نهاية طرفة في البحرين، إن البحرين كانت تابعة في ذلك العهد لملك الحيرة، وان حاكمها كان عاملا لعمرو بن هند. وقد ورد في رواية إن اسم عامل عمرو بن هند هو "أبو كرب ربيعة الحرث"، وهو من ذوي قرابة "طرفة" فلما علم بخبر "طرفة" لم يقتله، وكتب إلى "عمرو بن هند" انه لن يقتله، وقد اعتزل عمله. فعين عمرو عاملا آخر مكانه اسمه في بعض الروايات "عبد هند".
وتقول رواية أخرى إن قاتل طرفة هو "المكعبر" عامل البحرين، قتله بكتاب عمرو بن هند. وكان "المكعبر" عامل عمرو بن هند على عمان والبحرين على رواية هؤلاء الرواة. وتزعم رواية أخرى إن الذي قتله رجل من "الحواثر"
اسمه "التربيع بن حوثرة" "أبو ريشة" "أبو رائشة الحوثري" وكان، "عمرو اين هند" قد اختاره وعينه على البحرين: حين همت "بكر بن وائل" بعامل "عمرو بن هند". وتزعم رواية اخرى، إن قاتله هو "المعلي بن حنش العبدي" وان الذي تولى قتله بيده هو "معاوية بن مرة الأيفلي" من "حي طسم وجديس".
وفر المتلمس إلى بلاد الشام حيث الغساسنة أعداء المناذره، وصار يمدحهم ويهجو عمرو بن هند، واستقر ب "بصرى" إلى أن هلك. وقد خلف ولدا اسمه "عبد المنان". وهناك قصص عن كيفية عودته إلى زوجته، وعن وصوله اليها ساعة عقد قرانها لرجل جديد في كنيسة، لظن أهلها انه كان قد مات. وقد سخر "المتلمس" في أشعاره من "عمرو بن هند"، وأقذع في هجائه حتى قال فيه: ملك النهار فأنت الليل مومسةماء الرجال على فخذيك كالقرس ووصفه فقال: انه "أخنس الأنف"، وان أضراسه كالعدس، إلى غير ذلك من هجاء مر شديد.
وأود أن أبين إن من الرواة من ينسب هذا الهجاء إلى شاعر آخر، قالوا إن اسمه "عبد عمرو بن عمارة"، وذكروا انه قاله في هجاء "الأبيرد الغساني".

(1/1550)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من رسالة الغفران، أن للناس أقاويل في مقتل "طرفة"، ورد فيها: "ولقد كثرت في أمرك أقاويل الناس: فمنهم من يزعم أنك في ملك النعمان اعتقلت، وقال قوم: بل الذي فعل به ما فعل عمرو بن هند".
وتطرق "الشريف المرتضى" في أماليه إلى موضوع قتل "عمرو بن هند" لطرفة، فذكر أن عامل البحرين يومئذ هو "المعلى بن حنش العبدي" وذهب إلى احتمال كون قاتل "طرفة" هو "النعمان بن المنذر"، استدل على ذلك بقول طرفة: أيا منذر كانت غرورا صحيفتي ولم أعطكم في الطوع مالي ولاعرضي
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا حنانيك بعض الشر أهون من بعض
قال: "وأبو المنذر هو النعمان بن المنذر، وكان النعمان بعد عمرو ين هند، وقد مدح طرفة النعمان فلا يجوز أن يكون عمرو قتله، فيشبه أن تكون القصة مع النعمان ".
هذا وللمتلمس أشعار في هجاء "عمرو بن هند"، وقد ظل يهجوه إلى أن توفي وهو في الغربة في بلاد الشام. وفي جملة ما قاله فيه.
أطردتني حذر الهجاء ولا والله والأنصاب لا تئل
فهو يعيره بأنه إنما ابعده عنه وطرده، لأنه كان يهجوه، ولأنه كان يحذر هجاءه ويقول في أبيات أخرى.
ألك السدير وبارق ومرابض، ولك الخورنق
والقصر ذو الشرفات من سداد والنخل المسبق
* * * فلئن تعشق فلتبلغن أرماحنا منك المخنق
وللشاعر "سويد بن خذاق" شعر في هجاء "عمرو بن هند"، وهو أخو الشاعر "يزيد بن خذاق"، وهما من "عبد القيس". وذكر أن "يزيد بن خذاق"، كان أول من ذم الدنيا في شعر. وفي جملة ما قاله "سويد" في هجاء "عمرو بن هند"، قوله: أبى القلب أن يأتي السدير وأهله وإن قيل عيش بالسدير غزير
به البق والحمى وأسد خفية وعمرو بن هند يعتدي ويجور

(1/1551)


--------------------------------------------------------------------------------

و "المنخل اليشكري" من معاصري "عمرو بن هند" كذلك. وكان يشبب ب "هند" اخت "عمرو بن هند"، واتهم بامرأة لعمرو بن هند، فقتله على رواية. وذكر انه اتهم بالمتجردة امرأة النعمان بن المنذر،وانه كان ينادم النعمان، وهو الذي اوقع فيما بينه وبين النابغة لحقده عليه، حتى سبب في فرار النابغة إلى "آل غسان" ليخلص نفسه من غضب النعمان عليه. ومعنى هذا إن "عمرو ابن هند" لم يقتله بل عاش إلى ايام النعمان.
وقد مدح "المثقب العبدي" "عمرو بن هند" وكان في زمانه، بقوله: غلبت ملوك الناس بالحزم والنهى وأنت الفتى في سورة المجد ترتقي
ونجب به من آل نصر سميدع أغر كلون الهندواني رونق
ونعته بالحلم والرزانة "والحلم الرزين"، وبالفعلات.
وقد عد "ابن قتيبة" الشعراء الذين عاصروا "عمرو بن هند" من قدماء شعراء الجاهلية. فلما تحدث عن الشاعرين "سويد" و "يزيد"، قال: "وهما قديمان كانا في زمن عمرو بن هند ". ولما تحدث عن "المثقب العبدي" قال عنه: "وهو قديم جاهلي. كان في زمن عمرو بن هند". وعد "المنخل اليشكري" من قدماء الشعراء الجاهليين، فقال عنه: "وهو قديم جاهلي".
ويجب أن نتذكر أن الشاعر "امرؤ القيس" كان أيضا من معاصري "عمرو بن هند"، وهو شاعر جاهلي قديم، في نظر علماء الشعر. فيكون زمن أقلم شعر جاهلي، وصل خبره الينا، هو النصف الثاني من القرن السادس للميلاد، أي في سنين لا تبتعد كثيرا عن زمن ميلاد الرسول، كما سأتحدث عن ذلك في القسم الخاص بالناحية الثقافية للعرب قبل الإسلام.
وورد في إحدى قصائد الأعشى ما يفيد اتساع ملك عمرو بن هند وجباية كل ما بين عمان و "ملح" له. ويذكر بعض الرواة إن المراد ب "عمان" هنا "عمان" بلاد الشام، واما "ملح" ففي اليمامة من بلاد بني جعدة.

(1/1552)


--------------------------------------------------------------------------------

ويذكر بعض الأخباريين إن عمرو بن هند كان على "بقة" يدير أعمالها في ايام ابيه المنذر، واليه لجأ امرؤ القيس الشاعر المعروف مستجيرا به لأنه كان ابن عمته، فأجاره، ومكث عنده زمانا. فلما سمع به المنذر، وكان يتعقبه، طلبه من ابنه، فأنذره عمرو، فهرب حتى أتى حمير مستجيرا.
وقد نسب إلى ابن هند غزوة غزا بها تغلب، فقيل: طلب "عمرو" من بني تغلب، حينما تولى الملك مساعدته على أخذ الثأر من بني غسان قتلة أبيه، وكانوا انحازوا عنه، وطلب منهم الرجوع إلى طاعته والغزو معه، فأبوا،وقالوا: مالنا نغزو معك. نحن رعاء لك فغضب عمرو بن هند، وجمع الجموع. فلما تهيأت، كان أول عمل قام به غزو تغلب، فأوجعهم وآذاهم، انتقاما منهم، لامتناعهم عن نصرته ومعاضدته. وقد أشار إلى هذا الحادث "الحارث بن حلزه اليشكري" الشاعر الجاهلي احد اصحاب المعلقات.
ويذكر أهل الأخبار أن "الحارث بن حلزة" حضر مجلس "عمرو بن هند"، وأنشده معلقته، أنشده إياها مهن وراء سبعة ستور، وذلك لبرص به. وكان الملك يأمر بعد خروج "الحارث" بغسل أثره بالماء، كما يفعل بسائر البرص. فلما أنشده قصيدته هذه، طرب لها الملك كثيرا، فأمر برفع الستور من بينهما، وأدناه منه " وأطعمه في جفنته، وأمر أن لا ينضح أثره بالماء، ثم جز نواصي البكريين السبعين الذين كانوا رهنأ عنده وسلمها إليه، تعظيما لشأنه، وتقديرا له ولقومه اليشكريين.
وتعرض لذكر "الجون: جون آل بني الأوس" ومعه كتيبة شديدة العناد.
اخرى في منشأ هذا اللقب، تحاول ايجاد مخرج لمعنى "محرق" التي ترد مقرونة بأسماء بعض ملوك "آل جفنة" و "آل لخم".

(1/1553)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي كتب الأمثال مثل هو: "إن الشقي وافد البراجم"، زعم أصحاب الأخبار إن قائله هو الملك "عمرو بن هند" قاله يوم قتلت "البراجم" - وهم أحياء من "تميم": عمرو وقيس وغالب وكلفة وظليم، وهم "بنو حنظلة بن زيد مناة" تحالفوا على أن يكونوا كبراجم الأصابع في الاجتماع - شقيق "عمرو ابن هند"، فسار اليهم وآلى أن يحرق منهم مئة، فقتل تسعة وتسعين،وأحرق القتلى بالنار، فمر رجل من البراجم وراح رائحة حريق القتلى، فحسبه قتار الشواء، فمال اليه، فلما رآه عمرو قال له: ممن أنت ? قال: رجل من البراجم فقال: إن الشقي وافد البراجم. وأمر فقتل وألقي في النار، فبرت به يمينه.
وورد إن عمرا بقي ينتظر وافدا من البراجم ليلقي به في النار فيكمل بذلك العدد، حتى اذا طال انتظاره قيل له: لو تحللت بامرأة منهم، فدعا بامرأة من بني نهشل بن دارم اسمها الحمراء بنت ضمرة بن جابر، فأمر بالقائها في النار. فكمل بذلك العدد.
وكان سبب قتل أسعد أو سعد أخي عمرو بن هند أو ابنه مالك، انه لما ترعرع مرت به ناقة كوماء سمينة، فرمى ضرعها، فشد عليه ربها سويد أحد بني عبد الله بن دارم فقتله، ثم هرب سويد فلحق بمكة، واستجار بأهلها. فبلغ الخبر عمرو بن هند، وكان زرارة بن عدس التميمي عنده، فاغتاظ زرارة من هذا العمل، اذ كان الملك قد وضع "سعدا" "اسعد" في بيته، وانتهز زعماء طيء هذه الفرصة وحرضوا عمرو بن هند على مهاجمة بني دارم قتلته للاخذ بثأرهم منه.
وهناك رواية أخرى تنفي تحريق عمرو بن هند للمذكورين من بني دارم والرجل الآخر من البراجم، وترى انهم قتلوا، قتلوا بأمر عمرو ين هند.
وأوارة الموضع الذي أحرق فيه المذكورون من بني تميم، أو قتلوا فيه، هو اسم ماء أو جبل لبني تميم قيل انه بناحية البحرين.
وكان "عمرو بن ملقط الطائي"، هو الذي أصاب "بني تميم" مع "عمرو ابن هند" يوم أوارة، فسأله فيهم فأطلقهم له، وكان وفادا إلى الملوك.

(1/1554)


--------------------------------------------------------------------------------

والأعشى الشاعر ممن ذكر هذا اليوم في شعره. وعير الشاعر جرير الفرزدق بيوم أوارة.
وتذكر بعض الروايات عن يوم "أوارة" أن "عمرو بن ملقط الطائي"، هو الذي حرض "عمرو بن هند" على غزو بني دارم، وأنه شاركه في غزوهم. وقد أشير إلى ذلك في شعر للطرماح الطائي يفاخر به الفرزدق، وهو شاعر من بني تميم. وسبب ذلك أن طيئا كانت تطلب عثرات زرارة وبني أبيه، لأنه كان قد حرض عمرو بن هند عليهم. فلما بلغهم ما صنعوا بأخي الملك، أنشأ "عمرو ابن ملقط" شعرا، بلغ عمرو بن هند، فتأثر به، وقرر السير على زرارة وقومه للانتقام منهم بقتلهم شقيقه.
ويفهم من بعض الرواة أن "يوم الشقيقة" كان قد وقع في عهد عمرو بن هند، إذ تذكر أن قوما من شيبان جاؤوا مع قيس بن معديكرب ومعهم جمع لخيم من اهل اليمن، وقصدوا إبلا لعمرو ين هند، فردتهم بنو يشكر،وقتلوا فيهم، ولم يوصل إلى الإبل.
وقد رأى بعض أهل الأخبار، استنادا إلى قصيدة للنابغة مطلعها: أتاركة تدللها قطام وضنا بالتحية والكلام
أن الذي قام بالغزو المذكور فيها هو "عمرو بن هند". وأن غزوه بلغ حتى جبال حمى. غير إن الأبيات تدل على إن صاحب تلك الغزوة كان قد دوخ العراق، وأنه حارب قبائله، ولهذا لا يعقل أن يكون صاحبها عمرو ابن هند، بل لا بد أن يكون ملكا من آل غسان غزا العراق والى هذا الرأي ذهب المستشرق "نولدكه".
وفي بعض الروايات أن عمرا توسط بين بكر وتغلب ابني وائل فأصلح بينهما بعد حرب البسوس، وأخذ رهائن من كل حي من الحيين مئة غلام من أشرافهم، ليكف بعضهم عن بعض، فكانوا يصحبونه في السلم والحرب.
ويرى فريق آخر من الأخباريين أن الذي توسط لعقد الصلح بين القبيلتين هو المنذر بن ماء السماء.

(1/1555)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر أن أناسا من تغلب جاؤوا إلى "بكر بن وائل" يستسقونهم، فطردتهم بكر للحقد الذي كان بينهم، فرجعوا عطاشا، فمات سبعون منهم، فاجتمع بنو تغلب واستعدوا لملاقاة بكر ومحاربتهم، ثم خاف عقلاء الطرفين من عودة الحرب إلى ما كانت عليه، فتداعوا إلى الصلح، فتحاكموا إلى الملك "عمرو بن هند"، فطلب منهم سبعين رجلا من أشراف وائل ليجعلهم في وثاق عنده، فإن كان الحق لبني تغلب، دفعوا اليهم ليأخذوا ثأرهم، وإن لم يكن رجعوا سبيلهم، فجاءت تغلب وعلى رأسها عمرو بن كلثوم، وحل الخصومة عمرو بن هند.
وفي رواية يذكرها "ابن دريد": أن "بني الحارث بن مرة" قتلوا ابنا لعمرو بن هند، فرهن "سيار بن عمرو" قوسه بألف بعير، وضمنها لملك من ملوك اليمن، فعرف لذلك ب "ذي القوس". أما "السكري"، فذكر أن سيارا ذا القوس،كان قد رهن قوسه على ألف بعير في قتل الحارث بن ظالم، من النعمان الأكبر.
ويفهم من الموارد الأعجمية أن عمرا كان قد أغار على بلاد الشام في سنة "563م"، وكان على عربها الحارث بن جبلة. والظاهر أن الباعث على ذلك كان امتناع الروم عن دفع ما كانوا يدفعونه سابقا لعرب الفرس مقابل اسكاتهم عن مهاجمة الحدود. فلما عقد الصلح بين الفرس والروم سنة "562م"، وهدأت الأحوال، لم يدفعوا لابن هند ما تعودوا دفعه لوالده، فأثر امتناعهم هذا في نفسه، وطلب من الفرس مساعدته في ذلك. فلما طالت الوساطة، ولم تأت بنتيجة، هاجم تلك المنطقة، ثم أعاد الغارة في سنة "566م" وسنة "567م" على التوالي. وقام بهاتين الغارتين أخوه قابوس بأمر أخيه.

(1/1556)


--------------------------------------------------------------------------------

ويعزو "مينندر" ""Manander" أسباب الغارة الأخيرة إلى سوء الأدب الذي أبداه الروم تجاه رسول ملك الحيرة الذي ذهب إلى القيصر"يوسطينوس" "Justinus" لمفاوضته على دفع المال. وكان الروم قد أرسلوا رسولين قبل ذلك إلى الفرس للبحث في هذا الموضوع، أحدهما اسمه بطرس، والآخر اسمه يوحنا، غير انهما أنكرا للفرس حق ملك الحيرة في أخذ إتاوة سنوية من الروم. فلما عومل رسول ملك الحيرة معاملة غير لائقة قام قابوس شقيق عمرو بتلك الغارتين.
وتذكر رواية من روايات أهل الأخبار إن "عمرو ين هند" جعل أخاه "قابوس بن المنذر" على البادية، ولم يعط أخاه "عمرو بن امامة" شيئا، وكان مغاضبا له، فخرج "عمرو" إلى اليمن، فأطاعته مراد، وأقبل بها يقودها نحو العراق، ولكنها ثارت عليه، ثار عليه المكشوح وهو "هبيرة بن يغوث" فلما أحيط به ضاربهم بسيفه حتى قتل.
أما "أمامة" أم "عمرو بن أمامة"، فانها "أمامة بنت سلمة بن الحارث الكندي" عم امرئ القيس.
ويفهم من بعض الروايات إن عدي بن زيد العبادي كان من المقربين عند عمرو بن هند، وكان يصحبه مع من يصحبه من الرؤساء في الصيد.

(1/1557)


--------------------------------------------------------------------------------

وانتهت حياة عمرو بن هند بالقتل، وهو مسؤول عن قتل نفسه إن صحت القصة. وخلاصتها: إن الغرور أخذ مأخذه من صاحبنا عمرو. وأراد يوما أن يظهر فخره أمام الناس، فقال لجلسائه: هل تعلمون إن أحدا من العرب من أهل مملكتي يأنف أن تخدم أمه أمي ? قالوا: ما نعرفه الا أن يكون عمرو بن كلثوم التغلبي، فان أمه ليلى بنت مهلهل بن ربيعة وعمها كليب وائل أعز العرب وزوجها كلثوم وابنها عمرو، فسكت وأضمرها في نفسه. ثم بعث إلى عمرو بن كلثوم يستزيره، ويأمره أن تزور أمه ليلى أم نفسه هند. فقدم عمرو مع أمه، فأنزلهما منزلا حسنا، ثم أمر بالطعام فقدم للحاضرين. وكان عمرو قد قال لأمه: اذا فرغ الناس من الطعام ولم يبق الا الطرف، فنحي خدمك عنك، فاذا دنا الطرف فاستخدمي ليلى ومريها فلتناولك الشيء بعد الشيء. ففعلت هند ما أمرها به ابنها. فصاحت ليلى عندئذ: وأذلاه يا آل تغلب ! فسمعها ولدها عمرو بن كلثوم، فثار الدم في وجهه، والقوم يشربون، وثار إلى سيف ابن هند وهو معلق في السرادق، فأخذه وضرب به رأس مضرط الحجارة، ونادى في التغلبيين فأخذوا ما تمكنوا من أخذه، وعادوا من حيث أتوا. وهكذا جنى عمرو بن هند حصاد ما زرعه إن صحت الرواية. ويروي الرواة في تأييدها هذا المثل: "أفتك من عمرو بن كلثوم". كما افتخر بها الشعراء التغلبيون.
ويقال إن أخا عمرو بن كلثوم: "مرة بن كلثوم"، هو قاتل "المنذر ابن النعمان بن المنذر". وفي ذلك يقول الأخطل: ابني كليب إن عمى اللذا قتلا الملوك وفككا الأغلالا
يعني بعميه عمرا ومرة ابني كلثوم.
وذكر الشاعر "أفنون" واسمه "صريم بن معشر"، وهو من بني تغلب "عمرو بن هند" في شعر رواه "ابن قتيبة" على هذا النحو: لعمرك ما عمرو بن هند اذا دعا لتخدم امي أمه بموفق

(1/1558)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي هذا البيت اشارة إلى مقتل "عمرو بن هند"، بسبب أم الملك. وقد وقع فيه تحريف ولا شك، صير الأم التي طلبت منها أم عمرو بن هند خدمتها، أم الشاعر المذكور، بينما هي "ليلى" أم الشاعر "عمرو بن كلثوم"، قاتل عمرو بن هند. كما يرويه علماء الشعر على لسان "أفنون" أيضا، ولكن على هذا الشكل: لعمرك ما عمرو بن هند وقد دعا لتخدم ليلى أمه بموفق
"وعمرو بن كلثوم، هو القائل: ألا هبي بصحنك فاصبحينا
وكان قام بها خطيبا فيما كان بينه وبين عمرو بن هند. وهي من جيد شعر العرب القديم واحدى السبع، ولشغف تغلب بها وكثرة روايتهم لها، قاله بعض الشعراء: ألهى بني تغلب عن كل مكرمة قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
يفاخرون بها مذ كان أولهم يا للرجال لفخر غير مسؤوم
ويظهر أن الصورة التي رسمها الأخباريون لقابوس إنما حصلوا عليها من شعر الهجاء الذي قيل فيه،وأن ما أورده عنه من لن وضعف هو في حاجة إلى دليل، إذ يظهر من الموارد الأخرى مثل التواريخ السريانية أنه كان على العكس. وقد يكون لتوليه الحكم، وهو رجل متقدم في السن، أصل في ذلك الهجاء. فالذي يظهر من أخباره انه ولي الحكم وهو شيخ كبير. وأما اللقب الذي لقب به، وهو قينة العرس، فقد انتزعه الأخباريون من شعر منسوب إلى طرفة هجا فيه عمرو ابن هند وقابوسا، وهو قوله: يأت الذي لا تخاف سبته عمرو وقابوس قينتا عرس
وقد ذكر المؤرخ "مارسليانوس" "Marsilianus" رجلا سماه "Chabus"، ذكره مع المنذر الثالث في حوادث سنة "536م".ويرى "روتشتاين" أن المراد به رجل آخر غير قابوس. فلو كان هو المقصود به كان قابوس إذن شيخا هرما حين انتقل الملك اليه، ولكنه لا ينفي مع ذلك عدم جوازه. وقد أشرت إلى ارسال أخيه عمرو إليه في حملة انتقامية على عرب الشام، وذلك في سنة "566"وسنة "567م".

(1/1559)


--------------------------------------------------------------------------------

ولما تولى قابوس الحكم، أغار على بلاد الشام، وكان يحكم عرب الشام المنذر ابن الحارث بن جبلة اذ ذاك. وقد ذكر "ابن العبري" أن المنذر بن الحارث "منذر برحرت" كان نصرانيا وان جنوده كانوا نصارى كذلك. ولم يشر إلى نصرانية قابوس. ويفهم من جملة ابن العبري. "وقد أغار قابوس على العرب النصارى" ما يؤيد هذا الظن. وقد ظفر قابوس بغنائم عديدة أخذها وعاد بها غير إن المنذر جمع جيشه وسار يتعقبه. فلما التقى به، تغلب عليه، وأخذ منه أموالا كثيرة وعددا كبيرا من الجمال. ولما أعاد قابوس الكرة، انهزم، فذهب الى الفرس يلتمس منهم عونا ومددا. ويظهر من رواية أخرى أن انتصار المنذر على قابوس كان في سنة "881" من التقويم السلوقي وهي توافق سنة "570" للميلاد.
ويظهر من رواية ل "يوحنا الأفسوسى" "John of Ephesus" إن الملك قابوسا انتهز الفرصة عند وفاة الحارث بن جبلة، فباغت الغساسنة بهجوم مفاجىء في عقر دارهم، فأسرع عندئذ المنذر بن الحارث وجمع جمعه، وفاجأه بهجوم مقابل لم يتمكن قابوس من الثبات له، فانهزم هزيمة منكرة بحيث لم ينج من أصحابه الا القليل. وقد فر هو ومن سار معه من الناجين في اتجاه نهر الفرات تاركا عددا من الأمراء اللخميين أسرى في أيدي المنذر. غير إن المنذر سار في أثرهم حتى كان على ثلاث مراحل عن الحيرة، ويرى نولدكه إن هذه المعركة هي معركة عين أباغ.
وبعد قليل من هذه الهزيمة جرب قابوس حظه مرة اخرى،غير انه مني بخسارة جديدة، وكانت هذه الغارة حوالي سنة "570م".

(1/1560)


--------------------------------------------------------------------------------

وجرب قابوس حظه مرة أخرى منتهزا فرصة القطيعة بين المنذر والقيصر "يسطينوس" "Justinus"، وهي قطيعة لا نعلم أسبابها على وجه التحقيق، وانما يعزو ابن العبري سببها إلى مطالبة المنذر للقيصر بدفع مال إليه ليتمكن به اعداد جيش قوي منظم يستطيع الوقوف به أمام الفرس. فأغار على حدود الروم وتوغل في الأرضين التابعة لهم حتى وصل أتباعه إلى منطقة "انطاكية". وقد دامت تحرشات "عرب الفرس" بحدود الروم ثلاث سنين هي مدة القطيعة،حيث كان المنذر قد ذهب مع اتباعه الى الصحراء فاحتمى فيها،ولم تنقطع هذه التحرشات الا بعد مصالحة الروم له في الرصافة. حينئذ جمع المنذر اتباعه وفاجأ المناذرة بهجوم خاطف كابدت منه الحيرة الأمرين، وأطلق من كان في سجون الحيرة من أسرى الروم، وقد وقعت هذه المفاجأة حوالي سنة "578م". ويظن "روتشتاين" انها وقعت بعد وفاة قابوس في عهد المنذر الرابع أخي "قابوس" وخليفته في الملك.
وقد ذكر "البكري" بيتا من الشعر لأبي دؤاد وردت فيه اشارة إلى غزوة غزاها قابوس عرفت ب "يوم قحاد". ويظهر إن خصوم قابوس أخذوا بثأرهم من هذا اليوم بغزوة قاموا بها على تنوخ.
ويفاجئنا بعض الأخباربين بذكر رجل يقال له "فيشهرت" أو "السهرب" أو "السهراب"، قالوا انه هو الذي تولى الملك بعد قابوس. وقد جعل حمزة مدة حكمه سنة واحدة في ايام "كسرى أنو شروان". ولم يشر الأخباريون إلى الأسباب التي ادت إلى تعيين هذا الرجل الغريب ملكا على الحيرة دون سائر آل لخم، ومنهم المنذر أخو عمرو بن هند وقابوس، فلعل اضطرابا حدث في المملكة أو نزاعا وقع بين اولاد قابوس أو بين آل لخم ادى إلى تدخل الفرس فقرروا تعيين رجل غريب عن اهل الحيرة لأمد حتى تزول أسباب الخلاف، فقرروا تعيين واحد منهم. فلما زالت تلك المواقع، عين المنذر ملكا على الحيرة وبذلك عاد الملك إلى آل لخم.

(1/1561)


--------------------------------------------------------------------------------

ويلاحظ إن بعض الأخباريين لم يذكروا اسم فيشهرت أو السهراب، بل ذكروا إن الملك انتقل إلى المنذر بعد وفاة اخيه قابوس. وذكر المسعودي في كتابه: مروج الذهب النعمان بن المنذر مباشرة بعد قابوس.
واذا صحت رواية حمزة من إن حكم المنذر كان ثمانية أشهر في عهد "كسرى أنو شروان " وثلاث سنين واربعة أشهر في ايام "هرمز بن كسرى" "فيجب إن يكون حكمه قد امتد من سنة "579" حتى سنة "583" للميلاد، تقريبا لأن نهاية حكم "أنو شروان" كانت في سنة "579" للميلاد على رأي المؤرخين، وحكم "هرمز" من سنة "579" حتى سنة "595" للميلاد.
ويظهر من شعر منسوب إلى الشاعر "المرقش" إن "المنذر" كان ينقب عنه أي: يستقصي في طلبه، ولم يذكر سبب ذلك، ولعله كان قد هجاه، أو إن جماعة وشت به عنده، فصار يبحث عنه للايقاع به. وقد طلب في شعره هذا من الملك المذكور أن يكف عن طلبه ويسكت عنه، وتمنى لو انه في "الزج" وهو موضع، أو "بالشام ذات القرون". وذلك لأن بلاد الشام بلاد كانت تحت حكم الروم، فليس للمنذر حكم عليها، فهو يكون بها في بلاد العدو بعيدا عن المنذر. وذكر "ابن قتيبة" إن معنى "ذات القرون" الروم " وأراد قرون. شعورهم.
ويظهر من شعر ل "سويد بن خذاق" أن "قابوس بن هند" وأخا من إخوته لم يذكر الشاعر اسمه، غزوا قومه، وهم من عبد القيس، وانتصرا عليهم وانزلا بهم خسارة فادحة، يوم العطيف: ففرقا القبائل، وكانت أحلافا متحالفة، وشتتا الشمل. ودعا "الله" أن يجزيهما شر الجزاء بما فعلا، وأن يحبس لبن "لبون الملك"، فلا تدر عليه، جزاء وفاقا لما قاما به نحو قومه.
أما الذي خلفه على الحيرة، فهو النعمان بن المنذر المعروف بأبي قابوس. وقد كناه بعض الشعراء ب "أبي قبيس". كما كناه بعضهم ب "أبي منذر". ويذكر أهل الأخبار ان الناس كانوا إذا دخلوا على النعمان أو كلموه، قالوا له: "أبيت اللعن". وذكر المسعودي: انه "هو الذي يقال له: أبيت اللعن".

(1/1562)

admin
12-27-2010, 01:29 AM
اما أم النعمان، فهي "سلمى بنت وائل بن عطية بن كلب" 0 أو "سلمى بنت عطية".وقد نسبها بعض الأخباريين إلى سلمى بنت وائل بن عطية الصائغ. وقالوا إنها من فدك، وزادوا في ذلك انها كانت امة للحارث بن حصن بن ضمضم ابن عدي بن جناب من كلب من دومة الجندل. فهي بنت صائغ من فدك على رواية بعض، وأمة من دومة الجندل على رواية بعض آخر. وهي في كلتا الحالتين من طبقة وضيعة لا تليق بأسرة مالكة، ولعلها من أصل يهودي، إذ كان أكثر اهل فدك من اليهود. وكانوا يحترفون الحرف ومنها الصياغة. وقد دعي النعمان بأمه،فقيل له ابن سلمى في شعر الهجاء، وقصدهم من ذلك إهانته. وقد تولى النعمان الثالث، وهو النعمان الذي نتحدث عنه، الحكم في حوالي السنة "0 58" أو السنة "581" للميلاد. ودام حكمه حتى السنة "2 0 6 م".
والظاهر من وصف الأخباريين له أنه كان دميم الخلقة، فقالوا: إنه كان أحمر، أبرش، قصيرا. وهذا مما قوى جانب خصومه في التهكم به، يضاف إلى ذلك أصل أمه، وقد أثر هذا النقص الذي لا يد له فيه، في نفسية النعمان، وفي سلوكه، ولا شك، فصيره سريع الغضب، أخاذا بالوشايات، فوقع من أجل ذلك في مشكلات عديدة. وقد يكون تسرعه إلى تصديق ما قاله الواشون عن عدي بن زيد، وتأثره بأقوالهم من غير تحقيق ولا امتحان وقتله له، من جملة تلك العوامل التي أدت إلى هلاكه. وقد يكون اللقب الذي لقب به، وهو "الصعب"، وصفا لتلك السجايا التي اتصف بها الملك، والتى تعبر عن عقدة "مركب النقص" التي كانت ملازمة له.
وقد كان لقبح النعمان ودمامته ولأصل امه دخل ولا شك في تكوبن الخلق العصبي فيه،. فصار يهيج ويتأثر به، ويأخذ بأقوال الوشاة من غير تمحيص ولا ترو، فنقمت منه الناس، وهجاه بعض الشعراء.
أما اخوته وكانت عدتهم اثني عشر رجلا عدا النعمان " فقد اشتهروا بالجمال والهيبة والوسامة، ولذلك نعتوا بالأشاهب، فوصفهم الأعشى بقوله: وبنو المنذر الأشاهب بالح يرة يمشون غدوة بالسيوف

(1/1563)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد أثرت شهرة اخوته بالأشاهب وبالوسامة في طبع النعمان المذكور، وزادت في عصبيته وفي حدة طبعه وفي تأثره بأقوال الناس.
ويظهر من وصف الشعراء واهل الأخبار للنعمان انه كان صاحب شراب، يحب الخمر ويجالس ندماءه ليشرب معهم، غير إن الخمر كانت تؤثر فيه وتستولي على عقله، فتدفعه إلى السكر والعربدة والتطاول على ندمائه، مما ازعج اصدقاءه وحولهم الى خصوم واعداء بسبب اهانات لحقت بهم منه في اثناء فقده وعيه وعدم تمكنه من حفظ اتزانه.
وقد عبر الشاعر "لبيد بن ربيعة العامري" عن النعمان ب "الصعب ذي القرنين" في شعره، مما يدل على إن لقب "الصعب" الذي لقبه به كان معروفا شائعا بين الناس. وقد يكون معبرا عن معنى آخر غير معنى الصعوبة في الملك، كأن يكون اطلاقهم له من قبيل اطلاقهم لفظة "تبع" على من ملك حمير. وأما "ذو القرنين" فقد قيل: إن القرنين هما الضفيرتان، وإن القرن الضفيرة. وقد دعي بذلك لأنه كان قد ربى ضفيرتين.
وقد جاء في رواية اخرى إن "الصعب ذا القرنين" لم يكن النعمان المذكوركما ذهبت إليه الرواية المتقدمة، وانما هو "المنذر بن ماء السماء، وانه هو ذو القرنين".
ويظهر من بيت الشعر الذي نتحدث عنه وهو: والصعب ذو القرنين أصبح ثاويا بالحنو في جدث، أميم، مقيم
إن "الصعب ذا القرنين" كان قد ثوى في قبره، فهو يرثيه ويذكره. وذهب الشراح إلى إن "الحنو" اسم بلد، ومعنى هذا إن الملك الذي يشير إليه "لبيد" قد دفن في هذا الموضع، والذي نعرفه من بعض الروايات أن قبر "النعمان" كان بالحيرة، وان ابنته هندا قد دفنت إلى جانبه.
ومن الشعراء الذين نسب اليهم هجاء النعمان الشاعر عمرو بن كلثوم، وله فيه وفي أمه هجاء مر. و قد وصف خاله بأنه ينفخ الكير، ويصوغ القروط بيثرب أي انه كان من صاغة تلك المدينة، وهو مما يؤيد روايات الأخباريين في أصل امه.

(1/1564)


--------------------------------------------------------------------------------

لم ينتقل الملك إلى النعمان بسهولة، فقد كان للمنذر جملة اولاد حين اتته المنية، عدتهم ثلاثة عشر ولدا معظمهم طامع في الملك. والظاهر إن المنذر كان عارفا بالخلاف الذي كان بين اولاده، فلم يشأ إن يزيده بتعيين احد ابنائه. ولا ندري لم لم ينص على اكبرهم جريا على السنة المتبعة في انتقال الملك. ولعله كان عارفا بحراجة الموقف وضعف مركز ابنه الكبير، وعدم تمكنه من فرض نفسه عليهم إذا عينه ونصبه، لذلك وكل أمره كله إلى إياس بن قبيصة الطائي، فتولاه أشهرا حتى انفرجت المشكلة على النحو التالي على حد رواية ابن الكلبى.
دعا كسرى بن هرمز عدي بن زيد العبادي، فقال له: من بقي من بني المنذر ? وما هم ? وهل فيهم خير ? فقال عدي: بقيتهم في ولد هذا الميت، المنذر بن المنذر، وهم رجال. فبعث اليهم يمتحنهم. فلما وفدوا على كسرى، أنزلهم على عدي بن زيد. فاحتال عدي على هؤلاء الأخوة كما يقول الأخباريون وتظاهر انه يفضلهم على ربيبه النعمان، واوصاهم إن يجيبوا جوابا معينا حين يسألهم كسرى، وامر النعمان إن يجيب جوابا آخر يختلف عن جواب اخوته. وهو جواب يعتقد إن كسرى سيرضى عنه ويعينه. فلما ادخلوا على كسرى واجابوا بجواب واحد هو الجواب الذي لقنهم إياه عدي، وهو: "إن سألكم الملك. أتكفونني العرب. فقالوا نكفيكهم إلا النعمان، وقال للنعمان: إن سألك الملك عن اخوتك فقل له: إن عجزت عنهم، فأنا عن غيرهم اعجز"، رضي كسرى بجواب النعمان وسر به، فملكه وكساه، والبسه تاجا قيمته ستون ألف درهم فيه اللؤلؤ والذهب. فانتصر بذلك النعمان على اخوته، وسر عدى بن زيد بتولي ربيبه الملك.

(1/1565)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي خبر لأبي الفرج الأصبهاني إن عدي بن زيد اخذ النعمان إلى "جابر بن شمعون"، وهو من "بني الأوس بن قلام بن بطن بن جمهير بن لحيان من بني الحارث بن كعب"، وكان أسقفا على الحيرة، فاقترضا منه مالا لتدبير امورهما به، وذكر إن جابرا هو صاحب القصر الأبيض الذي بالحيرة، وكان ذا سلطان واسع في بني قومه، ولذلك فقد يكون لأخذ عدي للنعمان إليه للحصول على تأييده أثر في نجاحه في تولي العرش.
ويروي المفضل الضبي إن عدي بن زيد العبادي لما قدم على النعمان صادفه لا مال عنده ولا اثاث ولا ما يصلح لملك، وكان آدم اخوته منظرا، وكلهم اكثر مالا منه، فقال له عدي: كيف اصنع بك ولا مال عندك! فقال له النعمان: ما أعرف لك حيلة الا ما تعرف انت، فقال له: قم بنا نمضي إلى ابن قردس - رجل من أهل الحيرة من دينه - فأتياه ليقترضا منه مالا، فأبى إن يقرضهما وقال: ما عندي شيء. فأتيا جابر بن شمعون، وهو الأسقف وهو أحد بني الأرس بن قلام بن بطين بن جمهر بن لحيان من بني الحارث بن كعب، فاستقرضا منه مالا، فأنزلهما عنده ثلاثة ايام، يذبح لهم ويسقيهم الخمر. فلما كان في اليوم الرابع، قال لهما: ما تريدان ? فقال له عدي: تقرضنا اربعين الف درهم يستعين بها النعمان على امره عند كسرى، فقال: لكما عندي ثمانون الفا، ثم اعطاهم اياها، فقال النعمان لجابر: لا جرم، لا جرى لي درهم الا على يديك إن انا ملكت!.

(1/1566)


--------------------------------------------------------------------------------

ولكن انتصار النعمان ادى إلى هلاك عدي بن زيد على ما يقوله الأخباريون، فقد كان لعدي، كما لكل رجل كبير صار له نفوذ وجاه ومركز خطير، اعداء في مقدمتهم رجل اسمه كاسمه ودينه مثل دينه، هو"عدي بن اوس بن مرينا"، وبنو مرينا اسرة لها مكانتها وخطرها في الحيرة. وكان لهذا الرجل شأن يذكر في ايام المنذر، وكان يميل إلى الأسود بن المنذر لأنه ربيب بني مرينا، فنصحه إن يتجنب الأخذ برأي عدي بن زيد، لأنه رجل لا ينصح. فلما اخفق الأسود في الامتحان، وعجز عن نيل التاج، صار يدبر المؤامرات لخصمه عدي، ويشي به إلى النعمان، ويغري آخرين بالتظاهر بأنهم من محبي عدي، ليثق النعمان بهم، فإذا أمن بهم، عادوا فوشوا بعدي عنده، ثم لم يكتف بذلك فوضع رسائل على لسان عدي إلى قهرمان لعدي فيه مكر ومؤامرة بالنعمان، ثم دس له حتى اخذ الكتاب، فجاء به إلى النعمان، فلما قرأه صدق بما جاء فيه،وغضب على عدي وقرر الانتقام منه.

(1/1567)


--------------------------------------------------------------------------------

جرت كل هذه المؤامرات على ما يقوله الأخباريون، وعدي عند كسرى يقوم بوظيفته لا يدري بها. فلما كتب النعمان اليه: "عزمت عليك الا زرتني، فإني قد اشتقت إلى رؤيتك ". صدق كلامه، واستأذن كسرى فأذن له. وسار إلى منيته وهو لا يدري ما يخبئه له القدر. فلما وصل إلى من كان مشتاقا إلى رؤيته، ألقاه في سجن منفرد لا يدخل عليه فيه أحد، وهو لا يدري بم سجن. وفي السجن أخذ ينظم أشعارا يتضرع فيها إلى النعمان أن يفك أسره، ويعظه فيها بالموت وبمن هلك قبله من الملوك الماضين، وكاد يطلقه لولا وشاية أعدائه به. فلما طال سجنه، كتب بشعر إلى أخيه "ابي" وهو مع كسرى يستجير به للتوسط لدى كسرى أن يكتب إلى النعمان يأمره بفك أسره. فما كتب كسرى بذلك كتابا أرسله مع شخص إلى النعمان، كتب خليفة النعمان عند كسرى إليه يبلغه بمجيء الرسول، وعرف أعداء عدي من "بني بقيلة" من غسان، فقالوا للنعمان: اقتله الساعة قبل وصول الرسول اليك، فان لم تفعل فسيذهب إلى كسرى فلا يستبقي أحدا لا أنت ولا غيرك. فبعث إليه النعمان أعداءه فغموه حتى مات في سجنه بالصنين. ولما وصل الرسول، رشي بهدايا كثيرة نفيسة، فعاد إلى كسرى يخبره أن عديا مات قبل وصوله بأيام.
وقد أحس عدي بن زيد كما يقول الأخباريون بامتعاض خصمه عدي بن أوس بن مرينا من الحيلة التي دبرها لنجاح النعمان وبمحاولته الغدر به، فأراد مصالحته واسترضاءه كما يقول الاخباريون فعمل له طعاما دعا إليه من أحب عدي ابن أوس بن مرينا حضوره، وحلف بعد انتهاء الطعام في البيعة أنه لن يحقد عليه، وأنه سيتناسى ما حدث، ورجا من خصمه أن يفعل مثله. فقام عدي ابن أوس إلى البيعة، فحلف مثل يمينه أن لا يزال يهجوه أبدا ويبغيه الغوائل ما بقي. وقد كان. وهم يروون شيئا من هذا التهاجي الذي وقع بين الخصمين.

(1/1568)


--------------------------------------------------------------------------------

ويذكر أهل الأخبار إن عدي بن مرينا صار يحرض الأسود ويحثه على الأخذ بثأره من عدي بن زيد، فكان يقول له: "أما اذا لم تظفر، فلا تعجزن أن تطلب بثأرك من هذا المعدي الذي فعل بك ما فعل، فقد كنت أخبرك إن معدا لاينام كيدها". وعدي من تميم، وتميم من معد.
وهناك روايات أخرى في أسباب غضب النعمان على عدي وحبسه له في الصنين.
لا تخرج في جملتها عن حدود هذه المنافسة التي دبرها عدى بن مرينا وخصوم عدي له، ولكنها تجمع كلها على قتل النعمان لعدي.
وفي كتاب الأغاني رواية تذكر إن النعمان أرسل ذات يوم إلى عدي بن زيد إن يأتيه، فأبى أن يأتيه، ثم أعاد رسوله فأبى أن يأتيه، وقد كان النعمان شرب، وأمر به فسحب من منزله حتى انتهى به إليه،فحبسه في الصنين بظاهر الكوفة من منازل المنذر، وبه نهر ومزارع، وبقي هناك حتى لاقى حتفه.
ويظهر من شعر ينسب إلى عدي، قاله لابنته يوم باتت عنده مع أمها في السجن، وهي جويرية صغيرة، إن النعمان كان قد أمر بوضع الغل في يديه.
والقصة كما يرويها الأخباريون قصة طريفة تصلح إن تكون موضوعا لشريط سينمائي اختلط فيها التأريخ بالخيال، والواقع بالابداع. أما نحن فلا يهمنا من أمرها الا النتيجة، وهي إن الفرس قبضوا على النعمان ملك الحيرة وسجنوه، وان حادثا وقع بعد ذلك كان وقعه عظيما في نفوس العرب، لا في العراق وحده، انما دوى صداه إلى جميع جزيرة العرب كلها، هو حادث وقعة ذي قار، وهي من الوقائع الفاصلة في تأريخ الجزيرة كان لها أثر في فتح الإسلام للعراق.

(1/1569)


--------------------------------------------------------------------------------

وندم النعمان كما يقول الأخباريون على ما صنع، واجترأ أعداء عدي عليه، وهابهم هيبة شديدة. وبينما كان يوما في صيده، اذ به يشاهد غلاما ظريفا ذكيا ففرح به فرحا شديدا. فلما عرف انه زيد وانه ابن من أبناء عدي، قربه وأعطاه وحباه، ثم أرسله إلى كسرى، وكتب معه كتاب توصية رقيقة يشير فيه إلى منزلة عدي منه والى خسارته بوفاته والى عظم المصيبة، ويوصي كسرى بالولد خيرا. فلما وصل زيد إلى كسرى، جعله مكان أبيه وصرف عمه إلى عمل آخر، فكان هو الذي يلي ما يكتب به إلى ارض العرب وخاصة الملك. ولما مضى وقت على زيد في هذه الوظيفة، وقع عند الملك بهذا الموقع مكانا حسنا،وتعالت منزلته عنده. ولما اطمأن إلى مركزه أخذ يدبر مكيدة الانتقام من النعمان قاتل أبيه حتى نجح في مسعاه، اذ قبض عليه كسرى فبعث به إلى سجن خانقين، فلم يزل في السجن حتى وقع الطاعون فمات فيه. وفي رواية انه مات بساباط. وقد رجح الطبري رواية خانقين، وانه مات بسحق الفيلة له. وفي رواية أخرى انه سجن في القطقطانه في البر. وهكذا نجد الرواة يذهبون جملة مذاهب في سجن النعمان.
والذين يروون إن حبس النعمان كان بساباط يستشهدون بشعر للأعشى جاء فيه: فداك وما أنجى من الموت ربه بساباط حتى مات وهو محرزق
وقد ذكر المسعودي قصة حبس النعمان ووفاته فقال: "وأمر كسرى النعمان فجلس في مجلسه بساباط المدائن، ثم أمر به فرمي تحت ارجل الفيلة، وقال بعضهم: "بل مات في محبسه بساباط"،مما يدل على إن وفاته كانت في المدائن.
وفي رواية سريانية إن كسرى بعد أن قبض على النعمان بن المنذر وأولاده سقاهم سما فماتوا، وعصى عندئذ العرب الفرس وأخذوا بهاجمونهم. فأرسل كسرى قائدا سمته الرواية ب "بولر" تولى أمر الحيرة، ولكنه لم يتمكن من ضبط أمورها، لشدة أهلها، فانصرف عنها وترك أمرها لمرزبان اسمه "رزوبى مرزوق"، أقام في برية الحيرة في حصن حفنة، وأخذ يقاتل منه الأعراب.

(1/1570)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي رواية ل "حمزة الأصفهاني" أن كسرى لما سخط على النعمان بن المنذر واستدرجه إليه من وسط البادية، رمى به إلى أرجل الفيلة، واستباح أمواله وأهله وولد، وأمر إن يباعوا بأوكس الأثمان.
وتذكر بعض الروايات سبب غضب "كسرى" على النعمان، أن "زيد"، وهو ابن المقتول "عدي بن زيد" الذي نال مكانة عظيمة عند كسرى، أو عمه، كانا قد دبرا مكيدة للايقاع بالنعمان. فلما طلب "ابرويز" النساء، دخل عليه "زيد"، فكلمه فيما دخل فيه، ثم قال: إني رأيت الملك كتب في نسوة يطلبن له، فقرأت الصفة، وقد كنت بآل المنذر عالما، وعند عبدك النعمان من بناته وبنات عمه وأهله أكثر من عشرين امرأة على هذه الصفة. قال: فتكتب فيهن. قال: أيها الملك، إن شر شيء في العرب وفي النعمان خاصة أنهم يتكرمون عن العجم،. فأنا أكره أن يغيبهن، فابعثني وابعث معي رجلا من العجم من حرسك يفقه العربية، حتى أبلغ ما تحبه. فبعث معه رجلا جليدا فخرج به زيد حتى بلغ "الحيرة" فلما دخل على الملك النعمان، قال: إنه قد احتاج إلى نساء لأهله وولده، وأراد كرامتك بصهره، فبعث اليك. فشق عليه، فقال لزيد.: أما في بقر السواد وفارس ما يكفيه حتى يطلب ما عندنا? فقال زيد للنعمان: إنما أراد كرامتك؛ ولو علم أن هذا يشق عليك، لم يكتب اليك به. وعادا. فلما دخلا على "كسرى"، وقصا عليه ما وقع وحدث، عرف الغضب في وجهه، ووقع في قلبه منه ما وقع. وسكت "كسرى" على ذلك أشهرا، ثم فعل ما فعل بالنعمان. وانتقم "زيد" بهذه المكيدة من النعمان قاتل والده.
وقد أشير إلى مصرع النعمان في شعر عدد من الشعراء مثل سلامة بن جندل، وقد ورد فيه ذكر القاء كسرى للنعمان تحت أرجل الفيلة. ويتفق هذا الرأي مع رأي ابن الكلبي ويعارض رواية لحماد جاء فيها أنه مات بحبسه في ساباط.

(1/1571)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر أن هانىء بن مسعود الشيباني كان في جملة من رثى النعمان في شعر. وقد نعته ب "ذي التاج"، ويفهم من رثائه له أن موته كانت تحت أرجل الفيلة، حيث داست على رأسه. وورد في شعر شعراء آخرين أن "فيول الهند" تخبطته وداست عليه.
وهناك قصيدة نسبها بعضهم إلى زهير بن أبي سلمى، ونسبها آخرون إلى صرمة الأنصاري. ذكر فيها كيف ذهب النعمان - قبل ذهابه إلى كسرى - إلى من كان يحسن اليهم، ويغدق عليهم الألطاف، فلما غضب عليه كسرى لم يجره هؤلاء، ولم يساعدوه إلا ما كان من بني رواحة من عبس، فشكرهم النعمان وودعهم وأثنى عليهم، وقال لهم: لا طاقة لكم بجنود كسرى، فانصرفوا عنه.
وساباط: هو على ما يذكره أهل الأخبار، موضع بالمدائن، به كان حبس النعمان على رواية من صرح بأنه كان محبسه لا موضعا آخر، ثم ألقاه تحت أرجل الفيلة. وذكر "ابن الكلبي" أنه إنما سمي بساباط نسبة إلى "ساباط بن باما" أخي النخير جان الذي لقي المسلمين في أهل المدائن.
ويظهر من شعر "للأعشى" إن "كسرى" أمر بالنعمان فحبس ب "ساباط" ثم ألقاه تحت أرجل الفيلة فوطئته حتى مات. يقول الأعشى: هو المدخل النعمان بيتا سماؤه نحور الفيول بعد بيت مسردق
وللبيد بن ربيعة العامري قصيدة نظمها في رثاء النعمان. من أبياتها: له الملك في ضاحي معد، وأسلمت إليه العباد كلها ما يحاول
وضاحي معد، بمعنى ظاهر معد، لا في معد نفسها، لأن "رب معد" في ايامه هو "حذيفة بن بدر". أما النعمان فهو ملك على ما وراء ديار معد. والعباد هنا هي القبائل النصرانية المعروفة من أهل الحيرة.

(1/1572)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذكر الأخباريون انه كان يتوقع إن يدبر له كسرى مكيدة، فقرر أن ينجو بنفسه قبل حلولها به، فلحق بجبلي طيء، وكان متزوجا اليهم، فأراد النعمان إن يدخلوه الجبلين ويمنعوه، فأبوا عليه خوفا من كسرى، فأقبل وليس أحد من العرب يقبله حتى نزل "ذو قار" في بني شيبان سرا، فلقي هانىء بن مسعود الشيباني، وكان سيدا منيعا، فأودعه أهله وماله وسلاحه، ثم توجه بعد ذلك إلى كسرى، حيث لقي مصرعه.
أما زوجة النعمان هذه، فهي ابنة "سعد بن حارثة بن لأم الطائي"، وهو من أشراف طيء البرص، وكان "النعمان" قد جعل لبني لأم ين عمر ربع الطريق طعمة لهم، وذلك بسبب زواجه المذكور.
وذكر إن أحد أولاد "النعمان بن المنذر" كان شاعرا، وقد عرف ب "المحرق" فلما سمع بقتل "كسرى" لأبيه، قال شعرا يخاطبه فيه، منه قوله: قولا لكسرى، والخطوب كثيرة: إن الملوك بهرمز لم تحبر
ويروى إن النابغة الذبياني لما سمع بمقتل النعمان، رثاه بأبيات. وهي إن صح انها من شعر النابغة حقا، تدل على إن هذا الشاعر قد عاش ايضا بعد مقتل النعمان. وروي، إن "زهير بن أبي سلمى" رثى النعمان كذلك.
ويروي أهل الأخبار شعرا زعموا أن "عدي بن زيد" قاله لأهل بيت النعمان، هو: فلا يمينا بذات الودع، لو حدثت فيكم، وقابل قبر الماجد الزارا
وقد علق "ابن قتيبة الدينورى" عليه بقوله: "ذات الودع. صنم كان بالحيرة، ويقال: بل هي الإبل التي تسير إلى مكة، يعلق عليها الودع،ويقال: إن مكة، يقال لها: ذات الودع. وواجه قبر النعمان الزار، وهي الأجمة، أي: دفن حذاءها".
إذن لبؤتم بجمع لاكفاء له أوتاد ملك تليد، جده بارا
قال: "أي لو مات لغزتكم الجيوش، فأقررتم، أو رجعتم بجيش لامثيل له، أوتادا لملك قديم قد سقط جده، أي: صرتم كذلك. وهو منصوب على الحال، ولا يجوز أن يكون منصوبا على النداء، لأنه لا يجوز أن يدعوهم بذلك، والنعمان لم يمت ".

(1/1573)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر أن ملك النعمان بلغ اثنتين وعشرين سنة. وعلى رأس ثلاث سنين وثمانية أشهر مضت من ملكه، كان الفجار الأكبر، فجار البراض، وهو لتمام عشرين سنة من مولد الرسول، ولثماني عشرة سنة وثمانية أشهر مضت من ملك النعمان بنيت الكعبة.وذلك لاحدى عشرة سنة مضت من ملك أبرويز كسرى بن هرمز.
ولا نعلم عن أعمال النعمان الحربية في بلاد الشام شيئا يذكر. وقد ذكر حمزة أنه غزا "قرقيسياء" "Circesium"، ولكنه لم يعين تأريخ وقوعها، ويقصد بذلك بالطبع غارة أغارها على أرض الروم. ولم ينسب غيره من المؤرخين العرب أو السريان إليه حروبا أخرى أجج نارها في بلاد الشام.
وقد ورد في حديث الطبري عن قصة سجن النعمان لعدي ما يفيد أن النعمان خرج يريد البحرين، فأقبل رجل من غسان، فأصاب في الحيرة ما أحب، وقد قيل: إن هذا الرجل هو "جفنة بن النعمان الجفني". ولعل هذه الغارة هي واحدة من جملة غارات قام بها الغساسنة على الحيرة. وفي شعر النابغة الذبياني اشارات إلى أمثال هذه الغارات. ويفيد خبر رواه المؤرخ "ثبوفلكتس" "Theophylaktus" إن عرب الروم أغاروا على عرب الفرس حوالي سنة "600 م"، أي في أثناء الصلح الذي عقد بين الروم والفرس.
وقد ذكر "الطبري" إن هذه الغزوة كانت في أيام وجود عدي بن زيد في سجنه فلما سمع عدي بها قال: سما صقر فأشعل جانبيها والهاك المروح والغريب
وقد ورد اسم "السيلحون" في جملة المواضع الني كان يجبيها النعمان، وذلك في شعر لأعشى قيس. ويقع السيلحون في البرية بين الكوفة والقادسية، كما ورد اسم هذا الموضع في شعر لهانىء بن مسعود الشيباني يرثي فيه النعمان ويذكر قتل كسرى اياه. ويظهر انه كان من جملة المسالح التي تحمي الحدود من البادية. والمسالح هي مواضع في الثغور يوضع فيها الجنود والمسلحون لحماية الحدود من الأعداء.

(1/1574)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم يكن النصر حليف النعمان في اليوم المعروف بيوم الطخفة "يوم طخفة". وهو يوم نسبه بعض الأخباريين أيضا الى قابوس بن المنذر بن ماء السماء كما نسبه بعض آخر إلى المنذر بن ماء السماء. وخلاصة الحادث: إن حاجب بن زرارة الدارمي التميمي سأل النعمان أن يجعل الردافة للحارث بن بيبة بن قرط ابن سفيان بن مجاشع الدارمي التميمي. وكانت لبني يربوع، يتوارثونها صغيرا عن كبير، وكان الرديف يجلس عن يمين الملك. فلما سأل النعمان موافقتهم على نقل الرادفه منهم، أبوا ذلك، لما لها من منزلة ومكانة، فبعث اليهم قابوسا ابنه وحسان أخاه على رأس جيش كثيف فيهم الصنائع والوضائع وناس من تميم وغيرهم، فساروا حتى أتوا طخفة، فالتقوا هم ويربوع واقتتلوا، وصبرت يربوع وانهزمت جموع النعمان، وأخذ قابوس وحسان أسيرين. فلما بلغ خبر هذه الهزيمة سمع النعمان طلب من أحد بني يربوع - وهو شهاب بن -قيس بن كياس اليربوعي - أن يذهب عاجلا إلى بني يربوع ليفك أسر ابنه وأخيه مقابل اعادة الردافة اليهم وأداء دية الملوك وهي ألف بعير للرجل الواحد. وبذلك صالح مرغما "بني يربوع". وهذا اليوم من الأيام التي يفاخر بها أبناء يربوع. وقد ورد ذكره في شعر مالك بن نويرة والأحوص وجرير.
ويذكر أهل الأخبار أن "النعمان بن المنذر" طلب "مالك بن نويرة"، وكان قد أراد استرضاءه، وهو من "بني يربوع"، فأبى، وهرب منه، وقال فيه شعرا يهجوه، منه: لن يذهب اللؤم تاج قد حبيت به من الزبرجد والياقوت والذهب
ويدل ذلك على أن "النعمان" "كان يتوج رأسه بتاج، فيه ذهب وأحجار كريمة.

(1/1575)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان "مالك بن نويرة اليربوعي" من "بني تميم"، لأن "بني يربوع" منهم، وقد لقب ب "الجفول". وهو شاعر شريف، وأحد فرسان بني يربوع ورجالهم، المعدودين في الجاهلية، ومن أرداف الملوك، أى ملوك الحيرة. وقد أدرك الرسول " فأسلم، وعينه على صدقات قومه فلما بلغه وفاة الرسول، أمسك الصدقة، وفرقها في قومه، وجفل إبل الصدقة، فسمي الجفول. قتله "ضرار ابن الأسود الأسدي" بأمر خالد بن الوليد.
وكان نصيب النعمان من يوم السلان كنصيبه من يوم الطخفة، وسبب وقوع هذا اليوم هو أن بني عامر بن صعصعة، وكانوا حمسا لقاحا متشددين في دينهم لا يدينون للملوك، تعرضوا للطيمة كان الملك النعمان بن المنذر يريد ارسالها إلى عكاظ لبيعها في السوق. وكان من عادته ارسال لطيمة إلى عكاظ كل عام لتباع هناك. فلما بلغ النعمان الخبر، غضب فبعث أخيه لأمه، وهو "وبرة بن رومانس الكلبي"، والى صنائعه وهم من مكان يصطنعه من العرب ليغزو بهم، والوضائع وهم الذين كانوا شبه سادة القبائل، وأرسل إلى بني ضبة بن أد وغيرهم من الرباب وتميم فجمعهم، فأجابوه، وأتاه ضرار بن عمرو الضبي في تسعة من بنيه كلهم فوارس ومعه خبيش بن دلف، فاجتمعا كلهم في جيش عظيم. وأرسل النعمان معهم تجارة، وأمرهم ألا يتحرشوا ببني عامر الا بعد الانتهاء من عكاظ ومن الأشهر الحرم. فلما انتهوا من عكاظ، أحست قريش بنيات جماعة النعمان، فأخبروا بني عامر وحذروهم فاسعتدوا للقتال. فلما وصل أصحاب النعمان اليهم، قاتلوهم عند موضع السلان، وهو موضع قريشا من منازل عامر، وتغلبوا عليهم، وأرروا وبره بن رومانس الكلبي وعددا من رؤساء القوم، وانهزمت جماعة النعمان، ورضي عندئذ من حملته هذه بدفع دية أخيه وبرة ودية عدد من الرؤساء.
ويذكر بعض أهل الأخبار إن الذي أعلم "بني عامر" بعزم الملك النعمان على الانتقام منهم، هو وجيه مكة وثريها: عبد الله بن دعان.

(1/1576)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان الذي اسر وبرة "يزيد بن عمرو بن خويلد إلصعق"، وقد أبقى "يريد" "وبرة" لديه حتى افتدى نفسه منه، أي من يزيد بن الصعق بألف بعير وفرس. فاستغنى يزيد. فلما أسر "وبرة"، ثبت جيشه "ضرار بن عمرو الضبي"، فقام بأمر الناس، ولكنه وقع في الأسر، ثم وقع رجل آخر من كبار الجيش في الأسر، وهو " حبيش بن دلف"، الذي افتدى نفسه بأربع مئة بعير، وهزم جيش النعمان.
وقد تعرضت لطيمة النعمان مرة أخرى إلى النهب حينما وكل أمر حمايتها إلى رجل من هوازن، فتربص بها رجل خليع معروف اسمه "البراض بن قيس بن رافع" من بني ضمرة بن بكر ين عبد مناة بن كنانة، فقتل حامي القافلة وساق الركاب. وكان من عادة النعمان أن يشتري بثمن اللطيمة الأدم والحرير والوكاء والحذاء والبرود من العصب والوشى والمسير والعدني من سوق عكاط.
وذكرت احدى الروايات إن الذي كان يجيز لطيمة النعمان له هو "سيد مضر" ولم تذكر اسم سيد مضر اذ ذاك.
وورد إن "البراض" وهو "رافع بن قيس" كان من فتاك الجاهلية المعروفين. وكان حالف بني سهم من قريش، فعدا على رجل من هذيل فقتله، فخلعه بنو سهم، ثم جاء إلى "حرب بن أمية" فحالفه، فعدا على رجل من خزاعة فقتله وهرب إلى اليمن، ثم جاء مكة بعد سنة، فاذا الهذليون والخزاعيون يطلبونه وقد خلع، فلحق بالحيرة، فوافق وفود العرب بالحيرة عنده. فأقام يطلب الاذن معهم، فلم يصل إليه حتى خرج النعمان فجلس للناس بالحيرة وكانت لطائمه التي توافي سوق الموسم اذا دخلت تهامة لم تهج، حتى قتل النعمان أخا بلعاء بن قيس الكناني، فجعل "بلعاء" يعترض لطائمه فينتهبها. فخاف النعمان على لطيمته، فقال يومئذ: من يجير هذه العير? فقال البراض: أنا أجيرها لك. فقال الرحال عروة بن عتبة بن جعفر بن كلاب: أنا أيها الملك أجيرها لك من الحيين كليهما، وسخر من الرحال وازدراه. فدفع النعمان اللطيمة إلى عروة الرحال.

(1/1577)


--------------------------------------------------------------------------------

ويذكر أهل الأخبار انه كان للنعان بن المنذر أخ من الرضاعة يقال له "سعد القرقرة" من أهل "هجر" كان من أضحك الناس وأبطلهم، وكان يضحك النعمان ويعجبه. وذكر إن أناسا من البطالين المضحكين كانوأ يأتونه لإضحاكه ولنيل جوائزه. وذكروا منهم "ألعيار بن عبد الله اتضبي". كان بطالا، يقول الشعر، ويضحك الملوك.
وقد كان النعمان بن المنذر مثل عمرو بن هند محبا للشعر والشعراء، والخطب والخطابه، وقد جعله الأخباريون من خير خطباء زمانه، كالذي يظهر من كلامه مع كسرى، وقد ذكر انه قال له في مجلس كان حافل بوفود الروم والهند والصين، اجتمعوا عند كسرى. كما نسب إليه وفد ضم أكثم بن صيفي وحاجب ابن زرارة التميمي، والحارث بن عباد وقيس بن مسعود البكريين، وخالد بن جعفر وعلقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل العامريين، وعمرو بن الشريد السلمي وعمرو بم معد يكرب الزبيدي والحارث بن ضالم إلمري، وكانوا خيرة من عرف بالخطابة وحسن الكلام في تلك الأيام.
وروى الأخباريون شعرا من الشعر الذي قاله أصحابه في حضرة النعمان أو في مدحه وفي مدح آل لخم، كما رووا شعرا في هجائه، ورووا بعض ما قيل في حضرته من حديث وبعض ما صادفه الشعراء حين كانوا يقصدونه لنيل ما يبتغون مثل حديث حسان بن ثابت الشاعر المخضرم المعروف فقد زاره ومدحه غير أن هواه كان إلى الغساسنة أكثر منه إلى آل لخم. فقد كان يفتخر بهم، ويسامي الناس بهم، وينال جوائزهم حتى وإن لم يكن عندهم. يرسلونها إليه إن لم يكن في استطاعته أن يشخص إليه.

(1/1578)

admin
12-27-2010, 01:30 AM
وقد جاء في شعر "حسان بن ثابت" أنه زار ابن سلمى"، أي "النعمان بن المننر"، وأنه أكرمه وقدره وحباه، وتكلم اليه في جماعة من قومه، كانوا في سجنه مقيدين مكبلين بالسلاسل حتى صفح عنهم، وأطلق لهم حريتهم، وهم أبي ونعمان وعمرو ووافد، وهم جماعة من أهل يثرب، كانوا قد حبسوا في سجن "النعمان". فأما "أبي"، فهو "أبي بن كعب بن قيس بن معاوية" من "بني النجار". وأما "نعمان"، فإنه "نعمان بن مالك بن قوقل ابن عوف بن عمرو"، وأما "وافد"، فإنه "وافد بن عمرو بن الاطنابة ابن عامر" من الخزرج. ولم يذكر "حسان" سبب حبس "النعمان" لهم، ووضعهم في السجن مكبلين بالحديد، مقفولا عليهم.
وقد ذهب "نولدكه" إلى احتمال كون "ابن سلمى" أميرا من أمراء الغساسنة، كما ذهب إلى أن "أبي " الذي كان في جملة المحكومين هو "أبي ابن ثابت" وهو شقيق حسان.
ويظهر من كلام أهل الأخبار أن النابغة الذبياني كان من أكثر الشعراء صلة بالنعمان. وفي الشعر الذي يرويه الأخباريون عنه وينسبون قوله إليه، شيء كثير من المناسبات التي وقعت بين الملك وبين هذا الشاعر، وقد استاء خصوم النابغة من قربه من النعمان، ونيله جوائزه وألطافه، فسعوا به إليه حتى غضب عليه، وهم بقتله، ولم ينجه من القتل إلا هربه من ال جفنة ملوك عرب الشام، فبقي في كنفهم مدة، ثم عاوده الحنين إلى صاحبه وحاميه القديم النعمان، فاعتذر إليه، وتنصل من التهم التي ألصقها خصومه به، وعاد يأخذ جوائزه ونعمه كما كان.

(1/1579)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر إن النعمان بن المنذر كان يكرم "النابغة" ويحبوه دوما، أمر له مرة بمائة ناقة بريشها من نوق عصافيره، المعروفة بهجائن النعمان، وجام وآنية من فضة، وكانوا اذا حبا الملك بعضهم بنوق يغمزون في أسنمتها ريش النعام ليعلم إنها حباء الملك. ذكر "حسان بن ثابت" انه وفد على النعمان بن المنذر فمدحه وأجازه الملك على مدحه وأكرمه. وبينا هو جالس عنده ذات يوم، اذا بالنابغة يدخل قبة الملك، وكان يوم ترد فيه النعم السود، ولم يكن بأرض العرب بعير أسود الا له، فأنشده كلمته التي يقول فيها: كانك شمس والملوك كواكب إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
فدقع إليه مائة ناقة من الإبل السود، فيها رعاؤها، فما حسدت أحدا حسدي النابغة، لما رأيت من جزيل عطيته وسمعت من فضل شعره.
ويذكر المسعودي إن النابغة دخل على النعمان يوما، وكان عنده نديمه خالد بن جعفر الكلابي، وكان ممن يعطف على النابغة، فمدح النعمان بشعر، " فتهلل وجه النعمان بالسرور، ثم أمر فحشي فوه جوهرا، ثم قال: بمثل هذا فلتمدح الملوك".
وتذكر رواية أخرى إن النابغة لما سأل حاجب النعمان الاستئذان للدخول عليه:
قال له الحاجب: الملك على شرابه. ولما سأله: من عنده ? قال: خالد بن جعفر بن كلاب! فتوسل إليه بأن يبلغه تحية النابغة، وأن يسهل له الدخول على الملك، ففعل وأمر النعمان حاجبه بادخاله عليه. فلما دخل، سلم عليه وحياه بتحية الملك، وجلس وهو يقول: "أيها المك. أيفاخرك صاحب غسان ? فوالله لقفاك أحسن من وجهه، ولشمالك أجود من يمينه، ولأمك خير من أبيه ولغدك أسعد من يومه. فضحك النعمان. ثم قال لخالد: من يلومني على حب النابغة ? ألك حاجة ? قال: نعم. فقضى حوائجه بأسرها، وأحسن جائزته، فانصرف داعيا له".

(1/1580)


--------------------------------------------------------------------------------

ويذكر الأخباريون إن آخر مرة اتصل بها النابغة بالنعمان كانت في أثناء مرض الملك النعمان. وكان النابغة هاربا آنذاك على أثر الوشاية به. فلما سمع النابغة بمرضه آثر السفر إليه، والاعتذار منه. فلما وصل الحيرة، كان الملك لا زال مريضا، شديد المرض. وقد حمل سريره على العادة المتبعة عند مرض الملوك مرضا شديدآ، يشرف فيه علما الموت. فاستأذن للنابغة في الدخول عليه وأنشاده ما نظمه في مدحه فسمح له بالدخول. وأنعم النعمان بالنعم عليه. وهناك روايات تذكر انه عاد إليه قبل هذا الحادث، فقبل عذره وعفا عنه.
وفي جملة من كان له شرف الاتصال بالنعمان، وبنيل هباته وجوائزه من الشعراء: المنخل اليشكرين والمثقب العبدي، والاسود بن يعفر، وحاتم الطائي وامثال هؤلاء.
أختاه هند ومارية الى الدخول في هذا الدين. وهذه رواية النساطرة في كيفية تنصر النعمان.
أما الأخباريون فينسبون تنصره الى تأثير عدي بن زيد عليه. وهم يروون أنه خرج ذات يوم راكبا ومعه عدي بن زيد، فوقف بظهر الحيرة على مقابر مما يلي النهر، فقال له عدي بن زيد: أبيت اللعن، أتدري ما تقول هذه المقابر? قال: لا ! قال: إنها تقول: أيها الراكب المخبون على الأرض المجدون
مثل ما أنتم حيينا وكما نحن تكونون
ثم قال: رب ركب قد أناخوا حولنا يشربون الخمر بالماء الزلال
ثم أضحوا لعب الدهر بهم وكذاك الدهر حالا بعد حال
فأثر هذا القول - على حد قول الأخباريين - في نفس النعمان، وارعوى، وتنصر.
وقد كان تنصر "النعمان" في حوالي سنة "593م" تقريبا، وصار يعد نفسه من حماة المذهب النسطوري الذي انتشر في العراق، كما صارت الحيرة من معاقل هذا المذهب أيضا لدخول أناس من أصحاب الجاه والسلطان فيه. ومن الحيرة خرج "سرجيوس" "Sergios" في أواسط القرن السادس، فذهب إلى اليمن، إلى نجران، حيث قام بالتبشير هناك، مدة ثلاث سنوات حتى وافته منيته بعد ثلاث سنين.

(1/1581)


--------------------------------------------------------------------------------

وينسب إلى النعمان أبو قابوس دير اللج، وقد دعي بي "دير اللجة" في "تأريخ سعرت"، ونسبه الى اللجة ابنة النعمان. وذكر إن في هذا الدير قبر "مار آبا الكبير" الجاثليق.
وينسب أهل الأخبار "شقائق النعمان" إلى "النعمان بن المنذر" فيقولون: "وكان خرج إلى الظهر وقد اعتم نبته من بين أحمر وأخضر وأصفر، واذا فيه من هذه الشقائق شيء كبير، فقال: ما أحسنها ! احموها. فحموها فسميت: شقائق النعمان".
وذكر إن النعمان كان يعتني بتربية الخيل والإبل والماشية، فكان يشتري خير فصائلها ويحميها لنفسه، ولا يسمح لأحد بالحصول عليها أو تلقيح نعمهم أو خيولهم منها الا باذنه. وقد اشتهرت اليحموم والدفوف من جملة خيوله.
وبينما نقرأ في شعر لمالك بن نويرة اليربرعي، إن تاج النعمان بن المنذر كان من ذهب وزبرجد. وياقوت، نرى "المعري" يشير إلى انه كان خرزات، ولم يكن كتاج المنذر. وخرزات الملك: جواهر تاجه.
ونجد في كتب الأخبار والأدب، إن وفود العرب كانت تفد على "النعمان ابن المنذر"، فيكرمها ويحبوها، ويقضي حوائجها. وكان يتخذ للوفود عند انصرافها مجلسا يطعمون فيه معه ويشربون. وقد يتفاخر رؤساء الوفود بعضهم على بعض، فيحكمونه في أيهم أفضل، وقد تتحول تلك المفاخرات إلى مخاصمات ومهاترات بسبب ترجيح الملك رئيسا على آخر.
ونسب حمزة إلى النعمان اربع بنات، هن: هند، وحرقة، وحريقة، وعنفقير. وهند هي البنت الوحيدة التي نعرف عنها شيئا من بنات النعمان، وقد ورد في بعض الروايات أنها لم تكن بنت النعمان، بل كانت أخته. وذكر أيضا أن والدها النعمان زوجها من عدي. وقد عاشت حتى أدركت الإسلام، وكانت مترهبة، فلم تقبل الدخول فيه. ولما ماتت دفنت في ديرهما إلى جانب قبر أبيها النعمان. وقد بقي الدير والقبران معروفين مدة طويلة في الإسلام.

(1/1582)


--------------------------------------------------------------------------------

ويذكر، أن "الحرقة" "حرقة" رأت الدنيا كيف أدبرت عن أهلها،ونظرت في حالها بعد هلاك أبيها فقالت: فبينا نسوس الناس، والأمر أمرنا إذا نحن فيهم سوقة نتنصف
فأف لدنيا لا يدوم نعيمها تقلب تارات بنا وتصرف
و"السوقه" هم العامة وسواد الناس.
وقد ذكر المسعودي هذه الأبيات،وقال إنها قالتها ل "سعد بن أبي وقاص" بوم أتته في جماعة من قومها، وقد قال إنها كانت "اذا خرجت الى بيعتها، يفرش لها طريقها بالحرير والديباح مغشى بالخرز والوشي، ثم تقبل في جواريها حتى تصل إلى بيعتها وترجع إلى منزلها. فلما هلك النعمان لفها الزمان فأنزلها من الرفعة إلى الذلة". وقد سماها "خرقاء بنت النعمان بن المنذر" ولعله قصد "حرقاء" أو "حرقة"، فحرف النساخ الكلمة وصيرها "خرقاء".
وكانت للنعمان جملة نساء، منهن: زينب بنت أوس بن حارثة، وفرعة بنت سعد بن حارثة بن لأم، وقد ولدت له ولدا وبنتا، وكانت عنده لما طلبه كسرى، وصار يتجول بين القبائل ليمنعوه. ومارية الكندية، وهي أم هند التي تزوجها عدي بن زيد.
ويذكر "ابن قتيبة" انه كانت للنعمان دار في الحيرة عرفت ب "الزوراء". وقد بقيت قائمة الى ايام أبي جعفر المنصور، فأمر بهدمها، ولم يذكر السبب الذي حمله على ذلك. وقد ذكرها "النابغة" فقال: بزوراء في أكنافها المسك كارع

(1/1583)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر إن في جملة وزراء النعمان عمرو بن بقيلة والد عبد المسيح،وهو صاحب قصر بني بقيلة بالحيرة. وكان عبد المسيح في جملة من اشترك في المفاوضات مع خالد بن الوليد لعقد الصلح وتسليم الحيرة، وله دير بناه في ظاهر الحيرة. في موضع يقال له الجرعة،عرف ب "دير الجرعة" و ب "دير عبد المسيح". وقد ورد ذكر زوجة من زوجات "النعمان بن المنذر" في كتب الأدب، هي "المتجردة". ويظهر أن "جلم بن عمرو"، كان قد تعرض لها، فبلغ أمره "النعمان" فحمله على أن يركب فرسه "اليحموم"، فأرداه. وقد وصفها "النابغة" في "الدالية" المنسوبة إليه. وسمع "النعمان" بالقصيدة كما يذكر أهل الأخبار، بدس حساد النابغة القصيدة والأشعار الأخرى إلى النعمان، فانزعج منها. ولما بلغ "النابغة" الخبر، فر إلى الغساسنة لينجو بنفسه من عقابه. وكان النعمان متيما ب "المتجردة" وللشعراء فيها قصائد مشهورات.
ويذكر أهل الأخبار أن سيفا من سيوف "النعمان ين المنذر" جيء به إلى الخليفة "عمر"، فأعطاه "جبير بن مطعم".
أما عدي بن زيد، فهو من العباديين، اي من نصارى الحيرة. وأما والده فهو زيد بن حماد "حماز" بن زيد بن أيوب بن محروف بن عامر بن عصية بن امرئ القيس بن زيد مناة بن تميم، فهو تميمي الأصل. وكان لزيد ثلاثة أولاد هم: عدي هذا الذي تحدثنا عنه، وعمار "حمار" "حماد" واسمه أبي وكان مع كسرى وعمرو واسمه سمي، ولهم أخ من أمهم يدعى بن حنظلة، وهو من "طيء".
وكان أيوب جد عدي من أهل اليمامة على رواية الاخباريين، كان يقيم في بني امرئ القيس بن زيد مناة، ولكنه اضطر إلى ترك اليمامة والهجرة الى الحيرة لإصابته دما، فخاف على نفسه من القتل، والتجأ إلى أوس بن قلام، وكان بينه وبين أوس نسب في النساء. فلما قدم أيوب الحيرة، نزل في دار أوس، وأقام عنده أمدا. ثم أقام في دار أخرى بعد أن حباه أوس وأكرمه، وصار له شأن في البلد ومقام. فاتصل بالملوك وتقرب اليهم وغدا من علية القوم.

(1/1584)


--------------------------------------------------------------------------------

وصار لزيد بن أيوب شأن يذكر في البلد، وتزوج امرأة من آل قلام ولدت
له ولدا دعاه حمادا. وبينما كان زيد يتصيد في البادية، اصطاده رجل من بني امرئ القيس، فقتله بسهم أخذا لثأر قومه من أبيه أيوب. وعلم حماد "حماز" الكتابة والقراءة، فكان أول من كتب من بني أيوب في رواية الأخباريين، وغدا من أكتب الناس في الحيرة، ولذلك اختير كاتبا لملك الحيرة، واتصل بكبار الفرس ومنهم. "فروخ ماهان" الذي تكفل زيد بن حماد بعد وفاته، ورباه مع أبنائه. ثم أوصله إلى كسرى أنو شروان فجعله على البريد، لما تبين له من ذكاء زيد وقدرته في العربية والفارسية. وهي وظيفة لم تكن تعلى لغير أبناء الفرس.
وتزوج زيد امرأة من طيء ولدت له عديا، وقد ربي هذا تربية طيبة، فأرسل إلى الكتاب، فلما حذق ومهر فنه بالعربية، أرسل إلى كتاب الفارسية، فتعلم مع أولاد المرازبة ومنهم شاهان مرد الفارسية حتى صار من الحاذقين بها العارفين بفنونها، ثم تعلم الرماية ولعب الصولجان، واتصل بكبار الفرس. وقد ساعده مركزه هذا على التقرب من آل لخم. والى "زيد بن حماد" أوكل تدبير شؤون ملك الحيرة بعد سياحة النعمان على رواية بعض الأخباريين إلى أن انتقل الملك إلى المنذر بن ماء السماء.

(1/1585)


--------------------------------------------------------------------------------

وقرب عديا إلى كسرى أنو شروان المرزبان فروخ ماهان، فعهد إليه الكتابة بالعربية. فتولاها وصار له شأن يذكر عند الفرس، كما صار له مركز خطير في قصور آل لخم. ولما توفي كسرى أنو شروان، وملك هرمز ابنه، أرسل عديا إلى قيصر الروم "طيباريوس" "طبريوس" بمهمة سياسية، فاظهر لباقة وحنكة وحكمة، مما جعل القيصر يحترمه، فأكرمه، وحباه، وأراه أطراف مملكته، وذهب إلى دمشق، وأقام فيها أمدا، وهو على صلات حسنة بالروم، وفي أثناء اقامته بالشام، أراد أهل الحيرة قتل المنذر والخروج عليه، لظلمه وأخذه أموالهم بغير حق. فلما علم بذلك المنذر، طلب من زيد والد عدي أن يتولى هو الأمر، وفرح الناس على ما يذكره الرواة بهذا القرار، فجاؤوه يحيونه بتحية الملك، ولكنه أبى أن يسمى ملكا، ورضي بالحكم بغير هذا الاسم، وسر المنذر بهذا الحل، ورضي به. وبقي في هذا المركز إلى إن هلك، وابنه بعيد عنه في دمشق.
فلما جاء عدي من الشام، لم ينس المنذر فضل أبيه عليه، وانقاذه الملك بهذا الحل، وسلمه ما كان قد تركه أبوه، واستقبله استقبالا عظيما حينما قدم الحيرة قادما من المدائن بعد زيارته لكسرى لتقديم هدية القيصر إليه. وأقام في الحيرة سنين يتصيد ويلهو ويلعب، ويبدو في فصلي السنة، فيقيم في حفير، ويشتو بالحيرة، ويأتي، المدائن في خلال ذلك فيخدم كسرى. وكان لا يؤثر على بلاد بني يربوع مبدى من مبادي العرب، ولا ينزل في حي من أحياء بني تميم غيرهم. وكان أخلاؤه من العرب كلهم بني جعفر. وكانت إبله في بلاد بني ضبة وبلاد بني سعد، ولم يزل على حاله تلك حتى تزوج هندا بنت النعمان ين المنذر.
وأمها "مارية الكندية" فهي من كنده من جهة الأم. ثم أمره "النعمان" بالافتراق منها وتطليقها بعد ما غضب عليه وألقاه في السجن.

(1/1586)


--------------------------------------------------------------------------------

وروى الأخباريون لعدي شعرا زعموا انه قال أكثره في حبسه وفي معاتبته للنعمان وفي توسله إليه بأن يطلقه من حبسه، وفيه مواعظ تذكر النعمان بأن الدنيا زائلة، وانها دار فناء، وان الملك لا يدوم، وأمثال ذلك. وهو شعر لم ينظر إليه علماء الشعر نظرتهم إلى شعر الشعراء الفحول، وذلك لأنه كان قرويا، أي من أهل الحضر، ولذلك أيضا لم يستشهد به علماء اللغة في ضبط قواعد اللغة.
هذا ويذكر "ابن النديم" في كتابه "الفهرست" إن في جملة مؤلفات "ابن الكلبي" الكثيرة مؤلفا اسمه "كتاب عدي بن زيد العبادي"، وهو كتاب لم يصل الينا حتى الآن. ولعله كان في جملة الموارد الرئيسية التي اعتمد عليها المؤرخون وأهل الأدب والأخبار في تدوينهم أخبار ذلك الشاعر السياسي الأديب.
ونجد في "رسالة الغفران" شعرا لعدي. وقد دعي ب "السروي" في موضع منها، حين تحدث مؤلفها "المعري" عن المنادمة وعن باطية الخمر. وكني ب "أبي سوادة" في موضع آخر.

(1/1587)


--------------------------------------------------------------------------------

وانتقل ملك الحيرة بعد مقتل النعمان إلى رجل غريب لم يكن من لخم،اسمه إياس بن قبيصة الطائي، أو إياس بن قبيصة بن أبي عفراء، أو إياس بن قبيصة بن النعمان بن حية بن سعنة. وله خال اسمه حنظلة بن أبى عفراء بن النعمان. ويقال انه كان نصرانيا. وقد ذكر له أخ اسمه قيس بن قبيصة كان نازلا بعين التمر. وذكر إن والده كان من شعراء جرم، وجرم رهط من طيء. وآل قبيصة من الأسر المعروفة في الحيرة، وقد سبق أن عهدت إلى إياس ادارة مهمات الحكومة بعد وفاة المنذر، فمكث أشهرا ملكا يدير أمور الملك إلى أن أعطي التاج للنعمان أبي قابوس. ويظهر من روايات الأخباريين انه كان مقربا من كسرى لأنه ساعده حينما هرب من بهرام، وأهدى إليه فرسا وجزورا، ولأنه عاونه في نزاعه مع الروم. فلما فر أبناء النعمان بعد مقتل والدهم، وتشتت شمل البيت المالك مدة، تذكر كسرى فضل هذا الرجل عليه فعينه ملكا على الحيرة، وعين معه رجلا فارسيا اختلفوا في اسمه، فقالوا: "الهمرجان" و "البحرجان" و "النخرجان" و "التخرجان". وهو اختلاف يسير، يعود سببه على ما يظهر إلى عدم تمكن النساخ أو الرواة من ضبط الكلمة. والظاهر انها وظيفة ومركز، حسبها الرواة اسم علم، فأطلقوها على شخص. وقد كان كسرى قد عينه مدة أشهر على الحيرة، وذلك قبل أن ينتقل الملك إلى النعمان.
وذكر الأخباريون إن كسرى ين هرمز كان يتيمن ب "إياس"، ويفزع إليه في حروبه ويعجبه، وانه استنجد به في حربه مع قيصر، فتعقبه حتى أدركه في موضع "ساتيدما" فاثخن القتل في جنوده، ونجا قيصر في خواص من أصحابه بصعوبة. وأصيب إياس بمرض في هذه السفرة، أشار الأعشى في شعره إليه. وللاعشى قصائد في مدح إياس، وكانت له صلة به، وقد أغدق عليه نعمه.

(1/1588)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي رواية ذكرها أبو الفرج الأصبهاني أن كسرى كان قد عين إياسا على عين التمر وما والاها من الحيرة، وأطعمه ثلاثين قرية على شاطىء الفرات. ويظهر من هذه الرواية ومن رواية وفاته في عين التمر ووجود أخيه فيها أن عين التمر كانت من مناطق نفوذ هذه الأسرة حتى في ايام ملك آل لخم.
وذكر "الدينوري" أن كسرى ولي أياس بن قبيصة الطائي ثمانية أشهر، واضطرب أمر كسرى وجاء الإسلام ومات إياس بعين التمر، وفيه يقول زيد الخيل: فان يك رب العين خلى مكانه فكل نعيم لا محالة زائل
وذكر بعض أهل الأخبار أن حكم إياس، دام تسع سنين.
ولا نعرف شيئا مهما قام به إياس في أثناء توليه الملك، ويظهر أن حكمه لم يكن يتجاوز هذه المنطقة التي أشار اليها الاخباريون، ولم يشر الأخباريون إلى قيامه بغارات على عرب الشام. أما الشيء المهم الذي وقع في أثناء توليه الحكم، فهو يوم ذي قار.
ذو قار
وذو قار ماء لبكر بن وائل قريب من الكوفة بينها وبين واسط. وبالقرب منه مواضع منها حنو ذي قار وقراقر وجبابات ذي العجرم وجذوان وبطحاء ذي قار. ويقع حنو ذي قار على ليلة من ذي قار.

(1/1589)


--------------------------------------------------------------------------------

يرجع الاخباريون سبب وقوع ذي قار الى مطالبة "كسرى ابرويز" هانىء ابن قبيصة بن هانىء بن مسعود أحد بني ربيعه بن ذهل بن شيبان بتسليم الودائع التي أودعها النعمان لديه إليه. فلما أبى هانئ تسليم ما اؤتمن عليه لغير أهله، غضب كسرى، فبعث الى الهامرز التستري، وهو مرزبانه الكبير، وكان مسلحه في القطقطانه، والى جلابزين وكان مسلحه في بارق، كما كتب إلى قيس بن مسعود بن قيس بن خالد بن ذي الجدين، وكان كسرى استعمله على سفوان بأن يرافقوا إياسا فإذا اجتمعوا فإياس على الناس. وجاءت الفرس معها الجنود والفيلة عليها الأساورة، فالتحموا بأرض ذي قار. فلما كان اليوم الأول،استظهر الفرس على العرب، ثم جزعت الفرس في اليوم الثاني من العطش، فصارت إلى الجبابات، فتبعتهم بكر وباقي العربان، فعطش الأعاجم، ومالوا إلى بطحاء ذي قار وبها اشتدت الحرب، وانهزمت الفرس، وكسرت كسرة هائلة، وقتل اكثرهم وفيهم الهامرز وجلابزين، وانتصر العرب على الفرس انتصارا عظيما، وانتصفت فيه العرب من العجم.
ويوم ذي قار لم يكن اذن يوما واحدا، أي معركة واحدة وقعت في ذي قار وانتهى أمرها بانتصار العرب على الفرس، بل هو جملة معارك وقعت قبلها ثم ختمت ب "ذي قار"، حيث كانت المعركة الفاصلة فنسبت المعارك من ثم إلى هذا المكان. ومن هذه الأيام: يوم قراقر، ويوم الحنو. حنو ذي قار، ويوم حنو قراقر، ويوم الجبابات، ويوم ذي العجرم، ويوم الغدوان، ويوم البطحاء: بطحاء ذي قار، وكلهن حول ذي قار.

(1/1590)


--------------------------------------------------------------------------------

أما متى وقع يوم ذي قار، فالمؤرخون مختلفون في ذلك، منهم من جعله في يوم ولادة الرسول، ومنهم من جعله عند منصرف الرسول من وقعة بدر الكبرى، ومنهم من جعله قبل الهجرة. وقد ذهب "روتشتاين" إلى انه كان حوالي سنة "604 م"، وذهب نولدكه إلى انه بين "604" و "615 م". وأكثر أهل الأخبار انه وقع بعد المبعث ورووا في ذلك حديثا قالوا إن الرسول لما بلغه من هزيمة ربيعة جيش كسرى، قال: "هذا أول يوم انتصف العرب من العجم، وبي نصروا".

(1/1591)


--------------------------------------------------------------------------------

والذي يستنتج من روايات أهل الأخبار عن معركة ذي قار إن "هانئ بن مسعود الشيباني"، لم يكن قائد بني شيبان ولا غيرها من العرب يوم ذي قار، بل تذهب بعض الروايات إلى انه لم يدرك هذا اليوم، لأنه هلك قبله،وانما هو: "هانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود". وترى روايات أخرى أن ""هانئ ابن مسعود"، كان يخشى عاقبة هذه الحرب وانه لم يكن يريد مقابلة الفرس، و كل ما كان يريده هو الاحتفاظ برهينة النعمان، وأن الفرس عندما دنوا من العرب بمن معهم: "انسل قيس بن مسعود ليلا فأتى هانئا، فقال له: أعط قومك سلاح النعمان فيقووا، فإن هلكوا كان تبعا لأنفسهم، وكنت قد أخذت بالحزم، وإن ظفروا ردوه عليك. ففعل. فقسم الدروع والسلاح في ذوي القوى والجلد من قومه. فما دنا الجمع من بكر، قال لهم هانئ: "يا معشر بكر، إنه لا طاقة لكم بجنود كسرى ومن معهم من العرب، فاركبوا الفلاة". فتسارع الناس إلى ذلك، فوثب حنظلة بن ثعلبة بن سيار فقال له: انما أردت نجاتنا، فلم تزد على أن ألقيتنا في الهلكة، فرد الناس وقطع وضن الهوادج، لئلا تستطيع بكر أن تسوق نساءهم إن هربوا - فسمي مقطع الوضن -، وهي حزم الرحال. ويقال: مقطع البطن، والبطن حزم الأقتاب، وضرب حنظلة على نفسه قبة ببطحاء ذي قار، وآلى ألا يفر حتى تفر القبة. فمضى من مضى من الناس، ورجع أكثرهم، واستقوا ماء لنصف شهر، فأتتهم العجم، فقاتلتهم بالحنو، فجزعت العجم من العطش، فهربت ولم تقم لمحاصرتهم، فهربت الى الجبابات، فتبعتهم بكر وعجل"، "فقاتلوهم بالجبابات يوما. ثم عطش الأعاجم، فمالوا الى بطحاء ذي قار، فأرسلت إياد إلى بكر سرا - وكانوا أعوانا على بكر مع إياس بن قبيصة: أي الأمرين أعجب اليكم. أن نطير تحت ليلتنا فنذهب، أو نقيم ونفر حين تلاقون القوم? قالوا: بل تقيمون فإذا التقى القوم انهزمتم". فلما التقى القوم في مكان من ذي قار يسمى "الجب" اجتلدوا والتحموا، فانهزمت "اياد" كما وعدتهم، وانهزم

(1/1592)

admin
12-27-2010, 01:31 AM
الفرس.
ويذكر "الطبري" في رواية من رواياته عن "ذي قار" أن الناس توامروا فولوا أمرهم حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي، وكانوا يتيمنون به، فقال لهم: لا أرى إلا القتال، فتبعوا أمره، وهو الذي تولى إدارة القتال، فكان له شأن كبير فيه، وقد قاد قومه من "بني عجل" في ذلك القتال، فله النصيب الأكبر منه. وقد احتل "حنظلة" مسيرة "هانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود" رئيس بكر في القتال الذي جرى في ذي قار في موضع الجب.
وكان "هانئ بن قبيصة" رئيس بكر يشغل القلب في أثناء الهجوم على الفرس يوم الجب في ذي قار، وكان على ميمنته "يزيد بن مسهر الشيباني"، و "حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي" على ميسرته يحميه من كل هجوم جانبي يقع عليه من الميسرة، كما ذكرت.
و كان "يزيد بن حمار السكوني"، وهو حليف لبني شيبان، قد كمن مع قومه من بني شيبان في مكان من ذي قار هو الجب، فلما جاء إياس بن قبيصة مع الفرس إلى هذا المكان، خرج مع كمينه، فباغت إياسا ومن معه، وولت إياد منهزمة، فساعد بذلك كثيرا في هزيمة الفرس.
فهؤلاء المذكورون اذن هم الذين قادوا نصر العرب على الفرس. وقد ذهب بعض الأخباريين الى أن الحرب الرئيسية دارت على بني شيبان، ورئيس الحرب هو "هانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود". أما "حنظلة" فكان صاحب الرأي. ولكن الذي يظهر من دراسة مختلف الروايات إن شأن حنظلة في القتال كان أهم وأعظم من شأن هانئ فيه، حتى لقد ذكرت بعض الروايات انه هو الذي ولي أمر القتال بعد هانئ، وان القوم صيروا الأمر إليه بعد هانئ في معركة "جب ذي قار" وانه هو الذي قتل "جلابزين"، وان كتيبته "كتيبة عجل" قامت بأمر عظيم في هذه المعركة الي انتهت بهزيمة الفرس.

(1/1593)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي من سادات قومه، وهو صاحب قبة، ضرب له يوم ذي قار ويوم فلج، ولا تضرب قبة الا لملك أو سيد. وكانت له بنت يقال لها "مارية"، كانت معه في هذه المعركة، وهي أم عشرة نفر أحدهم جابر بن أبجر. وأورد الطبري شعرا في يوم ذي قار نسبه الى "يزيد بن المكسر بن حنظلة بن ثعلبة بن سيار"، واذا كان يزيد هذا هو حفيد حنظلة كما يظهر من سياق النسب، يكون حنظلة اذ ذاك كبيرا في السن. وقد نسب الطبري الى حنظلة شعرا ذكر انه قاله في يوم ذي قار.
وذكر إن "النعمان بن زرعة التغلبي" هو الذي أشار على كسرى بمهاجمة "هانئ بن مسعود الشيباني" في ذي قار، وكان يحب هلاك بكر بن وائل، وان إيادا وهي في الحرب اتفقت سرا مع بكر على الهرب، فهربت حين كان إياس بن قبيصة والفرس يقاتلون بكرا، فاضطرب صف العجم، وولوا الادبار، فقتل منهم من قتل، وأسر عدد كبير. وأسر "النعمان بن زرعة التغلبي". والروايات عن معركة ذي قار، هي على شاكلة الروايات عن أيام العرب وعن حروب القبائل وغزو بعضها بعضا،من حيث تأثرها بالعواطف القبلية وأخذها بالتحيز والتحزب. فنرى فيها تحيزا لبني شيبان يظهر في شعر "الأعشى" لهم، اذ يمدحهم خاصة، مما أدى الى غضب غيرهم مثل "اللهازم"، ونرى فيها اعطاء فخر لفلان وحبسه عن فلان. ولذلك يجب على الباحث عن أيام العرب وعن حروب القبائل وغزواتها أن يفطن لذلك.
وشعر الأعشى، أعشى بكر، في ذي قار، ومدحه قومه "بني بكر"، شعر مهم للوقوف على حوادث تلك المعركة وكيف جرت. ولبكير: أصم بني الحارث، شعر أيضا يمدح فيه بني شيبان ويمجد عملهم وفعلهم في هذا اليوم. وقد هجا "أعشى بكر" في قصيدة له عن يوم ذي قار وعن مقام عشيرته ومكانته فيه تميما وقيس عيلان، ثم تعرض لقبائل معد، فقال: لو أن كل معد كان شاركنا في يوم ذي قار،ما أخطاهم الشرف

(1/1594)


--------------------------------------------------------------------------------

ونجد شعرا للعديل بن الفرخ العجلي، يفتخر فيه بقومه ويتباهى بانتصارهم على الفرس في هذا اليوم، ويقول: ما أوقد الناس من نار لمكرمة إلا أصطلينا، وكنا موقدي النار
وما يعدون من يوم سمعت به للناس أفضل من يوم بذي قار
جئنا بأسلابهم والخيل عابسة يوم استلبنا لكسرى كل أسوار
وكان هانئ بن قبيصة، من أشراف قومه، وكان نصرانيا، وأدرك الإسلام فلم يسلم، ومات بالكوفة. أما "قيس بن مسعود بن قيس بن خالد بن ذي الجدين"، فكان سيد قومه في أيامه،وذلك قبل الإسلام. وكان كسرى استعمله على "طف سفوان".
ويذكر بعض أهل الأخبار أن هناك يوما آخر، عرف بيوم "ذي قار"، وقد وقع أيضا بين العرب والفرس، فانتصر فيه العرب أيضا، وقد وقع قبل اليوم المذكور، فعرف لذلك بيوم ذي قار الأول، وبيوم صيد، وبيوم القبة. وكان سببه أن بكر بن وائل أصيبت بسنة "أي قحط" فخرجت حتى نزلت بذي قار، وأقبل حنظلة بن سيار العجلي، حتى ضرب قبته بين ذي قار وعين صيد، وكان يقال له "حنظلة القباب" وكانت له قبة حمراء، إذا رفعها انضم إليه قومه، فأتاهم عامل كسرى على السواد ليخرجهم منه، فأبوا، فقاتلهم فهزموه وانتصروا عليه.
وقد نسب إلى "زيد الخيل" شعر، زعم انه قاله يذكر إياس بن قبيصة الطائي هو: أفي كل عام سيد يفقدونه تحكك من وجد عليه الكلاكل ?
ثم يكون العقل منكم صحيفة كما علقت على السليم الجلاحل ?

(1/1595)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد قال "ابن قتيبة الدينوري" في تفسيره: "كان كسرى أرسل إلى مال إياس ليأخذه فنفرت عن ذلك طيء، وقد أراد أن يبطش بأناس منهم. فلما رأى ذلك كسرى، كتب لهم كتابا في أمان، فقال زيد شعرا، هذان البيتان فيه، يحض قومه، وينهاهم أن يقبلوا كتابه، أو يطمئنوا إلى قوله". وليس في هذا الشرح كما نرى تفسيرا للسبب الذي دفع كسرى إلى المطالبة بمال إياس. هل كان ذلك بسبب اختلافه معه، أو بسبب آخر. ولا يعقل أن تكون هذه المطالبة في حالة صلح وعلاقات طيبة بين الجهتين، بل لا بد أن تكون عن ظروف سيئة لم يتطرق لها "ابن قتيبة".
وعندي إن هذه الحادثة إن صحت روايتها، وجب أن تكون قد وقعت بعد موت "إياس"، وتركه ثروة وأملاكا طائلة، فأراد الفرس الاستحواذ عليها، وأخذ ما جمعه من مال، فحدث ما حدث.
وذكر الأخباريون بعد "إياس" رجلا فارسيا. قالوا انه هو الذي حكم "الحيرة" وملكها في زمن "أبرويز"، وفي زمن شيرويه بن أبرويز، وفي زمن أردشير ابن شيرويه، وفي زمن بوران بنت أبرويز، وذكروا إن مدة حكمه سبع عشرة سنة أو أقل من ذلك. وسموا هذا الرجل "أزادبه بن ماهيبيان بن مهرا بنداد" أو "أزاذبه بن يابيان بن مهر بنداذ الهمذاني"، أو "آزادبه بن ماهان بن مهر بنداد الهمذاني" أو "زادويه الفارسي"، حكم سبع عشرة سنة، من ذلك في زمن كسرى بن هرمز أربع عشرة سنة وثمانية أشهر، وفي زمن شيرويه ين كسرى ثمانية أشهر، وفي زمن أردشير بن شيرويه سنة وسبعة أشهر، وفي زمن بوران دخت بنت كسرى شهرا. ولكنهم لم يذكروا من أمره شيئا، فلا نعرف من أعماله أي شيء مع طول مدة حكمه إن صحت رواية الأخباريين.

(1/1596)


--------------------------------------------------------------------------------

وأرى إن "دادويه الفارسي" الذي ذكر "حمزة الأصفهاني" انه كان قد ملك الحيرة، هو "زادويه" المذكور، وان النساخ قد أخطأوا في كتابة الاسم فصيروه على هذه الصورة، او إن "حمزة" نفسه قد أخطأ في التسمية، أو هو نقلها من كتابين مختلفين أو من مصدر واحد كتبهما بصورتين، فشايعه حمزة ولم ينتبه إلى انه صير الأسم الواحد اسمين.
وذكر بعض أهل الأخبار إن الذي حكم بعد "آزاذبه" هو "المنذر بن النعمان ابن المنذر" المعروف ب "الغرور" أو "المغرور"، وهو المقتول بالبحرين يوم جواثا"، " فكان ملكه وملك غيره إلى أن قدم خالد بن الوليد الحيرة ثمانية أشهر". وهو كلام مشكوك فيه. ففي الاخبار أن المنذر لم يحكم الحيرة، وإنما حكم البحرين في أثناء الردة، وذلك بأن ربيعة حينما ارتدت عن الإسلام قالت: نرد الملك في المنذر بن النعمان بن المنذر. فلما حارب المسلمون المرتدين، منوا بهزيمة منكرة، وسقط المنذر اسيرا في أيدي المسلمين. ويقال إنه أسلم على أثر ذلك، وسمى نفسه "المغرور" بدلاء من "الغرور"، وهو اللقب الذي كان يعرف به قبل اسلامه.
ويظهر أن النصرانية كانت هي المتفشية في البحرين وفي بني عبد القيس، و قد كان المنذر الغرور مع المرتدين، الذين تركوا الإسلام وعادوا إلى النصرانية بعد دخولهم في الإسلام.

(1/1597)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذكر "الطبري" في حديثه عن يوم المقر وفم فرات بادقلي: أن الذي كان يلي أمر الحيرة هو "الآزاذبه"، وقال فيه: "كان مرزبان الحيرة أزمان كسرى إلى ذلك اليوم". وقد كان من أشراف الفرس وسادتهم، وذكر أيضا: أن قيمة قلنسوته خمسون ألفا، وقيمة القلنسوة عند الفرس تدل على مكانة صاحبها وشأنه عند الساسانيين. وانه لما سمع بدنو "خالد بن الوليد" من الحيرة تهيأ لحربه، وقدم ابنه، ثم خرج في أثره حتى عسكر خارجا من الحيرة، وأمر ابنه بسد الفرات، ولكن خالدا فاجأه وأصاب جيشه فلما بلغ أباه خبر ما حل به، هرب من غير قتال، وكان عسكره بين الغريين والقصر الأبيض، وتمكن بذلك خالد بن الوليد من فتح الحيرة.
فيفهم من حديث الطبري عن فتح الحيرة أن المنذر بن النعمان لم يكن قد ولي حكمها، وأن ما ذكره من توليه الحكم ثمانية أشهر، يناقض ما ذكره هو فيما بعد عن فتح الحيرة وبقية أرض العراق ويخالف كذلك ما ورد في بقية كتب أهل الأخبار عن فتوح العراق.
وكان ملوك الحيرة مثل غيرهم من الملوك، كالغساسنة و الساسانيين والروم، يتراسلون مع القبائل وعمالهم بالبريد. وكانت برد ملوك العرب في الجاهلية الخيل، تنطلق في مراحل، فإذا بلغ البريد المرحلة المعينة استراح، وتولى البريد الثاني نقل الرسائل إلى المكان المقصود... وبذلك تتم المراسلات.
ومن الأسر المعروفة في الحيرة، العدسيون، وهم من "كليب"،وقد نسبوا إلى أمهم على ما يذكره أهل الأخبار.
ومن سادات الحيرة وأشرافها "بنو الأوس بن قلام بن بطين بن جمهير "جمهر" بن لحيان"، وكان منهم "جابر بن شمعون" الأسقف من أساقفة الحيرة المعروفين، وهو صاحب القصر الأبيض بالحيرة.
وقد اشتهرت الحيرة بسوقها، إذ كان الأعراب وتجار جزيرة العرب يقصدون السوق لبيع تجارتهم وشراء ما فيها من سلع نفيسة مطلوبة في بلاد العرب. وقد اشتهرت بنوع خاص من السيوف، قيل لها "السيوف الحاربة"، كما عرفت بصناعة الأنماط.

(1/1598)


--------------------------------------------------------------------------------

واشتهرت الحيرة بقصرها المعروف ب "الخورنق". وهو قصر يقع على ثلاثة أميال منها، ويقال إنه بني على نهر: بناه للنعمان المعروف بالأعور بناء رومي اسمه "سنمار" في عشرين سنة. وقد لقي البناء مصرعه بسبب هذا القصر، في قصص يرويه عنه أهل الأخبار، ويضربون به المثل في المكافأة على الفعل الحسن بالقبيح.
ولأهل الأخبار آراء في التسمية: منهم من يقول إنها عربية ومن أصل عربي ومنهم من يقول إنها فارسية، وأن اللفظة معربة.
وارتبط باسم "الخورنق" اسم قصر آخر هو "السدير". وقد بني في البرية، فهو أبعد من الخورنق عن الحيرة. ولأهل الأخبار كعادتهم قي تعليل الأسماء العادية مذاهب في التسمية. ويرجح المستشرقون انها من الالفاظ المعربة عن الفارسية. وقد كان ذا قباب ثلاث، ويتألف من ايوان ينتهي الى غرفه، وعلى جانبيه غرفتان. ويظهر من روايات أهل الأخبار انه كان أقدم عهدا من الخورنق، وان ملوك آل لخم كانوا يقيمون فيه في قديم الزمان.
وذكر إن "السدير" نهر بالحيرة، قال عدي: سره حاله وكرة ما يم لك، والبحر معرضا، والسدير
وفي شعر ينسب إلى الأسود بن يعفر، ذكر للقصرين المذكورين،رثى الشاعر فيه حال "آل محرق"، وتألم وتوجع لما نزل وحل بهم، كما توجع لإياد، اذ قال: ماذا أؤمل بعد آل محرق تركوا منازلهم، وبعد إياد ?
أرض الخورنق والسدير وبارق والقصر ذي الشرفات من سنداد
ويجب أن يكون هذا الشعر قد نظم بعد نكبات حلت ب "آل محرق"، حملتهم على ترك ديارهم وعلى زوال سلطانهم عنها، أي بعد النكبة التي حلت بالنعمان بن المنذر بعد زوال دولة المناذرة.
وبارق: اسم موضع على مقربة من الكوفة، وموضع آخر في السواد على مبعدة من الكوفة. أما "سنداد" فمن مواضع إياد.

(1/1599)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن الأماكن التي تنسب إلى ملوك الحيرة موضع يعرف باسم "الدوسر"، قيل انه من أبنية أحد أمراء الحيرة. وقد ملكه "جعبر بن مالك"، وهو من "بني قشير"، فنسب إليه، وعرف ب "قلعة جعبر". ويظن انه موضع " Dausara" الذي ذكره "اسطيفان البيزنطي". ويقع على الشاطئ الأيسر لنهر الفرات. ومن أسمائها عند اليونان "Dauses" و "دونه" "Daune" و "Dabanae".
ومن المواضع القريبة من الحيرة موضع يعرف ب "الخصوص"، تنسب إليه "الدنان"، ذكر في "صادية" "عدي بن زيد العبادي". وموضع "عمير اللصوص" وهو قرية من قرى الحيرة. ودير قرة، وهو بإزاء "دير الجماجم" منسوب الى "قرة"، وهو رجل من لخم بناه على طرف البر ايام النعمان.
وقد تأثر فن بناء القصور في الحيرة وما والاها من قصور "آل لخم" بالفن الساساني فصار في القصر رواق في الوسط هو مجلس الملك،وهو الصدر،وجناحان هما كمان يكونان طرفي الرواق، ميمنة وميسرة. وقد صار هذا الطراز من البناء سمة من سمات بناء قصور الحيرة، وكذلك تأثر تزويق جدران بيوت الحيرة ونقشها بطريقة الفن الساساني في تزيين جدران القصور والبيوت ونقشها. وقد أثرت طريقة أهل الحيرة هذه في فن البناء في مدينة "سامراء".
وفي كتاب "مروج الذهب" إشارة إلى قصر المتوكل المعروف ب "الحيري"

(1/1600)


--------------------------------------------------------------------------------

والكمين، قال فيه: "وأحدث المتوكل في أيامه بناء لم يكن الناس يعرفونه، وهو المعروف بالحيري والكمين والأروقة، وذلك أن بعض سماره حدثه في بعض الليالي: أن بعض ملوك الحيرة من النعمانية من بني نصر، أحدث بنيانا في دار قراره، وهي الحيرة على صورة الحرب وهيأتها للهجته بها وميله نحوها لئلا يغيب عنه ذكرها في سائر أحواله، فكان الرواق مجلس الملك، وهو الصدر، والكمان ميمنة وميسرة، ويكون في البيتين اللذين هما الكمان من يقرب منه من خواصه وفي اليمين منهما خزانة الكسوة وفي الشمال ما احتيج إليه من الشراب، والرواق قد عم فضاؤه الصدر، والكمين والأبواب الثلاثة على الرواق، فسمي هذا البنيان إلى هذا الوقت بالحيري والكمين اضافة إلى الحيرة. واتبع الناس المتوكل في ذلك ائتماما بفعله، واشتهر إلى هذه الغاية". وفي هذا الوصف وصفه لذلك القصر الذي بناه أحد النعامنة. ولكن أي نعمان هو ? هل هو النعمان صاحب الخورنق أو هو نعمان آخر بنى قصرا آخر في عاصمته الحيرة.
وقد وجد بعض المؤرخين في هذا الوصف دلالة على احتمال كون القصر المعروف ب "قصر المشتى"، هو من بناء أحد ملوك الحيرة، إذ وجد في خطة بنائه، وفي هذا الوصف شبها حمله على القول باحتمال كونه من أبنيتهم.
قوائم ملوك الحيرة

(1/1601)


--------------------------------------------------------------------------------

يصعب تصور حدوث خلاف بين الأخباريين في أسماء ملوك الحيرة وعددهم ومددهم، لدعواهم انهم أخذوا علمهم بهم من كتب كانت مدونة محفوظة في الحيرة ومن موارد أخرى هي كتب الفرس، وقد ذكر بعضهم ملاحظات من مثل قوله: "ذكر هشام عن أبيه انه لم يجد الحادث فيمن أحصاه كتاب أهل الحيرة من ملوك العرب، قال: وظني انهم انما تركوه لأنه توثب على الملك بغير اذن ملوك الفرس، ولأنه كان بمعزل عن الحيرة التي كانت دار المملكة، ولم يعرف له مستقر، وانما كان سيارة في أرض العرب". ومثل ملاحظة أخرى لابن الكلبي أشرت اليها سابقا،هي دعواه انه كان يستخرج أخبار العرب وأنساب آل نصر بن ربيعة ومبالغ أعمار من عمل منهم لآل كسرى وتأريخ سنيهم من بيع الحيرة، وفيها ملكهم وامورهم كلها. فدعاوى مثل هذه لا تصور لنا وقوع اختلاف كبير بين الأخباريين في أسماء ملوك الحيرة:ومبالغ أعمارهم وتأريخ سنيهم وأمثال ذلك، مع إننا نجد بين الأخباريين اختلافا غير يسير في أسماء الملوك وفي ترتيب توليهم الحكم ومقدار سنيهم وأمثال ذلك. والعجب أنهم يعتمدون على مورد أو موارد مشتركة قد يشيرون اليها، ثم إذا بهم يختلفون في أمور ما كان ينبغي وقوع اختلاف ما فيها لأخذها من مورد مشترك أو موارد مشتركة.
وعدة ملوك الحيرة قد يزيد على العشرين ملكا بقليل عند بعض الأخباريين، وقد ينقص عن هذا العدد عند بعض آخر. وقد ذهب المسعودي إلى أن عدة ملوكهم ثلاثة وعشرون ملكا من بني نصر وغيرهم من العرب والفرس، وأن مدة ملكهم ستمائة سنة واثنتان وعشرون سنة وثمانية أشهر، وذهب حمزة إلى أن مدة ما حكمه ملوك الحيرة منذ عهد عمرو بن عدي الذي اتخذها منزلا إلى أن وضعت الكوفة واتخذت منزلا في الإسلام هي خمسمائة وبضع وثلاثون سنة.

(1/1602)


--------------------------------------------------------------------------------

ونحن إذا فحصنا القوائم التي سجلها الأخباريون لملوك الحيرة،وفحصنا ما ذكروه من مدة حكم كل ملك إجمالا، ثم قابلناه بما ذكروه بالنسبة إلى حكم ذلك مجزءا على مدد حكمه بالقياس إلى من حكم في زمانه من ملوك الفرس، تجد اختلافا بين ما ذكروه إجمالا ثم ما ذكروه تفصيلا، كذلك نجد مثل هذا الاختلاف بين المدة الاجمالية التي ذكروها لعمر مملكة الحيرة وبين المدد التي ذكروها لحكم كل ملك أيضا على وجه الاجمال، مما يدل على انهم لم ينتبهوا إلى ملاحظة أمثال هذه الأمور الضرورية للمؤرخين.
ونجد قائمة "ابن الكلبي" لأسماء ملوك الحيرة ومدد حكمهم ومقدار حكم كل ملك بالنسبة إلى من عاصره من ملوك الفرس مدونة في تأريخ الطبري وفي تأريخ حمزة وفي تواريخ أخرى. ولاقتصار ابن الكلبي على ذكر مدد حكم ملوك الحيرة إجمالا، ثم ذكرها تفصيلا بما يقابل ذلك من سني حكم الأكاسرة دون الاشارة أبدا إلى ما يقابل ذلك أيضا بالقياس إلى القياصرة، نستطيع أن نقول إن ابن الكلبي لم يغرف من موارد تأريخية استندت الى تواريخ الروم أو السريان، وانما غرف من مناهل تأريخية فارسية أو معتمدة على الموارد الفارسية، ومن موارد أهل الحيرة وهي موارد يظهر انها لم تكن تعتمد على أصول قديمة مدونة لتواريخ الحيرة، لأن أكثر ما رووه لا يختلف في طبيعته في الغالب عن النوع الذي ألفناه من أخبار الأخباريين.
وقد جزأ الطبري قائمة ابن الكلبي لملوك الحيرة، فوضعها قطعا قطعا في ثنايا حديثه عن ملوك الفرس وفي المناسبات، ولم يذكرها جملة واحدة في مكان واحد، أو في فصل مستقل خاص كما فعل غيره من المؤرخين، وتبلغ جملة ملوك الحيرة عشرين ملكا، وقد ذكر مع كل ملك مقدار ما حكمه من سنين وأسماء من عاصرهم ذلك الملك من الأكاسرة.

(1/1603)


--------------------------------------------------------------------------------

أما هؤلاء الملوك فهم: ا - عمرو بن عدي، وقد عاش مئة وعشرين سنة و حكم على حد قول ابن الكلبي مئة سنة وثماني عشرة سنة من ذلك في زمن "أردوان" و "ملوك الطوائف" خمس وتسعون سنة وفي زمن ملوك فارس أي الساسانيين ثلاثا وعشرين سنة. من ذلك في زمن أردشير بن بابك أربع عشرة سنة وعشرة أشهر وفي زمن سابور بن أردشير ثماني سنين وشهران.
2 - امرؤ القيس البدء، وقد عاش مملكا في عمله مئة سنة وأربع عشرة سنة من ذلك في زمن سابور بن أردشير ثلاثا وعشرين سنة وشهرا، وفي زمن هرمز بن سابور سنة وعشرة ايام، وفي زمن بهرام بن هرمز بن سابور ثلاث سنين وثلاثة أشهر وثلاثة ايام، وفي زمن بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير ثماني عشرة سنة. ولكنك إذا جمعت هذه المدد وقابلت حاصل الجمع، وجدت فرقا كبيرا بين ما زعمه ابن الكلبي من انه حكم 114 سنة، ثم ما زعمه هو نفسه من حكم هذا الملك مجزءا بالنسبة إلى ملوك الفرس.
3 - عمرو بن امرؤ القيس، وقد حكم على رواية ابن الكلبي أيضا ثلاثين سنة. وعاصر من الملوك سابور وأردشير بن هرمز بن نرسي وبعض أيام سابور بن سابور.
4 - أوس بن قلام، وقد حكم خمس سنين في أيام سابور بن سابور وبعض ايام بهرام ين سابور ذي الأكتاف.
5 - امرؤ القيس البدء بن عمرو بن امرئ القيس، وقد حكم خمسا وعشرين سنة. حكم في أيام بهرام بن سابور ذي الأكتاف، وهلك في عهد يزدجرد الأثيم.
6 - النعمان بن امرئ القيس، وقد ملك تسعا وعشرين سنة وأربعة أشهر.
من ذلك في زمن يزدجرد خمس عشرة سنة، وفي زمن بهرام بن يزدجرد أربع عشرة سنة. وينقص ذلك أربعة أشهر عن العدد الاجمالي الذي ذكره ابن الكلبي.
7 - المنذر بن النعمان، وقد ملك أربعا وأربعين سنة، من ذلك في زمن بهرام جور بن يزدجرد ثماني سنين وتسعة أشهر، وفي زمن يزدجرد بن بهرام ثماني عشرة سنة، وفي زمن فيروز بن يزدجرد سبع عشرة سنة.

(1/1604)


--------------------------------------------------------------------------------

8 - الأسود بن المنذر، وقد حكم عشرين سنة، من ذلك في زمن فيروز ابن يزدجرد عشر سنين، وفي زمن بلاش بن يزدجرد أربع سنين، وفي زمن قباذ بن فيروز ست سنين.
9 - المنذر بن المنذر بن النعمان وقد ملك سبع سنين.
10 - النعمان ين الأسود بن المنذر، وكان ملكه سبع سنين.
11 - أبو يعفر بن علقمة بن مالك ين عدي بن الذميل، وكان ملكة ثلاث سنين.
12 - المنذر بن امرئ القيس البدء، وكان ملكه تسعا وأربعين سنة.
13 - عمرو بن المنذر، وكان جميع ملكه ست عشرة سنة.
14 - قابوس بن المنذر، وقد ملك أربع سنين: ثمانية أشهر منها في زمن أنو شروان، وثلاث سنين. وأربعة أشهرفي زمن هرمز بن أنو شروان. 15 - السهرب.
16 - المنذر بن المنذر أبو النعمان، وقد ملك أربع سنين.
17 - النعمان بن المنذر أبو قابوس، وقد ملك اثنتين وعشرين سنة، من ذلك في زمن هرمز بن أنو شروان سبع سنين وثمانية أشهر، وفي زمن كسرى أبرويز بن هرمز أربع عشرة سنة وأربعة أشهر.
18 - إياس بن قبيصة الطائي ومعه النخير جان، وقد ملك تسع سنين في زمن كسرى بن هرمز.
19 - آزاذبه بن بابيان بن مهر بنداذ الهمداني، وقد حكم سبع عشرة سنة: في زمن كسرى بن هرمز أربع عشرة سنة وثمانية أشهر، وفي زمن شيرويه بن كسرى ثمانية أشهر، وفي زمن أردشير بن شيرويه سنة وسبعة أشهر وفي زمن بوران دخت بنت كسرى شهرا.
20 - المنذر بن النعمان بن المنذر، وقد ملك ثمانية أشهر.
هذه هي قائمة أسماء ملوك الحيرة كما رواها الطبري عن ابن الكلبي.
ملوك الحيرة بحسب رواية "ابن قتيبة"
1 - مالك بن فهم.
2 - جذيمة الأبرش.
3 - عمرو بن عدي.
4 - امرؤ القيس، ويقال: بل ملك الحارث بن عمرو بن عدي.
5 - النعمان بن امرئ القيس.
6 - المنذر بن امرئ القيس.
7 - المنذر بن المنذر بن امرئ القيس.
8 - عمرو بن هند.
9 - النعمان بن المنذر.
10- إياس بن قبيصة.

(1/1605)


--------------------------------------------------------------------------------

أما "محمد بن حبيب"، فقد رتب أسماء ملوك الحيرة على هذا الشكل: "عمرو بن عدي بن نصر" و "امرؤ القيس البدء" وهو الأول، فابنه "عمرو" ف "أوس ين قلام بن بطينا بن حمير بن لحيان"، و "امرؤ القيس" البدء، وهو "محرق الأول"، ف "النعمان بن امرئ القيس البدء"، فابنه "المنذر"، فابنه "الأسود"، فأخوه "المنذر"، فابن أخيه "النعمان بن الأسود"، ف "أبو يعفر بن علقمة بن مالك"، ف "المنذر بن امرئ القيس"، ف "عمرو ابن المنذر بن امرئ القيس"، ف "قابوس بن المنذر"، ف "السهرب" الفارسي، ف "المنذر بن المنذر"، ف "أبوقابوس النعمان بن المنذر"، ف "إياس بن قبيصة الطائي"، ف "آزاذبه"، ف "الغرور المنذر بن النعمان ابن المنذر"، وهو المقتول بالبحرين يوم "جواتا".
ملوك الحيرة بحسب رواية اليعقوبي
ا - عمرو بن عدي، وقد ملك خمسا وخمسين سنة.
2 - امرؤ القيس بن عمرو، وقد ملك خمسا وثلاثين سنة.
3 - الحارث بن عمرو، وقد ملك سبعا وثمانين سنة.
4 - عمرو بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي، وقد ملك أربعين سنة.
5 - المنذر بن امرى القيس.
6 - النعمان.
7 - المنذر بن النعمان، وقد ملك ثلاثين سنة.
8 - عمرو بن المنذر.
9 - عمرو بن المنذر الثانى.
10 - قابوس بن المنذر.
11 - المنذر بن المنذر، وقد ملك أربع سنين.
12 - النعمان بن المنذر.
ملوك الحيرة بحسب رواية المسعودي
1 - عمرو بن عدي، وكان ملكه مئة سنة.
2 - امرؤ القيس، بن عمرو بن عدي، وقد ملك ستين سنة.
3 - عمرو بن امرئ القيس، وقد ملك خمسا وستين سنة.
4 - النعمان بن امريء القيس، وقد حكم خمسا وثلاثين سنة.
5 - المنذر بن النعمان، وكان حكمه خمسا وثلاثين سنة.
6 - المنذر بن الأسود بن النعمان بن المنذر، وقد ملك أربعا وثلاثين سنة.
7 - عمرو بن المنذر، وكان ملكه أربعا وعشرين سنة.
8 - قابوس بن المنذر، وقد ملك ثلاثين سنة.
9 - النعمان بن المنذر، وكان ملكه اثنتين وعشرين سنة.

(1/1606)


--------------------------------------------------------------------------------

10- إياس بن قبيصة الطائي، وكان ملكه تسع سنين.
هذه هي أسماء ملوك الحيرة الذين ذكرهم المسعودي، وقد نص هو على أن عدة ملوك الحيرة ثلاثة وعشرون ملكا من بني نصير وغيرهم من العرب والفرس، ومدة ملكهم ستمائة سنة واثنتان وعشرون سنة وثمانية أشهر. ونص في كتابه "التنبيه"، على أن "عدة من ملك الحيرة من بني نصر والعباد وغسان وتميم وكنده والفرس وغيرهم نيفا وعشرين ملكا، ملكوا خمس مئة سنة واثنتين وعشرين سنة وشهورا ".
قائمة حمزة لملوك الحيرة
ا - عمرو بن عدي، وكان جميع ما ملكه مئة وثمانى عشرة سنة. ذلك في زمن ملوك الطوائف خمسة وتسعون سنة، وفي زمن ملوك فارس ثلاث وعشرون سنة، منها في أيام أردشير بن بابك أربع عشرة سنة وعشرة أشهر، وفي أيام شابور بن أردشير ثماني سنين وشهران.
2 - امرؤ القيس بن عمرو بن عدي، وقد ملك مئة وأربع عشرة سنة، منها في زمن شابور بن أردشير ثلاث وعشرين سنة، وفي زمن هرمز بن شابور سنة وعشرة أشهر، وفي زمن بهرام بن هرمز تسع سنين وثلاثة أشهر، وفي زمن بهرام بن بهرام ثلاثا وعشرين سنة، وفي زمن بهرام بن بهرام بن بهرام ثلاث عشرة سنة وستة أشهر، وفي زمن نرسي بن بهرام بن بهرام تسع سنين، وفي زمن هرمز بن نرسي ثلاث عشرة سنة، وفي زمن شابور ذي الأكتاف عشرين سنة وخمسة أشهر.
3 - عمرو بن امرئ القيس، وقد ملك ستين سنة، من ذلك في زمان شابور ذي الأكتاف إحدى وخمسين سنة وسبعة أشهر، وفي زمن أردشير أخي شابور خمس سنين، وفي زمن شابور بن شابور أربع سنين وخمسة أشهر.
4 - أوس بن قلام، وقد ملك خمس سنين في زمن أردشير أخي شابور.
5 - امرؤ القيس، وقد حكم إحدى وعشرين سنة وثلاثة أشهر، من ذلك في زمن شابور بن شابور خمس سنين، وفي زمن بهرام بن شابور إحدى عشرة سنة، وفي زمن يزدجرد بن شابور خمس سنين وثلاثة أشهر.

(1/1607)


--------------------------------------------------------------------------------

6 - النعمان ين امرئ القيس، وكانت مدة ملكه ثلاثين سنة، من ذلك في زمن يزدجرد بن بهرام بن شابور خمس عشرة سنة وثمانية أشهر، وفي زمن بهرام جور بن يزدجرد أربع عشرة سنة وأربعة أشهر.
7 - المنذر بن النعمان، وقد ملك أربعا وأربعين سنة، من ذلك في زمن بهرام جور بن يزدجرد ثماني سنين وتسعة أشهر، وفي زمن يزدجرد بن بهرام ثماني عشرة سنة وثلاثة أشهر، وفي زمن فيروز بن يزدجرد سبع عشرة سنة.
8 - الأسود بن المنذر، وقد ملك عشرين سنة، من ذلك في زمن فيروز ابن يزدجرد عشر سنين، وفي زمن بلاش بن فيروز أربع سنين، وفي زمن قباد ابن فيروز ست سنين.
9 - المنذر بن المنذر، وقد ملك سبع سنين في زمن قباد بن فيروز.
10 - النعمان بن الأسود، وكان ملكه أربع سنين في زمن قباد.
11 - أبو يعفر بن علقمة الذميلي: وكانت مدة حكمه ثلاث سنين في زمن قباد بن فيروز.
12 - امرؤ القيس بن النعمان، وكان ملكه سبع سنين في زمن قباد بن فيروز.
13 - المنذر ابن امرئ القيس، وقد ملك اثنتين وثلاثين سنة، من ذلك في زمن قباد بن فيروز ست سنين، وفي زمن كسرى أنو شروان بن قباد ستا وعشرين سنة.
14 - الحارث بن عمرو بن حجر الكندي.
15 - عمرو بن المنذر، وكان ملكه ست عشرة سنة.
16 - قابوس بن المنذر، وكان حكمه مدة أربع سنين في زمن أنو شروان.
17- فيشهرت، وقد حكم سنة في زمن أنو شروان.
18 - المنذر بن المنذر، وقد ملك أربع سنين، منها ثمانية أشهر في زمن أنو شروان، وثلاث سنين وأربعة أشهر في زمن هرمز بن كسرى أنو شروان.
19 - النعمان بن المنذر، وكان ملكه اثنتين وعشرين سنة، من ذلك سبع سنين وثمانية أشهر في زمن هرمز بن أنو شروان، وأربع عشرة سنة وأربعة أشهر في زمن كسرى بن هرمز.
20 - إياس بن قبيصة ومعه "البحر جان" "النخر جان"، وكان ملكه مدة سبع سنين في زمن أبرويز.

(1/1608)

admin
12-27-2010, 01:32 AM
21 - زاديه بن ماهبيان بن مهرا بنداد الهمداني، وقد ملك سبع عشرة سنة، من ذلك أربع عشرة سنة وثمانية أشهر في زمن أبرويز، وثمانية أشهر في زمن شيرويه بن أبرويز، وسنة وسبعة أشهر في زمن أردشير بن شيرويه، وشهرا واحدا في زمن بوارن بنت أبرويز.
22 - المنذر بن النعمان بن المنذر، وكان ملكه وملك غيره إلى أن ورد خالد بن الوليد الحيرة ثمانية أشهر.
وقد ذكر حمزة أن جميع ملوك آل نصر ومن استخلف من العباد والفرس بالحيرة خمسة وعشرون ملكا حكموا في مدة ستمائة وثلاث وعشرين سنة وأحد عشر شهرا. لكنه ذكر في مكان آخر أن الحيرة عمرت "خمسمائة وبضعا وثلاثين سنة إلى أن وضعت الكوفة ونزلها عرب الإسلام".
وقد استند حمزة في تأليف قائمته هذه على رواية ابن الكلبي في تأريخ الطبري، وعلى رواية محمد بن حبيب وعلى ابن قتيبة، ولذلك خالفت قائمته هذه بعض المخالفة قائمة الطبري في الأسماء وفي السنين.
ملوك الحيرة بحسب رواية الخوارزمي
وأما "الخوارزمي"، فقد رتب أسماء ملوك الحيرة على هذا الشكل: ا - مالك بن فهم.
2 - ثم ابنه جذيمة الأبرش.
3 - ثم عمرو بن عدي.
4 - ثم امرؤ القيس البدء.
5 - ثم ابنه عمرو، وهو ابن هند.
6 - ثم أوس بن قلام.
7 - ثم أمرؤ القيس البدن. وهو محرق الأول.
8 - ثم ابنه النعمان الذي بنى الخورنق والسدير. وفارس حليمة، وهو السائح و الأعور.
9 - ثم ابنه المنذر.
. ا- ثم ابنه الأسود.
1 ا- ثم المنذر بن المنذر.
12- ثم النعمان بن المنذر.
13- ثم النعمان بن الأسود.
14-ثم أبو يعفر بن علقمة.
15- ثم امرؤ القيس بن النعمان. وهو صاحب سنمار.
6 ا- ثم ابنه المنذر، وهو ابن ماء السماء.
17- ثم الحارث ين حجر الكندي، آكل المرار.
8 أ-ثم المنذر بن ماء السماء.
19- ثم ابنه عمرو بن هند، وهو مضرط الحجارة ومحرق الثاني.
20- ثم ابنه قابوس بن المنذر.
21- ثم فيسهرب الفارسي في زمن أنو شروان.
22- ثم المنذر بن المنذر، وأخوه عمرو بن هند.

(1/1609)


--------------------------------------------------------------------------------

23 - ثم النعمان بن المنذر. وهو آخر ملوك لخم.
24 - ثم إياس بن قبيصة الطائي.
25 - ثم زادويه الفارسي.
26 - ثم المنذر بن النعمان بن المنذر.
الفصل التاسع والثلاثون
مملكة كنده.
كنده قبيلة قحطانية في عرف النسابين، تنسب إلى "ثور بن عفير بن عدي ابن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن يشجب بن زيد بن عريب بن زيد ين كهلان بن سبأ"، و "ثور" هو "كنده".
وقد عرفت عند الأخباريين ب "كنده الملوك"، لأن الملك كان لهم على بادية الحجاز من بني عدنان. ولأنهم ملكوا أولادهم على القبائل. وكانوا يتعززون بنسبهم إلى كنده، والى "آكل المرار"، لأنهم كانوا ملوكا.
و "كنده" هي "كدت" القبيلة التي ورد اسمها في نصوص المسند، مثل نص "أبرهة". بل ورد اسمها في النصوص المذكورة قبل هذا العهد بكثير.
اذ ورد في النص: "Jamme 635". المدون في أيام الملك "شعر أوتر" ملك سبأ وذي ريدان. وقد كانت قد انضمت إلى حلف معاد للملك المذكور على نحو ما تحدثت عنه. وكان يحكم "كدت" كنده في ذلك الوقت ملك اسمه "ربعت"، أي "ربيعة"، وذكر انه من "ذ ثورم ""ذ الثورم"، أي من"الثور" "آل ثور"، وانه كان ملكا على "كدت" كنده وعلى "قحطن" أي "قحطان".
فنحن على هذ النص أمام مملكة كندية كانت قد تكونت في أيام "شعر أوتر" أي في النصف الثاني من القرن الأول قبل الميلاد، وذلك فيما لو جارينا رأي "جامة" وسرنا مسراه في تقدير أيام "شعر أوتر". وقبل هذا الوقت فيما لو ذهبنا مذهب غيره ممن يرجعون مبدأ تأريخ سبأ الى أقدم من تقديره ومن تقدير "ريكمنس". ونحن أيضا بموجبه أمام ملك من ملوك كنده اسمه "ربعت ذا الثورم" أي "ربيعة" من "الثور"، أي من "آل ثور"، فهو إذن من صميم كنده. وقد رأينا أن أهل الأخبار ينسبون كنده الى "ثور بن عفير"، ويظهر انهم أخذوا "ثور" القديم، وهو اسم عائلة او بيت او عشيرة من كنده، فصيروه الجد الأكبر لكنده. وأعطوه النسب الطويل المذكور.

(1/1610)


--------------------------------------------------------------------------------

ويلاحظ ان الملك "ربيعة" كان يحكم إذ ذاك "كنده" كما كان يحكم "قحطان". و"قحطان" في هذا الوقت قبيلة، كانت متحالفة مع "كنده". ومن هذا الاسم أخذ الأخباريون قحطانهم، فصيروه جد العرب القحطانيين. وقد ورد اسم قحطان في نص وسم ب "REP. EPIG.,4304 ". هذا نصه: "عبد شمس سبأ بن يشجب، يعرب بن قحطان". وهو نص سبق أن تحدثت عنه، وقلت إنه في نظري مصنوع موضوع، وأعتقد ان صانعه وضعه لغاية واضحة هي اثبات أن ما يذكره أهل الأخبار عن نسب سبأ، هو صحيح، وانه وارد مذكور في المسند، وبين "صنعاء" و "زبيد" مدينة تعرف ب "قحطان".
وكانت كنده "كدت" مستقلة وعلى رأسها ملك، في أيام "الشرح يحضب" كذلك. وكان ملكها إذ ذاك من المناهضين المعادين للملك "الشرح يحضب"، فاشترك كما رأينا في أثناء بحثنا عن "الشرح" في الحلف الكبير الذي تألف ضد مملكة "سبأ وذي ريدان"، والذي امتد من الجنوب نحو الشمال، وشمل البر والبحر. وقد أصيبت "كنده" بهزيمة في القتال الذي نشب بينها وبين جيش "سبأ"، ووقع ملكها واسمه إذ ذاك "ملكم" مع عدد من رؤسائها وكبرائها "مراس واكبرت"، في الأسر. وسيقوا الى "مأرب"، وأبقوا في الأسر حتى وافقوا على وضع أولادهم رهائن عند ملك "سبأ وذي ريدان" وعلى اعطاء عهد بعدم التحرش مرة أخرى بمملكة "سبأ وذي ريدان" وبمساعدة أعدائها. وقد وافق "مالك" على اعطاء عهد بما طلب منه ووضع ابنه رهينة، كما وضع رؤساء وكبراء كنده أولادهم رهائن لديه، فأفرج بذلك عنهم.

(1/1611)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد فقدت كنده بعد هذا العهد استقلالهما في وقت لا نستطيع تحديده الان، لعدم ورود شيء عنه في النصوص، وصارت خاضعة لحكم دولة "سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت"، اذ ورد في النصين "Jamme 660" و "Jamme 665" انها كانت تابعة اذ ذاك لحكم هذه الدولة. يخبر النص: "Jamme 660"، ان كنده كانت تحت حكم حاكم من حكام "شمر يهرعش"، سقط اسمه الثاني من النص وبقي اسمه الأول وهو: "وهب اوم" "وهب أوم" "وهب أوام"، وان ذلك الحاكم كان يدير بالاضافة إلى كنده قبائل حضرموت ومذحج و "بهلم" "باهلة" و "حدان" و "رضوم" و "أظلم"، ومعنى ذلك انه كان يدير منطقة واسعة تسكنها قبائل متعددة، في جملتها كنده التي صارت تحت حكم ملوك سبأ.
ويخبرنا النص: "Jamme 665"، إن رجلا من "جدنم" "جدن" كان كبيرا "كبر" على "اعراب ملك سبأ" "أعراب ملك سبأ" وعلى "كنده" "كدت" و "مذحج" وعلى "حررم" "حريرم" "حرر" "حرار" "حرير" وعلى "بهلم" "باهلم" "باهل" "باهلة" وعلى "زيد ايل"، وعلى كل أعراب سبأ "وكل اعرب سبأ" وعلى حمير وحضرموت ويمنت. وقد عينه بدرجة "كبر" أي "كبير"، وهي من أعلى الوظائف في الدولة الملك "ياسر يهنعم" وابنه "ذرأ أمر أيمن". ومعنى هذا إن كنده كانت تابعة أيضا في هذا العهد لحكم سبئيين، وان ذلك الكبير كان يدير منطقة واسعة وضعها الملكان تحت تصرفه.
ويرى "جامة" إن أرض كنده يجب أن تكون في جنوب "قشمم" "قشم" "قشام" "القشم"، وذلك لأن النص: "Jamme 660" يضعها بين "حضرموت" و "مذحج"، فيرى لذلك إن منازلها في ذلك الوقت كانت عند هذه المواضع. والمعروف اليوم إن أول من ذكر اسم "كنده" من المؤلفين الكلاسيكيين على وجه لا يقبل الشك أو الجدل، هو "نونوسوس"، وقد دعاها باسم "Kindynoi" أي "كنده"، وذكر انها وقبيلة "مادينوى" "Maddynoi" "معد"، هما من أشهر القبائل العربية عددا ومكانة، يحكمها رجل واحد اسمه "Kaisos" أي "قيس".

(1/1612)


--------------------------------------------------------------------------------

وعلى أخبار الأخباريين معولنا في تدوين تأريخ كنده. وفي مقدمة هؤلاء ابن الكلبي الأخباري المعروف، وله مؤلف خصصه بتأريخ كنده، سماه: "كتاب ملوك كنده" ومؤلفات اخرى لها علاقة بهذه القبيلة، وابو ****ة والأصمعي، وعمر بن شبة، وأمثالهم ممن سترد اسماؤهم في ثنايا صحائف هذا الفصل. وهي اخبار تمثل جملة نزعات واتجاهات تصور تحزب اولئك الأخباريين وميولهم الى هذه القبيلة او تلك، فبينها أخبار تميل إلى تأييد اهل اليمن، وبينها اخبار ترجح كفة "كنده"، وبينها اخبار ترجع الفضل إلى كلب، وبينها اخبار تؤيد بني اسد، وطبيعتها على العموم من طبيعة ما يرويه لنا الأخباريون من روايات عن تأريخ العرب قبل الإسلام، فيها العصبية القبلية والتحزب، فيجب إن ننظر اليها اذن بحذر شديد.
وقد ذكر حمزة انه نقل اخبار ملوك كنده من "كتاب أخبار كنده"، وأظنه قصد كتاب ابن الكلبي، الذي أشرت إليه. وفي استطاعة الباحث العثور على الموارد التي تفيدنا في تدوين تأريخ كنده ومعرفة اتجاهاتها وتعيين أسمائها. و "المفضليات" و "الأغاني" و "النقائض" وأمثالها وبقية كتب الأدب، هي خير أمثلة لتطبيق ما أقول.

(1/1613)


--------------------------------------------------------------------------------

ويذكر الأخباريون أن مواطن "كنده" الأصلية كانت بجبال اليمن مما يلي حضرموت. وقد أطلق "الهمداني" عليها "بلد كنده من أرض حضرموت". وذكر ياقوت أن كنده مخلاف باليمن، هو باسم قبيلة كنده، وروى رواية لابن الكلبي تفيد أن هذه القبيلة كانت تقيم في دهرها الأول في "غر ذي كنده" أي في مواطن العدنانين، ومن هنا احتج القائلون في كنده ما قالوا من نسبهم في عدنان، وهو يدل على وجود فريق كان يرى أن "مرتع بن معاوية بن ثور" فملك عشرين سنة، ثم ملك ابنه ثور، ثم ابنه معاوية بن ثور، ثم الحارث بن معاوية، وكان ملكه أربعين سنة، ثم ملك وهب بن الحارث عشرين سنة، وملك بعده حجر ين عمرو المعروف ب "آكل المرار" الشهير الذي حالف بين كنده وربيعة بالذنائب وتولى الملك فهؤلاء إذن هم أسلاف "حجر بن عمرو"، حكموا كنده ومعدا على رأي اليعقوبي قبل حجر بسنين.
وفي رواية لابن الكلبي إن "أول من أنسأ الشهور من مضر مالك بن كنانة، وذلك إن مالك بن كنانة نكح إلى معاوية بن ثور الكندي، وهو يومئذ في كنده، وكانت النسأة قبل ذلك في كنده، لأنهم كانوا قبل ذلك ملوك العرب من ربيعة ومضر، وكانت كنده من أرداف المقاول". وتدل هذه الرواية على إن هذه القبيلة كانت على اتصال وثيق بالقبائل المنتسبة إلى معد، وربما كان اتصالها هذا أوثق وأقوى من اتصالها بقبائل قحطان، مع ان النسابين يعدونها من قبائل قحطان.
وأقدم رجل في كنده تحدث عنه الأخباريون بشيء من التفصيل والوضوح، هو "حجر" الملقب ب "آكل المرار"، وهو ينسب إلى "عمرو بن معاوية ابن ثور بن مرتع بن معاوية" على رواية، والى "عمرو بن معاوية بن الحارث الأصغر بن معاوية بن الحارث الأكبر بن معاوية بن كنده" على رواية أخرى.

(1/1614)

admin
12-27-2010, 01:34 AM
ورويت روايات أخرى تختلف عن هذه السلسلة بعض الاختلاف. وذكر انه كان أخا ل "حسان بن تبع" لأمه. فلما دوخ "حسان" بلاد العرب، وسار في الحجاز، وهم بالانصراف، ولى أخاه "حجرا" على "معد بن عدنان" كلها، فدانوا له، وسار فيهم أحسن سيرة.
وفي رواية أخرى من روايات الأخباريين إن التبابعة كانوا يصاهرون "بنى معاوية ابن عنزة" من كنده، وكانوا يملكون في "دمون"، ويولونهم على "بني معد ابن عدنان" بالحجاز، فكان أول من ولي منهم "حجر آكل المرار"، ولا ه "تبع بن كرب" الذي كسا الكعبة، وولى بعده ابنه "عمرو بن حجر". فيفهم من هذه الرواية إن "بني معد" كانوا أتباعا للتبابعة يعينون عليهم من يشاءون من الناس.
وفي رواية ترجع الى ابن الكلبي، مفادها إن تبعا المعروف ب "أبي كرب" حين أقبل سائرا الى العراق نزل بأرض معد، فأستعمل عليها "حجرا آكل المرار"، ومضى لوجهه. فلما هلك، بقي حجر لحسن سيرته مطاعا في مملكته. وملك الشام يومئذ "زياد بن الهبولة السليحي" والملك الأعظم في بني جفنة، وزياد كالمتغلب على بعض الأطراف، فقتله حجر. وقد بقي حجر حتى خرف، وله من الولد: عمرو ومعاوية.
فيظهر من الرواية المتقدمة إن حجرا كان معاصرآ ل "زياد بن الهبولة السليحي" وهو ملك عرب الشام يومئذ، ويذكر حمزة إن "حجرا" قتله.
وفي رواية أخرى ان حجرا هو أول ملوك كنده. وكانت كنده قبل أن يملك حجر عليها بغير ملك، فأكل القوي الضعيف، فلما ملك حجر سدد أموالها وساسها احسن سياسة، وانتزع من اللخميين ما كان بأيديهم من أرض "بكر ابن وائل". وبقي حجر كذلك حتى مات. ف "حجر" على هذه الرواية أول ملك من ملوك كنده، واول زعيم من زعمائها تمكن من توحيد صفوفها ومن تغليبها على قبائل أخرى، ومن توسيع رقعة أراضيها حتى بلغت حدود مملكة لحم.

(1/1615)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر عدد من الأخباريين أن والد "حسان تبع" هو "أسعد أبو كرب"، المعروف ب "تبع الأوسط"، وهو ابن "كلى كرب بن تبع". وقد ذهب "هارتمن" "Hartmann" إلى أن "حسان تبع" هذا هو "شرحبيل يعفر" المذكور في نص "Glaser 554" الذي يعود تأريخه إلى سنة "450" للميلاد، وهو ابن "إب كرب أسعد" الذي حكم على تقدير "هومل" من سنة "385"حتى سنة "420" للميلاد، غير أننا يجب أن نأخذ أمثال هذه الأمور بحذر، خاصة فيما يتعلق بفتوحات التبابعة واتساع ملكهم وغير ذلك مما يقصه علينا الأخباريون.
ونزل حجر على رواية بنجد ب "بطن عاقل"، وكان اللخميون قد ملكوا كثيرا من تلك البلاد، ولا سيما بلاد "بكر بن وائل"، فنهض بهم وحارب اللخميين، واستخلص أرض بكر منهم. ويقع "بطن عاقل" في جنوب "وادي الرمة" على الطريق بين مكة والبصرة.
ويحدثنا بعض الرواة أن حجرا بينما كان يغزو عمانا، بلغ ذلك "الحارث بن الأهيم "الأيهم" بن الحارث الغساني"، فأغار على أرضع حجر، وأخذ أموالا لحجر، وقينة من أحب قيانه إليه، وانصرف، فقال للقينة: "ما ظنك بحجر?" فقالت: "لا أعرفه ينام إلا وعضو منه يقظان، وليأتين فاغرا فاه كأنه بعير أكل مرارا، فان رأيت ان تنجو بنفسك فافعل"، فلطمها الغساني فما لبثوا أن لحقهم حجر كما وصفت، فرد القينة والأموال، وكان حجر قد رجع من غزاة عمان وهو يقول بعد أن بلغه غارة الغساني: "لا غزو إلا بالتعقيب" وذكر "الهمداني" في معرض تفسيره ل "آكل المرار" مضمون هذه الرواية دون أن يشير إلى اسم الغساني، او اسم الموضع الذي كان حجر يغزو فيه. وذكرت بعض الروايات الحارث بن جبلة بدلا من الحارث بن الأهيم "الأيهم" بن الحارث الغساني.
وذكر الميداني القصة نفسها عن "الحارث بن مندلة الضجعمي" من "بني سليح". أما "ابن هشام"، فجعله "عمرو بن الهبولة الغساني".

(1/1616)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي رواية اخرى إن الغازي هو "زياد بن الهبولة" ملك الشام، وكان من"سليح بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة"،،غزا ملك حجر في أثناء اغارة حجر في كنده وربيعة على البحرين، فأخذ الحريم والأموال، وسبى "هندا بنت ظالم بن وهب بن الحارث بن معاوية" زوجة حجر. فلما سمع حجر وكنده وربيعة، عادوا من غزوهم في طلب "ابن الهبولة" ومع حجر أشراف ربيعة "عوف بن محلم بن ذهل بن شيبان"، و "عمرو بن ابي ربيعة بن ذهل بن شيبان"، وغيرهما، فأدركوا "زيادا" "عمرا ?" ب "البردان" دون عين أباغ، وقد امن الطلب، فنزل حجر في سفح جبل، ونزلت بكر وتغلب وكنده مع حجر دون الجبل بالصحصحان على ماء يقال له "حفير"، ووقعت معركة تغلب فيها حجر على خصمه، وأخذ زياد أسيرا، ثم قتل، واسترجعت منه هند في قصة معروفة مشهورة فيها شعر على الطريقة المألوفة عند الأخباريين. وتقول الرواية انه بعد إن انتقم وانتصر، عاد إلى الحيرة. وقد عرفت هذه المعركة ب "يوم البردان".
ويلاحظ إن ابن الأثير اورد في روايته عمرا بدلا من زياد أي زياد بن الهبولة ملك الشام كما هو مقتضى الكلام، وأورد في نهاية القصة هذه الجملة "ثم عاد إلى الحيرة" وهي تشعر إن موضع حجر كان في الحيرة، ولم يذكر أحد انه كان فيها.
ويظهر أن المورد الذي نقل منه ابن الأثير أو اصحاب القصة، لم يحسن حبكها، او انه خلط بين قصتين، فظهرت في هذا الشكل.
وقد انتبه ابن الأثير إلى هذا الاضطراب، فقال: "هكذا قال بعض العلماء: ان زياد بن هبولة السليحي ملك الشام غزا حجرا. وهذا غير صحيح، لأن ملوك سليح كانوا بأطراف الشام مما يلي البر من فلسطين إلى "قنسرين"، والبلاد للروم، ومنهم أخذت غسان هذه البلاد، وكلهم كانوا عمالا لملوك الروم، كما كان ملوك الحيرة عمالا لملوك الفرس على البر والعرب، ولم يكن سليح ولا غسان مستقلين بملك الشام، وقولهم ملك الشام غير صحيح.

(1/1617)


--------------------------------------------------------------------------------

وزياد بن هبولة السليحي ملك مشارف الشام، أقدم من حجر آكل المرار بزمان طويل، لأن حجرا هو جد الحارث بن عمرو بن حجر الذي ملك الحيرة والعرب بالعراق أيام قباذ أبي انو شروان، وبين ملك قباذ والهجرة نحو ثلاثين ومئة سنة. وقد ملكت غسان أطراف الشام بعد سليح ستمائة سنة، وقيل خمسمائة سنة، وأقل ما سمعت فيه ست عشرة سنة وثلاثمئة سنة، وكانوا بعد سليح، ولم يكن زياد آخر ملوك سليح، فتزيد المدة زيادة أخرى، وهذا تفاوت كثير، فكيف يستقيم أن يكون ابن هبولة الملك أيام حجر حتى يغير عليه، وحيث اطبقت رواة العرب على هذه الغزاة، فلا بد من توجيهها، وأصلح ما قيل فيه: إن زياد بن هبولة المعاصر لحجر كان رئيسا على قوم، أو متغلبا على بعض أطراف الشام. وبهذا يستقيم هذا القول والله أعلم.
وقولهم أيضا إن حجرا عاد الى الحيرة لايستقيم أيضا، لأن ملوك الحيرة من ولد عدي بن نصر اللخمي، لم ينقطع ملكهم لها إلا أيام قباذ، فإنه استعمل الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار، كما ذكرنا من قبل، فلما ولي أنو شروان، عزل الحارث، وأعاد اللخميين. ويشبه أن يكون بعض الكنديين قد ذكر هذا تعصبآ، والله أعلم.
إن أبا ****ة ذكرهذا اليوم، ولم يذكر أن ابن هبولة من سليح، بل قال: هو غالب بن هبولة ملك من ملوك غسان، ولم يذكر عوده إلى الحيرة، فزال هذا الوهم".
وبهذا التعليق اراد ابن الأثير اصلاح ما جاء في الرواية المذكورة من اوهام. ولكن تعليقه نفسه فيه اوهام وأخطاء من حيث عدد السنين وتقديرالمدد وما شاكل ذلك من أمور ترد في روايات أهل الأخبار.
ولا نعرف متى توفي حجر، وقد ذكر ابن الأثير انه توفي ب "بطن عاقل" وبه دفن. ويرى "أوليندر" "Olinder" استنادا إلى تقدير سنة وفاة الحارث حفيد "حجر" بسنة "528" للميلاد، والى تقدير مدة حكم الضجاعمة من "بني سليح"، انه حكم في الربع الأخير من القرن الخامس للميلاد.

(1/1618)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرى بعض الباحثين إن "حجرا" هو "Ogarus" المذكور في بعض التقاويم في حوادث السنين497 و 501 و 502 للميلاد. وقد ذكر معه اسم أخ له عرف ب "Badicharimus" أي "معديكرب"، كما ذكر أحد احفاده وهو "Aretha" اي الحارث.
ونسب الأخباريون ل "حجر" ثلاث زوجات، هن: "هند" ابنة "ظالم ابن وهب بن الحارث بن معاوية"، وتعرف ب "هند الهنود"، و "أم أناس بنت عوف بن محلم الشيباني" وهي ام "الحارث بن حجر"، واما الثالثة فمن حمير.
وفي ديوان الشاعر الجاهلي "بشر بن ابي خازم الأسدي" قصيدة يمدح فيها "عمرو بن ام اناس"، أو "ام أياس"، وهو من "كنده". وام اناس هي ابنة "عوف بن محلم الشيباني" الذي يضرب به المثل، فيقال: "لا حر بوادي عوف". وهو من بيت شرف قديم، لهم قبة يقال لها "المعاذة" من لجأ اليها أعاذوه. ومما جاء في مدح هذا الشاعر له: والمانح المئة الهجان بأسرها تزجى مطافلها كجنة يثرب
ولرب زحف قد سموت بجمعه فلبسته رهوا بأرعن مطنب
بالقوم مجتابي الحديد كأنهم أسد على لحق الأباطيل شزب
ويستفاد من هذه القصيدة إن الممدوح، وهو عمرو، كان كريما سخيا يهب المئات من الإبل الهجان الطيبة الأعراق، وانه كان صاحب جيش قوي. وينطبق هذا الوصف على "عمرو بن حجر". أكثر من انطباقه على "عمرو بن الحارث" جد "امرئ القيس"، وذلك على رواية من زعم أنه كان للحارث جد الشاعر المذكور ولد اسمه "عمرو" من زوجة له دعوها "أم اناس" ابنة "عوف ابن محلم الشيباني". إذ لم يكن وضع أولاد الحارث وضعا حسنا بعد النكبة التي نزلت بمصيبة والدهم وبتعقب المنذر بن ماء السماء لهم، وبثورة القبائل عليهم. فليس من المعقول أن يهب "عمرو" تلك الهبات وأن يجمع له جيش لجب. خاصة وأن الرواة لم يذكروا اسمه في جملة أسماء ابناء الحارث الذين ملكهم على القبائل في حياته او الذين ورثوا ملكه بعد مماته.

(1/1619)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد نص "ابن قتيبة" في كتابه: "المعاني الكبير" على إن "عمرو بن أم أناس"، هو "عمرو بن حجر الكندي"، الذي كان جد "عمرو بن هند"، وهند أم "عمرو بن هند" هي ابنته. وذكر أن "أم عمرو بن حجر" هي "أم اناس بنت ذهل بن شيبان بن ثعلبة"، والم نه هو المذكور في شعر الحارث بن حلزة، اذ يقول: وولدنا عمرو بن ام أناس من قريب لما أتانا الحباء
وقد اختلف اهل الأخبار كما رأينا في السبب الذي حمل الناس على تلقيب "حجر" ب "آكل المرار". فذهبوا في ذلك جملة مذاهب ذكروها في أثناء حديثهم عنه.
وصار "عمرو بن حجر" المعروف ب "المقصور" ملكا بعد ابيه، ويقولون إنه انما قيل له "المقصور" لأنه قصر على ملك ابيه، او لأن "ربيعة" قصرته عن ملك أبيه، وبذلك سمي المقصور.
وكان ل "عمرو" كما يقول الأخباريون اخ اسمه "معاوية"، ويعرف ب "الجون" "الجوف"، كان نصيبه "اليمامة"، ويظهر من هذا الخبر انه اخذ من شقيقه هذه المنطقة وترك الأرضين الباقية لأخيه.
ويذكر اهل ألأخبار إن "عمرو" و "معاوية" شقيقه هي "شعية بن أبي معاصر بن حسان بن عمرو بن تبع". ويظهر من هذا النسب انها كانت من أسرة يمانية رفيعة ومن البيوتات التي كانت تحكم بعض المقاطعات.
وورد في رواية إن "عمرا" غزا الشام ومعه ربيعة، فلقيه الحارث بن أبي شمر الغساني فقتله. ولم يضف "اليعقوبي" صاحب الرواية المذكورة إلى هذه الرواية شيئا عن حياة "عمرو" المقصور. أما "حمزة"، فلم يشر إليه بشيء.
وفي رواية إن ربيعة حينما قصرت عمرا عن ملك أبيه، استنجد عمرو المقصور "مرثد بن عبد ينكف الحميري" على ربيعة، فأمده بجيش عظيم. فالتقوا ب "القنان"، فشد عامر الجون على عمرو المقصور فقتله. فهذه الرواية تنفي رواية من يقول إن الحارث بن شمر الغساني هو الذي قتله.

(1/1620)


--------------------------------------------------------------------------------

واذا صحت الرواية المتقدمة، تكون "ربيعة" قد ثارت على "ابن حجر" لأنها أرادت التخلص من حكم كنده لها. وقد تمكنت من ذلك على الرغم من المساعدة اليمانية التي قدمت له.
ويظهر من الروايات الواردة عن عمرو ومن تلقيبه بلقب: "المقصور" ومن الشروح التي ذكرها الرواة في تفسير هذه الكلمة، أن "عمرا" لم يكن قويا صاحب عزم وارادة، وأنه اكتفى بما وقع له من أبيه، فلم يسع في توسيعه وتقويمه، وأن حكمه على ما يظهر لم يكن طويلا، وقد جعله ابن الكلبي في جملة من كان يخدم "حسان بن تبع" تبع حمير، ولم يلقبه بلقب ملك، بل قال:إنه كان سيد كنده في زمانه. وذكر إن "حسان ين تبع" حين سار إلى جديس، خلفه على بعض أموره. فلما قتل "عمرو بن تبع" أخاه "حسان بن تبع"، وملك مكانه اصطنع "عمرو بن حجر"، وكان ذا رأي ونبل، وكان مما اراد عمرو اكرامه به وتصغير بني اخيه حسان إن زوجه ابنة "حسان بن تبع"، فتكلمت في ذلك حمير. وكان عندهم من الأحداث الني ابتلوا بها، لأنه لم يكن يطمع في التزويج الى اهل ذلك البيت احد من العرب. وولدت ابنة "حسان بن تبع" لعمرو بن حجر "الحارث" الذي عينه "تبع بن حسان بن تبع بن ملكيكرب ابن تبع الأقرن"، أي خال "الحارث" على بلاد معد.
ويظهر من رواية مرجعها ابن الكلبي إن الأسود بن المنذر ملك الحيرة، كان قد تزوج ابنة ل "عمرو بن حجر"، فولدت له "النعمان بن الأسود" الذي حكم في زمن "قباذ" اربع سنين، ولذلك عرفت ب "ام الملك".
وانتقل الملك على رأي اكثر الأخباريين من عمرو إلى ابنه الحارث: وهو المعروف ب "الحارث الحر اب" على بعض الروايات. وقد ورد في شعر للشاعر "لبيد" هذا البيت: والحارث الحراب خلى عاقلا دارا أقام بها ولم يتنقل

(1/1621)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذهب الأصمعي إلى إن الشاعر المذكور قصد ب "الحارث الحر اب" الحارث الذي نتحدث عنه. وذلك لأن "عاقلا" من ديار كنده. وهو جبل كان يسكنه "حجر أبو امرئ القيس". واذا أخذنا بهذه الرواية وجب علينا إن نفترض انه كان قد اقام بموضع عاقل وحكم منه في أغلب الأوقات.
وقد نعت "حمزة" الحارث ب "المقصور". وقد رأينا إن جماعة من الأخباريين منحت هذا اللقب ل "عمرو".
وقد اختلف الرواة في ام "الحارث"، فذهب بعض منهم إلى انها ابنة "حسان بن تبع"، وذهب بعض منهم إلى انها "ام أناس" او "ام اياس" بنت "عوف بن محلم بن ذهل بن شيبان"، وامها "أمامة بنت كسر بن كعب ابن زهير بن جشم" من تغلب.
وفي رواية اخرى، إن "ام اناس"، كانت زوجة ل "حجر" وهي ام "الحارث ين حجر" و "هند بنت حجر". ولذلك فهي ليست أما للحارث ابن عمرو المقصور، كما جاء في الرواية المتقدمة. ويظهر إن مرد هذا الاختلاف يعود إلى تشابه الاسمين، والى عدم تمييز الرواة بينهما. ويكون "الحارث بن حجر" المذكور اذن شقيقا لعمرو بن حجر.
وقد ذكر "ثيوفانس" رئيسا عربيا دعاه "الحارث من بني ثعلبة" "Aretas O. Thalabaynys "، يظن "أوليندر" انه "الحارث الكندي"، ويرجح لذلك الرواية الثانية التي تجعل ام الحارث "ام أناس" "ام اياس" ذلك لأن "ام أناس" من شيبان، وشيبان هو ابن ثعلبة في عرف النسابين، فيكون هذا الحارث على رأيه هو الحارث الكندي.

(1/1622)


--------------------------------------------------------------------------------

ولست أستطيع الجزم بهذا الرأي، فان "الحارث" من الأسماء المعروفة الكثيرة الاستعمال عند العرب في بادية الشام وفي بلاد الشام، وشمال الحجاز ونجد، وقد عرفنا أسماء عدد من الأمراء وسادات القبائل عرفوا بهذا الاسم، ثم إن نسبة الحارث إلى الثعلبانية "ثعلبة"، لا يدل على إن الحارث الذي ذكره "ثيوفانس" هو "الحارث الكندي"،بل يدل على انه كان من قبيلة اسمها "ثعلبة" أو "ثعلبان". وقد ذكر كتبة اليونان والسريان اسم قبيلة "ثعلبة" وكانت من القبائل الخاضعة للروم. فورد "طايوي ربيث رومرين دبيث ثعلبة "، أي "العرب الذين في أرض الروم الملقبون ببني ثعلبة"، وورد ذكرها في اخبار مؤرخي الكنيسة في النصف الثاني من القرن الرابع للميلاد.
وفي "طيء" ثلاثة بطون عرفت ب "بني ثعلبة"، هي "ثعلبة ين ذهل"، و "ثعلبة بن رومان"او "ثعلية بن جدعاء"، وتعرف ب "ثعالب طيء". ويوجد أيضا "بنو ثعلبة بن شيبان" من بطون "تميم". وقد عرف "بنو "شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل" و "بنو شيبان ابن ذهل بن ثعلبة بن عكابة" ب "بني ثعلبة" في تواريخ الروم والسريان.
ومن "شيبان" كان "حارث بن عباد" سيد شيبان في حرب البسوس. وقد عرفوا ب "Thalabenes " عند الروم.
وتذكر رواية لابن الكلبي أن "تبع بن حسان بن تبع بن ملكيكرب بن تبع الأقرن"، اعان "الحارث بن عمرو" وساعده على تولى الملك. و "تبع بن حسان ين تبع"، هو خاله على هذه الرواية. وتزعم انه بعث إلى ابن أخته بجيش عظيم سار معه إلى بلاد معد والحرة وما والاها، فسار إلى "النعمان بن امرئ القيس بن الشقيقة"، فقاتله، فقتل النعمان وعدة من اهل بيته، وهزم اصحابه، وافلته المنذر بن النعمان الأكبر، وملك "الحارث بن عمرو الكندي" ما كانوا يملكون.

(1/1623)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا نعرف من الأسماء المذكورة في الكتابات العربية الجنوبية اسم ملك يدعى "تبع بن حسان بن تبع بن ملكيكرب بن تبع الأقرن". ويرى "هارتمن" "Hatmann" أن الأخباريين ارادو به "شرحبيل يكف" وهو ابن شرحبيل يعف" المذكور اسمه في النص المؤرخ بسنة "467".
يظهر من رواية "ابن الكلبي" المتقدمة إن الملك لم ينتقل إلى الحارث من ابيه ارثا،وانما جاءه بمساعدة خاله "تبع ين حسان ين تبع". ولم تذكر الرواية الأسباب التي دعت إلى اعتماد الحارث على "تبع" في تولي الملك. ولو صحت هذه الرواية كان معناها انه لم يتمكن من الحصول على حقه في الملك إما لامتناع القبائل من قبوله ملكا عليها، مما دعاه إلى الاستعانة ب "تبع" او بغيره، وإما لأن ملك والده يوم توفي لم يكن واسعا، بل كان مقتصرا على كنده ومن في حلنا، او لأنه لقي مقاومة من أشقائه واقربائه، مما دفعه إلى الاستعانة بالغرباء في تنصيب نفسه ملكا على كنده وعلى القبائل الأخرى، ثم على توسيع ملكه فيما بعد.

(1/1624)


--------------------------------------------------------------------------------

ولدينا رواية اخرى، تذكر إن الذي ساعد "الحارث بن عمرو" على تولي الحكم على بلاده معد، هو "صهبان بن ذي خرب"،وذلك إن معدا لما انتشرت تباغتت وتظالمت، فبعثت إلى صهبان تسأله إن يملك عليها رجلا يأخذ لضعيفها من قويها مخافة التعدي في الحروب، فوجه اليها الحارث بن عمرو الكندي، واختاره لها، لأن معدا أخواله، امه امرأة من بني عامر بن صعصعة، فسار الحارث اليها بأهله وولده. فلما استقر فيها، ولى ابنه حجر، وهو أبو امرئ القيس الشاعر على أسد وكنانة، وولى ابنه شرحبيل على قيس وتميم، وولى ابنه معدي كرب، وهو جد الأشعث بن قيس الكندي على ربيعة، فمكثوا كذلك إلى أن مات الحارث، فأقر صهبان كل واحد منهم في ملكه، فلبثوا بذلك ما لبثوا. ثم إن بني أسد وثبوا على ملكهم حجر بن عمرو، فقتلوه. فلما بلغ ذلك صهبان، وجه إلى مضر عمرو بن نابل اللخمي، والى ربيعة لبيد بن النعمان الغساني، وبعث برجل من حمير يسمى أوفي بن عنق الحية وأمره إن يقتل بني أسد أبرح القتل. فلما بلغ ذلك أسدا وكنانة، استعدوا، فلما بلغ أوفي ذلك، انصرف نحو صهبان، واجتمعت قيس وتميم فأخرجوا ملكهم عمرو بن نابل عنهم فلحق بصهبان، وبقي معدي كرب جد الأشعث ملكا على" ربيعة.
اما صهبان، فهو رجل لم يكن من اهل بيت الملك في حمير، بل كان قد وثب على الملك واخذه - عنوة، وذلك حينما تضعضع الحميرية بقتل "عمرو بن تبع" اخاه "حكان بن تبع"، فانتهز صهبان هذه الفرصة، ووثب على "عمرو اين تبع" فقتله واستولى على ملكه وصار الأمر إليه.
وهناك رواية اخرى تذكر إن "صهبان بن محرث" هو الذي عين الحارث على معد. فهي تأييد للرواية المتقدمة " سوى انها عينت اسم والد صهبان، بأن نصت عليه، فجعلته "محرثا" 0 اما الرواية المتقدمة فدعته "ذي خرب". و "ذي خرب" لقب، يعبر عن منصب وليس باسم علم.

(1/1625)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي رواية يرجع سندها إلى ابي ****ة، إن بكر بن وائل لما تسافهت، وغلبها سفهاؤها، وتقاطعت ارحامها، ارتأى رؤساؤهم فقالوا: إن سفهاءنا قد غلبوا على أمرنا فأكل القوي الضعيف. فنرى إن نملك علينا ملكا نعطيه الشاه والبعير، فيأخذ للضعيف من القوي ويرد على المظلوم من الظلم، ولا يمكن إن يكون من بعض قبائلنا، فيأباه الآخرون، فيفسد ذات بيننا، ولكننا ناتي تبعا فنملكه علينا، فأتوه، فذكروا له امرهم، فملك عليهم الحارث بن عمرو اكل المرار الكندي، فقدم فنزل بطن عاقل.
ويدرك من هذه الروايات انه كان للتبابعة نفوذ على قبائل معد، وان تلك القبائل كانت تستشيرهم في أمورها، وتحكم اليهم فيما يحدث بينهم من خلاف. وانه كان لهم يد في تعيين الحارث وتنصيبه على تلك القبائل.
والشيء الوحيد الذي يمكن، استخلاصه من هذه الروايات المدونة عن تعيين الحارث ملكا، انه تولى الحكم على كنده بعد وفاة أبيه، وانه وسع ملكه بعد ذلك وقد يكون بمساعدة "تبع"، فصار ملكا على كنده ويكر وعلى قبائل اخرى وانه تمكن بشخصيته من رفع شأن قبيلته. ويرى "أوليندر" انه حكم حوالي سنة "495" للميلاد.

(1/1626)


--------------------------------------------------------------------------------

وليس من السهل تعيين اسم "التبع" الذي عين الحارث ملكا كما جاء ذلك في الروايات اليمانية بالاستناد إلى نصوص المسند، وليس من السهل ايضا تصور بلوغ نفوذ "ملوك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت واعرابها في الجبال وفي تهامة" المواضع الني ذكرها اخباريو اليمن. وقد رأينا أثار الوهن بادية على تلك المملكة، بحيث لم تتمكن من مقاومة غزو الحبشة لها. وليس من السهل ايضا تصور مجيء "بكر" والقبائل الأخرى مختارة طائعة إلى الحارث تلتمس منه إن يتفضل عليها بان يكون ملكا عليها، وقد رأيناها كما يقول الأخباريون أنفسهم تنتقض على البيت المالك من كنده وتثور عليه، وتقتل امراءها منهم، حال علمها بضعف ذلك البيت، وبوفاة الرجل الذي جمع تلك القبائل بقوته، ووحدها بشخصيته. والأقرب إلى المنطق هو أن هذه القبائل لم تعترف برئاسة الحارث عليها، وبتاجه عليها إلا لما رأته فيه من القوة، وإلا بعد استعمال القوة والعنف مع عدد من القبائل، فرضيت به ملكا ما دام قويا.والأمر بيديه، وهو منطق السياسة في الصحراء. وبهذا التفسير نستطيع فهم تكون ممالك أو امارات بسرعة عجيبة، تظهر فجأة قوية تحتضن جملة قبائل، ثم تسير بسرعة فتهدد حدودها الدول الكبرى وتهاجمها كالفيضان، فإذا أصيبت بهذه الدول تمزقت أوصالها وتجزأت كما تتجزأ الفقاعة وتذوب. هكذا حياة الممالك في البوادي، ممالك تولد، وأخرى تموت. ويذكر الأخباريون أن الحارث الكندي جمع إلى ملكه ملك الحيرة وآل لخم، وذلك في زمن قباذ. ورووا في ذلك جملة روايات عن كيفية تولي الحارث ملك الحيرة، وطرده لملكها الشرعي وتولى الحكم دونه. فرووا أن الزمن لم يكن مؤاتيا ل"قباذ" يوم أوتي الحكم. كانت الأحوال مضطربة، والفتن رافعة رأسها في مواضع متعددة، والنفوذ في المملكة بيد الموابذة، ولموبذان موبذ الكلمة العليا، إذ هو الرئيس الروحي الأعلى في المملكة، كما كان للاغنياء وللاقطاعيين الشأن الأول في سياسة الدولة. فلم يعجب

(1/1627)


--------------------------------------------------------------------------------

قباذ الوضع، لأنه "ملك الملوك" "شاهنشاه" ومن حق "ملك الملوك" الا ينازع في الملك، ففكر في طريقة لتقليص ظل الموابذة والمتنفذين في المملكة من كبار الأغنياء والملاكين، ورأى أن خير ما يفعله في هذا الباب، هو نشر تعاليم مزدك بين الناس. فإذا انتشرت كانت كفيلة بالقضاء على الأغنياء وعلى رجال الدين المتنفذين. وكان مزدك وأصحابه يقولون إن الناس تظالموا في الأموال والأرزاق، فاغتصبها بعضهم من بعض، وان الأغنياء قد اغتصبوا رزق الفقراء " وانهم يأخذون للفقراء من الأغنياء، ويردون من المكثرين على المقلين، وانه من كان عنده فضل من الأموال والنساء والأمتعة، فليس هو بأولى به من غيره. فافترص السفلة ذلك، واغتنموه، وكانفوا مزدك وأصحابه وشايعوهم فابتلي الناس بهم، وقوى أمرهم حتى كانوا يدخلون على الرجل في داره، فيغلبونه على منزله ونسائه وأمواله، لا يستطيع الامتناع منهم". هكذا وصف الطبري وغيره من الأخباريين دعوة مزدك. فهي على هذا الوصف دعوة اشتراكية جاءت مقوضة لرجال الدين والاقطاعيين ومتنفذة الأغنياء.
فلما شايع قباذ المزدكية، اجتمعت كلمة "موبذان موبذ" والعظماء على ازالته من ملكه، فأزالوه عنه وحبسوه، وعينوا أخاه جاماسب مكانه. ويذكر الطبري إن ذلك كان في السنة العاشرة لملك قباذ، فيكون ذلك في سنة "498 م" على رأي من جعل ابتداء ملكه في عام "488م"، وقدر حدوثه أيضا في سنة "496 م". وقد مكث أخوه ملكا ست سنوات ثم أزاله عنه أخوه قباذ الذي أفلت من السجن في قصة يرويها الأخباريون، واستعاد قباذ بذلك ملكه. فتكون استعادته ملكه في حوالي سنة "504" أو "502م". وقد مكث ملكا حتى انتقل إلى العالم الثاني في سنة "531م".

(1/1628)


--------------------------------------------------------------------------------

وتذكر رواية الأخباريين هذه، إن الملك قباذ طلب من المنذر بن ماء السماء. الدخول فيما دخل فيه من مذهب مزدك وزندقته، فامتنع، فاغتاظ قباذ وانزعج منه، ودعا "الحارث بن عمرو" إلى ذلك، فأجابه، فاستعمله على الحيرة. وطرد المنذر من مملكته، فعظم سلطان الحارث، وفخم أمره، وانتشر ولده، فملكهم على يكر وتميم وقيس وتغلب وأسد. وكان من حل نجدا من أحياء نزار تحت سلطان الحارث دون من نأى منهم عن نجد. فتربط هذه الرواية كما نرى بين زندقة قباذ وعزل المنذر وتنصيب الحارث ملكا على الحيرة،بقبوله مذهب قباذ. وروى "حمزة" إن الحارث كان قد طمع في ملك "آل لخم"، وكان قد وجد إن "قباذ" ضعيف الهمة فاتر العزم،غير ميال إلى القتال، وانه سوف لا يساعد ال لخم، إن هو هاجمهم، لذلك ساق كنده ومن كان معه من يكر ابن وائل عليهم، وباغت سادة الحيرة ولم يتمكنوا من الوقوف أمامه، فهرب "المنذر" من دار مملكته بالحيرة ومضى حتى نزل إلى "الجرساء الكلبى" وأقام عنده إلى أن تغير الحال بوفاة قباذ، وتبدل سياسة الحكومة بتولي "كسرى أنو شروان" الملك. فعاد إلى ملكه وقهر الحارث وتغلب عليه واستعاد ما اغتصب منه.
وذكر "حمزة" إن سبب لجوء "يكر بن وائل" إلى الحارث، وخضوعها لحكمه واشتراكها معه في مهاجمة "آل لخم" وانتزاع الحكم منهم، هو أن "امرأ القيس البدء" كان يغزو قبائل "ربيعة"، فينكى فيهم، ومنهم أصاب "ماء السماء"، وكانت تحت "أبي حوط الخطائر" فثارت به "يكر بن وائل" فهزموا رجاله، وأسروه، وكان الذي ولي أسره "سلمة بن مرة بي همام بن مرة بن ذهل بن شيبان"، فأخذ منه الفداء وأطلقه، فبقيت تلك العداوة في نفوس "بكر بن وائل" إلى أن وهن أمر الملك "فباذ"،فعندها أرسلت يكر الى الحارث بن عمرو فملكوه، وحشدوا له، ونهضوا معه حتى أخذ المك ودانت له العرب.

(1/1629)


--------------------------------------------------------------------------------

وبهذه الكيفية شرح "حمزة" كيفية تولي "الحارث" عرش الحيرة، وسبب بغض "يكر بن وائل" لآل لخم، بغضا دعاها إلى تنصيب "الحارث" ملكا عليها، وعلى الانتقام من آل لخم.
ولابن الكلبي رواية عن كيفية تولي الحارث ملك الحيرة، ذكر، إن قباذ ملك فارس لما ملك كان ضعيف الملك،فوثبت ربيعة على النعمان الأكبر ابي المنذر الأكبر ذي القرنين. و إنما سمي ذا القرنين لضفرين كانا له،. فهو ذو القرنين بن النعمان ين الشقيقة. فأخرجوه، فخرج هاربا حتى مات في إياد، و ترك ابنه المنذر فيهم، وكان أرجى ولده عنده. فتنطلق ربيعة إلى كنده. وكان الناس في الزمن الأول يقولون إن كنده من ربيعة. فجاؤوا بالحارث بن عمرو بن حجر ا كل المرار الكندي، فملكوه على يكر بن وائل، وحشدوا له، وقاتلوا معه، فظهر على ما كانت العرب تسكن من أرض العراق، وأبى قباذ أن يمد المنذر بجيش. فلما رأى ذلك المنذر، كتب إلى الحارث بن عمرو: إني في غير قومي، وأنت أحق من ضمني واكتنفني، وانا متحول اليك. فحوله إليه، وزوجه ابنته هندا. ففرق الحارث بن عمرو بنيه في قبائل العرب، فصار شرحبيل بن الحارث في بكر بن وائل وحنظلة بن مالك وبني زيد بن تميم وبني اسد وطوائف من بني عمرو بن تميم والرباب، وصار غلفاء وهو معد يكرب في قيس، وصار سلمه بن الحارث في بني تغلب والنمر بن قاسط وسعد بن زيد مناة بن تميم... ومع معد يكرب الصنائع، وهم الذين يقال لهم بنو رقية أم لهم ينسبون اليها. وكانوا يكونون مع الملوك من شذاذ الناس. فلما هلك أبوهم الحارث ين عمرو، تشتت أمرهم وتفرقت كلمتهم، ومشت الرجال بينهم، وكانت المغاورة بين الإحياء الذين معهم، وتفاقم أمرهم حتى جمع كل واحد منهم لصاحبه الجموع وزحف إليه بالجيوش...".
ولابن الكلبي رواية أخرى. دونها الطبري، هذا نصها: "لما لقي الحارث

(1/1630)


--------------------------------------------------------------------------------

ابن عمرو بن حجر بن عدي الكندي النعمان الأكبر، وملك الحارث بن عمرو الكندي ما كان يملك بعث قباذ بن فيروز ملك فارس إلى الحارث بن عمرو الكندي انه قد كان بيننا وبين الملك الذي قد كان قبلك عهد، واني احب أن ألقاك. وكان قباذ زنديقا يظهر الخير ويكره الدماء، ويداري أعداءه فيما يكره من سفك الدماء، وكثرت الأهواء في زمانه واستضعفه الناس. فخرج إليه الحارث ابن عمرو الكندي في عدد وعدة حتى التقوا بقنطرة الغيوم،.. فما رأى الحارث ما عليه قباذ من الضعف،طمع في السواد، فأمر أصحابه مسالحه أن يقطعوا الفرات، فيغيروا في السواد،فاتى قباذ الصريخ وهو بالمدائن فقال:هذا من تحت كنف ملكهم. ثم أرسل إلى الحارث بن عمرو إن لصوصا من لصوص العرب قد أغاروا، وانه يجب لقاءه، فلقيه. فقال له قباذ: لقد صنعت صنيعا ما صنعه أحد من قبلك. فقال له الحارث: ما فعلت ولا شعرت، ولكنها لصوص من لصوص العرب، ولا أستطيع ضبط العرب الا بالمال والجنود. قال له قباذ: فما الذي تريد?قال: أريد أن تطعمني من السواد ما أتخذ به سلاحا. فأمر له بما يلي جانب العرب من أسفل الفرات، وهي ستة طساسيح. فأرسل الحارث ين عمرو الكندي إلى تبع وهو باليمن: إني قد طمعت في ملك الأعاجم، وقد أخذت منه ستة طساسيح،فاجمع الجنود، وأقبل..... فجمع تبع الجنود، وسار حتى نزل الحيرة،وقرب من الفرات، فاذاه البق، فامر الحارث بن عمرو أن يشق له نهر إلى النجف، وهو نهر الحيرة، فنزل عليه، ووجه ابن أخيه شمر ذي الجناح إلى قباذ، فقاتله فهزمه شمر حتى لحق بالري". وقد ترك ابن الكلبي الاشارة إلى الحارث وطفر إلى الحديث عن فتوحات شمر الذي أوصل فتوحاته إلى القسطنطينية.، ثم الى رومة "روميه"، ثم إلى عودة "تبع" وتهوده بتأثر أخبار يثرب، ثم إلى علم "كعب الأحبار" الذي استمده على حد قوله من بقية ما أورثت أحبار يهود.

(1/631

admin
12-27-2010, 01:37 AM
ويرى "موسل" إن التقاء "الحارث" ب "قباذ" "488 - 1 53م" عند قنطرة الفيوم، كان سنة "525" للميلاد. والفيوم موضع لا يبعد كثيرا عن "هيت".
يفهم من رواية ابن الكلبي هذه إن الحارث التقى بملك الحيرة "النعمان بن المنذر" في معركة أسفرت عن مقتل "النعمان" وفرار المنذر ابنه، وعن انتصار عرب الحارث على عرب الحيرة،واستيلاء الحارث على ما كان يملكه النعمان. فلما حدث هذا ووقع، اضطر "قباذ" إلى ملاطفة الحارث واسترضائه. ولكن الحارث طمع في أكثر من ذلك، طمع في السواد. فأقطعه منه ما يلي جانب العرب من أسفل الفرات،0 أقطعه منه ستة طساسيح. فليس في هذه الرواية اشارة إلى قبول "الحارث" الدخول في المزدكية، ولا إلى طرد النعمان من ملكه نتيجة لرفضه اتباعه في دينه، انما هو ضعف قباذ وعجزه عن مساعدة صاحبه النعمان وانتهاز الحارث الذكي هذه الفرصة المواتية للاستيلاء على ما طمع فيه من ملك النعمان. أما الشيء الثاني، وهو خبر "تبع"، وحروبه ومساعدته له، فهو على ما يظهر من هذا النحو الذي ألفناه في ربط تأريخ كندة باليمن، والإشادة بماضي القحطانيين وانفرادهم بالملك دون خصومهم العدنانيين، والى عدم تمكن كنده من العمل وحدها لولا مساعدة اليمانيين.

(1/1632)


--------------------------------------------------------------------------------

يستنتج من كل هذه الروايات أن "الحارث بن عمرو" الكندي اغتصب عرش الحيرة أمدا، اغتصبه من "النعمان بن امرئ القيس بن الشقيقة"، أو "المنذر الأكبر بن ماء السماء" أو "النعمان الأكبر أبو المنذر الأكبر ذو القرنين"، و "ذو القرنين"، هو "ذو القرنين بن النعمان بن الشقيقة"، أو "النعمان ابن المنذر بن امرئ القيس بن الشقيقة"، وذلك في زمن "قباذ" ملك الفرس ". ويقصد ب "قباذ" هذا "قباذ" الأول الذي حكم ثلاثا وأربعين سنة على ما جاء في الأخبار. ويقدر العلماء ذلك من سنة "488" حتى سنة "531" بعد الميلاد. ولنتمكن من تعيين اسم الملك الذي قصده الرواة، علينا الرجوع إلى أسماء من حكم في أيام قباذ من ملوك الحيرة، وذلك على نحو ما رواه لنا الأخباريون.
إن أول من حكم في عهد "قباذ"، على ما يدعيه "حمزة"، هو الملك "الأسود بن المنذر" وقد حكم في أيامه ست سنين. ثم المنذر بن المنذر، وأمه "هر"، وقد حكم سبع سنين. ثم النعمان بن الأسود، وأمه ام الملك بنت عمرو بن حجر أخت "الحارث بن عمرو بن حجر الكندي"، أربع سنين. ثم أبو يعفر بن علقمة الذميلي، وقد حكم ثلاث سنين. ثم امرؤ القيس بن النعمان ابن امرئ القيس، وقد حكم سبع سنين. ثم امرؤ القيس بن النعمان بن امرئ القيس، وقد حكم سبع سنين. ثم المنذر بن امرئ القيس المعروف بالمنذر بن ماء السماء، وهو ذو القرنين، وقد حكم اثنتين وثلاثين سنة من ذلك ست سنين في زمن قباذ. ثم الحارث بن عمرو بن حجر الكندي، ولم يذكر "حمزة" مدة حكمه، انما قال: "ذكر هشام عن ابيه انه لم يجد الحارث فيمن أحصاه كتاب أهل الحيرة من ملوك العرب. ثم قال: وظني انهم انما تركوه لأنه توثب على الملك بغير اذن من ملوك الفرس، ولأنه كان بمعزل عن الحيرة الني كانت دار المملكة ولم يعرف له مستقر وانما كان سيارة في أرض العرب ". ولم يذكر حمزة مدة حكم "قباذ".

(1/1633)


--------------------------------------------------------------------------------

أما "الطبري"، فجعل "النعمان بن المنذز بن امرئ القيس بن الشقيقة." الملك الذي كان قد حكم حينما تولى "قباذ" الحكم، وجعل "الحارث بن عمرو ابن حجر" الذي قتل النعمان على روايته من بعده. وقد دام حكمه على ما يظهر من رواية الطبري حتى أيام "كسرى أنو شروان بن قباذ". فلما قوي شأن "كسرى أنو شروان"، بعث إلى المنذر ين النعمان الأكبر، وأمه ماء السماء، فملكه الحيرة وما كان يلي آل الحارث بن عمرو بن حجر.
أما "ابن الأثير"، وهو عيال على الطبري وناقل منه،. فقد ذكر ما ذكره الطبري، وأضاف إليه: أن المنذر بن ماء السماء لما بلغه هلاك قباذ، وقد علم خلافه على أبيه في مذهبه، أقبل إلى "أنو شروان" فعرفه نفسه، وأبلغه أنه سيعيده إلى ملكه،وطلب "الحارث بن عمرو"، وهو بالأنبار، فخرج هاربا في صحابته وماله وولده، فمر ب "الثوية"، فتبعه المنذر بالخيل من تغلب واياد وبهراء، فلحق بأرض كلب، ونجا، وانتهبوا ماله وهجائنه، وأخذت بنو تغلب ثمانية وأربعين نفسا من بني آكل المرار، فقدموا بهم على المنذر، فضرب رقابهم ب "جفر الأميال" "جفر الأملاك" في ديار بني مرينا العباديين بين دير بني هند والكوفة.
ترى مما تقدم اختلاف الروايات وتباينها وتعددها،حتى إن الراوية الواحد مثل "ابن الكلبي" يروي لنا جملة روايات، قد يناقض بعضها بعضا. لقد وجدنا منها ما زعمت إن قباذ طرد المنذر من مملكته،وأحل الحارث محله،ومنها ما زعمت إن المنذر استرضى الحارث بعد أن رأى عجزه وعجز صاحبه تغيرت به الأحوال، فعاد أصحاب البيت إلى بيتهم، وهرب هو إلى من حيث جاء. ولا نعرف على وجه التحقيق متى ولي الحكم، ولا متى غادره.

(1/1634)


--------------------------------------------------------------------------------

لقد ذكر ت أسماء الملوك الذين حكموا في أيام "قباذ" على رواية حمزة، وهي رواية تكاد تتفق مع القائمة التي دونها الطبري، في آخر كلامه عن "كسرى أنو شروان" نقلا عن هشام بن الكلبي لأسماء ملوك الحيرة ومدة حكمهم، وذلك قبل عهد "كسرى أنو شروان". فأي ملك من هؤلاء يمكن أن يكون هو الملك المقصود.
لقد ذكر "يوشع العمودي" "Joshua the Stylite" إن ملك الحيرة "النعمان" اشترك مع "قباذ" في المعارك التي وقعت بينه وببن الروم،فأصيب النعمان بجروح بليغة على مقرية من "قرقيسياء"" Circesium"قضت عليه، وذلك في سنة"553" للميلاد. ولقد انتهز عرب الروم المسمون بالثعلبيين "بني ثعلبة" هذه الفرصة، فغزوا الحيرة، واضطرت القوة التي تركها النعمان في عاصمته إلى الفرار للبادية. أفلا يجوز أن يكون هؤلاء الغزاة هم أعراب "الحارث الكندي "، انتهزوا هذه الفرصة فأغاروا على الحيرة واستولوا عليها، فصارت في قبضة "الحارث" على نحو ما رواه بعض الأخباريين ? ثم ألا يجوز أن يكون بعض الرواة قد سمعوا بمقتل "النعمان"، فظنوا أن القاتل هو "الحارث"، أو تعمدوا نسبة القتل إليه للرفع من شأن كنده ومن كان معها من قبائل ?

(1/1635)


--------------------------------------------------------------------------------

ولكن من يثبت لنا أن هؤلاء الأعراب الثعلبيين، أي من "بني ثعلبة"، وهم من عرب الروم على حد قول "يوشع العمودي" هم من أتباع الحارث، أو أنهم من "آل الحارث" أي من كنده، وأن العائلة الكندية المذكورة كانت تعرف ب "بني ثعلبة". وليس في الذي بين أيدينا من موارد، مورد واحد يذكر بأن "آل آكل المرار" هم من "بني ثعلبة" او انهم كانوا قد عرفوا ب "بني ثعلبة" في يوم من الأيام، او انهم كانوا قد خضعوا لسلطان الروم. لذلك، لا أظن إن "يوشع العمودي" قصد بالثعلبيين عرب الروم، كندة، وانما قصد أعرابا من اعراب الروم، كانوا يعرفون ب "بني ثعلبة" أو "آل ثعلبة"، وكانوا يتمتعون باستقلالهم تحت حماية الروم. ولما وجدوا فرصة ما حل بالنعمان من جروح في الحرب التي خاضها مع الفرس على الروم، هاجموا الحيرة فانتهبوها، وعانت حاميتها ضعيفة ففرت إلى البادية، ولم يذكر المؤرخ مدة مكوث هؤلاء الأعراب في الحيرة، والظاهر انها لم تكن سوى مدة قصيرة، وانها كانت من نوع غارات الأعراب على المدن: غزو في خاطف، يعقبه انسحاب عاجل لتأمين سلامة ما ينهبونه وايصاله إلى ديارهم حتى لا تتمكن القوات الني ستاتي لمعاقبتهم من أخذ ما حصلوا عليه من غنائم وأموال.
ويظهر أن حكم كنده للحيرة لم يكن طويلا، ويظن أنه كان بين سنة "525" وسنة "528" للميلاد، وذلك في أثناء ظهور فتنة المزدكية.في إيران. وليس يستبعد أن يكون الحارث قد اتصل بالفرس قبل هذا الزمن، في أثناء صلح سنة "506" للميلاد، او على اثر الفتور الذي طرأ على علاقاته بالبيزنطيين، لأنه وجد إن الاتفاق مع الفرس يعود عليه بفوائد ومنافع لا يمكن أن يغتنمها من الروم، ووجد بكرا وتغلب قد زحفتا اذ ذاك من مواطنهما القديمة في اليمامة ونجد نحو الشمال تريدان النزول في العراق. وقد أقره الفرس على المناطق الصغيرة أو الواسعة النى استولى عليها لقاء جعل.

(1/1636)


--------------------------------------------------------------------------------

لم يكن من مصلحة ملك الحيرة، بالطبع، الرضى بنزول، منافس قوي أو منافسين أقوياء في أرضه أو في أرض مجاورة له. ولما ظهر الحارث في العراق، وعرف ملك الحيرة نياته وتقربه إلى الفرس، وملك الحيرة، هو باعتراف الفرس "ملك عرب العراق"، لم يكن من المعقول سكوته انتظارا للنتائج. ومن هنا وقع الاختلاف.
لم تكن العلاقات حسنة بين قباذ والمنذر ملك الحيرة، لسبب غير واضح لدينا وضوحا تاما، قد يكون بسبب المزدكية، وقد يكون بسبب تقرب الحارث إلى الفرس واقطاعهم اياه أرضا وتودده الزائد إلى قباذ، وقد يكون لأسباب أخرى مثل تردد ملك الفرس وضعفه، فلم تكن له خطة ثابتة مما أثر في وضع "ملك عرب العراق". على كل حال، فقد أدى هذا الفتور إلى استفادة الحارث منه واستغلاله، فتقرب إلى الفرس وتودد اليهم حتى آل الأمر بأن يأخذ ملك الحيرة أمدا حتى تغيرت الأحوال في فارس بموت "قباذ" وتولى "كسرى أنو شروان" الملك من بعده، فعاد المنذر عندئذ الى عرش الحيرة وأبعد الحارث عن ملكه. وآراء الأخباريين متباينة كذلك في المكان الذي اختاره الحارث للاقامة فيه بغد اغتصابه ملك "آل لخم"، فبينما يفهم من بعض الروايات انه استقر في الحيرة وأقام فيها، نرى بعضا آخر يرى انه أقام في الانبار. وبينما يذكر "حمزة" إن الحارث حينما بلغه خبر قدوم المنذر عليه واقترابه من الحيرة، هرب فتبعته خيل المنذر، مما يفهم انه كان في الحيرة، نجده يقول في موضع آخر: "إن الحارث كان بمعزل عن الحيرة الني كانت دار المملكة، ولم يعرف له مستقر، انما كان سيارة في أرض العرب ". ونجد صاحب الأغاني يذكر في موضع انه كان في الأنبار، ويشير في موضع آخر انه كان في الحيرة.

(1/1637)


--------------------------------------------------------------------------------

وتتفق روايات الأخباريين على إن مجيء "كسرى أنو شروان" كان شرا على الحارث،وخيرا لال لخم، فقد كانت سياسة "أنو شروان" مناهضة لسياسة. قباذ بسبب المزدكية. وقد ظهر اختلافهما هذا فى السنين الأخيرة من سني حكم قباذ". وقد أدى هذا الاختلاف إلى محاربة المزدكية وسقوطها. ويحدثنا "ملالا" "John Malalas" إن سقوطها كان بعد وفاة "الحارث" وقبل غارة المنذر على بلاد الشام. وقد قام المنذر بها في شهر آذار من سنة "528" للميلاد على رواية "ثيوفانس" "THeophanes". وكانت وفاة الحارث في أوائل سنة "528" للميلاد. ومن رواية هذين الكاتبين يتبين إن الحارث كان قد قضى نحبه قبل القضاء على المزدكية بمدة غير طويلة، وان المنذر كان في آذار سنة "528" للميلاد قد قام بغارته على بلاد الشام.
ويستدل من اشارة "ملالا" و "ثيوفانس" إلى موت الحارث في سنة "528م" ومن تلقيبه بلقب "فيلارخس" أي عامل، على إن علاقات الحارث بالروم في أواخر أيام حياته كانت حسنة. ومعنى هذا إن خلافا او فتورا كان قد وقع فيما بينه وبين الفرس، دفعه على التقرب نحو خصوم الساسانيين وهم الروم، فاضل بهم وذلك في أيام "قباذ"، او في ايام "كسرى انو شروان". ويظهر إن تودد "الحارث" إلى البيزنطيين لم يأت له بنتيجة او بفائدة تذكر.

(1/1638)


--------------------------------------------------------------------------------

اذ يحدثنا الكاتبان "ملالا" و "ثيوفانس" إن قائد فلسطين الرومي "ديوميدس بر "Diomedos" أجبر سيد قبيلة يدعى "اريتاس" "Aritas"، اي "الحارث" على التراجع في اتجاه الهند "Indica"، ويقصد بذلك جهة الجنوب او الشرق، حيث كان يطلق البيزنطيون على العربية الجنوبية "الهند". فلما سمع بذلك "الموندارس" "Alamoundaros" أي "المنذر" رئيس العرب "السرسيني" "Saracens" الخاضعين لنفوذ الفرس،هجم على الحارث فقتله،وغنم امواله وما ملكه،وأسر اهله. فلما بلغ النبأ للقيصر "يوسطنيانوس" "Justinianus"، أمر حكام "فينيقية" "Phenicia" و "العربية" "Arabia" والجزيرة وعامل الحدود بتعقب المنذر ومهاجمته. وقد اشترك في هذه الحملة عدد من القادة والحكام،وفي جملتم سيد قبيلة اسمه "اريتاس" "Aritas"، أي "الحارث"، وهو الحارث بن جبلة الغساني على ما يظهر.

(1/1639)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم يتعرض الأخباريون للخبر الذي ذكره الكاتبان عن كيفية قتل "الحارث" ولا عن الأمر الذي أصدره القيصر بتعقيب "المنذر"، والظاهر انهم لم يقفوا عليه. غير إن للاخباريين رواياتهم الخاصة عن مصير صاحبنا "الحارث" الكندي. حدث صاحب "الأغاني" إن "انو شروان" حينما ملك، أمر بقتل الزنادقة، اي أتباع مزدك، "فقتل منهم ما بين جازر إلى النهروان إلى المدائن في ضحوة واحدة مئة ألف زنديق وصلبهم"، وأعاد المنذر إلى مكانه، وطلب "الحارث ابن عمرو، فبلغه ذلك وهو بالأنبار وكان بها منزله... فخرج هاربا في هجائنه وماله وولده، فمر بالثوية، وتبعه المنذر بالخيل من تغلب وبهراء وإياد، فلحق بأرض كليب، فنجا وانتهبوا ماله وهجائنه، وأخذت بنو تغلب ثمانية وأربعين نفسا من بني آكل المرار، فقسمت بهم على المنذر، فضرب رقابهم ب "جفر الأملاك" "حفر الأملاك" في ديار بني مرينا العبادين بين دير هند والكوفة 00". وأضاف "ابن الأثير" إلى هذا الخبر إن "تغلب" قبضت على ولدين من أولاد الحارث هما: "عمرو" و "مالك" في جملة الثمانية والأربعين، فجاءت بهما الى المنذر في "ديار بني مرينا" فقتلهم.
وحدثنا "ابن قتيبة" أن "المنذر" لما اقبل "من الحيرة هرب الحارث، وتبعته خيل فقتلت ابنه عمرا، وقتلوا ابنه مالكا بهيت، وصار الحارث بمسحلان فقتلته كلب". وزعم غير ابن قتيبة انه مكث فيهم حتى مات حتف أنفه. وذكر "حمزة" الروايات المدونة في كتاب "الأغاني" بحذف بعض كلماتها. ولم يشر اليعقوبي إلى من قتل "الحارث" من ملوك الحيرة، بل أوجز فقال: "... وكانوا يجاورون ملوك الحيرة، فقتلوا الحارث. وقام ولده بما كان في أيديهم، وصبروا على قتال المنذر حتى كافؤوه. ويشعر على كل حال من جملة "وصبروا على قتال المنذر" ومن روايات الأخباريين الأخرى أن القتل كان في ايام المنذر.

(1/1640)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي رواية أخرى أن الحارث بقي في كلب حتى توفي فيما بينهم حتف أنفه. وقد أضافت الرواية التي تنسب إلى "أبي ****ة" إلى هذا الخبر انه دفن ب "بطن عاقل". والظاهر إن اضافة "بطن عاقل" إنما وقعت سهوا واشتباها، من باب عدم التمييز فيما بين "حجر" الذي زعم انه دفن ب "بطن عاقل" وبين "الحارث".
وجاء في رواية أن الحارث خرج يتصيد، فرأى جماعة من حمر الوحشى فشد عليها، وانفرد منها حمار فتتبعه، وأقسم ألا يأكل شيئا قبل كيده، فطلبته الخيل ثلاثة أيام حتى أدركته، وأتي به، وقد كاد يموت من الجوع، ثم شوي على النار واطعم من كبده وهي حارة فمات.
ولا تخلو هذه الروايات المتعلقة بموت "الحارث" ونهايته من مؤثرات العواطف القبلية التي صبغت كل الأخبار التي يرويها الأخباريون بهذه الصبغة. فكلب تدعي انها هي التي قتلته، وكنده تنكر ذلك مدعية انه مات كما يموت سائر الناس، وأهل الحيرة يقولون انهم هم الذين قتلوه،قتلوه في حرب. وأبو الفرج الأصبهاني يقول: "فكلب يزعمون انهم قتلوه، وعلماء كنده تزعم انه خرج إلى الصيد فالظ بتيس من الظباء، فأعجزه فآلى أن لا يأكل أولا إلا من كبده، فطلبت الخيل ثلاثا، فأتى بعد ثالثة، وقد هلك جوعا، فشوى له بطنه فتناول فلذة من كبده، فأكلها حارة فمات.
ولورود خبر مقتل "الحارث" مسجلا تسجيلا دقيقا لدى الكاتبين المذكورين: "ملالا" و "ثيوفانس"، ومطابقته لرواية أهل الحيرة في النتيجة، وهو إن مقتله كان على أيدي "المنذر" وجماعته نرجح هذه الرواية على غيرها من الروايات.

(1/1641)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من غربلة الروايات التي روأها أهل الأخبار عن نهاية "الحارث" انها قد اختلفت فيما بينها وتضاربت في موضوع نهايته، فزعم بعض منها، انه قتل وان قاتله هو "المنذر بن ماء السماء"، وزعم بعض أخر انه قتل، ولكنه لم يصرح باسم قاتله، وزعم بعض آخر انه هلك، وانه لم يقتل، وانما مات حتف أنفه. والذي أرجحه انه قتل، قتل في أثناء المعارك التي وقعت من جراء تعقب المنذر بن ماء السماء له.
ولا نكاد نعرف شيئا يذكر عن أعمال الحارث في أثناء توليه ملوكية قبائل "معد" غير ما ذكره الرواة من انه وزع أولاده عليها، وجعلهم ملوكا على تلك القبائل. كذلك لا نكاد نعرف شيئا يذكر عن أعماله وهو ملك على الحيرة، فأصحابنا الأخبارييون سكوت عن هذه الأمور. ويفهم من كلام بعض الأخباريين عن "الحارث" انه حينما نزل ببكر بن وائل، أقام ب "بطن عاقل"، ومنه غزا بهم ملوك الحيرة اللخميين، وملوك الشام الغسانيين، وفيه كانت نهايته. ويفهم من بيت في ديوان "امرئ القيس" إن ملك الحارث قد امتد من العراق إلى عمان. ولا تعني أمثال هذه الأقوال امتلاكا فعليا، بل كانت تتحدث في الواقع عن اتفاقات تعقد بين القبائل يعترف فيها بالرئاسة لمن له النفوذ الأكبر والمكانة، فإذا حدث حادث للرئيس الذي يمكن بمكانته ومنزلته من ضم هذه القبائل وتوحيدها، انهد كيان ذلك الاتحاد وتشتت شمله، كالذي حدث بعد وفاة الحارث كما سترى فيما بعد. وقد لا تعني هذه الأقوال سوى المبالغات والفخر، على نحو ما يرد في شعر غيره من الشعراء من امتلاكهم الدنيا ومن عليها، ومن تدويخهم القبائل والناس، وليس في الواقع أي شيء مما جاء في دعوى اولئك الشعراء المفتخرين.

(1/1642)


--------------------------------------------------------------------------------

ويحدثنا "ابن الكلبي" انه كان للحارث زوجات ثلاث، هن: أم قطام بنت سلمة بن مالك بن الحارث بن معاوية، وأسماء، ورقية أمة أسماء. وقد زعم ابن الكلبي إن أم قطام وأسماء كانتا شقيقتين، وأما رقية، فكانت أمة لأسماء. وقيل أيضا: "هن أخوات، فجمعهن جميعا". وزوجه بعض الأخبارين بامرأة أخرى هي: "أم أناس" بنت "عوف بن محلم بن ذهل بن شيبان"، وهي والدة "عمرو بن الحارث" المعروف عندهم ب "ابن أم أناس" "ابن ام اياس". وفي رواية "ابن السكيت" إن "أم قطام بنت سلمى" هي امرأة من "عنزة".
وقد دون لنا الرواة أسماء جملة أولاد من أبناء "الحارث"، ذكروا منهم حجر وشرحبيل ومعد يكرب وعبد الله وسلمة، ومحرق ومالك وعمر. وأم "حجر" هي: "أم قطام".
ويذكر أهل الأخبار انه كان للحارث ابن، حج ففقده، فاتهم به رجل
من بني أسد يقال له حبال بن نصر بن غاضرة. فأخبر بذلك الحارث، فأقبل حتى ورد تهامة أيام الحج، وبنو أسد جميعها. فطلبهم، فهربوا منه. فأمر مناديا فنادى من أوى أسديا فدمه جبار. ثم إن الملك عفا عنهم واعطى كل واحد منهم عصا أمانا له. وبنو اسد يومئذ قليل. فأقبلوا إلى تهامة ومع كل رجل منهم عصا. فلم يزالوا بتهامة حتى هلك الحارث، فأخرجتهم بنو كنانة، وسموا **** العصا، بالعصا التي أخذوها.
ويذكر أهل الأخيار انه كانت للحارث بن عمرو بنت اسمها هند، وقد تزوجها المنذر بن ماء السماء، وهي والدة الملك "عمرو بن هند" وشقيقة "قابوس" وعمة الشاعر امرئ القيس.

(1/1643)


--------------------------------------------------------------------------------

وهم يذكرون أن ملك الحارث لما توسع واشتغل هو بالحيرة عما كان يراعيه من أمور البوادي، تفاسدت القبائل وفشا بينها الشر، فجاء أشرافها فشكوا ما حل بهم من غلبة السفهاء، و طلبوا إليه أن يملك عليهم أبناءه، فملك ابنه حجرا على بني أسد وغطفان، وملك ابنه شرجيل على بكر بن وائل بأجمعها وعلى بني حنظلة بن مالك بن زيد مناة وطوائف من بني درام بني تميم والرباب، وملك ابنه معد يكرب على بني تغلب والنمر بن قاسط وسعد بن زيد مناة وطوائف من بني دارم بن حنظلة والصنائع، وهم بنو رقية: قوم كانوا يكونون مع الملوك من شذاذ العرب، وملك ابنه عبد الله على عبد القيس، وملك ابنه سلمه على قيس عيلان. وقيل إن شرحبيل بن الحارث ملك في بكر بن وائل وحنظلة بن مالك وبني زيد بن تميم وبني أسد وطوائف من بني عمرو بن تميم والرباب، ومعد يكرب في قيس والصنائع، وهم بنو رقية، وسلمة في بني تغلب والنمر بن قاسط وسعد بن زيد مناة.
وقد اكتفى "حمزة" بقوله: "وانتشر ولده، فملكهم على بكر وتميم وقيس وتغلب وأسد". وهنالك روايات أخرى تختلف في التفاصيل وفي الأمور الثانوية عن هذه الروايات التي ذكرتها بعض الاختلاف، سأشير اليها في أثناء البحث عن هؤلاء الأولاد.

(1/1644)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر "ياقوت الحموي" رواية رجعها إلى "أبي زياد الكلابي "،خلاصتها أن "مضر" و "ربيعة" اجتمعت على أن يجعلوا منهم ملكا يقضي بينهم، فكل أراد أن يكون منهم، ثم تراضوا أن يكون من "ربيعة" ملك ومن "مضر" ملك،ثم أراد كل بطن من ربيعة ومن مضر أن يكون الملك منهم،ثم اتفقوا على أن يتخذوا ملكا من اليمن. فطلبوا ذلك إلى "بني آكل المرار" من كنده، فملكت بنو عامر شراحيل بن الحارث الملك بن عمرو المقصور بن حجر آكل المرار، وملكت بنو تميم وضبة محرق بن الحارث، وملكت وائل شراحيل بن الحارث. وتختلف هذه الرواية كما ترى بعض الاختلاف عن رواية ل "ابن الكلبي" ذكرها "ياقوت" أيضا، هي إن سلمة بن الحارث ملك "بني تغلب" و "يكر بن وائل"، وأما "غلفاء" وهو "معد يكرب" "معدي كرب"، فقد ملك بقية "قيس"، وأما "أسد" و "كنانة"، فقد ملكت عليها "حجر بن الحارث"، أي والد امرئ القيس.
أما "حجر"، فهو أكثر هؤلاء الأولاد ذكرا عند الأخباريين. وهو والد الشاعر الجاهلي المعروف "امرئ القيس ". وقد يعود الفضل إلى هذا الشاعر في ذيوع شهرة والده وانتشار خبره، وحفظ أخبار هذه الأسرة من كنده. وهو أكثر أولاد الحارث، واليه انتقلت عامة كنده بعد وفاة والده. وهو ابن "أم قطام بنت سلمة ين مالك بن الحارث بن معاوية" من كنده.

(1/1645)


--------------------------------------------------------------------------------

ملك "الحارث" ابنه "حجرا" كما ذكرت الأخبار على أسد وكنانة وهما قبيلتان من قبائل مضر. وتقع مواطن "اسد" الرئيسية في القرن السادس للميلاد في جنوب جبلي طيء "أجأ" و "سلمى"، ويسميان جبل شمر في الزمن الحاضر على جانبي بطن الرمة "وادي الرمة"، غير إن بطونها متفرعة منتشرة في مناطق واسعة تمتد من المدينة إلى نهر الفرات. ولكنها لم تكن سيدة هذه الأرضين، بل كانت تعيش مع غيرها من القبائل متفرقة. ويظن انها "استينوى" "Asatynol" الساكنة في أرض تسمى بهذا الاسم في "جغرافيا" بطلميوس. وتعد هذه القبيلة في عرف النسابين من نسل "أسد بن خزيمة بن مدركة بن مضر"، وهي شقيقة "الهون" و "كنانة".
وروى المؤرخ "ثيوفانس" أن "رومانس" "Romanus" حاكم فلسطين في أيام "أنسطاسيوس" "Anastasius"، هزم في سنة "490" للميلاد سيدي قبيلتين، هما: "جبلس." "Gabalas" "Jabalas" و "اوكاروس" "Ogaros" ابن "ارتاس" "Aretas"، أي الحارث من "آ ل ثعلبة" "Thalabanys"،ويظن أن "" Gabalas" هو"جبلة"، والد الحارث بن جبلة الغساني. وأما " Ogaras"، فيرى بعض المستشرقين أنه "حجر بن الحارث ابن عمرو الكندي". وقد وقع أسيرا في قبضة "رومانوس". ويرى "أوليندر" أن في تقدير هذا المؤرخ بعض الخطأ وأن التاريخ الصحيح هو سنة "497" للميلاد. ثم أشار هذا المؤرخ إلى تحرش آخر قام به بعد أربع سنوات سيد قبيلة اسمه " Madikaripos" Madicaripos"" كان شقيقا ل " Ogaros" 0 أوغل في الغزو وأوقع الرعب في جند الروم. وقد قصد "ثيوفانس" ب "Madikaripos" "معد يكرب بن الحارث" شقيق حجر.

(1/1646)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان من نتائج هذه الغارات كما يقول هذا المؤرخ أن عقد القيصر "أنسطاسيوس" صلحا مع " Aretas" أي الحارث، والد الأخوين المذكورين، فخيم الأمن بذلك على فلسطين والعربية وفينيقية. وقد أشار إلى هذا الصلح المؤرخ "نونوسوس" "Nonnosus"، حيث ذكر إن القيصر "انسطاسيوس" أرسل جده إلى "Aretas" لمفاوضته في عقد صلح. ويظهر من قول هذا المؤرخ أن هاتين الغزوتين كانتا في حياة " Aretas".
ولم يشر الأخبارييون إلى هذه الغزوات التي قام بها "حجر" و "معد يكرب" على حدود سورية وفلسطين في عهد "أنسطاسيوس" كما روى ذلك هذا المؤرخ.
وورد إن حجرا أغار على اللخميين في أيام امرئ القيس والد المنذر بن ماء السماء. و يظن "نولد كه" أن هذه الحملة التي لا نعرف من أمرها شيئا انما وقعت بعد وفاة الحارث، وقد قصد "حجر" منها استرجاع ما خسره أبوه، واعادة نفوذ كنده إلى ما كان عليه.

(1/1647)


--------------------------------------------------------------------------------

لقد كانت نهاية "حجر" بأيدي "بني أسد"، ويظسر انهم قبلوه ملكا عليهم مكرهين. فلما حانت الفرصة قاموا عليه وقتلوه. حدث "ابن الكلبي" انه كان لحجر على بني أسد اتاوة في كل سنة مؤقتة. فلما كان بتهامة، أرسل جابيه الذي كان يجيبهم، فمنعوه ذلك، وضربوا رسله وضرجوهم ضرجا شديدا قبيحا، فبلغ ذلك حجرا، فسار اليهم بجند من ربيعة وجند من جند أخيه من قيس وكنانة، فأتاهم وأخذ سراتهم، فضربهم بالعصا وأباح الأموال وصيرهم إلى تهامة، وحبس سيدهم "عمرو بن مسعود بن كنده بن فزارة الأسدي"، و الشاعر "**** بن الأبرص"، فأثر ذلك في نفوس "بني أسد وأضمروا له الانتقام". ثم إن حجرا وفد على ابيه الحارث في مرضه الذي مات فيه، وأقام عنده حتى هلك، ثم أقبل راجعا إلى بني أسد، فلما دنا منهم،وقد بلغهم موت أبيه، طمعوا فيه، فلما أظلهم وضربت قبابه، اجتمعت بنو أسد إلى "نوفل بن ربيعة"، فهجم على "حجر" ومن معه، فانهزم جيشه وأسر "حجر" وتشاور القوم في قتله، فقال لهم كاهنهم: لا تعجلوا بقتله حتى أزجر لكم، فلما رأى ذلك "علباء" خشي أن يتواكلوا في قتله، فحرض غلاما من بني كاهل على قتله، وكان حجر قد قتل أباه، فدخل الخيمة التي احتبس حجر فيها فطعنه طعنة أصابت مقتلا.

(1/1648)


--------------------------------------------------------------------------------

ويزعم أهل الأخبار إن "بنى أسد" الذين عصوا حجرا عرفوا منذ ضربهم حجر بالعصا ب "**** العصا"، وقد أشير إلى هذه التسمية في الشعر، ويذكرون أيضا إن "**** بن الأبرص"، وقف أمام الملك حجر، فقال شعرا يستعطفه فيه على قومه، فرق لهم ورحمهم وعفا عنهم، وأرسل من يردهم إلى بلادهم، فلما صاروا على مسيرة يوم من تهامة تكهن كاهنهم وهو "عوف بن ربيعة بن عامر الأسدي"، بأنهم سيقتلون حجرا وسينتقمون منه ومن أهله ثم فصدقوا بنبوءته وعادوا،إلى موضع حجر فوجدوه نائما، فذبحوه، وشدوا على هجائنه فاستاقوها. وفي رواية أخرى، انهم هجموا على عسكر حجر ودخلوا قببه، فطعنه علباء بن الحرث الكاهلي، فلما قتل، استصلحت أسد كنانة وقيسا، ونهبوا ما كان في عسكر حجر وسلبوه، وأجار "عمرو بن مسعود" عيال حجر. وقيل أجارهم غيره، وبذلك تخلصت بنو أسد من حكم كنده.
وهناك روايات أخرى يرجع سندها إلى "ابن الكلبي" والى غيره مثل "أبو عمرو الشيباني" و "الهيثم بن عدي" و "يعقوب بن السكيت" وغيرهم تختلف فيما بينها بعض الاختلاف في كيفية قتل "حجر". وقد زعمت بعض الروايات بأن "علياء بن الحرث الكاهلي" هو الذي قتله، طعنه، فقضت طعنته هذه عليه، وكان "حجر" قد قتل أباه. وزعمت رواية أخرى أن الذي قتله هو ابن أخت "علباء"، وكان حجر قد قتل أباه، ضربه بحديدة كانت معه سببت وفاته.
وتذكر رواية أن "حجرا" لما علم انه ميت أوصى ودفع كتابه إلى رجل أمره إن ينطلق إلى اكبر أولاده "نافع"، فإن بكى وجزع، فليذهب إلى غيره حتى يصل إلى أصغرهم وهو امرؤ القيس، فأيهم لم يجزع يدفع إليه الكتاب. فكان ذلك الولد امرؤ القيس.

(1/1649)


--------------------------------------------------------------------------------

ونجد في شعر "بشر بن أبي خازم الأسدي" فخرا واعتزازا بقتل أسد لحجر والد امرئ القيس. وقد دعاه ب "ابن ام قطام" في احدى قصائده، وقال إن قومه علوه بالسيوف البيض الذكور. وأم قطام هي بنت سلمة بن مالك بن الحارث بن معاوية. ودعاه ب "حجر" في قصيدة أخرى، وافتخر بأن قومه ضربوا رأس حجر بأسياف مهندة رقاق. وذكر في قصيدة أخرى أن قومه ضربوا خيل حجر بجنب الرده. والرده موضع في ديار قيس، والظاهر أنهم قتلوا حجرا بجنب الرده.
وأما "شرحبيل"، فقد ملكه ابوه على "بكر ين وائل" و "حنظلة بن مالك" و "بني أسيد" و "الرباب"، أي على عدد من قبائل ربيعة ومضر، وكان نصيبه القسم الشرقي من مملكة كنده ما عدا البحرين. وليس بين الذي يروي الأخباريون عنه شيء ذو بال، إلا ما ذكروه عن كيفية مقتله ونهايته، وهذا ملخصه: لما هلك الحارث بن عمرو تشتت امر اولاده، وتفرقت كلمتهم،ومشت الرجال بينهم، وتفاقم أمرهم حتى جمع كل واحد منهم لصاحبه الجموع وزحف إليه بالجيوش. وقد بلغت العداوة أشدها بين "شرحبيل" وسلمة، بسبب المنذر الذي عاد إلى الحيرة وأخذ يشعل نار الفتنة بين الأخوين. فسار شرحبيل ببكر ابن وائل ومن معه من قبائل حنظلة ومن أسيد بن عمرو ين تميم وطوائف من بني عمرو بن تميم والرباب، فنزلت "الكلاب"، وهو ماء بين الكوفة والبصرة على بضع عشرة ليلة من اليمامة، وأقبل "سلمة" في بني تغلب وبهراء.والنمر وأحلافها وسعد بن زيد مناة بن تميم ومن كان معهم من قبائل حنظلة وفي الصنائع يريدون الكلاب. وكان نصحاء شرحبيل وسلمة نهوهما عن الفساد والتحاسد، وحذروهما الحرب وعتراتها وسوء مغبتها، فلم يقبلا، ولم يتزحزحا، وأبيا إلا التتابع. فلما تلاقى الجمعان، اقتتلا قتالا شديدا، ثم خذلت بنو حنظلة وعمرو ابن تميم والرباب بكر بن وائل، وانصرفت وثبتت بكر بن وائل، وانصرفت بنو سعد وألفافها عن بني تغلب، وصبرت تغلب، وساء أمر شرحبيل، فجاء إليه من عرف موضعه وقتله.

(1/1650)

admin
12-27-2010, 01:42 AM
ويذكر أهل الأخبار إن العداوة كانت شديدة بين الأخوين، حتى إن كل واحد منهما وضع جائزة لمن يأتي برأس أخيه، فذهب "أبو حنش" وهو عصم ابن النعمان ين مالك "عصيم بن مالك الجشمي"، فطعن " شرحبيل "، واحتز رأسه وجاء به إلى أخيه، فطرحه أمامه. ويقال إن شرحبيل لما رأى "أبا حنش" يريد توجيه طعنة إليه قال له: يا أبا حنش اللبن اللبن، فقال أبو حنش: قد هرقت لنا لبنا كثيرا. فقال: يا أبا حنش أملك بسوقة. وذلك إن دم الملوك فوق دم العامة، وهم السوقة. وان الملك لا يقبل بسبب قتله رجلا من سواء النا س.

(1/1651)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظن إن "يوم الكلاب" كان قد وقع سنة "612" للميلاد. ويقول الرواة إن "بني تغلب" أخرجت "سلمة"، فلجأ إلى "بني بكر ابن وائل"، فانضم اليهم، ولحقت تغلب بالمنذر بن امرئ القيس. وتذكر رواية من الروايات التي يقصها أهل الأخبار عن كيفية نهاية ملوك كنده. إن الأمر لما اشتد على أولاد الحارث، جمع "سلمة" جموع اليمن، فسار ليقتل نزارا. وبلغ ذلك نزارا، فاجتمع منهم "بنو عامر بن صعصعة" وبنو وائل: تغلب وبكر، وقيل: بلغ ذلك كليب وائل، فجمع ربيعة، وقدم على مقدمته السفاح التغلبي وأمره أن يعلو "خزازا" فيوقد عليه نارا ليهتدي الجيش بها، وقال له: إن غشيك العدو فأوقد نارين. وبلغ سلمة اجتماع ربيعة ومسيرها فأقبل ومعه قبائل مذحج، و هجمت مذحج على خزاز ليلا، فرفع السفاح نارين، فأقبل كليب في جموع ربيعة اليهم،فالتقوا بخزاز، فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزمت جموع اليمن. وفي رواية "أبي زياد الكلابي"، إن الذي أوقد النار على خزاز "خزازا" هو الأحوص بن جعفر بن كلاب، وكان على روايته هذه رئيسا على نزار كلها. ويذكر الكلابي إن أهل العلم من الذين ادركهم ذكروا له انه كان على نزار "الأحوص بن جعفر". ثم ذكرت ربيعة أخيرا من الدهر إن "كليبا" كان على نزار. أما "محمد بن حبيب"، فيروي إن "كليب وائل" هو الذي قاد جموع "ربيعة" و "مضر" و "قضاعة" في يوم خزاز إلى اليمن.
وقال بعض الأخباريين: كان كليب على ربيعة، والأحوص على مضر.
ويعود سبب هذا الاختلاف في روايات الرواة إلى النزعات القبلية التي كان يحملها الرواة. ف "أبو زياد الكلابي" يتعصب كما نرى ل "بني كلاب "، فبرجع الرئاسة اليهم، لأنه منهم، وهذا مما يأباه رواة ربيعة وينكرونه عليه اذ يرون إن الرئاسة فيهم. وتوسط رواة بين رواة ربيعة ورواة مضر حسما للنزاع على ما يظهر، فقالوا بالرئاستين: رئاسة كليب على ربيعه، ورئاسة الأحوص على مضر وبذلك اصلحوا ذات البين.

(1/1652)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذكر "أبو زياد الكلابي" أن يوم "خزاز" أعظم يوم التقت فيه العرب في الجاهلية وانه اول يوم استنصفت فيه نزار من اليمن، وأنها لم تزل منذ هذا اليوم ممتنعة قاهرة لليمن في كل يوم يلتقونه حتى جاء الإسلام.
وذكر "الأصمعي" أن يوم خزاز كان للمنذر بن ماء السماء ولبني تغلب وقضاعة على "بني آكل المرار" من كنده وعلى بكر بن وائل، وان المنذر وأصحابه من بني تغلب أسروا في هذا اليوم خمسين رجلا من بني آكل المرار. ويفهم من شعر ل "عمرو بن كلثوم". قيل إنه قاله متذكرا هذا اليوم، أن رهطه وهم من بني تغلب آبوا بالنهاب وبالسبايا وبالملوك مصفدين. ولم يشر الشاعر إلى هوية هؤلاء الملوك المأسورين، ولكن "الأصمعي" يقول: إنه قصد بقوله: "وأبنا بالملوك مصفدينا "بني آكل المرار".
فيظهر من الرواية المتقدمة إن يوم خزاز، كان بين سلمة ومن جاء معه من اليمن وبين تغلب ومن انضم اليها من قبائل ربيعة ومضر. و يظهر من رواية الأصمعي إن ذلك اليوم كان بين المنذر بن ماء السماء وتغلب وقضاعة من جهة وبين "بني آكل المرار"، وبكر بن وائل من جهة اخرى وهناك روايات أخرى تذكر إن هذا اليوم، انما كان قد وقع بين ملك من ملوك اليمن وبين قبائل معد، ولا علاقة له بسلمة وببني اكل المرار أو المنذر بن ماء السماء في هذا اليوم، الذي أدى إلى انتصار بنى معد على اولاد قحطان.
ويذكر بعض أهل الأخبار أنه: "لولا عمرو بن كلثوم ما عرف يوم خزاز". وأم عمرو بن كلثوم، هي ابنة "كليب بن ربيعة"، المعروف ب "كليب وائل". فذكره في شعره لذلك اليوم ساعد ولا شك في ابقاء اسمه في ذاكرة الناس، حتى دون خبره في الإسلام.

(1/1653)


--------------------------------------------------------------------------------

وليوم "أوارة" الأول علاقة وصلة ب "سلمة بن الحارث" وب "المنذر ابن ماء السماء" على ما يرويه بعض أهل الاخبار. فهم يذكرون إن تغلب لما أخرجت "سلمة" عنها، التجأ إلى "بكر بن وائل"، فلما صار عند بكر ابن وائل اذعنت له، وحشدت عليه، وقالت: لا يملكنا غيرك. فبعث اليهم المنذر يدعوهم إلى طاعته، فأبوا ذلك، فحلف المنذر ليسيرن اليهم، فان ظفر بهم فليذبحنهم على قلة جبل أوارة. وسار اليهم في جموعه، فالتقوا بأوارة، فاقتتلوا قتالا شديدا، وأجلت الواقعة في هزيمة بكر وأسر "يزيد بن شرحبيل الكندي"، فأمر المنذر بقتله وبقتل عدد كبير من بكر.
وأما "شراحيل بن الحارث"، فقد قتله "بنو جعدة بن كعب بن ربيعة ابن صعصعة".
ويحدثنا "يعقوب بن السكيت" انه كان لحجر والد امرئ القيس جملة أولاد أكبرهم "نافع" وأصغرهم "امرؤ القيس "، وبين الأكبر والأصغر جملة أولاد، غير انه لم يذكر أسماءهم. وقد ورد اسم "نافع" في بيت شعر لامرئ القيس.
وذكر "ياقوت" ولدا ل "سلمة بن الحارث" سماه "قيسا" قال: انه أغار على "ذي القرنين المنذر بن النعمان بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي" فهزمه، حتى أدخله الخورنق ومعه ابناه قابوس وعمرو. فمكث ذو القرنين حولا.، ثم أغار عليهم ب "ذات الشقوق"، فأصاب منهم اثني عشر شابا من بني حجر ابن عمرو وكانوا يتصيدون، وأفلت منهم امرؤ القيس على فرس شقراء، فطلبه القوم فلم يقدروا عليه. وقدم المنذر الحيرة بالفتية فحبسهم بالقصر الأبيض شهرين ثم أمر بضرب أعناقهم فضربت عند "الجفر"، فعرف منذ ذلك الحين ب "جفر الأملاك"، وهو موضع "دير بني مرينا". وقد أشير إلى مقتلهم في شعر لامرئ القيس.
كنده تلحق بحضرموت

(1/1654)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذكر الرواة إن ملك كنده لما انخرق، وهلك من هلك منهم، قام "عمرو أقحل بن ابي كرب بن قيس بن سلمة بن الحارث، الملك، فقال: يا معشر كنده، إنكم قد اصبحتم بغير دار مقام. وقد ذهب أشرافكم وانخرق ملككم، ولا امن العرب عليكم، فالحقوا بحضرموت ".
ويذكر الرواة إن الملك خرج من "بني آكل المرار" وساد بنو الحارث بن معاوية فأول من ساد منهم "قيس بن معد يكرب"، ثم ابنه الأشعث بن قيس، وهو الذي اتى النبي في ستين او سبعن راكبا من اشراف كنده فأسلموا. أسلم الأشعث، وكانت كنده قد توجته عليها.
ويذكر "حمزة"، إن المنذر بن ماء السماء تتبع غابرهم، فقتل عامتهم، وصارت رياسه كنده في "بني جبلة بن عدي بن ربيعة بن معاوية الأكرمين"، ثم في "معد يكرب بن جبلة"، ثم في "قيس بن معديكرب"، وعلى عهده قام الإسلام بمكة، ثم في "الأشعث بن قيس".
وقد ذكر "ابن حبيب"، "الأشعث بن قيس بن معد يكرب" في جملة الجرارين من اليمن. و الجرارون من كان يرأس ألفا ولا يعد الرجل جرارا حتى يقود ألفا. وذكره في باب "أعرق العرب في الغدر". فقال عنه إنه غدر ب "بني الحارث بن كعب". وكان بينهم عهد وصلح، فغزاهم فأسروه، ففدى نفسه بمائتي قلوص، فأدى مائة، ولم يؤد البقية حتى جاء الإسلام، فهدم ما كان في الجاهلية. وغدر الأشعث ايضا فارتد عن الإسلام.
وقال عن والده "قيس بن معد يكرب بن معاوية ين جبلة الكندى"، انه كان من "أعرق العرب في الغدر" كذلك، وكان بينه وبن مراد ولث إلى أجل، فغزاهم في آخر يوم الأجل غادرا. "وكان ذلك اليوم يوم الجمعة. فقالوا له: انه قد بقي من الأجل اليوم. وكان يهوديا. فقال: انه لا يحمل لي القتال غدا. فقاتلهم، فقتلوه وهزموا جيشه. وكان معد يكرب عقد لمهرة صلحا، فغزاهم غادرا بالعهد. فقتلوه وشقوا بطنه، فملأوه حصى".

(1/1655)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد لقب "قيس" بالأشج، لأثر شج في وجهه، وعرف بالأعشى كذلك وقيل له: "بطريق اليمن". وذكر بعض الرواة إن كلمة "بطريق" تعني الحاذق في الحرب وأمورها.
وفي حق "قيس" هذا قال "الحارث بن حلزة اليشكري" في جملة ما قاله في قصيدته مفتخرا بقومه: حول قيس مستلئمين بكبش قرظى كأنه عبلاء
وقد قال الشراح إن قيسا جاء على رأس جيش لجب ومعه راياته متحصن بسيد من بلاد القرظ، وبلاد القرظ اليمن، كأنه في منعته وشوكته هضبة من الهضاب، قد لبسوا الدروع، فرد بهم "يشكر" قوم الشاعر، وقتلوا منهم.
ويذكر أهل الأخبار إن الشاعر الأعشى كان ممن يفد على "قيس بن معد يكرب" من الشعراء. وقد رووا له شعرا قاله لقيس. في جملته قوله:.
وجلنداء في عمان مقيما ثم قيسا في حضرموت المنيف
وقد ذكر "ابن حبيب" إن "خالد بن جعفر بن كلاب"، أسر "قيس ابن سلمة الكندي" يوم الحرمان.
وذكر أهل الأخبار إن ملوك كندة جعلوا ردافتهم في "بني سدوس".
وجاء إن "الأشعث بن قيس"، كان قد غلب على اهل نجران وملك رقابهم وجعلهم "****ا مملكة". وذكر انه خاصمهم عند عمر في ايام خلافته، فاحتجوا عليه إن ذلك كان في الجاهلية، فلما أسلموا سقطت تلك العبودية عنهم.
امرؤ القيس الشاعر
ويذكر الأخباريون إن "حجرا" لم يكن راضيا عن ابنه "امرئ القيس" فطرده من عنده وآلى الا يقيم معه أنفة من قوله الشعر، وكانت الملوك تأنف من ذلك. فكان يسير في احياء العرب ومعه اخلاط من شذاذ العرب من طيء وكلب ويكر بن وائل. فإذا صادف غديرا او روضة او موضع صيد، اقام فذبح لمن معه في كل يوم، وخرج إلى الصيد فتصيد، ثم عاد فأكل واكلوا معه وشرب الخمر وسقاهم وغنته قيانه، ولا يزال كذلك حتى ينفد ماء ذلك الغدير، ثم ينتقل عنه إلى غيره. فأتاه خبر ابيه ومقتله وهو ب "دمون" من ارض اليمن، أتاه به رجل من بني عجل يقال له عامر الأعور أخو الوصاف. فلما أتاه بذلك، قال: تطاول الليل على دمون دمون، إنا معشر يمانون

(1/1656)


--------------------------------------------------------------------------------

واننا لأهلها محبون
ثم قال: ضيعني صغيرا وحملني دمه كبيرا، لا صحو اليوم، ولا سكر غدا، اليوم خمر، وغدا أمر. فذهبت مثلا ثم قال: خليلي، لا في اليوم مصحى لشارب ولا في غد إذ ذاك ما كان يشرب ثم شرب سبعا فلما صحا إلى ألا يأكل لحما ولا يشرب خمرا ولا يدهن بدهن ولا يصيب امرأة ولا يغسل رأسه من جنابة حتى يدرك بثأره.
وفي رواية أخرى انه طرد لما صنع في الشعر بفاطمة ما صنع،وكان لها عاشقا، فطلبها زمانا، فلم يصل اليها، وكان يطلب غرة حتى كان منها يوم الغدير بدارة جلجل ما كان، فقال قصيدته المشهورة: "قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل". فلما بلغ ذلك والده غضب عليه، وأوصى بقتله ثم طرده. وهناك من يزعم انه انما طرده لأنه تغزل بامرأة من نساء ابيه.
هذا وصف موجز لأصغر أبناء "حجر": "امرىء القيس بن حجر الكندي" الشاعر الشهير و "الملك الضليل" و "ذي القروح".
وللرواة أقوال في اسم "امرئ القيس"، فقد سماه بعضهم "حندجا"، ودعاه آخرون "عديا"، ودعاه قوم "مليكا"، ودعاه نفر "سليمان" وهو معروف عندهم يالاجماع ب "امرئ القيس"، وهو لقبه. ويكنى بأبي وهب وأبي زيد وأبي الحارث وذي القروح.

(1/1657)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا نعرف سنة ولادة هذا الأمير الشاعر. ويظن "اوليندر" انه ولد حوالي سنة "500" للميلاد. أما أمه فهي "فاطمة" بنت ربيعة بن الحارث بن زهير، أخت "كليب" و "مهلهل" التغلبيين. وورد في بيت شعر ينسب إلى هذا الشاعر: "امرئ القيس بن تملك". وقد استنتج بعض العلماء منه إن أمه هي "تملك" ورجعوا نسبها إلى "عمرو بن زبيد بن مذحج رهط عمرو بن معد يكرب"، ويرى بعض المستشرقين انه أدخل في ديوان هذا الشاعر، وانه يعود إلى شاعر آخر اسمه "امرئ القيس"، وقد عد "آلوارت" "Ahlwardt"، ستة عشر شاعرا أسماؤهم "امرؤ القيس". ويلاحظ أن من زعم من الرواة إن ام امرئ القيس هي "تملك" جعل نسبه "امرأ القيس بن السمط بن امرئ القيس بن عمرو بن معاوية بن ثور"، وهو "كندة"، وهم يخالفون بذلك سلسلة النمب المألوفة عند غالبية الرواة.
وذكر انه ولد ببلاد بني أسد، وانه كان ينزل بالمشقر وهو موضع ذكر في شعره. وروى "ابن قتيبة" إن "امرأ القيس" من أهل نجد، وأن الديار التي وصفها في شعره كلها ديار بني اسد. وقد تنقل هذا الشاعر في مواضع متعددة من الجزيرة، ووصل إلى القسطنطينية عاصمة الروم. وكان امرؤ القيس ب "دمون" حينما جاء إليه نبأ مقتل والده على رواية. ودمون من قرى حضرموت للصدف في رواية. وفي رواية أخرى مرجعها "الهيثم ابن عدي" إن امرأ القيس لما قتل أبوه كان غلاما قد ترعرع، وكان في بني حنظلة مقيما، لأن ظئره كانت امرأة منهم، وقد روت شعرا زعمت أنه قاله حينما بلغه النبأ، وهو: أتاني وأصحابي على رأس صيلع حديث أطار النوم عنى فأنعما
فقلت لعجلي بعيد مآبة ابن لي وبين لي الحديث المجمجما
فقال: أبيت اللعن عمرو وكاهل أباحا حمى حجر فأصبح مسلما
ويفهم من هذا أن شاعرنا كان في صيلع حينما. أبلغ خبر وفاة والده، أتاه به رجل اسمه "عجل" ويعرف بعامر الأعور.

(1/1658)


--------------------------------------------------------------------------------

أما صيلع، فموضع من شق اليمن، كثير الوحش والظباء. ورد اسمه في خبر مجيء وفد همدان إلى الرسول. وقد صرح "ياقوت الحموي أن به ورد الخبر على امرىء القيس بمقتل أبيه حجر.
وهناك خبر يفيد أنه نزل في "بني دارم" وبقي عندهم حتى قتل عمه "شرحبيل"، وفي رواية تنسب إلى "الهيثم بن عدي" أنه كان مع والده "حجر" حين هاجمته بنو أسد، وانه هرب على فرس له وتمكن من النجاة. ويقول "ابن الكلبي" و "يعقوب بن السكيت" أن امرأ القيس ارتحل بعد أن بلغه نبأ مقتل والده حتى نزل بكرا وتغلب، فسألهم النصر على بني أسد، فبعث العيون على بني أسد، فنذروا بالعيون ولجأوا إلى بني كنانة، ثم أدركوا إن امرأ القيس يتعقبهم، ونصحهم "علباء بن الحارث" بالرحيل بليل، وألا يعلموا بني كنانة، ففعلوا وتركوا "بني كنانة" وارتحلوا عنهم ليلا دون أن يشعروا.
فلما وصل امرؤ القيس إلى بني كنانة ظانا بني أسد بينهم، نادى: يالثارات الملك. يالثارات الملك فأخروه انهم قد تركوهم وارتحلوا عنهم. فتعقبهم مع بكر وتغلب حتى لحق بهم، فقاتلهم، فكثرت فيهم الجرحى والقتلى حتى جاء اليل فحجز بينهم، وهربت بنو أسد فلما أصبحت بكر وتغلب، أبوا أن يتبعوهم وقالوا له: قد أصبت ثأرك. قال: والله، ما فعلت ولا أصبت من بني كاهل ولا من غيرهم من بني أسد أحدا. قالوا: بلى، ولكنك رجل مشؤوم، وكرهوا قتالهم بني كنانة. وانصرفوا عنه، ومضى هاربا لوجهه حتى لحق بحمير. ولما أقبل امرو القيس من الحرب على فرسه الشقراء، لجأ ابن عمته "عمرو إبن المنذر" وأمه "هند بنت عمرو بن حجر آكل المرار"، وذلك بعد قتل أبيه وأعمامه، وتفرق ملك أهل بيته، وكان عمرو يومئذ خليفة لأبيه المنذر ب "بقة"، فمدحه وذكر صهره ورحمه، وانه قد تعلق بحباله، ولجأ إليه فأرجاه ومكث عنده زمانا. ثم بلغ المنذر مكانه عنده، وأنذره عمرو، فهرب حتى أتى حمير.

(1/1659)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي رواية يرجعها الرواة إلى "ابن الكلبي" و "الهيثم بن عدي" و "عمر ابن شبة" و "ابن قتيبة": إن "امرأ القيس" خرج فورا بعد امتناع بكر ابن وائل وتغلب من أتباع بني أسد إلى اليمن، فاستنصر أزد شنوءة، فأبوا أن ينصروه وقالوا: اخواننا وجيراننا، فنزل بقيل يدعى "مرثد الخير بن ذي جدن الحميري"، وكانت بينهما قرابة،. فأستنصره واستمده على بني أسد، فأمده بخمسمائة رجل من حمير، ومات مرثد قبل رحيل امرئ القيس بهم،وقام بالمملكة بعده رجل من حمير يقال له: قرمل بن الحميم، وكانت. أمه سوداء، فردد امرؤ القيس، وطول عليه حتى هم بالانصراف... فأنفذ له ذلك الجيش، وتبعه شذاذ من العرب، واستأجر من قبائل العرب رجالا: فسار بهم الى بني أسد، ومر ب "تبالة"، وبها صنم للعرب تعظمه يقال له "ذو الخلصة"، فاستقسم عنده بقداحه، وهي ثلاثة: الآمر والناهي والمتربص،، فأجالها فخرج الناهي، ثم أجالها فخرج الناهي، ثم أجالها فخرح الناهي، فجمعها وكسرها وضرب بها وجه الصنم. وقال: مصصت بظر أمك لو أبوك قتل ما عقتني، ثم خرج فظفر ب "بني أسد".
فلما طفر بهم، فقال هذه الأبيات: قولا لدودان **** العصا ما غركم بالأسد الباسل
قد قرت العينان من مالك ومن بني عمرو ومن كاهل
ومن بني غنم بن دودان إذ نقذف أعلاهم على السافل
حلت لي الخمر وكنت امرأ عن شربها في شغل شاغل
فاليوم أشرب غير مستحقب إثما من الله ولا واغل
وهي أبيات يفهم منها انه أوقع في "بني دودان" و "بني مالك" و "بني عمرو" و "بني كاهل" و "بني غنم بن دودان"، وهي بطون من بني أسد،هي التي قتلت أباه حجرا، قالها بعد أن أنجده "قرمل بن الحميم الحميري" وانه ألبسهم الدروع المحماة، وكحلهم بالنار، فبر بيمينه، وحل له شرب الخمر.
وبنو دودان، هم بنو ثعلبة بن دودان بن أسد، والى ثعلبة هذا تنسب الثعلبية التي بين الكوفة ومكة. وهم جملة بطون ذكرها أهل الأنساب.

(1/1660)


--------------------------------------------------------------------------------

والى "قرمل" أشار "امرؤ القيس" في شعره: وكنا أناسا قبل غزوة قرمل ورثنا الغنى والمجد أكبر أكبرا
وهو من "السحول" من "ذي الكلاع".
وفي رواية تنسب إلى "الخليل بن أحمد الفراهيدي" أن رجالا من قبائل "بني أسد" فيهم "قبيصة بن نعيم" وكان في بني أسد مقيما، قدموا على امرئ القيس بعد مقتل أبيه، ليعتذروا إليه وليسووا قضية قتل والده، فرفض إلا الانتقام من "بني أسد" قائلا: "لقد علمت العرب أن لا كف لحجر في دم، واني لن أغتاض به جملا أو ناقة، فاكتسب، بذلك سبة الأبد وفت إلعضد. وأما النظرة، فقد أوجبتها الأجنة في بطون أمهاتها، ولن أكون لعطبها سببا وستعرفون طلائع كنده من بعد ذلك تحمل للقلوب حنقا وفوق الأسنة علقا". وتذكر الرواية أنه خرج اليهم بعد ابطاء دام ثلاثة أيام، وهو في قباء وخف وعمامة سوداء، وكانت العرب لا تعتم بالسواد إلا بالثارات، فلما نظروا إليه، وبدر إليه قبيصة، يتكلم باسمهم معتذرا، طالبأ الصفح عنهم، ودفع الدية عن حجر، أخبرهم، أن دم حجر لا يعتاض بجمل أو ناقة، وأنه لا بد من أخذه بالثأر، ثم أمهلهم حتى يجمع طلائع كندة، فيهجم عليهم.
وهناك رواية أخرى تنسب إلى "أبي عييدة " في هذا المعنى المتقدم مآلها أن "بني اسد" اجتمعت "بعد قتلهم حجر بن عمرو إلى ابنه امرئ القيس على أن يعطوه ألف بعير دية ابيه، او يقيدوه من أي رجل شاء من بني أسد،أو يمهلهم حولا. فقال ": أما الدية، فما ظننت انكم تعوضونها على مثلي. وأما القود، فلو قيد إلي ألف من بني اسد ما رضيتهم ولا رأيتهم كفؤا لحجر. وأما النظرة فلكم، ثم ستعرفونني في فرسان قحطان أحكم فيكم ظبا السيوف وشبا الأسنة حتى اشفي نفسي وأنال ثاري".

(1/1661)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم تشر رواية " الخليل" و "أبي ****ة" إلى ما فعله "امرؤ القيس" بعد ذلك في "بني اسد"، ولكننا إذا ما اردنا ربط هذه الروايات بعضها ببعض وبحسب التسلسل الطبيعي المنطقي، نستطيع إن نجعلها مقدمة لرواية "ابن الكلبي" و "ابن السكيت" و "خالد الكلابي" وملحقها، وهي رواية "محمد بن سلام" عن نزول "أمرئ القيس" ب "بكر" و "تغلب"، وطلبه النجدة منهم والنصرة على بني اسد، واقتصاصه منهم بعد تركهم ل "بني كنانة" كما ذكرت ذلك سابقا. وان نربطها كذلك برواية "ابن الكلبي" "والهيثم بن عدي" و "عمرو بن شبة" وابن "قتيبة" الملحقة بهذه الرواية، والرواية القائلة بذهاب "امرئ القيس" إلى اليمن واستنصاره ب "أزد شنونة" و "مرثد الخير بن ذي جدن الحميري" بعد إن امتنعت بكر بن واثل وتغلب عن ملاحقة بني اسد. وقد أشار "ابن قتيبة" اشارة مختصرة إلى هجوم "امرئ القيس" على بني أسد حينما كانوا في "بني كنانة"، وذكر انه اوقع ب "بني كنانة"، ونجت "بنو كاهل" من بني اسد، فقال: يا لهف نفسي اذ خطئن كاهلا القاتلين الملك الحلاحلا
تالله لا يذهب شيخي باطلا
وأما "اليعقوبي" فذكر إن "امرأ القيس" حين بلغه مقتل أبيه جمع جمعا وقصد "بني أسد"، فلما كان في اليلة التي أراد أن يغير عليهم في صبيحتها، نزل بجمعه ذلك، فذعر القطا، فطار عن مجاثمه فمر ببني أسد، فقالت بنت "علبأء بن الحارث" أحد "بني ثعلبة"، وكان القائم بأمر بني أسد: ما رأيت كالليلة قطا أكثر. فقال علباء: "لو ترك القطا لغفا ونام فأرسلها مثلا. وعرف إن جيشا قد قرب منه، فارتحل، وأصبح امرؤ القيس فأوقع بكنانة، فأصاب فيهم، وجعل يقول: يالثارات حجر، فقالوا: والله ما نحن الا كنانة. فتركهم وهو يقول: ألا يالهف نفسي بعد قوم هم كانوا ألشقاء فلم يصابوا
وقاهم جدهم ببني أبيهم وبالأشقين ما كان العقاب
وأفلتهن علباء جريضا ولو أدركته صفر الوطاب

(1/1662)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم يشر اليعقوبي إلى محاولة "امرئ القيس" تعقيب "بني أسد" وامتناع من كان معه عن الذهاب معه كما رأينا ذلك في الرواية السابقة بل قال:"ومضى امرؤ القيس إلى اليمن لما لم يكن به قوة على بني أسد ومن معهم من قيس، فأقام زمانا، وكان يدمن مع ندامى له، فأشرف يوما، فاذا براكب مقبل، فسأله: من أين أقبلت ? قال: من نجد، فسقاه مما كان يشرب، فلما أخذت منه الخمرة، رفع عقيرته وقال: سقينا امرأ القيس بن حجر بن حارث كؤوس الشجا حتى تعود بالقهر
وألهاه شرب ناعم وقراقر وأعياه ثأر كان يطلب في حجر
وذاك لعمري كان أسهل مشرعا عليه من البيض الصوارم والسمر
ففزع امرؤ القيس لذلك ثم قال: يا أخا أهل الحجاز، من قائل هذا الشعر? قال: **** بن الأبرص. قال: صدقت. ثم ركب واستنجد قومه، فأمدوه بخمسمائة من مذحج، فخرج إلى أرض "معد"، فأوقع بقبائل معد، وقتل الأشقر. بن عمرو، وهو سيد بني أسد وشرب في قحف رأسه،وقال امرؤ القيس في شعر له: قولا لدودان **** العصا: ما غركم بالأسد الباسل
يا أيها السائل عن شأننا ليس الذي يعلم كالجاهل
حلت لي الخمر وكنت امرءا عن شربها في شغل شاغل
وطلبت قبائل معد امرأ القيس، وذهب من كان معه، وبلغه إن المنذر ملك الحيرة قد نذر دمه، فأراد الرجوع إلى اليمن، فخاف حضرموت، وطلبته بنو أسد وقبائل معد، فلما علم انه لا قوة به على طلب المنذر واجتماع قبائل معد على طلبه ولم يمكنه الرجوع، سار إلى "سعد بن الضباب الإيادي" وكان عاملا لكسرى على بعض كور العراق فاستتر عنده حينا حتى مات سعد بن الضباب"، فخرج امرؤ القيس إلى جبل "طيء" ونزل بقوم من طيء، ثم لم يزل في طيء مرة وفي جديلة مرة وفي نبهان مرة حتى صار إلى "تيماء" فنزل بالسموأل بن عادياء فأودعه أدراعه وانصرف عنه إلى قيصر.

(1/1663)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر "ابن خلدون" إن "امرأ القيس" سار صريخا إلى "بني بكر" و "تغلب" فنصروه، وأقبل بهم، فأجفل "بنو أسد" وساروا الى "المنذر ابن امرئ القيس" ملك الحيرة، وأوقع "امرئ القيس" في "كنانة"، فأثخن فيهم، ثم سار في ملاحقة "بنى أسد" إلى أن أعيا ولم يظفر منهم بشيء، ورجعت عنه بكر وتغلب، فسار إلى "مؤثر الخير بن ذي جدن". ملوك حمير صريخا بنصره بخمسمئة من حمير، ويجمع من العرب سواهم. وجمع المنذر لامرئ آلقيس ومن معه، وامده كسرى آنو شروان بجيش من الأساورة،والتقوا، فانهزم امرؤ القيس، وفرت حمير ومن كان معه، ونجا بدمه، وما زال يتنقل في القبائل والمنذر في طلبه، وسار إلى قيصر صريخا فأمده، ثم سعى به "الطماح" عند قيصر انه يشبب ببنته،فبعث إليه بحلة مسمومة كان فيها هلاكه ودفن بأنقرة.
و "أبو الفداء" من الدين نفوا كذلك خبر ايقاع "امرئ القيس" ب "بني اسد". فهو يرى انه لم يظفر بهم، وان "بني أسد" هربت حينما علمت بمجيء "بكر" و "تغلب". فلما أعجز القبيلتين الطلب، تخاذلتا عن "امرئ القيس"، وتركتاه. ولما عرفت جموع "امرئ القيس" بتطلب "المنذر بن ماء السماء" له، تفرقت خوفا من المنذر، وخاف "امرؤ القيس"، وصار يدخل على قبائل العرب ويتنقل من أناس إلى أناس حتى قصد "السموأل بن عاليا" اليهودي، فكرمه وأنزله، وأقام عنده ما شاء الله، ثم سار إلى.قيصر مستنجدا به.
ينفي خبر "ابن خلدون" المتقدم، خبر انتقام امرئ القيس من بني اسد، وهو يتفق بذلك مع رواية مؤيدة لبني اسد تنكر اخذ امرئ القيس بثأره من بني اسد، وتروي في ذلك أبياتا تنسبها اسد إلى "**** بن الأبرص" شاعر بني اسد. قال ابن قتيبة: "وقد ذكر امرؤ القيس في شعره انه ظفر بهم، فتأبى عليه ذلك الشعراء". قال ****: ياذا المخوفنا بقتل أبيه إذلالا وحينا
أزعمت انك قد قتلت سراتنا كذبا ومينا

(1/1664)


--------------------------------------------------------------------------------

و**** هذا هو الذي زعم "ابن. الكلبي" وأضرابه انه قال أبباتا يتوسل فيها إلى "حجر" إن يترفق بقبائل بني اسد، وان يعفو عنها، ويقبل ندامتها، فيسمح لها بالعودة إلى مواطنها. وكان قد امر باجلائها إلى تهامة، لأنها أبت دفع الاتاوة إلى جابي "حجر"، وضربته، وضرجته ضرجا شديدا. ومطلعها: ياعين فابكي ما بني=أسد، فهم أهل الندامة ويقول ويقولون: انه لما سمعها رق على "بني اسد"، فبعث في اثرهم وسمح لهم بالعودة من تهامة. وهو قول فيه تحيز على بني أسد.
ويفهم من هذه الأبيات: كأني إذ نزلت على المعلى نزلت على البواذخ من شمام
فما ملك العراق على المعلى بمقتدر ولا الملك الشامي
أصد نشاص ذي القرنين حتى تولى عارض الملك الهمام
أقر حشا امرئ القيس بن حجر بنو تيم مصابيح الظلام
أن امرأ القيس نزل على "المعلى" احد "بني تيم بن ثعلبة" فأجاره ومنعه. ولم يكن للملكين: ملك العراق وهو المنذر ولا ملك الشام أي ملك الغساسنة، اقتدار عليه. وقد بقي لديه زمانا، ثم اضطر إلى الارتحال عنه. فذهب ونزل عند "بني نبهان" من طيء " ثم خرج، فنزل ب "عامر بن جوين الطائي" وهو احد الخلعاء والفتاك، فبقي عنده زمانا، ثم أحس منه مارا به، فتغفله، وانتقل إلى رجل من "بني ثعل" فاستجار به، فوقعت الحرب بين "عامر" وبين "الثعلي"، فخرج ونزل برجل من "بني فزارة" اسمه "عمرو بن جابر بن مازن" فأشار هذا عليه بالذهاب إلى "السموأل بن عادياء" بتيماء، فوافق فأرسله في صحبة رجل من "فزارة" اسمه "الربيع بن ضبع الفزاري" كان يأتي السموأل،فيحمله ويعطيه. فنزل عنده وأكرمه، ثم انه طلب إليه أن يكتب له إلى "الحارث بن أبي شمر" الغساني، ليوصله إلى قيصر. ثم أودعه امرؤ القيس ابنته وأدراعه وأمواله، وأقام ابنته مع "يزيد بن الحارث بن معاوية" ابن عمه وخرج. وكان الذي أشار على "امرىء القيس" بالتوجه إلى قيصر هو ذلك الرجل الفزاري.

(1/1665)

admin
12-27-2010, 01:43 AM
ويظهر من غربلة كل هذه الروايات، إن مطاردة "المنذر بن ماء السماء" لامرئ القيس كانت أعنف شيء أصاب هذا الشاعر بعد مقتل والده. لقد أخافته وجعلته يتنقل من قوم الى قوم. فر عنه من انضم إليه من عصبة حمير،ونجا في جماعة من بني آكل المرار،حتى نزل بالحارث بن شهاب في بني يربوع بن حنظلة ومعه أدراعه الخمسة: الفضفاضة، والضافية، والمحصنة، والخريق، وام الدبول، كن لبني مرار يتوارثونها ملكا عن ملك، فقلما لبثوا عند الحارث بن شهاب حتى بعث إليه المنذر مئة من أصحابه يوعده بالحرب إن يسلم بني آكل المرار فأسلمهم، ونجا امرؤ القيس ومعه ابن عمه يزيد بن معاوية بن الحارث وبنته هند. والأدرع والسلاح، ومال كان بقي عنده، ومضى إلى أرض طيء ونزل عند المعلي بن تيم الذي مدحه شاعرنا، فأقام عنده، واتخذ إبلا، ثم خرج فنزل بعامر بن جوين على نحو ما ذكرت.
ويذكر الأخباريون إن "عمرو بن قميئة" كان قد رافق "امرأ القيس" في سفره إلى "القسطنطينية،. وقد أشير إليه في شعر "امرئ القيس" كذلك. ويذكرون انه كان من قدماء الشعراء في الجاهلية "وانه أول من قال الشعر من نزار، وهو اقدم من امرى القيس. ولقبه امرؤ القيس في آخر عمره، فأخرجه معه إلى قيصر لما توجه إليه، فمات معه في طريقه. وسمته العرب: عمرا الضائع لموته في غربة وفي غير أرب ولا مطلب". بل روى انه كان من أشعرالناس. وانه كان من خدم والد امرئ القيس، وانه بكى وقال لامرئ القيس غررت بنا، فأنشأ امرؤ القيس، شعرا فيه.
أما خبر "امرئ القيس" مع الغساسنة في طريقه إلى قيصر، فلا نعلم منه شيئا،وليس في شعره ما يشير إلى انه ذهب اليهم رجاء التوسط في الوصول اليه. ويظهر من شعر لامرؤ القيس، انه سلك طريق الشام في طريقه إلى قيصر وأنه مر ب "حوران"وبعلبك وحمص وحماة وشبيزر. أما ما بعد ذلك حتى عاصمة الروم، فلا نعرف من امره شيئا.

(1/1666)


--------------------------------------------------------------------------------

ويقول الرواة إن قيصر أكرم امرأ القيس، وصارت له منزلة عنده، وأنه دخل معه الحمام، وان ابنته نظرت إليه فعشقته، فكان يأتيها وتأتيه، وانه نادمه، واستمده فوعده ذلك وفي هذه القصة يقول: ونادمت قيصر في ملكه فأوجهني وركبت البريدا
ويذكرون أن "القيصر" أنجد "امرأ القيس" وأمده بجند كثيف فيه جماعة من أبناء الملوك، ولكن رجلا من بني أسد اسمه "الطماح" كان امرؤ القيس قد قتل أخا له، لحق بامرئ القيس،وأقام مستخفيا، فلما ارتحل "امرؤ القيس" اتصل بجماعة من أصحابه، اتصلوا بقيصر، وقالوا له: "إن العرب قوم غدر ولا نأمن إن يظفر بما يريد، ثم يغزوك بمن بعثت معه". وفي رواية لابن الكلبي انه ذهب إلى قيصر، وقال له: "إن امرأ القيس غوي عاهر، وانه لما انصرف عنك بالجيش ذكر انه كان يراسل ابنتك ويواصلها، وهو قائل في ذلك أشعارا يشهر بها في العرب فيفضحها ويفضحك. فبعث إليه حينئذ بحلة وشي مسمومة منسوجة بالذهب، وقال له: اني أرسلت اليك بحلتي التي كنت ألبسها تكرمة لك، فإذا وصلت اليك فالبسها باليمن والبركة، واكتب الي بخبرك من من مزل منزل..فلما وصلت إليه لبسها، واشتد سروره بها، فأسرع فيه السم، وسقط جلده، فلذلك سمي "ذا القروح". ويستشهدون على قولهم هذا بشعر امرئ القيس.
ويذكر بعضهم أن امرأ القيس كان مصابا بداء قديم، وقد عاوده في ديار الروم، وهو عائد إلى دياره، فما وصل إلى "أنقرة"، اشتد عليه المرض، فمات هناك. وانه رأى قبر امرأة من ابناء الملوك ماتت هناك، فدفنت في سفح جبل يقال له "عسيب"، فسأل عنها فأخبر بقصتها، فقال في ذلك شعرا.
ثم مات فدفن في جنب المرأة، فقبره هناك.
ويرى بعض المستشرقين إن ذهاب "امرئ القيس" إلى "القيصر" "يوسطنيانوس" كان.حوالي سنة "530" للميلاد، وانه توفي في أثناء عودته بين سنتي "530" و"540"للميلاد.

(1/1667)


--------------------------------------------------------------------------------

وليس في كتب الروم او السريان الواصلة الينا اشارة إلى هذه الحوادث التي يرويها الأخباريون عن ذهاب امرئ القيس إلى القسطنطينية، وطلبه النجدة من القيصر وموته في انقرة، ولا عن الشعر الذي قاله في حق القيصر، وفي حق القبر الذي شاهده، وما إلى ذلك مما يذكره الأخباريون.
وأما "المعلى" الطائي احد بني تيم، من "جديلة" والذي يعرف قومه ب "مصابيح الظلام"، فقد ذكره اهل الأخبار في عداد الوافين من العرب. قيل إن "المعلى" شخص في يوم لبعض امره، وبلغ "المنذر بن ماء السماء" إن امرأ القيس عند المعلى وقد أجاره، فركب حتى اتى "ابن المعلى". فعمد ابن المعلى حتى انتهى إلى القبة التي هو فيها. فقال له: "إن فيها حرم المعلى ولست واصلا اليها". ونادى في قومه، فمنعوه، فقال امرؤ القيس شعرا يمدح "بني تيم" وذكر نعتهم "مصابيح الظلام"، وقال: فما ملك العراق على المعلى بمقتدر ولا الملك الشامي
واما "عامر بن جوين الطائي" الذي نزل امرؤ القيس عنده، فهو من "طيء" ثم من "بني جرم". وقد أقام امرؤ القيس عنده، حتى قبل عامر امرأة امرئ القيس، فأعلمته بذلك،فسار امرؤ القيس إلى "جارية بن مر الطائي" ثم "الثعلى" المعروف ب "أبي حنبل"، فلم يصادفه، وصادف ابنه. فقال له ابنه: "انا اجيرك من الناس كلهم إلا من أبي حنبل". فرضي بذلك وتحول إليه. فلما قدم ابو حنبل رأى كثرة أموال امرئ القيس وأعلمه ابنه بما شرط له في الجوار. فاستشار في اكله نساءه. فكلهن أشرن عليه بذلك. وقلن له: "انه لا ذمة له عندك ". ولكنه خالفهن بعد إن فكر في نفسه وفي سوء عاقبة الغدر ثم قرر الوفاء، فعقد له جوارا ثم ركب في اسرته حتى نزل منزل عامر ين جوين ومعه امرؤ القيس، فقال له: "قبل امرأته كما قبل امرأتك. اففعل".

(1/1668)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر اهل الأخبار إن "المنذر بن النعمان الأكبر"، ضغن على "عامر بن جوين الطائي"، لما أجار "امرأ القيس " ايام كان مقيما بالجبلين، وقال كلمته التي يقول فيها: هنالك لا أعطى مليكا ظلامة ولا سوقة حتى يؤوب ابن مندلة
فلما وفد عليه، وذلك بعد انقضاء ملك كنده ورجوع الملك إلى لخم، ودخل عليه، أنبه على فعلته وهدده بغزو قومه، وبانزاله العقوبة الصارمة بهم. فخرج "عامر" من عنده، بعد إن قال له: "إن البغي اباد عمرا، وصرع حجرا، وكان أعز منك سلطانا، واعظم شأنا، وان لقيتنا لم تلق انكاسا ولا أغساسا، فهبش وضائعك وصنائعك، و هلم إذا بدا لك، فنحن الألى قسطوا على الأملاك قبلك "، ثم اتى راحلته، وانشأ يقول ابياتا يتوعد فيها الملك.
ويشير اهل الأخبار إلى ملك من ملوك كنده، عرف ب "ابي جبر". قالوا عنه، انه كان ملكا شديد البأس، خرج إلى "كسرى" يستجيشه على قومه، فأعطاه جيشا من الأساورة، فلما بلغوا "كاظمة" ونظروا إلى بلاد العرب قالوا: اين يمضى بنا هذا الرجل، وعمدوا إلى سم، دفعوه إلى طباخه، فألقاه في احب الألوان إليه، فلما استقر في جوفه،مرض وتوجع، فجاء الأساورة إليه، طالبين منه إن يكتب لهم انه قد أذن لهم بالرجوع، فكتب لهم، فرجعوا وخف ما به، فخرج إلى "الطائف" إلى "الحارث بن كلدة الثقفي"، ليداويه فداواه وبرىء، ثم ارتحل يريد اليمن، فنكس ومات. وكانت له عمة اسمها "كبشة" فرثته.
هذه قصة "كنده"، وهذه حكاية شاعرها "امرئ القيس " الذي يعود إليه الفضل في حفظ الأخباريين لتأريخ كنده..
أما شعر امرئ القيس وديوانه وصحيحه و فاسده، فقد تحدث العلماء فيه، ولهم فيه كلام يخرجني التعرض له عن صلب هذا الموضوع. فعلى مقالاتهم المعول في هذه الأمور.

(1/1669)


--------------------------------------------------------------------------------

يتبين للقارئ بعد غربلة الأخبار المتقدمة، إن كنده كانت قد تمكنت من الهيمنة على القبائل النازلة في أواسط جزيرة العرب، ومن تكوين مملكة لها،بلغت أوج ملكها في القرن الخامس للميلاد. الا إن ملكها على عادة حكومات القبائل لم يدم طويلا، فسرعان ما أخذ بنيانه يتآكل ويتداعى، فأخذت اجزاؤه تتساقط، وعادت القبائل التي اضطرت بقانون القوة المتحكم في البادية إلى الانفصال عنها وإلى استعادة حريتها بذلك القانون ايضا. فخسرت كنده ملكها الذي شمل نجدا ووصل العراق، وبقي رؤساء منها يتحكمون في حضرموت، ثم أخذوا يتعاملون مع قبائل عربية جنوبية اخرى لتوسيع ملكهم لا سيما بعد تركهم نجدا ولجوئهم إلى حضرموت، ويقدر بعض الباحثين عدد من جاء الى حضرموت من كنده بحوالي ثلاثين الف رجل، نزل اكثرهم في "دمون".
السموأل
ولا بد من الاشارة باختصار إلى "السموأل " الذي مر اسمه في أثناء كلامنا على "امرى القيس"، وقصته هي في الواقع جزء من قصة هذا الشاعر، وذيل لها. وهو على ما يقوله لنا الأخباريون يهودي ثري، شاعر، مقره "الأبلق" ب "تيماء" يعرف ب "السموأل بن عاديا" و ب "السموأل بن غريض بن عاديا" "عادياء" اليهودي. وب "السموأل بن حيان "حسان" ابن عادياء" وب "السموأل بن عادياء بن حيا"، وب "السموأل بن حيا ابن عادياء بن رفاعة بن الحارث بن ثعلبة بن كعب"، وب "السموأل بن أوفى بن عادياء". ويظهر من بيتين من قصيدة للأعشى، هما: كن كالسموأل إذ سار الهمام له في جحفل كسواد الليل جرار
جار ابن حيا لمن نالته ذمته أوفى وأمنع من جار ابن عمار

(1/1670)


--------------------------------------------------------------------------------

أن المراد ب "ابن حيا" السموأل، اي إن اسم والد السموأل هو "حيا". واختلفوا في نسب "عاديا" "عادياء"، فقالوا: "عادياء بن حباء" وقالوا "عادياء بن رفاعة بن جفنة"،وقالوا: إنه من ولد "الكاهن بن هارون ابن عمران"، وقالوا عن قبيلته إنه كان من "بني غسان". ونسبه "دارم ابن عقال" إلى "رفاعة بن كعب بن عمرو مزيقيا بن عامر ماء السماء". وهو نسب أنكره " أبو الفرج الأصبهاني" حيث قال: "وهذا عندي محال، لأن الأعشى أدرك شريح بن السموأل، وأدرك الإسلام وعمرو مزيقيا قديم لا يجوز أن يكون بينه وبين السموأل ثلاثة آباء ولا عشرة إلا أكثر... وقد قيل إن أمه كانت من غسان ". ونسب السموأل إلى الأزد.
وللاعشى الشاعر الشهير شعر يرويه الرواة في مدح "الشريح بن السموأل".
وقد ورد فيه اسم ولدين للسموأل، هما: "حوط" و "منذر". ولم يذكر الأخباريون اسم الولد الذي زعم إن "الحارث بن أبي شمر" أو "الحارث بن ظالم" قتله لرفض "السموأل" دفع أدرع الكندي إليه، على نحو ما يذكره الرواة في قصة الوفاء. ونجد مضمون هذه القصة في قصيدة الأعشى الراثية الموجودة في ديوانه. وهي قصيدة تتألف من واحد وعشرين بيتا، يروي الرواة انه قالها مستجيرا ب "شريح بن السموأل" ليفكه من الأسر. وكان الأعشى على ما يقوله الرواة قد هجا رجلا من "كلب"، فظفر به الكلبي وأسره، وهو لا يعرفه، فنزل بشريح بن السموأل وأحسن ضيافته، ومر بالأسرى، فناداه الأعشى بهذه القصيدة، فجاء شريح إلى "الكلبي"، وتوسل إليه بأن يهبه، فوهبه اياه، فاطلقه، وقال له: أقم عندي حتى أكرمك وأحبوك، فقال له "الأعشى": "إن تمام احسانك إلي أن تعطيني ناقة ناجية، وتخليني الساعة، فأعطاه ناقة ناجية، فركبها ومضى من ساعته. وبلغ "الكلبي" إن الذي وهبه لشريح "الأعشى"، فأرسل إلى شريح ابعث إلي الأسير الذي وهبت لك حتى أحبوه، فقال: قد مضى، فأرسل الكلبي في أثره، فلم يلحقه".

(1/1671)


--------------------------------------------------------------------------------

وروى "ابن قتيبة" القصة المتقدمة على هذا النحو: "قال أبو ****ة: أسر رجل من كلب الأعشى فكتمه نفسه وحبسه، واجتمع عند "الكلبي" شرب فيهم "شريح بن عمرو الكلبي"، فعرف الأعشى. فقال للكلبي: من هذا ? فقال. خشاش التقطته. قال: ما ترجو به ولا فداء له ! خل عنه. فخلى عنه. فأطعمه شريح وسقاه. فلما أخذ منه الشراب سمعه يترنم بهجاء الكلبي،فأراد استرجاعه. فقال الأعشى: شريح لا تتركني بعد ما علقت حبالك اليوم بعد القد أظفاري
كن كالسموأل اذ طاف الهمام به في جحفل كهزيع الليل جرار
بالأبلق الفرد من تيماء منزله حصن حصين وجار غير غدار
فجعل الرجل المجير "شريح بن عمرو الكلبي"، أي من العشيرة التي اسر أحد رجالها الأعشى، ولم يجعله ابنا من أبناء السموأل.
وجاء نسب "شريح" في شرح "أبي العباس ثعلب" على ديوان الأعشى على هذا الشكل: "شريح بن حصن بن عمران بن السموأل بن حيا بن عاديا"، فصار "السموأل" جدا من أجداد "شريح" لا والدا له.
وقد اختلف الأخباريون في الرجل الذي طالب السموأل بتأدية سلاح "امرئ القيس " إليه، فزعم بعض أنه "الحارث بن أبي شمر الغساني". وزعم بعض آخر أنه "الحارث بن ظالم" في بعض غاراته بالأبلق، وزعم آخرون أنه "المنذر" ملك الحيرة،.وجه ب "الحارث بن ظالم" في خيل، وأمره بأخذ مال امرئ القيس من السموأل، وزعم انه "الأبرد" وهو الملك الغساني. وكان الحارث بن أبي شمس لما قتل المنذر بعين أباغ، وجه ابن عمه الأبرد، فجعله بين العراق والشام. فلما سمع الأبرد بهلاك امرئ القيس: طالب السموأل بدفع الدروع إليه، فامتنع، فذبح ابنه وهو يراه. ولم يصرح بعضهم باسم الملك الذي طالب بتأدية الدروع، انما ذكروا انه كان بعض ملوك الشام.

(1/1672)


--------------------------------------------------------------------------------

واذا تتبعنا الروايات الواردة في قصة وفاء السموأل، وذبح ابنه، وامتناعه عن تأدية الأمانة المودعة لديه، نجد أنها ترجع إلى موردين: قصة "دارم بن عقال" وشعر الأعشى. ويلاحظ أن في شعر الأعشى كثيرا من أخبار السموأل، ومن شعره أخذ الأخباريون "تيماء اليهودي"، وهذه ملاحظة تستحق الدرس. ويفهم منه أن الأعشى كان ممن يرتادون حصن السموأل. أما "دارم بن عقال"، فهو من ولد السموأل. وهو راوي خبر قصة الوفاء، والأشعار المنسوبة إلى امرئ القيس المتعلقة بهذا الموضوع. وقد أشار إلى ذلك مؤلف كتاب "الأغاني" في أثناء كلامه على قصيدة نسبت إلى "امرئ القيس "، ابتداؤها: طرقتك هند بعد طول تجنب وهنا ولم تك قبل ذلك تطرق
فقال: وهي قصيدة طويلة، وأظنها منحولة، لأنها لا تشاكل كلام امرئ القيس، والتوليد فيها بين، وما دونها في ديوانه أحد من الثقات، وأحسبها مما صنعه دارم، لأنه من ولد ال سموأل، ومما صنعه من روى عنه من ذلك فلم تكتب هنا 000". ولا أستبعد أن تكون هذه القصة، قصة الوفاء من صنع هؤلاء الصناع.
ويرى "ونكلر" "Winckler" إن قصة الوفاء هذه هي أسطورة استمدت مادتها من أسفار "صموئيل الأول" في التوراة، ومن الأساطير العربية القديمة نظمت على هذه الصورة فجعل بطلها شخصان هما: السموأل وامرؤ القيس. ولا بد لي وقد انتهيت من البحث عن امارة كنده،من الاشارة إلى "الأكيدر" صاحب "دومة الجندل"، فقد نسبه أهل الأخبار إلى "كندة". وقد ذكروا انه من السكون، والسكون هم من كنده. ومعنى هذا إن عائلة تنتمي إلى كنده كانت تحكم هذا الموضع المهم في البادية، لأنه ملتقى طرق قوافل وسوق معروف من أسواق الجاهلين.
كنده في العربية الجنوبية
وقفنا على أخبار كنده بنجد وفي العربية الشرقية إلى العراق. ثم رأينا ما حل بتلك الامارة وكيف تشتت شملها. ونريد الان أن نتحدث عن دور هذه القبيلة في العربية الجنوبية.

(1/1673)


--------------------------------------------------------------------------------

يرى بعض الباحثين إن الخصومات التي وقعت في امارة كنده، وتعقب ملوك الحيرة ولا سيما "المنذر" لساداتها، وانقضاض القبائل التي كانت تخضع لها عنها ثم سقوط امارة كنده، دفعت بعشائر كنده إلى الاتجاه نحو الجنوب نحو العربية الجنوبية، ولا سيما حضرموت، وهي موطنها القديم، فنزحت اليها واستوطنت بها. وكونت لها امارة كندية بحضرموت.
وهذا القول يجب ألا يفسر على إن مجيء كنده إلى العربية الجنوبية انما كان بعد سقوط حكومتهم وتشتت أمرهم، فقد أشرت فيما سلف في مواضع إلى وجود كنده في العربية الجنوبية قبل هذا العهد بزمن طويل، وأشرت إلى ورود اسمها في نصوص المسند والى الأدوار التي لعبتها في ايام ملوك سبأ وذو ريدان، قبل الإسلام بمئات السنين، بل ربما كان ذلك قبل الميلاد.
وقد رأينا فيما سلف ورود اسم "كنده" "كدت" في نص أمر بتدوينه الملك "معد يكرب يعفر ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت واعرابها في النجاد وفي المنخفضات ". وهو من النصوص التي عثر عليها في "وادي مأسل" "وادي ماسل" "مأسل الجمح".وقد دون ووضع قي موضع "مأسل الجمح" لمناسبة ارسال الحملة العسكرية إلى موضع "كتا" لمحارية "مذر" أي "المنذر" الذي أعلن الحرب على قبائل هذه الجهات. وقد اشتركت في هذه الحرب قبائل سبأ وحمير و "، رحبت" "رحبة" وحضرموت و "يمنت" اليمن". والأعراب و "كدت" أي "كنده" و "مذحج". واشترك مع المنذر "مذر" بنو ثعلبة "بن ثعلبت" و "شبيع ?". وقد أرخ النص بشهر "ذ قيضن" "ذو قيض" "ذو القيض" من سنة "631" من التقويم الحميري أي في صيف سنة 516 للميلاد.

(1/1674)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من هذا النص أن "المنذر" كان قد بلغ في حروبه مناطق بعيدة عن قاعدة ملكه، وانه هو الذي غزا القبائل القاطنة في وادي مأسل الجمح "ما سلم جمحن".ولعله كان يتعقب عشائر كنده ومن كان يؤازرها ويعادي ملك الحيرة، حتى بلغ هذا المكان الذي كان خطا أماميا من خطوط الدفاع لحكومة " سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت واعرابها في الأطواد والمنخفضات ". ولهذا السبب هب الملك "معد يكرب" لمساعدة "كندة" على نحو ما ورد في النص.
وقد ذكرت "كدت" كنده مع مراد ومذحج والقبائل الأخرى في الهجوم الذي قام به الملك "يوسف اسار" "يوسف أسأر" على الأحباش في مدينة "ظفار"، وعلى المدن الني كانت تناصرهم. وقد ورد تأريخ هذا الهجوم في نص سجله القيل "شرح ايل يقبل بن شرحب ايل يكمل" من "ال يزن" "آل يزن" "آل يزأن" بالاشتراك مع "جدن" "جدنم" و "حبم" "حب" و "نسأ" "نسان" "نسن" و "جبا" "جبأ" لهذه المناسبة.
ويتبين من هذا النص إن الملك "يوسف اسار" "يوسف أسأر" هاجم "ظفار" مقر الأحباش، واستولى على الكنيسة "قلسن" "القليس"، ثم سار بعد ذلك على "أشعرن" "الأشعر"، وعين القيل على رأس جيش، ثم سار إلى "مخون" "مخا" فقتل سكانها واستولى على كنيستها، وهدم جميع حصون "شمر" ومعاقلها والسهل. وعندئذ قام بهجوم ماحق على "أشعرن". وقد قتل في هذه المعارك عدد كبير من الناس، قتل ثلاثة عشر الف قتيل، وأخذ تسعة آلاف وخمسمئة اسير، واستولى على "280" الف من الإبل والبقر والمعز. وأخذت غنائم عديدة أخرى.

(1/1675)


--------------------------------------------------------------------------------

وأمر الملك بعد هذه المعارك القيل "شرح ايل يقبل" "شرح ال يقبل" بالالتحاق بالجيش الذي أرسل إلى نجران. وفي صعيد هذه المدينة اجتمع رؤساء "بني أزأن" "آل يزأن" "بن يزن" وقبائل همدان وكنده ومراد ومذحج واعرابها. فتغلبت جيوش الملك على هذه المدينة، وأنزلت بسكانها خسائر كبيرة في الأموال والأرواح، ووضعت الأغلال في ايدي الأسرى، وقتل من وجد هناك من الأحابيش. وكان مع الملك في جيشه من الرؤساء: "لحيعت برخم" و "سميفع أشوع" و "شرحب ايل أسعد". وقد دون هذا النص في شهر "ذ قيضن" "ذو الفيض" من شهور صيف سنة "633" من التقويم الحميري الموافقة لسنة "518" للميلاد.
وقد لعبت "كنده" "كدت" دورا خطيرا في الأوضاع السياسية والعسكرية في أيام استيلاء الحبش على العربية الجنوبية، كما يتبين ذلك من الفصل الخاص المتعلق بهذا الموضوع. وقد دخل رؤساؤها في الإسلام، فتبعهم أتباعهم، كما يرد ذلك في كتب التواريخ والسير.
ويذكو أهل السير والتواريخ، أن وفدا من وفود "كنده"، كان في جملة الوفود التي قدمت المدينة لمبايعة الرسول في السنة العاشرة من الهجرة. وكان قد رأسه "الأشعث بن قيس الكندي". " دخلوا على رسول الله مسجده، وقد رجلوا اجممهم، وتكحلوا، عليهم جبب الحيرة، قد كففوها بالحرير"، ثم قال الأشعث: "يا رسول الله ؛ نحن بنو آكل المرار، وأنت ابن آكل المرار"، يفتخر بجده "آكل المرار"، وب "أن كنده كانت ملوكا ".
وقد عرف جد "الأشعث بن قيس بن معد يكرب بن معاوية"، بمعاوية الاكرمين، وانما سمي معاوية الأكرمين لأنه ليس في آبائه إلا ملك أو رئيس. وكان كريم الطرفين وقد ذكره "الأعشى" في شعر له. وكان أحد ملوك كنده بحضرموت.

(1/1676)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان "مخوص" "مخوس" ومشرح وجمد وأبضعة بنو معد يكرب بن وليعة بن شرحبيل بن معاويه من سادات كنده عند ظهور الإسلام. وقد لقب كل واحد منهم نفسه بلقب "ملك". واختصر كل واحد منهم بواد ملكه. وقد نزلوا المحاجر، وهي أحماء حموها، وقد عرف هؤلاء بالملوك الأربعة من "بني عمرو ين معاوية"، وقد لعنهم النبي. وقتلوا في الردة.
ويرجع النسابون نسب كنده إلى جد أعلى قالوا له "عفير بن عدي" وهو والد "ثور". و "ثور" هو كنده.وولد "كنده" معاوية بن كنده وأشرس، وامهما هي رملة بنت اسد بن ربيعة بن نزار. ويمثل هذا النسب صلة كندة بقبائل معد، وارتباط تأريخها بها، وتملكها عليها قبل الإسلام بزمن. وهو تملك جعل "كنده" تفتخر به، حتى صارت تدعو نفسها: "كنده الملوك". ويذكر "الهمداني"، إن الشاعر "امرؤ القيس "، كان يفتخر ويقول: لا ينكر الناس منا يوم نملكهم كانوا ****ا وكنا نحن أربابا
وان "تبعا الآخر"، وهو "عمرو بن حسان "، عين حجرا آكل المرار على معد كلها، فالملك على "معد" لكنده. وان "كنده" كانت تقول: "لم تزل لها نزار ومن نزل الحيرة والشام من العرب طعمة ورعية ".
وقد نسب بعض النسابين "كنده" إلى كندة، وهو ثور بن مرح بن معاوية ابن كندي بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن عمرو بن عريب بن زيد بن كهلان. ونسبه بعض آخر إلى "كندة بن عفير بن الحارث"، إلى غير ذلك من آراء. وقد زعم بعض النسابين إن "الصدف" واسمه "مالك"، وهو جد "الصدف"، هو شقيق كنده.
ومن بطون كنده معاوية بن كنده،ومنه الملوك بنو الحارث بن معاوية الأصغرابن ثور بن مرتع بن معاوية، أسلاف الشاعر امرؤ القيس، وقد حكموا القبائل الأخرى من غير كنده، ومنها قبائل من عدنان.

(1/1677)

admin
12-27-2010, 01:45 AM
و "الأشرس بن مرتع"،هو أخو "كنده"، وهو ابو السكون والسكاسك ". ونسب السكاسك إلى "حميس السكسك بن أشرس بن ثور. وهو كنده بن عفير" ومن السكون "تجيب". وكان "أكيدر بن عبد الملك" صاحب دومة الجندل من السكون. وأخوه بشر بن عبد الملك. يذكرون أنه ذهب إلى الحيرة، وتعلم بها الخط، ثم رجع إلى مكة فتزوج الصهباء بنت حرب أخت أبي سفيان. ومنه تعلم أهل مكة الكتابة.
ويذكر أهل الأخبار أن كنده لما خرجت من "الغمر": غمر ذي كنده، نزلت بحضرموت وتآلفت مع الصدف تذكرت الأواصر والقرابات التي كانت تربطها ب "الصدف".فصارت تحارب معها، وجعل "الهمداني" أهل حضرموت من كنده والصدف وحمير.
فلسطين الثالثة
لقد ذهب "كوسان دى برسفال" "Caussan de Perceval" إلى أن "كيسوس" "Kaisus" "Caisus" المذكور عند "بروكو بيوس" و "نونوسوس" "Nonnosus" هو "امرؤ القيس".
ذكر "بروكو بيوس"، أن القيصر "يوسطنيا نوس" "Justinianus"، أرسل رسولا هو"يوليانوس" "J ulianus" إلى "Esimiphaaeus" "السميفع أشوع" ليطلب منه بحكم رابطة الدين والمصالح المشتركة تنصيب أحد أبناء الأشراف ورؤساء القبائل واسمه " K aisus" Caisus" على "معد" "Maddeni"، وأن يرسل قوة كبيرة من رجاله يشتركون مع ال "سرسين" وال " Maddenin" في غزو مملكة الفرس. وكان "كيسوس" هذا قد قتل أحد أقارب "Esimiphaaeus " والتجأ إلى البادية، ولم يقم أي منهما بالغزو، ولم يذكر "بروكوبيوس" شيئا آخر عن "كيسوس" هذا، أي "قيس". وقد كانت سفارة "يوليانوس" إلى الحميريين قبل موت "قباذ" اي قبل سنة "531م". وفي الخبر اشارة إلى شجاعة "قيس" وكفاءته وحزمه، لهذه الأسباب ولأسباب سياسية أخرى رغب القيصر في تعيينه رئيسا على معد.

(1/1678)

وذكر "نونوسوس" إن القيصر "يوسطنيانوس" كلفه الذهاب في سفارة إلى "K aisos" "قيس" حفيد "الحارث" "A retas" ورئيس قبيلتين عظيمتين من أعظم قبائل ال "سرسينوى" "Saracynoi" هما " K indyoi" كنده و "معد" "Maadynoi" لمواجهته ودعوته للذهاب الى الامبراطور إذا أمكنه ذلك. فذهب البه، ونفذ أوامر القيصر، وعاد إلى بلده سالما. وكان القيصر "أنسطاسيوس" "Anastasius" قد كلف جد "نونوسوس" أن يذهب إلى الحارث ليعقد عهدا معه، كما إن القيصر "يوسطينوس"، كلف أبا "نونوسوس" وهو "ابراهام" "ابراهيم" أن يذهب إلى "المنذر" "A lamoundaros" رئيس ال "سر سينوى" لمفاوضته في فك أسر قائدين كانا أسيرين لديه،هما "تيموستراتوس" و "يوحنا". ثم كلف مرة ثانية في عهد "يوسطنيانوس" "J ustinianus" سفارة اخرى لدى قيس، لعقد معاهدة معه. وقد تمكن من ذلك، وعاد ومعه أحد أبناء "قيس" واسمه "معاوية" "Mauias" ليكون رهينة في "بوزنطية" عند "يوسطنيانوس". وكلف "ابراهيم" مرة أخرى إن يذهب إلى "قيس" بمهمة سياسية اخرى، فذهب إليه وأقنعه بالقدوم إلى "بوزنطية"، فقسم ولايته على القبائل بين أخويه "يزيد" "Jezidos" و "Aumorus" "عمرو"، ونال من الانبراطور ولاية "فلسطين"، وجاء معه بعدد لا يحصى من مرؤوسيه.
وقد ذكر "ملخوس الفيلادلفي" "M alchus of Philadilphia" اسم عامل عربي سماه " Amorkesos" أي "امرؤ القيس". كان كما قال رئيسا على بطن من بطون الأعراب " S areceni" هو بطن " Nokalian" "Nokhalian". وذكر إن "بطرس " Peter "" أسقف أهل الوبر " Saraceni" ذهب في عام "473" للميلاد الى القسطنطينية ليطلب من القيصر ". ليون" "L eo" أن يمنح هذا الرئيس. درجة "عامل" "P hylarchus" "فيلارخ" على العرب المقيمين في العربية الحجرية.

(1/1679)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان هذا الرئيس يقيم مع قبيلته في الأصل كما ذكر "ملخوس" في الأرضين الخاضعة لنفوذ الفرس.، ثم ارتحل عنها ونزل في أرضين قريبة من حدود الفرس وأخذ يغزو منها، حدود الساسانيين، والقبائل العربية المقيمة في الأرضين الخاضعة للروم. فتمكن بذلك من بسط نفوذه وسلطانه على القبائل حتى بلغ ساحل البحر الأحمر، واستولى على جزيرة "ايوتابا" "I otabe"، و هي جزيرة مهمة كان الروم ينزلون فيها لجمع الضرائب من المراكب الذاهبة إلى المناطق الحارة أو الآيبة منها، فتصيب. الحكومة أرباحا عظيمة جدا. فلما استولى على تلك الجزيرة، صار يجبيها لنفسه، حتى صار غنيا جدا. كذلك حصل على ثروة عظيمة من الغنائم التي حصل عليها من غزوه للمواضع المجاورة لهذه الجزيرة والواقعة في العربية الحجرية وأعالي الحجاز.
وأراد "امرؤ القيس" "Amorkesos"، بعد إن بلغ من النفوذ مبلغه، الاتصال بالروم، والتحالف معهم، والاعتراف به عاملا رسميا على العرب الذين خضعوا له وعلى العرب المعترفين بسلطان الروم عليهم. ولذلك أرسل الأسقف "بطرس" أسقف قبيلته، ليكون رسوله إلى القيصر. وقد نجح هذا الأسقف في مهمته، وتوسط في دعوة "امرئ القيس" لزيارة القسطنطنية، فلما وصل اليها استقبل بها استقبالا لائقا ورحب به ترحيبا حارا، ولا سيما بعد أن أعلن دخوله في النصرانية، فأنعم عليه للقيصر بالهدايا والألطاف وعينه "عاملا" "Phylaechus" على تلك الجزيرة وعلى مواضع اخرى وعلى أعراب العربية الحجرية. ثم عاد مكرسا، بالرغم من أن معاهدة الصلح التي كانت بين الروم والفرس كانت قد حرمت دخول رؤساء الأعراب.وقبائلهم النازحين من مناطق أحد الطرفين في أرضين الطرف الثاني.

(1/1680)


--------------------------------------------------------------------------------

ويحتمل على رأي "الويس موسل" أن يكون هذا الشيخ قد هاجر من "الوديان" و "الحجيرة"، إلى "دومة الجندل" ومنها صار يغزو أعراب "العربية الحجرية"،والمناطق المجاورة لها من "فلسطين الثالثة" "Palestina Tertia" ويتوسع فيها حتى بلغ ساحل البحر، فتحكم في جزيرة " Iotabe" المهمة التي كانت محطة تجارية خطيرة للاتجار مع الهند، وفي الطريق البري المهم الذي يربط ديار الشام بالعربية الجنوبية، فحصل على سلطان واسع ونفوذ عظيم.
ولعل هذه الجزيرة هي جزيرة "Ainu" التي ذكرها "بطلميوس"، أخذ تسميته هذه من "حينو" "حاينو" "Hainu" الاسم الذي كانت تعرف به عند الأنباط. ويظن انها جزيرة "تاران" "تيران". وذكر "ياقوت" أن سكانها قوم يعرفون ب "بني جدان".
ويحدثنا "ثيوفانس" إن هذه الجزيرة كانت في عام "490" للميلاد في أيدي ألروم، استولى عليها حاكمهم "Dux" على فلسطين بعد قتال شديد. ويدل خبر هذا المؤرخ على إن الروم انتزعوا هذه الجزيرة من "امرئ القيس" أو من خلفائه بعد مدة ليست طويلة من استيلاء امرىء القيس عليها. ولعلهم استولوا عليها بعد وفاة هذا العامل على أثر نزاع وقع بين أولاده وورثته أضعف مركز الإمارة، فانتهز الروم هذه الفرصة وانتزعوا ما تمكنوا من انتزاعه من أملاك هذا الرئيس.
ويظن إن "NokaLIAN" هو "النخيلة". و "النخيلة" موضع معروف قرب الكوفة على سمت الشام، وهو موضع ينطبق عليه ما ذكره "ملخوس" من انه كان في أرض كانت تحت نفوذ الفرس.

(1/1681)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان يحكم هذه المنطقة في ايام "يوسطنيانوس" " Justinianus" "Joustinianus" رئيس يدعى "أبو كرب" "Abochorabus"، وكانت له واحة خصبة مزروعة بالنخيل، وهبها إلى القيصر. فقبلها منه، وعينه رئيسا " Phylarchus" على أعراب " Saracens" فلسطين. فحمى له الحدود من غزو الأعراب،ومنع اعتداء القبائل في الداخل. وذكر "بروكوبيوس" إن هناك أعرابا آخرين كانوا يجاورون أعراب هذا الرئيس، يدعون ب " Maddeni" أي "معد"، يحكمهم " Homeritae" أي الحميريون. ويظهر من كلام هذا المؤرخ إن قبائل معد كانت في أيامه تابعة لحمير. ومعنى هذا إن نفوذهم كان قد امتد في هذا العهد حتى بلغ أعالي الحجاز. وفي كلامه هذا تأييد لروايات الأخباريين الذين يتحدثون عن بلوغ التبابعة هذه الأماكن، وعن حروب وقعت بين العدنانيين والقحطانيين. وليس في الذي أورده "بروكوبيوس" أو "نونوسوس"، ما يثبت إن "قيسا" هو "امرؤ القيس". ومجرد تشابه الاسمين لا يمكن أن يكون حجة على انهما لمسمى واحد. ثم إن ما ذكره "نونوسوس" من إن "قيسا" كان رئيسا على قبيلتي "كنده" و "معد" لا يكون دليلا على انه كان حتما من "كنده" أو انه كان حتما "امرأ القيس" الشاعر الذي يعرفه الأخباريون. لذا فنحن لا نستطيع الجزم في الوقت الحاضر بتعيين هوية هذا الرئيس.
الفصل الاربعون
مملكة الغساسنة
وحكم عرب بلاد الشام في دولة البيزنطيين، عرب عرفوا ب "آل غسان"، وب "آل جفنة" وب "الغساسنة". وقد استمر ملكهم إلى الإسلام. فلما فتح المسلمون بلاد الشام،زالت حكومتهم، وذهب سلطانهم كما ذهب ملك "آل لخم" منافسوهم في العراق.

(1/1682)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد نقلت كلمة "غسان" في زعم الأخبارين من اسم ماء يقال له "غسان"، ببلاد "عك" بزبيد وربيع، نزل عليه ال غسان، وأصلهم من الأزد، بعد خروجهم من اليمن قبيل حادث سيل العرم أو بعده، فلما أقاموا عليه وشربوا منه،أخذوا اسمهم منه،فسموا "غسان"، وعرف نسلهم بالغساسنة وب "آل غسان". ولم يحدد أهل الأخبار زمان حدوث سيل العرم، وتهدم السد. لذلك لا نستطيع ان نستنبط شيئا من رواياتهم عن هذا الحادث في تحديد وقت وصول الغساسنة إلى بلاد الشام. وحادث تصدع السد لم يكن حادثا واحدا، حتى نعتبره مبدأ لتأريخ هجرة الازد وغيرهم من قبائل اليمن فى الشمال. فقد تصدع السد مرارا ورم مرارا. والذي يفهم من أقوال الأخباريين أن هذا التصدع كان قد وقع قبل الإسلام بزمن، وقد بقيت ذكراه عالقة في الذاكرة إلى أيام الإسلام.
وأما سبب تسميتهم بآل جفنة وبأولاد جفنة، فلانتسابهم الى جد أعلى يدعونه "جفنة بن عمرو مزيقياء ين عامر" على رأي، أو إلى "جفنة"قبيلة من غسان من اليمن. ويذكر "ابن دريد" إن "جفنة" إما من "الجفنة" المعروفة، أو من "الجفن"، وهو "الكرم"، وجفن السيف وجفن الإنسان. ويذكر إن المثل المشهور بين الناس: "وعند جهينة الخبر اليقين"، هو خطأ تقوله العامة، وان صوابه: "وعند جفينة الخر اليقين ".
ولم نظفر حتى الان باسم غسان في نصوص المسند، كذلك لم نظفر به في الأرضين التي عدها الأخباريون في جملة ممتلكات هذه القبيلة.
ويزعم الأخياريون إن الذي قاد الغساسنة في خروجهم من اليمن، هو عمرو المعروف ب "مزيقيا"، وهو ابن عامر ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث. ولهم في نسبه على هذا النحو من ذكر الآباء والأجداد والألقاب.أقوال وحكايات.

(1/1683)


--------------------------------------------------------------------------------

وروى "ابن قتيبة الدينوري" إن "عمرو بن عامر مزيقياء" لما خرج من اليمن في ولده وقرابته ومن تبعه من ألأزد، أتوا بلاد عك، وملكهم "سملقة" "سلمقة"، وسألوهم أن يأذنوا لهم في المقام حتى يبعثوا من يرتاد لهم المنازل ويرجعوا اليهم، فأذنوا لهم. فوجه عمرو بن عامر ثلاثة من ولده: الحارث بن عمرو، ومالك بن عمرو، وحارثة بن عمرو، ووجه غيرهم روادا فمات عمرو إبن عامر بأرض عك قبل أن يرجع إليه ولده ورواده، واستخلف ابنه ثعلبة بن عمرو،وان رجلا من الأزد يقال له جذع بن سنان احتال في قتل سلمقة "سملقة"، ووقعت الحرب بينهم، فقتلت عك أبرح قتل وخرجوا هاربين فعظم ذلك على ثعلبة بن عمرو، فحلف أن لا يقيم، فسار ومن اتبعه حتى انتهوا إلى مكة وأهلها يومئذ جرهم، وهم ولاة البيت، فنزلوا بطن مر وسألوهم أن يأذنوا لهم في المقام معهم، فقاتلتهم جرهم، فنصرت الأزد عليهم، فأجلوهم عن مكة، ووليت خزاعة البيت، فلم يزالوا ولاته حتى صار "قصي" إلى مكة، فحارب خزاعة بمن تبعه، وأعانه قيصر عليها، وصارت ولاية البيت له ولولده، فجمع قريشا، وكانت في الأطراف والجوانب، فسمي مجمعا، وأقامت الأزد زمانا. فلما رأوا ضيق العيش شخصوا، فصار بعضهم إلى السواد، فملكوا بها. منهم "جذيمة بن مالك بن الأبرش" ومن تبعه. وصار قوم إلى عمان،وصار قوم إلى الشام، فهم "آل جفنة" ملوك الشام. وصار جدع بن سنان قاتل سلمقة إلى الشام أيضا، وبها سليح، فكتب ملك سليح. إلى قيصر يستأذنه في انزالهم، فأذن له على شروط شرطها لهم، وأن عامل قيصر قدم عليهم ليجيبهم فطالبهم وفيهم جذع، فقال له جذع خذ هذا السيف رهنا أن نعطيك. فقال له العامل: اجعله في كذا وكذا من أمك، فاستل جدع السيف فضرب به عنقه. فقال بعض القوم: خذ من جذع ما أعطاك، فذهبت مثلا".

(1/1684)


--------------------------------------------------------------------------------

فمضى كاتب العامل إلى قيصر فأعلمه، فوجه اليهم ألف رجل وجمع له جذع من الأزد من أطاعه، فقاتلوهم فهزموا الروم، واخذوا سلاحهم، وتقووا بذلك، ثم انتقلوا الى يثرب وأقام بنو جفنة بالشام وتنصروا. ولما صار جذع إلى يثرب وبها اليهود، حالفوهم، وأقاموا بينهم على شروط فلما نقضت اليهود الشروط، أتوا تبعا الآخر، فشكوا إليه ذلك، فسار نحو اليهود حتى قتل منهم وأذلهم وصار الأمر في يثرب للازد.
وللاخباريين تفاسير في سبب تلقيب عمرو بن عامر بمزيقياء. وقد ذكر "حمزة" بعض الآراء الواردة في ذلك، فقال: "وتزعم الأزد أن عمرا انما سمي مزيقياء لأنه كان يمزق كل يوم من سني ملكه حلتين لئلا يلبسهما غيره، فسمي هو مزيقياء. وسمي ولده المزاقية. فهذا قول وقيل: إنما سمي مزيقيا، لأن الأزد تمزقت على عهده كل ممزق عند هربهم من سيل العرم، فأتخذت العرب افتراق الأزد عن أرض سبأ بسيل العرم، فقالوا: ذهبت بنو فلان أيادي سبأ". ومال "نولدكه" إلى هذا التفسير الأخير، فرأى أنه مأخوذ من الآية. )فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق، إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور(.
ويظهر أن الغساسنة اخترعوا أسطورة تمزيق الثياب، للاشارة إلى غنى جدهم "عمرو" واقتداره. وأما ما ذهب إليه "نولدكه"، فهو في نظري نوع من الظن، استخرجه من هذا التفسير الثاني الذي رواه الأخباريون في تفسير الكلمة الخاص بتفرق الأزد عن أرض سبأ لحدوث السيل.
وقد زعم أنه نزح معهم من اليمن قومهم من الأزد.، فنزل المدينة رهط " ثعلبة العنقاء بن عمرو بن عامر ومنهم الأوس والخزرج،ونزل مكة رهط حارثة ابن عمرو بن عامر،وهم خزاعة،ونزل جفنة بن عمرو بن عامر بالشام،وهم الغساسنة ونزل لخم في العراق ومنهم المناذرة أو آل نصر". فوصل اهل الأخبار بذلك تأريخ خزاعة والأوس والخزرج وآل لخم بآل غسان. وجعلوا ابتداء ظهورهم في أماكنهم منذ ذلك العهد، أي منذ وقوع حادث "سيل العرم".

(1/1685)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد روى الأخباريون في ذلك شعرا لنفر من الأنصار، ورد فيه انتساب أهل يثرب إلى "عمرو بن عامر"، واتصال نسبهم بنسب غسان. من ذلك شعر للشاعر الأنصاري المعروف "حسان بن ثابت"، يقول فيه: ألم ترنا أولاد عمرو بن عامر لنا شرف يعلو على كل مرتقى
ومن ذلك شعر زعم ان قائله أحد الأنصار هو: أنا ابن مزيقيا عمرو،وجدي أبوه عامر ماء السماء
فالأنصار، أي أهل يثرب، وهم من الأوس والخزرج، هم من الدوحة التي أخرجت الغساسنة، وقد ظهر تأريخهم في يثرب بعد حادث سيل العرم على نحو ما رأيت.

(1/1686)


--------------------------------------------------------------------------------

وافتخار أهل يثرب بآل جفنة يزيد كثيرا على افتخارهم بآل لخم،مع انهم على حد قولهم من أصل واحد، وقد افترقوا جميعا في وقت واحد، وهم في درجة واحدة من القرابة. ونجد لحسان بن ثابت شعرا في الغساسنة، هو أضعاف ما قاله في المناذرة. ويظهر إن لقرب الغساسنة من يثرب، وللمصالح الاقتصادية، وللهبات والعطايا التي كان ينالها حسان وأمثاله من الغساسنة بيسر وسهولة، لقربهم منهم، أثر كبير في هذا المدح والتعصب لغسان على ال لخم.. وأما عن نعت عامر بماء السماء، فقال حمزة: "انه انما سمي ماء السماء لأنه أصابت الأزد مخمصة، فمانهم حتى مطروا، فقالوا -: عامر لنا بدل ماء السماء". وقد عرف أشخاص آخرون ب "ماء السماء" من غير غسان، منهم "المنذر بن امرئ القيس اللخمي" و "ماء السماء بن عروة" من ملوك "الحيرة" على زعم "ابن الكلبي". وقد نعت "حسان بن ثابت" الغساسنة الذين جاءوا من بعده ب "أولاد ماء المزن". و "المزن=المطر". يريد بذلك "أولاد ماء السماء"، أي: "بني ماء السماء"، وماء السماء هو المطر،وذلك كناية عن الجود والكرم والإغاثة. والمطر هو غوث للناس ورحمة والجود هو غوث لمن يجاد عليه، فهو بمنزلة المطر للأرضين فقصد الشاعر بذلك إن "ال غسان"، للناس بمنزلة المطر للأرض. وقد يكون جد الغساسنة قد عرف بكرمه وسخائه، فنعت بهذا النعت الدال على السخاء والجود. ولا أستبعد أن تكون هذه النعوت من النعوت التي أطلقها الشعراء على المذكورين، فلازمتهم حتى اليوم.
ونسب آل غسان إلى جد آخر، يعرف ب "ثعلبة". وقد أشير إلى "عرب الروم من آل ثعلبة". وقد ذكر "محمد بن حبيب"، أن رئيس غسان الذي قضى على "الضجاعمة"، وانتزع الملك من "سليح"، هو "ثعلبة" ابن عمرو بن المجالد بن عمرو بن عدي بن مازن بن الأزد. ومن نسله كان ملوك غسان، فهو اذن "ثعلبة" المذكور.

(1/1687)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من روايات الأخباريين أن الغساسنة اخذوا الحكم بالقوة من أيدي عرب كانوا يحكمون هذه المنطقة قبلهم، ويدعون ب "الضجاعمة"، وهم من "سليح ابن حلوان".
وبنو سليح، هم عرب ينسبهم النسابون إلى "سليح بن حلوان بن عمران ابن الحاف بن قضاعة". وقد نسبهم"ابن دريد" إلى "سليح بن عمران ابن الحاف"، وجعل ل "سليح" شقيقا هو "تزيد" جد "التزيديين". ونسبهم "السكري" إلى "سليح بن عمرو بن الحاف ين قضاعة". ولكن اختلاف النسابين هذا في نسبهم، يقف عند نهاية سلاسل النسب، إذ تنتهي هذه النهاية في "قضاعة" حيث يتفق الكل أن "سليحا"، هم من قضاعة. أما صاحب كتاب المعارف، فقد جعل سليحا من غسان، إلا أنه عاد فاستدرك على ذلك بقوله: "ويقال من قضاعة ".
وقد ذكر أهل الأخبار إن "بني سليح" بقوا في بلاد الشام، اذ ذكروهم في أخبار الفتوح، وكانوا في جملة من أقام على النصرانية من عرب الشام. وقد أسلم قسم منهم، وكانوا في "قنسرين" في ايام المهدي.
ومن ملوك سليح الذين ذكرهم الأخباريون زياد ين الهبولة ملك الشام، جعلوه من معاصري حجر بن معاوية ين الحارث الكندي اكل المرار، وذكروا انه سمع بغارة قام بها حجر على البحرين، فسار إلى أهل حجر ومن تركهم،فأخذ الحريم والأموال وسبى هند بنت ظالم بن وهب بن الحرث بن معاوية. فلما سمع حجر وكنده وربيعة بغارة زياد، عادوا عن غزوهم في طلب ابن هبولة، ومع حجر أشراف ربيعة: عوف بن محلم بن ذهل بن شيبان، وعمرو ين أبي ربيعة ابن ذهل بن شيبان وغيرهما. فأدركوا قوم زياد ب "البردان" دون عين أباغ، فحمل أتباع حجر على أتباع "ابن الهبولة"، فانهزموا، ووقع زياد اسيرا ثم قتل.

(1/1688)


--------------------------------------------------------------------------------

وتذكر رواية إن "حجرا" أرسل "سدوس ين شيبان" و "صليع بن عبد غنم" إلى عسكر "زياد" يتجسسان له. الخبر، ويعلمان علم العسكر،ثم عادا فأخبراه بخبره، فسار على جيش ابن الهبولة، واقتتلوا قتالا عنيفا،فشد "سدوس" على زياد واعتنقه وصرعه، وأخذه أسيرا، فلما رآه "عمرو بن أبي ربيعة" حسده فطعن زيادا فقتله، فغضب سدوس لأنه قتل أسيره، وطالب بديته، دية الملوك، فتحاكما إلى حجر، فحكم على عمرو وقومه لسدوس بدية ملك، وأعانهم من ماله.
ويقتضي على هذه الرواية إن يكون ملك "زياد بن الهبولة" في وقت متأخر
اذ لا ينسجم هذا القول مع ما يذكره أهل الأخبار من إن ملك "بني سليح" كان قبل الغساسنة. ولو أخذنا بالخبر المتقدم، وجب علينا القول بأن زيادا كان يحكم في ايام الغساسنة لاقبل ذلك.
وقد ذكر "ابن الأثير" أن "زياد بن هبولة" لم يكن ملكا على الشام، لأن ملوك سليح كانوا بأطراف الشام مما يلي البر من فلسطين إلى قنسرين والبلاد للروم، ولم تكن سليح ولا غسان مستقلين بملك الشام ولا بشبر واحد، وزياد ابن هبولة السليخي من أقدم من حجر آكل المرار بزمان طويل. ولم يكن زياد آخر ملوك سليح. ثم خلص من قوله برأي توفيقي، بأن افترض إن زياد بن هبولة المعاصر لحجر كان رئيسا على قوم او متغلبا على بعض أطراف الشام، فهو غير ذلك الملك المذكور.
وقد تحدث "أبو ****ة" عن ذلك اليوم،ولم يذكر إن ابن هبولة من سليح، بل قال: هو غالب بن هبولة ملك من ملوك غسان.

(1/1689)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد تحدثت بعض الروايات عن "زياد بن هبولة" على هذا النحو: "منهم داوود اللثق بن هبالة بن عمرو بن عوف بن ضجعم. كان ملكا، ومنهم زياد ابن هبالة بن عمرو بن عوف بن ضجعم. كان ملكا. وهو الذي أغار على حجر آكل المرار. وهو محرق، وكان أول من حرق بالنار ". فجعلت والد زياد رجلا اسمه "هبالة"، وجعلت "داوود اللثق" شقيقا له. اما الروايات الشائعة، فتجعل "داوود اللثق" ابنا ل "هبالة" اي انه أخو "هبولة ابن عمرو بن عوف"،فهبولة على هذا وهبالة أخوان، وزياد و داوود ابنا عم. وأما ملوك "سليح" على رواية "0 أبن قتيبة الدينوري"، فهم: "النعمان ابن عمرو بن مالك"، وقد عينه ملك الروم على قومه - على حد قوله - بعد إن دانوا بالنصرانية، ثم مالك وهو ابنه، ثم "عمرو"، وهو ابن مالك. قال: ولم يملك منهم غير هؤلاء الثلاثة. اذ انتقل الملك فيما بعد "عمرو" إلى الغساسنة.
ونسب الأخباريون "الضجاعمة" إلى "بني ضجعم بن حماطة بن سعد بن سليح بن عمرو بن الحاف بن قضاعة". فهم على هذا النسب، ومن "بني سليح" ومن قبائل قضاعه، وقد حكموا بعد حكم "بني سليح".
ونسب بعض الأخباربين "ضجعم" الى "سعد بن سليح"، أي باسقاط اسم "حماطة" من النسب، بأن جعلوا "سعد بن سليح" والدا لضجعم. وقد ذ كروا إن منهم "داوود اللثق بن هبولة بن عمرو" وهو شقيق "زياد بن هبولة" المذكور. وذكر بعض منهم إن "داوود بن هبولة" هو شقيق "هبالة بن عمرو ابن عوف بن ضجعم".
ويظهر إن "داوود اللثق" كان قد اعتق النصرانية، و كان قد عمل للروم. واليه ينسب "دير داوود" "دير الداوود".

(1/1690)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من بعض الروايات إن "زياد بن هبولة" الذي حارب "حجرا آكل المرار"، كان أخا ل "داوود". ويظهر من روايات أخرى انه كان ابن عم له. واذا اخذنا برواية من زعم إن "زيادا" هذا حارب "حجرا آكل المرار"، فمعنى هذا إن "جفنة"، وهو مؤسس إمارة ا ل جفنة، أي الغساسنة، قد حكم بعد "زياد". وقد زعم "حمزة" إن ملكا من ملوك الروم اسمه "نسطورس" هو الذي ملك جفنة على عرب الشام. وذهب بعض أهل الأخبار إلى إن القيصر الذي عين "جفنة" على عرب بلاد الشام هو "أنسطاسيوس" "A nastasius" الأول، الذي حكم من سنة "491" حتى سنة "518" للميلاد. فتكون نهاية حكم الضجاعمة وبداية حكومة "ال جفنة" في هذا العهد.
و "ضجعم" هو "Zocomus" أحد "العمال" "P hyiarch" الذين نصبهم الروم على عرب بلاد الشام، حر ف اسمه فصار على الشكل المذكور. وقد حكم في أواخر القرن الرابع للميلاد. وقد ذكره "ثيوفلكتوس" "T heophylactus" على هذه الصورة: "Zeokomos" "وذكر انه هو وقبيلته دخلوا في النصرانية وان الله وهبه ولدا بفضل دعاء النساك النصارى.
وقد كان الضجاعم من القبائل العربية المعروفة عند ظهور الإسلام. وقد كانوا مثل سائر القبائل المستعربة المستنصرة ضد الإسلام، وقد وقفوا مع "دومة الجندل" في عنادهم ومقاومتهم لخالد بن الوليد،و كان رئيسهم اذ ذاك هو "ابن الحدرجان". لقد أشار المؤرخون اليونان والسريان إلى ملكة عربية دعوها "ماوية" "M avia" "Mawiya" "Mauia"، حكمت القبائل العربية الضاربة في بلاد الشام،وهاجمت فلسطين و "فينيقية"، ويظهر إن هذا الهجوم كان قد حدث بعد ترك القيصر "والنس" "V alens" "4 36 - 378م" انطاكية وذلك سنة "378 م". وقد حاربت الروم مرارأ، وانتصرت غير مرة، ثم تصالحت معهم. وكان من جملة ما اشترطته عليهم أن يسقف على عربها راهب يدعى موسى كان يتعبد في بادية الشام.، فوافق القيصر على ذلك، وكان هذا الراهب كاثوليكيا معارضا لمذهب أريوس.

(1/1691)


--------------------------------------------------------------------------------

ويذكر المؤرخون أن غارات تلك الملكة على حدود الروم، كانت عنيفة كاسحة، أنزلت الدمار والخراب بقرى وبمدن عديدة، والحقت خسائر فادحة بالأرواح والمال. وقد شملت تلك الغارات أرض فلسطين و "الحدود العربية" "A rabici Limites". وتذكر أن عربها كانوا من ال "سارسين" "سرسين" "Saracene".
وقد وليت "ماوية" الحكم بعد وفاة زوجها، ويظهر أن نزاعا وقع بينها وبين الروم أدى إلى توتر العلاقات بينهما، آل إلى هجوم الملكة على حدود الروم. ولما عجز الروم من الانتصار عليها، استعانوا ببعض سادات القبائل للتغلب عليها، ولما وجدوا إن القبائل لم تفعل شي، اضطروا على التفاوض معها، وعلى ترضيتها على نحو ما ذكرت.
وقد قام موسى "Moses" بنشاط كبير في نشر النصرانية بين العرب. وقد كان من مصلحة الروم تنصر الأعراب، لأن في تنصرهم تأييدا لهم، حتى وان خالف مذهبهم مذهب الروم.
وقد حكم قبل "ماوية" "عامل" عربي أشار إليه المؤرخ " أميانوس" "Ammianis"، غير أنه لم يذكر اسمه، قال إنه "Assanitarum" وإنه من "السرسين"، " Phylarchus Saracenorum Assanitarum"، و قد حكم في أيام "يوليان" "جوليان" "J ulian" "1 36 - 363 م". ويظن البعض أن مراد المؤرخ ب "اسانيته" "Assanitae" الغساسنة، أي إن الكلمة من أصل "غسان".
غير أن هذا الظن معناه أن حكم الملكة "ماوية"، كان في أيام الغساسنة، و أنها ازعجت الروم في وقت كان فيه "آل جفنة" على عرب بلاد الشام. وهذا ما لا تؤيده الموارد التاريخية المتوفرة لدينا الان. لذلك أرى إن حكم "ملوية" كان قبل تولي "الغساسنة" الحكم رسميا من الروم، أو إن الملكة كانت تحكم في الأقسام الجنوبية من بادية الشام، ومنها أخذت تهاجم حدود الروم المؤلفة لكورة فلسطين، وتتوغل بها حتى بلغت "فينيقية" و "مصر"، ولم يكن حكم الغساسنة متمكنا إذ ذاك، فاستغلت هذا الضعف، وأخذت تهاجم الحدود.

(1/1692)


--------------------------------------------------------------------------------

وزعم المسعودي أن ملك العرب بالشام يعود إلى أيام "فالغ بن هور" "فالغ ابن يغور". وقد صيره من صميم أهل اليمن، ملك ثم ترك الحكم إلى "يوتاب" "سومات"، وهو "أيوب بن رزاح". ثم انتقل ملك الشام على رأيه أيضا إلى الروم. وكانت قضاعة من مالك بن حمير أول من نزل الشام، وانضافوا إلى ملوك الروم،فملكوهم بعد أن دخلوا في النصرانية على من حوى الشام من العرب. وكان النعمان بن عمرو بن مالك أول من تولى من تنوخ بالشام. ثم ملك بعده عمرو، ثم "الحواري بن النعمان". تم انتقل الملك إلى سليح. وانتقل الملك منهم الى آل غسان.
وقد كانت سليح - كما يذكر الأخباريون - يجبون من نزل بساحتهم من مضر وغيرها للروم. فأقبلت غسان في جمع عظيم يريدون الشام حتى نزلوا بهم، فقالت سليح لهم:إن أقررتم بالخرج،وإلا قاتلناكم. فأبوا عليهم، فقاتلهم سليح، فهزموا غسان. ورئيس غسان يومئذ ! ثعلبة بن عمرو بن المجالد بن عمرو بن عدي بن مازن بن الأزد. فرضيت غسان بأداء الخرج اليهم. فكانوا يجبونهم لكل رأس دينارا،ودينارا ونصفا،ودينارين في كل سنة على أقدارهم فلبثوا يجبونهم.حتى قتل "جذع بن عمرو الغساني" جابي سليح،وهو سبيط بن المنذر بن عمرو ابن عوف بن ضجعم بن حماطة. فتنادت سليح بشعارها وتنادت غسان بشعارها. فالتقوا بموضع يقال له "المحفف"، فأبارتهم غسان. وخاف ملك الروم أن يميلوا مع فارس عليه، فأرسل إلى ثعلبة، فقال: أنتم قوم لكم بأس شديد وعدد كثير. وقد قتلتم هذا الحي، وكانوا أشد حي في العرب وأكثرهم عدة وإني جاعلكم مكانهم، وكاتب بيني وبينكم كتابا: إن دهمك دهم من العرب أمددتكم بأربعين الف مقاتل من الروم بأداتهم، وان دهمنا دهم من العرب فعليكم عشرون الف مقاتل على أن لا تدخلوا بيننا وبين فارس. فقبل ذلك ثعلبة،وكتب الكتاب بينهم. فملك ثعلبة وتوجه. وكان ملك الروم يقال له "ديقيوس".

(1/1693)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد تحدث الأخباريون وأصحاب كتب الأمثال عن هذا الحادث في معرض كلامهم عن المثل: "خذ من جذع ما أعطاك". وقد اتفقوا كلهم في اسم القائل، وهو منصوص عليه في المثل، ولكنهم اختلفوا في اسم المقتول، فقال بعضهم انه سبيط، وقال آخرون: انه سبطة، ويقول بعض آخر: انه كان رجلا من الروم.
وقد زعم بعض أهل الأخيار،إن اليوم الذي انتصر فيه الغساسنة على الضجاعمة هو "يوم حليمة". وذلك أن الحرب لما ثارث بين الضجاعمة والغساسنة للسبب الذي ذكرته وقالوا " خذ من جذع ما أعطاك"، كان لرئيس غسان ابنة جميلة يقال لها "حليمة". فأعطاها خلوقا لتخلق به قومها، وانتصر الغساسنة بذلك اليوم على الغساسنة. فقالوا: "ما يوم حليمة بسر".
ونسب ابن خلدون "سبطة" القتيل إلى المنذر بن داود، ويظهر انه قصد "داوود اللثق". والى داوود ينسب دير داوود، وذلاك يدل على انه كان نصرانيا. كما أشرت إلى ذلك قبل قليل.
وعندي أن "سبطة"Aspehetos" "Aspehbet" "Aspatylatos" الذي قيل إنه.كان عاملا "فيلارك" "Phylarch " عربيا من عمال الفرس. فأغار على "الكورة العربية" "Arabia Provincia"، وذلك في أواسط القرن الخامس للميلاد، وأعلن نفسه عاملا على الأرضين التي استولى عليها، واعترف به وبأبنائه عمالا عليها.
وزعم المؤرخ حمزة أن أول ملك ملك من غسان هو جفنة بن عمرو مزيقيا بن عامر ماء السماء بن حارثة الغطربف بن امرئ القيس البطريق بن ثعلبة بن مازن ابن الأزد بن الغوث. وقد زعم انه ملك في أيام نسطورس، وهو الذي ملكه على عرب الشام. فلما ملك، قتل قضاعة من سليح.الذين يدعون الضجاعمة، ودانت له قضاعة ومن بالشام من الروم، وبني جلق والقرية وعدة مصانع، ثم هلك. وكان ملكه خمسا واربعين سنة وثلاثة أشهر.

(1/1694)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ابتدأ "حسان بن ثابت" بجفنة هذا في قصيدته الني افتخر فيها بنسبه. وبجفنة هذا سمي ملوك الغساسنة "1ل جفنة"، كما سمي خصومهم "المناذرة" ب "آل لخم". والى هذا الرأي ذهب "الأصمعي"، حيث قاله: "وجفنة أول ملك ملك من غسان، واليه تنسب ملوك غسإن الني ذكرها حسان بن ثابت الأنصاري في شعره. وقد "نسب الأصمعي له وصية زعم أنه أوصى بها بنيه في كيفية السير بالناس، وتسيير الملك.
وعند المسعودي إن اول من ملك من بني غسان بالشام الحارث بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن غسان بن الأزد بن الغوث، ومن بعده الحارث بن ثعلبة بن جفنة بن عمرو بن عامر بن حارثة،وهو ابن مارية ذات القرطين. أما ابن قتيبة، فذهب الى إن أول من ملك منهم هو الحارث ابن عمرو المعروف ب "محرق". وسمي بمحرق لأنه أول من حرق العرب في ديارها، وهو الحارث الأكبر ويكنى بأبي شمر.
وقد ذكر ابن دريد إن الحارث بن عمرو بن عامر، "هو محرق، وهو أول من عذب بالنار". فأيد بذلك رواية من يرى انه أول من عذب وحرق الناس بالنار.
وذهب "محمد بن حبيب" إلى أن أول من ملك من الغساسنة بالشام هو "ثعلبة بن عمرو بن المجالد بن عمرو بن عدي بن عمرو بن مازن بن الأزد"، وذلك بعد فتك "جذع" بالضجاعمة فعهد إليه ملك الروم "ديقيوس" أمر تولي رئاسة عرب بلاد الشام، وملكهه وتوجه، فصار بذلك أول ملك من ملوك غسان، على نحو ما ذكرته قبل قليل.

(1/1695)

admin
12-27-2010, 01:47 AM
و "جفنة" الذي صيره حمزة أول من ملك من غسان، هو "جفنة بن عمرو، وهو مزيقيا بن عامر ماء السماء". وقد نجل عمرو بن عامر على رواية ابن خلدون، جملة أولاد، منهم: جفنة، والحارث وهو محرق، وثعلبة وهو العنقاء "العنقاه"، وحارثة، وأبو حارثة، ومالك، وكعب، ووادعة، وعوف، وذهل، وواكل. فيكون جفنة على هذه الرواية أخا للحارث بن عمرو الذي عده المسعودي وابن قتيبة أول من تملك من الغساسنة في ديار الشام. وتولى الحكم بعد جفنة على رواية حمزة ابنه عمرو بن جفنة، وكان ملكه خمس سنين. ونسب حمزة إليه بناء عدة أديرة، منها: دير حالي، ودير أيوب، ودير هند.
أما "الأصمعي" فقد أورد اسم "الحارث بن جفنة بن ثعلبة ين عمرو"، بعد اسم "جفنة". وقال عنه "وهو الحارث الأكبر" ثم ذكر له وصية وصى بها ابنه "عمرو بن الحارث" وهي وصية نظمها شعرا. وقد قال له فيها إن هذه الوصية هي وصية أبي لى، وبها يا عمر أوصي وفيها الملك مرسوم.
وأما "محمد بن حبيب"، الذي جعل ثعلبة أول من ملك من الغساسنة، فقد جعل الحكم للحارث بن ثعلبة من بعده، ثم لابنه جبلة بن الحارث بن ثعلبة، ثم لابنه الحارث، وهو ابن مارية ذات القرطين، ثم للنعمان بن الحارث ثم للمنذر ابن الحارث ثم للمنيذر بن الحارث، ثم لجبلة بن الحارث.

(1/1696)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما "ابن قتيبة" "الذي جعل "الحارث بن عمرو بن محرق" أول ملوك آل غسان، فقد وضع "الحارث بن أبي شمر" من بعده. وقال: انه الحارث الأعرج بن الحارث الأكبر، وأمه مارية ذات القرطين. وكان خير ملوكهم، وأيمنهم طائرا، وأبعدهم مغارا. وكان غزا "خيبر"، فسبى من أهلها، ثم اعتقهم بعد ما قدم الشام. وكان سار إليه المنذر بن ماء السماء في مئة الف، فوجه اليهم مئة رجل، فيهم لبيد الشاعر وهو غلام، وأظهر انه انما بعث بهم لمصالحته، فأحاطوا برواقه فقتلوه، وقتلوا من معه في الرواق، وركبوا خيلهم فنجا بعضهم وقتل بعض وحملت خيل الغسانيين على عسكر المنذر فهزموهم، وكانت له بنت يقال لها "حليمة" كانت تطيب اولئك الفتيان يومئذ وتلبسهم الأكفان والدروع وفيها جرى المثل: "ما يوم حليمة بسر ". وكان فيمن أسر يومئذ أسارى من بني أسد، فأتاه النابغة، فسأله اطلاقهم، فأطلقهم، وأتاه علقمة ابن عبدة في اسارى من بني تميم، فأطلقهم اكراما لشأنه. وفي جملة من أطلق حريتهم شأس بن عبدة شقيق علقمة.
وروى "ابن قتيبة" أيضا إن "علقمة بن عبدة" قال في "الحارث بن أبي شمر هذه الأبيات: إلى الحارث الوهاب أعلمت ناقتي بكلكلها، والقصرين وجبيب
وفي كل حي قد خبطت بنعمة فحق لشأس كل من نداك ذنوب
فقال الحارث: نعم وأذنبة.
وزعم "ابن قتيبة" إن الذي ولي الملك بعد "الحارث الأعرج بن الحارث الأكبر"، هو ابنه "الحارث بن الحارث بن الحارث" ويسميه بالحارث الأصغر ابن الحارث الأعرج بن الحارث الأكبر. وكان له أخوة، منهم: النعمان بن الحارث، يقول، وهو الذي قال فيه النابغة: هذا غلام حسن وجهه مستقبل الخير سريع التمام
للحرث الأكبر والحارث الأصغر والحرث الأعرج خير الأنام
وله يقول النابغة أيضا، وكان خرج غازيا: إن يرجع النعمان نفرح ونبتهج ويأتي معدا ملكها وربيعها
ويرجع الى غسان ملك وسؤود وتلك المنى لو أننا نستطيعها

(1/1697)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد وهم "ابن قتيبة" في "الحارث بن أبي شمر" إذ صيره الملك الثاني، وجبلة هو أول من يمكن أن نطمئن إلى وجوده من ملوك الغساسنة كل الاطمئنان وهو "جبلس" "Jabalac" عند ثيوفانس. وقد ذكر عنه أنه غزا فلسطين حوالي سنة 550 للميلاد. ولا نعرف من أمر هذا الرجل شيئا يستحق الذكر. وقد نسب حمزة والبطليوسي إليه بناء القناطر وأدرج والقسطل. وقالا إنه حكم عشر سنين. وذكره "ابن دريد" على هذا النحو: "ومنهم جبلة بن الحارث الملك. وهو ابن مارية التي يقال لها قرطا مارية".
وجاء بعد "جبلة" ابنه "الحارث بن جبلة"، الذي يمكن عده اول ملك نعرف من أمره شيئا واضحا يذكر من ملوك آل جفنة. وهو في نظر "نولدكه" "اريتاس" "Aretas" "Arethas" الذي ذكره المؤرخ السرياني "ملالا" "Malalas". وقد ذكر انه كان عاملا للروم. ويظن أن حكمه كان من حوالي سنة "529" حتى سنة "569" للميلاد تقريبا. وأرى إن حكمه كان قبل سنة "529" للميلاد بقليل، اذ ذكر أنه حارب "المنذر" "Alammundarus" في حوالي السنة "528" للميلاد. ومعنى ذلك أنه ولي الحكم في هذه السنة، أو قبلها بقليل.
وقد عرف الحارث هذا عند أهل الأخبار ب "الحارث الأعرج" وب "الحارث الأكبر".
وذكر حمزة والبطليوسي وآخرون أن والدة الحارث هي "مارية ذات القرطين، بنت عمرو بن جفنة". وذكر المسعودي ومحمد بن حبيب أنها "مارية بنت الأرقم بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة". واستدرك "محمد بن حبيب" على ذلك بقوله: "ويقال: بل هي مارية بنت ظالم بن وهب بن الحارث بن معاوية ابن ثور، من كندة". وهي أخت هند الهنود امرأة حجر الكندي، وقد ضرب المثل بحسنها، فقيل: "خذوه ولو بقرطي مارية ". وقالو: وكان في قرطيها مئتا دينار.

(1/1698)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر البطليوسي إن الحارث كان يسكن البلقاء، وبها بنى "الحفير" ومصنعة بين "دعجان" وقصر أبير ومعان. و كان حكمه على رأيه عشرين سنة. وهو دون العدد الذي يقدره الباحثون لحكمه، حيث قدر بأربعين سنة. إذ حكم على تقديرهم من حوالي السنة "9 2 5" حتى السنة "569" للميلاد.
ويشك بعض الباحثين في صحة نسبة الأبنية المذكورة إلى الحارث، اذ يرون أنها من عمل شخص آخر. غير أنهم يرون احتمال، بنائه للقصر الأبيض في "الرحبة". ولقصر الطوبة.
وجعل "ابن دريد" للحارث بن جبلة من الولد: النعمان والمنذر والمنيذر وجبلة وأبا شمر، ذكر انهم ملوك كلهم.
وذكر الأخباريون ان الحارث بن مارية الغسانى، كان قد اجتبى أخوين من بني نهد اسمهما حزن وسهل، وهما ابنا رزاح، فحسدهما زهير بن جناب الكلبي وسعى بهما لدى الحارث، وأظهر له انهما عين للمنذر ذى القرنين عليه حتى قتلهما. ثم تبين له فيما بعد بطلان قول زهير، فطرده من عنده. واسترضى الحارث والد القتيلين رزاح.، وأبقاه عنده، فلم يطق زهير على ذلك صبرا، حتى تخلص منه بمكيدة انتهت بقتل الحارث له وبرجوع زهير إلى ما كان عليه. وهي قصة من هذه القصص التي يرويها الأخباريون تشير إلى معاصرة زهير للحارث وللمنذر الأكبر ذي القرنين، أي المنذر بن ماء السماء.
وقد ذكر ملالا إن الحارث بن جبلة حاربت "المنداروس" Alamundarus " "Alamoundros" أمير عرب الفرس، وانتصر عليه في شهر نيسان من سنة "528م"، وذكر معه اسم أميرين، هما: "جنوفاس" "Jnophas"، و "نعمان" "Naaman". و يرى "نو لدكه" ان "جنوفاس" هو "جفنة" وهو اسم أحد الأمراء الجفنيين، سمي باسم جفنة مؤسس تلك الأسرة. وأما نعمان فهو أيضا اسم أمير من أولئك الأمراء الجفنيين.

(1/1699)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد تحدث الطبري عن الحرب التي وقعت بين المنذر بن النعمان ملك الحيرة، والحارث بن جبلة، الا انه وهم في اسمه فصيره "خالد بن جبلة".وقال عن الحرب: "وقع بين رجل من العرب كان ملكه يخطيانوس على عرب الشام، يقال له خالد بن جبلة، وبين رجل من لخم، كان ملكه كسرى على ما بين عمان والبحرين واليمامة إلى الطائف وسائر الحجاز ومن فيها من العرب، يقال له المنذر بن النعمان نائرة، فأغار خالد بن جبلة على حيز المنذر، فقتل من أصحابه مقتلة عظيمة، وغنم أموالا من أمواله، فشكا المنذر إلى كسرى، وسأله الكتاب إلى ملك الروم في انصافه من خالد، فكتب كسرى إلى يخطيانوس، الا انه لم يحفل بكتاباته فغزا كسرى بلاده، وتوغل فيها واضطر يخطيانوس" عندئذ إلى عقد صلح معه، والى ارضائه.
ويرى "نولدكه" أيضا إن هذا الحارث هو الحارث الذي ذكر عنه المؤرخ ملالا انه أخمد ثورة السامربين الذين ثاروا في فلسطين في سنة "529".
وقد ورد في تأريخ "بروكوبيوس" "Procopius" إن المنذر ملك العرب "سركينوى" "Sarakynou" الذين كانوا في مملكة الفرس، لما أكثر من الغارات على حدود انبراطورية الروم، وعجز قواد الروم من أرباب لقب " Duxi" "Duce" "Dux" وسادات القباب من أرباب لقب "فيلارخ" "Phylarchus" المحالفين للروم عن صده والوقوف أمامه، رأى القيصر"يسطانوس""Justinianus" ان يمنح الحارث بن جبلة الذي كان يحكم عرب العربية "Arabia" لقب "ملك" ليقف بوجه "المنذر" "Alamoundaros". وقد ذكر إن هذا اللقب لم يمنح لأحد من قبل.ولكن المنذر لم يرعو مع ذلك عن غزو الحدود الشرقية لبلاد الشام والعبث بها مدة طويلة من الزمن. وقد ذهب "نولدكه" إلى أن هذه الحوادث كانت في سنة "529م".

(1/1700)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد بلغ المنذر في هجومه على بلاد الشام أسوار "انطاكية"، ولكنه تراجع بسرعة حينما سمع بمجيء قوات كبيرة من قوات الروم، تراجع بسرعة أعجزت الروم عن اللحاق به. ويشك نولدكه في رواية بروكوبيوس بشأن منح الحارث لقب ملك، ذلك لأن لقب ملك كان خاصا بقياصرة الروم، فلا يمنح لغيرهم.
ويلاحظ أن بعض كتبة اليونان أطلقوا أيضا لقب ملك على الأمراء العرب، مثل "ماوية"، فقد لقبت ب "ملكة". ولم يستعملوا كلمة "فيلارخوس" "Phylarkos" "Phylarque" "Phylarcos" التي تعني العامل أو سيد قبيلة. وأما الكتبة السريان، فقد لقبوا رؤساء القبائل العربية بلقب "ملك" في بعض الأحيان على نحو ما نجده في الشعر العربي. ولكن نولدكه يرى أن هذا الاستعمال لا يمكن أن يكون سندا لاثبات أن الروم أطلقوا لقب ملك على الحارث أو على خلفائه رسميا، لأن الوثائق الرسمية لم تطلق هذا اللقب عليهم.
والذي صح اطلاقه من الألقاب على أمراء الغساسنة " وثبت وجوده في الوثائق الرسمية، هو لقب "بطريق" "Patricius"، ولقب "عامل" أو سيد قبيلة "فيلارخوس" "Phylarchus" "Phylarkos" "Phylarcos" مقرونا بنعت من النعوت التابعة له، أو مجردا منه، كالذي جاء عن المنذر الذي حكم بعد الحارث بن جبلة البطريق الفائق المديح، ورئيس القبيلة "فلارخوس المنذر"، و "المنذر البطريق الفائق المديح"، وما ورد عن الحارث "الحارث البطريق ورئيس القبيلة".
ولقب "البطريق" من ألقاب الشرف الفخمة عند الروم، ولذلك فلم يكن يمنح إلا لعدد قليل من الخاصة، ولصاحبه امتيازات ومنزلة في الدولة حتى ان بعض الملوك كانوا يحبذون الحصول على هذا اللقب من القيصر. وقد منح القيصر "يسطنيانوس" "Justinianus" "الحارث" هذا اللقب، وكذلك لقب "فيلارخ" فكان بذلك أول رجل من الغساسنة يمنح هذين اللقبين اللذين انتقلا منه إلى أبنائه فيما بعد.

(1/1701)


--------------------------------------------------------------------------------

ويلاحظ إن نص أبرهة الذي ذكر في جملة ما ذكره إن الحارث بن جبلة أرسل رسولا عنه إلى مدينة مأرب ليهنئه بترميمه سد مأرب، لم يدون كلمة "ملك" مع اسم الحارث، ولكن ذكر "ورسل حرثم بن جبلت"، أي: "ورسول الحارث بن جبلة". فلم يلقبه بلقب "ملك"، ويدل عدم اطلاق أبرهة لقب ملك على الحارث على انه اتبع الأصول الدبلوماسية المقررة عند البيزنطيين وان لقب ملك لم يكن لقبا رسميا له مقررا دوليا. وقد كان وصول رسول الحارث أو رسله في سنة "542م".
ويتبين من رواية المؤرخين بروكوبيوس وملالا إن الحارث بن جبلة كان قد اشترك في المعركة التي نشبت بين الفرس والروم في 19 نيسان سنة "531م"، وانتهت باندحار الروم، وكان قائدهم "بليزاريوس". وذكر إن الفرس أسروا رجلا اسمه "عمرو" "Amros"، وكان حائزا على درجة "قائد" "Dux". وقد أثار تصرف الحارث في الحرب التي نشبت في سنة "541م" بين الفرس والروم، شك الروم في إخلاصه لهم، والحذر منه، اذ ما كان يعبر هذا الأمير نهر دجلة مع القائد بليزاريوس حتى بدا له فرجع إلى مواضعه بعد أن سلك طريقا آخر غير الطريق الذي اتبعه معظم الجيش دون أن يقوم بعمل يذكر في هذه الحرب. وهذا مما حمل الروم على الشك في صداقته لهم، وجعلهم في يحذرون منه ويراقبون حركاته، خوفا من انقلابه عليهم وإلحاقه الأذى بهم واتفاقه سرا مع الفرس.
وقد عاد النزاع فتجدد بين الحارث والمنذر حوالي سنة "544م"، وانتهى بسقوط ملك الحيرة قتيلا في معركة حدثت في سنة "554م"، على مقربة من "قنسرين" بالقرب من الحيار. وهذه المعركة هي معركة يوم حليمة على رأي نولدكه. ويظهر أن المنذر كان قد هاجم بلاد الشام، وتوغل فيها حتى وصل إلى حدود قنسرين، فصرع هناك. حدث ذلك في السنة السابعة والعشرين من حكم "يوسطنيانوس" "Justinianus "على رواية ابن العبري.

(1/1702)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد كان سبب اختلاف الحارث مع المنذر، تنازعهما على ارض يطلق الروم عليها اسم "Strata" جنوب تدمر، تمر بها الطرق البرية الموصلة إلى بلاد الشام وهي من الطرق العسكرية المهمة ومرعى مهم للاعراب، يرعى فيها أعراب العراق وأعراب بلاد الشام. وقد ألف "جستنيان" لجنة تحكيم، لم تتمكن من فض النزاع. وقد اتهم الفرس أعداءهم الروم بأنهم يريدون الاتصال سرا بالمنذر ورشوته لتحريضه على القيام على الفرس.
وقد ذكر ابن العبري في أثناء كلامه على هذه الحرب أن "برحيرت"، "Bar-Herath" أي "ابن الحارث" سقط قتيلا في الحرب. وكان قد ذكر قبل كلمات إن المنذر بن النعمان، لما هاجم منطقة "Rhomaye" وتوغل فيها، نازله "الحارث بن جبلة" "Herath bar Gebala" بهجوم مقابل، فهزمه وقتله في قنسرين. ثم ذكر إن ابن الحارث سقط قتيلا في هذا الموضع. ويعرف هذا الولد باسم جبلة.
ونجد في شعر "حسان بن ثابت" إشارة الى "زمين حليمة" أي زمن حليمة. كما نجد في الأمثال "ما يوم حليمة بسر"، دلالة على شهرة ذلك اليوم.
و كان الحارث من أنصار "المنوفستيين" "'Monophysites"، أي القائلين بوجود طبيعة واحدة في المسيح، ويقال انه سعى لدى الانبراطورة "ثيودورة" في تعيين "يعقوب البرادعي" ورفيقه "ثيودورس"، أسقفين للمقاطعات السورية العربية. فنجح في مسعاه هذا في سنة "542 - 543م"، وبذلك وطد هذا المذهب في بلاده.
ونسب المؤرخ السرياني "ميخائيل الكبير" إلى الحارث محاورة جرت بينه وبين البطريق "افرام" "526 - 545م" في السريانية أو اليونانية في طبيعة المسيح وفي مذهبه القائل بوجود طبيعة واحدة فيه. وهو مذهب "يعقوب البرادعي" المتوفي سنة "578م". وقد"صيغت الحكاية بأسلوب يفهم منه انه تغلب بأدب ولطف على خصمه البطريق.

(1/1703)


--------------------------------------------------------------------------------

ولمعارضة مذهب اليعاقبة أتباع يعقوب البرادعي لمذهب الكنيسة الرسمي للانبراطورية عد الروم هذا المذهب من المذاهب المنشقة المعارضة فقاوموه وناضلوا أصحابه ولا سيما في أيام القيصر يوسطنيانوس، باعتباره مذهبا من المذاهب المناهضة لسياسة الملوك والدولة، كمعارضة الأحزاب السياسية في الزمن الحاضر، الا إن الحارث سعى جهد امكانه في تخفيف حدة غضب الحكومة على رجال هذا المذهب، ومن التقريب ما أمكن بين آراء رجال الكنيستين. ولجهود الحارث ومسعاه في حماية هذا المذهب، فضل كبير ولاشك في بقائه، وفي انتشاره بين السريان وعرب الشام.
وقد زار الحارث القسطنطينية في تشرين الثاني من سنة "563م"، فاستقبل استقبالا حافلا. وأثر أثرا عميقا في نفوس أهل العاصمة وفي رجال القصر والحاشية، ويقال إن رجال البلاط كانوا يخوفون القيصر "يوسطينوس" "Justinius" بعد خرفه بالحارث، فكان يهدأ ويسكت روعه حين سماعه اسمه. والظاهر إن الغاية التي من أجلها ذهب الحارث إلى القسطنطينية هي مفاوضة رجال الحكم فيمن سيخلفه على عرشه بعد وفاته من أولاده، وفي السياسة التي يجب سلوكها تجاه عمرو ملك الحيرة.
والى هذا الحارث قصد امرؤ القيس الكندي الشاعر، ليوصله إلى القيصر يشكو له ظلامته، ويطلب منه مساعدته في استرجاع حقه واخذه بالثأر حسب رواية الأخباريين. واليه تنسب أيضا قصة مطالبة السموأل بن عاديا باعادة دروع امرئ القيس التي أودعها لديه في القصة الشهيرة التي يحكيها الأخباريون في معرض كلامهم على امرئ القيس وقصة السموأل والوفاء. وهناك جماعة من الأخباريين ترى إن الحارث الذي طالب بتسليم دروع امرئ القيس إليه، هو شخص آخر اسمه الحارث بن ظالم. ولكنها لم تذكر الصلة التي كانت بين الحارث بن ظالم وامرئ القيس، وحملته على المطالبة بتلك الدروع.

(1/1704)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذكر "الجمحى" أن "الحارث بن أبي شمر الغساني" هو الذي طلب إلى "السموأل بن عادياء" أن يدفع إليه سلاح "امرىء القيس" الذي استودعه عنده، فأبى السموأل أن يسلمه إليه. وقد ذكر "أبو زبيد الطائي" أنه زاره ونعته بأنه "الحارث بن أبي شمر الغساني ملك الشام". وقد كان "أبو زبيد" هذا "من زوار الملوك، ولملوك العجم خاصة. وكان عالما بسيرها ".
وقد تعرض "ابن قتيبة" لموضوع "امرى القيس"، فقال: "وكان امرؤ القيس في زمان أنو شروان ملك العجم، لأني وجدت الباعث في طلب سلاحه الحارث بن أبي شمر الغساني، وهو الحارث الأكبر، والحارث هو قاتل المنذر بن امرئ القيس الذي نصبه أنو شروان بالحيرة. ووجدت بين أول ولاية أنو شروان وبين مولد النبي، صلى الله عليه وسلم، أربعين سنة".
وذكر أيضا إن "الحارث بن أبي شمر الغساني، وهو الحارث الأكبر، لما بلغه ما خلف امرؤ القيس عند السموأل، بعث إليه رجلا من اهل بيته يقال له "الحارث بن مالك" وأمره إن يأخذ منه سلاح امرئ القيس وودائعه فلما انتهى إلى حصن السموأل أغلقه دونه، وكان للسموأل ابن خارج الحصن يتصيد فأخذه الحارث، وقال للسموأل: إن انت دفعت إلي السلاح وإلا قتلته، فأبى إن يدقع إليه ذلك. وقال له: اقتل أسيرك، فإني لا ادفع اليك شيئا، فقتله، وضربت العرب المثل بالسموأل في الوفاء".
وذكر الأخباريون أن الحارث الأعرج - وهو في روايتهم هذه الحارث بن أبي شمر الغساني - غزا قبيلة تغلب، وكان السبب الذي حمله على هذا الغزو مروره بجماعات منها لم تهتم به كما كان يجب إن يكون. وقد نصحه الشاعر "عمرو بن كلثوم"-على حد قولهم- بعدم غزوهم، واعتذر عنهم إليه. ولكنه لم يأخذ بنصيحته، فلما تقابل معهم، انهزم مع قومه من غسان، وقتل منهم عدد كثير كان في جملتهم أحد إخوة الحارث.

(1/1705)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظن بعض الباحثين إن الحارث هو الذي أمر ببناء كنيسة الرصافة الكبرى لا الملك يوسنيانوس، ذلك. لأن المؤرخ "بروكوبيوس" لم يشر في أثناء كلامه على هذا القيصر الى أي أثر له في هذه المدينة،على حين أشار إلى تسوير الحارث لها والى احترامه العظيم للقديس "سرجيوس" المدفون بها، وهو قديس له منزلة كبرى في نفوس نصارى عرب الشام.
وينسب إلى الحارث اصلاح ذات البين فيما بين قبائل طيء، وكانت متخاصمة متحارية، فلما هلك عادت إلى حربها،ووقع بينها يوم اليحاميم حيث دارت الدائرة فيه على جديلة من طيء، ويعرف أيضا بقارات حوق.
ومن الأمراء العرب الذين عاصروا الحارث بن جبلة، أمير اسمه "أبو كرب ابن جبلة"، لعله شقيق الحارث. وقد ورد اسمه في نص "أبرهة"، حيث كان "أبو كرب" قد أرسل إليه رسولا لتهنئته بترميمه سد مأرب. والأمير "قيس" "Kaisus" وكان عاملا على "فلسطين الثالثة" في حوالي سنة 530م. والأسود، ويظهر انه كان قد تحارب مع الحارث.
وعثر في احدى الكتابات في حران على اسم أمير يدعى "شرجيل بن ظالم" يرى نولدكه انه أمير كندي، لأن هذين الاسمين من الأسماء الشائعة في كنده ويرجع تأريخ هذه الكتابة المدونة باليونانية والعربية إلى حوالي سنة "568م". وقد دونت عند تدشين هذا العامل بناء اقامه للقديس يوحنا المعمدان، فيكون "شراحيل" شرحيل اذن من المعاصرين للحارث بن جبلة. ويستنتج نولدكه من ذلك إن عددا من المشايخ ظلوا يتمتعون بسلطانهم حتى بعد تألق نجم آل غسان. ويرى إن ذلك مما يوافق سياسة الروم الذين لم يكن من مصلحتهم ظهور أمير واحد قوي وإنما كان من مصلحتهم وجود جملة امراء متنافسين، ليتمكنوا بذلك من السيطرة عليهم جميعا بضرب بعضهم ببعض.
وقد دعي الأمير المذكور ب "Asaraelus" ودعي أبوه به "Talemus" وكان يحكم "اللجاة"، فيظهر من ذلك إن إمارات كانت تنافس، امارة الغساسنة في هذا العهد.

(1/1706)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد توفي الحارث في سنة "569م" او "570م" على رأي نولدكه، استنتج ذلك من ورود اسمه في الوثائق الكنسية التي يعود تأريخها إلى سنتي "568 و 569"، والى ربيع سنة "570م" حيث حل اسم ابنه المنذر في محله، فاستدل من هذا التغيير على أنه توفي في هذا الزمن.
وقد حكم "المنذر" من سنة "569 - 0 57م" حتى سنة "1 58م"، على تقدير بعض الباحثين.
وقد عرف المنذر ب "Alamoundaros" "Alamundaros" عند اليونان والسريان وقد استهل حكمه بالحرب مع ملك الحيرة قابوس. والظاهر إن عرب الحيرة كانوا هم البادئين بها، فانتصر عليهم في يوم 20 أيار "مايس" من سنة 570م.
ثم انتصر عليهم في معركة أخرى فيما بعد. ويرى نولدكه إن المعركة الأولى هي عين أباغ.
والمنذر هو أبو كرب الذي ذكر اسمه في نص سرياني عثر عليه في احدى ضواحي تدمر، وهو نص ديني ورد فيه اسم الأسقفين يعقوب وثيودور، وهما: يعقوب البرادعي وصاحبه.
لقد حدث سوء تفاهم بين القيصر "يسطينوس". "Justinus" وبين المنذر تطور حتى صار قطيعة. ولما أحس المنذر بأن القصر قد دبر له مؤامرة، وأنه أمر عامله البطريق "مرقيانوس" "Marcianus" بأن يحتال عليه ليقتله، تمرد على الروم، وغادر أرضهم إلى البادية. فانتهز عرب الحيرة هذه الفرصة المؤاتية فأمعنوا في غزو بلاد الشام، وايقاع الرعب في نفوس سكان القرى المجاورة لهذه الحدود مما حمل الروم على مراسلة المنذر والتودد إليه لاسترضائه، حتى إذا ما تلطف الجو أرسلوا إليه البطريق "يوسطنيانوس" ليجتمع به في مدينة الرصافة عند قبر القديس "سرجيوس" لاقناعه بترك موقفه والموافقة على العودة إلى محله. وعند القبر المقدس عقد الصلح بينهما في صيف سنة "578م". فعاد المنذر إلى أرضه، ليقوم بالدفاع عن حدود الشام.

(1/1707)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد أشار ابن العبري إلى هذا الحادث، فذكر أن العرب "طياية" كانوا منقسمين إلى جماعتين: جماعة المنذر بن الحارث "منذر برحيرت" Mundar bar Herath، وكان نصرانيا وكذلك كان جنوده وجماعة قابوس، فهاجم قابوس وجنوده العرب النصارى، وقصد بذلك الغساسنة، واستاق ما وجده أمامه من ماشية، ثم قفل إلى بلاده. فلما رأى المنذر ما حدث، جمع جيشا هجم به على قابوس، فتغلب عليه، ورجع بغنائم عديدة وعدد كبير من الابل. وعاد قابوس فهاجم المنذر، غير أنه مني بهزيمة ثانية اضطرته إلى طلب النجدة من الفرس. فأخبر القيصر بسطينوس بذلك،، وطلب منه امداده بالمال لبؤلف به جيشا يقف أمام الفرس، فاستاء القيصر منه، وقرر التخلص منه بقتله، لظنه أنه كان السبب في غزو الفرس ل "Rhomaye" وكتب إلى عامله مرقيانوس وكان معسكرا يومئذ في منطقة "نصيبين" "Nisibis" أن يتربص بالمنذر فيقبض عليه، ويقطع رأسه. وقد أخطأ كاتب الرسالة،فأرسل الرسالة الخاصة بالبطريق مرقيانوس إلى المنذر،وأرسل الرسالة الخاصة بالمنذر إلى البطريق. فلما قرأ المنذر الكتاب وعرف بما أراد القيصر أن يفعله به،غضب غضبا شديدا،وتصالح مع قابوس،وصارا يهاجمان بلاد الشام.فظن يسطينوس إن مرقيانوس قد خانه،وانه أخبر المنذر بالمؤامرة، فأمر بالقبض عليه، وحبسه ولما صار "طبياريوس" "Tiberius" قيصرا، ذهب المنذر إلى القسطنطينية، فلامه القيصر على ما صنع، ولكنه قدره واحترمه كثيرا حينما أراه رسالة يسطينوس التي أراد توجيهها إلى عامله لاغتيال المنذر، وأنعم عليه بهدايا كثيرة، وألطاف سنية، ثم عاد مكرما إلى مركزه السابق.

(1/1708)


--------------------------------------------------------------------------------

لقد قام المنذر بالزيارة المذكورة للقسطنطينية في اليوم الثامن من شباط سنة580 م مصطحبا معه ابنين فن أبنائه. فلما بلغها، استقبل بكل احترام وتبجبل، وأنعم القيصر " طيباريوس" "Tiberius" عليه بلقب "Rex" وبالتاج وهو لقب كان له شأن كبير في امبراطورية الروم. ويرى نولدكه إن الروم لم يمنحوا عمالهم العرب على بلاد الشام من قبل الا "الاكليل"، ودرجته دون درجة "التاج". وقد أغدق القيصر عليه بالهدايا. الثمينة النفيسة ومن بينها مصوغات من ذهب وفضة، مما لم ينعم. على أي ملك عربي من قبل. كما أنعم على ولديه بدرجات عسكرية.
وكان المنذر مثل والده من القائلين بمذهب "الطبيعة الواحدة" والمدافعين عنه، ولذلك انتهز فرصة وجوده في القسطنطينية، فسعى في اقناع رجال القصر بالتسامح مع رجال مذهبه والصفح عنهم. ويظهر انه عقد هناك مجمعا في اليوم الثاني من شهر آذار سنة "585م" لمعاضدة هذا المذهب والدفاع عنه،كما اتصل بالبطاركة للتوفيق بين رجال الكنيستين، غير انه خابت مساعيه بالرغم من اظهار البطاركة رغبتهم في ذلك وعدم ممانعتهم فيه.
وقد ذكر إن المنذر بنى صهاريج لايصال الماء إلى الرصافة مدينة القديس "سرجيوس" ذي المكانة العظيمة عند عرب الشام. وظهر من كتابة عثر عليها في أنقاض كنيسة في الرصافة إن المنذر بنى أو جدد بناء تلك الكنيسة. وأما بناؤها فهو على الطراز البيزنطي.
ولم تمنع قدسية مدينة الرصافة الأعراب، ولا سيما أعراب العراق من التحرش بها، فغزتها مرارا، وأخذت قبيله تغلب صورة القديس بعد عودتها من غزو المدينة، وهدم أهل الحيرة صهاريج المدينة مرارا، ولحمايتها من الهجمات أحاطها القيصر "يوسطنيانوس" بسور قوي، بدلا من سورها القديم.

(1/1709)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر إن المنذر لما كان في القسطنطينية طلب من البيزنطيين مساعدته في بناء قصر يكون أعظم قصر غساني بني حتى أيامه، وذلك بأن يرسلوا إليه أحسن المعمارين والبنائين الحاذقين. فلبى الييزنطيون طلبه فأمدوه بما يحتاج إليه من معمارين ومن مواد بناء. ومن أبنيته الخربة المعروفة اليوم بناء يعرف باسم "البرج". وقد عثر على اسمه مدونا على حجارة من ذلك البناء. ولما حاول الروم غزو حدود الفرس في سنة "585م"، وجدوا الجسر المنصوب على نهر الفرات مهدما، فاضطروا إلى التراجع وترك الغزو. وكان المنذر معهم في هذه الحملة، فذهبوا إلى إن المنذر كان على اتفاق سري مع الفرس، وانه هو الذي اوعز بهدم الجسر، ليكتب للحملة الاخفاق، وقرروا القبض عليه والايقاع به، انتقاما منه.للخيبة التي منوا بها. ولما عاد المنذر فغزا أرض الحيرة بنفسه فيما بعد ملحقا بالمدينة أذى كثيرا، جاعلا اياها طعمة للنيران، اتفذ الروم هذه الغزوة دليلا" على تحدي المنذر لهم، ورغبته في الخروج على طاعتهم،فقرروا الانتقام منه بقتله،فأصدروا إلى حاكم بلاد الشام "ماكنوس" Magnus" صديق المنذر أمرا سريا بالعمل على قتله. وصادف إن الروم كانوا قد انتهوا من بناء كنيسة في "حوارين"، وقد عزم "ماكنوس" على تدشينها، فكتب يدعو صديقه إلى الاحتفال بذلك. فلما كان على مقرية منه، قبض عليه وأرسله مخفورا إلى العاصمة حيث أجبر على الاقامة فيها مع احدى نسائه وبعض أولاده وبناته، وذلك في أيام القيصر طباريوس وفي ابتداء السنة "582" للميلاد. ولما انتقل العرش إلى موريقيوس، وكان يكرهه ويعاديه، أمر بنفيهما إلى صقلية وبقطع المعولة التي كان الروم يدفعونها إلى الغساسنة في كل عام.

(1/1710)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد لقب حمزة المنذر بلقب الأكبر، وجعل مدة حكمه ثلاث سنين، ونسب إليه بناء "حربا"، وموضع "زرقا" على مقربة من الغدير. وقد أخطأ "حمزة" في مدة حكم المنذر، إذ هي تزيد على تلك المدة، فقد حكم على رأي الباحثين من سنة "569" حتى سنة "582" للميلاد.
أثار عمل الروم هذا ثائرة أبناء المنذر، فتركوا ديارهم، وتحصنوا بالبادية، وأخذوا يهاجمون منها حدود الروم ملحقين بها أذى شديدا، فاضطر القيصر على أثره أن يوعز إلى القائد "ماكنوس" بتجهيز حملة من أبناء المنذر ألحق بها أحد إخوة المنذر. وكان قد أعد ليتولى مقام أخيه، غير انه توفي بعد أيام. ولما كان من الصعب على الروم مهاجمة أبناء المنذر في البادية، عمد القائد إلى المكيدة فأرسل إلى النعمان كبير أبناء المنذر انه يريد مقابلته للاتفاق معه على وضع شروط للصلح. وقد ظن الأمير أن القائد صادق فيما دعا إليه فذهب لمقابلته، فقبض الروم عليه، وأرسلوه مخفورا إلى العاصمة حيث حجروا فيها عليه.
وكان موضع "حوارين" في جملة المواضع التي هاجمها النعمان بعد ارتحال "ماكنوس" عنها، وقد استولت عساكره عليها، وقتلوا بعض أهلها، وأسروا قسما من الباقين،ثم عادوا بغنائم كثيرة إلى البادية للاحتماء بها من هجمات الروم.
وذكر ابن للعبري إن النعمان لما بلغته رسالة القائد ماكنوس لم يذهب إليه، وإنما أرسل إليه بعض الشبان وأمره أن يتظاهر له بأنه هو النعمان. فلما وصل الشاب إلى القائد، سأله: أأنت النعمان ? فقال له: نعم، جئتك بحسب أمرك، فقال القائد لمن معه: أقبضوا على عدو الملك، وقيدوه بالحديد. ولما تبين للقائد أنه لم يكن النعمان، هم بقتله، ثم أمر باخراجه، فعاد إلى أهله. وتوفي ماكنوس بعد ذلك بأمد قصير.

(1/1711)

admin
12-27-2010, 01:54 AM
ويدعي ابن العبري أن النعمان ذهب بعد ذلك إلى "موريقيوس"" M auricius" واعتذر إليه،وبين له أنه إنما حارب مع الفرس ليتمكن بذلك من انقاذ والده من الأسر. ولما طلب منه "موريقيوس" أن يدخل في المذهب الخلقيدوني، أجابه إن جميع القبائل العربية "طياية" هي على المذهب الحنيف "الأرثدوكس" "Orthodox"، وانه إذا بدل مذهبه لا يأمن على نفسه من القتل. ولما قفل راجعا، قبض عليه ونفي.
لقد تصدع بناء الغساسنة وتفكك، وانقسم الأمراء على أنفسهم،وذلك حوالي سنة "583" أو "584م" على تقدير نولدكه. ويشير ميخائيل السوري وابن العبري إلى انهم انقسموا بعد القبض على النعمان إلى خمسة عشرة فرقة تركت بعضها ديارها فهاجرت إلى العراق وتشتت الباقون، ولم يبق لهم شأن يذكر. ولم يشر الكتبة السريان أو البيزنطيون ولم يشر الأخباريون إلى هذا الحادث، ويظهر انهم لم يعرفوه. وقد ذكر حمزة إن الذي حكم بعد المنذر هو شقيقه النعمان. وقد جعل مدة حكمه خمس عشرة سنة وستة أشهر.
وزاد في ربك وضع الغساسنة وفي انقسامهم على أنفسهم، غزو الفرس لبلاد الشام سنة "613 - 4 1 6 م"، فقد اكتسح الفرس كل بلاد الشام، وصار عرب بلاد الشام أمام حكام جدد، لم يألفوا حكمهم من قبل، ولكن ألفوهم دائما في جانب عرب الحيرة أعداء الغساسنة ومنافسيهم.
وقد تمكن الغساسنة من رؤية وجوه البيزنطيين مرة أخرى وذلك في حوالي سنة "629 م"، فقد تمكن البينرنطيون من طرد الفرس من الأرضين التي استولوا عليها ومن إجلائهم نهائيا عنها، وإعادة فرض حكمهم عليها، غير أن الأقدار أبت إن تبقيهم هذه المرة مدة طويلة في بلاد الشام، فأكرهتهم على فتح أبوابها للاسلام، فتساقطت مدنها في أيدي المسلمين تساقط ورق الشجر في أيام الخريف. وصارت دمشق درة بلاد الشام من أهم حواضر الإسلام. أما ملك الغساسنة، فقد ولى، ولم يبق للغسانين حكم في هذه البلاد منذ هذا الزمن.

(1/1712)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد خمد اسم رؤساء غسان في الموارد اليونانية والسريانية منذ قبض على النعمان، فعدنا لا نجد في تلك الموارد شيئا يذكر عنهم. وفي سكوت هذه الموارد عن ايراد أخبارهم، دليل على زوال شوكتهم وهيبتهم وعدم اهتمام الروم بأمرهم، حيث ضعف امرهم بمسبب تفرق كلمتهم وتنازعهم بينهم. أما الموارد الاسلامية، فإنها بقيت تذكر أسماء رجال منهم زعمت انهم ملكوا وحكموا، بل زعمت أن بعضهم حكموا دمشق، وبقيت تذكر أسماءهم إلى ايام الفتح الاسلامي. ومن هذه الموارد تأريخ حمزة الاصفهاني،الذي استمر يذكر أسماء من ملك من آل غسان حتى انتهى بآخرهم وهو جبلة بن الأيهم. وفي هذه الأسماء تكرار وزيادات، لذلك زاد عدد من ذكرهم من ملوك غسان على عدد ما ورد عند سواه من المؤرخين.
وأنا لا استطيع أن اوافق حمزة على العدد المذكور، واخالفه في مدد حكمهم وفي ترتيبهم على النحو المدون في تأريخه. فالذين ذكرهم على أنهم ملوك لم يكن مجال حكمهم كبيرا واسعا،وهم لم يكونوا في الواقع إلا سادات بيوت أو سادات عشائر منشقة، تمسكت باللقب القديم الموروث: لقب ملك. وقد كان بعضهم يعاصر بعضا، ويدعي الرئاسة لنفسه، وذلك بسبب تخاصمهم، ولهذا كثرت أسماؤهم في قائمة حمزة. وقد انحسر مد حكمهم وانكمش فاقتصر على البوادي، ولا يتعارض ذلك بالطبع مع ورود أخبار بسكناهم في قصورهم عند أطراف المدن ومشارف القرى، فإن سادات القبائل في هذا اليوم أيضا يحكمون القبائل ويعيشون في قصور في المدن، وهم لا يحكمون المدن بالطبع.
والذي يظهر من روايات أخرى من روايات أهل الأخبار من غير حمزة إن أبين رجل من غسان ظهر بعد النعمان، هو "الحارث" المعروف ب "الأصغر" ثم "عمرو بن الحارث"، وهو الذي مدحه "النابغة"، ثم "النعمان بن الحارث" وهو شقيق "عمرو"، وقد مات مقتولا كما يظهر ذلك من شعر للنابغة الذبياني، ثم "شرحبيل بن عمرو الغساني"، و "جبلة بن.الأيهم".

(1/1713)


--------------------------------------------------------------------------------

ولما كنا قد سرنا على قائمة حمزة في ترتيب الملوك، فاننا نجاريه في ترتيبه لهم فنذكر أسماء من حكم الغساسنة بعد النعمان على وفق هذه القائمة، فنقول: حكم بعد النعمان على رواية حمزة وآخرين "المنذر بن الحارث" أي شقيق المنذر والنعمان، وجعل حمزة مدة حكمه ثلاث عشرة سنة، ولقبه بلقب "الأصغر" وكناه ب "أبي شمر".
وتولى بعده على رواية حمزة أخوه جبلة، وجعل منزله ب "حارب" ونسب إليه بناء "قصر حارب" و "محارب" و "صنيعة"، وكانت مدة حكمه على رأيه أربعا وثلاثين سنة.
وحكم بعد جبلة على رواية حمزة أخوه الأيهم. وقد حكم على رأيه ثلاث سنين ونسب إليه بناء "دير ضخم" و "دير النبوة" و "دير سعف".
ثم انتقل الحكم على رواية حمزة أيضا إلى عمرو، وهو أيضا على رأيه احد أبناء الحارث بن جبلة. وقد حكم ستا وعشرين سنة وشهرين، وذكر انه نزل السدير، وبنى قصر "الفضا" "قصر الفضة" و "صفاة العجلات" و "قصر منار".
وعمرو هذا هو الذي مدحه النابغة الذبياني، وقد كان متكبرأ دميما قبيح السيرة أنشأ في دمشق وضواحيها - على حد قول أهل الأخبار - عدة قصور شامخات، منها: قصر الفضة، وقصر "صفات العجلات"، وقصر منار. وقد صور في بعض هذه القصور مجالسه وجلساءه ورؤساء دولته، وأشكال صورته. ثم اتعظ وتغير على أثر شعر قاله له عمرو بن الصعق العدواني، وكان قد أسر الأمير أخته، وحسنت سيرته ومات بعد أن حكم ستا وعشرين سنة.
ويقول أهل الأخبار إن من قديم الشعر الذي قاله النابغة في مدح عمرو بن الحارث، قصيدته البائيه التي يقول في جملة ما يقول فيها: علي لعمرو نعمة بعد نعمة لوالده ليست بذات عقارب

(1/1714)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد أوغل فيها في مدح الغساسنة وفي ذكر ملوكهم، وهي من عيون شعره. وقد قال هذا الشعر حينما اختلف مع النعمان بن المنذر في موضوع الشعر الذي وصف به زوجة النعمان "المتجردة"، وصفا استغله أعداؤه، فوشوا به إلى النعمان، فهرب منه، وانحاز إلى خصومه آل غسان. ولجأ إلى زعيمهم في تلك الأيام، وهو "عمرو بن الحارث".
وللنابغة أشعار أخرى في مدح "عمرو بن الحارث بن أبي شمر الغساني"، في جملتها أبيات يعتذر النابغة فيها إليه من وشاية أثارت حنق عمرو عليه، فنظمها في استرضائه، وقد ذكر فيها انه اكرمه وحباه بمئة من الابل، وانه يريش قوما ويبري اخرين، وانه يجزي الناس على أفعالهم.
ونجد في قصيدة للنابغة مطلعها: أهاجك من أسماء رسم المنازل بروضته نعمى فذات الأجاول
خبر غزو قام به "عمرو بن الحارث" لبني مرة، وقد أوجعهم فيها على ما يظهر من هذه القصيدة.
هؤلاء الستة الذين ذكرهم حمزة بعد الحارث بن جبلة، هم أبناؤه إذن، وقد حكموا على زعمه بالتعاقب دون فترة. ثم نقل الحكم من عمرو الى رجل دعاه جفنة الأصغر، وهو على رأيه ابن المنذر بن الحارث. ولم يذكر أي منذر قصد. وذكر أنه كان سيارة جوابا. ثم هلك، وكان ملكه ثلاثين سنة.
وحكم بعد جفنة الأصغر على رواية حمزة النعمان الأصغر بن المنذر الأكبر. حكم سنة واحدة، ولم ينسب اليه بناء ما.
ثم انتقل الحكم على زعم حمزة إلى النعمان بن عمرو بن المنذر ولم يكن أبوه عمرو على رأي حمزة ملكأ، وانما كان غازيأ يغزو بها بالجيوش، وكان ملكه سبعا وعشرين سنة، ونسب إليه بناء "السويدا" و "قصر حارب".
وذكر حمزة إن "عمرو" المذكور، أي والد النعمان على زعمه، هو الذي مدحه النابغه بقوله: على لعمرو نعمة بعد نعمة لوالده ليست بذات عقارب
وذكر انه، أي النابغة "ذكر أباه المنذر بقوله": وقصر بصيداء التي عند حارب

(1/1715)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد أخطأ حمزة في ذهابه إلى أن الشخص الممدوح هو "النعمان بن عمرو"، فان رواة هذا الشعر يذكرون إن الملك الممدوح الذي قصده النابغة بمديحه، هو "عمر بن الحارث بن أبي شمر" المتقدم ذكره، وهو شقيق "النعمان بن الحارث ابن أبي شمر" الذي مدحه النابغة كذلك، وكانت له صلات حسنة وثيقة به.
وجعل حمزة بعد النعمان ابنه جبلة وزعم إن منزله ب "صفين"، وانه صاحب "عين أباغ"، وقاتل المنذر بن ماء السماء، وكان ملكه ست عشرة سنة.
ثم ملك - بعد جبلة - النعمان بن الأيهم بن الحارث بن مارية، وكان ملكه إحدى وعشرين سنة لم يحدث خلالها على حد قول حمزة شيء، فتولى من بعده النعمان بن الحارث، وهو الذي أصلح صهاريج الرصافة، وكان بعض ملوك لخم خربها، وكان ملكه ثماني عشرة سنة.
ويرى "الويس موسل" إن النعمان هذا كان قد حارب الفرس من حوالي سنة "4 0 6" حتى سنة "16 6 م"، وانه قد احتمى مرارا بأسوار الرصافة. وبهذه المناسبات على ما يظهر قام بترميم صهاريج المدينة لخزن الماء.
وذكر حمزة اسم "المنذر بن النعمان" بعد النعمان بن الحارث، وهو ابنه. قال: ولم يحدث شي في أيامه، ثم هلك وكان ملكه تسع عشرة سنة.
ثم صار الحكم من بعده - على رأي حمزة- إلى عمرو بن النعمان. وهو شقيقه ولم يحدث شيئا في أيامه، ثم هلك، وكان ملكه ثلاثا وثلاثين سنة وأربعة أشهر. ثم انتقل الحكم إلى حجر بن النعمان، وهو شقيق عمرو، وجعل حمزة ملكه اثنتي عشرة سنة. ثم صير الملك إلى ابنه من بعده، وهو الحارث بن حجر. وجعل ملكه ستا وعشرين سنة.
وصير حمزة الملك إلى جبلة بن الحارث " بعد وفاة والده "الحارث بن حجر". وجعل مدة حكمه سبع عشرة سنة وشهرا واحدا.

(1/1716)


--------------------------------------------------------------------------------

ثم صير حمزة الحكم إلى "الحارث بن جبلة"، وهو على رأيه ابن الملك المتوفى "جبلة بن الحارث". وذكر حمزة أنه يسمى أيضا ب "الحارث بن أبي شمر"، وهو الذي أوقع ببني كنانة، وكان يسكن الجابية. وكان ملكه إحدى وعشرين سنه وخمسة أشهر. ويجب إن يكون هذا الحارث هو "الحارث اين أبي شمر الغساني"، الذي ذكر أن الرسول وجه كتابا إليه، حمله إليه: شجاع بن وهب كما سياتي فيما بعد.
وذكر حمزة أن الذي حكم بعد "الحارث بن جبلة"، هو ابنه "النعمان بن الحارث"، وكنيته "أبو كرب"، ولقبه "قطام"، وهو الذي بنى ما أشرف على "الغور الأقصى". وكان ملكه سبعا وثلاثين سنة وثلاثة أشهر.
وقد اخطأ حمزة في إضافة لقب "قطام" الى النعمان بن الحارث، ولا نعرف إن أحدا اضاف هذا اللقب إليه.

(1/1717)


--------------------------------------------------------------------------------

ونجد للنابغة الذبياني أشعارا في مدح "النعمان" المذكور،وكان يزوره ويتوسط لديه في فك أسرى قومه الذين كانوا يقعون في أسر الغساسنة، وذلك بسبب غاراتهم المتوالية على بني غسان وأعرابهم. وكان قومه "بنو ذبيان" وحلفاؤهم "بنو أسد" إلى جانب عرب الحيرة، وكانوا ينقمون على الغساسنة ويغيرون دوما على أرضهم، فيتدخل النابغة لدى الغساسنة للصفح عن قومه، ويتوسل اليهم في فك أسرهم. ولما أغار قومه على وادي "ذي اقر"، نهاهم النابغة عن هذه الغارة، وحذرهم من عواقبها، وهولهم بكثرة ما لدى "النعمان بن الحارث"، من جموع وحشود، غير انهم لم يهتموا بنصح النابغة، ولم يحفلوا بتخويفه لهم، بل عدوا نصيحته هذه لهم من امارات الخوف والجبن، فتصدت لهم أعراب "النعمان" بقيادة "النعمان ين الجلاح الكلبي"، وأوقعت بهم خسائر فادحة، ويذكر بعض الرواة أن "ابن الجلاح" سبى ستين أسيرا وأهداهم إلى قيصر الروم. ولم يتطرقوا لبيان الأسباب التي أدت بالغساسنة إلى اهداء هؤلاء الأسرى إلى الروم. وأعتقد إن اقحام "قيصر الروم" في هذا الاهداء، هو من مبالغات الرواة، وقد عودونا أمثال هذه المبالغات. إلا أن يكون أولئك الأعراب قد غزوا حدود الروم، فأوجعوا أهلها، فقدم "ابن الجلاح" الذي تعقبهم، من وقع في أسره إلى حاكم من حكام الروم لتأديبهم.
وقد طلب "النابغة" في شعره في وصف هذه الغارة من "حصن بن حذيفة" سيد "ذبيان" ومن "ابن سيار" فك من وقع أسيرا من النساء دفعا للخزي والعار من وقوعهن "أسيرات في أيدي العضاريط من الأتباع والأجراء.

(1/1718)


--------------------------------------------------------------------------------

ونجد النابغة يحذر "النعمان" من غزو "بني حن بن حرام"، وينصحه بعدم التورط في قتالهم، لأنهم أناس محاربون صعاب. فلما أبى إلا قتالهم، بعث النابغة إلى قومه يخبرهم بغزو النعمان لهم، ويأمرهم أن يمدوا بني حن، ففعلوا. فلما غزاهم النعمان، هزم بنو حن وبنو ذبيان جمعه، وحازوا ما معهم من الغنائم، فقال النابغة في ذلك شعرا منه: لقد قلت للنعمان يوم لقيته يريد بني حن ببرقة صادر
تجنب بني حن فان لقاءهم كريه، وإن لم تلق إلا بصابر
فهو يعاتب بذلك النعمان، ويذكره بعدم اهتمامه بنصحه له، وتخويفه اياه من عاقبة هذه الغارة.
وكان في جملة ما قاله النابغة عن بني حن بن حرام، وهم من عذرة، انهم كانوا قد منعوا "وادي القرى" عن عدوهم ومن أهله وحموه منهم، وهو كثير النخل، فتمنعوا بثمره، وطردوا "بليا"، وهم من "بني القين" وهم أصحابه من هذا الوادي، واستولوا على نخيلهم، ونفوهم إلى غير بلادهم، وهم الذين ضربوا أنف الفزارى، وهم الذين منعوها من قضاعة كلها ومن "مضر الحمراء"، وقتلوا الطائي بالحجر عنوة، ويريد به "أبا جابر الجلاس ابن وهب بن قيس بن ****، وكان ممن اجتمع عليه جديلة طيء. ومثل هؤلاء قوم لا يغلبون.
ويظهر من شعر للنابغة إن "النعمان" كان قد غزا تميما وقيس وائل، وانه أوجعهم، وقد غزاهم في الربيع.
وللنابغة أشعار أخرى في مدح "النعمان" هذا، منها أبيات استهلها بقوله: والله والله لنعم الفتى إذ أعرج، لا النكس ولا الخامل
وقد أدرك النابغة أجل "النعمان بن الحارث بن أبي شمر"، اذ مات مقتولا فرثاه بقصيدة، يظهر منها انه كان يكنى ب "أبي حجر"، وانه قبر في موضع يقع بين "بصرى" و "جاسم".
وقد غزا "النعمان" العراق، ولا يستبعد "نولدكه" أن يكون هو الذي قصده المؤرخ "ثيوفلكتوس" حين تحدث عن غزو قام به عرب الروم على العراق في زمن الصلح أي حوالي سنة "600 م".

(1/1719)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد مدح النابغة "النعمان بن الحارث الأصغر" في القصيدة التي تبدأ بقوله: إن يرجع النعمان نفرح ونبتهج ويأت معدا ملكها وربيعها
ويرجع إلى غسان ملك وسؤدد وتلك التي لو اننا نستطيعها
ورثى "النابغة" النعمان في قصيدة جاء فيها إن شيبان وذهلا وقيس بني ثعلبة وتميما سروا بوفاته، لأنهم أمنوا بذلك على أنفسهم من غاراته ومن غزوه لهم. ويظهر من شعر النابغة فيه انه كان محاربا يغزو القبائل، ولذلك هابته. وقد بكاه بقوله: بكى حارث الجولان من فقد ربه وجوران منه خاشع متفائل
وذكر "ابن قتيبة" إن النابغة لما صار إلى غسان، انقطع إلى "عمرو بن الحارث الأصغر بن الحارث الأعرج بن الحارث الأكبر بن أبي شمر الغساني" والى أخيه "النعمان بن الحارث"، فأقام النابغة فيهم فامتدحهم، فغم ذلك النعمان بن المنذر ملك الحيرة، وبلغه إن الذي قذف به عنده باطل، فبعث إليه من يسأله أن يعود، فاعتذر النابغة في شعر، وقدم عليه مع زياد بن سيار ومنظور بن سيار الفزاريين، وقبل عذره ورحب به.
ثم ملك بعده - على رأي حمزة - الأيهم بن جبلة بن الحارث بن أبي شمر، وهو على حد تعبيره صاحب "تدمر" و "قصر بركة" و "ذات أنمار" وغير ذلك.
ثم ملك بعد الأيهم بن جبلة شقبقه المنذر بن جبلة، وكان ملكه على رواية حمزة ثلاث عشرة سنة.
ثم صار الملك إلى شقيقه "شراحيل بن جبلة" على رواية حمزة. وكان ملكه خمسا وعشرين سنة وثلاثة أشهر.
ثم انتقل الحكم إلى "عمرو بن جبلة" بعد وفاة "شراحيل" وهو على رأي حمزة شقيقه، وقد حكم عشر سنين وشهرين.
ثم حول حمزة الحكم إلى "جبلة بن الحارث"، بعد وفاة "عمرو بن جبلة"، وهو على رأيه ابن أخيه. وجعل حكمه أربع سنين.

(1/1720)


--------------------------------------------------------------------------------

ثم صير حمزة الملك إلى "جبلة بن الأيهم بن جبلة بن الحارث بن مارية"، وهو على رأيه آخر ملوك غسان. وكان ملكه ثلاث سنين. وهو الذي كان أسلم ثم تنصر، ولجأ إلى الروم. وقد سرد المسعودي نسبه على هذه الصورة: "جبلة بن الأيهم بن جبلة بن الحارث بن حجر بن النعمان بن الحارث بن الأيهم ابن الحارث بن جبلة بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة"، وسرده على هذه الصورة: "جبلة بن الأيهم بن جبلة بن الحارث بن ثعلبة بن مازن" في مكان آخر.
وذكره "ابن عبد ربه" على هذه الصورة: "جبلة بن الأيهم بن أبي شمر الغساني". وذكر "الذهبي" أن الأصل هو "الأهيم"، لا "الأيهم"، وكناه ب "أبي المنذر"، وقال إنه كان ينزل "الجولان".
وقد وصف بأنه كان طويلا، طوله اثني عشر شبرا، وكان إذا ركب مسحت قدمه الأرض.
وقد ورد اسم "جبلة بن الأيهم" في أخبار الفتوحات الاسلامية لبلاد الشام، إذ ذكر في "فتوح البلدان" للبلاذري: أن "هرقل" لما سمع بتجمع المسلمين ومقدمهم "يوم اليرموك"، بعث على مقدمته "جبلة بن الأيهم الغساني" في مستعربة الشام من لخم وجذام وغيرهم لمقاتلة المسلمين، غير أن "جبلة" انحاز في القتال إلى الأنصار قائلا: "أنتم إخوتنا وبنو أبينا، وأظهر الإسلام ".
أما الطبري فقد ذكر: أن خالدا لما صار إلى "مرج الصفر"، لقي عليه غسان، وعليهم "الحارث بن الأيهم". ولم يشر إلى جبلة. فيظهر أن وهما في الاسم قد وقع للرواة، فصار "جبلة" عند بعض، وصار "الحارث" عند بعض آخر، ولعل مرده إلى سهو وقع من النساخ.
ولحسان بن ثابت شعر في مدح "جبلة بن الأيهم"، وفي ذكر ملكه وملك "آل جفنة "، يظهر منه شدة تعلقه بهم على بعده عنهم وزوال ملكهم وابتعاده عنهم بالاسلام. وقد أورد المسعودي بعض الأشعار التي مدح حسان بها "جبلة ابن الأيهم" منها: أشهرنها فإن ملكك بالشا م إلى الروم فخر كل يماني

(1/1721)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ورد في رواية من روايات أهل الأخبار أن حسان بن ثابت زار "جبلة ابن الأيهم"، وعنده "النابغة" و "علقمة بن عبدة" فانشده شعرا، فأعطاه ثلاثمئة دينار وعشرة أقمصة لها جيب واحد، في كل عام مثلها. وتذكر رواية أخرى إن الشخص الذي زاره "حسان" هو "عمرو بن الحارث الأعرج"، وأنه مدحه فأعطاه الف دينار مرجوحة، وهي التي في كل دينار عشرة دنانير.
وذكر إن "جبلة بن الأيهم" لما سمع، وهو ببلاد الروم، أن حسانا قد صار مضرور البصر كبير السن، أرسل إليه خمسمائة دينار وخمسة أثواب ديباج، فلما سلمها الرسول الذي حمل الهدية إليه، نظم شعرا في مدحه أوله: إن ابن جفنة من بقية معشر لم يغذهم آباؤهم باللؤم
لم ينسني بالشام إذ هو ربها كلا ولا متنصرا بالروم
وأخذ يراجع ذكريات تلك الأيام الخالية التي قضاها معه ومع بقية آل غسان.
وقد اتفقت روايات أهل الأخبار في موضوع دخول جبلة في الإسلام، ثم في ارتداده، إلا رواية واحدة ذهبت إلى انه لم يسلم. وقد ذهب أكثرهم في سبب ردته إلى إن أعرابيا من فزارة وطىء فضل إزار جبلة وهو يسحبه في الأرض بمكة، فلطمه جبلة، فنابذه الأعرابي إلى عمر، فحكم عمر له بالقصاص، فعد" جبلة القصاص اهانة له وهو ملك، ففر إلى بلاد الروم وارتد بها، وبقي بها مرتدا حتى وافته منيته. ولكن رواية "ابن قتيبة"، تختلف عن رواية أكثر أهل الأخبار في موضوع المكان الذي كان السبب في ارتداده عن الإسلام،اذ جعلته مدينة "دمشق"، قالت: "وكان سبب تنصره انه مر في سوق دمشق، فأوطأ رجلا فرسه، فوثب الرجل فلطمه، فأخذه الغسانيون فأدخلوه على أبي ****ة بن الجراح، فقالوا: هذا لطم سيدنا. فقال أبو ****ة بن الجراح: البينة إن هذا لطمك. قال: وما تصنع بالبينة ? قال: إن كان لطمك لطمته بلطمتك. قال: ولا يقتل? قال: لا. قال: ولا تقطع يده. قال: لا. انما أمر الله بالقصاص، فهي لطمة بلطمة. فخرج جبله ولحق بأرض الروم وتنصر".

(1/1722)


--------------------------------------------------------------------------------

ونجد خبر "ابن قتيبة" المذكور مدونا في كتاب "الطبقات" لابن سعد، حيث جاء: "وكتب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى جبلة بن الأيهم ملك غسان يدعوه إلى الإسلام، فأسلم وكتب باسلامه إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، واهدى له هدية ولم يزل مسلما حتى كان في زمان عمر بن الخطاب، فبينما هو في سوق دمشق اذ وطىء رجلا من مزينة، فوثب المزني فلطمه، فأخذ وانطلق به إلى أبي ****ة بن الجراح، فقالوا: هذا لطم جبيلة،قال: فليلطمه، قالوا: وما يقتل ? قال: لا، قالوا: فما تقطع يده ? قال: انما أمر الله، تبارك وتعالى بالقود. قال جبلة: أو ترون اني جاعل وجهي ندأ لوجه جدي جاء من عمق ! بئس الدين هذا ! ثم ارتد نصرانيا ! وترحل بقومه حتى دخل أرض الروم، فبلغ ذلك عمر، فشق عليه، وقال لحسان بن ثابت: أبا الوليد، أما علمت أن صديقك جبلة بن الأيهم ارتد نصرانيا ? قال: وحق له، فقام اليه عمر بالدرة فضربه بها".
وذكر بعض أهل السير والأخبار، أن الرسول كتب إلى جبلة بن الأيهم آخر ملوك غسان، كتابا دعاه فيه إلى الإسلام. فلما وصل الكتاب أسلم، وكتب إلى الرسول يعلمه باسلامه. و ذكر أن "شجاع بن وهب" انما بعثه رسول الله إلى جبلة، فأسلم، وأرسل إلى رسول الله هدية. وكان ينزل بالجولان.

(1/1723)


--------------------------------------------------------------------------------

وتزعم بعض الروايات أنه زار المدينة في خلافة "عمر". وقد عد يوم مجيئه اليها من الأيام المشهورة، اذ جاء اليها في موكب حافل كبير فيه خيول كثيرة لم تر المدينة مثلها من قبل، وخرج الناس إلى الطرق لرؤية موكبه. وفرح عمر بمجيئه، وعد ذلك توفيقا من الله للاسلام، وأكرمه غاية الاكرام. وبعد أن قابل الخليفة، استأذن منه بالذهاب إلى الحج، فوقع له عندئذ حادث الإزار مع الأعرابي، ففر إلى بلاد الروم، ويقال: انه توفي بالقسطنطينية سنة عشرين من الهجرة. وذكر أنه لما قدم المدينة كان في خمسمئة فارس من عك وجفنة. فلما دنا من المدينة ألبسهم ثياب الوشي المنسوج بالذهب والفضة، ولبس تاجه وفيه قرط مارية وهي جدته، فلم يبق يومئذ بالمدينة أحد الا خرج ينظر إليه.
وقد ذكر "البلاذري" أن "جبلة بن الأيهم" حكم بعد "الحارث بن أبي شمر". وروى أنه لما قدم "عمر" الشام سنة "17" للهجرة، حدث أن لطم "جبلة" رجلا من مزينة على عينه، فأمره عمر بالاقتصاص منه، فقال: او عينه مثل عيني ! والله لا أقيم ببلد علي به سلطان. فدخل بلاد الروم مرتدا. وروى رواية أخرى خلاصتها أن جبلة أتى عمر على نصرانية، فعرض عمر عليه الإسلام، ولكنه لم بتفق مع عمر. فلما قال له عمر: ما عندي لك الا واحدة من ثلاث: إما الإسلام، وإما أداء الجزية، وإما الذهاب إلى حيث شئت. فدخل بلاد الروم في ثلاثين ألفا فلما بلغ ذلك عمر ندم.
وتذكر رواية أن "جبلة بن الأيهم" عاش في القسطنطينية حتى مات سنه عشرين من الهجرة.

(1/1724)


--------------------------------------------------------------------------------

فنحن أمام روايتين بشأن مكان ردة جبلة، وتجاه رواية عن إسلامه. رواية تجعل ارتداده في مكة، ورواية تجعل ارتداده بدمشق، ورواية تذكر أنه لم يدخل مطلقا في الإسلام. ويظهر أن رواية دمشق هي أقرب إلى المنطق، اذ لا يعقل فرار جبلة من مكة إلى بلاد الروم بمثل هذه السهولة التي تخيلها أهل الأخبار، وبينه وبين بلاد الروم مسافات شاسعة ما كان في امكانه قطعها قط والنجاة من تعقب المسلمين له، لو كان موضع هربه هو مكة. أما دمشق، فانها قريبة من حدود الروم، ولدى جبلة فيها وسائل كبيرة تساعده على الهرب.
والرأي عندي أن جبلة، لم يدخل ابدا في الإسلام، وانما بقي مع الروم. وغادر بلاد الشام معهم، وكان يحارب المسلمين إلى جانبهم، وانتقل بأتباعه ممن بقوا على دينهم إلى بلاد الروم فأقآموا بها، وقد مات هناك ودفن في تلك البلاد. وما هذا الذي روي عن اسلامه وعن زيارته ليثرب ولمكة إلا من قصص القصاص وضعوه فيما بعد.
إن ما يذكره أهل الأخبار من ملك "جبلة"، لا يخلو من مبالغة. وما يقال عن ملكه وعن استقبال "هرقل" له، ذلك الاستقبال العظيم، لا- يخلو من مبالغة أيضا. نعم من الجائز أن الروم قبلوه لاجئا، ورحبوا به وساعدوه على أمل استخدامه لمهاجمة المسلمين، واسترداد بلاد الشام منهم. غير أننا لا نستطيع أن نوافق على ما ورد في روايات. أهل الأخبار من ذلك الوصف الذي ذكروه من احتفال الروم في القسطنطينية. ومن المعيشة التي كان يعيشها في عاصمتهم إلى حين وفاته. بل لقد شك بعض المستشرقين مثل "نولدكه" حتى في موضوع تملكه وتولية الحكم له على عرب الشام.
ونجد في خبر فتح دومة الجندل، رجلا من غسان كان قد تزعم قومه وجاء في "طواف من غسان وتنوخ" لنجدة أهل "دومة الجندل". وقد دعاه "الطبري"، "ابن الأيهم". ولم يشر إلى اسمه.

(1/1725)


--------------------------------------------------------------------------------

ونجد في "العقد الفريد" وصفا لمجلس "جبلة" ولمسكنه في القسطنطينية لا يخلو من مبالغة، وقد كتب وصفه إلى الرسول ذكر أن الخليفة عمر كان قد أرسله إلى "هرقل" ليدعوه إلى الإسلام. ويذكر الرسول الموفد أن "هرقل"" هو الذي أشار عليه بزيارة قصر "جبلة" فلما ذهب إليه، وجد على بابه من القهارمة والحجاب وكثرة الجمع مثل الذي على باب "هرقل"، ثم وصف مجلسه وأرائكه المرصعة بالجواهر، وغناء الجواري.في مجلسه بغناء حسان بن ثابت مما يجعله في ثراء الملوك الحاكمين لا الملوك الفارين.
واسم الرسول المذكور هو "جثامة بن مساحق الكناني". ويذكر بعض أهل الأخبار أن الخليفة معاوية أرسل "عبد الله بن مسعود الفزاري" إلى ملك الروم فوجد عنده "جبلة بن الأيهم "،فوصف مجلسه وما كان عليه من فاخر الملبس والمأكل والمسكن، وهو كلام فيه مبالغات وغلو في الكلام، على نمط ما رأيناه في وصف "جثامة". وهو يتفق معه في الخبر. والظاهر أن الرواة قد أخطأوا في هذا الخبر، فنسبوه مرة إلى رسول عمر،ونسبوه مرة أخرى إلى رسول معاوية.
ملوك الغساسنة
وعدة ملوك الغساسنة على رواية حمزة اثنان وثلاثون ملكا، ملكوا ستمائة وست عشرة سنة. أما "المسعودي"، فجعل عددهم أحد عشر ملكا.
وقد رتب المسعودي اسماء الملوك على هذا النحو: "الحارث بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرىء القيس."، ثم "الحارث بن ثعلبة بن جفنة بن عمرو" ثم "النعمان بن الحارث بن جبلة بن الحارث بن ثعلبة بن جفنة"، ثم "المنذر أبو شمر بن جبلة بن ثعلبة"، ثم "عوف بن أبي شمر"، ثم "الحارث بن أبي شمر"، وكان ملكه حين بعث رسول الله، ثم جبلة بن الأيهم. والأسماء المذكورة هي أقل من الرقم المذكور كما نرى بكثير، إذ هي سبعة فقط، على حين يجب أن تكون بحسبروايته أحد عشر اسم.

(1/1726)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي الذي ذكره حمزة عن مدة حكم الغساسنة، مبالغة فلو أخذنا بالعدد الذي ذكره لمجموع ملوكهم، وهو ست عشرة وستمائة سنة، لوجب علينا القول بأن ابتداء حكمهم كان حوالي الميلاد. وهو قول لم يقله أحد، ولا يؤيده أي سند أو دليل. والذي نعرفه أن مدة حكهم هي دون المدة المذكورة بكثير، كما أن في الترتيب الذي ذكره حمزة لملوكهم تكرارا وزيادات. وهو يخالف ما نراه عند المؤرخين الآخرين الذين تعرضوا لآل غسان.
وتختلف قائمة "ابن قتيبة الدينوري" بأسماء ملوك غسان اختلافا كبيرا عن قائمة "حمزة" وعن قائمة "المسعودي". وقد ذكرت فيما مضى أنه جعل "الحارث بن عمرو" المعروف بمحرق أول ملك من ملوك غسان، ثم جعل من بعده الحارث الأعرج،ثم الحارث الأصغر، ثم النعمان،وهو شقيق الحارث الأصغر. وقد ذكر أنه كان للنعمان بن الحارث ثلاثة بنين هم: حجر بن النعمان وبه كان يكنى، والنعمان بن النعمان، وعمرو بن النعمان. وقال إن فيهم يقول حسان ابن ثابت: من يغر الدهر أو يأمنه من قتيل بعد عمرو وحجر
ملكا من جبل الثلج إلى جانبي أيلة من عبد وحر
وقال "ابن قتيبة الدينوري": ومن ولد الحارث الأعرج أيضا عمرو بن الحارث،الذي كان النابغة صار إليه حين فارق النعمان بن المنذر،وفيه يقول النابغة: علي لعمرو نعمة بعد نعمة لوالده ليست بذات العقارب
قال: وكان يقال لعمرو أبو شمر الأصغر، ومن ولده المنذر بن الحارث، والأيهم بن الحارث، وهو والد جبلة بن الأيهم آخر ملوك غسان.
وقد ذكر في كتب السير والتواريخ اسم أمير غساني، هو الحارث بن أبي شمر الغساني، وهو الذي أرسل الرسول إليه شجاع بن وهب ليطلب إليه الدخول في الإسلام، وكان ملكه على ما يذكره الأخباريون في الشام، وكان له قصر منيف وحجاب. وذكر الطبري أنه كان "صاحب دمشق". وقد أدخله "محمد بن حبيب" في جملة "العرجان الأشراف. وقد عرف ب "الحارث الأصغر" في شعر لحسان بن ثابت.

(1/1727)


--------------------------------------------------------------------------------

وأرى إن الحارث بن أبي شمر هدا هو "الحارث" معاصر "جبلة بن الأيهم" الذي أشار حسان إليه.
وقد كان "حسان بن ثابت " زار الحارث بن أبى شمر الغساني، وكان النعمان بن المنذر اللخمي يساميه، فقال له وهو عنده: يا ابن الفريعة، لقد نبئت أنك تفضل النعمان علي فقال: وكيف أفضله عليك ثم أخذ يشرح تفضيله له على النعمان حتى سر الحارث، ثم عاد حسان فنظم ما قاله نثرا فيه في أبيات زادت من سروره، وحصل، على جوائزه وعطاياه.
وذكر أن حسان بن ثابت كان يفد على جبلة بن الأيهم سنة، ويقيم سنة في أهله. فقال: "لو وفدت على الحارث أبي شمر الغساني فإن له قرابة ورحما بصاحبي، وهو أبذل الناس للمعروف، وقد يئس مني ان أفد عليه لما يعرف من انقطاعي إلى جبلة. فخرج في السنة التي كان يقيم فيها بالمدينة، حتى قدم على الحارث، وقد هيأ له مديحا. فقال له حاجبه وكان له ناصحا: "إن الملك قد سر بقدومك عليه، وهو لا يدعك حتى تذكر جبلة. فإياك أن تقع فيه، فانما يريد أن يختبرك، وإن رآك قد وقعت فيه زهد فيك، وإن رآك تذكر محاسنه ثقل عليه، فلا تبتدئ بذكره، وإن سألك عنه، فلا تطنب في الثناء عليه ولا تعيبه، امسح ذكره مسحا وجاوزه إلى غيره. ثم نصحه بنصائح أخرى تنم عن سلوك الحارث، وقد أفادته كثيرا. فلما دخل عليه، حسنت منزلته عنده وصار يدعوه،ثم حباه وأعطاه خمسمئة دينار وكسي و ألطافا وعاد إلى أهله. ولو صح هذا الخبر، فانه يدل على إن أمر الغساسنة في هذا ألوقت لم يكن واحدا، وان حكمهم كان قد تبدد وتشتت. وان جبله بن جبلة كان يحكم على جماعة من غسان، والحارث بن أبي شمر كان يحكم في الوقت نفسه على جماعة أخرى، وكل منهما كان يحلي نفسه بحلية الملك، ومن يدري فلعل أشخاصا آخرين. كانوا ينازعونهما الحكم أيضا، ويحلون أنفسم بلقب "ملك"، اللقب الحبيب الذي لم يكن يرتفع في الواقع عن درجة سيد قبيلة أو "شيخ" عشيرة في اصطلاحنا في الوقت الحاضر.

(1/1728)

admin
12-27-2010, 01:55 AM
وقد ذكر أهل الأخبار اسم رجل قالوا انه كان قائدا من قواد "الحارث بن ابي شمر"، ودعوه ب "النعمان بن وائل بن الجلاح الحلي"، وذكروا انه أغار على بني فزارة وبني ذبيان، فاستباحهم، وسبي سبيا من غطفان. وأخذ "عقرب" بنت النابغة الذبياني. فلما سألها، فانتسبت إلى أبيها، من عليها ثم أطلق له سبي غطفان. فلما سمع بذلك النابغة، مدحهه بقصيدة. وسبق أن تحدثت عن النعمان بن الجلاح الكلبي" في أثناء كلامي على الملك "النعمان بن الحارث" حين أغار قوم النابغة على أعراب "النعمان بن الحارث" بوادي أقر،وكان النابغة قد نهى قومه وحذرهم من التحرش بهم فخالفوا رأيه،فأوقع بهم "ابن الجلاح" خسائر فادحة.
وفي ديوان حسان قصيدة، مطلعها: إني حلفت يمينا غير كاذبة لو كان للحارث الجفني أصحاب

(1/1729)


--------------------------------------------------------------------------------

يذكر شراحها أنه نظمها في رثاء ألحارث الجفني"، وقالوا إن الحارث الجفني المذكور هو الحارث بن أبي شمر الغساني. وقد ذكروا أنه دافع فيها عن هزيمة أدركت الحارث في إحدى حروبه، فعاد ومن معه بغير أسلاب ولا أسرى بل يظهر من أبياتها أن العدو أوقع به فقتل من جمعه، وقد اعتذر الحارث بأن من معه لم يكونوا من "جذم غسان" وإنما كانوا من "مأشبة الناس" اي جماعة أوشاب الناس وأوباشهم أي الأخلاط التي تجتمع من كل أوب. ومثل هؤلاء لا تكرثهم الهزيمة، ولا يبالون بذلك، إذ لا أحساب لهم ولا شرف، فلا عجب إن أصيب بخيبة في هذه المعركة ومعه مثل هؤلاء الناس. ويظهر من القصيدة المذكورة، أن الحارث ين أبي شمر، كان قد توفي قبل "جبلة بن الأيهم ". وذلك لرثاء حسان له ولاجماع أهل الأخبار على إن جبلة عاش أمدا بعد ظهور الإسلام، وأنه مات في بلاد الروم بعيدا عن بلاد الشام وعن أرض آبائه وأجداده. وبدليل ما ورد في تأريخ الطبري من أن الرسول ارسل شجاعا بن وهب إلى رجل من غسان اسمه "المنذر بن الحارث بن أبي شمر الغساني". يدعوه إلى الإسلام. وهذا الرجل هو أحد أبناء الحارث المذكور. وذكر الأخباريون رجلا آخر من غسان، دعوه "عديا"، وقالوا إنه ابن اخت الحارث بن أبي شمر الغساني، وإنه اغار على بنى أسد، فلقيته "بنو سعد ابن ثعلبة بن دودان" بالفرات، ورئيسهم "ربيعه بن حذار الأسير"،فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتلت بنو سعد عديا. وقد سمي "محمد بن حبيب" هذا اليوم الذي وقع فيه القتال "يوم الفرات".
وأشار الواقدي إلى ملك غساني اسمه "شرحبيل بن عمرو الغساني". وذكر أنه قتل رسول رسول الله الى ملك بصرى في مؤتة. ويشك "نولدكه"في نسبة هذا الأمير إلى الغسانيين، وحجته في ذلك أن الواقدي ذكره في موضع اخر مع أخويه "سدوس" و "بر"، ونسبه في هذا الموضع الى الأزد. ثم انه لم يكن من عادة الغساسنة على رأيه ذكر لقب الغساني بعد الاسم.

(1/1730)


--------------------------------------------------------------------------------

وأشير في كتب الأدب إلى اسم ملك من ملوك "غسان" قالوا له "قرص"، لم يذكروا عنه شيئا ذكروه في حديثهم عن. "عدي" قالوا: انه ابن "أخي قرص الغساني"، وكان "عدي" هذا قد غزا "بني أسد" فقتلوه،وأوردوا في ذلك شعرا نسبوه إلى الغساني: لعمرك ما خشيت على عدي رماح بني مقيدة الحمار
ولكني خشيت على عدي رماح الجن أو اياك حار
ولم يرد اسم هذا الملك في القوائم التي وضعها المؤرخون أمثال اليعقوبي والطبري والمسعودي وابن خلدون وامثالهم لملوك غسان. وعدي المذكور في خبر "قرص"، هو "عدي" المتقدم ولا شك.
وقد وفد " حسان بن ثابت" على "عمرو بن الحارث"، فاعتاص الوصول إليه، فلما طال انتظاره، قال للحاجب: "إن أذنت لي عليه، وإلا هجوت اليمن كلها، ثم انقلبت عليكم". فأذن له ودخل عليه، فوجد عنده "النابغة" وهو جالس عن يمينه، و "علقمه بن عبدة" وهو جالس عن يساره، فقال له "عمرو": "يا ابن الفريعة قد عرفت عيصك ونسبك في غسان فارجع، فاني باعث اليك بحلة سنية ولا احتاج إلى الشعر، فإني أخاف عليك هذين السبعين: النابغة وعلقمة، أن يفضحاك، وفضيحتك فضيحتي" ثم تلا عليه شعرا مما قاله الشاعران في مدحه. فأبى إلا إن يقول شعرا فيه، وطلب من الشاعرين أن يسمحا له بالقول، فقال في قصيدته التي تبدأ بقوله: أ سألت رسم الدار أم لم تسأل بين الجوابي فالبضيع فحومل
وقد أورد في هذه القصيدة أسماء مواضع، منها: "الجوابي"، أي "جابية الجولان"، و "البضيع" أو "البصيع"، وهو جيل قصير أسود على تل بأرض البلسة فيما بين "سيل" و "ذات الصنمين" و "حومل" و "مرج الصفرين"، وهو موضع بغوطة دمشق، و "جاسم"، وهي قرية بينها وبين دمشق ثمانية فراسخ على يمين الطريق إلى طبرية. وكل هذه الأماكن الي ذكرها هي منازل كانت لال جفنة، الا انها خربت، وتركها أهلها حتى صارت دوارس تعاقبها الرياح.

(1/1731)


--------------------------------------------------------------------------------

ثم تطرق إلى ذكر من كان يناديهم ب "جلق "، وهو موضع قيل انه بقرب دمشق، وقيل انه "دمشق": كيف كانوا كرماء أجوادا يجودون على من يفد عليهم، لا فرق عندهم بين غني وفقير، يمشون في الحلل القشيبة المضاعف نسجها، ويجيرون من يستجير بقبر أبيهم "ابن مارية الكريم المفضل"،فلا يخاف من عدو ولا يخشى من اعتداء يقع عليه. كلابهم لا تهر، لأنها ألفت الضيوف وأنست بهم من كثرة تدفقهم عليهم، يسقون ماء باردا من "البريص"، ومن "بردا"، وهما نهران بدمشق، ممزوجا بالرحيق. ثم تذكر "قصر دومة" أي دومة الجندل، وكيف شرب الخمر في حانوتها من ساق متنطف أي مقرط وضع القرط في أذنه، والمنطقة في وسطه.
وجلق كما ذكرت موضع من مواضع الغساسنة، ويشير أن سلطان البيزنطيين لم يكن كبيرا عليه. وقد اشتهر ببساتينه وبكثرة أشجار الزيتون به، وبوفرة مياهه وقد تغنى به الشعراء في الإسلام، فورد ذكره في شعر أبي نواس. وكان الغساسنة يدفنون فيه موتاهم. ولهم ضريح ضم رفات ملوكهم. ومع شهرة المكان فقد اختلف الناس في تثبيت موضعه وتعيينه. والرأي الغالب انه ليس من أطراف دمشق كما ذهب، إلى ذلك بعض أهل الأخبار.
وقد ترك الروم ساقتهم ب "ثنية جلق"، وعليها صاحب الساقة، وذلك ليراقب المسلمين حينما تقدموا لطردهم من بلاد الشام. ولم يرد للغساسنة أي ذكر في الدفاع عن هذا المكان.
ويظهر من نظم هذه القصيدة، ومن أسلوبها ونفسها ومن تذكر "حسان" لآل جفنة بعد أن كبر وتقدمت به السن، إن هذا الشعر هو من الشعر ألمتأخر،ولا أستبعد أن يكون قد نظمه بعد زوال ملك "الغساسنة"، وقد أنشده أمام أحد الغساسنة المتأخرين، ولم يكن ملكا بالمعنى المفهوم من الملك.

(1/1732)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد رثى حسان بن ثابت رجلا من غسان قتله كسرى، ولم يذكر اسمه، ولا الأسباب التي حملت كسرى على قتله، ولا الأحوال التي قتل فيها. ويظهر من سياق الشعر الذي رثي به ذلك القتيل أن هذا القتيل قد وقع بعد أفول نجم آل غسان وادبار الدنيا عنهم. ولعله كان قد قتله بعد احتلال الفرس لبلاد الشام. فكان هذا الغساني من المعارضين للفرس المناوئين لهم، ولذلك قتلوه في فترة احتلالهم لها.
وقد اشار "أبو الفرج الأصبهاني" إلى أمير غساني سماه: "يزيد بن عمرو الغساني"، ذكر أنه قتل الحارث بن ظالم. ولا نعرف من أمر هذا الأمر شيئا يذكر. وهناك روايات أخرى تنسب قتل الحارث إلى "النعمان الغساني"، على حين تنسبه روايات ثالثة إلى آل لخم ويرجح نولدكه الرأي الأخير.
وقد ورد في شعر لحسان بن ثابت هجاء ل"سلامة بن روح بن زنباع الجذامي"، وكان يلي العشور للروم، ولا بد أن يكون ذلك في أيام الغساسنة المتأخرين. وفد شبهه ب "سمية في لوح باب"، أي كأنه صورة مصورة، أو صنما معلقا على لوح باب.
ومن الأماكن التي وردت في شعر "حسان ين ثابت" على أنها من مواضع للغساسنة " الجواء" و "عذراء"، وهما موضعان بالشام بأكتاف دمشق. والى "عذراء" هذه يضاف "مرج عذراء"، وكانت في هذه المواضع منازل بني نجنة، لذلك ذكرها "حسان" في شعره. وذكر كذلك "بطن جلق" و "البلقاء"، و "المحبس" و "السند" و "بصرى" و "جبل الثلج".

(1/1733)


--------------------------------------------------------------------------------

أما ما يفهم من شعر، حسان وغير حسان من شمول ملك الغساسنة مدينة"دمشق" أو تجاورها ومن وصوله مواضع قريبة منها أو ملتصقة بها، فيجب أن نحمله محمل المجاز أو محمل مبالغات الشعراء في التفاخر والتباهي والمدح. فإذا استثنينا هذا الشعر لا نجد أي مورد تأريخي يقول باستيلاء الغساسنة على "دمشق" أو على مواضع متصلة بها. وكل ما نعرفه من الموارد التأريخية أن سلطانهم كان على أطراف بلاد الشام، أي على المواضع التي رأى الروم إن من الأصلح لهم تركها إلى أمراء غسان، لصعوبة ضبطها من الوجهة العسكرية بالنسبة اليهم. ولعل ما يذكره أولئك الشعراء هو تعبير عن قصور وأملاك اشتراها ملوك الغساسنة وأمراؤهم في "دمشق" وفي مواضع حضريه أخرى لقضاء بعض الوقت فيها كما يفعل الأمراء في الزمن الحاضر من شراء بيوت وقصور في لبنان وفي اوروبة يقيمون فيها بعض الوقت للتسلية والراحة. فزارهم فيها أولئك الشعراء، ووصفوها وصفا شاعريا، صور الشام وما حولها كأنها ملك من أملاك الغساسنة.
لقد كان "آل جفنة" كلهم على النصرانية عند ظهور الإسلام، وكانوا أصحاب دين وعقيدة، يدافعون عن مذهبهم كما رأينا. وكانت لهم بيع وكنائس بنوها لهم ولرعيتهم. وقد أشير إلى رجل عرف ب "أرطبان المرني"، قيل انه كان "شماسا،" في "بيعة غسان"، مما يدل على انها كانت بيعة خاصة بآل غسان.
وقد نسب بعض اهل الأخبار أماكن أخرى إلى الغساسنة، وذلك بالاضافة إلى الأماكن التي سبق إن تحدثت عنها. ومن هذه الأماكن: صفين. وقد زعموا إن منزل "جبلة بن النعمان" كان به، وقد كان في الوقت نفسه صاحب عين أباغ.
ومن الأماكن المنسوبة الى الغساسنة موضع "حارب". وقد ورد اسمه في شعر ينسب إلى النابغة حيث يقول: لئن كان للقبرين قبر بجلق وقبربصيداء التي عند حارب

(1/1734)


--------------------------------------------------------------------------------

وورد "قصر حارب". وقد نسبه "حمزة" إلى النعمان بن عمرو بن المنذر ويذ كر أهل الأخبار "السويداء" في جملة الأماكن التابعة للغساسنة. وقد رجع "حمزة" بناءها إن "النعمان بن عمرو بن المنذر". وتقع في "حوران". والرصافة من المواضع المهمة عند الغساسنة، ففيها مشهد القديس "سرجيوس" وهو من القديسين الجليلين عند الغساسنة، وكانوا يتبركون بزيارة قبره،ويتقربون إليه بالهدايا والنذور. وكان لآل جفنة مساكن فيها، وقد قاموا باصلاح ما كان يتهدم منها. فقام "النعمان بن الحارث بن الأيهم" باصلاح وترميم صهاريج المدينة. وكان "النعمان بن جبلة" فيمن أقام بها.
أما حدود مملكة الغساسنة، فلم تكن على وجه العموم ثابتة، بل كانت تتبدل وتتغير بحسب تبدل سلطة الملوك، وتغيرها، وهي عادة نجدها لدى جميع الممالك والامارات التي تكونت في البادية او على اطراف البوادي، حيث تكون معلرضة لغزو القبائل، ولنفوذ القبائل الفتية القوية التي تطمع في ملك الامارات التي تجد فيها شيئا من الوهن والضعف، وفي رؤسائها دعة او حزما . ولهذا نجد ملك الغساسنة يتوسع ويتقلص بحسب الظروف فيصل الى مقربة من دمشق، والى فلسطين الثانية و "الكورة العربية" و "فلسطين الثالثة" و"فينيقية لبنان". والى ولايات سورية الشمالية في بعض الاحيان. وفي مساحات شاسعة من البادية الى المدى الذي يصل اليه سلاحهم. ثم نجده تارة اخرى اقل من ذلك بكثير، لضعف الامير المالك ولطمع القبائل فيه ولأختلافه مع السلطات. ويظهر من شعر حسان ابن ثابت ان ملك الغساسنة كان يمتد من حوران الى خليج العقبة.

(1/1735)


--------------------------------------------------------------------------------

وتعد منطقة الجولان من من اشهر مناطق الغساسنة , وقد ورد ذكرها في الشعر العربي، وفيها قبر بعض الامراء الغسانيين. وهي من الارضين التابعة لولاية فلسطين الثانية في التقسيم الاداري عند الروم، وبها كان في الغالب مقر آل غسان. وقد اشتهرت الجابية بأنها مقر المولك، ولذلك عرفت بجابية الملوك، كما عرفت ايضا بجابية بجابية الجولان.
وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أن قصر المشتى الذي نقلت بعض أحجار جدرانه المحفورة بالصور الجميلة إلى متحف برلين، هو من القصور الني أنشأها الغساسنة، وكذلك بعض الآثار الأخرى الواقعة في البادية.
وفي "البرج" عثر على كتابة يونانية جاء فيها: "البطريق الشريف والأمير المنذر". ويدل ذلك على أنه من آثار "المنذر" 0 أما بقية المواضع، وهي عديدة منتشرة في أماكن واسعة، فللعلماء في أصلها نظريات وآراء.
أمراء غساسنة.
وذكر الأخباريون أمرا جفنيا دعوه "جفنة بن النعمان الجفني"، قالوا إنه غزا الحرة في أثناء ذهاب النعمان بن المنذر الذي قتله كسرى إلى البحرين،فأصاب في الحرة ما أحب. وذكروا أنه هو الذي عناه عدي بن زيد العبادي في قصيدة مطلعها: سما صقر" فأشعل جانبيها والهاك المروح والعزيب
وذكر "ابو حنيفة الدينوري"اسم رجل من غسان، دعاه "خالد بن جبلة الغساني". قال عنه: "قالوا: وإن خالد بن جبلة الغساني غزا النعمان بن المنذر، وهو المنذر الأخر، وكانا منذرين، ونعمانين، فالمنذر الأول هو الذي قام بأمر بهرام جور، والمنذر الثاني الذي كان في زمان كسرى أنو شروان، وكان عمال كسرى على تخوم أرض العرب، فقتل من أصحاب المنذر مقتلة عظيمة، واستاق إبل المنذر وخيله، فكتب المنذر إلى كسرى أنو شروان يخبره بما ارتكبه منه خالد بن جبلة. وقد ذكره في موضع آخر، في أثناء كلآمه على ذهاب "كسرى" إلى قيصر، إذ قال: "وسار كسرى حتى" انتهى إلى اليرموك فخرج إليه خالد بن جبلة الغساني فقراه، ووجه معه خيلا حتى بلغ قيصر.

(1/1736)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد مدح حسان بن ثابت الأنصاري أمرين من أمراء غسان، هما: عمرو وحجر. وقد ذكر أنها ملكا من "جبل الثلج حتى جانبي "أيلة" وانهما غزوا أرض فارس. ويرى "نولدكه" احتمال كون حجر هذا هو أحد أبناء النعمان الذي كني بأبي حجر.
وقد ذهب بعض الأخباريين الى أن عمرا المذكور في هذه الأبيات هو عمرو بن عدي ين حجر بن الحارث. وأما حجر، فهو حجر بن النعمان بن الحارث بن أبي شمر. والذي يتبين من هذه القصيدة أن الملكين المذكورين حكما في زمن واحد، وغزوا مشتركين أرض فارس، ويقتضي ذلك أن يكونا قريبين، كأن يكونا أبا أو ابنا، أو أخوين أو أن كل واحد منهما كان يحكم فرعا من فروع غسان، وذلك بعد تصدع أمر غسان وانقسامهم إلى جملة. "مشيخات".
ويرى "ابن الأثير" أن: أبا جبيلة **** بن مالك بن سالم، وهو ملك من ملوك غسان على رواية بعض الأخباريين، لم يكن من ال غسان، وانما كان من "بني غضب بن جشم بن الخزرج"،ذهب إلى غسان فصار عظيما عند ملكهم، مطاعا بينهم، واليه ذهب "مالك بن العجلان الخزرجي" مستجيرا به من يهود يثرب، فانجده وسار معه حتى أوقع في اليهود، ثم رجع عائدا إلى غسان. ولعل "أبا جبيلة الغساني"، الذي ذهب إليه الشاعر الجاهلي "الرمق بن زيد ابن غنم"، هو هذا الملك الذي نتحدث عنه.
ويتبين من شعر للاعشى ميمون بن قيس أنه زار الغساسنة، وصحب ملوكهم في ديار الشام، واتصل بهم، وقد خاطب احدهم بقوله: "اليك ابن جفنة" غير أنه لم يذكر اسمه.

(1/1737)


--------------------------------------------------------------------------------

ووصل الينا اسم أمير من غسان، هو "الشيظم بن الحارث الغساني"، قتل رجلا من قومه، وكان المقتول ذا أسرة، فخافهم فلحق بالعراق أو بالحيرة متنكرا، وكان من أهل بيت الملك، ومكث أمدأ متنكرا، حتى وافق غرة من القوم،فركب فرسا جوادا من خيل المنذر وخرج من الحيرة يتعسف الأرض، حتى نزل بحي، من "بهراء" فأخبرهم بشأنه، فأعطوه زادآ ورمحأ وسيفأ وخرج حتى أتى الشام فصادف الملك متبديا، فأتى قبته، وقص قصته،فبعث إلى أولياء المقتول فأرضاهم عن صاحبهم.
قوائم ملوك الغساسنة
ولا بد لي، وقد انتهيت من الكلام على الغساسنة، من الاشارة إلى ضعف مادة الأخباريين عنهم، وقلة معرفتهم بهم، فانت إذا درست هذا الذي رووه عنهم، وحللته تحليلاعلميا لا تخرج منه الا بنتائج تأريخية محدودة ضيقة تريك انهم لم يكونوا يعرفون من أمرهم الا القليل، وانهم لم يحفظوا من أسماء أفراد الأسرة الحاكمة غير أسماء قليلة، وما عداها فتكرار واعاسة لهذه الأسماء القليلة، او اوهام. وأنت إذا راجعت التواريخ مثل تأريخ الطبري لا تكاد تجد فيها شيئا يذكر عن هذه الأسرة. وقد تفوق كتب الأدب كتب التأريخ في هذا الباب، ويعود الفضل في ذلك إلى الشعر، فلعدد من شعراء الجاهلية أشعار في مدح آل جفنة أو ذمهم، ولهم معهم ذكريات حفظت بفضل هذا الشعر الذي يرويه الرواة ويروون المناسبات التي قيل فيها. فلولاه ضاع أيضا هذا القليل الذي عرفناه من اخبار الغساسنة.

(1/1738)


--------------------------------------------------------------------------------

وحتى القوائم، وهي جافة في الغالب، لا تستند أيضا إلى علم بالرغم من هذا الترتيب الذي يحاول أصحابه اظهاره لنا بمظهر الواقع والحق. ولن تكسب سنوات الحكم المذكورة مع كل ملك ثقتنا بها. ولا اعتمادنا عليها. وقد اعتمد أكثر من رتب أسماء أمراء الغساسنة على رواية "ابن الكلبى"، غير انهم كما يظهر من مدوناتهم لم يرووها عنه رواية تامة، بل تصرفوا فيها، فزاحوا عليها أو نقصوا منها وحرفوا فيها بعض التحريف. وأخذ آخرون من موارد أخرى، واستعان بعض آخر مما رواه "ابن الكلبي" وبما رراه غيره وأضافوا إليه مما عرفوا من أسماء المذكورين في الشعر، وهم من سادات قبيلة "غسان" ولم يكونوا كلهم ملوكا، فجاءت النتيجة قوائم متعددة بتعدد مشارب أصحابها وهي على العموم شاهد عدل على ضعف الأخبارين في المحاكمات وفي منطق التاريخ.
وقد درس "نولدكه" معظم القوائم التي رواها الأخباريون لأمراء الغساسنة، ونقدها وغربلها، وقارن الحاصل بما وجده في الموارد السريانية والبيزنطية، واستخلص من تلك الدراسة هذه القائمة: أبو شمر جبلة. حكم حوالي سنة500م تقريبأ.
الحارث بن جبلة. استمر حكمه من حوالي سنة 529حتى سنة 569م. أبوكرب المنذر بن الحارث. حكم من سنة 569حتى سنة 582م.
النعمان بن المنذر. وكان حكمه من سنة 582حتى.سنة 583م.
الحارث الأصغر بن الحارث الأكبر.
الحارث الأعرج بن الحارث الأصغر.
أبو حجر النعمان. بين سنة 583وسنة 614 م.
عمرو.
حجر بن النعمان.
???? جبلة بن الأيهم. حوالي سنة635 م.
ورتب "ابن قتيبة الدينوري"، أسماء ملوك الغساسنة على هذا النحو: الحارث بن عمرو بن محرقه، وهو "الحارث الأكبر"،ويكنى ب "أبا شمر". الحارث بن أبي شكر، وهو "الحارث اللأعرج بن الحارث الأكبر". وأمه "ماريه ذات القرطين".
الحارث بن الحارث بن الحارث. وهو الحارث الأصغر بن الحارث الأعرج ابن الحارث الاكبر.

(1/1739)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان له أخوة، منهم: النعمان بن الحارث. وهو والد ثلاثة بنين: حجر ابن النعمان، وبه كان يكنى، والنعمان بن النعمان، وعمرو بن النعمان.
ومن ولد الحارث الأعرج أيضا عمرو بن الحارث، وكان يقال له: أبو شمر الأصغر. ومن ولده المنذر بن المنذر والأيهم بن الحارث. وهو أبو "جبلة ابن الأيهم"، وجبلة آخر ملوك غسان.
فاما المسعودي، فيرى أن عدة من ملكوا من آل غسان أحد عشر ملكا، ذكر منهنم: ا - الحارث بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرىء القيس بن ثعلبة بن ماس "مازن "، وهو غسان بن الأزد بن الغوث.
2 - الحارث بن ثعلبة بن جفنة بن عمرو بن عامر بن حارثة. وأمه مارية ذات القرطين بنت أرقم بن ثعلبة بن جفنة بن عمر.
3 - النعمان بن الحارث بن ثعلبلأ بن جيلة بن جفنة بن عمرو.
4 - المنذر أبو شمر بن الحارث بن جبلة بن ثعلبة بن جفنة بن عمرو.
5 - عوف بن أبي شمر.
6 - الحارث بن أبي شمر. وكان ملكه حين بعث رسول الله.
7 - جبلة بن الايهم.
وذكر المسعودي، أن جميع من ملك من ملوك غسان بالشام أحد عشرملكا. ولم يذكرهم في قائمته كلهم.
أما ملوك "الغساسنة "، على ما جاء في "كتاب المحبر"، فانهم على هذا النحو: "ثعلبة"، فابنه " الحارث"، فابنه "جبلة"، فابنه "الحارث " وهو المعروف ب "ابن مارية ذات القرطين"، و "النعمان بن الحارث"، و "المنذر" ابنه، و "المنذر بن الحارث"، و "جبلة بن الحارث"، و "أبو شمر بن الحارث بن جبلة بن الحارث بن ثعلبة بن الحارث بن عمرو بن جفنة"، و "الحارث" الأعرج بن أبي شمر بن عمرو بن الحارث بن عوف بن عمرو بن عدي بن عمرو بن الحسحاس" وهو "حارثة بن بكر بن عوف بن عمرو بن عدي بن عمرو بن مازن بن الزتد" وليس بجفني، ولكن أمه جفنية، فلم يزل الملك فيهم حتى كان آخرهم "جبلة بن ألأجهم بن جبلة "، وهو الذي اتصل ملكه بخلافة عمربن الخطاب.

(1/1740)


--------------------------------------------------------------------------------

وجاء ترتيب ملوك الغساسنة في التعليقات النى طبعها "هرشفلد" مع ديوان "حسان" على هذا النحو: "كان أول من ملك من غسان: الحارث بن عمرو ابن عدي بن حجر بن الحارث، ثم عمرو بن الحارث، ثم الحارث بن عمرو، وهو أبو شمر الأكبر ثم الحارث بن الحارث بن أبي شمر، فالحارث الأصغر بن الحارث الأوسط وهو الأعرج، فالنعمان بن الحارث، فجبلة بن الأجهم، وهو الذي أدرك الإسلام.
قائمة حمزة
وأشهر قائمة ذكرها الأخباريون لملوك غسان، القائمة التي ذكرها حمزة الأصبهاني وتتألف من: ا - جفنة بن عمرو المعروف بمزيقياء.
2 - عمرو بن جفنة.
3 - ثعلبة بن عمرو.
4 - الحارث بن ثعلبة.
5 - جبلة بن الحارث.
6 - الحارث بن جبلة.
7 - المنذر بن الحارث.
8 - النعمان بن الحارث.
9 - المنذر بن الحارث.
10- جبلة بن الحارث.
11- الأيهم بن الحارث.
12 - عمرو ين الحارث.
13 - جفنة بن المنذر الاكبر.
14 - النعمان بن المنذر الأكبر.
15 - النعمان بن عمرو.
16 - جبلة بن النعمان.
17 - النعمان بن الأيهم.
18 - الحارث بن الأيهم.
19 - النعمان بن الحارث.
20 - المنذر بن النعمان.
21 - عمرو بن النعمان.
22 - حجر بن النعمان.
23 - الحارث بن حجر.
24 - جبلة بن الحارث.
25 - الحارث بن جبلة "ابن أبي شمر".
26 - النعمان بن الحارث "أبو كرب".
27 - الأيهم بن جبلة بن الحارث.
28 - المنذر بن جبلة.
29 - شراحيل بن جبلة.
30 - عمرو بن جبلة.
31 - جبلة بن الحارث.
32 - جبلة بن الأيهم.
وقد نقل ابن خلدون من جملة كتب ألف منها الفصل الذي كتبه عن تأريخ آل غسان، وكذلك الفصل الذي دونه عن تأريخ الحيرة. أما الموارد التي نقل منها فصل آل غسان، فتواريخ ابن سعيد والمسعودي وابن الكلبي والجرجاني. وأما الموارد التي نقل منها ابن خلدون مادة فصله عن تأريخ الحيرة، فتواريخ السهيلي وأبي **** والطبري وابن اسحاق والمسعودي وابن سعيد والجرجاني والبيهقي. وأكثر اعتماده في النقل على الطبري.

(1/1741)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد اكتفى ابن خلدون بالنبذ التي أخذها من هذه الموارد ولم يبد رأيه فيها ولم يرتبها ترتيبا زمنيا مع ذكر أهم الأعمال التي قام بها كل ملك من أولئك الملوك كما فعل حمزة مثلا، فأورد أسماء ملوك الغساسنة، كما ذكرتها الموارد التي أخذ منها، أو نقلها في شئ من الاختصار، فنقل قائمة المسعودي، والمسعودي نفسه لا يتقيد بالترتيب والتدقيق، ونقل قائمة الجرجاني وتبدأ بثعلبة بن عمرو شقيق جذع بن عمرو قاتل ملك سليح. وتنتقل بالملك بن ثعلبة إلى ابنه الحارث ابن ثعلبة، وهو ابن مارية عند بعضهم، يليه ابنه المنذر، ثم ابنه النعمان، ثم أبي شمر بن الحارث بن جبلة بن الحارث بن ثعلبة بن عمرو بن جبلة على رواية بعض النسابين أو أبي بشر بن عوف بن الحارث بن عوف بن عمرو بن عدي بن عمرو بن مازن، ثم الحارث الأعرج، ثم ابن أبي شمر، ثم عمرو ابن الحارث الأعرج، ثم المنذر بن الحارث الأعرج، ثم الأيهم بن جبلة بن الحارث بن جبلة بن الحارث بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة، ثم ابنه جبلة.
وقد ناقش نولدكه في كتابه عن آل غسان هذه القوائم التي نقلها ابن خلدون كما ناقش غيرها من القوائم التي وجدها في التواريخ المخطوطة أو ألمطبوعة الني تمكن من الحصول عليها،وأظهر ما فيها من خلل ونقص في نهاية ذلك البحث.

(1/1742)

admin
12-27-2010, 01:56 AM
المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام – د. جواد علي
الجزء الثاني – الفصول 41-62

الفصل الحادي والاربعون العرب وألحبش…369
الفصل الثاني والأربعون مكة المكرمة…388
الفصل الرابع والأربعون مجمل الحالة السياسة في جزيرة العرب عند ظهور الإسلام…419
الفصل الخامس والأربعون المجتمع العربي…443
الفصل السادس و الأربعون أنساب القبائل…475
الفصل السابع و الأربعون القبائل العدنانية…484
الفصل السابع و الأربعون الناس منازل و درجات…497
الفصل الثامن و الأربعون الحياة اليومية…511
الفصل الخمسون البيوت…529
الفصل الحادي والخمسون فقر وغنى وأفراح ؤأتراح…545
الفصل الثاني والخمسون الدولة…565
الفصل الثالث والخمسون حقوق الملوك وحقوق سادات القبائل…583
الفصل الرابع والخمسون الغزو وأيام العرب…601
الفصل الخامس والخمسون الحروب…616
الفصل السادس والخمسون في الفقه الجاهلي…632
الفصل السابع والخمسون الاحوال الشخصية…645
الفصل الثامن والخمسون الملك والإعتداء عليه…654
الفصل التاسع و الخمسون العقود و الالتزامات…663
الفصل الستون حكام العرب…668
الفصل الحادي و الستون أديان العرب…672
الفصل الثاني والستون التوحيد والشرك…678

الفصل الحادي والاربعون
العرب وألحبش
صلات العرب بالحبشة صلات قديمة معروفة ترجع إلى ما قبل الميلاد. فبين السواحل الافريقية المقابلة لجزيرة العرب وبين السواحل العربية اتصال وثيق قديم، وتبادل بين السكان. اذ هاجر العرب الجنوبيون إلىالسواحل الافريقية وكونوا لهم مستوطنات هناك، وهاجر الأفارقة إلى العربية الجنوبية، وحكموها مرارا، وقد كان آخر حكم لهم عليها قبل الإسلام بأمد قصير.
ويرى بعض الباحثين إن أصل الحبش من غرب اليمن من سفوح الجبال،وفي اليمن جبل يسمى جبل "حبيش"، قد يكون لاسمه صلة بالحبش الذين هاجروا إلى افريقية وأطلقوا اسمهم على الأرض التي عرفت باسمهم،أي "حبشت" أو الحبشة.

(1/1743)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرون أيضا إن "الجعز" أو "جعيزان" كما يدعون كذلك، هم cesani للذين وضع "بليني" منازلهم على مقربة من "عدن". فهم من أصل عربي جنوبي. هاجر إلى الحبشة وكو"ن مملكة هناك. والى هؤلاء نسبت لغة الحبش، حيث عرفت بالجعزية، أي لغة الجعز.
ويظن إن العرب الجنوبيين هم الذين مو نوا السواحل الافريقية المقابلة بالعناصر السامية. وكانوا قد هاجروا مرارا اليها،ومن بين تلك الهجرات القديمة، هجرة. قام بها السبئيون في القرن الخامس قبل الميلاد. وقد هاجر معهم "الحبش" في ذلك الوقت أيضا. وقد توقف سيل الهجرات هذه حين ندخل "البطالمة" في البحر الأحمر،وصار لهم نفوذ سياسي وعسكري على جانبي هذا البحر. غير أنها لم تنقطع انقطاعا تاما، إذ يرى بعض الباحثين أن العرب كانوا قد دخلوا الحبشة والسواحل الإفريقية المقابلة فيما بعد الميلاد أيضا، فنزحوا اليها فيما بين السنة "232" والسنة "250" بعد الميلاد مثلا، حيث ركبوا البحر ونزلوا هناك.
وقد تبين أن السبئيين كانوا قد استوطنوا في القرن السادس قبل الميلاد المناطق التي عرفت باسم "تعزية"Ta'izziya من أرض "أريتريا" ونجد الحبشة، وكونوا لهم حكومة هناك. وأمدوا الأرضين التي استولوا عليها بالثقافة العربية الجنوبية. ولم يقطع هؤلاء السبئيون صلاتهم بوطنهم. القديم، بل ظلت أنظارهم متجهة نحوه في تدخلهم وهم في هذا الوطن بشؤونه وارسالهم حملات عليه واحتلالهم له في فترات من الزمن. ولعل ما جاء في أحد النصوص من "مصر" الحبشة، قصد به هؤلاء الذين كانوا قد استوطنوا تلك المنطقة من إفريقية.

(1/1744)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي القرن السادس قبل الميلاد،كان الاوسانيون قد نزحوا إلى السواحل الافريقية الشرقية، فاستوطنوا الأرضين المقابلة ل Pemba "زنزبار" Zanzibar وهي "عزانيا" Azania، وتوسعوا منها نحو الجنوب. وقد عرف هذا الساحل في كتاب "الطواف حول البحر الأريتري "، باسم Ausaniteae وهو اسم يذكرنا ب "أوسان". وقد ذكر مؤلف الكتاب، أنه كان خاضعا في أيامه "القرن الأول بعد الميلاد"ء، لحكام Mapharitis. ويريد بهم حكام دولة "سبأ وذو ريدان".
وقد عثر الباحثون على حجر مكتوب في حائط كنيسة قديمة بالقرب من "أكسوم"، وإذا به كتب بالسبئية، وفيها اسم الإلهة السبئية "ذت بعسن" "ذات بعدن" "ذات البعد" وعثر على بقايا أعمدة في موضع "يحا" الواقع شمال شرقي "عدوة" Adua، تدل على وجود معبد سبئي في هذا المكان، كما عثر على مذبح سبئي خصص بالإله "سن" "سين". وعثر على كتابات وأشياء أخرى تشير كلها إلى وجود السبئيين في هذه الآرضين.
وعرف ملك الحبش ب "النجاشي" عند العرب. واللفظة لقب تطلقه العربية على كل من ملك الحبشة، فهي بمنزلة "قيصر"، اللفظة التي يطلقها العرب على ملوك الروم، و "كسرى" التي يطلقونها على من حكم الفرس، و "تبع" التي يطلقونها على من يحكم اليمن. أما في العربية الجنوبية، فقد أطلقت لفظة "ملك" على من ملك الحبشة، وقد ورد "ملك اكسمن"،أي "ملك اكسوم" وورد "ملك حبشت"، أي ملك الحبشة. فأخذ العرب اللفظة من الحبش. وهي في الحبشية بمعنى جامع الضريبة، والذي يستخرج الضريبة، فهي وظيفة من الوظائف في الأصل، ثم صارت لقبا. وورد في بعض النصوص العربية الجنوبية اذ لقب به "جدرة" مثلا.

(1/1745)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظن إن مملكة "أكسوم" التي ظهرت في أوائل أيام النصرانية، قد كانت دولة أقامها العرب الجنوبيون في تلك البلاد. وقد استطاع الباحثون من العثور على عدد من الكتابات تعود إلى ملوك هذه المملكة، دون بعض منها باليونانية مما يدل على تأثر ملوك هذه المملكة بالثقافة اليونانية وعلى وجود جاليات يونانية هناك نشرت ثقافتها في الحبشة. وقد عرفت هذه المملكة بمملكة "أكسوم" "اكسمن".نسبة إلى عاصمتها. مدينة "اكسم" "أكسوم".
وقد كان ملوك أكسوم وثنيين. بقوا على وثنيتهم إلى القرن الرابع أو ما بعد ذلك للميلاد. ويظن إن إلملك "عزانا" Ezana وهو ابن الملك "الاعميدا" Ela-Amida، هو أول ملك تنصر من ملوك هذه المملكة وذلك لعثور الباحثين على آثار تعود إلى عصر، ترينا القديمة منها انه كان وثنيا، وترينا الحديثة منها انه كان نصرانيا، مما يدل على أنه كان وثنيا في أوائل أيام حكمه، ثم اعتنق النصرانية، فأدخل شعارها في مملكته، وذلك بتأثير المبشرين عليه.
وفي جملة ما يستدل به على تأثر العرب الجنوبين في الحبش، هو الأبجدية الحبشية المشتقة من الخط العربي الجنوبي. وقرب لغة الكتابة والتدوين عندهم من اللهجات العربية الجنوبية. وبعض الخصائص اللغوية والنحوية التي تشير إلى أنها قد أخذت من تلك اللهجات. ثم عثور العلماء على أسماء الهة عربية جنوبية ومعروفة في كتابات عثر عليها في الحبشة والصومال. ووجودها في هذه الأرضين هو دليل على تأثر الافريقين بالثقافة العربية الجنوبية،أو على وجود جاليات عربية جنوبية في تلك الجهات.
وكما تدخل العرب في شؤون السواحل الإفريقية المقابلة لهم، فقد تدخل. الافريقيون في شؤون السواحل العربية المقابلة لهم. لقد تدخلوا في أمورها مرارا. وحكموا مواضع من ساحل العربية الغربية ومن السواحل الجنوبية وتوغلوا منها إلى مسافات بعيدة في الداخل حتى بلغوا حدود نجران.

(1/1746)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من الكتابات الحبشية، أن الحبش كانوا في العربية الجنوبية في القرن الأول للميلاد. وقد كانوا فيها في القرن ألثاني أيضا. ويظهر أنهم كانوا قد استولوا على السواحل الغربية، وهي سواحل قريبة من الساحل الافريقي ومن الممكن للسفن الوصول اليها وانزال الجنود بها. كما استولوا على الأرضين المسماة ب Kinaidokopitae في جغرافية "بطلميوس".
وورد في نص من النصوص الحبشية أن ملك "أكسوم" كان قد أخضع السواحل المقابلة لساحل مملكته، وذلك بارساله قوات برية وبحرية تغلبت على ملوك تلك السواحل من ال "Arrhabite " "الأرحب" "الارحبية" "أرحب" Kinaidokolpite، وأجبرتهم على دفع الجزية، وعلى العيش بسلام في البر وفي البحر. ويرى بعض الباحثين إن المراد ب "Arrhabite" بدو الحجاز. وأن Kinaidokolpite هم "كنانة". وأن السواحل التي استولى الأحباش عليها تمتد من موضع "لويكه كومه" Leuke Kome "القرية البيضاء" إلى أرض السبئيين.
ويرى "فون وزمن" أن احتلال الحبش لأرض Kinaidokoplitae الأرض المسماة باسم قبيلة لا نعرف من أمرها شيئا، والتي ورد اسمها في كتابة Monumentum Adulitanum فقط وفي جغرافية "بطلميوس"، كان قبل تدوين تلك الكتابة وربما في حوالي السنة" 100" بعد الميلاد. ويراد بها ساحل الحجاز وعسير من ينبع Ianbia في الشمال إلى السواحل الجنوبية الواقعة على البحر العربي شمال "وادي بيش"،فشملت الأرض المذكورة والتهائم والساحل كله.
غير اننا نجد أن مؤلف كتاب "الطواف حول البحر الأريتري" يشير من جهة آخرى إلى أن الساحل الافريقي المسمى ب "تنجانيقا" في الوقت الحاضر كان في أيدي الحميريين في ذلك الوقت. ومعنى ذلك إن ملك حمير استطاع في أيام ذلك المؤلف من الاستيلاء على ذلك الساحل ومن ضمه إلى ملكه. كما فعل أهل حضرموت وعمان فيما بعد.

(1/1747)


--------------------------------------------------------------------------------

ووردت جملة "احزب حبشت" في النص الموسوم ب "CIH 314+954". وهي تشير إلى وجود "أحزاب" أي جماعات من الحبش في العربية الجنوبية. وقد يراد بها مستوطنات حبشية وقوات عسكرية كانت قد استقرت في تلك البلاد. كما وردت في النص الموسوم ب Ryckmans 535 اذدي يتحدث عن حرب أعلنها "الشرح يحضب" على "احزب حبشت"، و "ذى سهرتن" و "شمر ذى ريدان".
وأشار "اصطيفان البيزنطي" إلى قوم دعاهم Abasynoi يظهر من قوله إن مواطنهم كانت في شرق حضرموت. ويفهم من كلامه أن هؤلاء كانوا حبشا يقيمون في هذه الأرضين. وقد يكونون قد استولوا عليها بانقوة وألحقوا ما استولوا عليه بمملكة أكسوم.
وورد في كتابات تعود إلى أيام "علهان نهقان"، بأن هذا الملك كان قد تفاوض مع "جدرت" "جدرة" ملك "أكسوم" والحبشة لعقد صلح معه. ويظهر من جملة "واقول وقدمن واشعب ملك حبشت"،أي "واقيال وسادات وقبائل ملك الحبشة"، الواردة فيها، أن ملك الحبشة كان يحكم جزءا من العربية الجنوبية في ذلك الوقت، وان الملك "علهان نهفان" تفاوض معه لتحسين العلاقات السياسية فيما بينه وبين الحبش ولضمان مساعدتهم في حروبه مع منافسيه وخصومه. ويرى "فون وزمن" أن تلك المفاوضات كانت قد جرت في حوالي السنة "180" بعد الميلاد.
وقد عقد "علهان" حلفا مع الحبش، ويظهر أنه عقده بعد انتهائه من الحرب التي أعلنها على حمير. تلك الحرب التي اشترك الحبش فيها أيضا وكذلك أهل حضرموت. ولما عقد "علهان" الحلف مع الحبش، كان ابنه "شعر أوتر" قد اشترك معه في الحكم.
ولم يدم الحلف الذي عقد بين "علهان" وابنه "شعر أوتر" من جهة والحبش من جهة أخرى، إذ سرعان ما نقض ووقعت الحرب بن "شعر أوتر" وبين "الحبش" على نحو ما ذكرت في أثناء حديثي عن حكم ""شعر أوتر". إلا أنه لم يتمكن من القضاء عليهم، ولم يزحهم عن اليمن. بل بقوا في الأرضين التي كانت خاضعة لهم والتي تقع في الجزء الغربي من اليمن.

(1/1748)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد جاء اسم "جدرت" "جدرة" على هذه الصورة: "جدر نجش اكسم" في النصوص. وورد على هذه الصورة: "جدرت ملك حبشت واكسمن" في النص الذي وسم ب Jamme ومعنى الجملة الأولى "جدر نجاشي أكسوم".
ومعنى الجملة الثانية "جدرة ملك الحبشة وأكسوم". وقد قدر بعض الباحثين زمان حكم هذا النجاششي بحوالي السنة "250" بعد الميلاد.
ويظهر إن الحبش كانوا قد تمكنوا من دخول "ظفار" عاصمة حمير، وذلك فيما بين السنة "90 ا" و "205" بعد الميلاد. وذلك في أيام "لعزز يهنف يهصدق". ولا ندري إلى متى بقوا فيها. والظاهر أن حكمهم فيها كان قصيرا.
وقد كان نزول الحبش في أرض اليمن في أيام حكم الملك الحبشي "عذبة" على ما يظن. وكان هذا الملك على صلات حسنة بالرومان،ففتح بلاده للمصنوعات الرومانية النفيسة، وظل الحبش في اليمن في أيامه حتى وفاته، فلما توفي أو عزل تولى ملك آخر مكانه هو "زوسكالس" Zoskales وقد أدى هذا التغير إلى تبدل ألحال، اذ اضطر الحبش إلى النزوح من الأماكن التي كانوا قد استولوا عليها. ويرى بعض الباحثين إن ثورة قامت في الحبشة على حكم "عذبة" وأحلت "زوسكالس" محله. فانتهز أهل اليمن فرصة انشغال الحكومة بالاضطرابات التي وقعت بهذه الثورة، ونهضوا على الحبش فأخرجوهم عن ديارهم،وأخرج الحبش من السواحل التي كانوا قد استولوا عليها، المعروفة ب Kinaidokolpitae، ويراد بها ساحل الحجاز وعسير.

(1/1749)


--------------------------------------------------------------------------------

ووردت في النص الموسوم ب "Rychmans 535"، لفظة "و ذ ب ه" "وذبه" ثم ذكرت بعدها جملة: "ملك اكسمن "، أي "ملك الاكسومين"، أو "ملك الأكسوميين". وهو الملك الذي استعان به "شمر ذو ريدان". وقد قرأ بعض الباحثين لفظة "وذبه" على هذه الصورة "عذبة" او "وزبه". وذهبوا إلى أنه ملك الحيشة الذي استعان به "شمر ذو ريدان"4، والذي تدخل في شؤون اليمن فيما بين السنة "300" و "320" بعد الميلاد، ويظهر من اللقب الطويل الذي تلقب به ملك "أكسوم"،أي الحبشة Ethiopiaوهو الملك "عيزانا" Ezana، أن اليمن وما جاورها من أرضين كانت خاضعة لحكم الحبش في أيامه أيضا. أما لقبه الذي تلقب به فهو: "ملك اكسوم وحمير وريسان وسبأ وسلحن"، ويذكر بعد هذا اللقب أسماء ثلاثة مناطق افريقية كانت تحت حكمه، ثم ختم هذا اللقب بتتمته، وهي جملة: "ملك الملوك" و "سلحن" "سلحين"، هو قصر ملوك سبأ وذو ريدان بمأرب.
وكان الملك "عيزانا" "عزانا"، قد دخل في النصرانية بتأثير المبشر "فرومنتيوس"، الذي أرسله إليه الملك "قسطنطين" ملك البيزنطيين عام "350" للميلاد أو "356". وقد فرض هذا الملك النصرانية على شعبه وأعلنها ديانة رسمية لمملكته كما جعل الديانة الرسمية للعربية الجنوبية.
وكانت العربية الجنوبية خاضعة لحكم أبيه، ولعله هو الذي أدخلها في حكمه. اذ كان أبوه وهو "الاعميدا" Ella 'Amida، قد لقب نفسه باللقب المذكور. ويرى بعض الباحثين أن حكم "عيزانا" لم يكن فيما بين السنة "330" و "350" بعد الميلاد أو بعد ذلك كما ذهب إلى ذلك بعض الباحثين، بل كان في حوالي السنة "450" للميلاد. ويرى أن ملكا آخر كان قد تدخل في شؤون اليمن واستولى على ساحل Kinaidokopitae، هو الملك "سمبروتس" Sembruthes وقد حكم على رأيهم في حوالي السنة "405" بعد الميلاد.

(1/1750)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرى بعض الباحثين أن الحبش استولوا على العربية الجنوبية بعد وفاة "شمر يهرعش"، وأن ذلك كان في حوالي السنة "335 م". وأن "ثيوفيلس" نصر عرب اليمن في حوالي السنة "354 م"، إذ أنشأ كنيسة في " ظفار". وقد صار رثيس أساقفة "ظفار" يشرف على الكنائس التي أنشئت في اليمن وفي ضمن ذلك كنيسة "نجران" والكنائس الأخرى التي بنيت في العربية الجنوبية إلى الخليج.
وأعرف تدخل للحبش في العربية الجنوبية، تدخلهم في شؤون اليمن في النصف الأول للقرن السادس واحتلالهم اليمن، إذ بقوا فيها أمدا حتى ثار أهل اليمن عليهم، فتمكنوا من انقاذ بلادهم من الحبش بمعونة من الفرس. وتركوا بذلك اليمن أبدا.
ويظهر من بعض الكتابات أن حصن "شمر" والسهل المحيط به كان في أيدي الحبش، وقد ورد فيها اسم موضع "مخون"، وهو "مخا". ويرد اسم هذه المدينة لأول مرة. وتتناول هذه الكتابات حوادث وقعت سنة "528" بعد الميلاد. وتبدأ قصة دخول الحبش إلى اليمن على هذا النحو: لما قتل ذو نواس من اهل نجران قرببا من عشرين ألفا، أفلت منهم رجل يقال له "دوس ذو ثعلبان" أو رجل آخر اسمه "جبار بن فيض" أو غير ذلك، ففر على فرس له، فأعجزهم حتى خرج فوصل الحبشة،وجاء إلى ملكها، فأعلمه ما فعل "ذو نواس" بنصارى نجران، وأتاه بالانجيل قد أحرقت النار بعضه، فقال له: الرجال عندي كثير، وليست عندي سفن. وأنا كاتب إلى قيصر أن يبعث إلي بسفن أجعل فيها الرجال، فكتب إلى قيصر في ذلك وبعث إليه بالانجيل المحرق. فبعث إليه قيصر بسفن كثيرة عبر فيها البحر ودخل اليمن.

(1/1751)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي رواية أخرى إن "دوس ذو ثعلبان" قدم على قيصر صاحب الروم، فاستنصره على "ذي نواس" وجنوده وأخبره بما بلغ منهم، فقال له قيصر: بعدت بلادك من بلادنا ونأت عنا، فلا نقدر على إن نتناولها بالجنود. ولكني سأكتب لك إلى ملك الحبشة، فانه على هذا الدين، وهو أقرب إلى بلادك منا، فينصرك ويمنعك ويطلب لك بثأرك ممن ظلمك. فكتب معه قيصر إلى ملك الحبشة يذكر له حقه وما بلغ منه ومن أهل دينه، ويأمره بنصره وطلب ثأره ممن بغى عليه وعلى أهل دينه. فلما قدم دوس ذو ثعلبان بكتاب قيصر على النجاشي، بعث معه سبعين ألفا من الحبشة، وأمر عليهم رجلا من أهل الحبشة يقال له أرياط، وعهد إليه إن أنت ظهرت عليهم فاقتل ثلث رجالهم، وأخرب ثلث بلادهم، واسب ثلث نسائهم وأبنائهم. فخرج أرياط ومعه جنوده، وفي جنوده أبرهة الأشرم، فركب البحر ومعه دوس ذو ثعلبان حتى نزلوا بساحل اليمن. وسمع بهم ذو نواس، فجمع إليه حمير ومن أطاعه من قبائل اليمن، فاجتمعوا إليه على اختلاف وتفرق لانقطاع المدة وحلول البلاء والنقمة، فلم تكن له حرب، غير أنه ناوش ذا نواس شيئا من قتال، ثم انهزموا ودخلها أرياط بجموعه. فما رأى ذو نواس ما رأى مما نزل به وبقومه، وجه فرسه إلى البحر، ثم ضربه فسحل فيه، فكان آخر العهد به. ووطىء "أرياط" اليمن بالحبشة، فقتل ثلث رجالها وأخرب ثلث بلادها وبعث إلى النجاشي بثلث سباياها، ثم أقام بها.

(1/1752)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من دراسة هذا المروي،أن الرواة كانوا على اختلاف بينهم في حديثهم عن "أصحاب الأخدود". وقد أشار العلماء إلى هذا الاختلاف. وقد اختلفوا في زمانهم أيضا، واكتفى بعضهم بقولهم: "وكانوا بنجران في الفترة بين عيسى ومحمد"، وقال بعضهم: انهم كانوا باليمن قبل مبعث الرسول بأربعين سنة، أخذهم "يوسف بن شراحيل بن تبع الحميري، وكانوا نيفا وثمانين رجلا، وحفر لهم أخدودا وأحرقهم فيه. وجعل بعضهم عدد من قتل من نصارى نجران عشرين ألفا، وجعله بعضهم اثني عشر ألفا، وذكر بعض آخر إن أصحاب الأخدود سبعون ألفا. وقد قتلهم "ذو نواس اليهودي" واسمه "زرعة بن تبان أسعد الحميري"، واسمه أيضا "يوسف". وجعله بعضهم "يوسف بن ذي نواس بن تبع الحميري". وجعلوا زعيم نصارى نجران، والذي ثبت النصرانية فيها ونشرها بين النجرانيين رجل من أهل نجران، اسمه "عبد الله بن ثامر". وكان قد أخذ النصرانية عن راهب، رآه فلازمه وتعلق به، وأثر في قومه، بشفائه الأمراض بالدعاء لهم إلى الله لشفائهم، فدخل كثير ممن شفوا وبرؤوا بدينه، وبذلك انتشرت النصرانية في نجران.
ولم يبين رواة الخبر المتقدم الأسباب التي دعت نجاشي الحبشة إلى الطلب من قائده "أرياط" بأن يقتل ثلث رجال اليمن، ويخرب ثلث البلاد، ويسبي ثلث النساء وأبناءهم وأن يتبع هذا النظام الثلاثي في العقوبة. ولم يذكروا الموارد التي أخذوا منها خبرهم على طريقتهم في أخذ الأخبار من غير تمحيص.

(1/1753)


--------------------------------------------------------------------------------

وزعم "ابن الكلبي" أن السفن لما قدمت على النجاشي من عند قيصر،حمل جيشه فيها، فخرجوا في ساحل المندب. فلما سمع بهم ذو نواس، كتب إلى المقاول يدعوهم إلى مظاهرته، وان يكون أمرهم في محاربة الحبشة ودفعهم عن بلادهم واحدا فأبوا، وقالوا: يقاتل كل رجل عن مقولته وناحيته. فلما رأى ذلك، صنع مفاتيح كثيرة، ثم حملها على عدة من الابل، وخرج حتى لقي بعضهم فقال: هذه مفاتيح خزائن اليمن قد جئتكم بها. فلما وجه الحبشة ثقات اصحابهم في قبض الخزائن، كتب "ذو نواس" إلى كل ناحية أن اذبحوا كل من يريد اليكم منهم. ففعلوا فلما بلغ النجاشي ما كان من ذي نواس، جهز سبعين ألفا، عليهم قائدان: أحدهما أبرهة. فلما صار الحبشة إلى صنعاء ورأى ذو نواس أن لا طاقة له بهم، ركب فرسه واعترض البحر فاقتحمه، فكان أخر العهد به.
هذا مجمل ما ورد في كتب المؤرخين الاسلاميين والأخبارين عن ذي نواس. وقد أخذ بعضه مما علق في أذهان أهل اليمن عن ذلك الحادث، وأخذ بعض آخر مما علق بأذهان أهل الكتاب عنه، ويعود الفضل في تدوينه وجمعه إلى القران الكريم، إذ إشار بايجاز إليه: )قتل أصحاب الأخدود. النار ذات الوقود. إذ هم عليها قعود. وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود(. فكانت اشارته هذه الى أصحاب الأخدود حافزا دفع بالمفسرين وأصحاب التأريخ والأخبار على جمع ما علق بالأذهان من هذا الحادث، فجاء على الصورة المذكورة.
ولم يرد الينا شيء من هذا القصص الذي رواه الأخباريون عن ذي نواس مكتوبا في المسند. وكل ما ورد مما له علاقة في حادث دخول الحبشة اليمن، هو ما جاء في النص المهم المعروف بنص حصن غراب والموسوم REP.EPIGR.2633 من أن الأحباش فتحوا أرض حمير وقتلوا ملكها وأقياله الحميريين والأرحبيين.
ولم يذكر في النص اسم هذا الملك. ويعود تأريخه إلى سنة "645" من التقويم الحميري الموافقة لسنة "525" للميلاد.

(1/1754)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرى ونكلر مستندا إلى نص "حصن غراب" أن "ذا نواس" كان هو البادىء بالحرب، وأن السميفع أشوع وأولاده أصحاب النص كانوا في معية الملك ذي نواس في حملته على الحبشة، غير انه لم يكتب له التوفيق، وأصيب بهزيمة اذ سقط فهزم جمعه. وعندئذ غزا الحبش ارض اليمن واستولوا عليها. فأسرع السميفع أشوع وأولاده في الذهاب إلى حصن "ماوية" للتحصن فيه ولتقوية وسائل دفاعه، ولم تكن قلوب هؤلاء مع ذي نواس، وانما أكرهوا على الذهاب معه. وبقوا في حصنهم هذا إلى أن دخل الحبش أرض اليمن، فتفاهم معهم.
وقد أشرت إلى ملخص ما جاء في التواريخ الاسلامية عن ذي نواس وعن حادث تعذيب نصارى نجران، وهو حادث لم يكن بعيد العهد عن الإسلام. فقد أشير إليه بايجاز في القرآن الكريم: ) قتل أصحاب الأخدود. النار ذات الوقود. اذ هم عليها قعود. وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود (. فجمع المفسرون والأخباريون ما علق بالأذهان من هذا الحادث ورووا أخبارا متناقضة متباينة في أصحاب الأخدود.
أما رأي اليهود - وهم طرف من أطراف هذا النزاع - عن حادث نجران فلا علم لنا برأي رجاله المعاصرين في الحادث. إذ لم يصل الينا شيء مدون بقلم مؤلف يهودي معاصر له. وقد أخذ الأخباريون - كما قلت - ما كان علق عن ذلك الحادث بأذهان يهود اليمن ويثرب، على لسان وهب بن منبه، وأضرابه، أخذوه عن طريق الرواية والحفظ، فهذا المدون في كتب أهل الاخبار والمنصوص على سنده هو كل ما نعرفه من رأي اليهود المتأخرين في حادث في نجران.

(1/1755)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما ما رواه النصارى عنه، وهم الطرف الثاني في النزاع، فإنه أطيب جدا وأوضح مما ورد في الموارد الاسلامية وفي الرواية اليهودية الشفوية اذ اعتمدت المواد الاسلامية واليهودية على منابع شفوية، هي السماع والرواية، فجاء وصفها للحادث مزوقأ. أما الموارد النصرانية فقد اعتمدت على السماع والمشافهة أيضا، ولكنها أخذت من موارد ووثائق مسجلة دون بعضها بعد وقوع الحادث بقليل، وكان لتدوينها الحادث أهمية كبيرة بالنسبة لمن يريد تأريخه والوقوف على كيفية حدوثه، وإن كانت لا تخلو أيضا من المبالغات والتهويل، والعواطف، لأنها كتبت في ظروف عاطفية حماسية. ونقلت من محيط للمبالغة فيه مكانة كبيرة ومن أفواه أناس ليس لهم علم بمنطق المحافظة على صدق الواقع. وقد دونت لبعث حمية النصارى على انقاذ أبناء دينهم المضطهدين في اليمن.
وقد ادرك بعضها زمن الحادث وأخذ سماعا من رجال شهدوه، أو من رجال نقلوا رواياتهم من شهود العيان. فلهذه الوثائق إذن شأن عظيم،ني نظر المؤرخ. ومن هؤلاء الرحالة: "قزما"، والمؤرخ "بروكوبيوس" المتوفي في حوالي السنة "565" للميلاد. ومن المتأخرين: المؤرخ "ملالا" Johannes Malala. وقد نقل من كتابه بعض المؤرخين المتأخرين عنه،مثل "ثيوفانس"Theophanes "758 - 818" و "سدرينس" Georg Cedrnus، و "نيقيفورس كالستيNicephorus Callisti.

(1/1756)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان "قزما" المعروف ب Cosmas Indicopleutes أي "قزا بحار البحر الهندي"، وصاحب كتاب "الطبوغرافية النصرانية" Christian Cosmography وكتاب "البحار الهندية" "بحار البحر الهندي" Indicopleutes في مدينة "أدولس" Adulis، الواقعة على ساحل الحبشة على المحيط الهندي ينقل كتابة "بطلميوس" Ptlemaeus اليونانية بأمر النجاشى )Elesboan ()Elesboas( في العهد الذي كان فيه النجاشي يتهيأ لغزو أرض حمير. فكتب في جملة ما كتبه قصة غزو الحبشة لليمن بعد25 عاما من وقوعه. فلروايته عن الحملة شإن كبير لأنها غير بعيدة عهد عن الحادث، ثم إن صاحبها نفسه كان قد أدركها وقد سمع أخبارها من شهود عيان. ولعله كان نفسه من جملة أولئك الشهود، شاهد السفن وهي تحمل الجنود لنقلهم إلى اليمن، واتصل بالرسميين الحبش واستفسر منهم عن الحملة.
ويفهم من رواية "قزما"، إن الحملة كانت في أوائل أيام حكم القيصر "يسطينوس" Justinus "518 -527م". أما "ثيوفانس" Theophanes و "سدرينوس" Cedrnus ومن اعتمد عليهما، فقد جعلوا الحملة في السنة الخامسة من حكم هذا القيصر، وذكروا إن الذي حمل النجاشي على هذا الغزو هو تعذيب ملك حمير لنصارى نجران، وقد قتل هذا الملك.
ويحدثنا "ثيوفانس". و "سدرينوس" عن غزو ثان قام به الحبش على حمير لآعتداءاتهم على تجار الروم،وذلك في السنة الخامسة عشرة من حكم "يوسطنيانوس" Justinus "527 - 565م"، وفي عهد النجاشي "ادد"Adad. أما ملك حمير، فاسمه "دميانوس"Damianus. وقد ذكر "ملالا" هذا الحديث محرفأ بعض التحريف، فجعل اسم النجاشي "أندس" Andasبدلا من ادد، وصير اسم ملك حمير "دمنوس" Damnus عوضا عن "دميانوس" Damianus، وذكر حملة "اندس" هذه قبل جملة Elasbaas. وأشار إلى أن النصرانية كانت قد انتشرت في الحبشة قبل أيام "اندس". وذكر المؤرخان الآخران إن "أدد" تنصر على أثر احرازه النصر على الحمريين.

(1/1757)

admin
12-27-2010, 01:58 AM
وتحدثنا رواية سريانية إن النجاشي المسمى "ايدوك" Aidog حارب الملك "اكسينودون" Xenedon ملك الهنود. ثم حارب "دميون" Dimion ملك حمير لاعتدائه على التجار الروم واستيلائه على أموالهم. فانتصر "ايدوك" على ملك حمير، ثم تنصر، وعين على حمير ملكا نصرانيا. فلما مات هذا الملك، عذب خلفه نصارى نجران، فغزا "ايدوك" حمير وانتصر عليها. وأقام علها "ابرهام" "ابراهيم" Abraham. ولا يشك المستشرق "فيل" Fell في أن - المراد ب "Adad" "Andas" "Aidog"" رجل واحد هو النجاشي "كالب"،وهو Elasbaas "كلب الا أصبحه" "كالب الا اصبحه". وأما Dimion , Damianus, Xenedon، يراد بها "ذو نواس". وقد تحدث "فل" Fell باطناب عن مختلف الروايات الواردة عن النجاشي "كالب" "كلب الا إصبحه" و "الاعاميدة". "عيلاميده" وعن انتشار النصرانية في الحبشة، وأمثال ذلك، فإليه يرجع من يطلب المزيد.
وفي المرويات اليونانية عن الشهداء أن الذي قام بتعذيب نصارى نجران هو الملك "ذو نواس" Dunaas ملك حمير، وان ذلك كان في السنة الخامسة من حكم، "يوسطينوس" Justinus، أن الذي غزا اليمن هو النجاشيEla Atzbeha. فلما دخلت جيوشه أرض حمير، فر Dunaas الى الجبال فتحصن فيها، حتى إذا سنحت له الفرصة خرج فقتل من بقي من جيش النجاشي في اليمن واحتل مدينة "نجران" فقام عندئذ Elesbas بحملة ثانية فانتصر بها على "Dunaas" وعين Abraham في مكانه.

(1/1758)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي جملة ما لحق بقصص الشهداء الحميريين، المناظرة التي جرت بين أسقف "ظفار" المسمى "كريكنتيوس " Gregentiusوبين Herban اليهودي، والظاهر أنها من القصص الذي وضع في السريانية وليست لها قيمة تأريخية بالطبع. وقد دون "يوحنا الأفسي" John of Ephesus المتوفي في حوالي سنة "585" للميلاد في تأريخه الكنسي وثيقة مهمة جدا عن حادث تعذيب نصارى نجران، هي رسالة وجهها "مار شمعون" أسقف "بيت أرشام" Simon of Beth Arsham المعاصر لهذا الحادث إلى "رئيس دير جبلة" Abt von Gabula يصف فيها ما سمعه وما قصصه عليه شهود عيان من أهل اليمن وما لاقوه هناك من أصناف العذاب. ومنه أخذها البطريق "ديونيسيوس" Patriach Dionysius، فأدخلها في تأريخه المؤلف بالسريانية. وقد نشرها "السمعاني" في مؤلفه "المكتبة الشرقية". وتجد هذه الرسالة أيضا في تأريخ "زكريا" Zacharias von Mitylene المتوفي في حوالي سنة "568" للميلاد، وهو بالسريانية أيضا. وفي الرسالة اختلافات عن نسخ الرسالة الأخرى، ولكنها غير مهمة على كل حال ولا تغير من جوهرها شيئا.
وقد ذكر "شمعون" في رسالته أنه كان قد رافق "ابراهيم" "ابراهام" Abraham والد"نونوسوس" Nonnosus الشهير في رسالة خاصة أمر بها القيصر "يوسطينوس" Justinus الأول الى ملك الحيرة "المنذر الثالث". وكان ذلك في العشرين من كانون الثاني من سنة "835" من التأريخ السلوقي،وتقابل هذه السنة سنة"524" للميلاد. فلما بلغا قصر الملك، سمعا بأخبار استشهاد نصارى نجران. وعلم به "شمعون".من كتاب وجهه ملك حمير الى ملك الحيرة، يطلب منه أن يفعل بنصارى مملكته ما فعله هو بنصارى نجران. وقد قرىء الكتاب أمامه، فوقف على ما جاء فيه، وعلم به أيضا من رسول أرسله في الحال إلى نجران ليأتيه بالخبر اليقين عن هذه الأعمال المحزنة التي حلت بالمؤمنين.

(1/1759)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد وجه شمعون في نهاية الرسالة نداء إلى الأساقفة خاصة أساقفة الروم ليعلمهم بهذه الفاجعة التي نزلت باخوانهم في الدين، والى بطريق الاسكندرية ليتوسط لدى نجاشي الحبشة في مساعدة نصارى اليمن، كما وجه نداءه الى أحبار "طبرية" للتأثير على ملك حمير، والتوسط لديه بالوصف عن الاضطهاد والتعذيب.
وقد درس عدد من الباحثين هذه الرسالة، ونقدوها، وهي في الجملة صحيحة ووثيقة مهمة لا شك في ذلك بالنسبة إلى من يريد الوقوف على موضوع استشهاد نصارى نجران. أما ما جاء فيها على لسان ملك حمير من جمل وعبارات استخلصت على حد قول "شمعون" من الرسالة التي وجهها ملك حمير إلى المنذر، فمسألة فيها نظر، وقضية لا يمكن التسليم بها، فلا يعقل أن يكون ما قيل فيها على لسانه قد صدر منه. وما دون فيها من عبارات بحق الشهيد "حارثة" "الحارث" Arethas ونصارى نجران لا يعقل أن يكون قد صدر من ملك يهودي. ولكننا لا نستطيع أن ننكر أو نتجاهل أمر الرسالة التي أرسلها الملك إلى المنذر لحثه على اضطهاد نصارى مملكته مقابل مبلغ يقدمه ملك حمير إليه. ولا داعي يدعو إلى نكرانها والشك فيها. وكل ما نستطيع أن نقوله إن الرسالة صحيحة، ولكن ما دونه شمعون من جمل وعبارات على انها من كلام ملك حمير، هو من انشائه وكلامه، لا ترجمة حرفية للكتاب. وخلاصة ما يقال في الرسالة انها وثيقة مهمة، ولها قيمة تأريخية في الجملة بغض النظر عن التفصيلات الواردة فيها وعن عواطف كاتبها وعن المبالغات التي وردت فيها وفي مركز صاحبها والمكانة التي كان فيها ما يسوغ صدور مثل هذه الأمور منه ووقفه عليها.

(1/1760)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن الوثاثق التأريخية التي تتعلق بشهداء نجران كتاب ينسب إلى "يعقوب السروجي" في السريانية في نصارى نجران، وقصيدة في رثاء الشهداء ل"بولس" Paulus Bishop of Eddessa أسقف "الرها" Eddassa=Edessa ومدحه اياهم، ونشيد كنسي سرياني ل"يوحنا بسالطس" Johannes Psaltes رئيس دير قنسرين المتوفى سنة "600" للميلاد، وميمر ليعقوب الرهاوي.
ويظهر مما ورد في "كتاب الشهداء الحميريين" وفي رسالة "شمعون الأرشامي" أن "يعقوب السروجي" أسقف "سرجيوبولس" Sergiopolis أي "الرصافة" كان من رجال البعثة المذكورة التي أوفدها القيصر "يوسطين الأول" "يسطينوس" Justin 1 إلى الملك "المنذر". و "الرصافة" Sergiopolis هي "متروبولية منطقة الفرات" Metoripolis of Euphratensis بالنسبة إلى نصارى العرب. ويذكر مؤلف الكتاب المذكور أنه عمد وهو في "حيرة النعمان" "حيرتا دى نعمانا" Hirtha Dhe,Na, mana أحد سادات حمير، واسمه "أفعو"Afu، وكان أحد الوثنين الذين جاؤوا من اليمن إلى الحيرة، وقد شاهد بنفسه تعذيب نصارى "نجران". وقد كلفه ملكه، أي ملك حمير،السفارة عند ملك الحيرة. ولكنه كان رقيق القلب، فرق قلبه وهو في الحيرة على النصرانية، فتنصر على يديه.
وقد نقل مؤلف كتاب الشهداء الحميريين صورة الكتاب الذي أرسله ملك حمير، وقد دعاه "مسروقا" Masruq، إلى "المنذر بن الشقيقة" "منذر بن شقيقة" Mundhar bar Zaqiqa وهو يحرضه فيه على النصارى.

(1/1761)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا بد من الإشارة إلى الأثر المهم المنشور باليونانية ل "يوحنا بولند" Johann Bolland وجماعته في عشرات المجلدات، والى أثر آخر نشره "بويسونا" Boissona في اليونانية كذلك في خمسة مجلدات. فقد دونت في الكتاب الأول قصة الشهيد القديس "الحارث" Arethas وبقية شهداء نجران، وقصة الحرب التي وقعت بين النجاشي وذي نواس. ودونت في الأثر الثاني مضامين رسالة "مار شمعون". وقد بين "فينندفل" Winand Fell رأيه فيما جاء في مجموعة "بولند" Bolland.
وللنصوص الحبشية ولا شك أهمية عظيمة عند من يريد تدوين غزو الأحباش لليمن وتأريخ شهداء نجران إذ كانوا الطرف الرئيسي في هذا الحادث، وهم الذين أغاروا على اليمن فقتلوا ملك حمير. لذا وجه الباحثون أنظارهم نحوها وفتشوا عنها، غير انهم لم يعثروا على نصوص فيها أمور جديدة عن الحادث تنفرد بها. وما عثر عليه ليس بكثير. ومن ذلك كتابة عليها "يوسف سابيتو" J.Sapeto أشير فيها باختصار إلى القديس الحارث "حيروت" Herut وبقية الشهداء، وجملة مخطوطات حبشية محفوظة في المتحف البريطاني وردت فيها أخبار الشهداء وغزو الحبشة لليمن، وأمر "ذو نواس" المسمى فيها ب "فنحاس"،وهي لا تختلف في الجملة اختلافا كبيرا عما جاء في أعمال "البولنديين" وأعمال القديس "أزقير" التي نشرها "روسيني"، وهو الذي استشهد بأمر ملك حمير "شرحبيل بن ينكف" مع "38" آخرين.

(1/1762)


--------------------------------------------------------------------------------

يتبين من بعض الموارد الإغريقية والحبشية أن الأحباش كانوا قد نزلوا بأرض حمير قبل قيام ذي نواس بتعذيب نصارى حمير بسنين، وانهم انتصروا على ذي نواس، فاضطر إلى التقهقر إلى الجبال للاحتماء بها، وانهم تركوا في اليمن جيشا لحماية النصارى والدفاع عنهم. فلما مات قائد الجيش ونائب الملك، انتهز ذو نواس هذه الفرصة فأغار على الحبش فتمكن منهم، وعذب من وجد في بلاده من النصارى واضطهدهم، وأغار على نجران، وحاصرها مدة طويلة بلغت سبعة أشهر على زعم الرواية الحبشية. فلما طال الحصار،عمد ذو نواس إلى الخداع والغش، ففاوض النجرانيين على التسليم له، وتعهد إن فتحوا له المدينة، ألا يتعرض لهم بسوء. فلما صدقوه وفتحوا المدينة له، أعمل فيهم السيف، فحمل، ذلك الحبش على غزو اليمن.

(1/1763)


--------------------------------------------------------------------------------

وورد في كتاب الشهداء الحميريين، ما يفيد بأن الحبش بعد أن نزلوا أرض حمير، عارضهم رجل اسمه "مسروق" وحاربهم وقاومهم، وهاجم مدينة "ظفار" عاصمة حمير، وكان الحبش قد استولوا عليها وتحصنوا بها، ولما رأى "مسروق" أنه لا يتمكن من التغلب على الحبش الذين كانوا يحاربونه في مدينة "ظفار"، أوفد اليهم كهانأ ويهودا من طبرية ورجلين من الحيرة كانا نصرانيين في الاسم، يحملون معهم كتابا يعدهم فيه أنهم إن سلموا له "ظفار" فلن يؤذيهم، بل يعيدهم إلى الحبشة سالمين. فوثقوا بكلامه وصدقوه، وخرجوا إليه وكانوا ثلاث مئة محارب على رأسهم القائد "أبابوت"، فقبض عليهم وغدر بهم، إذ سلمهم إلى اليهود فقتلوهم. ثم أرسل من حرق بيعة ظفار بمن كان فيها من الحبش، عددهم مئتان وثمانون رجلا، وكتب إلى الحميريين آمرا بقتل النصارى قاطبة إن لم يكفروا بالمسيح ويتهودوا. وكتب إلى الحارث من أشراف مدينة نجران أن يأتيه مع من عنده من حملة السلاح لحاجته الشديدة اليهم. فلما بلغ الحارث مدينة ظفار، وسمع بما حدث، رجع إلى نجران. فحاصر مسروق المدينة، وطال الحصار، فراسل أهلها على الأمان. فلما فتحوا له مدينتهم، غدر بهم، وأحرق بيعتهم وأحرق خلقا منهم بالنار رجالا ونساء وأطفالا. وكان بعض قسيسيهم من حيرة النعمان ومن الروم والفرس والحبشة.
فلما تمادى مسروق في غيه وفي قتل النصارى في نجران وغير نجران من مدن اليمن وقراها، سار سيد من سادات القوم اسمه "أمية" الى الحبشة فأخبر مطرانها "أوبروبيوس" و "كالب" النجاشي بما حل بنصارى اليمن، فأمر "كالب" جيوشه بغزو حمير، فغزتها وقضى على "مسروق" اليهودي، وهو "ذو نواس" في كتب الإسلاميين.

(1/1764)


--------------------------------------------------------------------------------

هذه رواية في السبب المباشر لغزو اليمن. وفي رواية أخرى أن الملك "دميون" Dimion "دميانوس" Dimianos ملك حمير Homeritae، كان قد أمر بقتل التجار الروم الذين كانوا في بلاده وبنهب أموالهم انتقاما من الروم الذين أساؤوا في بلادهم معاملة اليهود واضطهدوهم، فتجنب التجار الروم الذهاب إلى اليمن أو إلى الحبشة والى المناطق القريبة من حمير، فتأثرت التجارة مع الحبشة، وتضرر الأحباش. فعرض النجاشي على ملك حمير عروضا لم يوافق عليها، فوقعت الحرب. وتزعم الرواية أن النجاشي لم يكن نصرانيا، فقيل له: إن كتب لك النصر فادخل قي دين المسيح. فوافق على ذلك. فما انتصر، تنصر، وانتقم من حمير. ثم أرسل رجلين من ذوي قرابته الى القيصر يلتمس منه إرسال أسقف وعدد من رجال الدين. وبعد بحث واستقصاء وقع الاختيار على Johannes Paramonaris من كنيسة القديس يوحنا، فذهب مع عدد من الكهان " فعمد النجاشي وأتباعه، وأقام الكنائس، وأرشد الناس إلى الدين الصحيح.
وقد عرف ذو نواس في النصوص النصرانية باسم Dimnus=Damian و Damnus=Dimianos و "مسروق". ونرى تشابها كبيرا بين Dimnus و Damian و Damnus وكلمة "ذو نواس" العربية. فالظاهر أنها تجريف نشأ عن هذا الأصل. وأما النصوص الحبشية فقد دعته "فنحاس" Phin,has، وهو اسم من اسماء اليهود.

(1/1765)


--------------------------------------------------------------------------------

أما النجاشي الذي حارب حمير وغزا أرضها ط فقد دعاه "بروكوببوس" باسم Hellestheaeus. ودعاه غيره بأسماء قريبة منه مثل Elesbowan=Elisbahaz و Ela-Atzbeha=Elesbaas=Elesboas. ويظهر انها أخذت من "ايلا اصباح" Ela-Asbah أو "ايلاصباح" Ela-Sebah في الحبشية. ودعي أيضا باسم اخر، هو Aidug، دعاه به "يوحنا الأفسي" Johannes von Ephesus و "اندس" Andas وقد دعاه "ملالا" بذلك. و Adad ودعاه به "ثيوفانس" و "سدرينوس" Cedrenus. أما في الروايات الحبشية، فقد سمي "كالب" Kaleb. فهو إذن "الا أصبحة كالب" Elle, Asbwha Kaleb وتعني "الا" Elle=Ella "ذو" أو من "آل". وأما "أصبحة"، فاسم أجداده وعشيرته التي انحدر منها. كما أن "ذا نواس"، لا يعني اسم الملك، بل لقب أسرته. فاسمه هو "يوسف". ويكون النجاشي، أي ملك الحبشة الذي جهز الجيش وفتح اليمن هو "كالب" من "آل أصبحة" أو "الا أصبحة كالب" كما عرف بذلك.
وقد تحول اسم النجاشي Ela Sebah=Elesbass الى "أصحمة" في العربية. فقد ذكر بعض العلماء أن "أبرهة ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي"، ف "أصحمة" إذن هو النجاشي المذكور.
والنجاشي Ela Atybeba=Elesboas، وهو ابن النجاشي Tayena الذي كان على النصرانية. وقد خلف هذا النجاشي، النجاشي Andas الذي كان قد أقسم أنه إذا انتصر في الحرب يتنصر. فانتصر،فدخل في النصرانية. وصارت النصرانية ديانة رسمية للحبشة. وقد لقب Tayena بلقب "ملك اكسوم وحمير Homer وريدان وسبأ وسلحين" في كتابة من كتاباته، مما يدل على أنه كان قد حكم اليمن.

(1/1766)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عثر في خرائب مدينة "مأرب" القديمة، على نص مصاب بتلف في مواضع عديدة منه، تبين من دراسة ما بقي منه انه مدون بلغة أهل الحبشة، وأنه يتحدث عن غزو بحري لميناء لم يذكر اسمه في النص، وقد يكون ذلك بسبب التلف الذي أصاب النص، قام بذلك الغزو مدون النص، وقد كان في سفينة تبعتها إحدى عشرة سفينة أخرى، فنزل بذلك الميناء وتغلب عليه ونزل المحاربون من سفنهم ودخلوا الميناء، فأخذوا غنائم وأسرى. ثم تلت هذه السفن دفعة ثانية من سفن جاءت محملة بالمحاربن، نزلوا في موضع يقع جنوب الموضع الذي نزل هو فيه. لم يذكر اسمه في النص كذلك. وقد انتصر الغزاة على الأماكن التي هاجموها، لأنهم كانوا مع الحق والشرع، فكان الله معهم، وكان أهل الميناء على الباطل وضد الشريعة الحقة فعوقبوا بالهزيمة.
والنص المذكور - وإن كان خلوا من كل إشارة إلى "ذي نواس"، أو إلى اسم "نجاشي" الحبشة، أو إلى زمن وقوع الغزو والأماكن التي وقع عليها - يشير إلى غزو الحبش لليمن في حكم "ذي نواس"، والى تغلب الحبش عليه. ويظهر منه أن القافلة الأولى تركت ساحل الحبشة من موضع "ادولس" "عدولس" "عدولي" Adulis على ما يظهر وكانت بإمرة "الا اصبحة"، فعبرت باب المندب، حتى وصلت إلى ساحل اليمن. وقد اختارت ميناء "مخا" موضعا للنزول، فنزلت به وتغلبت على أصحابه. ثم جاءت قافلة أخرى نزلت في موضع يقع جنوب هذا الميناء، وتغلبت على أصحابه كذلك. وبذلك تم النصر للحبش. ولم يشر النص إلى أسم الموانىء التي تحرك منها الجيش، أو الموانىء التي نزل بها في ساحل اليمن.

(1/1767)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عالج الباحثون هذه الأسماء، فرأى قسم منهم أنها تعني شخصا واحدا هو ملك الحبشة الذي حارب ذا نواس. ورأى آخرون أن المراد ب Aidug و Adad و Andas شخص واحد هو نجاشي حكم قبل هذا العهد، اي في القرن الرابع للميلاد، وهو "الا عاميدة" "علا عاميدة" Ela Amida، المعاصر للقيصر قسطنطين، وكان أول من تنصر من ملوك الحبشة على بعض الروايات. وذلك لعدم انسجام هذه الرواية التي تنص على تنصر Aidug بعد انتصاره على حمير، كما أشرت إلى ذلك، مع روايات أخرى تشر إلى تنصر ملوك الحبشة قبل غزو اليمن هذا بكثير.
وترى الروايات العربية أن ذا نواس لما غلب على أمره ورأى مصيره السيىء، ركب فرسه وسار إلى البحر فدخله فغرق فيه. أما الروايات الحبشية والإغريقية، فإنها ترى أنه سقط حيا في أيدي الأحباش فقتلوه.
وهناك شعر نسب إلى علقمة ذي جدن زعم انه قائله، هو: أو ما سمعت بقبل حمير يوسفا أكل الثعالب لحمه لم يقتبر ?
وقد استدل منه "فون كريمر" على أن ذا نواس لم يغرق في البحر كما في الروايات العربية الأخرى، بل قتل قتلا كما ورد في روايات الروم.
حكم السميفع أشوع

(1/1768)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر "بروكوبيوس" إن الذي حكم حمير بعد مقتل ملكهم هو رجل اسمهEsimiphaios=Esimiphaeus اختاره النجاشي من نصارى حمير ليكون ملكا. على أن يدفع إلى الأحباش، جزية سنوية فرضي بذلك وحكم. غير أن من تبقى من جنود الحبشة في أرض حمير ثاروا عليه وحصروه في قلعة، وعينوا مكانه عبدأ نصرانيا اسمه "ابراهام" Abraham كان مملوكا في مدينة "أدولس" "عدول" Adulis لتاجر يوناني. فغضب النجاشي وأرسل قوة قوامها ثلاثة آلاف رجل لتأديبه وتأديب من انضم إليه. فلما وصلت إلى اليمن، التحقت بالثوار، وقتلت قائدها وهو من ذوي قرابة النجاشي. فغضب Hellestheaeus عندئذ غضبا شديدآ،وسير إليه قوة جديدة لم تتمكن من الوقوف أمام أتباع Abram فانهزمت ولم يفكر النجاشي بعد هذه الهزيمة في إرسال قوة أخرى. فلما مات، صالح Abraham خليفته على دفع جزية سنويه، على أن يعترف به نائبا عن الملك على اليمن، فعين نائبا عنه.
وذكر "بروكوبيوس" أيضا أن القيصر "يوسطنيانوس" أرسل رسولا عنه إلى النجاشي Ela-Atzbeha Hellestheaeus والى Esimiphaeus اسمه "جوليانوس" Julianus ليرجو منهما اعلان الحرب على الفرس وقطع العلاقات التجارية معهم، لأنهما والقيصر على دين واحد، فعليهما مساعدة أبناء دينهم الروم والاشتراك معهم في قضيتهم، وهي قضية عامة مشتركة، على النصارى جميعا الدفاع عنها.

(1/1769)


--------------------------------------------------------------------------------

وطلب من ملك حمير Homeritae خاصة أن يوافق على تعيين "قيس" "Phylarch" Caisus=Kaisos سيدا على قبيلة معد Maddeni، وأن يجهز جيشا كبيرا يشترك مع قبيلة معد في غزو ارض الفرس. وكان قيس كما يقول "بروكوبيوس" من أبناء سادات القبائل، وكان شجاعا قديرا وكفؤا جدا وحازما، قتل بعض ذوي قرابة Esimiphaeus فانهزم إلى البادية هائما. وقد وعد الملك خيرا، غير أنه لم ينجز وعده، إذ كان من الصعب عليه اجتياز أرض واسعة بعيدة وطرق طويلة تمر بصحارى وقفار لمحاربة أناس أقدر من قومه في الحرب. وقد وصل رسول "جستنيان" "يوسطنيان" Justinian سنة "531م" إلى ميناء "ادولس" من البحر، ثم ذهب منه إلى "اكسوم" حيث وجد النجاشي Ela Atybeba واقفا على عربة ذات أربع عجلات، وقد ربطت بها، أربعة فيلة، وكان عاريا إلا من مئزر كتان مربوط بذهب، وقد ربط على بطنه وذراعيه حليا من ذهب. وبعد أداء هذا الرسول رسالته، ثار "ابرام" Abram على Esimiphos، وقضى على حكمه.
وقد رجع السفير فرحا مستبشرا بنجاح مهمته، معتمدا على الوعود التي أخذها من الملكين. غير انهما لم يفعلا شيئا، ولم ينفذا شيئا مما تعهدا به للسفير. فلم يغزوا الفرس، ولم يعين "السميفع أشوع" "قيسا" "فيلارخا" على قبيلة معد. وقد تحرش Abramos=Abram بالفرس، غير انه لم يستمر في تحرشه بهم، فما لبث أن كف قوانه عنهم.
ولا يعقل بالطبع توسط القيصر في هذا الموضوع لو لم يكن الرجل من أسرة مهمة وعريقة، له عند قومه مكانة ومنزلة، وعند القيصر أهمية وحظوة. ولشخصيته ولمكانة أسرته، وأرسل رسوله الى "السميفع" لاقناعه بالموافقة على اقامته رئيسا على قومه، وبهذا يكتسب القيصر رئيسا قويا وحليفا شجاعا يفيده في خططه السياسية الرامية الى بسط سلطان الروم على العرب، ومطافحة الساسانيين.

(1/1770)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد زار "ابرام" Abram والد "نونوسوس" Nonnosus الذي أرسله جستنيان" Justinian إلى النجاشي وإلى اليمن وإلى معد Caisus=Kaisos "قيسا" هذا مرتين، وذلك قبل سنة "535م"، وزاره "نونوسوس" نفسه في أثناء حكمه، فأرسل "قيس" ابنه "معاوية" معه إلى القسطنطينية إلى "يوسطنيان"، ثم استقال "قيس"، وصار أخوه رئيسا على معد، وزار القسطنطنية، فعين "فيلارخا" على فلسطين.
ويظهر من دراسة خبر المؤرخ "بروكوبيوس" أن قيصر الروم المذكور كان قد أرسل رسولا عنه إلى "النجاشي" وإلى "السميفع"، إبان حكم السميفع لليمن، أي قبل ثورة "أبرام" "أبرهة" عليه. ولهذا كلمه الرسول في أمر "قيس"، ولكنه أخفق في اقناعه بالعفو عنه وبالاعتراف به رئيسا على معد، فلم يعترف به إلى مقتله. فلما توفي، جاء رسول القيصر ثانية إلى النجاشي والى ابرهة والى "قيس" بمهمة تحريضهم لمعارضة الفرس، وتوحيد كلمتهم. وكان "أبرهة" على عكس "السميفع" على علاقة طبية ب "قيس"، وقد قرر تنصيبه رئيسا على معد.
وقد أشار المؤرخ "ملالا" إلى خبر الرسول الذي أرسله القيصر إلى النجاشي لاقناعه بالاشتراك مع الروم في محاربة الفرس، غير أنه لم يذكر اسم الرسول الذي أوفده القيصر إلى بلاط "أكسوم". وقد ذكر أن النجاشي بعد أن تغلب على ملك حمير عين أحد ذوي قرابته ويدعى Anganes=Agganعلى الحميريين. وأما "يوحنا الأفسي"،. فقد دعاه Abramios، ودعاه "ثيوفانس،" "الحارث" Arethas.
و Esimiphaeusالذي نصبه النجاشي ملكا على حمير بعد مقتل ملكهم اليهودي،

(1/1771)


--------------------------------------------------------------------------------

هو "السميفع أشوع"، صاحب النص الموسوم ب CIH 621 بين العلماء. وقد دونه مع أولاده: "شرحبيل" يكمل" و "معديكرب يعفر"، وجماعة من سادات القبائل منهم: أبناء ملحم "ملحهم"، وكبراء "كبور" قبائل محرج سيبان ذو نف. وقد كان السميفع أشوع من "بني لحيعت يرخم"،وكان هو وأولاده سادة "الهت" على: "كلعن" "كلعان" أي الكلاع و"ذ يزن" "ذى يزان" "ذى يزأن" و "ذى جون" و "مثلن" "مثلان" "مطلحن" "مطلحان" و "شرفن" "شرفان" "شرقان" و "حب" "حبم" ويثعن "يثعان" و "يشر" يشرم ويزر ومكرب "مكريم، و "عقهت" "عقهة" و "بزاي" "بزايان" ويلجب "يلجبم" وغيمن "غيمان" "جيمان" و يسب وجبح وجدوى "جدويان" و "كزر" "كزران" و "رخيت" وجردان "الجرد" وقبيل "قبلان" و شرجى "شرجا".
أما أبناء ملحهم، فقد كانوا على وحظت "وحظة" و "الهان" "الهن" و "سلفن" "سلفان" "السلف"، و "ضيفن" "ضيفت" "الضيفة" و "ريان" "رثاج" و "رياح" و "ريحن" و "ر كب" "ركبن" و "مطلن" "مطلان" و "مطلفن" "مطلفان" و "ساكلن" "ساكلان"، و "زكزد".
وقد دونوا النص المذكور، لمناسبة ترميمهم واصلاحهم أسوار ودروب ومنافذ وصهاريج حصن "مويت" "عرمويت"، "ماويت" "ماوية"، وتحصنهم فيه بعد أن جاء الحبش إلى أرض حمير ففتحوها، وقتلوا ملكها وأقياله الحمريين والأرحبيين، وذلك في شهر "ذو حجت" "ذي الحجة" من سنة "640" من التأريخ الحميري الموافق لسنة "525 " للميلاد.

(1/1772)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر إن "السميفع أشوع"، كان من أهل "نصاب"، وكان قد هاجر لسبب لا نعرفه هو وأولاده إلى الحبشة.فأقام بها، ثم عاد فاستقر في "عر مويت" أي في "حصن ماوية"، وأخذ يوسع من هذا الحصن أرضه ويفتح أرضين جديدة ويتقدم نحو الأرضين التي حكمها "ذو نواس". فلما جاهر "ذو نواس" بمناصبة النصرانية والحبش والروم العداء،كلفه الحبش والروم بمهاجمة "ذي نواس" وقدموا له المساعدات المادية من عون عسكري ومالي، يستعين بها في تنفيذ مشروعه هذا. وأخذ يشتري القبائل ويفرض نفوذه عليها بالقوة وبالمال حتى انتهى الأمر بزوال ملك "ذي نواس"، فعين "السميفع" حاكما على اليمن ونائبا عن ملك الحبشة عليها، الا أن ثورة وقعت فيها، قضت على حكمه، فولى الأحباش شخصا آخر في مكانه. وذلك بعد السنة "531" للميلاد.
و "شرحب ال لحمى عت يرخم" "شرحبيل لحيعت يرخم"، هو والد "السميفع أشوع"، ولم يكن ملكآ، غير أنه لم يكن من العامة، بل كان من "اقول" الأقيال. وذلك لعدم ذكر لقب الملك بعد اسمه، وعدم نص ابنه "السميفع" على أن والده كان ملكا. ويجوز أن يكون للسميفع أشوع أبناء آخرون،غير الولدين: "شرحب ال يكمل" "شرحبيل يكسل" و "معد يكرب يعفر" المذكورين في النص.

(1/1773)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي متحف استانبول نص وسم ب Osma. Mus. No:281 نشره وترجمه العالم البلجيكي "ريكمنس" G.Ryckmans، في مجلة Le Museon،وردت في مطلعه جملة: "نفس قدس سميفع أشوع ملك سبا "، وفي آخره عبارة: "بسم رحمنن وبنهو كرشتش غلبن "، ومعناها "بسم الرحمن وابنه المسيح الغالب". وفي هاتين الجملتين دلالة مريحة على أن السميفع أشوع كان ملكا على سبأ وأنه كان على دين النصارى. وقد استعمل النص كلمة "كوشتس" بمعنى المسيح ويستعملها أهل الحبشة كذلك. وقد أخذوها، ولا شك من الروم. ويؤيد كولت "السميفع أشوع" نصرانيا، ما ذكره المؤرخ "بروكوبيوس" من أن الحبشة عينت رجلا نصرانيأ من حمير اسمه Esimiphaeus ملكا على حمير، وذلك بعد قتل الملك الحميري الذي عذب النصارى في بلاده، ويقصد به ذو نواس.
ولم جيك "السميفع أشوع" ملكا مستقلا كل الاستقلال يتصرف بملكه كيف يشاء، بل كان في الواقع تابعا لحكومة "أكسوم". يفهم ذلك صراحة من هذا النص الذي أتحدث عنه. جاء في السطر الثالث منه:"امراهمو نجشت اكسمن برو وهوثرن"، أي "في أيام أميرهم نجاشي أكسوم بنوا وأسسوا". وجاء في السطر السادس: "املكن الابحه ملك جبشت"، أي "الملك الابحة ملك الحبشة"، ويقصد ب "الابحة" نجاشي الحبشة "الا أصبحة" Ella ' Asbeha الذي كان ملك الحبشة في ذلك العهد، وعاصمته مدينة "أكسوم".
وتعني كلمة "نجشت" الواردة في النص ملكا أو أميرا في العربية، وقد أخذها العرب من البفس، وأطلقوها على ملوك الحبش، وهي "نجاشي" و "النجاشي" في عربيتنا، كما أطلقوا كلمة "قيصر" على اباطرة الروم.

(1/1774)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذكرت في النص أسماء "ذو يزان" "ذو يزن" و "حسن" "حسان" و "شرحبال" "شرحبيل" قيل "ذو معفرن"، أي قيل المعافر. و"اسودن" أي الأسود "وسميفع" قيل "دو بعدان" "ذ بعدن"، وزرعة قيل مرحبم، أي مرحب "المراحب" و "حارث" و "مرثد" أمراء "ثعبان"و "شرحبيل يكمل". وجاء بعض هذه الأسماء في نصوص أخرى، ومنها نص " حصن غراب" المتقدم وقد اشتهر بعض هذه القبائل في الإسلام.
ولدينا نص غفل من التأريخ وسمه العلماء بREP.EPIG.4069، وردت فيه جملة أسماء، هي: "شرحب ال يكمل" "شرحبيل يكمل" و"شرحب ال يقبل" "شرحيل يقبل"، و "مرثد علن احسن" "مرثد علن أحسن" "مرثد علان أحسن"، و "سميفع أشوع" أبناء "شرحب ال لحى عت يرخم" "شرحبيل لحيعت يرخم" أقيال "اقول" "ذو يزان" "ذو يزن" و "جدنم" "ذو جدن" و "يلجب" و "يصر". ويظن أن "السميفع أشوع" المذكور هنا هو الملك الذي نتحدث عنه. ولم يلقب في هذا النص بلقب ملك، كما لم يلقب به والده كذلك. والظاهر أنه كتب قبل عهد توليه الملك. وأنه لم يكن من الأسرة المالكة، ولكن من ابناء الذوات والأعيان. ووردت في نهاية النص جملة "الرحمن رب السماء والأرض"، وهي عبارة تختلف عن العبارات المألوفة التي نعهدها في النصوص الوثنية القديمة، تظهر منها عقيدة التوحيد والابتعاد عن الآلهة اقديمة بكل جلاء. غير أننا لا نستطيع أن نستخرج منها أن صاحبها كان يهوديا كما ذهب إلى ذلك بعض الباحثين، أو أنه كان نصرانيا. انما نستطيع أن نقول إن أصحاب هذا النص كانوا على دين التوحيد وكفى.
ومن الأسماء الواردة في هذا النص: "ضيفتن" "ضيفت" "ضيفة" و "ريحم" "ريح" "رياح" و "مهرت" "مهرة" وقبيلة "سيبن" "سيبان ". وقد تكون مهرت "مهرة"، هي مهرة التي تنسب إلى "مهرة بن حيدان بن عمرو بن الحاف بن قصاعة" في اصطلاح النسابين.

(1/1775)

admin
12-27-2010, 02:00 AM
ويقع "عرمويت"، أي حصن "مويت" "ماوية" في جزيرة بركانية تسمى حصن الغراب" وهو الآن خراب. وقد عثر الباحثون في أنقاضه على كتابة وسمت بCIH 728 دونها "صيد ابرد بن مشن" "صيد ابرد بن مشان"، أحد أقيال "بدش" "باداش". وورد فيها اسم "قنا". وقد كان لهذا الحصن شأن كبير في تلك الأيام لحماية الجزيرة والميناء من الأعداء المهاجمين ومن لصوص البحر. وللدفاع عن التجار الذين كانوا يتاجرون مع افريقية والهند. ولهذا اهتم " ألسميفع أشوع" وأولاده بترميمه وبإصلاحه وتقويته.
وأما ميناء "قنا" الذي ذكرته في مواضع من هذا الكتاب، وهو في الموضع المسمى ب "بيرعلي" في الوقت الحاضر على رأي بعض الباحثين، فقد كان من الموانىء المهمة على البحر العربي. وقد كان مرفأ للتجارة الآتية من الشمال، أو من البحر لارسالها إلى "شبوة" ومواضع أخرى في شمال هذا الميناء.
ومما يلاحظ أن المواضع الآثارية التي على الساحل الجنوبي لجزيرة العرب قليلة معدودة. وتكاد تنحصر في أرض عدن وابين. وحصن الغراب وفي مواضع من أطراف "ظفار" وحول "المكلا" و"الشحر " وساحل مهرة. مع ان السواحل هي من المواضع التي يجب أن تكون في العادة عامرة بالمدن والمرافئ بسبب سهولة اتصالها بالعالم الخارجي، ووقوعها على طرق مائية تجلب اليهن السفن والناس. والظاهر ان وخامة الجو في هذه السواحل وصعوبة حماية ساحل من لصوص البحر، وتفشي الامراض، وملوحة المياه الجوفية، واسبابا اخرى، كانت في جملة ما حال بين الناس وبين بناء المدن على هذه السواحل.

(1/1776)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد اشتهرت ظفار بأنها المرفأ المعد لتصدير اللبان والمر وحاصلات البلاد العربية الجنوبية الاخرى. وكان محاطا بسور. أما المواضع الاخرى، فلم تكن مسورة في الغالب. وقد اشار " كرب ايل وتر " في اخباره عن حروبه في السواحل الجنوبية انه خرب مدينة " تفض" في " ابين "، واحرق مواضع اخرى على البحر، يظهر انها لم تكن مسورة. ويظهر ان السواحل لم تكن مأهولة مثل الارضين الشمالية العالية، فلم يعثر الباحثون على كتابات كثيرة فيها حتى الآن. وصارت مدينة "عدن" ومدينة "قنا" من أهم المرافىء على الساحل الجنوبي.
هذا ولا بد لي هنا من الإشارة إلى كتابة حبشية ناقصة عثر عليها "أحمد فخري" سنة "1947م" بمأرب، فيها إشارة إلى دخول الحبشة إلى اليمن، وإن لم ينص على ذلك نصا. ويظن أنها تشدير إلى استيلاء "الا اصبحة" النجاشي على اليمن سنة "525" للميلاد. وانتصارة على "ذي نواس".
ويظهر من هذه الكتابة أن حملة الحبش على اليمن نقلت في قافلتين من السفن: تحركت القافلة الأولى بقيادة النجاشي الذي كان قد احتجز سفينة خاصة به، فعبرت به باب المندب ورست عد ساحل اليمن.وكانت سفينة النجاشي أول سفينة بلغته، ثم تلتها بقية السفن. وقد سقط من الكتابة اسم الموضع الذي رست السفن فيه، ولعلة "مخا". فوقعت معارك بين ألحبش، وبين الحميرين، انتصر فيها الأحباش فأخذوا أسرى وغنائم. ولما كان النصر ناقصا وقد طمست من الكتابة البا??قية منه كلمات، فقد صار غامضا مقتضبا،لا يفهم منه إلا إشارات.
???أبرهة
AbrahamوAbramiois هما اسمان لمسمى واحد، أريد به "أبرهة" المشهور عند أهل الأخبار الذي اغتصب الملك باليمن، ونصب نفسه حاكماعليها، ولقب نفسه بألقاب الملوك، وإن اعترف اساسا بأنه "عزلى ملكن اجعزين"، أي "نائب ملك الأجاعزة" على اليمن. وحكم اليمن أمدا، وترك في نفوس اليمانيين اثرا قويا.

(1/1777)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرى بعض الباحثين أن "كالب ايلا أصبحة "، كان قد أرسل حملة سنة "523" للميلاد على اليمن، حملتها اليها سفن بيزنطية، نزلت في البلاد وتغلبت على "ذي نواس" فهرب "ذو نواس" من "ظفار"، ثم عاد فباغت الحبش وأنزل بهم خسائر كبيرة، واضطهد النصارى وعذ بهم. فحمل النجاشي على ارسال حملة جديدة عليه نزلت اليمن سنة525" للميلاد. وصارت في أيدي الحبش حتى سنة "530" للميلاد. اذ قامت ثورة على الحبشة، وانتهز "أبرهة" الفرصة، فأخذ الأمر بيديه، وبقي حاكما على اليمن منذ هذا الوقت تقريبا حتى سنة "575" للميلاد. وكان قد انتزع الحكم من "السميفع أشوع"، الذي نصبه الحبش ملكا على اليمن حين دخولهم اليها وعينوا رجلين من الحبش يحكمان معه ويراقبان أعماله لئلا يقوم بعمل يضر مصالحهم.

(1/1778)


--------------------------------------------------------------------------------

ولأهل الأخبار روايات عن كيفية استئثار "أبرهة" بالحكم واغتصابه له. لهم رواية تقول: إنه جاء إلى اليمن جنديا من جنود القائد الحبش "أرياط" الذي كلفه نجاشي الحبشة بفتح اليمن، فلما أقام باليمن سنين، نازعه في أمر الحبشة باليمن أبرهة الحبشي، حتى تفرقت الحبشة، وخرج أبرهة على طاعة قائده، ثم غدر به وأخذ مكانه. ورواية أخرى، تقول إن النجاشي أرسل جيشا قوامه سبعون الفا، جعل عليه قائدين، أحدهما: أبرهة الأشرم. فلما ركب ذو نواس فرسه واعترض البحر فاقتحمه وترك به، نصب أبرهة نفسه ملكا على اليمن، ولم يرسل له شيئا، فغضب النجاشي ووجه اليه جيشا عليه رجل من أصحابه، يقال له أرياط، فلما حل بساحته، بعث اليه أبرهه: "إنه يجمعني واياك البلاد والدين، والواجب علي وعليك أن ننظر لأهل بلادنا وديننا ممن معي ومعك، فإن شئت فبارزني، فأينا ظفر بصاحبه كان الملك له، ولم يقتل الحبشة فيما بيننا". فرضي بذلك أرياط، واجمع أبرهة على المكر به، فاتعدا موضعا يلتقيان به، واكمن أبرهة لأرياط عبدا يقال له: "أرنجده" في وهدة قريب من الموضع الذي التقيا فيه، فلما التقيا سبق أرياط فزرق أبرهة بحربته، فزالت الحربة عن رأسه وشرمت أنفه، فسمي الأشرم، ونهض أرنجده من الحفرة، فزرق أرياط فأنفذه، فقتله". وأخذ أبرهة الحكم لنفسه واستأثر به.
وتذكر رواية أخرى، أن النجاشي كان قد وجه أرياط أباصحم "ضخم" في أربعة آلاف إلى اليمن، فأداخها وغلب عليها، فأعطى الملوك، واستذل الفقراء، فقام رجل من الحبشة يقال له أبرهة الأشرم أبو يكسوم، فدعا إلى طاعته. فأجابوه، فقتل أرياط، وغلب على اليمن.

(1/1779)


--------------------------------------------------------------------------------

وتذكر رواية إن "أرياط" اخرب مع ما أخرب من أرض اليمن سلحين وبينون وغمدان، حصونا لم يكن في الناس مثلها. ونسبوا في ذلك شعرا إلى "ذي جدن"، زعموا أنه قاله في هذه المناسبة. ويظهر من روايات اخرى أن تلك الحصون بقيت إلى ما بعد أيامه. وذكر أن "أرياط" كان فوق أبرهة، أقام باليمن سنتين في سلطانه لا ينازعه أحد، ثم نازعه أبرهة الحبشي الملك.
وتجمع روايات أهل الأخبار على أن النجاشي غضب على أبرهة لما فعله باليمن ولما أقدم عليه من قتل أرياط، وأنه حلف الا يدع أبرهة حتى يطأ بلاده، ويحز ناصيته، ويهرق دمه. فلما بلغ ذلك أبرهة، كتب إلى النجاشي كتابا فيه تودد واعتذار وتوسل واسترضاء، فرضي النجاشي عنه، وثبته على عمله بأرض اليمن.
ولما استقام الأمر لأبرهة باليمن، بعث إلى "أبي مرة بن ذي يزن"، فنزع منه امرأته "ريحانة ابنة علقمة بن مالك بن زيد بن كهلان"، و "علقمة" هو ذو جدن. وكانت ولدت لأبي مرة معد يكرب بن أبي مرة، وولدت لأبرهة بعد ابي مرة مسروق بن أبرهة، وبسباسة ابنة أبرهة. وهرب منه أبو مرة.
ولأبرهة ذكر وشهرة. في كتب أهل الأخبار والتأريخ. وقد ورد اسمه في الشعر الجاهلي، وضرب به المثل في القوة والصيت والسلطان، حتى لنجد أهل الأخبار يذكرون اسماء جملة اشخاص دعوهم "أبرهة" ذكروا أنهم حكموا اليمن.
والظاهر أن الشهرة التي بلغها في أيامه وغزوه القبائل العربية واستعماله القسوة معها، أحاطته بهالة في أيامه تضخمت فيما بعد، فأحيط بقصص وأساطير وصير من اسمه جملة حكام حكموا باسم "أبرهة".

(1/1780)


--------------------------------------------------------------------------------

فقد ذكروا اسم "أبرهة تبع ذي المنار بن الرائش بن قيس بن صيفي بن سبأ". وكان يقال له "الرائد". وجعلوا لأبرهة هذا ولدين، هما: إفريقس، والعبد ذو الأذعار. وأولد إفريقس شمر يرعش. وذكروا "أبرهة" آخر، قالوا له: "أبرهة بن شرحبيل بن أبرهة". وسمى "الهمداني" جملة رجال "أبرهة"، وأدخلهم في "الأصابح". ويظهر من دراسة اسم "أبرهة" ونعته في الحبشية أن الأخباربين أخذوها فصيروا منها أسماء عربية ربطوا بينها وبين تأريخ اليمن كما فعلوا مع أشخاص اخرين.
وقد ضرب "لبيد بن ربيعة العامري" المثل ب "أبي يكسوم" وهو أبرهة في وجوب الاتعاظ بهذه الدنيا الفانية التي لا تدوم لأحد، فقال: لو كان حي في الحياة مخلدا في الدهر ألقاه أبويكسوم
والتبعان كلاهما ومحرق وأبو قبيس فارس اليحموم
وقد ترك أبرهة وثيقة مهمة على جانب خطير من الأهمية، وهي النص الذي وسم بGlaser 618 وبCIH 541، عند الباحثين في العربيات الجنوبية. وهي ثاني نص طويل يصل الينا من اليمن، يتألف من "36 ا" سطرا ومن حوالي "470" كلمة وتبحث عن ترميم سد مأرب ذي المكانة الخالدة في القصص العربي وتجديده مرتين، وذلك في أيام أبرهة. المرة الأولى في شهر "ذو المدرح" من سنة "657" من التاريخ الحميري المقابلة لسنة "542" للميلاد، والثانية في شهر "ذو معان" "ذ معن" من سنة "658" من التأريخ الحميري، أي في سنة "543" من الميلاد.

(1/1781)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد افتتح النص بالعبارة الاتية: " بخيل وردا ورحمت رحمنن ومسحو ورح قدس سطرو ذن مزندن. إن ابره عزلى ملكن اجعزين رمحز زبيمن ملك سبأ وذ ريدن وحضرموت ويمنت واعربهمو طودم وتهمت"، أي "بحول و قوة ورحمة الرحمن ومسيحه وروح القدس سطروا هذه الكتابة. إن أبرهة نائب ملك الجعزيين رمحز زبيمان ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت وأعرابها في النجاد وفي تهامة ". ويلاحظ أن أبرهة قد لقب نفسه في هذا النصر باللقب الرسمي الذي كان يتلقب به ملوك حمير قبل سقوط دولتهم، مع أنه كان "عزلى ملكن اجعزين"،أي نائب ملك الجعزين. والواقع أنه كان قد استأثر بالحكم في اليمن، وحصر السلطة في يديه، وصار الحاكم المطلق، ولم يترك النجاشي أكسوم غير الاسم، حتى أنه دعاه في هذا النص "ملك الجعز" حسب.

(1/1782)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي النص حديث عن ثورة قام بها "يزد بن كبشت" "يزيد بن كبشة" من السادات البارزين في اليمن. وكان أبرهة قد أنابه عنه، وجعله خليفته على قبيلتي "كدت" و "دا"، غير أنه ثار عليه لسبب لم يذكر في النص، وأعلن العصيان. وانضم إليه أقيال "اقول" سبأ و "اسحرن"،وهم: "ذو سحر" و "مرة " و"ثممت" و "ثمت" "ثمامة" و "حنش" "حنشم" و "مرثد " و "حنف" "حنفم" "حنيف" و "ذ خلل" "ذو خليل" و "ازانن" و"الأزان" والقيل "معد يكرب بن سميفع"، و "هعن" "هعان" واخوته أبناء أسلم. فما بلغ نبأ هذه الثورة مسامع "أبرهة"، سير إليه جيشا بقيادة "جرح ذزبنر" "جراح ذو زبنور"، فلم يتمكن أن يفعل شيئأ، وهزمه "يزيد"، واستولى على حصن "كدر" "كدار"، وجميع من أطاعه من "كدت" "كدة" ومن "حريب" حضرموت وهاجم "هجن اذمرين" "هجان الذماري" وهزمه واستولى على أملاكه، وحاصر موضع "عبرن" "عبران" "العبر". عندئذ قرر أبرهة معالجة الموقف بارسال قوات كبيرة لرتق الخرق قبل اتساعه، فجهز في شهر "ذ قيضن" "ذو القيض" "ذو قيضان" من سنة "657" من التقويم الحميري أي سنة "542" للميلاد جيشا لجبا من الاحباش والحميريين، وجهه نحو أودية "سبأ" و "صمرواح" ثم "نبط" على مقربة من "الوادي" "عبرن" "عبران" "العبر". وفي "نبط" جعل أهل "الو" "الوى" و "لمد" والحميربين في المقدمة. أما القيادة، فكانت بأيدي القائدين: "وطح" "وطاح" و "عوده" "ذو جدن". وبينما كان الجيش في طريقه لحرب."يزيد بن كبشة" إذا به يظهر مع عدد من أتباعه أمام "أبرهة" يطلب منه العفو والصفح. أما الباقون، فقد تحصنوا في مواضعهم، وأبو الخضوع والاستسلام.

(1/1783)


--------------------------------------------------------------------------------

وبينما كان أبرهة يفكر في أمر بقية الثائرين إذا به يسمع بخبر سيء جدا، هو تصدع سد "مأرب" وتهدم بعض توابعه، وذلك في شهر "ذ مذرن" "ذو مذران" "ذو المذرى" من سنة "657" من تقويم حمير، أي سنة "542" للميلاد. فأمر مسرعا بتحضير مواد البناء والحجارة ، وحدد أجل ذلك بشهر "ذ صربن" "ذو الصرب" من السنة نفسها. وفي أثناء مدة التحضير هذه، افتتح أبرهة كنيسة في مدينة مأرب يظهر أنه هو الذي أمر ببنائها، ورتب لخدماتها جماعة من متنصرة سبأ. ولما انتهى من ذلك عاد إلى موضع السد لوضع أسسه وأقامته مستعينا بحمير وبجنوده الحبش، لكنه اضطر بعد مدة إلى السماح لهم بإجازة، ليهيئوا لأنفسهم الطعام وما يحتاجون إليه، وليريحهم مدة من هذا العمل المضني الذي تبرموا منه، وليقضي بذلك على تذمر العشائر التي لم تتعود مثل هذه الأعمال الطويلة الشاقة. ورجع أبرهة في أثنائها إلى مأرب، فعقد معاهدة مع أقيال سبأ وتحسنت الأحوال، وأرسلت إليه الغلات والمواد اللازمة للبناء،ووصلت إليه جموع من الفعلية وأبناء العشائر، فعاد إلى العمل بهمة وجد، فأنجزه على نحو ما أراد، فبلغ طوله خمسة وأربعين "أمما". أما عرضه، فكان أربع عشرة ذراعا، بني بحجارة حمر من "البلق". وانجزت أعمال قنواته وأحواضه والمشروعات الفرعية المتعلقة به في "خبشم" "خبش" وفي "مفلم" "مفلل" "مفول". وقد دون أبرهة في نهاية النص ما أنفقه على بناء هذا السد من أموال، وما قدمه إلى العمال والجيس الذي اشترك في العمل من طعام واعاشة من اليوم الذي بدئ في بالانشاء حتى يوم الانتهاء من في شهر "ذو معن" ذو معان" من سنة "658" الموافقة لسنة "543"للميلاد.
ويظهر من النص أن ثورة "يزيد بن كبشت" كانت ثورة عنيفة قوية، وأنها شملت حضرموت و "حريب" و "ذو جدن" و "حباب" عند "صراواح". ولكنها فشلت وتغلبت أبرهة عليها بمساعدة قبائل يمانية ذكرها في النص.

(1/1784)


--------------------------------------------------------------------------------

أما "يزيد بن كبشة" فلا نعرف من أمره في الزمن الحاضر إلا شيئا يسيرا، وهو ما كره أبرهة في نصه عنه، من أنه عيه عاملا ووكيلا عنه على قبيلة "كدت" "كدة". وهي كندة على رأي أكثر العلماء.
وأما الاقيال الذين انضموا إليه وساعدوه، وهم: "ذو سحر" و "مرة" و "ثمامة" و "حنش" و "مرثد" و "حنيف" وآل ذو خليل وذو يزان "ذ يزن" "ذو يزن"، و "معديكرب بن سميفع" و "هعن" "هعان" واخوته أبناء أسلم. فهم يمثلون على الجملة الطبقات الأرستقراطية القديمة في سبأ. فآل ذو خليل وذو سحر، من الأسر التي ذكرت أسماؤها في النصوص المدونة قبل الميلاد. وقد أرخ بأسرة "ذي خليل" في نصوص المسند، وذكروا في كتابات السبئيين العتيقة التي تعود الى أيام المكربين. وكان لهم في أيامهم شأن يذكر في تأريخ سبأ، إذ كان منهم المكربون. وذكر "الهمداني" اسم جماعة يقال لهم "البحريون"، قال: انهم من ولد ذي خليل من حمير.
وليس من السهل تشخيص "مرة" و "ثمامة"، فهما من الأسماء المتعددة المذكورة في الكتب العربية. وقد أشير إلى "ثمامة بن حجر" ملك "قصر الهدهاد" في "عمران". وذكر الهمداني "بني ثمامة" وقال: إن جبأ مدينة المعافر، وهي لآل الكرندي من بني ثمامة آل حمير الأصغر، فهل يكون لهؤلاء صلة ب "ثمامة" النص ? وذكر بعض الأخباريين اسم ملك من ملوك اليمن سموه "مرثدا" زعموا أنه كان آخر الملوك، وزعم قسم منهم أنه حكم مدة قصيرة بعد "ذي نواس"، فهل صاحب هذا الآسم هو "مرثد" المذكور في النص ? ولا عبرة بالطبع بما ذكر من أنه كان ملكا، فقد كان من عادة الأقيال والأذواء التلقب بلقب ملك.
وورد "ذو مراثد بن ذو سحر"، في الموارد العربية، فجمعت بين "مراثد" و "سحر"، وورد اسم "سحر" واسم مرثد في النص، فهل هنالك صلة بين هذه الأسماء ? ويرى "كلاسر" أن "ازان"، هم "يزن"، ومتهم "سيف بن ذى يزن" الذي ثار على الحبش،واستعان بالفرس لانقاذ بلاده من أيدي الأحباش.

(1/1785)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما معديكرب بن سميفع، فيرى الباحثون أنه ابن "السميفع أشوع". وقد جاء اسمه بين أسماء الأقيال الذين ثاروا على أبرهة، وانضموا إلى ثورة "يزيد ابن كبشة". فهو من الأقيال الحاقدين على أبرهة لاغتصاب أبرهة الملك من والده. ولهذا انضم إلى "يزين بن كيشة ! سيد "كدت" "كندة" وحارب معه الحبش.
وفي أثناء وجود أبرهة في مأرب قضي على عصيان الأقيال الذين انضموا إلى ثورة "يزيد"، وأبوا الخضوع لحكم أبرهة بعد استسلام يزيد وخضوعه. وكذلك استسلمت قبيلة كدار "كيدار" "كدر"، وتحسن موقفه بذلك كثيرا، وأصبح سيد اليمن وصاحب الأمر. أما الذين ساعدوه وآزروه وعاونوه والتفوا حوله، فهم: ذو معاهر و "بن ملكن" ابن الملك ومرجزف وذو ذرنح وعدل "عادل" و ذو فيش، وذو شولمان "ذو الشولم" و "ذو شعبان" "ذو الشعب" وذو رعين "ذرعن"، و "ذو همدان" و"ذو الكلاع"، و "ذ مهدم" "ذو مهد" و "ذ ثت" "ذو ثت" "ذو ثات"و"علسم" و "ذو يزان" "ذ يزن" "ذو يزن"، و "ذو ذبين" "ذو ذبيان" و "كبر حضرموت" كبير حضرموت، وذو فرنة "ذ فرنة". وقد ذكر النص انهم كانوا إلى جانب الملك، وانهم كانوا على ود وصداقة معه. وهم بالطبع من أسر عريقة، ومن كبراء القوم، وقد وردت أسماء بعض أسرهم في النصوص المدونة قبل الميلاد.
ولم يذكر في هذا النص اسم "كبر حضرموت"، أي كبير حضرموت الذي كان يحكم حضرموت في أيام أبرهة، يظهر من ذكره مع الرجال الذين حضروا إلى مأرب أنه كان تابعا لأبرهة، أو أنه كان حليفا له.
وتدل جملة "بن ملكن"، على أن المراد بها "ابن الملك"، أي "ابن أبرهة"، ولم يشر النص إلى اسمه. فلعله قصد أكبر أولاده. ويرى البعض انه كان يحكم "وعلان" "ذو ردمان"، وانه كان يلقب ب "ذ معهر" "ذو معاهر" "ذو معهر". وقد أشار "الهمداني" إلى "ذي المعاهر". وذكر أنه قصر "وعلان" ب "ردمان".

(1/1786)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي اثناء وجود أبرهة في مأرب، وفدت إليه وفود من النجاشي ومن ملك الروم "ملك رمن" ومن ملك القرس "ملك فرسن"، ورسل من "المنذر" "رسل مذرن" ومن "الحارث بن جبلة" "رسل حرثم بن جبلت" ومن "أب كرب بن جبلة" "أبكرب بن جبلة" "رسل ابكرب بن جبلت"ومن رؤساء القبائل. ويلاحظ إن النص قد قدم النجاشي على ملك الروم، كما قدم ملك الروم على ملك الفرس، ثم ذكر من بعد ملك الفرس اسم المنذر والحارث ابن جبلة وأبي كرب بن جبلة "ابكرب بن جبلت". أما تقديم النجاشي على غيره فأمر لا بد منه، وذلك لسيادة الحبشة ولو بالاسم على اليمن، واعتراف أبرهة بسيادة مملكة اكسوم عليه. وفي ارسال مندوب عن النجاشي إلى أبرهة في مهمة سياسية، دليل ضمني على انفراد أبرهة بالحكم، واستقلاله في ادارة اليمن حتى صار في حكم ملك مستقل، يستقبل وفود الدول ورسلهم ومن بينهم وفد من ملك قامت حكومته بغزو اليمن والاستيلاء عليها. وأما تقديم ملك الروم على ملك الفرس، فلصلة الدين والسياسة بين الحبشة والروم واليمن، فللروم الأسبقبة والأفضلية اذن على الفرس.
ويلاحظ أيضا أن النص قد استعمل كلمة "محشكت" للوفد أو الرسل الذين جاؤوا الى أبرهة من النجاشي ومن ملك الروم، فكتب "محشكت نجشين" و "محشكت ملك رمن" أي "رسل الجا!ثي" "سفراء النجاشي" "سفير النجاشي" و "رسل ملك الروم". وتعني كلمة "محشكت" في إللغة السبئية "الزوجة"، فعبر في هذا النص بهذه الكلمة عن معنى "سفير" "سفراء" و "رسل حكومة صديقة مقربة"، فلها إذن هنا معنى دبلوماسي خاص. أما بالنسبة إلى رسل "ملك الفرس"، فقد أطلق عليهم كلمة "تنبلت"، فكتب "تنبلت ملك فرس"، أي "وفد ملك الفرس" وذلك يشير إلى أن لهذه الكلمة معنى خاصأ في العرف السياسي يختلف عن معنى "محشكت"، وأن الوفد لم يكن في منزلة وفدي الحبشة والروم ودرجتهما.

(1/1787)


--------------------------------------------------------------------------------

ولقد أحدث مجيء مندوب النجاشي "رمحيز زبيمن" ومندوب ملك الروم ومبعوث ملك الفرس،ورسل المنلر ملك الحيرة، والحارث بن جيلة وأبي كرب اين جبلة، أثرا كبيرا ولا شك في نفوس العرب الجنوبيين، وفي نفوس الأقيال وقبائلهم، فمجيء هؤلاء إلى اليمن، وقطعهم المسافات الشاسعة، ليس بامر يسير، وفيه أهمية سياسية كبيرة. وفيه تقدير لأبرهة ولمكانته في هذه البقعه الخطرة المسيطرة على البحر الأحمر وفمه عند باب المندب، وعلى المحيط الهندي. كما أحدثت الأبهة التي اصطنعها أبرهة لنفسه في اليمن. والقوة التي جمعها في يديه أثرأ كبيرا ولا شك أيضا في نفوس المبعوثين الذين قطعوا تلك المسافات للوصول إلى عاصمة سبأ ذات الأثر الخالد في النفوس.

(1/1788)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم يكن مجيء هؤلاء المبعوثن إلى أبرهة لمجرد التهنئة او التسلية أو المجاملة أو ما شاكل ذلك من كلمات مكتوبة في معجمات السياسة. ولكن لأمور أخرى أبعد من هذه وأهم، هي جر أبرهة إلى هذا المعسكر أو ذلك، وترجيح كفة على أخرى، وخنق التجارة في البحر الأحمر، أو توسيعها، ومن وراء ذلك اما نكبة تحل بمؤسسات الروم وتجاراتهم، واما ربح وافر يصيبهم بما لا يقدر. لقد كان العالم إذ ذاك كما هو الآن، جبهتين: جبهة غربية، وجبهة أخرى شرقية: الروم والفرس. ولكل طبالون ومزمرون من الممالك الصغيرة وسادات القبائل يطبلون ويزمرون، ويرضون أو يغضبون، ويثيبون أو يعاقيون إرضاء للجبهة التي هم فيها، وزلفى اليها وتقربا. لقد سخر الروم كل قواهم السياسية للهيمنة على جزيرة العرب، أو ابعادها عن الفرس وعن الميالين اليهم على الأقل. وعمل الفرس من جهتهم على تحطيم كل جبهة تميل إلى الروم وتؤيد وجهة نظرهم وعلى منع سفنهم من الدخول إلى البحر الهندي، والاتجار مع بلاد العرب. وعمل المعسكران بكل جد وحزم على نشر وسائل الدعاية واكتساب معركة الدعاية والفكر، ومن ذلك التأثير على العقول. فسعى الروم لنشر النصرانية في الجزيرة، فأرسلوا المبشرين وساعدوهم، وحرضوا الحبشة على نصرها ونشرها، وسعى الفرس لنشر المذاهب النصرانية المعارضة لمذهب الروم والحبشة ولتأييد اليهودية أيضا، وهي معارضة لسياسة للروم أيضا. ولم يكن دين الفرس عكما نعلم نصرانيا ولا يهوديا، وإنما هو دين بغيض إلى أصحاب الديانتين. ولم يكن غرض الروم "من بث النصرانية أيضا خالصا لوجه الله بريئا من كل شائبة.

(1/1789)


--------------------------------------------------------------------------------

أما النجاشي الذي أرسل الوفد إلى أبرهة فاسمه "رمحيز زبيمن" "رمحيز زبيمان" كما ذكر ذلك أبرهة نفسه. ولا يعرف من أمر هذا النجاشي شيء كثير، ولا يعرف كذلك أكان قد خلف النجاشي "كالب ايلا أصبحة" Kaleb Ela Asbaha الذي بأمره كان الفتح، أم كان خلفا لخليفته. وقد أشرت من قبل إلى ما ذكره "بروكوبيوس" وأهل الأخبار عن التوتر الذي كان بين نجاشي الحبشة وأبرهة، وعن امتناع أبرهة عن دفع جزية سنوية إليه. ويظهر إن أبرهة رأى أن من الخير له مصالحة النجاشي والاعتراف بسلطانه اسميا، وفي ذلك كسب سياسي عظيم، كما هو كسب للنجاشي ولو صوريا، فدفع الجزية له وتحسنت العلاقات.
وأما "ملك رمن" ملك الروم، فلم يذكر "أبرهة" اسمه في نصه. ولكن يجب أن يكون هو القيصر "يوسطنيانوس" Justinian الذي حكم من سنة"527" حتى سنة "566" للميلاد، وكان حكمه بعد حكم "يسطين" الذي ولى الحكم من سنة "518" حتى سنة "527" للميلاد. وكان "يوسطنيانوس" "يوسطنيان" قد وضع خطة للتحالف مع الحبش ومع حمير للاضرار بالفرس. وراسل "السميفع أشوع" Esimiphaeus للاتحاد معه ولمحاربة الفرس. فلما تولى "أبرهة" الحكم عاد القيصر فاتصل به، وتودد إليه لتنفيذ ما عرضه على "السميفع أشوع" من مهاجمة الفرس. فوافق أبرهة على ذلك، وأغار عليهم غير أنه ترجع بسرعة.

(1/1790)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما "حرثم بن جبلت"، فهو الحارث بن جبلة ملك الغساسنة، وأما "ابكرب بن جبلت"، فإنه Abochorabus المذكور في تأريخ "بروكوبيوس". وقد ذكر هذا المؤرخ أن القيصر "يوسطنيانوس" "يوسطنيان" Justinian كان عينه عاملا "فيلارخا" Phylarch على عرب السرسين Saracens بفلسطين، وأنه كان رجلا صاحب قابليات وكفاية، تمكن من تأمين الحدود ومن منع الأعراب من التعرض لها، فكان هو نفسه يحكم قسما منهم، كما كان شديدا على المخالفين له. وذكر أيضا أنه كان يحكم أرض غابات النخيل جنوب فلسطين، ويجاور عربها عرب اخرون يسمون "معديني" "معد" للأع " Maddeni هم أتباع ل "حمير" Homeritae.
أراد هذا الرئيس أن يتقرب إلى القيصر، وأن يبالغ في تقربه إليه وفي إكرامه له، فنزل له عن أرض ذات نخل كثير، عرفت عند الروم ب Phoinikon "واحة النخيل"، أو "غابة النخيل" وهي أرض بعيدة، لا تبلغ إلا بعد مسيرة عشرة أيام في أرض قفرة. فقبل القيصر هذه الهدية الرمزية، إذ كان يعلم، كما يقول المؤرخ "بروكوبيوس" عدم فائدتها له، وأضافها إلى أملاكه، وعين هذا الرئيس عاملا "فيلارخا" على عرب فلسطين.
وقد قام ملك هذا الرئيس على ملك رئيس آخر كانت له صلات حسية بالروم كذلك، هو "امرؤ القيس" Amorkesos الذي سبق إن تحدثت عنه في كلامي على علاقة العرب بالبيزنطيين.

(1/1791)


--------------------------------------------------------------------------------

و "غابة النخيل" التي ذكرناها، تجاور أرض قبيلة "معد" Maddenoi، وكانت معد كما يظهر من أقوال المؤرخ "بروكوبيوس" خاضعة في عهده لحكم الحميريين. وقد ذكرت كيف أن القيصر توسط لدى "السميفع أشوع" ليوافق على تعيين "قيس" رئيسا على معد. وقد تمردت هذه القبيلة على "أبرهة"، فسير اليها قوة لتأديبها، كما يظهر ذلك من كتابة أمر "أبرهة" بكتابتها لهذه المناسبة. أدبها بقوة سيرها اليها في شهر "ذو ثبتن" من شهور فصل الربيع، فانهزمت معد، وأنزلت القوة بها خسائر فادحة. وبعد أن تأدبت وخضعت، اعترف "أبرهة" بحكم "عمرو بن مذر" عليها، وتراجعت القوة عنها.
و Maddenoi، هي قبيلة Ma,addayaالتي ذكرها "يوحنا الأفسوسي" John of Ephsus مع "طياية" Taiyaye في كتابه الذي وجهه إلى أسقف "بيت أرشام" Beth Arsham،ويظهر من هذا الكتاب أن عشائر منها كانت مقيمة في فلسطين.
وفي القرآن الكريم سورة، أشارت إلى سيل العرم، هي سورة سبأ، ورد فيها: )لقد كان لسبأ في مسكنهم آية، جنات عن يمين وشمال، كلوا من رزق ربكم.واشكروا له، بلدة طيبة ورب غفور. فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنيتهم جنتين ذواتي أكل خمط واثل و شيء من سدر قليل(. ولم يحدد المفسرون الوقت الذي تهدم فيه السد.
ول "أبرهة" نص آخر، كتبه بعد النص المتقدم، لمناسبة غزوه "غزيو" "معدا"، في شهر "ذ ثبتن" "ذى ثبت" "ذى الثبت" "ذى الثبات" من شهور سنة "662" من التقويم الحميري الموافقة لسنة "547" أو "535" للميلاد. وهذا النص عثرت عليه بعثة "ريكمنس" مدونا على صخرة بالقرب من بئر "مريغان". فوسم ب Ryckmans 506. وقد ترجمه "ريكمنس" G.Ryckmans الى الفرنسية، ثم إلى لغات أخرى.

(1/1792)

admin
12-27-2010, 02:00 AM
وفي النص مواضع طمست فيها معالم بعض الحروف، عز بذهابها فهم المعنى وضبط الأعلام. كما أن فيها بعض تعابير معقدة، عقدت على من عالجه فهم المعنى فهما واضحا، ثم هو نص قصير لا يتجاوز عشرة اسطر، واختصر وصف الحوادث حتى صيره وكأنه برقية من برقيات "التلغراف"، ولكنه مع كل هذا ذو خطر بالغ،لأنه يتحدث عن حوادث لم نكن نعرف عنها شيئا، ويصف الأوضاع السياسية في ذلك العهد، ويشير إلى اتصال ملوك الحيرة بالحبش والى سلطان حكام اليمن على القبائل العربية، مثل معد، مع أنها قبائل قوية وكثيرة العدد. وهو مما يؤيد رواية أهل الأخبار في أنه كان لليمن نفوذ على قبائل معد وأن تبايعة اليمن كانوا ينصبون الملوك والحكام على تلك القبائل.
وقد تلقب "أبرهة" في هذا النص كما تلقب في نص سد مأرب بلقب الملك. الذي كان يتلقب به ملوك اليمن، وهو: "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت "اليمن" وأعرابها في النجاد "طودم" وفي المنخفضات "تهمتم"، "تهامة"، كما افتتحه بجملة: "نخيل رحمن ومسحهو"، أي "بحول الرحمن ومسيحه"، وقد سبق ل "ابرهة" أن افتتح نصه الذي دونه على "سد مأرب" بجملة: "بخيل ودا ورحمت رحمن ومسحهو ورح قدس"، ومعناها: "بحول وقوة ورحمة الرحمن ومسيحه روح القدس"، والجملتان من الجمل التي ترد في نصوص اليمن لأول مرة، وذلك بسبب كون أبرهة نصرانيا، وقد صارت النصرانية في أيام احتلال الحبش لليمن ديانة رسمية للحكومة، باعتبار أنها ديانة الحاكمين. وعرف "أبرهة" في النصين ب "ابره زيبمن"، أي "أبرهة زييمان"، ولفظكة "زي ب م ن" "زيبمن" من ألقاب الملك في لغة الأحباش.

(1/1793)


--------------------------------------------------------------------------------

واليك هذا النص كما دونه "ريكمنس" عن النص الأصيل: "بخيل رحمنن ومسحهو ملكن ابره زبيمن ملك سبا وذ ريدن وحضرموت ويمنت واعربهمو طودم وتهمت سطرو ذن سطرن كغزيو معدم غزوتن ربعتن بورخن ذ ثبتن كقسدو كل بنيعمرم وذكى ملكن ابجر بعم كدت وعل وبشرم بنحصنم بعم سعدم و م.خ ض.و وضرو قدمى جيشن على بنيعمرم كدت وعلى ود، ع. ز. رن. مردم وسعدم بود بمنهح تربن وهرجو وازرو ومنمو ذ عسم ومخض ملكن بحلبن ودنو كطل معدم ورهنو وبعدنهو وزعهمو عمرم بن مذرن ورهنهمو بنهو وستخلفهو على معدم معدم وقفلو بن حلبن بخيل رحمنن ورخهو ذلئنى وسثى وست ماتم ".
ونصه في عربيتنا: "بحول الرحمن ومسيحه. الملك أبرهة زبيمان ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت "اليمن" وأعرابها في الطود "الهضبة" وفي تهامة "المنخفضات". سطروا هذه الأسطر لما غزت معد: الغزوة الربيعية بشهر ذو الثبات "ذ ثبق" "ذو الثبت". ولما غلظ " ثار" كل "بنو عامر". أرسل الملك "أبا جبر"، بقبيلة "كدت" كندة وقبيلة "عل" و "بعثر بن حصن" "بشرم بن حصنم" بقبيلة "سعد" لحرب "بني عامر" فتحركا بسرعة وقدما جيشهما نحو العدو: وحاربت "كدت" بكندة وقبيلة "عل" بني عامر ومرادا، وحاربت "سعد" بواد "بمنهج" ينهج "يؤدي" إلى "تربن" "الترب". فقتلوا من بني عامر وأسروا وكسبوا غنائم. وأما الملك، فحارب ب "حلبن" "حلبان"، وهزمت معد، فرهنت رهائن عنده.
وبعدئذ، فاوض "عمرو بن المنذر" "عمرم بن مذرن"، وقد م رهائن من أبنائه. فاستخلفه "اقره" على معد. وقفل "أبرهة" راجعا من "حلين" "حلبان"، بحول الرحمن. بتأريخ اثنين وستين وست مئة.

(1/1794)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد درس بعض الباحثين هذا النص، فذهب بعضهم إلى أنه يشير إلى حملة أبرهة على مكة في العام الذي عرف عند أهل الأخيار ب "عام الفيل" وأشير اليها في القرآن الكريم. وذهب بعض آخر إلى أنه يشير إلى غزو قام به أبرهة تمهيدا لحملة كان عزم القيام بها نحو اعالي جزيرة العرب، فتوقفت عند مكةوذهب آخرون إلى إن ما جاء في هذا النصبر لا علاقة له بحملة الفبل، ذلك لأن هذه الحهعلة كانت في سنة "547" للميلاد على تقديرهم، على حين كانت حملة الفيل سنة "563" على تقديرهم أيضا.
وذهب "بيستن" إلى أن هذا النص يتحدث عن معركتين: معركة قام بها "أبرهة" في "حلبان": ومعركة كندة وسعد - مراد بموضع "تربن" "الترب" "تربة"، وقد حاربت فيها جماعة من القبائل.
ويظهر من النص إن "أبرهة" غزا بنفسه معدا في شهر "ذى ثبتن" من ربيع سنة "662" من التقويم السبئي، والتقى بها في موضع "حلبن" "حلبان"، فهزمها وانتصر عليها، فاضطرت عندئذ إلى الخضوع له ومهادنته، والى وضع رهائن عنده تكون ضمانا لديه بعدم خروجها مرة ثانية عليه. فوافق على ذلك. وفيما كان في "حلبان" بعد اتفاقه مع معد، جاءه "عمرو بن المنذر" "عمرم ابن مذرن" وكان أبوه "المنذر" عينه أميرا على معد، ليفاوضه في أمر "معد" فقابله ب "حلبان"، وأظهر له استعداد أبيه "المنذر" على وضع رهائن عنده لئلا يتكرر ما حدث، وبحصول اعترافه على تولي عمرو حكم "معد" فوافق أبرهة على ذلك، وقفل "وقفلو" أبرهة راجعا إلى اليمن، وسوى بذلك خلافه مع معد. وصار "عمرو بن المنذر" رئيسا على معد بتعيين أبيه له عليها وبتثبيت "أبرهة" هذا التعيين.

(1/1795)


--------------------------------------------------------------------------------

و "حلبان" موضع في اليمن في أرض "حضور"، وذكر انه موضع في اليمن على مقربة من "نجران"، وانه موضع ماء في أرض "بني قشير". وقد وعت ذاكرة أهل الأخبار على ما يظهر شيئا عن ألمعركة التي نشبت في هذا الموضع إذ رووا شعرا للمخبل السعدي يفخر بنصرة قومه "أبرهة بن الصباح" ملك اليمن. وكانت "خندف" حاشيته. ذكروا أنه قال: صرموا لأبرهة الأمور محلها حلبان فانطلقوا مع الأقوال
ومحرق والحارثان كلاهما شركاونا في الصهر والأموال
وأورد "الهمداني" أبياتا فيها اسم موضع "حلبان" واسم "أبي يكسوم"، وهي قوله:.
ويوم ابي يكسوم والناس حضر على حلبان إذ تقضي محامله
فتحنا له باب الحضير وربه عزيز يمشي بالسيوف أراجله
وقد روى هذان البيتان وهما من شعر "المخبل السعدي" في هذا الشكل: ويوم أبي يكسوم والناس حضر على حلبان إذ تقضي محامله
طوينا لهم باب الحصين ودونه عزيز يمشي بالحراب مقاوله
ويظهر من هذا الشعر أن "أبرهة" لما جاء بجيشه إلى موضع "حلبان"، وجد مقاومة، ووجد أبواب الحصن مقفلة، وقد تحصن فيه المقاومون، ودافعوا عنه، فهجم قوم الشاعر عليه، ففتحوا باب الحصن، ودخلوه.
أما تأديب " بني عامر"، فلم يقم ب "أبرهة" بنفسه، بل قام به قائد اسمه "ابجبر". "أبو جبر"، قاد قبيلتي "كدت"، أي "كندة" و "عل"، وقائد آخر اسمه "بشرم بن حصنم"، أي "بشر بن حصن"، قاد قبيلة "سعدم"، أي "سعد" "بنو سعد". وسار القائدان بجيشهما وتقدما بهما إلى "بني عامر"، وحاربا على هذا النحو: حاربت "كندة" و "عل" قبائل سقطت بعض الحروف من اسم كل واحدة منها،فبقي من احداهما "ود.ع" وبقي من الأخرى "زرن" "ز. رن" وقبيلة "مردم"، أي "مراد". وحاربت "سعد" بواد يؤدي إلى "تربن" "الترب"، فقتلوا وأسروا "ازروا" وأصابوا غنائم. ولم يسم النصر الوادي الذي يؤدي إلى "الترب".

(1/1796)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر أن موضع "تربن" الذي يؤدي إليه الوادي الذي جرت فيه المعركة، هو موضع "تربة"، مكان في بلاد بني عامر، ومن مخاليف مكة النجدية، على مسافة ثمانين ميلا تقريبا إلى الجنوب الشرقي من الطائف. وذكر أنه واد بقرب مكة اى يومين منها، يصب في بستان ابن عامر، حوله جبال السراة، وقيل انه واد ضخم، مسيرته عشرون يوما أسفله بنجد أعلاه بالسراة،وقيل: يأخذ من السراة ويفرغ في نجران، وقيل: موضع من بلاد بني عامر بن كلاب واسم موضع من بلاد عامر بن مالك.
و "عمرم بن مذرن"، هو "عمر بن المنذر" ملك الحيرة، وكان أبوه "المنذر" حليفا للساسانيين. فيكون قد عاصر "ابراهة" اذن، ويكون "عمرو" ابنه من المعاصرين له أيضا.
وقصد ب "بنيعمرم"، "بني عامر". وهم "بنو عامر بن صعصعة" من "هوازن".
ومراد، هي قبيلة مراد التي منها "غطيف". وفي أيام الرسول وفد عليه "فروة بن مسيك المرادي" مفارقا لملوك كندة. وقد كانت بين مراد وهمدان قبيل الإسلام وقعة ظفرت فيها همدان، وكثر فيها القتلى في مراد. وعرفت تلك الوقعة بيوم الروم. ورئيس همدان االأجدع بن مالك والد مسروق.
وأما "سعدم" أي قبيلة "سعد"، التي قادها "بشر بن حصن" في هذه المعركة، فلم يذكر النص هويتها. غير أننا إذا ما أخذنا بشعر "المخبل السعدي" الذي افتخر به بنصرة قومه لأبرهة في يوم "حلبان" وبانضمامهم إليه، ففي استطاعتنا أن نقول حينئذ: إن قومه هم "سعدم" أي "سعد" القبيلة المذكورة في النص.
و "ابجير" اسم قد يقرأ "أبو جبر"، وقد يكون "أبو جابر" وقد يكون "أبجبر" وقد يكون "أبو جبار". وكل هذه الأسماء هي أسماء معروفة عند ألجاهليين. وقد ذهب "كستر" " M.J. Kister" الى احتمال كونه "يزيد ابن شرحبيل الكندي"او " أبو الجبر بن عمرو"، وهون من كندة ايضا. وهو من آل الجون من بطون كمندة.

(1/1797)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد اشير في كتب أهل الاخبار الى امير من امراء كندة عرف ب"أبي الجبر" وقد ذكر في مقصورة "ابن دريد". وروى انه زار "كسرى" ليساعده على قومه، فأعطاه جماعة من الاساورة اخذهم معه ليساعدوه، فلما وصل الى "كاظمة" سئموا منه، وارادوا التخلص منه فدسوا السم له في طعامه. ولكنه لم يمت منه، بل شعر بالم منه، فأكرهه الاساورة على ان يكتب كتابا لهم يحملونه الى كسرى يذكر فيه أنه سمح لهم بالعودة، فكتب لهم كتابا ثم سافر الى الطائف، فعالجه "الحارث بن كلمدة الثثفي"، حتى شفي، فوهبه جارية كانت له اسمها "سمية" أهداها له "كسرى"، ثم ذهب إلى اليمن، ولكن عاوده مرض في طريقه اليها فات. وقد رأى "كستر" أنه هو "أبو جبر" المذكور في النص.
وأما "بشرم بن حصنم"، أي "بشر بن حصن"، أو "بشر بن حصين" أو "بشار بن حصن" أو "بشار بن حصين" أو "بشير بن حصن"،فقد ذهب "لندن" Ludin، الى انه احد سادات "كندة".
لقد أشرت إلى رأي بعض الباحثين في هذه الحملة، والى ذهاب بعضهم إلى انها كانت حملة الفيل، أي حملة أبرهة المذكورة في القرآن الكريم على مكة. كما أشرت إلى رأي آخر، ذكر أن هذه الحملة كانت مقدمة لحملة الفيل، أي حملةتجريبية سبقت تلك الحملة. وحجة الفريق الأول ما ورد في بعض الروايات من أن مولد الرسول، كان بعد عام الفيل بثلاث وعشرين سنة أي في حوالي السنة "547" للميلاد. وهو تأريخ ينطبق مع السنة المذكورة في النص، إذا أخذنا برأي من يجعل مبدأ التقويم الحميري سنة "115" قبل الميلاد. ومن ورود رواية أخرى في حساب السنين عند قريش، تظهر بنتيجة حسابها وتحويلها أن عام الفيل كان في سنة "552" بعد الميلاد، وهو تأريخ ينطبق مع تأريخ النص أيضا إذا أخذنا برأي "ريكمنس" في مبدأ التقويم الحميري من أنه كان سنة"109"لا"115" قبل الميلاد.

(1/1798)


--------------------------------------------------------------------------------

وأبرهة هذا هو "صاحب الفيل" الذي قصد بفيلته وجنده هدم الكعبة وإكراه الناس على الحج إلى "القليس" الكنيسة التي بناها بمدينة "صنعاء" في روايات الأخباريين. وهي كنيسة قال عنها أهل الأخبار،انها كانت عجيبة في عظمتها وضخامتها وتزويقها من الداخل والخارج، حتى إن "أبرهة" لما انتهى من بنائها كتب إلى النجاشي: "إني قد بنيت لك بصنعاء بيتا لم تبن العرب ولا العجم مثله ". أو "إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك. كان قبلك". ويبالغ أهل الأخبار في وصفها فيذكر "الأزرفي"، انه بناها بجانب قصر غمدان، وأنه أقامها بحجارة قصر بلقيس بمأرب، نقلها العمال والفعلة والمسخرون من مأرب إلى صنعاء. فهدموا ذلك القصر وأخذوا حجره وما يصلج للبناء من مادة، ثم نقلوه إلى صنعاء لاستعماله في بناء تلك الكنيسة التي بنوها بناء ضخما عاليا، وجعلوا جدرانها من طبقات من حجر ذي ألوان مختلفة. لون كل طبقة يختلف عن الطبقة التي تحتها أو التي فوقها. وزينوا الجدران بأفاريز من الرخام والخشب المنقوش. وجعلوا الرخام ئاتئا عن البناء، وجعلوا فوق الرخام حجارة سودا لها بريق، وفوقها حجارة بيضا لها بريق، فكان هذا ضاهر حائط القليس. وكان عرضه ست أذرع. وكان للقليس باب من نحاس عشر أذرع طولا في أربع أذرع عرضا. وكان المدخل منه إلى بيت في جوفه، طوله ثمانون ذراعا في أربعين ذراعا معلق العمد بالسياج المنقوش ومسامير الذهب والفضة، ثم يدخل من البيت الى إيوان طوله أربعون ذراعا، عن يمينه وعن يساره، وعقوده مضروبة بالفسيفساء مشجرة، بين أضعافها كواكب الذهب ظاهرة، ثم يدخل من الإيوان إلى قبة ثلاثون ذراعا في ثلاثين ذراعا، جدرها بالفسيفساء، فيها صلب منقوشة بالفسيفساء والذهب والفضة، وفيها رخامة مما يلي مطلع الشمس من البلق مربعة عشر أذرع في عشر أذرع، تغشي عين من ينظر اليها من بطن القبة تؤدي ضوء الشمس والقمر إلى داخل القبه، وكان تحت

(1/1799)


--------------------------------------------------------------------------------

القبة منبر من خشب اللبخ، وهو عندهم الابنوس، مفصد بالعاج الأبيض. ودرج المنبر من خشب الساج ملبسة ذهبا وفضة. وكان في القبة سلاسل فضة. وفي القبة أو في البيت خشبة ساج منقوشة طولها ستون ذراعا يقال لها كعيب، وخشبة من ساج نحوها في الطول يقال لها: امرأة كعيب كانوا يتبركون بهما في الجاهلية. وكان يقال لكعيب الأحوزي،والأحوزي بلسانهم الحر.
وكان أبرهة قد أخذ العمال بالعمل أخذا شديدا، وأمر بالعمل في بناء الكنيسة ليل نهار. وإذا تراخى عامل أو تباطأ عن عمله أنزل وكلاؤه به عقابا شديدا، يصل إلى قطع اليد. وبقي هذا شأنه ودأبه حتى أكمل بناؤها وسر من رؤيتها، فأصبحت بهجة للناظرين.
ونجد في وصف "الأزرفي" ومن تقدم عليه من أهل الأخبار للقليس شيئا من المبالغة، ولكنه على الاجمال وصف يظهر أنه أخذ من موارد وعته وشاهدته وأدركته. لذلك جاء وصفا حيأ نابضا بالحياة، ينطبق على الكنائس الضخمة التي أنشئت في تلك الأيام في القسطنطينية أو في القدس أو في دمشق، أو في المدن الأخرى. والظاهر من هذا الوصف، أن فن العمارة اليماني القديم قد أثر في شكل بناء هذه الكنيسة، التي تأثرت بالفن البيزنطي النصراني في بناء الكنائس.
ويذكر "الأزرفي" إن القليس بقي في صنعاء على ما كان عليه حتى ولى أبو جعفر المنصور الخلافة، فولي "العباس بن الربيع بن **** الله الحارثي" "العباس بن الربيع بن عبد الله العامري" اليمن، فذكر له ما في القليس من ذخائر، وقيل له انك تصيب فيه مالا كثيرا وكنزا فتاقت نفسه إلى هدمه. ثم استشار أحد أبناء وهب بن منبه وأحد يهود صنعاء فألحا عليه بهدمه،وبين اليهودي له أنه إذا هدمه فإنه سيلي اليمن أربعن سنة، فأمر بهدمه، واستخرج ما فيه من أموال وذهب وفضة. وخاف الناس من لمس الخشبة المنقوشة التي كانوا يتبركون بها،ثم اشتراها رجل من أهل العراق كان تاجرا بصنعاء وقطعها لدار له. وخرب القليس حتى عفى رسمه وانقطع خبره.

(1/1800)


--------------------------------------------------------------------------------

واذا كان ما يقوله الأزرفي نقلا عن رواة أدركوا تلك الكنيسه من إن أبرهه أقامها بأحجار قصر بلقيس باليمن، فإنه يكون بذلك قد قوض أثرا مهما من آثار مدينة مأرب، وأزال عملا من الأعمال البنائيه التي أقامها السبئيون في عاصمتهم قبله وهو عمل مؤسف.
وفي صنعاء اليوم موضع يعرف ب "غرفة القليس"، يظن أنه موضع تلك الكنيسة، وهو موضع حفير صغير ترمى فيه القمامات وعليه حائط ويقع أعلى صنعاء في حارة القطيع بقرب مسجد نصير.
وذكر "الهمداني" اسم قصر دعاه "القليس" نسب بناءه إلى "القليس بن عمرو"، وهو في زعمه من أبناء "شرحبيل بن عمرو بن ذي غمدان بن إلى شرح يخضب". وقال: انه بناه بصنعاء، وهو بناء قديم. وذكر أيضا أن "عمرو ينأر ذو غمدان ابن إلى شرح يخضب بن الصوار" هو أول من شرع في تشييد "غمدان" بعد بنائه القديم.
وقد أمر "أبرهة" ببناء كنيسة في "مأرب" أشار إلى بنائها في نصه الشهير، أقامها في سنة "542م"، ورتب لخدمتها جماعة من متنصرة سبأ، واحتفل هو نفسه بافتتاحها، ولعله استعان ببنائها بحجارة قصور مأرب ومعبدها الكبير، ذلك لأن حجارتها منحوتة نحتا جيدا،يجعل من السهل استعمالها في البناء على حين يتطلب الحجر الجديد وقتا طويلا وأموآلا باهظة. ولهذا السبب ذهب أهل الأخبار إلى أنه أمر بنقل حجارة قصر مأرب إلى صنعاء.

(1/1801)


--------------------------------------------------------------------------------

لقد أصيب مشروع أبرهة الرامي إلى هدم الكعبة والاستيلاء على مكة باخفاق ذريع، يذكرنا بذلك الاخفاق الذي مني "به مشروع "أوليوس غالوس". لقد كان في الواقع مشروعا خطيرا، لو تم إذن لاتصل ملك الروم بملك حلفائهم وأنصارهم الحبش في اليمن، ولتحقق حلم الإسكندر الأكبر وأغسطس ومن فكر في الإستيلاء على هذا الجزء الخطير من العالم من بعدهما، ولتغير الوضع السياسي في الجزيرة من غير شك، لكن حدث ما لم يكن في الحسبان، حدث أن مكة التي أريد هدمها هي التي هدمت ملك الحبشة في اليمن، وملك من جاء بعدهم لنجدة أهل اليمن، وملك البيزنطيين في بلاد الشام وملك الفرس في العراق وفي كل مكان.
وصل إلى "خمير"، ولا في اي مكان كان يحكم. وما علاقة ذلك الملك الحبشي بجزيرة العرب إن صح انه ملك الحبش حقا.وإذا أخذنا بقول هذا الشاعر وصدقناه، فقد يكون ذهب ليتوسل إلى الحبش لفك أسر جماعة من قومه أو من أصحابه قد يكونون ذهبوا للاتجار أو لشراء الرقيق، فقبض عليهم لسبب من الأسباب واحتجزوا، فذهب لالتماسهم فنجح في وساطته وقد يكون "خمير" هذا احد الحكام أو الاقطاعيين، لا النجاشي ملك الأحباش.
ويظهر من كتاب "الإشتقاق" أنه كان لأبرهة حفيد اسمه "ابن شمر، إذ ذكر مؤلفه "ابن دريد" اسم رجل سماه "ابن شمر بن أبرهة بن الصباح"، قال: إنه قتل مع "علي بن أبي طالب" بصفين. ومعنى هذا أنه كان لأبرهة ولد اسمه "شمر". ونجد في كتب أهل الأخبار أسماء رجال كانوا من حفدة "أبرهة".

(1/1802)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد سعى الأحباش، مده مكثهم في اليمن، في نشر النصرانية بين الناس، وبناء الكنائس،، ويحدثنا "قزما الرحالة" Cosmas Indicopleutes في نحو سنة "535م"، اي بعد اندحار "ذي نواس"، عن كثرة الكنائس في العربيةالسعيدة وعن كثرة الأساقفة والمبشرين الذين بشروا. بين الحميريين والنبط وبني جرم. وقد اشتهرت كنيسة "نجران"، وكذلك كنيسة صنعاء، وكنيسه "ظفار" التي بناها الحبش،وقد أشرف عليها الأسقف "جرجنسيوس" صاحب "كتاب شرائع الحميرين"، وكان مقربا لدى النجاشي ومستشاره ومساعده في تنصير الحمريين.
وورد ان القيصر "يوسطين" "جستين" كان قد أرسل "كريكنتيوس" Gregentius of Ulpana من الاسكندرية إلى "ظفار" ليكون "أسقفا" على نصاراها، وقد تناظر مع "حبر" من أحبار يهود فيها، فغلبه، وقدم قانون للشريعة إلى "أبرام"Abram"ملك حمير.
حملة أبرهة
وفي أيام عبد المطلب كانت حملة أبرهة على مكة، وهي حملة روعت قريشا وأفزعتهم، لما عرفوه من قساوة أبرهة ومن شدته في أهل اليمن، ومن انفراده بالحكم، واستبداده في الأمور،حتى انه لما مات وذهب مع الذاهبين لم تمت ذكراه كما ماتت ذكرى غيره من الحكام، بل تركت أثرا عميقا في ذاكرة أهل اليمن، انتقل منهم إلى أهل الأخبار، فرووا عنه أقاصيص، ونسجوا حوله نسيجا من أساطير وخرافات، على عادتهم عند تحدثهم عن الشخصيات الجاهلية القوية التي تركت أثرا في أهل تلك الأيام، حتى انهم لم يكتفوا بكل ما قالوه فيه، وكأنه لم يكن كافيا، فجعلوا منه جملة رجال سموهم "أبرهة" نصبوهم ملوكا وتبابعة على مملكة سبأ وحمير.

(1/1803)


--------------------------------------------------------------------------------

والرأي الغالب بين الناس إن حملة أبرهة على مكة، كانت قبل المبعث بزهاء أربعين سنة، وميلاد الرسول كان في عام هذه الحملة، وهو العام الذي عرف ب "عام الفيل". وهو يوافق سنة "570" أو "571م". وانما عرف بعام الفيل، لأن الحبش كما يزعم أهل الأخبار جاءوا إلى مكة ومعهم فيل سموه "محمودا"، وقد جاءوا به من الحبشة. وفي بعض الروايات أن عدد الفيلة كان ثلاثة عشر فيلا، أو اثني عشر، أو دون ذلك، أو أكثر، وأوصلوا العدد إلى ألف فيل. ولوجود الفيل أو الفيلة في الحملة، عرفت بحمله الفيل، وعبر عن الحبش في القرأن الكريم ب "أصحاب الفيل".
وقد ذهب بعض الرواة إلى أن عام الفيل إنما كان قبل مولد النبي بثلاث وعشرين سنة، وذكر بعضهم أنه كان في السنة الثانية عشرة من ملك "هرمز ابن انو شران". ولما كان ابتداء حكم "هرمز بن أنو شروان" سنة "579" فعام الفيل يكون في توالى السنة "581" للميلاد لا سنة "570" او "571" للميلاد كما يذهب الأكئرون إلى ذلك. وأما إذا اخذنا برواية من قال من الرواة وأهل الأخبار من أن عام الفيل قد كان لاثنتين واربعين سنة من ملك "انو شروان"، فيكون هذا العام قد وقع في حوالى السنة "573" للميلاد وهو رقم قريب من الرقم الذي ذهب إليه أكثر المستشرقين حين حولوا ما ذكره اهل الأخبار عن سنة ولادة الرسول إلى التقويم الميلادي.

(1/1804)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ورد ذكر هذا الحادث في القرآن الكريم: )ألم تر كيف فعل ربك باصحاب الفيل. ألم يجعل كيدهم في تضليل، وارسل عليهم طيرا أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول( وقد خاطبت هذه الآيات انرسول بأن قريشا سوف تخيب وتحل بها الهزيمة، كما حلت بأصحاب الفيل، واصحاب الفيل اعظم منهم قوة واشد بطشا، وهم لا شىء تجاههم، وفيها تذكير لقريش بما حل بالحبش، وما كان عهد الحبش عنهم ببعيد. وينسب الأخباريون حملة أبرهة على مكة إلى تدنيس رجل من كنانة "القليس" التي بناها أبرهة في اليمن، لتكون محجة للناس. فلما بلغ أبرهة خبر التدنيس كما يقولون، عزم على السير إلى مكة لهدم الكعبة،فسار ومعه جيش كبير من الحبش واهل اليمن.، وهو مصمم على دكها دكا، وصرف الناس عن الحج اليها إلى الأبد. فلما وصل، هلك معظم جيشه، فاضطر إلى العودة إلى اليمن خائبا مدحورا.
ويذكر اهل الأخبار إن الرجل الذي دنس القليس،هو من النسأة أحد بني فقيم، ثم احد بني مالك من كنانة. وقد غضب لما رآه من شأن تلك الكنيسة،ومن عزم أبرهة على صرف حاج العرب اليها، ومن مبالغته في الدعاية لها، ففعل ما فعل.
وقيل ان الرجل المذكور كان من النساك، من نساك بني فقيم، غاظه ما كان من عزم ابرهة على صرف العرب عن الحج الى مكة، فأحدث في القليس للحط من شأنها في نظر العرب، ولطخ قبلتها بحدثه، فشاع خبره بين الناس، وهزئ القوم من قليس حدث به ما حدث. وغضب ابرهة من عمله المشين هذا الموجه اليه والى كل الحبش، فعزم على هدم البيت الذي يقدسه هذا الكناني ومن يحج اليه.
ويفسر أخباريون آخرون عزم "أبرهة" على دك الكعبة وهدمها إلى عامل آخر، فهم يذكرون إن فتية من قريش دخلوا القليس فأججوا فيها نارا، وكان يوما فيه ريح شديدة، فاحرقت وسقطت إلى الأرض، فغضب أبرهة، وأقسم لينتقم من قريش بهدم معبدهم،كما تسببوا في هدم معبده الذي باهى النجاشي به.

(1/1805)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر أن "أبرهة" بنى القليس بصنعاء، وهي كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض، وكان نصرانيا، ثم كتب إلى النجاشي: إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك، ولست بمنته حتى أصرف اليها حج العرب. فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى ألنجاشي، غضب رجل من النسأة، فخرج حتى أتى الكنيسة، فأحدث فيها، ثم خرج فلحق بأرضه، فأخبر بذلك ابرهة، فغضب عند ذلك، وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه. وبعث رجلا كان عنده إلى بني كنانة يدعوهم إلى حج تلك الكنيسة، فقتلت بنو كنانة ذلك الرجل، فزاد أبرهة ذلك غضبا وحنقا، ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت ثم سار وخرج معه بالفيل.

(1/1806)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر "السيوطي" سببا آخر في قرار أبرهة غزو مكة، زعم أن أبرهة الأشرم كان ملك اليمن، وان ابن ابنته أكسوم بن الصباح الحميري خرج حاجأ، فلما انصرف من مكة، نزل في كنيسة بنجران، فعدا عليها ناس من أهل مكة، فأخذوا ما فيها من الحلي وأخذوا قناع أكسوم، فانصرف إلى جده مغضبا، فبعث رجلا من أصحابه يقال له "شهر بن معقود" على عشرين ألفا من خولان والأشعريين، فساروا حتى نزلوا بأرض خثعم فتيمنت خثعم عن طريقهم. فلما دنا من الطائف خرج إليه ناس من بني خثعم ونصر وثقيف، فقالوا: ماحاجتك إلى طائفنا، وإنها هي قرية صغيرة ? ولكنا ندلك على بيت بمكة يعبد فيه، ثم له ملك العرب، فعليك به، ودعنا منك، فأتاه حتى إذا بلغ المغمس، وجد إبلا لعبد المطلب مئة ناقة مقلدة، فأنهبها بين أصحابه. فلما بلغ ذلك عبدالمطلب جاءه، وكان له صديق من أهل اليمن يقال له: ذو عمرو، فسأله أن يرد عليه ابله، فقال: إني لا أطيق ذلك، ولكن إن شئت أدخلتلك على الملك. فقال عبد المطلب: افعل. فأدخله عليه، فقال له: إن لي اليك حاجة. قال قضيت. كل حاجة تطلبها، ثم قص عليه قصة ابله التي انتهبها جيشه. فالتفت إلى ذي عمرو، ثم ضرب بإحدى يديه على الأخرى عجبا، فقال: لو سألني كل شيء أحوزه، أعطيته اياه، ثم أمر بإرجاع ابله عليه. وأمر بالرحيل نحو مكة لهدمها. وتوجه الف شهر وأصحاب الفيل، وقد اجمعوا ما اجمعوا نحو مكة، فلما بلغوها، خرجت عليهم طير من البحر لها خراطيم كأنها البلس، فرمتهم بحجارة مسرجة كالبنادق، فشاختهم، ونزل الهلاك بهم فانصرف شهر هاربا وحده، ولكنه ما كاد يسير، حتى تساقطت اعضاء جسده فهلك في طريقه إلى اليمن وهم ينظرون إليه.

(1/1807)


--------------------------------------------------------------------------------

ويتفق خبر "السيوطي" هذا في جوهره وفي شكله مع الروايات الأخرى التي وصلت الينا عن حملة "أبرهة"، ولا يختلف عنها الا في أمرين: في السبب الذي من أجله قرر أبرهة هدم الكعبة، وفي الشخص الذي سار على مكة. اما السبب الذي اورده السيوطي، فهو غير معقول، لسبب بسيط واضح، هو إن ابن ابرهة، وهو أكسوم بن الصباح الحمري، هو رجل نصراني،والنصارى لا تحج إلى مكة، لأنها محجة الوثنيين، وقد عزم جده ابرهة على صرف العرب من الحج اليها، فكيف يحج اليها ابن ابنته،وهو على دين جده ? واما ما زعمه من إن "شهر بن معقود" "مقصود" هو الذي سار على مكة سصها، وذلك بأمر من ابرهة، فإنه يخالف اجماع أهل الأخبار والمفسرين من إن ابرهة هو نفسه قاد تلك الحملة، وانه هو الذي اخذ الفيل او الفيلة معه،وسار على رأس جيش كبير من الحبش ومن قبائل من اهل اليمن كانت تخضع له. ثم إن السيوطي يشير إلى وجود "الملك" في الجيش، ولم يكن شهر بن معقود ملكا ولم يلقبه اهل الأخبار بلقب "ملك"، وانما أنعموا بهذا اللقب على ابرهة وحده. أضف إلى ذلك إن ما ذكره السيوطي من حوار وقع بين عبد المطلب وبين الملك هو حوار يذكر اهل الأخبار انه جرى بين عبد المطلب وبين ابرهة. لذلك ارى إن الأمر قد التبس على السيوطي،فخلط بين ابرهة وبين شهر احد قادته من العرب، وانه قصد بالملك ابرهة لا القائد، وإن لم يشر إليه، بل جعل الفعل كل الفعل للقائد المذكور.

(1/1808)


--------------------------------------------------------------------------------

وأورد "القرطبي" رواية اخرى نسبها إلى مقاتل بن سليمان وابن الكلبي، خلاصتها: إن سبب الفيل هو ما روى إن فتية من قريش خرجوا تجارا إلى ارض النجاشي، فنزلوا على ساحل البحر إلى بيعة للنصارى، تسميها النصارى: الهيكل، فأوقدوا نارا لطعامهم، وتركوها وارتحلوا، فهبت ريح عاصفة على النار فأضرمت البيعة نارا واحترقت، فأتي الصريخ إلى النجاشي، فأخبره، فاستشاط غضبا، فاتاه ابرهة بن الصباح وحجر بن شرحبيل وابو يكنهوم الكنديون وضمنوا له احراق الكعبة. وكان النجاشي هو الملك، وابرهة صاحب الجيش، وابو يكسوم نديم الملك، وقيل وزيره، وحجر بن شرحبيل من قواده. فساروا معهم الفيل، وقيل ثمانية فيلة، ونزلوا بذي المجاز، واستاقوا سرح مكة. وتتفق هذه الرواية مع الروايات السابقة من حيث الجوهر، ولا تختلف عنها الا في جعل الكنيسة المحققة بيعة في ارض النجاشي، اي في ساحل الحبش، لا في ارض اليمن، والا في جعل الآمر بالحملة النجاشي، لا ابرهة نفسه. أما المنفذون لها، فهم ابرهة ومن معه.
وهناك سبب اخر سأتعرض له فيما بعد، يذكره أهل الأخبار في جملة الأسباب التي زعموا انها حملت ابرهة على السير نحو مكة لتهديمها. وهو سبب ارجحه وأقدمه على السببين المذكورين، لما فيه من مساس بالسياسة، ولأنه مشروع سياسي خطير المشروعات العالمية القديمة التي وضعها اقدم ساسة العالم للسيطرة على الطرق الموصلة إلى المياه الدافئة والى الأرينض المنتجة لأهم المواد المطلوبة في ذلك العهد.

(1/1809)

admin
12-27-2010, 02:01 AM
وتذكر روايات اهل الأخبار إن أبرهة لما رتب كل شيء وجهز نفسه للسير من اليمن نحو مكة، خرج له رجل من اشراف اليمن وملوكهم، يقال له: "ذو نفر" وعرض له فقاتله، فهزم "ذو نفر" واصحابه، واخذ له ذو نفر اسرا. ثم مضى ابرهة على وجهه ذلك، يريد ما خرج له، حتى إذا كان بأرض خثعم، عرض له "نفيل بن حبيب الخثعمي" في قبيلى خثعم: شهران وناهس ومن تبعه من قبائل العرب، فقاتله فهزمه أبرهة، وأخذ له نفيل أسرا وخرج معه يدله على الطريق، حتى إذا مر بالطائف، خرج إليه "مسعود بن معتب" في رجال ثقيف، فقال له: أيها الملك، انما نحن ****ك، سامعون لك مطيعين، ليس لك عندنا خلاف،وليس بيتنا هذا بالبيت الذي تريد - يعني اللات - انما تريد البيت الذي بمكة، يعنون الكعبة، ونحن نبعث معك من يدلك، فتجاوز عنهم، وبعثوأ معه أبا رغال، فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزله المغمس، فهلك أبو رغال به. فرجمت العرب قبره،فهو القبر الذي يرجم الناس بالمغمس.
وكان نفيل بن حبيب الخثعمي من سادات خثعم، ولما أخذه أبرهة أسيرا واحتبسه عنده، جعله دليله إلى مكة، وهو الذي أوصله إلى الطائف، حيث تسلم أبرهة الدليل الآخر من ثقيف، وهو أبو رغال. وذ كر بعضهم أن "نفيل ابن حبيب" كان دليل أبرهة على الكعبة، وأنه عرف ب "ذي اليدين".
ولأهل الأخبار قصص عن "ابي رغال"، صيره أسطورة، حتى صيره بعضهم من رجال ثمود ومن رجال "صالح" النبي. فزعموا إن النبي كان قد وجهه على صدقات الأموال، فخالف أمره، وأساء السيرة، فوثب عليه "ثقيف" وهو قسي بن منبه، فقتله قتلة شنيعة. وهو خبر وضعه أناس من ثقيف ولا شك، للدفاع عن أنفسهم، إذ اتهموا بان "أبا رغال" منهم، وقد جاموا بشعر، زعموا أن "أمية بن أبي الصلت" قاله في حقه، منه: وهم قتلوا الرئيس أبا رغال بمكة إذ يسوق بها الوضينا

(1/1810)


--------------------------------------------------------------------------------

فصيروا القائل جد ثقيف، ونسبوا له فضل مساعدة نبي من أنبياء الله. وقد اشار "جرير بن الخطفي" في شعر قاله في الفرزدق إلى رجم الناس قبر أبي رغال، إذ قال: إذا مات الفرزدق فارجموه كرجمكم لقبر أبي رغال
وذكر "المسعودي"، أن العرب ترجم قبرا آخر، يعرف بينهم بقبر العبادي في طريق العراق إلى مكة. بين الثعلبية والهبير نحو البطان. ولم يذكر شيئا عن سببه، إذ أحال القارىء على مؤلفاته الأخرى.
وذكر "الهمداني" إن قبر أبي رغال عند "الزيمة". و "الزيمة" موضع صروف حتى هذا اليوم. ولما نزل أبرهة المغمس، بعث رجلا من الحبشة يقال له الأسود بن مقصود على خيل له، حتى انتهى إلى مكة: فساق إليه اموال أهل مكة من قريش وغيرهم، وأصاب منها مئتي بعير لعبد المطلب بن هاشم، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها، فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بالحرم من سائر الناس بقتاله، ثم عرفوا انه لا طاقه لهم به. فتركوا ذلك. ثم قرروا على أن يرسلوا سيدهم "عبد المطلب" لمواجهة أبرهة والتحدث إليه، فذهب وقابله، وتذكر رواية أهل الأخبار إن أبرهة لما ساله عن حاجته وعما معه من أنباء، قال له: حاجتي إلى الملك أن يرد علي مئتي بعير أصابها لي، فعجب ابرهة من هذا القول وقال له: اتكلمني في مئتي بعير قد اصبتها لك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه ? قال له عبد المطلب: اني انا رب الابل، وان للبيت ربا سيمنعه.
وتذكر هذه الرواية أن أبرهة رد على عبد المطلب ابله، فرجع إلى قومه، وأمرهم بالخروج من مكة وللتحرز في شعف الجبال والشعاب تخوفا عليهم من معرة الجيش. فلما وصل جيش الحبش، لم يجد أحدا بمكة،وتفشى الوباء فيه، واضطر إلى التراجع بسرعة. فلما وصل أبرهة "إلى اليمن، هلك فيها بعد مدة قليلة من هذا الحادث.

(1/1811)


--------------------------------------------------------------------------------

ويذكر "الطبري" إن الأسود بن مقصود لما ساق أموال اهل مكة من قريش وغيرهم، وفي ضمنها ابل عبد المطلب، وأوصلها إلى أبرهة، وأن قريشا وكنانة. وهذيل ومن كان معهم بالحرم من سائر الناس عزمت على ترك القتال، إذ تأكدوا انهم لا طاقة لهم به. بعث ابرهة "حناطة الحمري" إلى مكة، وقال له: سل عن سيد هذا البلد وشريفهم، ثم قل له إن الملك يقول لكم: إني لم آت لحربكم، إنما جئت لهدم البيت، فإن لم تعرضوا دونه بحرب، فلا حاجة لي بدمائكم، فإن لم يرد حربي فائتني به، فلما دخل حناطة مكة، سأل عن سيد قريش وشريفها، فقيل له: عبد المطلب، فقال له ما أمره به أبرهة، فقال له عبد المطلب: والله ما نريد حربه، وما لنا بذلك من طاقة، هذا بيت الله الحرام، وبيت خليله ابراهيم،. فإن يمنعه فهو بيته وحرمه، وإن يخل بينه وبينه، فوالله ما عندنا له من دافع عنه. ثم انطلق معه إلى أبرهة. فلما وصل المعسكر، سأل عن "ذي نفر"، وكان له صديقا، فدل عليه، فجاءه وهو في محبسه، فكلمه، ثم توصل بوساطته إلى سائق فيل أبرهة وهو أنيس، وأوصاه خيرا. بعبد المطلب، وكلمه في إيصاله إلى ابرهة، وان يتكلم فيه عند ابرهة بخير. ونفذ انيس طلب "ذو نفر"، وأدخله عليه، فكان ما كان من حديث.
وذكر الطبري: أن بعض اهل الأخبار زعموا إن نفرا من سادات قريش رافقوا عبد المطلب في ذهابه مع حناطة إلى ابرهة، ذكروا منهم.: يعمر "عمرو" ابن نفاثة بن عدي بن الدئل بن بكر بن عبد مناف بن كنانة، وهو يومئذ سيد بني كنانة، وخويلد بن واثلة الهذلي، وهو يومئذ سيد هذيل، فعرضوا على أبرهة ثلث اموال اهل تهامة على إن يرجع عنهم، ولا يهدم البيت، فأبى عليهم.
ويذكر أهل الأخبار إن جيوش "ابرهة" حين دنت من مكة،توسل عبد المطلب إلى ربه وناجاه بأن ينصر بيته ويذل "آل الصليب" وأنه أخذ بحلقة باب الكعبه وقال: يا رب لا أرجو لهم سواكا يا رب فامنع منهم حماكا

(1/1812)


--------------------------------------------------------------------------------

إن عدو البيت من عاداكا أمنعهم أن يخربوا قراكا
وقال: لاهم إن العبد يمنع رحله فامنع رحالك
لا يغلين صليبهم ومحالهم عدوا محالك
وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك
وقد بلغ أبرهة مكة، غير انه لم يتمكن من دكها ومن هدمها، وخاب ظنه، إذ تفشى المرض بجيشه وفتك الوباء به، فهلك أكثره، واضطر إلى الإسراع في العودة، وكان عسكره يتساقطون موتى على الطريق، وهم في عودتهم إلى اليمن. وذكرت بعض الروايات إن أبرهة نفسه أصيب بهذا المرض. ولم يبلغ صنعاء الا بعد جهد جهيد. فلما بلغها، مات إثر وصوله اليها.
وعلى هذه الصورة أنهى اهل الأخبار أخبار حملة ابرهة، فقالوا انها انتهت باخفاق ذريع، انتهت باصابة ابرهة بوباء خطير، وبإصابة عسكره بذلك المرض نفسه: مرض جلدي، أصاب جلود أكثر جيشه، فمزقها، وأصابها بقروح وقيوح في الأيدي خاصة، وفي الأفخاذ. أو بمرض وبائي هو الحصبة والجدري، فيذكر أهل الأخبار في تفسير سورة الفيل، وفي أئناء تحدثهم عن هذه الحملة وبعد شرحهم لمعنى "طير آبابيل": مباشرة، هذين المرضين ويقولون: "إن أول ما رئيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام". وتفسير ذلك بعبارة أخرى إن ما اصاب الحبش، هو وباء من تلك الأوبئة التي كانت تكتسح البشرية فيما مضى، فلا تشهب حتى تكون قد أكلت آلافا من الرؤوس.
وكان لرجوع الأحباش إلى اليمن وهم على هذه الصورة من مرض يفتك بهم، وتعب ألم بهم، أثر كبير أثر فيهم وفي قريش، ثم ما لبث ابرهة إن مات بعد مده غير طويلة، فازداد اعتقاد قريش ب "رب البيت" وبأصنامها، وهابت العرب مكة، فكانت نكسة الحبش نصرا لقريش ولأهل مكة قوى من معنوياتها. ويتجلى ذلك في القرآن الكرم في سورة الفيل، وهي من السور المكية القديمة: )ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، ألم يجعل كيدهم في تضليل، وأرسل عليهم طيرا أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول(.

(1/1813)


--------------------------------------------------------------------------------

وقصة تدنيس "القليس"، قد تكون حقيقية وقعت وحدثت، وقد تكون أسطورة حيكت ووضعت، على كل حال، وفي كلتا الحالتين لايعقل أن تكون هي السبب المباشر الذي دفع النجاشي إلى السير إلى مكة لهدم البيت ونقضه من أساسه ورفع احجاره حجرا حجرا، على نحو ما يزعمه أهل الأخبار بل يجب أن يكون السبب أهم من التدنيس وأعظم، وأن يكون فتح مكة بموجب خطة تسمو على فكرة تهديم البيت وتخريبه، خطة ترمي إلى ربط اليمن ببلاد الشام، لجعل العربية الغربية والعربيه الجنوبية تحت حكم النصرانية، وبذلك يستفيد الروم والحبش وهم نصارى، وان اختلفوا ذهبا، ويحققون لهم بذلك نصرا سياسيا واقتصاديا كبيرا، فيتخلص الروم بذلك من الخضوع للاسعار للعالية التي كان يفرضها الساسانيون على السلع التجارية النادرة المطلوبة التي احتكروا بيعها لمرورها ببلادهم، إذ سترد اليهم من سيلان والهند رأسا عن طريق بلاد العرب، فتنخفض الأسعار ويكون في امكان السفن البيزنطية السير بأمان في البحار العربية حتى سيلان والهند وما وراءهما من بحار.
وآية ذلك خبر يرويه أهل الأخبار يقولون فيه إن "أيرهة" توج "محمد ابن خزاعي بن حزابة الذكواني"، ثم السلمي، وكان قد جاءه في نفر من قومه، مع أخ له، يقال له "قيس بن خزاعي"، يلتمسون فضله، وأمره على مضر، وأمره أن يسير في الناس، فيدعوهم في جملة ما يدعوهم إليه إلى حج "القليس"، فسار محمد بن خزاعي، حتى إذا نزل ببعض أرض بني كنانة، وقد بلغ أهل تهامة أمره، وما جاء له، بعثوا إليه رجلا من هذيل، يقال له عروة بن حياض الملاصي فرماه بسهم فقتله. وكان مع محمد بن خزاعي أخوه قيس، فهرب حين قتل أخوه، فلحق بأبرهة، فأخبره بقتله، فغضب وحلف ليغزون بني كنانة وليهدمن البيت.

(1/1814)


--------------------------------------------------------------------------------

فمقتل "محمد بن خزاعي"، هو الذي هاج أبرهة وحمله على ركوب ذلك المركب الخشن. ولم يكن هياجه هذا بالطبع بسبب أن القتيل كان صاحبه وصديقه بل لأن من قتله عاكس رأيه وخالف سياسته ومراميه التوسعيه القاضية بفرض ارادته وارادة الحبش وحلفائهم على أهل مكة وبقية كنانة ومضر، وبتعيين ملك أو أمير عليهم، هو الشخص المقتول، فقتلوه. ومثل هذا الحادث يؤثر في السياسة وفي الساسة، ويدفع الى اتخاذ اجراءات قاسية شديدة، مثل ارسال جيش للقضاء على المتجاسرين حتى لا يتجاسر غيرهم، فتفلت من السياسي الأمور.
ومن يدري ? فلعل الروم كانوا هم المحرضين لأبرهة على فتح مكة وغير مكة حتى تكون العربية الغربية كلها تحت سلطان النصرانية، فتتحقق لهم مأربهم في طرد سلطان الفرس من بلاد العرب. وقد حاولوا مرارا اقناع الحبش بتنفيذ هذه الخطة والاشراك في محاربة الفرس، وهم الذين حرضوا الحبشة وساعدوهم بسفنهم وبمساعدات مادية أخرى في فتح اليمن. وهم الذين أرسلوا رسولا اسمه "جوليانوس" Julianus، وذلك في أيام القيصر "يوسطنيان" Justinian لاقناع النجاشي Hellestheaeus و "السميع أشوع" Esimiphaeus بالتحالف مع الروم، وتكوين جبهة واحدة ضد الفرس والاشتراك مع الروم في اعلان الحرب على الفرس بسبب الرابطة التي تجمع بينهم، وهي رابطة الدين. وكان في جملة ما رجاه القيصر من "السميفع أشوع"، هو أن يوافق على تنصيب "قيس" Casius رئيسا على "Maddeni" معد.
وقد ذكر "المسكري"، أن "محمد بن خزاعي بن علقمة بن محارب ابن مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان السلمي" كان في جيش ابرهة مع الفيل، أي انه لم يقتل كما جاء في الرواية السابقة.
وقد ورد في بعض الأخبار أن عائشة أدركت قائد الفيل وسائسه، وكانا أعميين مقعدين يستطعمان. وقد رأتهما.

(1/1815)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد كان من أشراف مكة في هذا العهد غير عبد المطلب، المطعم بن عدي. وعمرو بن عائد بن عمران بن مخزوم، ومسعود بن عمرو الثقفي، وقد صعدوا على حراء ينظرون ما سيفعل أبرهة بمكة.
وذكر بعض أهل الأخبار، أن فلالا من الحبش من جيش أبرهة وعفاء وبعض من ضمه العسكر، أقاموا بمكة، فكانوا يعتملون ويرعون لأهل مكة، وليس في كتب أهل الأخبار أسماء القبائل العربية التي جاءت مع "أبرهة" للاستيلاء على مكة بتفصيل. وكل ما نعرفه انه كان قد ضم إلى جيشه قوات عربية قد يكون بينها قوم من كندة، وقد أشير إلى اشتراك خولان والأشعرين فيها، وذكر أن "خندقا" كانوا ممن اشترك في جيش أبرهة،وكذلك "حميس بن أد"
وقد اشير إلى أبرهة الأشرم والى الفيل في شعر شعراء جاهليين ومخضرمين واسلاميين. وقد ورد في شعر "عبد الله بن الزبعرى" أنه كان مع "أمير الحبش" ستون ألف مقاتل. وورد في شعر "امية بن ابي الصلت" إن الفيل ظل يحبو ب "المغمس" ولم يتحرك، وحوله من ملوك كندة أبطال ملاويث في الحروب صقور. ومعنى هذا أن سادات كندة كانوا مع الحبش في زحفهم على مكة. وذكر "عبد الله بن قيس الرقيات": إن "الأشرم" جاء بالفيل يريد الكيد للكعبة، فولى جيشه مهزوما، فأمطرتهم الطير بالجندل، حتى صاروا وكأنهم مرجومون يمطرون بحصى الرجم.

(1/1816)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر إن "عمر بن الخطاب" كان في جملة. من ذكر "أبا يكسوم أبرهة" في شعره، واتخذه مثلا على من يحاول التطاول على بيت الله وعلى "آل الله" سكان مكة. وذكر أهل الأخبار انه قال ذلك الشعر في هجاء "زنباع بن روح ابن سلامة بن حداد بن حديدة" وكان عشارا، أساء إلى "عمر بن الخطاب" وكان قد خرج في الجاهلية تاجرا وذلك في اجتيازه واخذ مكسه، فهجاه عمر، فبلغ ذلك الهجاء "زنباعا"، فجهز جيشا لغزو مكة. فقال عمر شعرا آخر يتحداه فيه بأن ينفهذ تهديده إن كان صادقا، لأن من يريد البيت بسوء يكون مصيره مصير أبرهة الأشرم، وقد كف زنباع عن تنفيذ ما عزم عليه ولم يقم به.
لقد تركت حملة "الفيل" أثرا كبيرا في أهل مكة، حتى اعتبرت مبدأ تقويم عندهم، فصار أهل مكة يؤرخون بعام الفيل "في كتبهم وديونهم من سنة الفيل". فلم تزل قريش والعرب بمكة جميعا تؤرخ بعام الفبل، ثم أرخت بعام الفجار، ثم أرخت ببنيان الكعبة.
لقد كان لأهل مكة صلات باليمن متينة، إذ كانت لهم تجارة معها،تقصدها قوافلها في كل وقت، وخاصة في موسم الشتاء، حيث تجهز قريش قافلة كييرة يساهم فيها أكثرهم، واليها أشير في القران الكريم في سورة قريش: )لإيلف قريش. ايلافهم رحلة الشتاء والصيف(. ولهذا فقد كان من سياستهم مداراة حكام اليمن وارضاؤهم، ومنع من قد يعتدي منهم على أحد من أهل اليمن أو الحبش ممن قد يقصد مكة للاتجار أو للاستراحة بها في أثناء سيره إلى بلاد الشام، خوفا من منع تجارهم من دخول أسواق اليمن. فلما وثب أحدهم على تجار من اليمن كانوا قد دخلوا مكة، وانتهبوا ما كان معهم، مضت عدة من وجوه قريش إلى "أبي يكسوم"، أي أبرهة وصالحوه أن لا يقطع تجار أهل مكة عنهم. وضمانا لوفائهم بما اتفقوا عليه وضعوا "الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار" وغيره رهينة، فكان "أبرهة" يكرمهم ويصلهم، وكانوا يبضعون البضائع إلى مكة لأنفسهم.

(1/1817)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد وضع أهل الطائف رهائن عند أبي يكسوم كذلك، ضمانا لحسن معاملتهم للحبش ولمن قد يقصد الطائف للاتجار من الحبش أو من أهل اليمن.
طرد الحبشة
لقد عجل الحبش في نهايتهم في اليمن، وعملوا بأيديهم في هدم ما أقاموه بأنفسهم من حكومة، باعتدائهم على أعراض الناس وأموالهم، وأخذهم عنوة كل ما كانوا يجدونه أمامهم، حتى ضج أهل اليمن وضجروا، فهبوا يريدون تغيير الحال، وطرد الحبشة عن أرضهم، وإن أدى الأمر بهم إلى تبديلهم بأناس أعاجم أيضا مثل الروم أو الفرس، إذا عجزوا هم عن طردهم، فلعل من الحكام الجدد من قد يكون أهون شرا من الحبش، وان كان كلاهما شرا، ولكن إذا كان لا بد من أحد الشرين فإن أهونهما هو الخيار ولا شك.
وهب اليمانون على الحبش، وثار عليهم ساداتهم في مواضع متعددة غير أن ثوراتهم لم تفسهم شيئا، اذ أخمدت، وقتل القائمون بها. ومن أهم اسباب إخفاقها انها لم تكن ثورة عارمة عامة مادتها كل الجماهير والسادات، بل كانت ثورات سادات، مادة كل ثورة مؤججها ومن وراءه من تبع. هنا ثورة وهناك ثورة، ولم تكن بقيادة واحدة، أو بإمرة قائد خبير أو قادة متكاتفين خبراء بأمور الحرب والقتال، فصار من السهل على الحبش، الانقضاض عليها واخمادها، أضف إلى ذلك انها لم تؤقت بصورة تجعلها ثورات جماعية، وكأنها نيران تلتهب في وقت واحد، يعسر على مخمدي النيران إخمادها، او اخمادها على الأقل بسهولة.

(1/1818)


--------------------------------------------------------------------------------

ولتحاسد الأقيال وتنافسهم على السيادة والزعامة نصيب كبير في هذا الإخفاق، لذلك وجه بعض السادة أنظارهم نحو الخارج في أمل الحصول على معونة عسكرية أجنبية خارجية، تأتيهم من وراء الحدود، لتكره الحبش على ترك اليمن. وكان صاحب هذا الرأي والمفكر فيه "سيف بن ذي يزن"، من ابناء الأذواء ومن أسرة شهيرة. وقد نجح فى مشروعه، فاكتسب صفة البطولة وانتشر اسمه بين اليمانيين، حتى صير أسطورة من الأساطير، وصارت حياته قصة من القصص أمثال قصة أبي زيد الهلالي وعنترة وغيرهما ممن تحولوا إلى أبطال تقص حياتهم على الناس في المجالس وفي المقاهي وحفلات السمر والترفيه، أو تقرأ للتسلية واللهو.

(1/1819)


--------------------------------------------------------------------------------

و "سيف بن ذي يزن"، هو "معديكرب بن ابي مرة"،وقد عرف ابوه ايضا ب "ابي مرة الفياض"، وكان من أشراف حمير، ومن الأفواء. وأمه "ريحانة ابنة علقمة"، وهي من نسل "ذي جدن" على فى ما ذكرت. يقال إن أبرهة لما انتزع ريحانة من بعلها "ابي مرة"، فر زوجها إلى العراق فالتجأ إلى ملك الحيرة "عمرو بن هند" على ما يظن، وبقي "معديكرب" مع امه في بيت "أبرهة" على ذلك مدة، حتى وقع شجار بينه وبين شقيقه من امه "مسروق" الذي ولي الملك بعد موت اخيه "يكسوم" فأثر ذلك في نفسه وحقد على "مسروق".، فلما مات يكسوم، خرج من اليمن، حتى قدم على قيصر ملك الروم، فشكا ما هم فيه، وطلب إليه إن يخرجهم عنه، ويليهم هو ويبعث اليهم من يشاء من الروم، فيكون له ملك اليمن، فلم يشكه ولم يجد عنده شيئا مما يريد، فخرج حتى قدم الحيرة على النعمان بن المنذر، فأسكنه عنده ثم اوصله بكسرى، وحدثه في شأنه وفي خاطره في قومه، فأمده بثماني مئة محارب، وب "وهرز" أمره عليهم، وبثماني سفن جعل في كل سفينة مئة رجل و يصلحهم في البحر، فخرجوا، حتى إذا لجوا في البحر غرقت من السفن سفينتان بما فيهما، فخلص إلى ساحل اليمن من ارض عدن ست سفائن فيهن ستمئة رجل فيهم وهرز وسيف بن ذي يزن، نزلوا أرض اليمن، فلما سمع بهم مسروق بن أبرهة، جمع إليه جنده من الحبشة، ثم سار اليهم، فلما التقوا رمى "وهرز" مسروقا بسهم، فقتله، وانهزمت الحبشة، فقتلوا، وهرب شريدهم، ودخل "وهرز" مدينة صنعاء، وملك اليمن ونفى عنها الحبشة، وكتب بذلك إلى كسرى. فكتب إليه كسرى يأمره إن يملك سيف بن ذي يزن على اليمن وارضها وان يرجع وهرز إلى بلاده، فرجع اليها. ورضي سيف بدفع جزية وخرج يؤديه في كل عام.

(1/1820)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر "الطبري" في رواية له اخرى عن "سيف بن ذي يزن" وعن مساعدة الفرس له، فقال: "فخرج ابن ذي يزن قاصدا إلى ملك الروم، وتجنب كسرى لابطائه عن نصر ابيه، فلم يجد عند ملك الروم ما يحب، ووجده يحامي عن الحبشة لموافقتهم اياه على الدين، فانكفأ راجعا إلى كسرى"، فقابله وحياه وقال لكسرى: "انا ابن الشيخ اليماني ذي يزن، الذي وعدته إن تنصره فما ببابك وحضرتك، فتلك العدة حق لي وميراث يجب عليك الخروج لي منه. فرق له كسرى، وامر له بمال. فخرج، فجعل ينشر الدراهم، فانتهبها الناس. فأرسل إليه كسرى: ما الذي حملك على ما صنعت: قال: إني لم آتك للمال، انما جئتك للرجال، ولتمنعني من الذل، فاعجب ذلك كسرى، فبعث اليه: إن أقم حتى انظر في امرك. ثم إن كسرى استشار وزراءه في توجيه الجند معه، فقال له الموبذان: إن لهذا الغلام حقا بنزوعه وموت ابيه بباب الملك وحضرته، وما تقدم من عدته اياه، وفي سجون الملك رجال ذوو نجدة وبأس، فلو إن الملك وجههم معه، فإن أصابوا ظفرا كان له، وان هلكوا كان قد استراح وأراح اهل مملكته منهم، ولم يكن ذلك ببعيد الصواب. قال كسرى: هذا الرأي. وعمل به ".
ويظهر من هذه الرواية، إن "ابا مرة"، والد "معديكرب"، كان قد فر من اليمن إلى العراق، وقد حاول عبثا حث كسرى على تقديم العون العسكري له لطرد ابرهة وقومه الحبش عن اليمن، وبقي يسعى ويحاول حتى مات بالعراق، مات بالمدائن على حد زعم هذه الرواية. ويظهر منها أيضا، إن سيف بن ذي يزن، أي ولد ابي مرة، كان قد أيس هو من كسرى بعد إن رأى ما رأى من موقفه مع ابيه، فذهب أولا إلى ملك الروم، على أمل مساعدته ومعاونته في طرد الحبش عن بلاده، حتى وان أدى الأمر إلى استيلاء الروم على اليمن، فلما خاب ظنه ذهب إلى الفرس، فساعدوه.

(1/1821)


--------------------------------------------------------------------------------

ويذكر "الطبري" أن وهرز لما انصرف إلى كسرى، ملك سيفا على اليمن، ف "عدا على الحبشة فجعل يقتلها ويبقر النساء عما في بطونها، حتى إذا أفناها الا بقايا ذليلة قليلة، فاتخذهم خولا، واتخذ منهم جمازين يسعون بين يديه بحرابهم، حتى إذا كان في وسط منهم وجأوه بالحراب حتى قتلوه، ووثب بهم رجل من الحبشة، فقتل باليمن واوعث، فأفسد، فلما بلغ ذلك كسرى بعث اليهم "وهرز" في أربعة آلاف من الفرس، وأمره الا يترك باليمن أسود ولا ولد عربية من اسود الا قتله، صغيرا كان او كبيرا. فأقبل وهرز، حتى دخل اليمن ففعل ذلك. ثم كتب إلى كسرى بذلك، فأمره كسرى عليها. فكان عليها، وكان يجبيها إلى كسرى حتى هلك".
لقد كان استيلاء الحبشة على اليمن بأسرها سنة "525" للميلاد. أما القضاء على حكمهم فكان قريبا من سنة "575" للميلاد. ولكن الحبش كانوا في اليمن قلائل هذا العهد، اذ كانوا احتلوا بعض الأرضين قبل السنة "525" للميلاد، وكانوا يحكمونها باسم ملك الحبشة.
وجاء في تأريخ الطبري وفي موارد اخرى إن حكم الحبش لليمن دام اثنتين وسبعين سنة، توارث ذلك منهم اربعة: ارياط، ثم أبرهة، ثم يكسوم بن ابرهة، ثم مسروق ابن ايرهة. وهو رقم فيه زيادة، إذا اعتبرنا إن نهاية حكم الحبش في اليمن، كانت في حوالى السنة "575م" 0 اما اخذنا برواية اهل الأخبار مثل حمزة، الذي ذكر كما سبق إن بينت إن حكم "أرياط" دام عشرين سنة، وان حكم ابرهة ثلاثا وعشرين سنة، وان حكم "يكسوم" سبع عشرة، وان حكم مسروق اثنتي عشرة سنة، فيكون ما ذكره "الطبري" وحمزة صحيحا من حيث المجموع، لأن مجموعه "72" سنة. ولكني أشكك في إن حكم "رياط" كان "20" سنة. إذ يعني هذا إن حكمه استمر إلى سنة "545" للميلاد، والمعروف من نص "ابرهة" المدون على جدار سد مأرب، إن ابرهة رمم السد وقوى جدرانه سنة "542" للميلاد. ومعنى هذا انه كان قد استبد بأمر اليمن قبل هذا الزمن.

(1/1822)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد تعرض "حمزة" لهذا البحث، ولفت النظر إلى تفاوت الرواة في مدة لبث الحبشة باليمن وفي تأريخ اليمن كله. فقال: "وليس في جميع التواريخ تاريخ أسقم ولا أحل من تاريخ الأقيال ملوك حمير، لما قد ذكر فيه من كثرة عدد سني من ملك منهم، مع قلة عدد ملوكهم"، و "قد اختلف رواة الأخبار في مدة لبث الحبشة باليمن اختلافا متفاوتا". والواقع اننا نجد اختلافا كبيرا بين اهل الأخبار في تأريخ اليمن،حتى في المتأخر منه القريب من الإسلام.
ويذكر "ابو حنيفة الدينوري"، إن "وهرز" كان شيخا كبيرا، قد أناف على المائة، وكان من فرسان العجم وابطالها، ومن اهل البيوتات والشرف، وكان اخاف السبيل، فحبسه كسرى. ويقال له "وهرز بن الكاسجار"، فسار بأصحابه إلى "الأبلة" فركب منها البحر. وذكر إن "كسرى" لما رده إلى اليمن، بعد وثوب الحبش ب "سيف بن ذي يزن"، وبقي هناك إلى إن وافاه اجله، قبر في مكان سمي "مقبرة وهرز"، وراء الكنيسة، ولم يشر إلى اسم الكنيسة، ولعله قصد موضع "القليس".
أما "المسعودي"، فصير "وهرز" موظف كبيرأ بدرجة "اصبهبذ"، ودعاه ب "وهرز اصبهبذ الديلم" 0 أي انه كان اصبهبذا على الديلم اذ ذاك. وذكر انه ركب ومن كان معه من أهل السجون البحر في السفن في دجلة ومعهم خيولهم وعددهم وأموالهم حتى أتوا "الأبة"، فركبوا في سفن البحر، وساروا حتى أتوا ساحل حضرموت في موضع يقال له "مثوب"، فخرجوا من السفن فأمرهم "وهرز" إن يحرقوا السفن، ليعلموا انه الموت. ثم ساروا من هناك برا حتى التقوا ب "مسروق".
وذكر "المسعودي"، إن "كسرى انو شروان"، أشترط على "معديكرب" شروطا: منها أن الفرس تتزوج باليمن ولا تتزوج اليمن منها، وخراج محمله إليه. فتوج "وهرز" معديكرب بتاج كان معه وبدنة من الفضة ألبسه اياها، ورتبه بالملك على اليمن، وكتب إلى "أنو شروان" بالفتح.

(1/1823)


--------------------------------------------------------------------------------

قال "المسعودي" ولما ثبت "معديكرب" في ملك اليمن، اتته الوفود من العرب تهنيه بعود الملك إليه، وفيها وفد مكة وعليهم عبد المطلب، وأمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وخويلد بن أسد بن عبد العزى، وابو زمعة جد امية بن ابي الصلت، فدخلوا إليه، وهو في اعلى قصره بمدينة صنعاء المعروف بغمدان، وهنأوه، وارتجل عبد المطلب خطابا، ذكر المسعودي وغيره نصه، وأنشد "ابو زمعة" شعرا، فيه ثناء على الملك وحمد للفرس "بنو الأحرار". الذين ساعدوا أهل اليمن، على "سود الكلاب".
واذا أخذنا برواية "المسعودي" عن وفد مكة، وبما يذكره اهل الأخبار عن مدة حكم الحبش على اليمن، وهي اثنتين وسبعين سنة، وجب إن يكون ذهاب الوفد الى صنعاء بعد سنة "597" للميلاد، وهذا مستحيل. فقد كانت وفاة "عبد المطلب" في السنة الثامنة من عام الفيل، والرسول في الثامنة اذ ذاك فيكون وفاة "عبد المطلب" اذن في حوالي السنة "578" أو "579" للميلاد، اي في ايام وجود الحبش في اليمن، وقبل طردهم من بلاد العرب. اما لو اخذنا برواية الباحثين المحدثين التي تجعل زمن طرد الحبش عن اليمن سنة "575" للميلاد، او قبلها بقليل، فيكون من الممكن القول باحتمال ذهاب "عبد المطلب" إلى اليمن، على نحو ما يرويه "المسعودي".
لم يذكر اهل الأخبار السنة التي تولى فيها "سيف بن ذي يزن" الحكم على اليمن بعد طرد الحبش عنها، ويرى بعض الباحثين انها كانت في حوالي السنة "575" للميلاد. وان حكمه لم يكن قد شمل كل اليمن، بل جزءا منها. ويظهر إن الفرس استأثروا بحكم اليمن لأنفسهم، اذ نجد إن رجالا منها تحكمها منذ حوالي السنة "598" للميلاد تقريبا، وكان احدهم بدرجة "ستراب" "سطراب" Satrapie.
وذكر "ابن دريد" إن من ذرية "سيف بن ذي يزن"، "عفير بن زرعة بن عفير بن الحارث بن النعمان بن قيس بن **** بن سيف". وكان سيد حمير بالشام في ايام عبد الملك بن مروان.

(1/1824)


--------------------------------------------------------------------------------

ورووا إن "وهرز" كان يبعث العير إلى كسرى بالطيوب والأموال فتمر على طريق البحرين تارة وعلى طريق الحجاز اخرى، فعدا بنو تميم في بعض الأيام على عيره بطريق البحرين، فكتب إلى عامله بالانتقام منهم، فسار عليهم وقتل منهم خلقا، وذلك يوم "الصفقة". وعدا بنو كنانة على عيره بطريق الحجاز حين مرت بهم، وكانت في جوار رجل من أشراف العرب من قيس، فكانت حرب الفجار بين قيس وكنانة.
وامر كسرى بتولي ابن وهرز، وهو "المزربان بن وهرز" منصب ابيه، لما توفي والده. فكان عليها إلى إن هلك.
ثم امر كسرى "البينجان بن المرزبان" اي حفيد "وهرز" بتولي منصب ابيه حين داهمته منيته. فامر كسرى بعده "خرخرة ين البينجان"، فكان عليها، ثم غضب كسرى عليه. واستدعاه إلى عاصمته، فذهب اليها، فخلعه كسرى وعين باذان "باذام" في مكانه، ولم يزل على اليمن حتى بعث الرسول. وذكر بعض اهل الأخبار إن "خذ خسرو بن السيحان بن المرزبان" هو الذي حكم بعد "الرزبان بن وهزر"، وهو الذي عزله كسرى، وولى "باذان" "باذام" بعده على اليمن.
لقد كانت السنة السادسة من الهجرة، سنة مهمة جدا في تاريخ اليمن. فيها دخل "باذان" "باذام" في الإسلام، وفيها قضى الإسلام على الوثنية واليهودية والنصرانية وعلى الحكم الأجنبي في البلاد، فلم يبق حكم حبشي ولا حكم فارسي. ويرى بعض المستشرقين إن دخول باذان في الإسلام كان بين سنة "628" و"630" للميلاد. ويذكر "الطبري"، إن اسلام "باذان"، كان بعد قتل "شيرويه" لأبيه "كسرى أبرويز"، وتوليه الحكم في موضع والده. فلما جاء كتاب شيرويه إليه يبلغه بالخبر، ويطلب منه الطاعة، اعلن اسلامه، وأسلم من كان معه من الفرس والأبناء. وقد ولى "شيرويه" الحكم في سنة "628" للميلاد، ولم يدم حكمه اكثر من ثمانية اشهر. وقد عرف ب "قباذ".

(1/1825)

admin
12-27-2010, 02:02 AM
وقد ذكر إن "باذان" "باذام" كان من "الأبناء"، أي من الفرس الذين ولدوا في اليمن، وأن الرسول استعمل ابنه "شهر بن باذان" مكانه، أي بعد وفاة والده.
ويذكر أهل الأخبار إن الفرس الذين عاشوا في اليمن وولدوا بها واختلطوا بأهلها، عرفوا ب "الأبناء"، وب "بني الأحرار".
ولما قتل "الأسود العنسي" "شهر بن باذام" "شهر بن باذان"، واستبد "العنسي" بأمر اليمن، خرج عمال الرسول عن اليمن. فلما قتل "العنسي" ورجع عمال النبي إلى اليمن، استبد بصنعاء "قيس بن عبد يغوث المرادي"، وتوفي الرسول والأمر على ذلك. ثم كانت خلافة ابي بكر، فولى على اليمن "فيروز الديلمي".
وقد تطرق "ابن قتيبة" إلى "ملوك الحبشة في اليمن"، فذكر اسم "أبرهة الأشرم"، ثم "يكسوم بن أبرهة"، ثم "سيف بن ذي يزن"، فقال عنه: انه "أتى كسرى أنو شروان بن قباذ" في آخر ايام ملكه - هكذا تقول الأعاجم في سيرها، وانا احسبه هرمز بن أنو شروان على ما وجدت في التأريخ -" مما يدل على أنه نقل أخباره عن حملة الفرس على اليمن من كتب سير ملوك العجم، المؤلفة بلغتهم، كما نقل من موارد أخرى غير أعجمية. وقد ذكر أيضا أن المؤرخين اختلفوا اختلافا متفاوتا في مكث الحبشة في اليمن.

وكون الأبناء طبقة خاصة في اليمن، ولما قدم "وبر بن يحنس،" على الأبناء باليمن، يدعوهم إلى الإسلام، نزل على بنات النعمان بن يزرج فأسلمن، وبعث إلى فيروز الديلمي فأسلم، والى "مركبود" وعطاء ابنه، ووهب بن منبه، وكان أول من جمع القرآن بصنعاء ابنه عطاء بن مركبود ووهب بن منبه.

(1/1826)


--------------------------------------------------------------------------------

ونجد عهد استيلاء الحبشة الأخير على اليمن عهدا كريمأ من ناحيته التأريخية، اذ دون جملة نصوص، تحدثت عنها فيما سلف. أما عند استيلاء الفرس على اليمن إلى دخولها في الإسلام، فلم يترك شيئا مدونأ ولا أثرا يمكن أن يفيدنا في الكشف عن اليمن في هذا العهد. لم يترك لنا كتابة ما، لا بالمسند ولا بقلم الساسانيين الرسمي يشرح الأوضاع السياسية أو أي وضع آخر في هذا العهد.
وحالنا في النصوص الكتابية في أول عهد دخول اليمن في الإسلام، مثل حالنا في استيلاء الفرس عليها، فنحن فيه معدمون لا نملك ولا نصا واحدا مدونا من ذلك العهد. وهو أمر مؤسف كثيرا، وكيف لا وهو والعهد الذي قبله المتصل به، من أهم العهود الخطيرة في تأريخ اليمن وجزيرة العرب، ونص واحد من هذين العهدين ثروة لا تقدر بثمن لمن يريد الوقوف على التطورات التأريخية التي مرت بالعرب قبيل الإسلام وعند ظهوره.
هذا ولا بد من الاشارة الى ان حكم الفرس لليمن لم يكن حكما فعليا واقعيا، فلم يكن ولاتهم يحكمون اليمن كلها، وانما كان حكمهم حكما اسميا صوريا، اقتصر على صنعاء وما والاها، أما المواضع الاخرى، فكان حكمها لأبناء الملوك من بقايا الأسر المالكة القديمة وللأقيال والأذواء. دلك أن أهل كل ناحية ملكوا عليهم رجلا من حمير، فكانوا "ملوك الطوائف" فكان على حمير عند مبعث رسول الله سادات نعتوا أنفسهم بنعوت الملوك، من بينهم "الحارث ابن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال، والنعمان قيل ذي رعين وهمدان ومعافر وزرعة ذو يزن بن مالك بن مرة الرهاوي". وقد أرسلوا إلى الرسول مبعوثا عنهم يخبره برغبتهم في الدخول في الإسلام، وصل اليه مقفله من أرض الروم، ثم لقيه بالمدينة وأخبره باسلامهم وبمفارقتهم الشرك، فكتب اليهم رسول الله كتابا يشرح فيه ما لهم وما عليهم من واجبات وحقوق.
همدان وصنعاء ومأرب

(1/1827)


--------------------------------------------------------------------------------

وكانت همدان عند مبعث الرسول، مستقلة في ادارة شؤونها، وقد أسلمت كلها في يوم واحد على يد علي بن أبي طالب، ولقد صارت "صنعاء" عاصمة لحكام اليمن منذ عهد الحبش حتى هذا اليوم، أما "مأرب" فقد صارت مدينة ثانوية، بل دون هذه الدرجة، وأفل كذلك شأن ظفار، وسائر المواضع التي كان لها شأن يذكر في عهد استقلال اليمن وفي عهد الوثنية. ويرجع بعض أهل الأخبار بناء صنعاء إلى "سام بن نوح"، وزعموا أنها أول مدينة بنيت باليمن، وأن قصر "غمدان" كان أحد البيوت السبعة التي بنيت على اسم الكواكب السبعة، بناه "الضحاك" على اسم الزهرة. وكان الناس يقصدونه إلى أيام "عثمان" فهدمه، فصار موضعه تلا عظيما.
وقد ورد اسم "صنعاء" لأول مرة على ما نعلم في نص يعود عهده إلى أيام الملك "الشرح يحضب" "ملك سبأ وذي ريدان"، ودعيت فيه ب "صنعو".
وذكر الأخباريون أنها كانت تعرف ب "أزال" وب "أوال". أخذوا ذلك على ما يظهر من "أزال" في التوراة بواسطة أهل الكتاب مثل "كعب الأحبار" ووهب بن منبه. وذكروا أن قصرغمدان الذي هو بها قصر "سام بن نوح"، أو قصر "الشرح يحضب" "ليشرح يحضب". وذكروا أيضا أنها أول مدينة اختطت باليمن بنتها "عاد". ورووا قصصا عن "غمدان"، فزعم بعض أن بانيه "سليمان" أمر الشياطين، فبنوا لبلقيس ثلاثة قصور: غمدان وسلحين وبينون. وزعم بعضهم أن بانيه هو: "ليشرح يحضب" أراد اتخاذ قصر بين صنعاء و "طيوة"، فانتخب موضع "غمدان". وقد وصف "الهمداني" ما تبقى منه في أيامه، وأشار إلى ما كان يرويه أهل الأخبار عنه.
نجران

(1/1828)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما "نجران"، فقد كانت مستقلة بشؤونها، يديرها ساداتها وأشرافها، ولها نظام سياسي واداري خاص تخضع له، ولم يكن للفرس عليها سلطان. وكان أهلها من "بني الحارث بن كعب"، وهم من "مذحج" و "كهلان"، وكانوا نصارى. ومن اشرافهم "بنو عبد المدان بن الديان"، أصحاب كعبة نجران وكان في فيها أساقفة معتمون، وهم الذين جاؤوا إلى النبي ودعاهم إلى المباهلة، مع وفد مؤلف من ستين أو سبعين رجلا راكبا، فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم، منهم ثلاثة نفر اليهم يؤول أمرهم. العاقب أمير القوم وذو رأيهم وصاحب مشورتهم والذي لا يصدرون إلا عن رأيه، واسمه عبد المسيح، والسيد ثمالهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم واسمه الأيهم "وهب"، وأبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر بن وائل، اسقفهم وحبرهم وإمامهم صاحب مداراسهم.
ويذكر الأخباريون، إن أبا حارثة كان قد شرف في أهل نجران ودرس الكتب حتى حسن علمه فى دينهم، وصار مرجعهم الأكبر فيه. وكانت له حظوة عند ملك الروم، حتى أنه كان يرسل له الأموال والفعلة ليبنوا له الكنائس، لما كانت له من منزلة في الدين وفي الدنيا عند قومه. وكان له أخ أسمه "كوز بن علقمة". وقد أسلما مع من أسلم من الناس بعد السنة العاشرة من الهجرة.
ويظهر من الخبر المتقدم أن ملوك الروم كانوا على اتصال بنصارى اليمن، وانهم كانوا يساعدون أساقفتهم ويمولونهم، ويرسلون اليهم العطايا والهبات. وقد أمدوهم بالبنائين والفعلة وبالمواد اللازمة لبناء الكنائس في نجران وفي غيرها من مواضع اليمن. وقد كان من مصلحة الروم مساعدة النصرانية في اليمن وانتشارها، لأن في ذلك كسبا عظيما لهم. في انتشارها يستطيعون تحقيق ما عجز عنه "أوليوس غالوس" حينما كلفه انبراطور روما اقتحام العربية السعيدة والاستيلاء عليها.

(1/1829)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر أهل الأخبار أيضا، أن رؤساء نجران كانوا يتوارثون كتبا عندهم، كلما مات رئيس منهم فأضيفت الرئاسة إلى غيره، انتقلت الكتب إليه. وقد عرفت تلك الكتب ب "الوضائع". وكانوا يختمونها، فكلما تولى رئيس جديد ختم على تلك الكتب فزادت الخواتم السابقة ختما. وذكر علماء اللغة إن الوضائع هي كتب يكتب فيها الحكمة. وفي الحديث: أنه نبي وان أسمه وصورته في الوضائع.
ونجران أرض في نجد اليمن خصبة غنية، وفيها مدينة نجران من المدن اليمانية القديمة المعروفة قبل الميلاد. وقد ذكرها "سترابون" في جغرافيته، وسماها Negrana=Negrani في معرض كلامه على حملة "أوليوس غالوس" على العربية، كما ذكرها المؤرخ "بلينبوس" في جملة المدن التي أصابتها يد التخريب في هذه الحملة. كما ذكرها "بطلميوس"، فسماها Nagera Mytropolis=Negra Metropolis.
وفي ذكر "بطلميوس" لها على أنها "مدينة" دلالة على أنها كانت معروفة أيضا بعد الميلاد. وأن صيتها يلغ مسامع اليونان.
ويعد النص الموسوم ب Glaser 418,419، من أقدم النصوص التي ورد فيها اسم مدينة نجران. إذ يرتفع زمنه إلى أيام "المكربين". وقد ذكر كما سبق في أثناء كلامي على دور المكربين، في مناسبة تسجيل أعمال ذلك "المكرب" وتأريخ حروبه وما قام به من فتوح. وورد ذكرها في النص: "Glaser 1000"، الذي يرتقي زمنه الى أيام المكرب والملك "كرب ايل وتر" آخر "مكربي" سبأ، وأول من تلقب بلقب "ملك سبأ". فورود اسم "نجران، في النصين المذكورين يدل على أنها كانت من المدن القديمة العامرة قبل الميلاد، وأنها كانت من المواضع النابهة في أول أيام سبأ.

(1/1830)


--------------------------------------------------------------------------------

وورد اسمها في نصوص أخرى. كما ذكرت في جملة المواضع التي دخلها رجال حملة "أوليوس غالوس" على اليمن. وذكرها نص "النمارة" الذي يرتقي زمنه إلى سنة "328" بعد الميلاد. وقد كانت في أيدي الملك "شمر يهرعش" إذ ذاك على رأي أكثر الباحثين. اذ كان قد وسع رقعة حكومة "سبأ وذي ريسان وحضرموت" وأضاف اليها ارضين جديدة منها أرض "نجران"، وأشار الى تدمير ذلك الملك ل "نبطو"، أي النبط.
وقد ذهب "ريتر" إلى أن Negra Mytropolis هو الموضع المسمى ب "القابل" على الضفة الغربية لوادي نجران. أما "هاليفي"، فذهب إلى أنها الخرائب المسماة "الأخدود". وذهب "كلاسر" الى أنها الأخدود أو "رجلة"، أو موضع آخر في "وادي الدواسر".
وقد ذكر "الهمداني" إن موضع "هجر نجران" أي مدينة نجران، هو الأخدود. ومدح خصب أرض نجران، ولم يكن "نجران" اسم مدينة في الأصل كما يتبين من النص CIH 363، بل كان اسم أرض بدليل ورود اسماء مواضع ذكر انها في "نجرن" نجران. ويرى بعض الباحثين أن مدينة "رجمت" كانت من المدن الكبرى في هذه الأرض، ثم تخصص اسم نجران فصار علما على المدينة التي عرفت بنجران.
وذهب بعض الباحثين إلى أن "رجمت" "رجمة" هي "رعمة" المذكورة في التوراة. وقد تحدثت فيما سلف عن "رعمة" وعن اتجار أهلها وتجار "شبا" Sheba مع "صور" Tyrus.

(1/1831)


--------------------------------------------------------------------------------

ويذكر الأخباريون أن قوما من "جرهم" نزلوا بنجران، ثم غلبهم عليها بنو حمير، وصاروا ولاة للتبابعة، وكان كل من ملك منهم يلقب "الأفعى". ومنهم "أفعى نجران" واسمه "القلمس بن عمرو بن همدان بن مالك بن منتاب ابن زيد بن وائل بن حمير"، وكان كاهنا. وهو الذي حكم على حد قولهم بين أولاد نزار. وكان واليا على نجران لبلقيس، فبعثته إلى سليمان، وآمن، وبث دين اليهودية في قومه، وطال عمره، وزعموا انه ملك البحرين والمشلل. ثم استولى "بنو مذحج" على نجران. ثم "بنو الحارث بن كعب"، وانتهت رياسة بني الحارث فيها إلى بني الديان، ثم صارت إلى بني عبد المدان، وكان منهم "يزيد". على عهد الرسول.
ويرى بعض أهل الأخبار أن "السيد" والعاقب أسقفي نجران اللذين أرادا مباهلة رسول الله هما من ولد الأفعى بن الحصين بن غنم بن رهم بن الحارث الجرهمي، الذي حكم بين بني نزار بن معد في ميراثهم، وكان منزله بنجران. وقد سميت "نجران" بنجران بن زيد بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان على رأي بعض أهل الأخبار. وقد اشتهرت بالأدم.
وقد أرسل الرسول خالد بن الوليد إلى "بني الحارث بن كعب" بنجران، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم، فإن استجابوا إليه قبل منهم، وإن لم يفعلوا قاتلهم. فلما دعاهم إلى الإسلام أجابوه، ورجع خالد مع وفد منهم إلى رسول الله، فأعلنوا إسلامهم أمامه، ثم رجعوا وقد عين الرسول "عمرو ابن حزم" عاملا على نجران. فبقي بنجران حتى توفى رسول الله.

(1/1832)


--------------------------------------------------------------------------------

ولما عاد خالد بن الوليد من نجران إلى المدينة، أقبل معه وفد "بلحارث بن كعب"، فيهم قيس ين الحصين بن يزيد بن قنان ذي الغصة، ويزيد بن عبد المدان، ويزيد بن المحجل،وعبد الله بن قريظ الزيادي، وشداد بن عبد الله القناني، وعمرو بن عبد الله الضبابي. فلما رآهم الرسول، قال: من هؤلاء القوم الذين كأنهم رجال الهند ? ثم كلمهم، وأمر "قيس بن الحصين" عليهم، ورجعوا، وكان ذلك قبل وفاة الرسول بأربعة أشهر.
وقد اشتهرت نجران بثيابها، ولما توفى الرسول، كفن في ثلاثة أثواب نجرانية.
وقد زار "فلبي" وادي نجران، وعثر على خرائب قديمة، يرجع عهدها إلى ما قبل الإسلام، كما تعرف على موضع "كعبة نجران". ووجد صورا قديمة محفورة في الصخر على مقربة من "أم خرق"، وكتابات مدونة بالمسند. وعلى موضع يعرف ب "قصر ابن ثامر"، وضريح ينسب إلى ذلك القديس الشهيد الذي يرد اسمه في قصص الأخباريين عن شهداء نجران. ويرى "فلبي" أن مدينة "رجمت" "رجمة" هي "الأخدود"، وأن الخرائب الي لا تزال تشاهد فيها اليوم تعود إلى أيام المعينيين. ويقع "قصر الأخدود" الأثري بين "القابل" و "رجلة"، وهو من المواضع الغنية بالاثار. وقد تبسط "فلبي" في وصف موضع الأخدود، ووضع مخططا بالمواضع الأثرية التي رآها في ذلك المكان.
ويتضح من مخطط "فلبي" لمدينة "نجران" أنها كانت مدينة كبيرة مفتوحة، وعندها أبنية محصنة على هيأة مدينة مربعة الشكل، وذلك للدفاع عنها، وبها مساكن وملاجىء للاحتماء بها ولتمكين المدافعين من صد هجمات المهاجمين لها.
أثر الحبش في أهل اليمن

(1/1833)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا بد أن يكون فتح الحبش لليمن قد ترك أثرأ في لهجات أهلها، ولا سيما بين النصارى منهم، ممن دخلوا في النصرانية بتأثير الحبش من ساسة واداريين ومبشرين، فاستعملوا المصطلحات الدينية الني كان يستعملها الأحباش لعدم وجود ما يقابلها عندهم في لهجاتهم لوثنيتهم، ولكني مع ذلك لا أستطيع أن أقول إن تلك المصطلحات كانت كلها حبشية الأصل والأرومة ؛ لأن الكثير منها لم يكن حبشيا في المنشأ والوطن، وانما كان دخيلا مستوردا، جاءت به النصرانية من لغة بنى إرم، أو من اللغات الأخرى المتنصرة، فأدخلتها إلى الحبشة، فأستعملها الأحباش وحرفوا بعضها على وفق لسانهم، ومنهم انتقلت بالفتوح وبالاتصال الى اليمن.
وقد عرض علماء اللغة المسلمون والمستشرقون لعدد من الألفاظ العربية، ذكروا انها من أصل حبشي، وهي من الإلفاظ التي كانت مستعملة معروفة قبل الإسلام، وقد ورد بعضها في القرآن الكريم وفي الشعر المنسوب إلى الجاهليين. ومثل هذه الألفاظ تستحق أن تكون موضع درس وتحيص لمعرفه صحة أصلها ونسبها ودرجة أرومتها في الحبشية، لمعرفة أثر الأحباش في العرب وأثر العرب في الأحباش، لأن بعض ما نسب إلى الأحباش من كلم هو من أصل عربي جنوبي، هاجر من اليمن بطرق متعددة إلى افريقية، واستعمل هناك، ظن انه حبشي الأصل، وان العرب أخذوه من الأحباش.
وقد اثر فتح الحبش لليمن على سحن الناس أيضا. فظهر السواد على ألوانهم عند غلبة الحبشة على بلادهم. وقد تأثروا بأخلاق الحبش كذلك.
الفصل الثاني والأربعون
مكة المكرمة

(1/1834)


--------------------------------------------------------------------------------

ومكة بلد في واد غير ذي زرع، تشرف عليها جبال جرد، فتزيد في قسوة مناخها. ليس بها ماء، غير ماء زمزم، وهي بئر محفورة، وآبار أخرى مجة حفرها أصحاب البيوت، أما مياه جارية وعيون غزيرة، على ما نرى في أماكن أخرى، فليس لها وجود بهذا المعنى هناك. وكل ما كان يحدث نزول سيول، قد تكون ثقيلة قوية، تهبط عليها من شعاب الهضاب والجبال، فتنزل بها أضرارا فادحة وخسائر كبيرة، وقد تصل إلى الحرم فمؤثر فيه، وقد تسقط البيوت، فتكون السيول نقمة، لا رحمة تسعف وتغيث أهل البيت الحرام.
لذلك لم تصلح أرض مكة لأن تكون أرضا ذات نخيل وزرع وحب، فاضطر سكانها إلى استيراد ما يحتاجون إليه من الأطراف والخارج، وأن يكتفوا في حياتهم بالتعيش مما يكسبونه من الحجاج، وأن يضيفوا إلى ذلك تجارة تسعفهم وتغنيهم، وتضمن لهم معاشهم، وأمانا وسلما يحفظ لهم حياتهم، فلا يطمع فيهم طامع، ولا ينغص عيشهم منغص. "وإذ قال ابراهيم: رب اجل هذا بلدا آمنا، وارزق أهله من الثمرات...".
ويعود الفضل في بقاء مكة وبقاء أهلها بها إلى موقعها الجغرافي، فهي عقدة تتجمع بها القوافل التي ترد من العربية الجنوبية تريد بلاد الشام، أو القادمة من بلاد الشام تريد العربية الجنوبية، والتي كان لا بد من أن تستريح في هذا المكان، لينفض رجالها عن أنفسهم غبار السفر، وليتزودوا ما فيه من رزق. ثم ما لبث أهلها أن اقتبسوا من رجال القوافل سر السفر وفائدته، فسافروا أنفسهم على هيأة قوافل، تتولى نقل التجارة لأهلا مكة وللتجار الآخرين من أهل اليمن ومن أهل بلاد الشام. فلما كان القرن السادس للميلاد، احتكر تجار مكة التجارة في العربية الغربية، وسيطروا على حركة النقل في الطرق المهمة التي تربط اليمن ببلاد الشام وبالعراق.

(1/1835)


--------------------------------------------------------------------------------

وللبيت فضل كبير على أهل مكة، وبفضله يقصدها الناس من كل أنحاء العالم حتى اليوم للحج إليه. وقد عرف البيت ب "الكعبة" لأنه مكعب على خلقة الكعب. ويقال له: "البيت العتيق" و "قادس" و "بادر"، وعرفت الكعبة ب "القرية القديمة" كذلك.
وبمكة جبل يطل عليها، يقال له جبل: "أبو قبيس"، ذكر بعض أهل الأخبار انه سمي "أبا قبيس" برجل حداد لأنه أول من بنى فيه. وكان يسمى "الأمين" لأن الركن كان مستودعا فيه. وأمامه جبل آخر؛ وبين الجبلين واد، فيه نمت مكة ونبتت. فصارت محصورة بين سلسلتين من مرتفعات.
وقد سكن الناس جبل "أبي قبيس" قبل سكنهم بطحاء مكة، وذلك لأنه موضع مرتفع ولا خطر على من يسكنه من اغراق السيول له. وقد سكنته "بنو جرهم"، ويذكر أهل الأخبار انه إنما سمي "قبيسا" ب "قبيس بن شالخ" رجل من جرهم. كان في أيام "عمرو بن مضاض".
ويظهر انه كان من المواضع المقدسة عند الجاهليين، فقد كان نساك مكة وزهادها ومن يتحنف ويتحنث ويترهب من أهلها في الجاهلية يصعده ويعتكف فيه. ولعله كان مقام الطبقة المترفة الغنية من أهل مكة قبل نزوح "قريش" إلى الوادي، وسكنها المسجد الحرام المحيط بالبيت.
ويظهر من سكوت أهل الأخبار عن الإشارة إلى وجود أطم أو حصون في مكة للدفاع عنها، إن هذه المدينة الآمنة لم تكن ذات حصون وبروج ولا سور يقيها من احتمال غزو الأعراب أو أي عدو لها. ويظهر إن ذلك إنما كان بسبب إن مكة لم تكن قبل أيام "قصي" في هذا الوادي الذي يتمركزه "البيت"، بل كانت على المرتفعات المشرفة عليه.

(1/1836)


--------------------------------------------------------------------------------

اما الوادي، فكان حرما آمنا يغطيه الشجر الذي انبتته السيول ورعته الطبيعة بعنايتها، ولم يكن ذا سور ولا سكن ثابت متصل بالأرض ؛ بل كان سكن من يأوي إليه بيوت الخيام. واما أهل المرتفعات فكانوا، إذا داهمهم عدو أو جاءهم غزو، اعتصموا برؤوس المرتفعات المشرفة على الدروب، وقاوموا العدو والغزو منها، وبذلك يصير من الصعب على من يطمع فيهم الوصول اليهم، ويضطر عندئذ إلى ا التراجع عنهم، فحمتهم الطبيعة بنفسها ورعتهم بهذه الرؤوس الجبلية التي أقامتها على مشارف الأودية والطرق. فلما أسكن "قصي" أهل الوادي في بيوت ثابتة مبنية، وجاء ببعض من كان يسكن الظواهر لنزول الوادي، بقي من فضل السكن في ظواهر مكة، أي على المرتفعات. يقوم بمهمة حماية نفسه وحماية أهل البطحاء من تلك المرتفعات، وهم الذين عرفوا بقريش الظواهر. فلم تعد لأهل مكة سكان الوادي ثمة حاجة إلى اتخاذ الأطم والحصون، وبناء سور يحمي المدينة من الغزو، لا سيما والمدينة نفسها حرم آمن وفي حماية البيت ورعايته. وقد أكد "قصي" على أهلها لزوم إقراء الضيف ورعاية الغريب والابتعاد عن القتال وحل المشكلات حلا بالتي هي أحسن. كما نظم أمور الحج، وجعل الحجاج يقدون إلى مكة، للحج وللاتجار. ثم أكد من جاء بعده من سادة قريش هذه السياسة التي افادت البلد الآمن، وأمنت له رزقه رغدا.
ولم يرد اسم "مكة" في نص الملك "نبونيد" ملك بابل، ذلك النص الذي سرد الملك فيه أسماء المواضع التي خضعت لجيوشه، ووصل هو إليها في الحجاز فكانت "يثرب" آخر مكان وصل إليه حكمه في العربية الغربية على ما يبدو من النص.

(1/1837)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم نتمكن من الحصول على اسم "مكة" من الكتابات الجاهلية حتى الان. اما الموارد التأريخية المكتوبة باللغات الأعجمية، فقد جاء في كتاب منها اسم مدينة دعيت ب "مكربة" "مكربا" "Macoraba"، واسم هذا الكتاب هو "جغرافيا" "جغرافية" "للعالم اليوناني المعروف "بطلميوس" "Ptolemy" الذي عاش في القرن الثاني بعد الميلاد. وقد ذهب الباحثون إلى إن المدينة المذكورة هي "مكة". وإذا كان هذا الرأي صحيحا يكون "بطلميوس" أول من أشار إليها من المؤلفين وأقدمهم بالنظر إلى يومنا هذا. ولا أستبعد مجيء يوم قد لا يكون بعيدا، ربما يعثر فيه المنقبون على اسم المدينة مطمورا تحت سطح الأرض، كما عثروا على أسماء مدن أخرى وأسماء قرى وقبائل وشعوب.
ولفظة "مكربة" "Macoraba"، لفظة عربية أصابها بعض التحريف ليناسب النطق اليوناني، أصلها "مكربة" أي "مقربة" من التقريب. وقد رأينا في أثناء كلامنا على حكومة "سبأ" القديمة، إن حكامها كانوا كهانا، أي رجال دين، حكموا الناس باسم آلهتهم. وقد كان الواحد منهم يلقب نفسه بلقب "مكرب" أي "مقرب" في لهجتنا. فهو أقرب الناس إلى الالهة، وهو مقرب الناس إلى آلهتهم، وهو مقدس لنطقه باسم الآلهة، وفي هذا المعنى جاء لفظة "مكربة"، لأنها "مقربة" من الآلهة، وهي تقرب الناس اليهم، وهي أيضا مقدسة و "حرام"، فاللفظة ليست علماء لمكة، وإنما هي نعت لها، كما في "بيت المقدس" و "القدس" إذ هما نعت لها في الأصل. ثم صار النعت عالما للمدينة.

(1/1838)


--------------------------------------------------------------------------------

أما ما ذهب إليه بعض الباحثين من إن المعبد الشهير الذي ذكره "ديودروس الصقلي" "Diodorus Siculus" في أرض قبيلة عربية دعاها "Bizomeni"، وقال إنه مكان مقدس له حرمة وشهرة بين جميع العرب، هو مكة - فهو رأي لا يستند إلى دليل مقبول معقول. فالموضع الذي يقع المعبد فبه، هو موضع بعيد عن مكة بعدا كبرا، وهو يقع في "حسمى" في المكان المسى "روافة" "غوافة" على رأي "موسل". وقد كانت في هذه المنطقة وفي المحلات المجاورة لها معابد أخرى كثيرة أشار إليها الكتبة اليونان والرومان، ولا تزال آثارها باقية، وقد وصفها السياح الذين زاروا هذه الأمكنة.
وإذا صح رأينا في إن موضع "Macoraba" هو مكة، دل على إنها كانت قد اشتهرت بين العرب في القرن الثاني بعد الميلاد، وانها كانت مدينة مقدسة يقصدها الناس من مواضع بعيدة من حضر ومن بادين. وبفضل هذه القدسية والمكانة بلغ اسمها مسامع هذا العالم الجغرافي اليوناني البعيد. ودل أيضا على إنها كانت موجودة ومعروفة قبل أيام "بطليموس" إذ لا يعقل إن يلمع اسمها وتنال هذه الشهرة بصورة مفاجئة بلغت مسامع ذلك العالم الساكن في موضع بعيد ما لم يكن لها عهد سابق هذا العهد.
وقد عرفنا من الكتابات الثمودية أسماء رجال عرفوا ب "مكي". ولم تشر تلك الكتابات إلى سبب تسمية اولئك الرجال ب "مكي". فلا ندرى اليوم إذا كان اولئك الرجال من "مكة" أو من موضع آخر، أو من عشيرة عرفت ب "مكت" "مكة". لذلك لا نستطيع إن نقول إن هذه التسمية. صلة بمكة.

(1/1839)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم يشر الأخباريون ولا من كتب في تأريخ مكة إلى هذا الامم الذي ذكره "بطلميوس"، ولا إلى ام آخر قريب منهه، وإنما أشار إلى اسم آخر هو "بكة". وقد ذكر هذا الاسم في القرآن. قالوا إنه الهمم مكة، أبدلت فيه الميم باء، وقال بعض الأخباريين: إنه بطن مكة، وتشدد بعضهم وتزمت، فقال: بكة موضع البيت، ومكة ما وراءه، وقال آخرون: لا. والصحيح البيت مكة وما والاه بكة، واحتاجوا إلى ايجاد اجوبة في معنى اسم مكة وبكة، فأوجدوا للاسمين معاني وتفاسير عديدة تجدها في كتب اللغة والبلدان وأخبار مكة.
وذكر أهل الأخبار إن مكة عرفت بأسماء اخرى، منها: صلاح، لأمنها، ورووا في ذلك شعرا لأبي سفيان بن حرب بن أمية، ومنها أم رحم، والباسة، والناسة. والحاطمة. و "كوثى". وذكرت في القرآن الكريم ب "أم القرى".
ولعلماء اللغة بعد، تفاسير عديدة لمعنى "مكة"، يظهر من غربلتها إنها من هذا النوع المألوف الوارد عنهم في تفسير الأسماء القديمة التي ليس لهم علم بها، فلجئوا من ثم إلى هذا التفسير والتأويل. ولا استبعد وجود صلة بين لفظة مكة ولفظة "مكربة" التي عرفنا معناها. ولا استبعد إن يكون سكان مكة القدامى هم من أصل يماني في القديم، فقد أسس أهل اليمن مستوطنات على الطريق الممتد من اليمن إلى أعالي الحجاز، حيث حكموا أعالي الحجاز وذلك قبل الميلاد. وقد سبق إن تحدثت عن ذلك في الجزء الثاني من هذا الكتاب، فلا يستبعد إن تكون مكة احداها. ثم انضم اليهم العرب العدنانيون، ولأهل الأخبار روايات تؤيد هذا الرأي.

(1/1840)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذهب "دوزي" إلى إن تأريخ مكة يرتقي إلى أيام "داوود" ففي أيامه-على رأيه أنشأ "الشمعونيون" "السمعونيون"، الكعبة وهم "بنو جرهم" عند أهل الأخبار. وهو يخالف بذلك رأي "كيبن" "GIBBON"، ورأي جماعة من المستشرقين رأت إن مكة لم تعرف ولم تشتهر إلا في القرن الأول قبل الميلاد، مستدلة على ذلك بما ورد في تأريخ "ديودورس الصقلي" من وجود معبد، ذكر عنه انه كان محجة لجميع العرب، وان الناس كانوا يحجون إليه من أماكن مختلفة. ولم يذكر "ديودورس" اسم المعبد، ولكن هذه الجماعة من المستشرقين رأت إن هذا الوصف ينطبق على الكعبة كل الانطباق، وان "ديودورس" قصدها بالذات.
وقد ذكر بعض أهل الأخبار-إن "العماليق" كانوا قد انتشروا في البلاد، فسكنوا مكة والمدينة وام الحجاز، وعتوا عتو ا كبيرا. فبعث اليهم موسى جندا فقتلوهم بالحجاز. وجاء اليهود فاستوطنوا الحجاز بعد العماليق. ويظفر انهم أخذوا أخبارهم هذه من اليهود، ففي التوراة إن العماليق "العمالقة"، هم أول الشعوب التي حاربت العبرانيين، لما هموا بدخول فلسطين، وقد حاربهم موسى، فوسع يهود الحجاز هذه القصة ونقلوا حرب موسى مع العمالقة إلى الحجاز ليرجعوا زمان استيطانهم في الحجاز إلى ذلك العهد.
ثم جاءت "جرهم" فنزلت على قطورا، وكان على "قطورا" يومئذ "السميدع بن هوثر"، ثم لحق بجرهم بقية من قومهم باليمن وعليهم "مضاض ابن عمر بن الرقيب بن هاني بن بنت برهم" فنزلوا ب "قعيقعان". وكانت قطورا بأسفل مكة، وكان "مضاض" يعشر من دخل مكة من أعلاها، و "السميدع" من أسفلها. ثم حدث تنافس بين الزعيمين فاقتتلا، فتغلب "المضاض" وغلب "السميدع".
وجرهم قوم من اليمن، فهم قحطانيون إذن، جدهم هو ابن "يقطن بن عاير بن شالخ": وهم بنو عم "يعرب". كانوا باليمن وتكلموا بالعربية، ثم غادروها فجاؤوء مكة.

(1/1841)

admin
12-27-2010, 02:03 AM
والعمالقة من الشعوب المذكورة في "التوراة"، وقد عدهم "بلعام" "أول الشعوب". وقد كانوا يقيمون بين كنعان ومصر وفي "طور سيناء"، أيام الخروج، وبقوا في أماكنهم هذه إلى أيام "شاؤول" "saul". وقد تحدثت عنهم في الجزء الأول من هذا الكتاب.
وجرهم تزوج "إسماعيل ه بن ابراهيم" على رواية الأخباريين، وبلغتهم تكلم. وكانت "هاجر" قد جاءت، به إلى "مكة". فلما شب وكبر، تعلم لغة جرهم، وتكلم بها. وهم من "اليمن" في الأصل. وكانت لغتهم هي اللغة العربية. تزوج امرأة أولى قالوا إن اسمها "حرا" وهي بنت "سعد بن عوف بن هنىء بن نبت بن جرهم"، ثم طلقها بناء على وصية أبيه ابراهيم له، فتزوج امرأة أخرى هي السيدة بنت "الحارث بن مضاض بن عمرو بن جرهم". وعاش نسله في جرهم، والأمر على البيت لجرهم إلى إن تغلبت عليهم "بنو حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر"، وهم خزاعة في رأي بعض أهل الأخبار.
وطبقت خزاعة على جرهم قانون الغالب، فانتزعت منها المالك، وزحزحتها عن مكة، وأقامت عمرو بن لحي-وهو منها-ملكا عليها، وكان دخول خزاعة مكة على أثر خروجها من اليمن، بسبب تنبؤ الكاهن بقرب انفجار السد، في قصة يذكرها الأخباريون. وظلت خزاعة صاحبة مكة، إلى إن كانت أيام عمرو بن الحارث وهو "أبو غبشان" "غبشان"، فانتزع قصي منه الملك، وأخذه من خزاعة لقريش.

(1/1842)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان "عمرو بن لحي" أول من نصب الأوثان وأدخل عبادة الأصنام إلى العرب، وغير دين التوحيد على زعم أهل الأخبار. ويظهر مما يرويه الأخباريون عنه انه كان كاهنا، حكم قومه ووضع لهم سنن دينهم على طريقة حكم الكهان، واستبد بأمر "مكة" وثبت ملك خزاعة بها. فهو مثل "قصي" الذي جاء بعده، فأقام ملك "قريش" في هذه المدينة. ويظهر من بقاء خبره في ذاكرة أهل الأخبار إن أيامه لم تكن بعيدة عن الإسلام، وان حكمه لمكة لم يكن بعيد عهد عن حكم "قصي"، وان إليه يعود فضل تنحية "جرهم" عن مكة، وانتزاع الحكم منهم ونقله إلى قومه من "خزاعة"، وذلك بمساعدة "بني اسماعيل" أسلاف "قريش" من "بني كنانة".
وهو أول رجل يصل الينا خبره من الرجال الذين كان لهم أثر في تكوين مكة وفي انشاء معبدها وتوسيع عبادته بين القبائل المجاورة لمكة. حتى صير لهذه المدينة شأن عند القبائل المجاورة. وذلك باتيانه بأصنام نحتت نحتا جيدا بايد فنية قديرة، على رأسها الصنم "هبل" ووضعها في البيت، فجلب بذلك أنظار أهل مكة وأنظار القبائل المجاورة نحوها، فصارت تقبل عليها، وبذلك كون للبيت شهرة بين الأعراب، فصاروا يقدمون عليه للتقرب إلى "هبل" والى بقية الأصنام التي جاء بها من الخارج فضعها حوله وفي جوفه.
ومن بطون خزاعة: "بنو سلول" و "بنو حبشية بن كعب"، و" بنو حليل" و "بنو ضاطر". وكان "حليل بن كعب" سادن الكعبة، فزوج ابنته "حبى" بقصي. و "بنو قمير" ومن " بني قمير" "الحجاج بن عامر بن أقوم" شريف، و "حلحة بن عمرو بن كليب": شريف ، و"قيس بن عمرو بن منقذ" الذي يقال له "ابن الحدادية" شاعر. جاهلي. و "المتحرش"، و وهو "أبو غبشان" الذي يزعمون انه باع البت من "قصي". ومن خزاعة "بديل بن ورقاء بن عبد العزى"، شريف، كتب إليه النبي يدعوا إلى الإسلام، وكان له قدر في الجاهلية بمكة.

(1/1843)


--------------------------------------------------------------------------------

" وكنانة" التي استعان بها "عمرو بن لحي" في تثبيت حكمه بمكة، هي من القبائل العدنانية في عرف أهل النساب، ومن مجموعة "مضر". ولما استبد "عمروا بن لحي" ومن جاء بعده بأمر مكة، وأخذوا بأيديهم أمر مكة، تركوا إلى "كنانة" أمورا تحص مناسك الحج وشعائره، وهي الإجازة بالناس يوم "عرفة" والإضافة والنسي. وهي أمور سأتحدث عنها في اثناء كلامي عن الحج.
ويذدر أهل الأخبار أن "الإسكندر" الأكبر دخل مكة، وذلك أنه بعد أن خرج من السودان قطع البحر فانتهى إلى السواحل "عدن"، فحرج إليه "تبع الأقرن" ملك اليمن، فأذعن له بالطاعة، وأقر بالإتاوة، وأدخله مدينة "صنعاء"، فأنزل له، وألطف له من الطاف اليمن، فأقام شهرا، ثم سار إلى "تهامة"، وسكان مكة يومئذ خزاعة، قد غلبوا عليها، فدخل عليه "النضر بن كنانة"، فعجب الإسكندر به وساعده، فأخرج "خزاعة" عن مكة، وأخلصها للنضر، ولبني أبيه، وحج الإسكندر، وفرق في ولد معد بن عدنان صلات وجوائز، ثم قطع البحر يؤم الغرب.
وإذا كان أهل الأخبار قد أدخلوا "الإسكندر" مكة، وصيروه رجلا مؤمنا، حاجا من حجاج البيت الحرام، فلا غرابة أذن إن جعلوا أسلاف الفرس فيمن قصد البيت وطاف به وعظمه وأهدى له. بعد أن صيروا "إبراهيم" جدا من أجدادهم وربطوا نسب الفرس بالعرب العدنانيين. فقالوا: وكان آخر من حج منهم "ساسان بن بابك"، وهو جد "أردشير". فكان ساسان إذا أتى البيت طاف به وزمزم على بئر إسماعيل، فقيل إنما سميت زمزم لزمزمته عليها، هو وغيره من فارس. واستدلوا على ذلك بشعر، قالوا عنه: إنه من الشعر القديم. وبه افتخر بعض شعراء الفرس بعد ظهور الإسلام، وقالوا: وقد كان "ساسان بن بابك" هذا، أهدى غزالين من ذهب وجوهرا وسيوفا وذهبا كثيرا، فقذفه، فدفن في زمزم. وقد أنكروا أن يكون بنو جرهم قد دفنوا ذلك المال في بئر زمزم، لأن جرهم لم تكن ذات مال فيضاف ذلك إليها.

(1/1844)


--------------------------------------------------------------------------------

ويزعم الأخباريون أن "حسان بن عبد كلال بن مثوب ذي حرث الحميري"، "أقبل من اليمن مع حمير وقبائل من اليمن عظيمة، يريد أن ينقل أحجار الكعبة من مكة إلى اليمن، ليجعل حج الناس عنده ببلاده، قأقبل حتى نزل بنخلة فأغار على سرح الناس، ومنع الطريق، وهاب أن يدخل مكة. فلما رأت ذلك قريش وقبائل كنانة وأسد وجذام ومن كان معهم من أفناء مضر، خرجوا إليه، ورئيس الناس يومئذ فهر ين مالك، فاقتلوا قتالا شديدا، فهزمت حمير، وأسر حسان بن عبد كلال ملك حمير، أسره الحارث بن فهر، وقتل في المعركة-فيمن قتل من الناس-ابن ابنة قيس بن غالب بن فهر، وكان حسان عندهم بمكة أسرا ثلاث سنين، حتى افتدى منهم نفسه، فخرج به، فمات بين مكة واليمن".
ويشر هذا الحادث إن صح وقوعه وصدق ما رواه أهل الأخبار عنه، إلى طمع الملك "حسان" والى خطة وضعها للاستيلاء عليها. وهو شيء مألوف، فقد كانت قبائل اليمن تتجه دوما نحو الشمال، غير أن أهل مكة قاوموا الملك وتمكنوا من الصمود تجاهه، بل من التمكن من جيشه ومنا الحاق هزيمة به.
ويذكر أهل الأخبار حادثا آخر مشابها لهذا الحادث، بل يظهر أنه الحادث نفسه وقد صيغ في صيغة أخرى، خلاصته أن "الملوك الأربعة" الذين لعنهم النبي، ولعن أختهم "أبضعة"، ولم يذكروا أسماءهم، لما هموا بنقل "الحجر الأسود" إلى صنعاء لقطعوا حج العرب عن البيت الحرام إلى صنعاء، وتوجهوا لذلك إلى مكة، فاجتمعت "كنانة" إلى "فهر بن مالك بن النضر"، فلقيهم، فقاتلهم، فقتل ابن لفهر، يسمى الحارثة، وقتل من الملوك الأربعة ثلاثة، وأسر الرابع، فلم يزل مأسورا عند "فهر بن مالك" حتى مات.
وأما "أبضعة"، فهي التي يقال لها "العنققير"، ملكت بعد اخوتها على زعم أهل الأخبار.

(1/1845)


--------------------------------------------------------------------------------

ويشير الأخباريون إلى احترام التبابعة لمكة، فيذكرون مثلا أن التبع "أسعد أبو كرب" الحميري وضع الكسوة على البيت الحرام، وصنع له بابا، ومنذ ذلك الحين جرت العادة بكسوة البيت، ويذكرون غير ذلك من أخبار تشير إلى اهتمام التبابعة بمكة. أما نحن، فلم يصل إلى علمنا شيء من هذا الذي يرويه الأخباريون، مدونا بالمسند، كما أننا لا نعلم أن أصنام أهل اليمن كانت في مكة حتى يتعبد لها التبابعة.ولسنا الآن في وضع نتمكن فيه من إثبات هذا القصص الذي يرويه الأخباريون، والذي قد يكون أوجد، ليوحي أن ملوك اليمن كانوا يقدسون الكعبة، وأن الكعبة هي كعبة جميع العرب قبل الإسلام.
ولا نملك اليوم أثرا جاهليا استنبط منه علماء الآثار شيئا عن تأريخ مكة قبل الإسلام، ولذلك فكل ما ذكروه عنها هو من أخبار أهل الأخبار، وأخبارهم عنها متناقضة متضاربة، لعبت العواطف دورا بارزا في ظهورها. ولا يمكن لأحد أن يكتب في هذا اليوم شيئا موثوقا معقولا ومقبولا عن تأريخ هذه المدينة المقدسة، في أيام الجاهلية القديمة، لأنه لا يملك نصوصا أثرية تعينه في التحدث عن ماضيها القديم. وأملنا الوحيد هو في المستقبل، فلعل، المستقبل يكون خيرا من الحاضر والماضي، فيجود على الباحثين بآثار تمكنهم من تدوين تأريخ تلك المدينة، تدوينا علميا يفرح نفوس الملايين من الناس الذين يحجون إليها من مختلف أنحاء العالم، ولكنهم لا يعرفون عن تأريخها القديم، غير هذا المدون عنها في كتب أهل الأخبار.

(1/1846)


--------------------------------------------------------------------------------

وإذا كنا في جهل من أمر تأريخ مكة قبل أيام "قصي" وقبل تمركز قريش في مكة، فإن جهلنا هذا لا يجوز لنا القول بأن تأريخها لم يبدأ إلا بظهور قريش فيها وبتزعم قصي لها. وان ما يروى من تأريخها عن قبل هذه المدة هو قصص لا يعبأ به. لأن ما يورده أهل الأخبار من روايات تفيد عثور أهل مكة قبل أيام الرسول على قبور قديمة وعلى حلي وكنوز مطمورة وكتابات غريبة عليهم، يدل كل ذلك على إن المدينة كانت مأهولة قبل أيام قصي بزمن طويل، وان مكة كانت موجودة قبل هذا التأريخ. وان تأريخها لذلك لم يبدأ بابتداء ظهور أمر قصي ونزول قريش مكة في عهده.
وتأريخ مكة حتى في أيام قصي وما بعدها إلى ظهور الإسلام لا يخلو مع ذلك من غموض ومن لبس وتناقض. شأنه في ذلك شأن أي تأريخ اعتمد على الروايات الشفوية، واستمد مادته من أقوال الناس ومن ذكرياتهم عن الماضي البعيد. لذلك تجد الرواة يناقضون أنفسهم تناقضا بينا في أمر واحد، ما كان في الإمكان الاختلاف فيه لو كانوا قد أخذوه من منبع قديم مكتوب. وسنرى في مواضع من هذا الكتاب وفي الأجزاء التي قد تتلوه عن تأريخ العرب في الإسلام نماذج وأمثلة تشير إلى تباين روايات أهل الأخبار في أخبارهم عن مكة في تلك الأيام.
قريش
و "قصي" من "قريش". و "قريش" كلها من نسل رجل اسمه "فهر بن مالك بن النضرين كنانة بن خزيمة بن مدركة بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان". فهي من القبائل العدنانية. أي من مجموعة العرب المستعربة في اصطلاح علماء النسب. ومن "فهر" فما بعده عرف اسم "قريش" في رأي أهل الأخبار.
أما ما قبل "فهر" من آباء فلم يعرفوا بقريش. فقريش إذن هم "فهر" وأبناؤه، من سكان مكة أو من سكان ظواهرها، أي كل من انحدر من صلبه من أبناء. وما كان فوق "فهر" فليس يقال له "قرشي"، وإنما يقال له كناني.

(1/1847)


--------------------------------------------------------------------------------

ومعارفنا عن "قريش" لا بأس بها بالنسبة إلى معارفنا عن خزاعة وعن من تقدم عليها من قبائل ذكر أهل الأخبار أنها سكنت هذه المدينة. وتبدأ هذه المعرفة بها، ابتداء من "قصي" زعيم قريش ومجمعها، والذي أخذ أمر مكة فوضعه في يديه، ثم في أيدي أولاده من بعده، فصارت "قريش" بذلك صاحبة مكة.
وقد اشتهرت قريش بالتجارة، وبها عرفت وذاع صيتها بين القبائل. وتمكن رجالها بفضل ذكائهم وحذقهم بأسلوب العامل من الاتصال بالدول الكبرى في ذلك العهد: الفرس والروم والحبشة، وبحكومة الحيرة والغساسنة، وبسادات القباثل، ومن تكوين علاقات طيبة معها، مع تنافر هذه الدول وتباغضها. كما يمكنوا من عقد أحلاف مع سادات القبائل، ضمنت لهم السير طوال أيام السنة بهدوء وطمأنينة في كل أنحاء جزيرة العرب. والطمأنينة، أهم أمنية من أماني التاجر. وبذلك أمنوا على تجارتهم، ونشروا تجارتهم في كل أنحاء جزيرة العرب. حتى عرفوا ب "قريش التجار". جاء على لسان كاهنة من كهان اليمن قولها: "لله در الديار، لقريش التجار".
وليس لنا علم بتأريخ بدء اشتغال قريش بالتجارة واشتهارها بها. وروايات أهل الأخبار، متضاربة في ذلك، فبينما هي ترجع ظهور "قريش" بمكة إلى أيام قصي، ومعنى ذلك أن تجارة قريش إنما بدأت منذ ذلك الحين، نراها ترجع تجارتها إلى أيام النبي "هود"، وتزعم أنه لما كان زمن "عمرو ذي الأذعار الحميري"، كشفت الريح عن قبر هذا النبي، فوجدوا صخرة على قبره كتب عليها بالمسند: "لمن ملك ذمار? لحمير الأخيار. لمن ملك ذمار? للحبشة الأشرار. لمن ملك ذمار? لفارس الأحرار. لمن ملك ذمار? لقريش التجار". والرواية أسطورة موضوعة، ولكنها تشر إلى أن اشتغال قريش بالتجارة يرجع إلى عهد قديم، عجز أصحاب هذه الرواية عن أدراك وقته، فوضعوه في أيام هود.

(1/1848)


--------------------------------------------------------------------------------

ثم نرى روايات أخرى ترجع بدء اشتهار قريش التجارة إلى أيام "هاشم"، وهي تزعم إن تجارة قريش كانت منحصرة في مكة، يتاجر أهلها بعضهم مع بعض، فتقدم العجم عليهم بالسلع، فيشترونها منهم ثم يتبايعونها بينهم، ويبيعونها لمن حولهم من العرب، وكانوا كذلك حتى ركب "هاشم بن عبد مناف" فنزل بقيصر، وتعاقد معه على إن يسمح له ولتجار قريش بالاتجار مع بلاد الشام، فوافق كل ذلك، وأعطاه كتابا بذلك. فلما عاد، جعل كلما مر بحي من العرب بطريق الشام، اخذ من أشرافهم إيلاشا، اي عقد أمان، فضمن بذلك لقومه حرية الاتجار بأمن وسلام. واشتهرت قريش بالتجارة منذ ذلك العهد.
وقد علمت الأسفار سادة قريش أمورا كثيرة من أمور الحضارة والثقافة. فقد أرتهم بلادا غريبة ذات تقدم وحضارة، وجعلتهم يحتكون بعرب العراق وبعرب بلاد الشام، فتعلموا من "الحيرة" أصول كتابتهم، وهذبوا لسانهم، ودونوا به أمورهم. وذكر انهم كانوا من افصح العرب لسانا، وقد شهد العرب لهم بفصاحة اللسان، حتى إن الشعراء كانوا يعرضون عليهم شعرهم، وذكر إن الشاعر "علقمة الفحل" عرض عليهم شعره، فوصفوه ب "سمط الدهر".

(1/1849)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد علمت الطبيعة أهل مكة انهم لا يتمكنون من كسب المال ومن تأمين رزقهم في هذا الوادي الجاف، إلا إذا عاشوا هادئين مسالمين، يدفعون الإساءة بالحسنة، والشر بالصبر والحلم، والكلام السيء البذيء بالكلام الحسن المقنع المخجل. فتغلب حلمهم على جهل الجاهلية، وجاءت نجدتهم في نصرة الغريب والذب عن المظلوم والدفاع عن حق المستجير بهم، بأحسن النتائج لهم، فصار التاجر والبائع والمشتري يفد على سوق مكة، يبيع ويشتري بكل حرية، لأنه في بلد آمن، أخذ سادته على أنفسهم عهدا بالا يتعدى أحد منهم على غريب، لأن الإضرار به، يبعد الغرباء عنهم، وإذا ابتعد الغرباء عن مكة، خسروا جميعا موردا من موارد رزقهم: يعيش عليه كل واحد منهم بلا استثناء. لذلك كان الغريب إذا ظلم، نادى يا آل قريش، أو يا آل مكة أو يا آل فلان. ثم يذكر ظلامته، فيقوم سادة مكة أو من نودي باسمه بأخذ حقه من الظالم له.
وقد اصطلحت قريش على أن تأخذ ممن ينزل عليها في الجاهلية حقا. دعته: "حق قريش" وفي جملة ما كانوا يأخذونه من الغريب القادم اليهم عن هذا الحق بعض ثيابه أو بعض بدنته التي ينحر. ويأتي أهل الأخبار بمثل على ذلك، هو مثل: "ظويلم ويلقب مانع الحريم، وإنما سمتي بذلك لأنه خرج في الجاهلية يريد الحج، فنزل على المغيرة بن عبد الله المخزومي، فأراد المغيرة إن يأخذ منه ما كانت قريش تأخذ ممن نزل عليها في الجاهلية، وذلك سمي: الحريم. وكانوا يأخذون بعض ثيابه أو بعض بدنته التي ينحر، فامتنع عليه ظويلم". وظويلم منع عمرو بن صرمة الإتاوة التي كان يأخذها من غطفان.

(1/1850)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد جعلت طبيعة هذا الوادي أهل مكة يميلون إلى السلم، ولا يركنون إلى، الحرب والغزو إلا دفاعا عن نفس. وهو شيء منطقي محترم، فأهل مكة في واد ضيق بين جبلين متقابلين، وفي استطاعة الأعداء إنزال ضربات موجعة بهم من المرتفعات المسيطرة عليه، وبسد منفذيه، يحصر أهله فتنقطع عنهم كل وسائل المعيشة من ماء وطعام. لذلك لم يجدوا أمامهم من سيبل سوى التجمل بالحلم والصبر واتباع خطة الدفاع عن النفس، بالاعتماد على أنفسهم وعلى غيرهم من أحلافهم كالأحابيش حلفائهم وقريش الظواهر. وقد أدت هذه الخطة إلى اتهام قريش إنها لا تحسن القتال، وانها إن حاربت خسرت، وانها كانت تخسر في الحروب - فخسرت ثلاثة حروب من حروب الفجار الأربعة، إلى غير ذلك من تهم. ولكن ذلك لا يعني إن في طبع رجال قريش جبنا، وان من سجية قريش الخوف. وإنما هو حاصل طبيعة مكان، واملاء ضرورات الحياة، لتأمين الرزق. ولو إن أهل مكة عاشوا في موضع آخر، لما صاروا أقل شجاعة وأقل اقبالا في الاندفاع نحو الحرب والغزو من القبائل الأخرى.
وقد تمكنت مكة في نهاية القرن السادس وبفضل نشاط قريش المذكور من القيام بأعمال هامة، صيرتها من أهم المراكز المرموقة في العربية الغربية في التجارة وفي اقراض المال للمحتاج إليه. كما تمكنت من تنظيم أمورها الداخلية ومن تحسين شؤون المدينة، واتخاذ بيوت مناسبة لائقة لان تكون بيوت أغنياء زاروا العالم الخارجي ورأوا ما في بيوت أغنياثه من ترف وبذخ وخدم واسراف.

(1/1851)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذكو "الثعالبي" إن قريشا صاروا "أدهى العرب، وأعقل البرية، وأحسن الناس بيانا" لاختلاطهم بغيرهم ولاتصالهم بكثير من القبائل فأخذوا عن كل قوم شيئا، ثم انهم كانوا تجارا "والتجار هم أصحاب التربيح والتكسب والتدنيق والتدقيق"، وكانوا متشددين في دينهم حمسا، "فتركوا الغزو كراهة السبي واستحلال الأموال" إلى في ذلك من أمور جلبت لهم الشهرة والمكانة. وقد أشيد ايضا بصحة اجسامهم وبجمالهم حتى ضرب المثل بجمالهم فقبل: "جمل قريش".
وقصي رئيسى قريش، هو الذي ثبت الملك في عقبه، ونظم شؤون المدينة، وقسم الوظائف والواجبات على أولاده حين شعر بدنو أجله. فلما أشرق الإسلام، كانت أمور مكة في يد قريش، ولها وحدها الهيمنة على هذه المدينة، حتى عرف سكانها ب "آل قصي"، فكان أحدهم اذا استغاث أو استنجد باحد، صاح: "يا لقصي،"، كناية عن انهم "آل قصي". جامع قريش.
وهو أول رئيس من رؤساء مكة. يمكن إن نقول إن حديثنا عنه، هو حديث عن شخص عاش حقا وعمل عملا في هذه المدينة التي صارت قبلة الملايين من البشر فيما بعد. فهو إذن من الممهدين العاملين المكونين لهذه القبلة، وهو أول رجل نتكلم عن بعض أعماله ونحن واثقون مما نكتبه عنه ونقوله. وهو أول شخص نقض البيوت المتنقلة التي لم تكن تقي أصحابها شيئا من برد ولا حر، والتي كانت على أطراف الوادي وبين أشجار الحرم، وكأنها تريد حراسة البيت، وحولها من خيام مهلهلة إلى بيوت مستقرة ثابتة ذات أعمدة من خشب شجرة الحرم، وذات سقوف.
ولم نعثر حتى الآن على اسم قريش أهل مكة في نص جاهلي. كذلك لم نعثر عليه أو على اسم مقارب له في كتب اليونان أو اللاتين أو قدماء السريان ممن عاشوا- قبل الإسلام. فليس في امكاننا ذكر زمن جاهلي نقول أننا عثرنا فيه على اسم قريش، وانها كانت معروفة يومئذ فيه.
وقد وردت لفظة "قريش" اسما لرجل عرف ب "حبسل قريش". وذلك في نص حضرمي من أيام الملك "العز" ملك حضرموت.

(1/1852)


--------------------------------------------------------------------------------

هذا، وان لأهل الأخبار كلاما في سبب تسمية قريش بقريش، "فقيل: سميت بقريش بن بدر بن يخلد بن الحارث بن يخلد بن النضر بن كنانة، لأن عير بتي النضر كانت اذا قدمت، قالت العرب: قد جاءت عير قريش، قالوا: وكان قريش هذا دليل النضر في أسفارهم، وصاحب ميرتهم، وكان له ابن يسمى بدرا، احتفر بدرا، قالوا فيه سميت البئر التي تدعى بدرا، بدرا. وقال ابن الكلبي: إنما قريش جماع نسب، ليس بأب ولا بأم ولا حاضن ولا حاضنة، وقال آخرون: إنما سمي بنو النضر من كنانة قريشا، لأن النضر بن كنانة خرج يوما على نادي قومه، فقال بعضهم لبعض: انظروا إلى النضر، كأنه جمل قريش.
وقيل: إنما سميت بدابة تكون في البحر تأكل دواب البحر، تدعى القرش، فشبه بنو النضر بن كنانة بها، لأنها أعظم دواب البحر قوة.
وقيل: إن النضر بن كنانة كان يقرش عن حاجة الناس، فيسدها بماله، والتقريش-فيم زعموا-التفتيش وكان بنوه يقرشون أهل الموسم عن الحاجة فيسدونها بما يبلغهم. "وقيل إن النضر بن كنانة كان اسمه قريشا. وقيل: بل لم تزل بنو النضر بن كنانة يدعون بني النضر حتى جمعهم قصما بن كلاب، فقيل لهم: قريش، من أجل إن التجمع هو التقرش، فقالت العرب: تقرش بنو النضر، أي قد تجمعوا. وقيل: إنما قيل قريش من أجل إنها تقرشت عن الغارات".
وذكر إن قريشا كانت تدعى "النضر بن كنانة"، وكانوا متفرقين في "بني كنانة"، فجمعهم "قصي بن كلاب"، فسموا قريشا، التقرش التجمع. وسمتى قصي مجمعا. فال حذافة بن غانم بن عامر القرشي ثم العدوي: قصي أبوكم كان يدعى مجمعا به جمع الله القبائل من فهر

(1/1853)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر إن قريشا إنما قيل لهم "قريش" لتجمعهم في الحرم من حوالي الكعبة بعد تفرقهم في البلاد حين غلب عليها "قصي بن كلاب". يقال تقرش القوم إذا اجتمعوا. قالوا وبه سمي قصي مجمعا. أو لأنهم كانوا يتقرشون البياعات فيشترونها، أو لأن النضر بن كنانة اجتمع في ثوبه يوما، فقالوا تقرش، فغلب عليه اللقب، أو لأنه جاء إلى قومه يوما، فقالوا كأنه جمل قريش أي شديد، فلقب به، أو لأن قصيا كان يقال له القرشي، وهو الذي سماهم بهذا الاسم، أو لأنهم كانوا يفتشون الحاج فيسدون خلتها، فمن كان محتاجا أغنوه ومن كان عاريا كسوه ومن كان معدما كسوه ومن كان طريدا آووه، أو سموا بقريش بن مخلد بن غالب بن فهر، وكان صاحب عيرهم، فكانوا يقولون: قدمت عير قريش وخرجت عير قريش، فلقبوه به. أو نسبة إلى "قريش بن الحرث بن يخلد بن النضر"، والد "بدر"، وكان دليلا لبني "فهر بن مالك" في الجاهلية، فكانت عيرهم إذا وردت "بدرا"، يقال: قد جاءت عير قريش، يضيفونها إلى الرجل حتى مات. أو لأنهم كانوا أهل تجارة ولم يكونوا أصحاب ضرع وزرع. أو إلى قريش بن بدر بن يخلد بن النضر. وكان دليل بني كنانة في تجارتهم، فكان يقال: قدمت عير قريش. فسميت قريش بذلك. وأبوه بدر بن يخلد، صاحب بدر، الموضع المعروف.
ونعتت قريش ب "آل الله" و "جيران الله" و "سكان حرم الله". وب "أهل الله".

(1/1854)


--------------------------------------------------------------------------------

إلى غير ذلك من آراء حصرها بعضهم في عشرين قولا في تفسير معنى لفظة "قريش" ومن أين جاء أصلها. تجدها في بطون الكتب التي أشرت إليها في الحواشي. وفي موارد أخرن. وهي كلها تدل على إن أهل الأخبار كانوا حيارى في أمر هذه التسمية، ولما كان من شأنهم ايجاد أصل وفصل ونسب وسبب لكل اسم وتسمية، كما فعلوا مع التسميات القديمة، ومنها تسميات قديمة تعود إلى ما قبل الميلاد، أوجدوا على طريقتهم تلك التعليلات والتفسيرات لمعنى "قريش". وقد تجد هذه التعليلات تروى وتنسب إلى شخص واحد كابن الكلبي مثلا، وهو ينسب روايتها عادة إلى رواة تقسموا عليه أو عاصروه، وقد لا يرجعها إلى أحد، وربما كانت من وضعه وصنعته أو من اجتهاده الخاص في ايجاد علل للمسميات.
فهذا هو مجمل آراء أهل الأخبار في معنى اسم قريش.
أما رأيهم في أول زمن ظهرت فيه التسمية، فقد اختلف في ذلك وتباين أيضا. فذكر قوم "إن عبد الملك بن مروان سأل محمد بن جبير: متى سميت قريش قريشا? قال: حين اجتمعت إلى الحرم من تفرقها، فذلك التجمع التقرش. فقال عبد الملك: ما سمعت هذا، ولكن سمعت إن قصيا كان يقال له القرشي، ولم تسم قريش قبله". وورد: "لما نزل قصي الحرم وغلب عليه، فعل أفعالا جميلة، فقيل له: القرشي، فهو أول من سمي به". ورود أيضا إن "النضر بن كنانة كان يسمى القرشي".
وقد نسب إلى علي وابن عباس قولهما إن قريشا حي من النبط من أهل كوثى. وإذا صح إن هذا القول هو مهما حقا، فإن ذلك يدل على انهما قصدا بالنبط "نبايوت": وهو "ابن اسماعيل" في التوراة. واما "كوثى" فقصدا بذلك موطن ابراهيم، وهو من أهل العراق على رواية التواراة أيضا. ولعلهما أخذا هذا الرأي من أهل الكتاب في يثرب.

(1/1855)


--------------------------------------------------------------------------------

ويذكر أن جذم قريش كلها "فهر بن مالك" فما دونه قريش وما فوقه عرب، مثل كنانة وأسد وغرهما من قبائل مضر. وأما قبائل قريش، فانما تنتهي إلى فهر بن مالك لا تجاوزه. ومن جاوز "فهرا"، فليس من قريش. ومعنى هذا إن جذم قريش من أيام "فهر بن مالك" فما فوقه، كانت متبدية تعيش عيشة أعرابية، فلما كانت أيام "فهر" أخذت تميل إلى الاستقرار والاستيطان، ولما استقرت وأقامت في مواضعها عرفت ب "قريش".
وذكر إن قريشا قبيلة، وأبوهم النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر، فكل من كان من ولد "النضر"، فهو "قرشي" دون ولد كنانة ومن فوقه. وورد كل من لم يلده "فهر" فليس بقرشي. وهو المرجوع إليه.
وقد صيرت رابطة النسب هذه قريشا قبيلة تامة تقيم مجتمعة في أرض محدودة، وبصورة مستقرة في بيوت ثابتة فيها بيوت من حجر، بين أفرادها وأسرها وبطونها عصبية، وبينهم تعاون وتضامن. كما جعلت أهل مكة في تعاون وثيق فيما بينهم في التجارة، حتى كادوا يكونون وكأنهم شركاء مساهمون في شركة تجارية عامة. يساهم فيها كل من يجد عنده شيئا من مال، وإن حصل عليه عن طريق الاقتراض والربا، ليكون له نصيب من الأرباح التي تأتي بها شركات مكة.
ويقسم أهل الأخبار قريشا إلى: قريش البطاح، وقريش الظواهر. ويذكرون إن قريش البطاح بيوت، منهم: بنو عبد مناف، وبنو عبد الدار، وبنو عبد العزى، وبنو عبد بن قصي بن كلاب، وبنو زهرة بن كلاب، وبنو تيم بن مرة، وبنو مخزوم بن يقظة بن مرة، وبنو سهم، وبنو جمح ابنا عمرو ابن هصيص بن كعب، وبنو عدي بن كعب، وبنو حسل بن عامر بن لؤي، وبنو هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر، وبنو هلال بن مالك بن ضبة بن الحارث بن فهر. وبنو عتيك بن عامر بن لؤي.و "قصي" هو الذي أدخل البطون المذكورة الأبطح، فسموا البطاح. ودخل "بنو حسل ابن عامر" مكة بعد، فصاروا مع قريش البطاح، فاما من دخل في العر من قريش فليسوا من هؤلاء ولا من هؤلاء.

(1/1856)


--------------------------------------------------------------------------------

ويذكر أهل الأخبار إن "قريش البطاح"، الذين ينزلون أباطح مكة وبطحاءها.أو هم الذين ينزلون الشعب بين أخشبي مكة. وأخشبا مكة جبلاها: أبو قبيس والذي يقابله. ويقال لهم قريش الأباطح وقريش البطاح، لأنهم صبابة قريش وصميمها الذين اختطوا بطحاء مكة ونزلوها. وهم أشرف وأكرم من قريش الظواهر. ذكروا إن سادة قريش نزول ببطن مكة، ومن كان دونهم، فهم نزول بظواهر جبالها، أي قريش الظواهر.
اما قريش الظواهر: فهم: بنو معيص بن عامر بن لؤي، وتيم الأدرم بن غالب بن فهر، والحارث ابنا فهر، إلا بني هلال بن أهيب بن ضبة، وبني هلال بن مالك بن ضبة. وعامة بني عامر بن لؤي، وغيره. عرفوا جميعا بقريش الظواهر، لأنهم لم يهبطوا مع قصي الأبطح. الا إن رهط "أبي ****ة ابن الجراح"، وهم من "بني الحارث بن فهر"، نزلوا الأبطح فهم مع المطيبين أهل البطاح. وورد إن "بني الأدرم من أعراب قريش ليس بمكة منهم أحد".
ويبدو من وصف أهل الأخبار لقريش البطاح، أنهم إنما سموا بالبطاح لأنهم دخلوا مع قصي البطاح، فأقاموا هناك. فهم مستقرون خضر، وقد أقاموا في ييوت مهما كانت فإنها مستقرة، وقد انصرفوا إلى التجارة وخدمة البيت. فصاروا أصحاب مال وغنى، وملكوا الأملاك في خارج مكة، ولا سيما الطائف، كما ملكوا الإبل، وقد تركوا رعيها للاعراب. وعرفوا أيضا بقريش الضب للزومهم الحرم.

(1/1857)


--------------------------------------------------------------------------------

واما قريش الظواهر، فهم الساكنون خارج مكة في أطرافها، وكانوا على ما يبدو من وصف أهل الأخبار لهم أعرابا، أي انهم لم يبلغوا مبلغ قريش البطاح في الاستقرار وفي اتخاذ بيوت من مدر. وكانوا يفخرون على قريش، مكة بأنهم أصحاب قتال، وانهم يقاتلون عنهم وعن البيت. ولكنهم كانوا دون "قريش البطاح" في التحضر وفي الغنى والسيادة والجاه، لأنهم أعراب فقراء، لم يكن لهم عمل يعتاشون منه غير الرعي. وكانوا دونهم في مستوى المعيشة بكثير وفي الوجاهة بين القبائل. ومع اشتراكهم وقريش البطاح في النسب، ودفاعهم عنهم أيام الشدة والخطر، إلا انهم كانوا يحقدون على ذوي أرحامهم على ما أوتوا من غنى ومال وما نالوه من منزلة، ويحسدونهم على ما حصلوا عليه من مكانة دون إن يعملوا على رفع مستواهم،. وترقية حألهم، والاقتداء بذوي رحمهم أهل الوادي في اتخاذ الوسائل التي ضمنت لهم التفوق عليهم وفي جلب الغنى والمال لهم. كان شأنهم في ذلك شأن الحساد الذين يعيشون على حسدهم، ولا يبحثون عن وسائل ترفعهم إلى مصاف من يحسدونه. ولعل نظرتهم الجاهلة إلى أنفسهم من انهم أعلى وأحل شأنا ممن يحسدونهم، وإن كانوا دونهم في نظر الناس في المنزلة والمكانة، حالت دون تحسين حاسم والتفوق على المحسود بالجد والعمل، لا بالاكتفاء بالحسد وبالتشدق بالقول والمباهاة.

(1/1858)

admin
12-27-2010, 02:04 AM
ويذكر أهل الأخبار إن قسما ثالثا من قريش، لم ينزل - بمكة ولا بأطرافها، وانما هبط أماكن أخرى، فاستقر بها، وتحالف مع القبائل التي نزل بينها. من هؤلاء: سامة بن لؤي، وقع إلى عمان، فولده هناك حلفاء أزد عمان. والحارث ابن لؤي وقع إلى عمان، فولده هناك حلفاء أزد عمان. والحارث بن لؤي، وقع إلى اليمامة، فهم في بني هزان من عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار. والحارث، هو جشم. وخزيمة بن لؤي، وقعوا بالجزيرة إلى بني الحارث بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان وسعد بن لؤي، وبنو عوف بن لؤي، وقعوا إلى غطفان ولحقوا بهم، ويقال لبني سعد بن لؤي بنانة، وبنانة أمهم، فأهل البادية منهم. وأهل الحاضرة ينتمون إلى قريش. ويقال لبني خريمة بن لؤي: عائذة قريش. وكان عمان بن عفان ألحق هذه القبائل، حين استخلف بقريش.
ويلاحظ إن هذا الصنف من أصناف قريش، هو من نسل "لؤي"، أي: من نسل "لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر".وقد تباعدت مواطنهم عن قريش.
ومن قريش الظواهر: بنو الأدرم من نسل الأدرم، وهو تيم بن غالب، ومن رجالهم: عوف بن دهر بن تيم الشاعر، وهو أحد شعراء قريش. وهلال ابن عبد الله بن عبد مناف، وهو صاحب القينتين اللتين كانتا تغنيان بهجاء النبي، وهو ابن الخطل الذي كان يؤذي التي وارتد فأهدر النبي دمه يوم الفتح، قتله أبو برزة الأسلمي وهو متعلق بأستار الكعبة، أو سعد بن حريث المخزومي على رواية قريش. ومن قريش الظواهر أيضا: بنو محارب، والحارث بن فهر وبنو هصيص بن عامر بن لؤي.
ولم يكن أهل مكة كلهم من قريش، بل سأكنيهم أيضا من كان بها قبلهم، مثل خزاعة وبنو كنانة. وقريش وإن كانت من "كنانة"، إلا إنها ميزت نفسها عنا، وفرقت بينها وبين كنانة. ولكنانة أخوة منهم: أسد وأسده، ووالدهم هو "خزيمة" وهو جد من أجداد قريش، كما إن "كنانة" هو جد من أجدادهم. وللاخباريين رأي في معنى كنانة.

(1/1859)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عرفت قريش بين أهل الحجاز بسخينة. والسخينة طعام رقيق يتخذ من سمن ودقيق. وقيل دقيق وتمر-وهو دون العصيدة في الرقة وفوق الحساء. وانما لقبت قريش بسخينة لاتخاذها اياه، أي لأفهم كانوا يكثرون من أكلها ولذا كانت تعير به.
الأحابيش
ومن أهل مكة جماعة عرفت ب "الأحابيش". ذكر أهل الأخبار انهم حلفاء قريش، وهم: بنو المصطلق، والحياء بن سعد بن عمرو، وبنو الهون ابن خزيمة. اجتمعوا بذنب حبشي-وهو جبل بأسفل مكة-فتحالفوا بالله إنا ليد على غيرنا ما سجا ليل وأوضح نهار، وما أرسى حبشي مكانه. وقيل: إنما سموا بذلك لاجتماعهم. والتحابش: هو التجمع في كلام العرب. وذكر انهم اجتمعوا عند "حبشي" فحالفوا قريشا. وقيل: أحياء من القارة انضموا إلى "بني ليث" في الحرب التي نشبت بينهم وبين قريش قبل الإسلام، فقال إبليس لقريش: إني جار لكم من بني ليث فواقعوا دما، سموا بذلك لاسودادهم، قال:
ليث وديل وكعب والذي ظأرت جمع الأحابيش، لما احمرت الحدق
فلما سميت تلك الأحياء "الأحابيش" من فبل تجمعها، صار التحبيش في الكلام كالتجميع.
وورد إن "عبد مناف" و "عمرو بن هلال بن معيط الكناني"، عقدا حلف الأحابيش. والأحابيش، بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة، وبنو المصطلق من خزاعة، وبنو الهون بن خزيمة بن مدركة، وكانوا مع قريش. وقيل أيضا إن الأحابيش، هم: بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة، وعضل، والديش من بني الهون بن خزيمة، والمصطلق، والحيا من خزاعة.

(1/1860)


--------------------------------------------------------------------------------

- وقد وصف "اليعقوبي" "حلف الأحابيش" بقوله: "ولما كبر عبد مناف ابن قصي جاءته خزاعة وبنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة، يسألونه الحلف ليعزوا به. فعقد بينهم الحلف الذي يقال له: حلف الأحابيش. وكان مدبر بني كنانة الذي سأل عبد مناف عقد الخلف عمرو بن هلل "هلال" بن معيص ابن عامر. وكان تحالف الأحابيش على الركن. يقوم رجل من قريش والآخر من الأحابيش فيضعان ايديهما على الركن، فيحلفان بالله القاتل وحرمة هذا البيت والمقام والركن والشهر الحرام على النصر على ا الخلق جميعا حتى يرث الله الأرض ومن. عليها وعلى التعاقد وعلى التعاون على كل من كادهم من الناس جميعا، مابل بحر صوفة، وما قام حر أو ثبير، وما طلعت شمس من مشرقها إلى يوم القيامة. فسمي حلف الأحابيش".
، وقد ذكر أن "المطلب بن عبد فناف بن قصي"، قاد بني عبد مناف وأحلافها من الأحابيش، وهم من ذكرت يوم ذات نكيف، لحرب بني ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة. كما ورد إن "الأحابيش"، الذين ذكرت اسماءهم، كانوا يحضرون مع من يحضر من طوائف العرب مثل قريش وهوازن، وغطفان، وأسلم، و "طوائف من العرب" سوق عكاظ، فيبيعون ويشترون. كما ذكر انهم كانوا مثل قريش يقدسون اسافا ونائلة.
وورد في بعض اخبار الأخباريين، إن يوم "ذات نكيف."، وقع بين قريش وبني كنانة. فهزمت قريش بني كنانة، وعلى قريش عبد المطلب. وقد بقي "الأحابيش" بمكة، إلى أيام الأمويين. فذكر إن "عبد الله المتكبر"، وكان من اشراف قريش في أيام "معاوية" ومن اغناها مالا، لما وفد على "معاوية" وكان خليفة إذ ذاك، كلمه في "قريش" ووجوب الاعتماد عليهم ثم في "الأحابيش"، إذ. قال له عنهم: "وحلفاؤك من الأحابيش" قد عرفت نصرهم ومؤازرتهم، فاخلطهم نفسك وقومك".

(1/1861)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد بحث "لامانس" في موضوع الأحابيش، فرأى انهم.قوة عسكرية ألفت من ال**** السود المستوردين من افريقية ومن عرب مرتزقة، كونتها مكة للدفاع عنا. وقد بحث مستشرقون آخرون في هذا الموضوع، فمنم من ايده، ومنهم من توسط في رأيه، ومنهم من ايد الرواية العربية المتقدمة التي ذكرتها. وعندي رأي آخر، قد يفسر لنا سبب تسمية "بني الحارث بن عبد مناة" من "كنانة" ومن ايدها من "بني المصطلق" و "بني الهون" بالأحابيش. هو إن من الممكن إن تكون هذه التسمية قد وردت اليهم من اجل خضوعهم لحكم الحبش، وذلك قيل الإسلام بزمن طويل. فقد سبق إن ذكرت في الجزء الثالث من كتابي: "تأريخ العرب قبل الإسلام"، وفي اثناء كلامي على "جغرافيا بطلميوس"، إن الساحل الذي ذكره "بطلميوس" باسم: "Cinaedocolpitae" إنما هو ساحل "تهامة" وهو منازل "كنانة". وقد بقي الحبش به وقتا طويلا. واختلطوا بسكانه. فيجوز إن تكون لفضة "الأحابيش" قد لحقت بعض "كنانة"

(1/1862)


--------------------------------------------------------------------------------

من خضوعهم للحبش، حتى صارت اللفظة لقبا لهم، أو علما لكنانة ومن حالفها. ويجوز إن تكون قد لحقتهم ولحقت الآخرين معهم لتميزهم عن بقية "كنانة" ومن انضم إليهم ممن سكن خارج تهامة. أو لتزوج قسم منهم من نساء حبشيات، حتى ظهرت السمرة على سحنهم. ولهذا وصفوا بالأحابيش فليس من اللازم أذن إن يكون "الأحابيش"، هم كلهم من حبش افريقية، بل كانوا عربا وقوما من ال**** والمرتزقة ممن امتلكهم أهل مكة. ومما يؤيد رأيي هذا هو وود "من بني كنانة" مع أهل تهامة في اخبار معارك قريش مع الرسول. ففي معركة "أحد"، نجد "الطبري" يقول: "فاجتمعت قريش لحرب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين فعل ذلك أبو سفيان وأصحاب العير بأحابيشها ومن اطاعها من قبائل كنانة وأهل تهامة". ونجد مثل ذلك في اخبار معارك أخرى. مما يشير إلى إن الأحابيش، ليسوا **** إفريقية حسب، بل هم عرب وحبش ومرتزقة. وأن اولئك الأحابيش هم من ساحل تهامة في الغالب من كنانة، أي ممن أقام بذلك الساحل المستقر به من الحبش واندمج في العرب، فصار من المستعربة الذين نسوا اصولهم وضاعت انسابهم، واتخذوا لهم نسبا عربيا، .وقد كان للأحابيش سادة يديرون امورهم، منهم "ابن الدغنة" وهو "ربيعة بن رفيع بن حيان بن ثعلبة السلمي" الذي اجار "ابا بكر". وشهد معركة حنين.
ومن سادات الأحابيش "الحليس بن يزيد". ويظهر انه كان يتمتع بمنزلة محترمة بمكة. وقد ذكر "محمد بن حبيب" "الحليس" على هذه الصورة: "الحليس بن يزيد". وذكر انه من "بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة". وكان من رؤساء حرب الفجار من قريش. وذكره. غيره على هذه الصورة: "وحليس بن علقمة الحارثي. سيد الأحابيش ورئسهم يوم أحد. وهو من بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة".

(1/1863)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد حارب الأحابيش مع قريش يوم أحد، وقد رأسهم "أبو عامر" المعروف ب "الراهب" وقاتل بهم، مع إن رئيسهم وسيدهم اذ ذاك هو "الحليس بن زبان" أخو "بني الحارث بن عبد مناة". وهو يومئذ "سيد الأحابيش". وقد مرب "أبي سفيان"، وهو يضرب في شدق "حمزة" بزج الرمح، فلامه،على فعله وأنبه. ولعل هذا الحليس هو الحليس المتقدم، كتب اسم والده بصور. مختلفة بحذف اسم والده وإضافة جده أو غيره إليه، فصار وكأنه انسان آخر.
وقد ورد ذكر "الحليس" في خبر "الحديبية". فقد ذكر الطبري إن قريشا اوفدت "الحليس بن علقمة" أو "ابن زبان"، وكان يومئذ سيد الأحابيش، وهو أحد "بلحارث بن عبد مناة بن كنانة"، إلى رسول الله، فلما رآه الرسول، قال: إن هذا من قوم يتألهون، فلما رأى الحليس هدي المسلمين في قلائده، وأحس إن الرسول إنما جاء معتمرا لا يريد سوءا لقريش، قص عليهم ما رأى، فقالوا له: اجلسى، فإنما أنت رجل أعرابي لا علم لك. فغضب "الحليس" عند ذلك، وقال. يا معشر قريشى، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم، إن تصدوا عن بيت الله من جاءه معظما له، والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبن ما جاء له أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد! فقالوا له: مه، كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نوصي به.
وقد ساهم "الأحابيش" في الدفاع عن مكة عام الفتح. وكانوا قد تجمعوا مع "بني بكر" و "بني الحارث بن عبد مناة" ومن كان من الأحابيش، اسفل مكة، كما أمرتهم قريش بذلك. فأمر رسول الله خالد بن الوليد إن يسير عليهم، فقاتلهم حتى هزموا. ولم يكن بمكة قتال غير ذلك.، ولم يذكر "الطبري" اسم سيد الأحابيش في هذا اليوم.
ويتبين من دراسة اخبار أهل الأخبار عن الأحابيش، ومن نقدها وغربلتها،

(1/1864)


--------------------------------------------------------------------------------

إن الأحابيش، كانوا جماعة قائمة بذاتها، مستقلة في ادارة شؤونها، يدير امورها رؤساء منهم، بعرف أحدهم ب "سيد الأحابيش". وقد ذكرت أسماء بعض منهم قبل قليل. وقد عاشوا عيشة اعرابية، خارج مكة على ما يظهر من الروايات. وذلك بدليل قول قريش للحليس: "اجلس، فإنما أنت رجل اعرابي، لا علم لك" أي انهم كانوا اعرابا ويعيشون عيشة اعرابية. ويظهر من هذه الأخبار أيضا إن "الحليس" "سيد الأحابيش"، كان من "بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة"، وأن "ابن الدغنة"، كان من "بني سليم". ولم ينص أهل الأخبار فيما اذا كانا عربيين صريحين ام انهما كانا من "بني الحارث" ومن "بني سليم" بالولاء، فنسبهما إلى القبيلتين، هو نسب ولاء. ويظهر من خبر "الحديبية"، ومن قول النبي لما رأى "الحليس". قادما إليه: "إن هذا من قوم يتألهون"، إن الأحابيش لم يكونوا على دين مكة أي من عباد الاصنام بل كانوا مؤلهة، يدينون بوجود إله. وقد يشير الرسول بذلك إلى انهم كانوا نصارى، اخذوا نصرانيتهم من الحبش. ولذلك كانوا من المؤلهة بالنسبة لقريش. وأنا لا استبعد أيضا إن تكون تلك التسمية قد غلبت على هؤلاء لأنهم كانوا من الساحل الافريقي المقاتل لجزيرة العرب. جاؤوا إليها بالفتوح وبالنخاسة، وأقاموا في تهامة إلى مكة، وعاشوا عيشة اعرابية متبدية، وتحالفوا مع القبائل العربية المذكورة، وتخلقوا بأخلاق عربية حتى صاروا اعرابا في كل شيء. وقد لازمتهم التسمية التي تشير إلى اصلهم، وانما تحالفوا مع "بني الحارث" وبقية المذكورين، عرف حلفهم ب "حلف الأحابيش"، ثم عرف المتحالفون ب "الأحابيش". وقد نسي الأصل وهو الأحابيش، أي اسم الحبش الذين تحالفوا مع "بني الحارث" و "عضل" و "الديش" و "المصطلق" و "الحيا". لسبب لا نعرفه، قد يكون بسبب كونهم ****ا سودا، وأطلق الحلف على المذكورين. غير إن روايات أهل الأخبار تشير إلى كثير من الأحابيش في مثل قولها: "وخرجت قريش بأحابيشها" إلى إن

(1/1865)


--------------------------------------------------------------------------------

الأحابيش المذكوريين كانوا في حكم قريش، أي جماعة من الحبش من أهل افريقية، كانت كما ذكرت. تكون وحدة قائمة بذاتها، ولكنها تدين بولائها لقريش، ولها حلف مع بعض كنانة ومع قبائل اخرى. ولما كان عام الفتح امرتها قريش بالتعاون مع "بني بكر" و "بني الحارث نن عبد مناة"، للدفاع عن مكة من جهة الجنوب. فامتثلت لأمر قريش، وأخذت مواضعها هنالك، حتى زلزلها "خالد بن الوليد".
وقد منح "لامانس" الأحابيش درجة مهمة في الدفاع عن قريش. حتى زعم إن قريشا ركنت اليهم في دفاعهم عن مكة، وعهدت اليهم دورا خطيرا في حروبها مع الرسول. وقد استند فى رأيه هذا إلى ما رواه أهل الأخبار من اشتراكهم مع قريش في تلك لحروب. غير اننا نجد من دراسة أخبار الحروب المذكورة، إن الأحابيش وان ساهموا فيها، الا انهم لم يلعبوا دورا خطيرا فيها. وانهم لم يكنوا في تلك الحروب سوى فرقة من الفرق التي ساعدت قريشا، مقابل مال ورزق ووعود. ولم يكن الأحباش وحدهم قد ساعدوا أهل مكة في حروبهم مع غيرهم، فقد ساعدهم أيضا طوائف من الأعراب، أي من البدو الفقراء الذين كانوا يقاتلون ويؤدون مختلف الخدمات في سبيل الحصول على خبز يعيشون عليه.
وقريش جماعة استقرت وتحضرت، واشتغلت بالتجارة، وحصلت منها على غنائم طيبة. ومن طبع التاجر الابتعاد عن الخصومات والمعارك والحروب. لأن التجارة لا يمكن إن تزدهر وتثمر إلا في محيط هادئ مستقر. لشك، صار من سياستها استرضاء الأعراب وعقد "حبال" مع ساداتهم، لتامين جانبهم، ليسمحوا لقوافلها بالمرور بسلام. كما صار من اللازم عليها عقد أحلاف مع المجاورين لهم من الأعراب مثل "قريش الظواهر" و "الأحابيش" وأمثالهم للاستعانة بهم في الدفاع عن مكة والاشتراك معهم في حروبهم التي قد يجبرون على خوضها مع غيرهم. بالإضافة إلى ****هم "الحبش" الذين اشتروهم لتمشية أمورهم وليكونوا حرسا وقوة أمن لهم.

(1/1866)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم تكن قريش تعتمد على القوة في تمشية مصالحها التجارية، بقدر اعتمادها على سياسة الحلم واللين والقول المعسول والكلام المرضي الوصول إلى غايتها وأهدافها ومصالحها التجارية. وبهذه السياسة: سياسة اللين والمفاوضة والمسالمة، كانت تبدأ بحل ما يقع لها من صعوبات مع الناس. ولم يكن من السهل عليها في الواقع إرضاء الأعراب واسكاتهم لولا هذه السياسة الحكيمة التي اختاروها لأنفسهم، وهي سياسة أكثر سكان القرى العامرة الواقعة في البوادي بين أعراب جائعين، سياسة الاسترضاء بالحكمة واللسان الجميل، واداء المال رشوة لهم باقل مقدار ممكن، لأن الاكثار من السخاء يثير في الأعرابي شهوة طلب المزيد. وشهوته هذه متى ظهرت، فسوف لا تنتهى عند حد. وأهل مكة بخبرتهم الطويلة في تجولهم بمختلف أنحاء جزيرة العرب اعرف من غيرهم بنفسية الأعراب.
وكان لأشرافها أحلاف مع سادات القبائل، تحالفوا معهم لتمشية مصالهم ولحماية تجارتهم. فكان "زرارة" التميمي مثلا حليفا ل "بني عبد الدار". وكان عامر بن هاشم بن عبد مناف، قد تزوج "بنت النباش بن زرارة"، وأولد منها "عكرمة بن عامر بن هاشم" الشاعر، و "بغيض بن عامر" الذي كتب الصحيفة على "بني هاشم" في أمر مقاطعة قريش لبتي هاشم.
وقد عيرت قريش بأنها لا تحسن القتال، وانها تجاري وتساير من غلب، وانها لا تخرج إلا بخفارة خفير، وبحلف حليف، وبحبل من هذه الحبال التي عقدتها مع سادات القبائل. فلما سمع "النعمان بن قبيصة بن حية الطائي" ابن عم "قبيصة بن إباس بن حيلة الطائي" صاحب الحيرة، ب "سعد بن أبي وقاص"، سأل عنه، فقيل: "رجل من قريش، فقال: اما إذا كان قرشيا فليس بشيء، والله لأجاهدنه القتال. إنما قريش **** من غلب، والله ما يمنعون خفيرا، ولا يخرجون من بلادهم إلا بخفير". ونجد أمثلة أخرى من هذا القبيل تشير إلى ميل قريش إلى السلم، وعدم قدرتها على القتال.

(1/1867)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر الأخباريون انه كان لكنانة جملة أولاد، ذكر ابن الكلبي منهم: النضر، والنضير، ومالكا وملكان، وعامرا، وعمرا، و الحارث، و عروان "غزوان"، وسعدا، وعوفا، وغنما، ومخرمة، وجرولا. وهم من زوجته "برة بنت مر" أخت "تميم بن مر". ولهذا رأى النسابون وجود صلة بين أبناء هؤلاء الأولاد وقبيلة "تميم". وأما "عبد مناة"، فإنه ابن كنانة من زوجته الأخرى، وهي "الذفراء بنت هانىء بن بلى" من قضاعة. ولذلك عد أبناؤه من قضاعة.
ويذكر أهل الأخبار إن من أجداد "قصي"، رجل كانت له منزلة في قومه اسمه "كعب بن لؤي"، كان يخطب للناس في الحج، وكان رئيسا في "قريش" فلما توفي، أرخت قريش بموته اعظاما له، إلى إن كان عام الفيل فأرخوا به. وذكر بعض أهل الأخبار إن أسم "كعب" هي من "القين بن جسر" من قضاعة، وان كعبا هذا أول من سمى يوم الجمعة الجمعة، وكانت العنب تسمي يوم الجمعة: العروبة. وأول من قال: "أما بعد"، فكان يقول: "اما بعد، فاستمعوا وافهموا"، وان بين موته والفيل خمسمائة سنة وعشرون سنة.
وفي قول أهل الأخبار عن وقت موت كعب مبالغة شديدة بالطبع، فإن كعبا هو والد "مرة" و "مرة بر هو والد "كلاب" و "كلاب" هو والد "قصي". فلا يعقل إذن إن يكون بين موت "كعب" وبين الفيل هذا المقدار من السنين.

(1/1868)


--------------------------------------------------------------------------------

وهم يذكرون أيضا إن والد "قصي" وهو "كلاب" كان فد تزوج "فاطمة بنت سعد بن سيل"، فأنجبت له "قصيا". وهي من الأزد، من نسل "عامر الجادر". وقد عرف ب "الجادر" لانه بنى جدار الكعبة بعد إن وهن من سيل أتى في أيام ولاية جرهم البيت، فسمي الجادر. وذكر أيضا إن الحاج كانوا يتمسحون بالكعبة، ويأخذون من طيبها وحجارتها تبركا بذلك، وان عامرا هذا كان موكلا باصلاح ما شعث من جدرها فسمي الجادر. وذكر إن "سعد بن سيل"، كان أول من حلى السيوف بالفضة والذهب. وكان أهدى إلى "كلاب" مع ابنته "فاطمة" سيفين محليين، فجعلا في خزانية للكعبة. وذكر إن "كلابا"، هو أول من جعل في الكعبة السيوف المحلاة بالذهب والفضة ذخيرة للكعبة. وجاء أيضا انه أول من جدر الكعبة.
و "قصي" رئيس قريش، هو الذي ثبت الملك في عقبه، ونظم شؤون المدينة، وقسم الوظائف والواجبات على أولاده حنن شعر بدنو أجله. فلما أشرق الإسلام، كانت أمور مكة في يد قريش، ولم تكن لغير قريش نفوذ بذكر على مكة. فهو الذي بعث الحياة إلى قومه من قريش، وجعل لهم مكانة في هذه القرية ونفوذا وشهرة في الحجاز. وهو الذي أوجد لمكة مكانة، وخلق لها نوعا من التنظيم والإدارة. ومن عهده فما بعد نجد في أخبار مكة ما يمكن إن يركن ويطمأن إليه من أخبار.

(1/1869)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد روى "ابن قتيبة" خبرا مفاده إن "قيصر" أعان "قصيا" على "خزاعة". وإذا صح هذا الخبر، فإن مساعدة "قيصر" له قد تكون عن طريق معاونة الغساسنة له، وهم حلفاء الروم. وقد تكون قبيلة "بنو عذرة" وهي من القبائل المتنصرة التي عاشت على مقربة من حدود بلاد الشام، هي التي توسطت فيما بين قصي والروم، وقد كانت خاضعة لنفوذهم، فأعانه أحد الحكام الروم - وقد يكون من ضباط الحدود، أو من حكام المقاطعات الجنوبية مثل "بصرى" - بأن أمده بمساعدة مالية أو بايعاز منه إلى الأعراب المحالفين للروم بمساعدته في التغلب على خزاعة.ولا أهمية كبيرة في هذا الخبر لكلمة "قيصر". فقد جرت عادة أهل الأخبار على الإسراف في استعمالهم لهذه اللفظة. وقد ورثوا هذا الإسراف من الجاهلين، فقد كان من عادتهم تسمية أي موظف بارز من موظفي الحدود الروم، أو من حكام المقاطعات ب "قيصر". وفي روايات أهل الأخيار أمثلة عديدة من هذا القبيل.
ويذكر إن "عثمان بن الحويرث"، وكان من الهجائين في قريش ومن العالمين باخبار رجالها، قد توسط فيما بعد لدى البيزنطنيين لتنصيب نفسه ملكا على مكة. وهو من "بني أسد بن عبد العزى". ويظهر انه أدرك المرارة التي أصيب بها البيزنطيون من خروج الحبش عن اليمن ومن دخول الفرس إليها ، وسيطرتهم بذلك على باب المندب، مفتاح البحر الأحمر، فتقرب إلى الروم وتوسل إليهم لمساعدته بكل ما عندهم من وسائل لتنصيب نفسه ملكا على مكة، علما منه إن هذا الطلب سيجد قبولا لديهم، وان في امكانهم في حالة عدم رغبتهم بمساعدته مساعدة عسكرية أو مالية، الضغط على سادات مكة ضغطا اقتصعاديا، بعرقلة تجارتهم مع بلاد الشام، أو بمنع الاتجار مع مكة، أو برفع مقدار الضرائب التي تؤخذ عن تجارتهم، وبذلك يوافقون على الاعتراف به ملكا عليه، على نحو ما كان عليه الملوك الغساسنة. وكما سأتحدث عن هذا الموضوع فيما بعد.

(1/1870)


--------------------------------------------------------------------------------

والظاهر إن مشروعه هذا لم يلاق نجاحا، لأن سادات مكة وفي جملتهم رجال من "بني أسد بن عبد العزى"، مثل "الأسود بن المطلب" و "أبو زمعة"، والاثرياء من الأسرة الأخرى عارضوه، لأنهم كانوا تجارا يتاجرون مع الفرس والروم، وانحيازهم إلى الروم، معناه خروج مكة عن سياسة الحياد التي اتبعوها تجاه المعسكرين: الفرس والروم، وسيؤدي هذا الانحياز إلى عرقلة اتجارهم مع الفرس ومع الأرضين الخاضعة لنفوذهم، وتؤدي هذه العرقلة إلى خسارة فادحة تقع بتجارتهم، لا سيما وان الفرس كانوا قد استولوا على اليمن، ولأهل مكة نجارة واسعة معها. ثم إن بين أهل مكة رجال لهم شأن ومكانة في قومهم، وكانوا أرفع منزلة من "عمان بن الحويرث"، لذلك لم يكن من الممكن بالنسبة لهم الانصياع له حتى وإن أرسل الروم جيشا قويا منظما على مكة، لذلك لم يتحقق حلم "عثمان" في الرياسة ولو بمساعدة قوات أجنبية.
وزعم بعض أهل الأخبار إن "الحارث بن ظالم المري"، ذكر "آل قصي" في شعره، ودعاهم ب "قرابين الإله"، إذ قال: وإن تعصب بهم نسبي فمنهم قرابين الإله بنو قصي

(1/1871)


--------------------------------------------------------------------------------

وهو في عرف بعض النسابين: "قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن فهر". و "قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب ابن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان"، في شجرة نسبيه التي توصله إلى جده الأعلى "عدنان". فأبوه هو كلاب. اما أمه، فهي "فاطمة بنت سعد بن سيل بن حمالة بن عوف بن غنم بن عامر الجادر بن عمرو بن جعثمة ابن يشكر" من أزد شنوءة حلفاء في "بني الديل". توفي أبوه وهو صغير، وتزوجت أمه بعد وفاة "كلاب" أبيه من رجل من بني عذرة، هو ربيعة بن حرام. ولصغر سن قصي، أخذته أمه معها إلى أرض زوجها في بني عذرة، على مقربة من تبوك، وتركت أخاه الأكبر "زهرة" في أهله بمكة. ولما شب قصي، وترعرع، وعرف من أمه أصله وعشرته، رجع إلى قومه، فنزل بمكة وأقام بها: ونظم أمر قريش.
ولم يكن اسم قصي قصيا يوم سمي، بل كان "يدا"، وإنما سمي قصيا بعد ذلك، سمي قصيا على ما يذكر أهل الأخبار، لأنه قصي عن قومه، فكان في بني عذرة، فسمي قصيا لبعد داره عن دار قومه. وبينا قصي بأرض قضاعة لا ينتمي إلا إلى ربيعة بن حرام فى زوج أمه، وهو من أشراف قومه، إذ كان بينه وبين رجل من قضاعة شيء، فأنبه القضاعي بالغربة، فرجع قصى إلى أمه، وقد وجد في نفسه مما قال له القضاعي، فسألها عما قال له ذلك الرجل، فقالت له: أنت، والله، يا بني أكرم منه نفسا وولدا. فأجمع قصي الخروج إلى قومه واللحوق بهم، فقالت له أمه: يا بتي، لا تعجل بالخروج حتى يدخل عليك الشهر الحرام، فترج في حاج العرب، فإنني أخشى عليك إن يصيبك بعض البأس، فأقام قصي حتى إذا دخل الشهر الحرام، خرج حاج قضاعة، فخرج فيهم حتى قسم مكة فلما فرغ من الحج، أقام بها، واتخذها له مستقرا ومقاما.

(1/1872)


--------------------------------------------------------------------------------

وتعرف قصي وهو بمكة على "حليل بن حبشية الخراعي"، وكان يلي الكعبة وأمر مكة، ثم خطب إليه ابنته، وهي "حبى"، فزوجه إياها، وولدت له ولده: عبد الدار، وعبد مناف، وعبد العزى، وعبد قصي. وكثر ماله، وعظم شرفه، فلما توفي "حليل" رأى قصي انه أولى من خراعة بولاية البيت، وان قريشا فرعة إسماعيل وإبراهيم، واستنفر رجال قريش، ودعاهم إلى اخراج خزاعة من مكة. وكتب إلى أخيه من أمه، وهو "رزاح بن ربيعة بن حرام العذري" يستنصره، فأجابه ومعه قومه من بني عذوة من قضاعة، ووصلوا مكة ونصروه بم وغلبت قضاعة وبنو النضر خزاعة، وزال ملكهم عن مكة، وصار الأمر إلى قصي وقريش.
وفي رواية أخرى انه اشترى ولاية البيت من "أبي غبشان" بزق خمر وبعود. وكان "حليل" كما يقول أصحاب هذه الرواية قد جعل ولاية البيت إلى ابنته "حبى"، فقالت: قد علمت اني لا أقدر على فتح الباب وإغلاقه، قال: فاني أجعل الفتح والاغلاق إلى رجل يقوم لك به، فجعله إلى "أبي غبشان"، وهو "سليم بن عمرو بن بوي بن ملكان بن أفصى"، فاشترى قصي ولاية البيت منه بزق خمر وبعود. فلما سمعت خزاعة ذلك، تجمعت على قصي، فاستنصر أخاه، فقاتل خزاعة وأصيب خراعة بوباء العدسة، حتى كادت تفنيهم. فما رأت ذلك، جلت عن مكة. ويذكرون إن العرب لما سمعت بقصة " أبي غبشان"، قالت: "أخسر صفقة من أبي غبشان"، فذهب القول مثلا.
وأبو غبشان، هو "المحترش". وقد ورد اسم رجل عرف بالحارث، قيل عنه انه غبشان بن عبد عمرو، وانه كان قد حجب البيت، فلعل له علاقة بأبي غبشان المذكور، كأن يكون ابنه.

(1/1873)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي رواية إن القتال حينما اشتد بين قصي وخزاعة، تداعوا إلى الصلح، على إن يحكم بينهم "عمرو بن عوف بن كعب بن ليث بن بكر بن عبد مناف بن كنانة" "يعمر بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث"، فوافق. فكان حكمه إن قصيا أولى بالبيت ومكة من خزاعة، وان كل دم أصابه من خزاعة موضوع، فيشدخه تحت قدميه، وان كل دم. أصابت خزاعة وبنو بكر حلفاؤهم من قريش وبني كنانة، ففي ذلك الدية مؤداة. وبذلك انتصر قصي على خصومه. ويقولون إن "عمرا" سمي منذ ذلك الحن الشداخ، بما شدخ من الدماء.
ولم يشر بعض أهل الأخبار إلى إن شدخ الشداخ الدماء بين قريش وخزاعة، كان في عهد قصي، فأغفلوا اسم "قصي"، بل اكتفوا بالاشارة إلى شدخه السماء وإصلاح ما بين قريش وخزاعة، وذكر بعضهم انه حكم في جملة ما حكم به على ألا يخرج خزاعة من مكة. وأكثر الرواة على إن اسمه "يعمر بن عوف، لا "عمرو بن عوف" كما جاء في الرواية المتقدمة".
ولم تشر رواية أخرى ذكرها "ابن دريد" إلى وقوع نزاع بين قصي وبين خزاعة، بل قالت: إن حليلا سادن الكعبة، كان قد أوصى إليها أمر الكعبة واعطاها مفتاحها، فأعطته زوجها قصيا، فتحولت الحجابة من خزاعة إلى بني قصي.

(1/1874)

admin
12-27-2010, 02:06 AM
وترجع بعض الروايات نزاع خزاعة مع قصي إلى عامل آخر غير ولاية البيت، فتذكر إن خزاعة كانت قد سلمت لقصي بحقه في ولاية البيت، وانها زعمت إن "حليلا" أوصى بذلك قصيا، وبقيت على ولائها له، إلى إن اختلف "قصي" مع "صوفة". وكانت "صوفة" وهي من "جرهم" تتولى أمر الإجازة بالناس من عرفة. فتجيزهم إذا نفروا من "منى" تولت ذلك من عهد جرهم وخزاعة. فلما كان قصي، أتاهم مع قومه من قريش وكنانة وقضاعة عند العقبة، فقالوا: نحن أولى بهذا منكم، فناكروه، فناكرهم، فقاتلوه، فاقتتل الناس قتالا شديدا، ثم انهزمت صوفة، وغلبهم قصي على ما كان بأيديهم من ذلك، وحال بينهم وبينه، فانحازت عند ذلك خزاعة. وبنو بكر عن قصي بن كلاب، وعرفوا انه سيمنعهم كما منع صوفة، فوقع من ثم ما وقع على نحو ما مر.
غير إن الرواة يذكرون في مكان آخر الي قصيا اقر للعرب في شأن حجهم ما كانوا عليه، وذلك انه كان يراه دينا في نفسه، لا ينبغي له تغييره، وكانت صوفة على ما كانت عليه، حتى انقرضت-فصار ذلك من أمرهم إلى "آل صفوان بن الحارث بن شجنة" وراثة. فهذه الرواية تنافي ما ذكرته آنفا من قولهم بقتال قصي لهم، وغلبته علهم. وبقي أمر "عدوان" والنسأة، ومرة ابن عوف على ما كانوا عليه، حتى جاء الإسلام، فهدم به ذلك كله.

(1/1875)


--------------------------------------------------------------------------------

ويذكر الأخباريون إن قصيا بعد إن تمت له الغلبه، جمع قومه من الشعاب والأودية والجبال إلى مكة، فسمي لذلك مجمعا، وانه حكم منذ ذلك الحين فيهم، وملك عليهم. فكان قصي أول ولد كعب بن لؤي أصاب ملكا، وأطاعه قومه به، وأنه قسم مكة أرباعا بين قومه، فبنوا المساكن، وان قريشا هابت قطع شجر الحرم في منازلهم، فقطعها قصي بيده، وأعانوه، وانها تيمنت به، فكانت لا تعقد أمرا، ولا تفعل فعلا إلا في داره، كما تنكح امرأة ولا رجل من قريش إلا في دار قصي، وما يتشاورون في أمر ينزل بهم إلا في داره، ولا يعقدون لواء لحرب قوم من غيرهم إلا في داره، يعقدما لهم بعض ولده، وما تدرع جارية إذا بلغت إن تدرع من قريش إلا في داره، يشق عليها فيها درعها ثم تدرعه، ثم ينطلق بها إلى أهلها، فكان أمره في قومه من قريش في حياته وبعد موته كالدين المتبع، لا يعمل بغيره تيمنا بأمره ومعرفة بفضله وشرفه، واتخذ قصي لنفسه دار الندوة، وجعل بابها إلى مسجد الكعبة، ففيها كانت قريش تقضي أمورها.
ويذكر الأخباريون أيضا، إن قريشا كانوا إذا أرادوا إرسال عيرهم، فلا تخرج ولا يرحلون بها إلا من دار الندوة: ولا يقدمون إلا نزلوا فيها تشريفا له وتيمنا برأيه ومعرفة بفضله، ولا يعذر لهم. غلام إلا في دار الندوة. وكانت إليه الحجابة والسقاية والرفادة واللواء والندوة وحكم مكة. وكان يعشر من دخل مكة سوى أهلها.

وقد وردت في الشعر لفظة "مجمع": أبونا قصي كان يدعي مجمعا به جمع الله القبائل من فهر
فيظهر من هذا البيت انه جمع قبائل فهر، ووحدها.

(1/1876)

ويذكر الرواة إن "بني بكر بن عبد مناة"، صاروا يبغضون قريشا لما كان من "قصي" حين أخرجهم من مكة مع من أخرج من خزاعة حين قسمها رباعا وخططا بين قريش. فلما كانوا على عهد "المطلب"، وهموا باخراج قريش من الحرم وان يقاتلوهم حتى يغلبوهم عليه، وعدت "بنو بكر" على نعم لبني الهون فأطردوها، ثم جمعوا جموعهم وجمعت قريش واستعدت. وعقد المطلب الحلف بين قريش والأحابيش، فلقوا بني بكر ومن انضم اليهم وعلى الناس "المطلب"، فاقتتلوا ب "ذات نكيف"، فانهزم بنو بكر، وقتلوا. قتلا ذريعا، فلم يعودوا لحرب قريش.
وقتل يومئذ "**** بن السفاح القاري" من القارة: قتادة بن قيس أخا "بلعاء بن قيس". والقارة من ولد "الهون بن خزيمة".
ويظهر من هذه الروايات إن أرض حرم مكة كانت مشجرة، وان تلك الاشجار كانت مقدسة، وان بعض بيوت مكة كانت ذات أشجار، ويظهر إنها انتزعت من أرض الحرم، ولذلك كانوا يهابون قطعها ولا يتجاسرون على إلحاق سوء بها. فلما جاء قصي، خالف عقيدة القوم فيها، فقطعها. ولما وجد أهل مكة إن قطعها لم يلحق أي سوء بقصي، وانه بقي سالما معافى، تجاسروا هم وفعلوا فعله في قطع الشجر.
وذكر العلماء: إن "الحرم"، أي حرم مكة، ما أطاف بمكة من جوانبها، وحد ه من طريق المدينة دون "التنعيم" عند بيوت "بني نفار" على ثلاثة أميال، ومن طريق العراق على ثنية جبل بالمنقطع على سبعة أميال، ومن طريق الجعرانة بشعب "آل عبد الله بن خالد" على تسعة أميال، ومن طريق الطائف على عرفة من بطن "نمرة" على سبعة أميال، ومن طريق "جدة" منقطع العشائر على عشرة أميال.

(1/1877)


--------------------------------------------------------------------------------

والحرم المذكور، هو الأرض الحرام التي كانت مقدسة عند الجاهليين أيضا، وهي مكة وأطرافها إلى حدودها التي اصطلح عليها. وأما الحرم الذي أحاط بالكعبة فقد عرف ب "المسجد" و "بالمسجد الحرام" و ب "الحرم". ولا نعرف حدوده في الجاهلية على وجه واضح معلوم. وقد كان الجاهليون قد وضعوا أنصابا على الحدود ليعلم الناس مكان الحرم، ولم يكن له جدار يحيط به. وذكر انه كان في عهد الرسول وأبي بكر فناء حول الكعبة للطائفين، ولم يكن له على عهدهما جدار يحيط به. فلما استخلف "عمر" وكثر الناس، وسع المسجد، واشترى دورا هدمها وزادها فيه، واتخذ للمسجد جدارا قصيرا دون القامة، وكانت المصابيح توضع عليه. فكان عمر أول من اتخذ جدارا للمسجد. ثم وسع المسجد "عمان" ومن جاء بعده، ثم صار كل من ولي من الخلفاء والسلاطين يزيد في اتساع الحي، حتى صار على ما هو عليه الآن.
ودار الندوة اذن هي دار مشورة في أمور السلم والحرب، ومجلس المدينة التي عرف رؤساؤها كيف يحصلون على الثروة وكيف يستعيضون عن فقر أرضهم بتجارة تدر عليهم أرباحا عظيمة وبخدمة يقدمونها إلى عابدي الأصنام، جاءت اليهم بأموال وافرة من الحجيج. في هذه الدار يجتمع الرؤساء وأعيان البلاد للتشاور في الأمور واليت فيها. وفي هذه الدار أيضا تجري عقود الزواج، وتعقد المعاملات، فهي دار مشورة ودار حكومة في آن واحد، يديرها "الملأ"، وهم مثل اعضاء مجلس شيوخ "اثينا" الذين كانوا يجتمعون في "المجلس" "Ekkiesa" للنظر في الأمور. يمثلون زعماء الأسر، ورؤساء الأحياء، وأصحاب الرأي والمشورة للبت فيما يعرض عليهم من مشكلات.
وقد ذكر بعض أهل الأخبار إن دار الندوة لم يكن يدخلها الا ابن أربعين أو ما زاد، فدلها أبو جهل، وهو ابن ثلاثين لجودة رأيه.، ودخلها غيره للسبب نفسه. فيظهر من ذلك إن المراد من دخول الدار، هو حضورها للاسهام في ابداء رأي وتقديم مشورة.

(1/1878)


--------------------------------------------------------------------------------

ولما كانت سن الأربعين في نظر العرب هي سن النضج والكمال، اخذوا بمبدأ تحديده باعتباره الحد الأصغر لسن من يسمح له بالاشتراك في الاجتماعات وإبداء الرأي، الا اذا وجدوا في رجل اصغر سنا جودة في الرأي، وحدة في الذكاء، فيسمح له عندئذ بالاشتراك وبابداء الرأي بصورة خاصة.
وذكر أيضا، انه لم يكن يدخل دار الندوة احد من قريش لمشورة حتى يبلغ أربعين سنة، إلا حكيم بن حزام، فانه دخلها وهو ابن خمس عشرة سنة. وكان ولد في الكعبة، وذلك إن أمه دخلت الكعبة مع نسوة من قريش وهي حامل به، فضربها المخاض في الكعبة، وأعجلها عن الخروج، فوضعت به بها. وجاء الإسلام ودار الندوة بيد حكيم، فباعها بعد من معاوية بمائة ألف درهم.
فدار الندوة اذن، هي دار "ملأ" مكة. وهم سادتها ووجوهها وأشرافها وأولو الأمر فيها. ولم تكن "برلمانا" أو "مجلس شيوخ" على النحو المفهوم من اللفظتين في المصطلح السياسي. وإنما كانت دار "أولي الشورة" و "الرأي". تتخذ رأيا عند ظهور حاجة أو اخذ "الرأي" وعند وجوب حصول زعماء الملأ على قرار في امر هام. ولم تكن قراراتها ملزمة، بل قد يخالفها سيد ذو رأي ومكانة، فيتفرد برأيه. ولا يحصل الإجماع إلا باتفاق. والغالب ألا يحصل هذا الاتفاق ويتوقف تنفيذ رأي "الملأ" على شخصية المقررين وعلى كفاءتهم وعلى ما يتخذونه من اجراء بحق المخالفين المعاندين من مقاطعة ومن مساومة ومن اقناع. والغالب إن الملأ لا يتخذون رأيا الا بعد دراسة وتفكير، ومفاوضات يراعى فيها جانب المروءة والحلم والمرونة، حتى لا يقع في البلد انشقاق قد يعرض الأمن إلى الاهتزاز.

(1/1879)


--------------------------------------------------------------------------------

وربما قام وجوه "الشعب"، وهم سادة الأسر، بدور هو اكثر فعالية من دور "دار الندوة" في فض الخصومات. والعادة عندهم إن الخصومات الداخلية للاسر، تفض داخل الأسرة، لأن "آل" الأسرة أقدر على حل خلافاتهم من تدخل غيرهم في شؤونهم، ثم انهم لا يقبلون بتدخل غريب عن الأسرة في شأن من شؤون تلك الأسرة.. لذلك كان "،الملأ" لا ينظرون إلا في الأمور التي هي فوق مستوى الأسر و "الشعاب"، والتي تخص أمور الدينة كلها، والتي قد تعرض أمنها إلى الخطر، أو التي يتوقف على قراراتهم بصددها مستقبل المدينة.
والإنسان بمكة بأسرته وبمقدرته وقابلياته وكفاءته. وقد يرفع الأشخاص من مستوى أسرهم، وقد يهبط مستوى الأسر ومكانتها بسبب هبوط مستوى رجالها وعدم ظهور رجال أغنياء أقوياء فيها. ولما كانت مكنة مدينة عمل وتجارة ومال، والمال يتنقل بين الناس حسب اجتهاد الأفراد وجدهم في السعي وراءه، لذلك تجد من بين رجالها من يخمل ذكره بسبب خمول أولاده وتبذيرهم لما ورثوه من مال، وعدم سعيهم لإضافة مال جديد إليه. ويستتبع ذلك تنقل النفوذ من بيت إلى بيت.
فالحكم في مكة أذن حكم لا مركزي، حكم رؤساء وأصحاب جاه ونفوذ ومنزلة تطاع فيها الأحكام، وتنفذ الأوامر، لا لوجود حكومة قوية مركزية مهيمنة لها سلطة على أهل مكة، بل لأن الأحكام. والأوامر هي إحكام ذوي الوجه والسن والرئاسة والشرف، وإحكام هؤلاء مطاعة في عرف أهل مكة وفي عرف غيرهم من أهل جزيرة العرب. حكمت بذلك العادة وجرى عليه العرف، ولا مخالفة للعرف والعادة. فالعرف قانون أهل جزيرة العرب حتى اليوم. وانتهاك إحكامها معناه انتهاك سيادة القانون، وتمرد على الهيأة والنظام، وتحقير الحاكمين وإهانة لهم ولاتباعهم، وليس لأحد الخروج على أوامر سادات القوم وذوي الحسب والشرف والسن والعقل.

(1/1880)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم تكن في مكة حكومة مركزية بالمعنى المفهوم المعروف من الحكومة، فلم يكن فيها ملك له تاج وعرش، ولا رئيس واحد محكمها على انه رئيس جمهورية أو رئيس مدينة، ولا مجلس رئاسة يحكم المدينة حكما مشتركا أو حكما بالتناوب، ولا حاكم مدني عام أو حاكم عسكري. ولم يتحدث أهل الأخبار عن وجود مدير عام فيها واجبه ضبط الامن. أو مدير له سجن يزج فيه الخارجين عن الأنظمة والقوانين أو ما شابه ذلك من وظائف نجدها في الحكومات. وكل أمرها إنها قرية تتألف من شعاب. كل شعب لعشيرة. وأمر كل، شعب لرؤسائه، هم وحدهم أصحاب الحل والعقد والنهي والتأديب فيه. وليس في استطاعة متمرد مخالفة إحكام. وإلا أدبه حيه، وملؤه أي أشرافه. هؤلاء الرؤساء هم الحكام الناصحون وهم عقلاء الشعب.
وقد أشير إلى رؤساء مكة في القران الكريم في آية: )وقالوا: لولا نز ل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم( فرؤساء مكة هم علماؤها وساداتها، وهم أعلى الناس منزلة ودرجة ومكانة فيها. و "عظماء" مكة أو "عظماء الطائف" هم الطبقة "المختارة" والصفوة المتزعمة في الناس. واليها وحدها تكون الزعامة والرئاسة والرجاحة في الرأي.
وقانون القوم ودستورهم: )إنا وجدنا آباءنا على امة وانا على، آثارهم مقتدون(. فهم محافظون حريصون على كل ما وصل إليهم، لا يريدون له تغييرا ولا تبديلا. مهما بدا لهم في الجديد من منطق وحق. "قال) أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم. قالوا انا بما أرسلتم به كافرون( وفي القرآن الكريم آيات أخرى ترينا تمسك نخبة مكة ورجال الملأ بحقوقهم وبما ورثوه من عرف مكنهم من الملأ، وفي تمسكهم بها محافظة على حقوقهم الموروثة وعلى مصالحهم وعلى زعامتهم في الناس.

(1/1881)


--------------------------------------------------------------------------------

فملأ مكة أناس محافظون لا يقبلون تجديدا ولا تطويرا، سنتهم التعلق بالماضي، وكره الثورة والخروج عن العرف والعادة مهما كانت. فالعرف جرى الناس عليه، فلا خروج على العادة والعرف. أما المستهين بالعرف المخالف لسنة الآباء والأجداد، فيعاقب حتى يعود إلى رشد وصوابه. وهم باستماتتهم في التمسك بالماضي كيف كان، وبتطرفهم في المحافظة على العرف، إنما يراعون بذلك حقوقهم الموروثة ومكانتهم الإجماعية ومصالحهم الاقتصادية، فالعرف جعلهم الطبقة الحاكمة بالتقاليد، المحافظة على مصالحها، استنادا إلى العادات. هم يحكمون بهذا القانون الموروث غير المسجل، وعلى الناس الطاعة والانقياد. )واذا قيل لهم اتبعوا ما انزل الله. قالوا: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا. أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون( وقد توارث بنو عبد الدار الندوة، حتى باعها "عكرمة بن عامر بن هاشم ابن عبد مناف بن عبد الدار" من معاوية، فجعلها دار الأمارة بمكة، ثم أدخلت في الحرم. وورد في رواية أخرى إن "حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي الاسلمى" وهو ابن أخي خديجة بنت خويلد، كان هو الذي باعها من معاوية وكانت بيده. باعها بمئة ألف درهم. وكان قد اشتراها من "منصور بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار.
ودار الندوة، هي أول دار بنيت بمكة على حد قول الرواة. وكانت اشهر دار بمكة وانشرها في الناس خبرا. ثم تتابع الناس فبنوا من الدور ما استوطنوه. ويذكر أهل الأخبار: إن مكة لم تكن ذات منازل، وكانت قريش بعد جرهم. والعمالقة ينلجعون جبالها وأوديتها ولا يخرجون من حرمها انتسابا إلى الكعبة لاستيلائهم عليها وتخصصا بالحرم لحلولهم فيه. ولما كان "كعب بن لؤي بن غالب"، جمع قريشا صار يخطب فيها في كل "جمعة"، وكان يوم الجمعة يسمى في الجاهلية "عروبة" فسماه كعب "الجمعة". وبذلك ألف بين قريش حتى جاء "قصي" ففعل ما فعل.

(1/1882)


--------------------------------------------------------------------------------

ولدينا خبر آخر، يذكو انه قد كان حول الحرم شجر ذو شوك، نبت من قديم الزمن وكون غوطة، فقطعها "عبد مناف بن قصي"، وهو أول من بني دارا بمكة، ولم تبن دار، قبلها، بل كان بها مضارب للعرب من الشعر الأسود.
وزعم بعض أهل الأخبار إن أهل مكة كانوا يبنون بيوتهم مدورة تعظيما للكعبة، وأول من بنى بيتا مربعا "حميد بن زهر"، فقالت قريش: "ربع حميد بن زهر بيتا"، إما حياة وإما موتا". و "الربع": المنزل ودار الإقامة والمحلة". وهو أحد "بني أسد بن عبد العزى". وان العرب تسمي كل بيت مربع كعبة، ومنه كعبة نجران. و ذكر أيضا إن "حميد بن زبير ابن الحارث بن أسد بن عبد العزى"، هو اول من خالف سنة قريش وخرج على عرف أهل مكة فبنى بيتا مربعا.وجعل له سقفا. وفي عمله هذا قال الراجز: اليوم يبني لحميد بيته اما حياته واما موته
وورد في رواية أخرى، إن ثاني دار بنيت بمكة بعد دار الندوة، هي "دار العجلة"، وهي دار، سعيد بن سعد بن سهم. وزعم "بنو سهم" إنها بنيت قبل "دار الندوة".
ويظهر من روايات أهل الأخبار عن بيوت مكة إن بيوتها، وهي بيوت أثريائها وساداتها، بيوت كانت مقامة بالحجر، وبها عدد من الغرف، ولها بابان متقابلان باب يدخل منها الداخل وباب تقابلها يخرج منها الخارج، ولعلها بنيت على هذا الوضع ليتمكن النساء من الخروج من الباب الأخرى عند وجود ضيوف في رحبة الدار عند الباب المقابلة. ومعنى هذا إن أمثال هذه الدور كانت واسعة تشرت على زقاقين. ولبعض الدور "حجر" عند باب البيت، يجلس تحته ليستظل به من أشعة الشمس، وكان منزل "خديجة" ذو حجر من هذا الطراز.

(1/1883)


--------------------------------------------------------------------------------

ولو أخذنا بالرواية المتقدمة عن التغيير الذي طرأ على طراز العمارة في مكة، فإن ذلك يحملنا على القول: إنه يجب إن يكون قد حدث، في النصف الثاني من القرن السادس للميلاد. في وقت ليس ببعيد عهد عن أيام النبي. لأننا نجد إن أحد أبنا "حميد"، وهو عبد الله"، كان قد حارب في معركة "أحد".
ويتبن من غربلة روايات الأخباريين المتقدمة عن مدى سعة الحرم وعن زمان بناء الدور بمكة، إن بطن مكة لم يعمر ولم تبن البيوت المستقرة فيه إلا منذ أيام "قصي". أما ما قبل ذلك، فقد كان الناس يسكنون "الظواهر": ظواهر مكة، أي أطرافها وهي مواضع مرتفعة تكون سفوح الجبال والمرتفعات المحيطة بالمدينة. أما باطن مكة، وهو الوادي الذي فيه البيت، فقد كان حرما آمنا، لا بيوت فيه، أو إن بيوته كانت قليلة حصرت بسدنة البيت وبرت كانت له علاقة بخدمته. لذلك نبت فيه الشجر حتى غطى سطح الوادي، من السيول التي كانت تسيل إليه من الجبال. ولم يكن في وسع أحد التطاول على ذلك الشجر، لأنه شجر حرم امن، وبقي هذا شأنه يغطي الوادي ويكسو وجهه بغوطة، حتى جاء "قصي". فتجاسر عليه بقطعه كما ذكرنا. وخاف الناس من فعله، خشية غضب رب البيت، ونزول الأذى بهم إن قطعوه. فلما وجدوا إن الله لم يغضب عليهم، وانه لم ينزل سوءا بهم، اقتفوا أثره، فقطعوا الشجر، واستحوذوا على الأرض الحرام، وظهرت.البيوت فيه، وأخذت تتجه نحو البيت حتى أحاطت به، وصغرت مسجده، ولم يكن له يومئذ جدار. وظلت البيوت تتقرب إليه حتى ضايقته وصغرت فناءه، مما اضطر الخليفة "عمر" ومن جاء بعده إلى هدم البيوت التي لاصقته لتوسيع مسجد، ثم إلى بناء جدار ليحيط به حتى صار على نحو ما هو عليه في هذا اليوم.
ويتبين من خطبة الرسول عام الفتح ويوم دخوله البيت الحرام وقوله: "لا يختلى خلا مكة ولا يعضد شجرها"، إن حرم مكة كان لا يزال ذا شجر. ولم يكن فد قطع تماما منه في أيام الرسول.

(1/1884)


--------------------------------------------------------------------------------

وتذكر بعض الموارد إن قصيا أول من بنى الكعبة بعد. بناء تبع، وكان سمكها قصيرا، فنقضه ورفعها. وإذا صحت الرواية، يكون قصي من بناة الكعبة ومن مجدديها. وذكر انه كان أول من جدد بناء الكعبة من قريش، وانه سقفها بخشب الدوم وجريد النخل. وقد أشير إلى هذا البناء في شعر ينسب إلى الأعشى. وهذه الرواية تناقض بالطبع ما يرويه الأخباريون من إن الكعبة لم تكن مسقفة، وإنها سقفت لأول مرة عندما جدد بناؤها في أيام شباب الرسول. وهو يومئذ ابن خمس وثلاثين سنة.
والظاهر من روايات الأخباريين، إن البيت كان في الأصل بيتا مسقوفا، غير انه أصيب بكوارثعديدة، فتساقط وتساقط سقفه مرارا بسبب السيول، وبسبب حريق أصيب به، فصار من غير سقف في أيام شباب الرسول. حتى إذا ما نقضت. قريش البيت وأعادت بناء سقفته، وزوقت جدره الداخلية والخارجية بالأصنام والصور. وأعادت إليه خزائنه حتى كان يوم الفتح، إذ أمر الرسول بتحطيم الأصنام وبطمس الصور على نحو ما سأتحدث عنه في تأريخ الكعبة وذلك في القسم الخاص بأديان الجاهليين.
وفي روايات أهل الأخبار عن البيت-كما سترى فيما بعد حين أتكلم عنه في هذا القسم الخاص بأديان أهل الجاهلية-غموض وتناقض، يجعل من الصعب تكوين رأي واضح عنه. فبينما هم يقولون إنه كان من غير سقف وان الطيور كانت تقف عليه، وان الأتربة المحملة بالأهوية كانت تتساقط في أرض البيت، نراهم يذكرون انه كان مسقفا، وانه سقف بالخشب في أيام قصي وانه احترق، ثم يقولون إنه كان في داخله أصنام قريش، مع إن الوصف الذي يقدمونه لنا عن الكعبة من إنها "كانت ضمة فوق للقامة فأرادوا رفعها وتسقيفها، وذلك إن نفرا من قريش وغيرهم سرقوا كنز الكعبة، وإنما كان يكون في بئر في جوف الكعبة"، لا يمكن إن يجعل البيت سوى غرفة بسيطة ساذجة من أحجار رصت بعضها فوق بعض.

(1/1885)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي رواية: إن.قصيا هو أول من أظهر "الحجر الأسود"، وكانت "إياد" دفنته في جبال مكة، فرأتهم امرأة حين دفنوه، فلم يزل "قصي" يتلطف بتلك المرأة حتى دلته على مكانه، فأخرجه من الجبل، واستمر عند جماعة من قريش يتوارثون حتى بنت قريش الكعبة فوضعوه بركن البيت، بازاء باب الكعبة في آخر الركن الشرقي.
ويذكر إن قصيا بعد إن تمكن من مكة، حفر بها بئرا سماها "العجول" وهي أول بئر حفرتها قريش. وكانت قريش قبل قصي تشرب من بئر حفرها لؤي بن غالب خارج مكة تدعى "اليسيرة" ومن حياض ومصانع على رؤوس الجبال. ومن بثر حفرها "مرة بن كعب" مما يلي عرفة، تدعى "الروى"، ومن آبار حفرها "كلاب بن مرة"، هي "خم" و "رم" و "الجفر" بطاهر مكة. فكانت "بئر العجول" أول بئر حفرتها قريش في مكة.
وازدادت حاجة أهل مكة، بعد قصي وقد تزايد عددهم إلى الماء، ولم تعد "العجول" تعفي لتموينهم به، فاقتفى، أولاده أثره في حفر الآبار، واعتبروا حفرها منقبة ومحمبدة، لما للماء من أهمية لأهل هذا الوادي الجاف. وقد حازت بئر زمزم على المقام الأول بين آبار مكة فهي بئر البيت وبئر الحجاج تمونهم مما يحتاجون إليه من ماء، وذكر أهل الأخبار إن في جملة ما أحدث قصي في أيامه وصار سنة لأهل الجاهلية، انه أحدث وقود النار بالمزدلفة: حيث وقف بها حتى يراها من دفع من عرفة، فلم تزل توقد تلك النار تلث الليلة في الجاهلية. ويظهر إن قريشا حافظت على هذه السنة أمدا في الإسلام. وكانت تلك النار توقد على عهد رسول الله وأبي يكر وعمر وعثمان.

(1/1886)


--------------------------------------------------------------------------------

ويذكرون أيضا إن في جملة ما أحدثه: "الرفادة"، وهي إطعام الحجاج في أيام موسم الحج حتى يرجعوا إلى بلادهم. وقد فرضها على قريش إذ قال لهم: "يا معشر قريش أنكم جيران الله وأهل مكة وأهل الحرم، وان الحاج ضيف الله وزوار بيته، وهم أحق بالضيافة، فاجعلوا لهم طعاما وشرابا أيام الحج، حتى يصدروا عنكم". ففعلت قريش ذلك، فكانوا يخرجون في كل عام من أموالهم خرجا، في فيدفعونه إلى قصي، لكي يصنعه طعاما للناس أيام منى وبمكة وقد بقيت هذه السنة في الإسلام. وذكر إن "الرفادة شيء كانت تترافد به قريش في الجاهلية، فيستخرج فيما بينها كل إنسان مالا بقدر طاقته وتشتري به للحاج طعاما وزبيبا للنبيذ، فلا يزالون يطعمون الناس حتى تنقضي أيام موسم الحج.
وكانت إلى قصي أيضا: الحجابة، والسقاية واللواء. فحاز شرف قريش كله. وصار رئيسها الوحيد المطاع، الناطق باسمها الأمر وللناهي، إذ. لأ أحد أحكم وأعقل وأحسن إدارة للملك منه.
وذكر إن قيصا أول من أصاب الملك من قريش بعد ولد إسماعيل، وذلك في أيام المنذر بن النعمان ملك الحيرة، وملك الفرس الساسانيين "بهرام جور". وقد كان حكم "بهرام جور" من سنة "420 م" حتى سنة "438 م"، أي في النصف الأول من القرن الخامس للميلاد، وإذا أخذنا برواية من جعل قصيا من المعاصرين لهذا الملك، يكون حكم قصي إذن في النصف الأول من للقرن الخامس للميلاد.

وقد نسب أهل الأخبار إلى قصي أقوالا وأمثالا وحكما وجعلوه غاية في الحكمة والمنطق. وروي "إن أمر قصي عند قريش دينا يعملون به ولا يخالفونه".

(1/1887)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ترك قصي أثرا كبيرا في أهل مكة، وعدوه المؤسس الحقيقي لكيان قريش. وكانوا يذكرون اسمه دائما بخير. وكانوا لا يطيقون سماع أحد يستهين بشأنه. فلما تطاول الشاعر "عبد الله بن الزبعرى"، على ما جاء في بعض الروايات، وتجاوز حده بذكر قصي بسوء في شعر له، كتبه كما يقولون في أستار الكعبة، فضب بنو عبد مناف، واستعدوا عليه "بني سهم"، لأنه كان من "بني سهم"، فأسلموه اليهم، فضبربوه وحلقوا شعره وربطوه إلى صخرة، فاستغاث قومه، فلم يغيثوه، فجعل يمدح قصيا ويسترضيهم، فأطلقه بنو عبد مناف وأكرموه، فمدحهم بأشعار كثيرة.
ولم نعثر في نصوص المسند على اسم رجل يدعى قصيها، وإنما ورد في النصوص النبطية اسم علم لأشخاص. وهذا الاسم هو اسم صنم في الأصل، بدليل ورود عبد قصي. أما حديث الأخباريين عن أصله وفصله، فهو بما لا قيمة له. وقد ابتدعته مخيلتهم على الطريقة المألوفة في اختراع تفاسير لأسباب التسميات. والظاهر إن هذا الاسم من الأسماء التي كان يستعملها العرب النازلون في أعالي الحجاز، وربما في بلاد الشام.
وفي جملة النصوص النبطية التي عثر عليها في "صلخد" اسم رجل عرف ب "روحو بن قصيو" "روح بن قصي"، كما عثر على نص جاء فيه اسم "مليكو بن قصيو." "مالك بن قصي"، وورد اسم "قصيو بن اكلبو"، أي "قصي بن كلاب". وقد تبين من هذه الكتابات إن المذكورين هم من أسرة واحدة، وقد كانوا كهانا أو سدنة لمعبد من معابد "صلخد". فقصي إذن من الأسماء الواردة عند النبط. والغريب أننا نرى بين قصي صلخد وقصي مكة اشتراكا لا في الاسم وحده، بل في المكانة أيضا، فلقصي صلخد مكانة دينية، ولقصي مكة هذه المكانة أيضا في مكة.
ويلاحظ إن الاسم الذي زعم الأخباريون انه اسم قصي الأصلي الذي سمي به يوم ولد بمكة، وهو "زيد"، هو أيضا اسم صنم. فقد نص أهل الأخبار على أن "زيدا" هو صنم من أصنام العرب.

(1/1888)


--------------------------------------------------------------------------------

ويذكر الأخباريون انه كان لقصي أربعة أولاد، ورووا قولا زعموا انه قاله. فقد ذكر:ا انه قال: "ولد لي أربعة، فسميت أثنين بصنمي، وواحدا بداري، ووحدا بنفسي". وكان يقال لعبد مناف: القمر، واسمه المغيرة، وكانت أمه "حبى" دفعته إلى مناف، وكان أعظم أصنام مكة، تدينا بذلك، فغلب عليه عبد مناف. وأولاده هم: "عبد مناف"، واسمه "المغيرة"، وعبد الله، وهو "عبد الدار"، و "عبد العزى"، و "عبد قصي"، و "هند" بنت قصي، تزوجها "عبد الله بن عمار الحضرمي".
ولما مات قصي، دفن بالحجون، وقد كانوا يزورون قبره ويعظمونه. والحجون جبل بأعلى مكة كان أهل مكة يدفنون موتاهم فيه. فعليه مقبرة جاهلية من مقابر مكة القديمة. وقد ذكر في شعر جاهلي.
وقد أنكر بعض المستشرقين وجود "قصي"، وعدوه شخصية خرافية من شخصيات الأساطير، واستدلوا على ذلك بالأقاويل التي رواها ابن الكلبي وابن جريج عنه، وهي ذات طابع قصصي. غير إن هذه المرويات لا يمكن إن تكون دليلا قويا وسندا يستند إليه في إنكار وجود رجل اسمه قصي، وإذا كان ما قيل عنه خرافة، فلن تكون هذه الخرافة سببا لإنكار وجود شخص قيلت عنه.

(1/1889)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ترك "قصي" جملة أولاد هم: عبد العزى وعبد الدار وعبد مناف وعبد بن قصي. وقد تكتل أبناء هؤلاء الأولاد وتحزبوا، ونافسوا بعضهم بعضا، فنافس بنو عبد مناف بني عبد الدار، وكونوا حلفا فيما بينهم كان جماعته وأنصاره بنو أسد وبنو زهرة وبنو تيم والحارث بن فهر. وتراص بنو عبد الدار وجمعوا شملهم وشمل من انضم إليهم، وكونوا جماعة معارضة تألفت من بني مخزوم وبن سهم وبني جمح وبني عدي بن عامر بن لؤي ومحارب. وهم من "قريش الظواهر". وقد عرف حلف "بني عبد مناف" ب "حلف المطيبين" و ب "المطيبون"، وعرف بنو عبد الدار ب "الأحلاف". ولما ظهر الإسلام، كانت هذا النزاع العائلي على رئاسة مكة قائما، وقد تمثل في تنافس الأسر على الرئاسة. اشتهر بعضها بالثراء والغنى، واشتهر بعضها بالوجاهة الدينية أو بالمكانة الاجتماعية.

ويلاحظ إن هذا النزاع لم يكن نزاعا عائليا تماما، قام على النسب إلى الأب والجد بل كمان نزاعا على الرئاسة والسيادة في الغالب، فنجد جماعة من عائلة تنضم إلى العائلة الأخرى المنافسة، وتترك عشيرتها، لأن مصلحتها الخاصة وتخاصمها مع. أحد أقربائها دفعاها على اتخاذ ذلك الموقف.
ولما أسن قصي، جعل لابنه "عبد الدار" على حد رواية أهل الأخبار دار الندوة والحجابة أي حجابة الكعبة، واللواء، فكان يعقد لقريش ألويتهم، والسقاية وهي سقاية الحاج، و "الرفادة"، وهي خرج تخرجه قريش في كل موسم من أموالها إلى قصي ليصنع به طعاما. للحاج يأكله الفقراء، وكان قصي قد قال لقومه: "إنكم جيران الله وأهل بيته، وان الحاج ضيف الله وزوار بيته، وهم أحق الضيف بالكرامة، فاجعلوا لهم شرابا وطعاما أيام الحج، حتى يصدروا عنكم"، ففعلوا، فكانوا يخرجون من أموالهم، فيصنع به الطعام أيام منى، فجرى ذلك من أمره على قومه في الجاهلية، حتى قام الإسلام.

(1/1890)

admin
12-27-2010, 02:07 AM
ويذكر الأخباريون في تعليل إعطاء عبد الدار هذه الامتيازات إن عبد الدار كان ضعيفا، وان عبد مناف شقيقه كان قد ساد في حياة أبيه، وكثر ماله، فأراد قصي بذلك تقويته بهذه الامتيازات.
وقد توارث بنو عبد الدار اللواء، فلا يعقد لقريش لواء الحرب الا هم. وهي وضيفة مهمة جدا، لما للواء من أثر خطير في الحروب والمعارك في تلك الأيام. وهذا كانوا يتدافعون في الذب عن اللواء، حتى لا يسقط على الأرض بسقوط حامله، وسقوطه معناه نكسة معنوية كبيرة تصيب المحاربين تحت ذلك اللواء. ولما أسلم "بنو عبد الدار"، قالوا: يا نبي الله، اللواء إلينا. فقال النبي: الإسلام أوسع من ذلك. فبطل اللواء.
ويذكر الأخباريون إن قصيا لما هلك، قام "عبد مناف بن قصي" على أمر قصي بعده، وأمر قريش إليه، واختط بمكة رباعا بعد الذي كان قصي قطع لقومه.
ويذكر أهل الأخبار إن بني عبد مناف أجمعوا على إن يأخذوا من بني عبد الدار "الرفادة" و "السقاية"، فأبى بنو عبد الدار ترك ما في أيديهم وأصروا على الاحتفاظ به، فتفرقت عند ذلك قريش، فكانت طائفة مع بني عبد الدار، وطائفة مع بني عبد مناف، وتحالف كل قوم مؤكدا، وأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبا، فوضعوها عند الكعبة، وتحالفوا، وجعلوا أيديهم في الطيب، فسموا المطيبين. وتعاقد بنو عبد الدار ومن معهم، وتحالفوا، فسموا الأحلاف، وتعبأوا للقتال، ثم تداعوا إلى الصلح، على إن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة، فرضوا بذلك، وتحاجز الناس عن الحرب، واقترعوا عليها، فصارت لهاشم بن عبد مناف.
وأما الذين كونوا حلف الأحلاف ولعقة الدم، فهم: بنو مخزوم، وبنو جمح، وبنو سهم، وبنو عدي بن كعب.
وقد خرجت من ذلك "بنو عامر بن لؤي" و "بنو محارب بن فهر". فلم يكونوا مع واحد من الفريقين.

(1/1891)


--------------------------------------------------------------------------------

وتذكر بعض الروايات إن "آل عبد مناف" قد كثروا، وقل " "آل عبد الدار"، فأرادوا انتزاع الحجابة من "بني عبد الدار"، فاختلفت في ذلك قريش، فكانت طائفة مع "بني عبد الدار" وطائفة مع "بني عبد مناف"، فأخرجت "أم حكيم البيضاء" توأمة أبي رسول الله، جفنة فيها طيب، فوضعتها في الحجر، فقالت: من كان منا فليدخل يده في هذا الطيب. فأدخلت عبد مناف أيديها، وبنو أسد بن عبد العزى، وبنو زهرة، وبنو تيم، وبنو الحارث بن فهر، فسموا المطيبين. فعمدت بنو سهم بن عمرو، فنحرت جزورا، وقالوا: من كان منا، فليدخل يده في هذه الجزور، فأدخلت أيديها عبد الدار وسهم، وجمح، ومخزوم، وعدي، فسميت الأحلاف. وقام الأسود بن حارثة بن نضلة، فأدخل يده في الدم، ثم لعقها، فلعقت بنو عدي كلها بأيديها، فسموا لعقة الدم.
وتذكر رواية إن "بني عبد مناف" اقترعوا على الرفادة والسقاية فصارتا إلى "هاشم بن عبد مناف"، ثم صارتا بعده إلى "المطلب بن عبد مناف" بوصية، ثم لعبد المطلب، ثم للزبير بن عبد المطلب، ثم لأبي طالب. ولم يكن له مال، فاستدان من أخيه العباس بن عبد المطلب عشرة آلاف درهم، فأنفقها، في لم يتمكن من رد المبلغ تنازل عن الرفادة والسقاية إلى "العباس": وأبرأ أبا طالب مما له عليه.

(1/1892)


--------------------------------------------------------------------------------

وتذكر رواية أخرى، إن هاشما وعبد شمس والمطلب ونوفل بني عبد مناف أجمعوا إن يأخذوا ما بأيدي "بني عبد الدار" مما كان قصي جعل إلى "عبد الدار" من الحجابة واللواء والرفادة والسقاية والندوة، ورأوا أنهم أحق بها منهم، فأبت "بنو عبد الدار"، فعقد كل قوم على أمرهم حلفا مؤكدا على الا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضا. وعرف حلف "بني عبد مناف" بحلف المطيبين وعرف حلف "بني عبد الدار" محلف الأحلاف ولعقة الدم. ثم تداعوا إلى الصلح، على إن تكون الحجابه واللواء ودار الندوة إلى بني عبد الدار، وأن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة. وولى هاشم بن عبد مناف السقاية الرفادة. وتصرح بعض الروايات، إن هاشما هو الذي قام بأمر بني عبد مناف، ثم عامر بن هاشم.
ومعنى هذا إن الحلفين المذكورين: حلف المطيبين وحلف "الأحلاف"، إنما عقدا في حياة "هاشم بن عبد مناف"، أي قبل ميلاد الرسول. وأن. تلف "لعقة الدم" هو نفسه حلف الأحلاف، أو من حلف الأحلاف، عرف بهذه التسمية، لأن "بني عدي بن كعب، الذين حالفوا عبد الدار وانضموا اليهم، اسقوا الدم، فقيل لهم لعقة الدم، تمييزا لهم عن الذين لم يلعقوا الدم، وهم الأحلاف, وذكر إن "بني عبد الدار" و "بني عدي"، أدخلوا جميعا أيديهم في ذلك الدم في الجفنة، فسموا كلهم "لعقة الدم" بذلك.

(1/1893)


--------------------------------------------------------------------------------

ولكننا نصطدم بروايات أخرى، ترجع تأريخ حلف "لعقة الدم" إلى أيام بنيان الكعبة، التي كان قبل المبعث بخمس سنين، وعمر الرسول يومئذ خمس وثلاثون سنة. فهي تذكر إن أهل مكة لما وصلوا إلى موضع الركن اختصموا في وضع الحجر الأسود، حتى تجاوزوا وتحالفوا وتواعدوا على القتال، "فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دماء، ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في الجفنة، فسموا لعقة الدم بذلك"، ثم اتفقوا على إن يجعلوا بينهم حكما، يحكم بينهم فيما هم فيه مختلفون، على إن يكون أول من يدخل من باب المسجد، فكان أول من دخل عليهم رسول الله. فحكم على نحو ما هو معروف.
كما نصطدم بروايات أخرى تذكر إن حلف المطيبين، إنما عرف بذلك، لان خمس قبائل هي: بنو عبد مناف، وبنو أسد، وبنو تيم، وبنو زهرة، وبنو الحارث بن فهر، لما أرادت بنو عبد مناف اخذ ما في أيدي بني عبد الدار من الحجابة والرفادة واللواء والسقاية وأبت بنو عبد الدار تسليمها إياهم اجتمع المذكرون في دار عبد الله بن جدعان، وعقد كل قوم على أمرهم حلفا مؤكدا على التناصر وأن لا يتخاذلوا، ثم اخرج لهم بنو عبد مناف جفنة ثم خلطوا فيها اطيابا وغمدوا أيديهم فيها وتعاقدوا ثم مسحوا الكعبة بأيديهم توكيدا فسموا المطيبين. وتعاقدت بنو عبد الدار وحلفاؤها وهم ست قبائل: عبد الدار وجمح ومخزوم وعدي وكعب وسهم حلفا آخر مؤكدا، فسموا بذلك الأحلاف.
وقيل بل قسم رجل من بني زيد لمكة معتمرا ومعه تجارة اشتراها منه رجل سهمي فأبى إن يقضيه حقه فناداهم من أعلى أبي قيس، فقاموا وتحالفوا على أنصافه، وكان النبي من المطيبين لحضوره فيه، وهو ابن خمس وعشرين سنة وكذلك أبو بكر. وكان عمر أحلافيا لحضوره معهم.

(1/1894)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد وهم بعض أهل الأخبار فجعلوا حلف المطيبين هو حلف الفضول، ويظهر انهم وقعوا في الخطأ من كون الذين دعوا إلى عقد حلف الفضول وشهدوه هم من "المطيبين"، فاشتبه الأمر عليهم، وظنوا إن الحلفين حلف واحد. وقد رد عليهم بعض أهل الأخبار أيضا، اذ ذكروا إن الرسول لم يدرك حلف المطيبين، لأنه كان وقع بين بني عبد مناف، وهم هاشم واخوته ومن انضم اليهم، وبين بني عمهم عبد الدار وأحلافهم، فقيل لهم الأحلاف، قبل إن يولد الرسول.
إما إن الخلفيين قد عقدا في أيام "عبد الله بن جدعان"، فخطأ، فقد اجمع أهل الأخبار على إن بني عبد مناف كانوا يلون الرفادة والسقاية قبل هذا للعهد، وأن "هاشم" كان يليهما في حياته، وأما انهما وقعا في أيام "هاشم" أو في أيام أبنائه، فان ذلك اقرب إلى المنطق، وذلك فيما إذا أخذنا برواية من يقول: إن "قصيا" أوصى بالرفادة والسقاية واللواء والحجابة ودار الندوة إلى ابنه "عبد الدار"، وحرم بذلك ابنه "عبد مناف" من كل شيء، بحجة انه كان غنيا، وجيها وقد ساد في حياة ابيه، فلا حاجة له به إليها، فتأثر هاشم أو ابناوه من ذلك، فاجمعوا على انتزاعها من أيدي "بني عبد الدار" وحدث ما حدث، وتولى هاشم الرفادة والسقاية على النحو المذكور." وهناك رواية أخرى رواها "اليعقوبي"، تفيد إن قصيا كان قد قسم السقاية والرفادة والرئاسة والدار بين ولده. فجعل السقاية والرئاسة لعبد مناف، والدار لعبد الدار، والرفادة لعبد العزى، وحافة الوادي لعبد قصي. واخذ كل ابن ما أعطاه والده له.

(1/1895)


--------------------------------------------------------------------------------

ويتبن من دراسة الروايات المختلفة الواردة عن الحلفين المذكورين، إنهما قد عقدا لأغراض أخرى لا صلة لها بالسقاية والرفادة، وربما كانا قد عقدا قبل أيام هاشم، بسبب نزاع وقع بين بطون قريش على الزعامة، فتحربت تلك البطون وانقسمت على نفسها إلى "مطيبين" و "احلاف"، وربما كان حلف لعقة الدم حلفا آخر عقده "بنو عدي" فيما بين هم، وهم الذين انحازوا إلى الأحلاف، ودخلوا معهم في حلف. خاصة وفي "اليعقوبي" يشير إلى حلف عقده "عبد مناف" بعد وفاة والده "قصي" مع "خزاعة" و "بني عبد مناف ابن كنانة"، عرف بحلف "الأحابيش". وكان مدبر بني كنانة الذي سأل عبد مناف عقد الحلف "عمرو بن هلل بن معيص". مما يشير اذا صح بهذا الخبر إلى إن "بني مناف" أو الذين انضموا إليهم، كما يقول ذلك "اليعقوبي" أرادوا تقوية أنفسهم وتكوين قوة مهابة بتأليف ذلك الحلف. وربما كان هذا الحلف موجها ضد "بني عبد الدار" مما دفع "بني عبد الدار" على جمع صفوفهم وتأليف حلف يهم، للدفاع عن مصالحهم.
واسم هاشم على رواية الأخباريين "عمرو" وهو اكبر أولاد عبد مناف. وإنما قيل له هاشم،لأنه أول من هشم الثريد لقومه بمكة وأطعمه. ذكر إن قومه من قريش، كانت أصابتهم لزبة وقحط، فرحل إلى فلسطين، فاشترى منها الدقيق، فقدم به مكة، فأمر به فخبز له ونحر جزورا، ثم اتخذ لقومه مرقة ثريد بذلك ويذكرون إن شاعرا من الشعراء، هو مطرود بن كعب الخزاعي، أو ابن الزبعرى، ذكر ذلك في شعره حيث قال: عمرو الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف
ويظهر من وصف الأخباريين لهاشم انه كان تاجرا، له تجارة مع بلاد الشام، وأنه جمع ثروة من تجارته هذه، حتى زعموا انه هو أول من سن الرحلتين لقريش: رحلة الشتاء والصيف.

(1/1896)


--------------------------------------------------------------------------------

ويذكر أهل الأخبار إن هاشما كان يحث أهل مكة على إكرام الحجاج وإضافتهم وتقديم كل معونة لهم، لأنم يأتون يعظمون بيت الله، ويزورونه، وهم جيران بيت الله، وقد أكرموا به، وشرفوا بالبيت على سائر العرب، فعليهم تقديم كل معونة لحجاج البيت. وكان يطلب منهم. كمساعدته بإخراج ما يتمكنون من إخراجه من أموالهم يضعونه في دار اندوة، ليخدم به الحجاج، لأنه لا يمكن وحده من إكرامهم وتقديم الطعام من ماله حده إليهم. فكان هاشم يخرج في كل عام مالا كثيرا، وكان قوم من قريش أهل يسار يترافدون. وكان كل إنسان يرسل بمئة مثقال هرقلية، فيجمع هاشم ما يجمع ويطبخ به طعاما للحجاج.
ولشح الماء في مكة، واضطرار الناس إلى جليه من أماكن بعيدة، فعل "هاشم" ما فعله قصي حين حفر بئرا على نحو ما ذكرت، فحفر بئرا عرفت ب "بذر" وهي البئر التي في حق "المقوم بن عبد المطلب" في ظهر دار الطلوب مولاة زيدة بالبطحاء في اصل المستنذر. وحفر بئرا أخرى، وهي البئر التي يقال لها بئر "جبير بن مطعم"، ودخلت في "دار القوارير. فيسر بذلك لمكة الماء، وساعد على اكثاره عندهم.
وأخذ "هاشم" عهدا على نفسه بأن يسقي الحجاج ويكفيهم بالماء، قربة إلى رب "البيت" ما دام حيا. فكان إذا حفر الحج، يأمر بحياض من أدم، فتجعل في موضع "زمزم"، ثم تملا بالماء من الآبار التي بمكة، فيشرب منها الحاج. وكان يطعمهم قبل الروية بيوم بمكة، وبمنى وعرفة، وكان يثرد لهم الخبز واللحم، والخبز والسمن والسويق والتمر، ويحمل لهم الماء، فيستقون بمنى، والماء يومئذ قليل في حياض الأدم إلى إن يصدروا من "منى"، ثم تنقطع الضيافة، ويتفرق الناس إلى بلادهم.
وموضوع السقاية موضوع غامض. فبينما نجد أهل الأخبار يفسرون السقاية باسقاء المحتاجين من الحجاج بالماء مجانا، نجدهم يتحدثون عن السقاية على إنها إسقاء الحجاج من الزبيب المنبوذ بالماء. وذكر إن العباس كان يليها في الجاهلية و الإسلام.

(1/1897)


--------------------------------------------------------------------------------

وتحدث أهل الأخبار عن "سقاية" عرفت ب "سقاية عدى"، زعموا إنها كانت بالمشعرين بين الصفا والمروة، وان مطرود الخزاعي ذكرها حين قال: وما النيل يأتي بالسفين يكف بأجود سيبا من عدكما بن نوفل
وأنبطت بين المشعرين سقاية لحجاج بيت الله أفضل منهل
وذكر إن هذه السقاية، كانت بسقاية اللبن والعسل.
ويظهر من وصف الأخباريين لهاشم انه كان تاجرا، له تجارة مع بلاد الشام. وانه جمع ثروة من تجارته هذه، حتى زعموا انه هو أول من سن الرحلتين لقريش: رحلة الشتاء والصيف. وانه كان صاحب "إيلاف قريش" وذلك إن قريشا كانوا تجارا، ولكن تجارتهم-كما يقول أهل الأخبار-لم تكن تتجاوز مكة، إنما تقدم عليهم الأعاجم بالسلع فيشترونها منهم، ثم يتبايعونها بينهم، ويبيعونها على من حولهم من العرب. فكانوا كذلك حتى ركب هاشم ابن عبد مناف إلى الشام، فكان يذبح كل يوم شاة ة ويصنع جفنة ثريد ويجمع من حوله فيأكلون. وكان هاشم من أجمل الناس وأتمهم، فذكر ذلك لقيصر، فدعا به فلما رآه وكلمه، أعجب به. فكان يبعث إليه في كل يوم، فيدخل عليه ويحادثه، فلما رأى نفسه تمكن عنده، قال له: أيها الملك: إن قومي تجار العرب، فإن رأيت إن تكتب لي كتابا تؤمن تجارتهم فيقدموا عليك بما يستطرف من أدم الحجاز وثيابه، فتباع عندكم، فهو أرخص عليكم. فكتب له كتاب أمان لمن يقدم منهم. فأقبل هاشم بذلك الكتاب، فجعل كلما مر بحي من العرب بطريقه إلى مكة، عقد معهم عقدا على إن تقدم قريش إليهم ما يرضيهم من بضائع وهدايا تؤلف بينهم وبين قريش، فكان الإيلاف. فلما وصل إلى مكة، كان هذا الإيلاف أعظم ما جاء به هاشم إلى قريش. فخرجوا بتجارة عظيمة، وخرج هاشم معهم يجوزهم يوفيهم إيلافهم الذي أخذ من العرب حتى أوردهم الشام، وأحلهم قراها. فكان ذلك بدء إيلاف قريش.

(1/1898)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر إن متجر "هاشم" كان البلاد الشام، ويصل بتجارته إلى "غزة" وناحيتها، وربما توغل نحو الشمال، حتى زعم بعض أهل الأخبار انه كان ربما بلغ "أنقرة" "فيدخل على قيصر فيكرمه ويحبوه". ويجب علينا ألا نتصور دائما إن أي "قيصر" يرد ذكره في أخبار أهل الأخبار، هو قيصر الروم حقا، بل هو أحد عماله في الغالب، وأحد الموظفين الروم في بلاد الشام، وربما كان أحد قادة الحدود. وربما أخذوا اسم "أنقرة" من قصة للشاعر امرؤ القيس، فأدخلوها في قصة "هاشم". فلم تكن "أنقرة"، مقرا للقياصرة إذ ذاك حتى يذهب هاشم إليها ليدخل على قيصر ويزوره فيها، بل كانت "القسطنطينية"، هي عاصمة البيزنطيين.

(1/1899)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد فسر "الجاحظ" "الإيلاف"، انه جعل فرضه هاشم على القبائل. لحماية مكة من الصعاليك ومن المتطاولين، إذ قال: "وقد فسره قوم بغير ذلك. قالوا: إن هاشما جعل على رؤوس القبائل ضرائب يؤدونها إليه ليحمي بها أصل مكة. فإن ذؤبان العرب وصعاليك الأحياء وأصحاب الطوائل، كانوا لا يؤمنون على الحرم، لا سيما وناس من العرب كانوا لا يرون للحرم حرمة ولا للشهر الحرام قدرا. مثل طيء وخثعم وقضاعة وبعض بلحارث بن كعب". فيفهم من ذلك إذن إن الإيلاف، هو نوع من تأليف قلوب سادات القبائل، لصدهم عن التحرش بأهل مكة ومن التعرض بقوافلهم، فألقهم هاشم وصاروا له مثل "المؤلفة قلوبهم" في الإسلام. لا سيما وان بين الإيلاف و "ألف" "ألف بينهم" و "المؤلفة" صلة. وان فيما قاله "الجاحظ" عن "هاشم" من قوله: "وشرك في تجارته رؤساء القبائل من العرب... وجعل لهم معه ربحا"، وبين تأليف القبائل صلة تامة، تجعل تفسير الإيلاف على انه عهود ومواثيق مع سادات القبائل في مقابل إسهامهم بأموالهم وبحمايتهم لقوافل قريش في مقابل ضرائب معينة تدفع لهم، وسهاما من الأرباح تؤدى لهم، مع إعطائهم رؤوس أموالهم وما ربحته في الأسواق هو تفسير منطقي معقول. وبذلك كسبت قريش حياد هذه القبائل ودفاعها عن مصالحها.

(1/1900)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد تعرض "الثعالبي" لموضوع "إيلاف قريش"، فقال: إيلاف قريش: كانت قريش لا تتاجر إلا مع من ورد عليها من مكة في المواسم وبذي المجاز وسوق عكاظ، وفي الأشهر الحرام لا تبرح دارها، ولا تجاوز حرمها، للتحمس في دينهم، والحب لحرمهم، والإلف لبيتهم، ولقيامهم لجميع من دخل مكة بما يصلحهم، وكانوا بواد غير ذي زرع.... فكان أول من خرج إلى الشام ووفد إلى الملوك وأبعد في السفر ومر بالأعداء، وأخذ منهم الإيلاف الذي ذكره إذ هاشم بن عبد مناف، وكانت له رحلتان: رحلة في الشتاء نحو العباهلة من ملوك اليمن ونحو اليكسوم من ملوك الحبشة، ورحلة في الصيف نحو الشام وبلاد الروم. وكا يأخذ الإيلاف من رؤساء القبائل وسادات العشائر لخصلتين: إحداهما إن ذؤبان العرب وصعاليك الأعراب وأصحاب الغارات وطلاب الطوائل كانوا لا يؤمنون على أهل الحرم ولا غيرهم، والخصلة الأخرى إن أناسا من العرب كانوا لا يرون للحرم حرمة، ولا للشهر الحرام قدرا، كبني طيء وخثعم وقضاعة، وسائر العرب يحجون البيت ويدينون بالحرمة له. ومعنى الإيلاف إنما هو شيء كان يجعله هاشم لرؤساء القبائل من الربح، ويحمل لهم متاعا مع متاعه، ويسوق إليهم إبلا مع إبله ليكفيهم مؤنة الأسفار، ويكفي قريشا مؤنة الأعداء، فكان ذلك صلاحا للفريقين، إذ كان المقيم رابحا، والمسافر محفوظا، فأخصبت قريش، وأتاها خير الشام واليمن والحبشة، وحسنت حالها، وطاب عيشها. ولما مات هاشم قام بذلك المطلب، فلما مات المطلب قام بذلك عبد شمس، فلما مات عبد شمس قام به نوفل، وكان أصغرهم".
والى هذا الإيلاف أشر في شعر "مطرود الخزاعي" بقوله: يا أيها الرجل المحول رحله هلا حلت بآل عبد مناف
الآخذين العهد في إيلافهم والراحلين برحلة الإيلاف

(1/1901)


--------------------------------------------------------------------------------

وعمل قريش هذا هو عمل حكيم، بدل وغير أسلوب تجارة مكة، بأن جعل لها قوافل ضخمة تمر بأمن وبسلام في مختلف أنحاء الجزيرة جاءت إليها نتيجة لذلك بأرباح كبيرة، ما كان في إمكانها الحصول عليها، لو بقيت تتاجر وفقا لطريقتها القديمة، من إرسالها قوافل صغيرة للمتاجرة مع مختلف الأسواق، فكانت القافلة منها إذا سلبت، عادت بأفدح الأضرار المادية على صاحبها أو على الأسرة التي أرسلتها، وربما أنزلت الإفلاس والفقر بأصحابها، بينما توسعت القافلة وفقا للطريقة الجديدة بأن ساهم بأموالها كل من أراد المساهمة، من غني أو صعلوك أو متوسط حال، ومن سادات قبائل. وبذلك توسع الربح، وعمت فائدته عددا كبيرا من أهل مكة، فرفع بذلك من مستواها الاجتماعي، كما ضمن لقوافلها الأمن والسلامة، وصير مكة مكانا مقصودا للأعراب.
ويذكر أهل الأخبار أنه كان المطلب وهاشم وعبد شمس، ولد عبد مناف من أمهم: "عاتكة بنت مر"ة السلمية"، و "نوفل" من "واقدة"، قد سادوا بعد أبيهم عبد مناف جميعا، وكان يقال لهم: "المجبرون"، وصار لهم شان وسلطان، فكانوا أول من أخذ لقريش "العصم"، أي "الحبال"، ويراد بها العهود. أخذ لهم هاشم حبلا من سوك الروم وغسان، وأخذ لهم عبد شمس حبلا، من النجاشي الاكبر، فاختلفوا بذلك السبب إلى ارض الحبشة، وأخذ لهم نوفل حبلا من الاكاسرة، فاختلفوا بذلك السبب إلى ارض العراق وأرض فارس، وأخذ لهم المطلب حبلا من ملوك حمير، فاختلفوا بذلك السبب إلى اليمن، فجبرت بهم قريش، فسموا المجبرين. حتى ضرب بهم المثل، فقيل: أقرش من المجبرين. والقرش الجمع والتجارة، والتقرش التجمع، والمجبرون هم الأربعة المذكورون.

(1/1902)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي رواية أخرى إن "المطلب" هو الذي عقد الحلف لقريش من النجاشي في متجرها إلى أرضه. وأن هاشم، هو الذي عقد الحلف لقريش من "هرقل" لأن تختلف إلى الشام آمنة. ولو أخذنا بهذه الرواية وجب إن يكون هاشم قد أدرك، أيام "هرقل" "610-641" "Heracleous I"، وهو أمر غير ممكن. لأن معنى ذلك انه عاش في أيام الرسول وأدرك رسالته. ولا يهم ورود اسم "هرقل" في هذه الرواية، فأهل الأخبار لا يميزون بين ملوك الروم، ويذكرون اسم "هرقل"، لأنه حكم في أيام الرسول وفي أيام الخلفاء الراشدين الأول.
وإذا صحت الرواية، يكون "آل عبد مناف"، قد احتكروا التجارة وصاروا من أعظم تجار مكة. وقد وزعوا التجارة فيما بينهم، وخصوا كل بيت من بيوتهم الكبيرة بالاتجار مع مكان من أمكنة الاتجار المشهورة في ذلك لعهد، وأنهم تمكنوا بهذه السياسة من عقد عقود تجارية ومواثيق مع السلطات الأجنبية التي تاجروا معها لنيل حظوة. عندها، ولتسهيل معاملاتها التجارية، فجنبوا من هذه التجارة أرباحا كبيرة.

(1/1903)


--------------------------------------------------------------------------------

فما كان في استطاعة "قريش" إرسال "غيرها" إلى بلاد الشام أو العراق أو اليمن أو العربية الجنوبية، بغير رضاء وموافقة ساحات القبائل التي تمر قوافل قريش بأرضها:، ورضاء هؤلاء السادات بالنسبة لقريش هو أهم جدا من رضاء حكومات بلاد الشام أو العراق أو اليمن عن مجيء تجار مكة إلى بلادها للاتجار في أسواقها، فما الفائدة من موافقة حكومات تلك البلاد على مجيء تجار مكة للبيع والشراء في أسواقها، إن لم يكن في وسع أولئك التجار تأمين وصول تجارتهم إليها، أو تامين سلامة ما يشترونه من أسواقها لايصاله إلى مكة أو إلى الأسواق الأخرى. هذا كان من أهم ما فعله تجار مكة في هذا الباب، هو عقدهم "حبالا" و "عصما" وعهودا مع رؤساء القبائل، لترضيتهم بدفع جعالات معينة لهم أو تقديم هدايا والطاف مناسبة مغرية لهم، أو اشتراكهم معهم في تجارتهم. يقول الجاحظ في باب "فضل هاشم على عبد شمس"، "وشرك في تجارته رؤساء القبائل من العرب... وجعل لهم معه ربح". وبهذه العقود المتنوعة سيطر تجار قريش على الأعراب، وحافظوا على أموالهم، وحدوا من شره فقراء أبناء البادية إلى الغنائم. وصار في إمكانهم الخروج بكل حرية من مكة ومن الأسواق القريبة منها بتجارتهم نهو الأماكن المذكرة بكل أمن وسلام.
ولما كان البحث في هذا الموضع، هو في تأريخ مكة بصورة عامة، لذلك فسأترك الكلام عن "الإيلاف" إلى الموضع المناسب الخاص به، وهو التجارة والاتجار، وعندئذ سأتكلم عنه بما يتمم هذا الكلام العام.
ويذكر أهل الأخبار إن عبد شمس وهاشما توأمان، وقد وقع بينهما تحاسد، وانتقل هذا التحاسد إلى ولد الاخوين، حتى في الإسلام.

(1/1904)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكروا إن "أمية بن عبد شمس" حسد عمه هاشما، وكان أمية ذا مال، فدعا عمه إلى المنافرة، فرضي عمه بذلك مكرها، على إن يتحاكما إلى الكاهن "الخزاعي"، فنفر هاشما عليه، فأخذ هاشم الإبل التي نافر عليها من أمية، فنحرها وأطعمها من حضره، وخرج أمية إلى الشام، فأقام بها عشر سنين، بحسب حكم الكاهن، وكان هاشم قد نافر على الجلاء عن مكة عشر سنين. فكانت هذه أول عداوة وقعت بين هاشم وأمية.
ويذكر أهل الأخبار إن أمية بن عبد شمس كان من جملة من ذهب من رجال مكة إلى "سيف بن ذي يزن" لتهنئته بانتصار اليمن على الحبش وطردهم لهم. وقد دخل عليه مع وفد مكة في "قصر غمدان". وكان مثل أبي 3 عبد شمس حامل لواء قريش، أي انه كان يحملها في الحرب.
وكان هاشم أول من مات من ولد عبد مناف، مات بغزة فعرفت ب "غزة هاشم"، وكان قد وفد بتجارة إليها فمات بها، ومات عبد شمس بمكة، فقبر بأجياد، ثم مات نوفل بسلمان من طريق العراق، ثم مات المطلب بردمان من ارض اليمن. ويتبين من ذلك إن جميع هؤلاء الاخوة، ما خلا عبد شمس، ماتوا في ارض غريبة، ماتوا تجارا في تلك الديار.
وورد في رواية أخرى، إن هاشما خرج هو وعبد شمس إلى الشام، فماتا جميعا بغزة في عام واحد. وبقي مالهما إلى إن جاء الإسلام، وأجياد جبل مكة على رأي، وموضع مرتفع في الذرا غربي "الصفا" كما ورد ذلك في شعر للأعشى. ذكر إن "مضاضا" ضرب في ذلك الموضع اجياد مائة رجل من العمالقة، فسمي الموضع بذلك "اجياد".

(1/1905)


--------------------------------------------------------------------------------

ويذكر الأخباريون: إن هاشما كان قد خرج في عير لقريش فيها تجارات، وكان طريقهم على المدينة، فنزلوا ب "سوق النبط"، فصادفوا سوقا مقامة، فباعوا واشتروا، ونظروا إلى امرأة على موضع مشرف من السوق تأمر بما يشترى ويباع لها. وهي حازمة جلدة مع جمال، فسأل هاشم عنها: أ أيم هي، أم ذات زوج? فقيل له" أيم، كانت لا تنكح الرجال لشرفها في قومها حتى يشترطوا لها إن أمرها بيدها" فاذا كرهت رجلا، فارقته، وهي "سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنيم بن عدي بن النجار"، وهو "تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج".، فخطبها فزوجته نفسها، ودخل بها، وصنع طعاما، دعا إليه من كان معه من أهل مكة، ودعا من الخزرج رجالا. وأقام بأصحابه اياما، وعلقت "سلس" بعبد المطلب. وكانت "سلمى"، قد تزوجت من "أحيحة بن الجلاح بن الحريش بن جحجبا الأوسي"، وهو من المعروفين في قومه كذلك.
ويذكر أهل الأخبار، إن عمر هاشم لما توفي، كان عشرون سنة، ويقال خمسا وعشرين. وهو عمر قصير إذا قيس بما يذكره أهل الأخبار ويوردونه عنه من اتجار وأعمال، أعمال لا تتناسب مع تلك السن.
ومن سادات مكة في هذه الأيام "قيس بن عدي بن سهم" من بني هصيص ابن كعب"، قد تكاثروا بمكة، حتى كادوا يعدلون بعبد مناف. وهو الذي منع "عدي بن كعب" و "زهرة بن كلاب" من "بني عبد مناف"، ومنع "بني عدي" أيضا، من "بني جمح". وكان "عبد المطلب بن هاشم" ينفر ابنه "عبد المطلب"، وهو صغير، ويقول: كأنه في العز قيس بن عدي في دار قيس ينتدى أهل الندى
مما يدل إن صح إن هذا الشعر هو من شعر "عبد المطلب" حقا، على إن "عديا" كان اعز رجال قريش في أيامه، حتى ضربوا به المثل في العز. وأنه كان سيد قومه" بنو سهم بن هصيص بن كعب.

(1/1906)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن ولد هاشم "عبد المطلب"، وأمه من أهل يثرب من بني التجار فهي خزرجية تدعى "سلمى بنت عمرو بن زيد" على نحو ما ذكرت قبل قليل. تزوجها هاشم في أثناء رحلة من رحلاته التي كان يقوم بها إلى الشام للاتجار.
ولما مات هاشم بغزة ولدت سلمى "عبد المطلب"، ومكث عند أخواله سبع سنين، ثم عاد إلى قومه بمكة، عاد به عمه "المطلب". ولما كبر تولى السقاية والرفادة وتزعم قومه.
ويذكر أهل الأخبار، إن هاشما كان قد أوصى إلى أخيه "المطلب"، فبنو هاشم وبنو المطلب يد واحدة. وبنو عبد شمس وبنو نوفل يد. ومعنى هذا إن نزاعا كان قد وقع بين أبناء هاشم وأبناء إخوته، جعلهم ينقسمون إلى فرقتين.
ويذكر أهل الأخبار إن اسم عبد المطلب، هو "شيبة". وقد عرف بن الناس بعبد المطلب، لان عمه "المطلب" لما حمله من يثرب إلى مكة، كان يقول للناس، هذا عبدي، أو عبد لي، فسمي من ثم بعبد المطلب، وشاعت بين قومه أهل مكة حتى طغت على اسمه. وقيل انه عرف بين أهل مكة ب "شيبة الحمد" لكثرة حمد الناس له، وكان يقال له "الفياض" لجودة، و "مطعم طير السماء" و "مطعم الطير" لأنه كان يرفع من مائدته للطير والوحوش في رؤوس الجبال.
وقد كان "المطلب." عم "عبد المطلب" مثل سائر أفراد أسرته وأهل مكة تاجرا، فخرج إلى أرض اليمن تاجرا، فهلك ب "ردمان" من اليمن.
وهم يروون انه كان مفزع قريش في النوائب، وملجأهم في الأمور، وانه كان من حلماء قريش وحكمائها، وممن حرم الخمر على نفسه، وهو أول من تحنث بغار حراء. والتحنث التعبد الليالي ذوات للعدد. وكان إذا دخل شهر رمضان، صعده وأطعم المساكين، وكان صعوده للتخلي من الناس، ليتفكر في جلال الله وعظمته. وكان يعظم الظلم بمكة، ويكثر للطواف بالبيت.

(1/1907)

admin
12-27-2010, 02:08 AM
وذكر انه كان يأمر أولاده بترك الظلم والبغي، ويحثهم على مكارم الأخلاق، وينهاهم عن دنيات الأمور. وكان يقول" لن. يخرج من الدنيا ظلوم حتى ينتقم الله منه، وان وراء هذه الدار، دارا يجزى فيها المحسن بإحسانه، ويعاقب المسيء بإساءته. ورفض في آخر عمره عبادة الأصنام، ووحد الله. وروي" انه وضع سننا جاء القرآن بأكثرها، وجاءت السنة بها. منها" الوفاء بالنذر، وتحريم الخمر والزنا، وان لا يطوف بالبيت عريان. وذكر انه كان أول من سن دية النفس مئة من الإبل، وكانت الدية قبل ذلك عشرا من الإبل، فجرت في قريش والعرب مئة من الإبل. وأقرها رسول الله على ما كانت عليه.
ويذكرون إن قريشا كانت إذا أصابها قحط شديد، تأخذ بيد عبد المطلب، فتخرج به إلى جبل ثببر، تستسقي المطر.
وقد وقع خلاف بين عبد المطلب وعمه "نوفل"، كان سببه إن نوفل بن عبد مناف، وكان آخر من بقي من بني عبد مناف، ظلم عبد المطلب على أركاح له، وهي الساحات، فلما أصر نوفل على انكاره حق عبد المطلب، تدخل عقلاء قريش في الأمر على رواية أهل مكة، أو أخوال عبد المطلب، وهم من أهل يثرب. فأكره "نوفل" على إنصاف عبد المطلب حتى عاد إليه حقه.
ومن أهم أعمال "عبد المطلب" الخالدة إلى اليوم "بثر زمزم" في المسجد الحرام، على مقربة من البيت. وهي بئر يذكرون إنها بثر إسماعيل، وان جرهما دفنتها، وإنها تقع بين أساف ونائلة في موضع كانت قريش تنحر فيه. فلما حفرها "عبد المطلب"، أقبل عليها الحجاج وتركوا سائر الآبار.

(1/1908)


--------------------------------------------------------------------------------

ويذكر أهل الأخيار إن عبد المطلب لما كشف عن بئر زمزم، وجد فيها دفائن، من ذلك غرالان من ذهب، كانت جرهم دفنتهما، وأسياف قلعية، وأدراع سوابغ، فجعل الأسياف بابا للكعبة، وضرب في الباب أحد الغزالين صفائح من ذهب، وجعل المفتاح والقفل من ذهب فكان أول ذهب حليته الكعبة. وجعل الغزال الأخر في الجب الذي كان في الكعبة أمام هبل. وذكر إن قريشا أرادت منعه من الحفر، ولكنه أصر على إن يحفر حتى يصل إلى موضع الماء، وذلك بسبب رؤيا رآها، عينت له المكان، وأوحت إليه انه موضع بئر قديمة طمرت وعليه إعادة حفرها.
ويذكر الأخباريون، إن عبد المطلب، لما حلى بالمال الذي خرج من بئر زمزم الكعبة، جعله صفائح من ذهب على باب الكعبة. فكان أول ذهب حليته الكعبة. وتذكر بعض الروايات، إن ثلاثة نفر من قريش عدوا على هذا الذهب وسرقوه. وتذكر رواياتهم انه ضرب الأسياف التي عثر عليها في البئر بابا للكعبة، وضرب بالباب الغزالين من ذهب.
ويظهر من وصف أهل الأخبار لما فعله "عبد المطلب" جمن ضرب الغزالين صفائح في وجه الكعبة، ومن جعل المفتاح والقفل من ذهب، أو من ضرب أحد الغزالين صفائح على الباب، وجعل الغزال الآخر في الجب الذي كان أمام "هبل" أي الغبغب، إن الكعبة لم تكن على نحو ما يصفها أهل الأخبار من البساطة والسذاجة، بغير سقف وذات جدر ضمة بقدر قامة إنسان. إذ لا يعقل إن يضرب وجه باب الكعبة بالذهب وتوضع في داخلها تلك النفائس وهي على تلك الحالة، للهم إلا اذا شككنا قي أمر هذه الروايات وذهبنا إلى إنها من نوع القصص الذي وضعه أهل الأخبار.

(1/1909)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد طغى ماء "بئر زمزم، على مياه آبار مكة الأخرى. فهو أولا ماء مقدس، لأنه في أرض مقدسة، وفي المسجد الحرام، ثم هو أغزر وأكر كمية من مياه الآبار الأخرى، وهو لا ينضب مهما استقى أصحاب الدلاء منه، ثم انه ألطف مذاقا من مياه آبار مكة الأخرى. وقد استفاد "عبد المطلب" من هذه البئر، ماديا وأدبيا، وصارت ملكا خالصة له، على الرغم من محاولات زعماء مكة والمنافسين له مساهمتهم له في حق هذه البئر، لأنها في أرض الحرم، والحرم حرم الله، وهو مشاع بين كل أهل مكة. وصار يسقي الحجاج من هذه البئر، وترك السقي من حياض الأدم التي كانت بمكة عند موضع بئر زمزم، وصار يحمل الماء من زمزم إلى عرفة فيسقي الحاج.
وكان أبناء "قصي" قبل حفر بئر "زمزم" يأتون بالماء من خارج مكة-كما يقول أهل الأخبار-ثم يملأون بها حياضا من أدم ويسقون الحجاج، جروا بذلك على سنة "قصي"، فلما حفرت بئر زمزم، تركوا السقي بالحياض من المياه المستوردة من خارج مكة، وأخذوا يسقونهم من ماء زمزم.
وقد كان عبد المطلب يزور اليمن بين الحين والحين، فكان إذا وردها نزل على عظيم من عظماء حمير. ويذكر أهل الأخبار إن أحد هؤلاء علم عبد المطلب صبغ الشعر، وذلك بأن أمر يه فخضب بحناء، ثم علي بالوسمة، وصار يصبغ شعره بمكة، وخضب أهل مكة بالسواد. ويذكر أهل الأخبار أيضا انه اتصل بملوك اليمن، وأخذ منهم إيلافا لقومه، بالاتجار مع اليمن. وكانت قريش تنظم عيرا إلى اليمن في كل سنة.

(1/1910)


--------------------------------------------------------------------------------

وبذكر "المسعودي" إن "معد يكرب" حينما ولي الملك باليمن، أتته الوفود لتهنئه بالملك. وكان فيمن وفد عليه من زعماء العرب، "عبد المطلب"، و "خويلد بن أسد بن عبد العزى" وجد أمية بن أبي الصلت، وقيل" أبو الصلت أبوه. فدخلوا عليه في قصره بمدينة صنعاء" قصر غمدان. ويذكر له، كلاما قاله عبد المطلب له، وجواب "معد يكرب" عليه. ويذكر أيضا إن "عبد المطبب" كان فيمن وفد على "سيف بن ذي يزن" ليهنئه بطرد الحبش.
ولم يكن عبد المطلب أغنى رجل في قريش، ولم يكن سيد مكة الوحيد المطاع كما كان قصي، إذ. كان في مكة رجال كانوا أكثر منه مالا وسلطانا. إنما كان وجيه قومه، لأنه كان يتولى السقاية والرفادة وبئر زمزم، فهي وجاهة ذات صلة بالبيت. وقد تكون صلته هذه، هي التي جعلته يذهب أبرهة لمحادثته في شؤون مكة والبيت.
ويروي أهل الأخبار إن عبد المطلب كان قد نذر: لئن أكمل الله له عشرة ذكور حتى يراهم ان يذبح أحدهم. فلما تكاملوا عشرة، هم بذبح أحدهم، فضرب بالقداح فخرج القداح كل عبد الله، ولكن القوم منعوه، ثم أشاروا عليه بان يرضي الله بنحر إبل فدية عنه، وكان كما ضرب القداح بخرج على عبد الله حتى يلبغ العدد مئة فخرج على الإبل. فنحرها بين الصفا والمروة. وخلى بينها وبين كل من يريد لحمها من إنسي أو أسبع أو طائر، لا يذب عنها أحدا، ولم يأكل منها هو ولا أحد من ولده شيئا. وكان نحر الإبل قبل الفيل بخمس سنين. إذن فيكون ذلك حوالي سنة "565" للميلاد.
وكان لعبد المطلب ماء بالطائف، يقال له "ذو الهرم" وكان في أيدي ثقيف ردحا، ثم طلبه عبد المطلب منهم، فأبوا عليه. وكان صاحب أمر ثقيف" "جندب بن الحارث" فأبى عليه وخاصمه فيه، فدعاهما ذلك إلى المنافرة إلى الكاهن "العذري"، وكان يقال له" "عزى سلمة"، وكان ببلاد الشام، وتنافرا على إبل، وأتيا الكاهن، فنفر عبد المطلب عليه، فاخذ عبد المطلب الإبل فنحرها.

(1/1911)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد نادم "عبد المطلب" على عادة أهل مكة جماعة من أقرانه، لقد كانت عادتهم إن يجتمعوا مساء فيتحادثوا أو يشربوا ويأكلوا أو يستمعوا إلى غناء، حتى يحل وقت النوم، وكان ممن نادمهم عبد المطلب "حرب بن أمية"، ثم اختلف معه، ونافره عند "نفيل بن عبد العزى" جد "عمر بن الخطاب"، فنفره على "حرب"، فافترقا. وكان سبب افتراقه عنه، إغلاظ "حرب" القول على يهودي كان جوار عبد المطلب. وتذكر رواية أخرى إن عبد المطلب و "حرب"، تنافرا أولا إلى النجاشي الحبشي، ولكنه أبى إن ينفر بينهما، فذهبا إلى نفيل. وأن "حرب بن أمية" غضب حين نفر عبد المطلب عليه، وقال له: إن من انتكاس الزمان إن جعلناك حكما، وصار نديما لعبد الله ابن جدعان.
وذكر "ابن الأثير" إن سبب افتراق "عبد المطلب" عن "حرب"، كان بسبب جار عبد المطلب اليهودي، واسمه "أذينة"، وكان تاجرا وله مال كثير، فغاظ ذلك "حرب بن أمية"، فأغرى به فتيانا من قريش ليقتلوه ويأخذوا ماله. فقتله "عامر بن عبد مناف" و "صخر بن عمرو بن كعب التيمي"، فلم يعرف عبد المطلب قاتله، فلم يزل يبحث حتى عرفهما، وإذا ما قد استجارا بحرب بن أمية، فأتى حربا ولامه وطلبهما منه، فأخفاهما، فتغالظا في القول حتى تنافرا إلى النجاشي ملك الحبشة، فلم يدخل بينهما، وذهبا إلى نفيل. وترك عبد المطلب منادمة حرب، ونادم عبد الله بن جدعان، وأخذ من حرب مئة ناقة، فدفعها إلى ابن عم اليهودي، وارتجع ماله، إلا شيئا هلك، فغرمه من ماله.

(1/1912)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد صاهر عبد المطلب، رجال من أسر معروفة بمكة، فصاهره "كريز ابن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس"، وكانت عنده "أم حكيم"، وهي "البيضاء بنت عبد للطلب". وصاهره "أبو أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم"، وكانت عنده "عاتكة بنت عبد المطلب"، و "عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم"، وكانت عنده "برة بنت عبد المطلب". وناسبه "أبو رهم بن عبد العزى بن أبي قيس بن عبد ود بن نصر بن مالك ابن حسل بن عامر بن لؤي"، خلف على "برة" بعد عبد الأسد. وصاهره "جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن. دودان بن أسد بن خزيمة"، وكانت عنده "اميمة بنت عبد المطلب"، و "العوام ابن خويلد بن أسد بن عبد العزى"، خلف على "صفية بعد عمير بن وهب". ويذكر إن "عبد المطلب"، كان يفرش له في ظل الكعبة، ويجلس بنوه حول فراشه إلى خروجه، فإذا خرج، قاموا على رأسه مع ****ه، إجلالا له. وكانت عادة سادة مكة تمضية أوقاتهم في مسجد الكعبة، حيث يجلسون في ظل الكعبة أو في فنائها يتحدثون ويتسامرون، ثم يذهبون إلى بيوتهم.
وفي أيام عبد المطلب كانت حملة "أبرهة" على مكة. وقد أرخت قريش بوقوعها، وصيرت الحملة مبدءا لتأريخ، لأهميتها بالنسبة لمكة. وقد تركت أثرا كبيرا في نفوس قريش، بدليل تذكير القرآن لهم بما حل ب "أصحاب الفيل"، على نحو ما تحدثت عنه في الأجزاء المتقدمة من هذا الكتاب.

(1/1913)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد رأينا إن "عبد المطلب" وقد أشار على قومه بالتحرز بشعاب الجبال، ويترك البيت وشأنه لأن للبيت ربا يحميه، وبعدم التحرش بالحبش وتركهم وشأنهم. والظاهر انه وجد إن عدد الأحباش كان كبيرا وان من غير الممكن مقاومتهم.والذب عن مكة في الوادي. ثم إنها حرم آمن، لا يجوز القتال فيه، وليس فيها حصون وآطام يتحصن بها، لهذا رأى الرحيل عن الوادي والاحتماء برؤوس الجبال، والأشراف منها على الدروب والطرق، فذلك انفع وأحمى للمال وللنفس. ثم إن من الممكن مباغتة الحبش منها ومهاجمتهم وإنزال خسائر بهم حين يشاؤون ويقررون، على حين تكون القوة والمنعة في ايدي الأحباش لو حصروا أنفسهم بمكة، اذ يكونون في منخفض بينما العدو على شرف يشرف عليهم، وليس في إمكانهم مقاومته، وليس لهم حصون ولا مواضع دفاع. فتكون الغلبة لأبرهة حتما، وقد نجحت فكرة عبد المطلب، ولم يصب أهل مكة بسوء.
وقد كان من عادة أهل مكة، انهم إذا داهمهم الخطر توقلوا الجبال واعتصموا بها، ولما حاصرهم الرسول عام الفتح، هرب أكثرهم واعتصموا برؤوس الجبال، إذ ليس في إمكانهم الحرب والصمود في البطحاء.
ومات "عبد المطلب" بعد إن جاوز الثمانين. مات في ملك "هرمز بن أنو شروان"، وعلى الحيرة قابوس بن المنذر، أخو "عمرو بن المنذر" على رواية، وعمر الرسول ثمان سنين. ومعنى ذلك انه توفي في حوالي السنة "578" للميلاد. ولما حمل على سريره، جزت نساء "بني عبد مناف" شعورهن، وشق بعض الأولاد قمصانهم، حزنا على وفاته. ودفن بالحجون. وذكر انه لم يقم بمكة سوق أياما كثيرة لوفاة عبد المطلب.
وذكر إن عبد المطلب كان أول، من تحنث بحراء، وكان إذا أهل هلال شهر رمضان، دخل بحراء فلم يخرج حتى ينسلخ الشهر، ويطعم المساكين. وكان يعظم الظلم بمكة ويكثر الطواف بالبيت.

(1/1914)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن ولد عبد المطلب" عبد الله وهو والد الرسول، وأبو طالب، واسمه عبد مناف، والزبير، وعبد الكعبة، وعاتكة، وبرة وأميمة. وعدة ولده اثنا عشر رجلا وست نسوة.
ولم يكن ولد عبد المطلب من رجال مكة الأثرياء، وكل ما كان عندهم ثراء روحي، استمدوه من اسم "قصي" وهاشم. فكانوا من وجهاء مكة من هذه الناحية. إما من ناحية المادة والمال، فلم يكونوا من السباقين فيه. لقعد كانوا وسطا، وربما كانوا دون أوساط تجار مكة. مات "عبد الله"، ولم يخلف لأهله شيئا، ومات أبو طالب، وحالته المالية ليست على ما يرام. لقد تهانوا تجارا يخرجون بتجارتهم على عادة فيهم إلى بلاد الشام، أو إلى اليمن فيبيعون ويشترون، ولكنهم على ما يبدو من الأخبار لم يتمكنوا من جمع ثروة تغنيهم وتجعلهم من أغنياء مكة. وقد توفي "عبد الله" وهو في طريقه من. "غزة" إلى مكة، وكان قد اقبل بتجارة له، فنزل بالمدينة وهو مريض، وتوفي هناك، وأن "عبد المطلب" بعث إليه "الزبير بن عبد المطلب" أخاه، ودفن في دار النابغة. وأنه ترك عند وفاته "أم أيمن"، حاضنة الرسول، وكان يسميها" "أمي"، فأعتقها وخمسة أجمال أوارك، وقطعة غنم، وسيفا مأثورا، وورقا.
وخرج "أبو طالب" بتجارة له في "عير قريش" ولكنه لم يتمكن من كسب شيء يربحه ويسعده من كل تجاراته. وآية ذلك إن الرسول اخذ منه ابنه "عليا"، ليشف عنه مشقة الأنفاق. على ولده، وأخذ "العباس" "جعفرا" منه لينفق عليه. ووضع مثل هذا لا يدل على يسر. وكانت له مع فقره هذا وجاهة عند أهله وقومه. قيل: "لم يسد من قريش ممق إلا عتبة وأبو طالب، فانهما سادا بغير مال". وقال "علي" في والده" "أبي ساد فقيرا وما ساد فقير غيره". وذكر إن عياله كانوا في ضيقة وخدة. لا يكادون يشبعون لقلة ما عندهم.

(1/1915)


--------------------------------------------------------------------------------

وعتبة بن ربيعة، هو أبو هند زوج "أبي سفيان"، وهي أم معاوية. ويذكر أهل الأخبار أيضا" "ساد عتبة بن أبي ربيعة وأبو طالب، وكانا أفلس من أبي المزلق. وهو رجل من بني عبد شمس، لم يكن يجد مؤنة ليلته، وكذا أبوه وجده وجد جده كلهم يعرفون بالافلاس".
ويظهر إن "عبد شمس" و "نوفل" و "مخزوم"، كانوا قد تمكنوا من منافسة "عبد المطلب" و "آل هاشم" على التجارة، ومن انتزاع نجارة بلاد الشام منهم، ومن مزاحمتهم في الاتجار مع اليمن والعراق، حتى حصلوا على ثراء طائل، صيرهم من أغنى رجال مكة، وجعل لهم التفوق على البلد، حتى صار رجال من "بني مخزوم" من أغنى رجال مكة. وكذلك رجال من "عبد شمس".
وتعد "أيام الفجار" من الحوادث المؤثرة في تأريخ مكة. وهي أفجرة. وإنما سميت بذلك لأنها كانت في الأشهر الحرم، ومن أهمها "فجار البراض"، نسبت إلى "البراض بن قيس" الذي قتل "عروة الرحال" "عروة بن عتبة الرحال"، اذ جانب "قدك" بأرض يقال لها "أوارة"، فأهاج مقتله الحرب بين "قريش" ومن معها من "كنانة" وبين "قيس عيلان"، وكانت الدبرة على "قيس". وذكر في رواية أخرى، إن الفجارات الأربعة" فجار الرجل، أو فجار بدر بن معشر الغفاري، وهو الفجار الأول، وفجار القرد، وفجار المرأة، والفجار الرابع هو فجار البراض. وان يوم "البراض" أو يوم نخلة، هو أعظم أيام الفجار، وكان البراض قد قدم باللطيمة إلى مكة، فأكلها، وهي لطيمة "النعمان بن المنذر"، التي وضع "النعمان" زمامها بيد "عروة بن عتبة الرحال"، وكان سمي الرحال لرحلته إلى الملوك. فكان ذلك مما الحرب. وقد رأس قريش: حرب بن أمية، وكان موضعه في القلب، وعبد الله ابن جدعان في إحدى المجنبتين، وهشام بن المغيرة في الأخرى، فالتقوا ب "نخلة"، فاقتتلوا حتى دخلت قريش الحرم، وجن عليهم الليل. فكان اليوم لهوازن.
وذكر إن هذا اليوم قد وقع بعد عشرين سنة من عام الفيل. وقد شهد الرسول وعمره عشرون سنة.

(1/1916)


--------------------------------------------------------------------------------

ثم إن قريشا وبني كنانة لقوا هوازن بشمطة. وعلى بني هاشم" الزبير بن عبد المطلب، وعلى بني عبد شمس وأحلافها" حرب بن أمية، وعلى بني عبد الدار وحلفائها" عكرمة بن هاشم، وعلى بني أسد بن عبد العزى" خويلد بن أسد، وعلى بني زهرة" مخرمة بن نوفل، وعلى بني تيم: عبد الله بن جدعان، وعلى بني مخزوم: هاشم بن المغيرة، وعلى بني سهم: العاص بن وائل، وعلى بني جمح: أمية بن خلف، وعلى بني عدي: زيد بن عمرو بن نفيل، وعلى بني عامر بن لؤي: عمرو بن شمس، وعلى بني فهر: عبد الله بن الجراح، وعلى بني بكر: بلعاء بن قيس، وعلى الأحابيش: الحليس الكناني، فالتقوا أول النهار على هوازن، فصبروا. ثم استحر القتل في قريش، وانهزم الناس.

(1/1917)


--------------------------------------------------------------------------------

وروي إن "البراض بن قيس" لقي "بشر بن أبي خازم" الأسدي الشاعر، فأخبره الخبر، وأمر إن يعلم ذلك "عبد الله بن جدعان" و "هشام ابن المغيرة"، و "حرب بن أمية" و "نوفل بن معاوية الديلي" و "بلعاء ابن قيس"، فوافى "عكاظا"، فأخبرهم فخرجوا إلى الحرم، وبلغ "قيسا" الخبر، فخرجوا في آثارهم فأدركوهم وقد دخلوا الحرم، ولم تقم في تلك السنة "عكاظ". ومكثت "قريش" وغيرها من "كنانة" و "أسد" بن خزيمة ومن لحق بهم من الأحابيش، وهم الحارث بن عبد مناة وعضل والقارة وديش والمصطلق من خزاعة لحلفهم بالحارث بن عبد مناة، سنة يتأهبون للحرب، لإنذار "قيس" لها. وتأهبت "قيس عملان" وسارت على "قريش"، وكان فيها "أبو براء عامر بن مالك بن جعفر"، و "سبيع بن ربيعة بن معاوية النصري" و "دريد بن الصعمة"، و "مسعود بن معتب الثقفي" و "أبو عروة بن مسعود" و "عوف بن أبي حارثة المري" و "عباس بن رعل السلمي". واستعدت "قريش". ورؤساؤها "عبد الله بن جدعان"، و "هشام ابن المغيرة"، و "حرب بن أمية" و "أبو أحيحية سعيد بن العاص"، و "عتبة بن ربيعة"، و "العاص بن وائل"، و "معمر بن حبيب الجمحي"، و "عكرمة بن هاشم"، وخرجوا متساندين. ويقال بل أمرهم إلى عبد الله بن جدعان. فالتقوا فكانت الدبرة أول النهار لقيس على قريش وكنانة ومن ضوى إليهم، ثم صارت الدبرة آخر النهر لقريش وكنانة على قيس، فقتلوهم قتلا ذريعا. فاصطلحوا على إن عدوا القتلى، وودت قريش لقيس ما قتلت فضلا عن قتلاهم، وانتهت الحرب. وقد شهد الرسول هذه الفجار، ورمى فيها بسهم، فكان يوم حضر ابن عشرين سنة، وكان الفجار بعد الفيل بعشرين سنة.

(1/1918)


--------------------------------------------------------------------------------

وأغلب حروب الفجار معارك ومناوشات، ولم تكن حروبا بالمعنى المفهوم من كلمة "حرب". إما أهميتها وسبب اشتهارها فلوقوعها في شهور حرم ولخروج المتحاربين فيها على سنة قريش ودينهم في تحريم القتال في هذه الشهور. ولهذا السبب حفظ ذكرها وجاء خبرها في كتب أهل الأخبار. وقد كان النصر فيها على كنانة وقريش في الغالب. وهو شيء مفهوم معقول. فقد كانت "قيس عيلان" كما كانت "هوازن" قبائل محاربة تعيش على الغزو والقتال، بينما كانت "قريش قبيلة مستقرة اتخذت التجارة لها رزقا، كما عاشت على الأرباح التي تجنيها من مجيء الأعراب إليها في مواسم الحج أو أيام العمرة ومن الامتيار من أسواقها. وقوم هذا شأنهم في حياتهم وفي تعاملهم لا يمكن إن يميلوا إلى الغزو والقتال، بل كانوا يحبون حياة السلم والاستقرار، يشترون السلم ولو عن طريق ترضية الأعراب بتقديم الأموال لهم والهدايا والهبات. لذلك لم يصر رجالها رجال حروب وقتال، بل صاروا رجال سياسة ومساومة ومفاوضات تنتهي بنتائج طيبة بالنسبة لهم، لا يمكن إن يحصلوا عليها من القتال.
وقد راس "الزبير بن عبد المطلب" بني هاشم، غير إن رئاسته هذه لم تكن متينة وقد كان في جملة من شهد "حلف الفضول" في دار "عبد الله ابن جدعان". كما رأس "بني هاشم" في حرب الفجار. وذكر انه كان نديما لمالك بن عميلة بن السباق بن عبد الدار. وقد تاجر الزبير مع بلاد الشام إلا انه لم ينجح في تجارته على ما ظهر، بدليل انه لم يكن موسرا. وذكر انه كان أحد حكام العرب الذين يتحاكمون إليهم.
وحلف الفضول من الأحداث المهمة التي يذكرها أهل السير والأخبار في تأريخ مكة. وإذا صح ما يذكرونه من انه عقد بعد الفجار بشهور، وفي السنة التي وقع فيها الفجار الذي حضره الرسول، ومن إن الرسول حضره وهو ابن عشرين سنة، فيجب إن يكون عقد هذا الحلف قد تم في حوالي السنة "590" للميلاد. ويذكر إن الذي دعا إليه هو الزبير بن عبد المطلب.

(1/1919)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد شهد حلف الفضول بنو هاشم وبنو زهرة وبنو تيم وذكر انهم تعاهدوا على إن يكونوا مع المظلوم حتى يؤدى إليه حقه، وفي التآسي في المعاش. وقد عقد منصرف قريش من الفجار وكان الفجار في شوال وعقد الحلف في ذي العقدة. وذكر أيضا انهم "تحالفوا ألا يظلم أحد بمكة إلا قاموا معه حتى ترد ظلامته". وقد ذكره الشاعر "نبيه بن الحجاج السمي". وليس لأهل الأخبار رأي ثابت عن سبب تسمية هذا الحلف بحلف الفضول. فذكر بعضهم انه سمي بذلك لأنهم تحالفوا إن يتركوا عند أحد فضلا يظلمه أحدا إلا أخذوه له منه. وقيل" سمي به تشبيها بحلف كان قديما بمكة أيام جرهم على التناصف والأخذ للضعيف من القوي والغريب من القاطن. وسمي حلف الفضول، لأنه قام به رجال من جرهم كلهم يسمى الفضل، فقيل حلف الفضول جمعا لأسماء هؤلاء.
وذكر انه سمي حلف الفضول، لأن قريشا قالت: هذا فضول من الحلف، فسمي حلف الفضول. وقيل لأن قريشا تعاقدوا فيما بينهم على "مواساة أهل الفاقة ممن ورد مكة بفضول أموالهم". وهو في بعض الروايات تحالف ثلاثة من الفضلين على ألا يروا ظلما بمكة إلا غيروه. وأسماؤهم: الفضل بن شراعة، والفضل بن قضاعة، والفضل بن نصاعة. فسمي من ثم باسمهم" حلف الفضول.

(1/1920)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر اكثر أهل الأخبار، إن الغاية التي أريد بها منه، هي إنصاف المظلومين من أهل مكة، من الضعفاء والمساكين ومن لا يجد له عونا ليحميه ويدافع عن حقوقه، وإنصاف الغرباء الوافدين على مكة من حجاج أو تجار، ممن يعتدي عليهم فيأخذ أموالهم أخذا ويأكلها ولا يدفع لأصحابها عنها شيئا. فذكر إن رجلا من "زبيد" من اليمن، وكان يباع سلعة له "العاص بن وائل السهمي"، فمطله الثمن حتى يئس، فعلا جبل "أبي قيس"، وقريش في مجالسها حول الكعبة، فنادى رافعا صوته يشكو ظلامته، ويطلب أنصافه مستجيرا بقريش، فمشت قريش بعضها إلى بعض، وكان أول من سعى في ذلك "الزبير بن عبد المطلب"، واجتمعت في "دار الندوة"، وكان ممن اجتمع بها من "قريش" "بنو هاشم" و "بنو المطلب" و "زهرة" و "تيم" و "بنو الحارث"، فاتفقوا على انهم ينصفون المظلوم من الظالم، فساروا إلى دار عبد الله بن جدعان، فتحالفوا هنالك.
وذكر إن رجلا من "بني أسد بن خزيمة" جاء بتجارة فاشتراها رجل من "بني سهم"، فأخذها السهمي وأبى إن يعطيه الثمن، فكلم قريشا وسألها أعانته على أخذ حقه، فلم يأخذ له أحد بحقه، فصعد الأسدى "أبا قيس"، وصرخ بشعر يشكو فيه ظلامته، فتداعت قريش، وعقدت حلف الفضول.
وقيل لم يكن من "بني أسد"، ولكنه "قيس بن شيبة السلمي"، باع متاعا من "أبي خلف الجمحي" وذهب بحقه، فاستجار ب "آل قصي"، فأجاروه، فكان ذلك سبب عقد حلف الفضول. وقيل" بل كان الرجل من "بارق"، فلما يئس من أخذ حقه من "أبي"، صعد في الجبل ورفع عقيرته بقوله: يا للرجال لمظلوم بضاعته ببطن مكة نائي الدار والنفر
إن الحرام لمن تمت حرامته ولا حرام لثوب الفاجر الغدر
فلما سمعه "الزبير بن عبد المطلب"، أجابه: حلفت لنعقدن حلفا عليهم وإن كنا جميعا أهل دار
نسميه الفضول إذا عقدنا يقربه الغريب لذي الجوار

(1/1921)

admin
12-27-2010, 02:09 AM
ثم قام وعبد الله بن جدعان، فدعوا قريشا إلى التحالف والتناصر والأخذ لمظلوم من الظالم، فأجابوهما، وتحالفوا في دار عبد الله بن جدعان، فهذا حلف لفضول.
وذكر إن رجلا من "خثعم" قدم مكة ومعه بنت وضيئة، فاغتصعبها منه "نبيه بن الحجاج"، فقيل له عليك بحلف الفضول، فوقف عند الكعبة، ونادى: يا لحلف الفضول، فاجتمعوا حوله، واستردوا الجارية من نبيه. وقالوا له: "ويحك. فقد علمت من نحن وما تعاهدنا عليه" فأعادها إليه.
ويظهر من هذا الخبر إن حلف الفضول كان قد عقد قبل هذه الحادثة، وان جماعته كانت شديدة متراصة في دفع الحق إلى أهله واسترجاعه ممن اغتصبه كائنا ما كان.
ويظهر إن هذا الحلف استمر قائما إلى وقت ما في الإسلام، ثم فقد قيمته، فمات. فورد انه كان بين "الحسين بن علي بن أبي طالب" وبن "الوليد بن عتبة بن أبي سفيان" منازعة في مال متعلق بالحسين، فماطله الوليد. "فقال الحسين للوليد" أحلف بالله لتنصفني من حقي أو لآخذن سيفي ثم لأقومن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لأدعون لحلف الفضول، فلما بلغ ذاك الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقه".
وقد تفسر دعوة "الحسين". المذكورة، بأن الحسين، لم يقصد بقوله "لأدعون لحلف الفضول"، الحلف القديم المعروف، وإنما قصد لأدعون لحلف كحلف الفضول، وهو نصرة المظلوم على ظالمه. لم قد أبده على حقه جماعة، منهم عبد الله بن الزبير، مما دفع الوليد على إرجاع حق الحسين،. خشية وقوع فتنة وتدخل في هذه الخصومة. ومعنى هنا أننا لا نستطيع إن نستنتج من الخبر المتقدم، إن حلف الفضول كان قد بقي إلى ذلك العهد.

(1/1922)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرجع حلف للفضول إلى أحلاف سابقة على ما يتبين من أخبار أهل الأخبار. إلى عهد "هاشم" والى ما قبل أيام هاشم. والظاهر إن أهل مكة، بعد إن اجتمعوا وتكتلوا في واد ضيق وفي أرض فقيرة، وجدوا إن من العسير عليهم رؤية حفنة منهم وقد استأثرت بالمال والغنى، بينما عاش الكثير بينهم في فقر وفاقة. وانهم إن أصموا آذانهم عن سماع نداء الإغاثة، فإن حالة من الذعر، ستسود مدينتهم. لذلك تواصوا فيما بينهم على مواساة أهل الفاقة وجبر خاطر المحتاج، وعلى تراحمهم فيما بينهم وتواصلهم. وكان مما فعلوه لرفع مستوى الفقر، وللقضاء على الفوارق الكبيرة التي صارت فيما ببن سادات مكة وسوادها، إن حثوا كل مكي على المساهمة في أموال القوافل، حتى إذا ما عادت رابحة، وزعت أرباحها على هؤلاء أيضا، كل حسب مقدار ما ساهم به من مال في القافلة. وبذلك خفف أهل مكة من حدة التضاد الذي كان بين النقيضين. وأمنوا من تطاول الشباب الفقراء على الأغنياء. بأن فتح بعض الأغنياء أبواب بيوتهم للجياع، فآووهم وساعدوهم على نحو ما جاء في شعر لمطرود بن كعب الخزاعي إذ يقول: هبلتك أملك لو حللت بدارهم ضمنوك من جوع ومن اقراف
وقو له: والخالطين غنيهم بفقيرهم حتى يصير فقيرهم كالكافي
والعطف على الفقراء ومواساة الضعفاء وذوي الحاجة من خلال الأشراف السادات. لأنهم إن لم يغيثوا الغائث ويرحموا المسكين فمن يرحمهم إذن على وجه هذه الأرض! وقد مدح من يجلط الفقير بالغني فيساوي بينهما، وذم من يبيت شبعانا وجاره يبيت خامصا لا شيء عنده يعتمد عليه.

(1/1923)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان من أهم الأحداث التي وقعت في أيام الرسول، يوم كان في الخامسة والثلاثين، بناء الكعبة. بسبب سيل ملأ ما بين الجبلين، ودخل الكعبة حتى تصدعت، أو بسبب حريق أصاب أستار الكعبة، فتصدعت، فعزمت قريش على بنائها، فهدمتها وأعادت بناءها. وذكر إن قريشا كانت قد أفردت ببناء كل ربع من أرباع البيت قوما، وكان ذلك بقرعة بينهم. فلما انتهوا إلى موضع الحجر الأسود، اختلفوا فيمن يضعه وتشاحوا عليه، فرضوا بأول من يدخل من الباب. فكان أول من دخل رسول الله، فوضعه بيده، بعد إن قال: ليأت من كل ربع من قريش رجل، وبذلك فض النزاع. ويجب إن يكون حادث بناء البيت إذن في حوالي السنة "605" للميلاد.
وجهاء مكة

(1/1924)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان أمر مكة إلى وجهاء أمرها، مثل "بنو مخزوم"، و "بنو عبد شمس"، و"بنو زهرة"و "بنو سهم" و"بنو المطلب" و"بنو هاشم"و "بنو نوفل" و "بنو عدي" و "بنو كنانة" و "بنو أسد" و "بنو تيم" و "بنو جمح" و "بنو عبد الدار" و "بنو عامر بن لؤي" و "بنو محارب بن فهر" وذكر بعض أهل الأخبار، إن الشرف والرياسة في قريش في الجاهلية في "بني قصي"، لا ينازعونهم ولا يفخر عليهم فاخر. فلم يزالوا ينقاد لهم ويرأسون. وكانت لقريش ست مآثر كلها لبني قصي دون سائر قريش. فها الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء والرياسة. فلما هلك "حرب بن أمية"، وكان حرب رئيسا بعد المطلب، تفرقت الرياسة وللشرف في "بني عبد مناف". فكان في بني هاشم" الزبير وأبو طالب وحمزة، والعباس بن عبد المطلب. وفي بني أمية: أبو احيحة، وهو سعيد بن العاص بن امية، وهو "ذو العمامة"، كان لا يعتم أحد بمكة بلون عمامته إعظاما له. وفي بني المطلب: عبد يزيد بن هاشم بن المطلب. و "عبد يزيد" هو "المحض لا قذى فيه." وفي "بني نوفل": المطعم بن عدي بن نوفل. وفي بني أسد بن عبد العزى: خويلد ابن أسد، وعثمان بن الحويرث بن أسد. وقد كانت النبوة والخلافة لبني عبئ مناف، ويشركهم في الشورى: زهرة وتيم وعدي وأسد: وقد اختص "بنو كنانة" بالنسيء. فكان نسأة الشهور منهم. وهم "القلامسة". وكانوا فقهاء العرب والمفتين لهم في دينهم. فمكانتهم أذن بين الناس هي مكانة روحية، فبيدهم الفقه والإفتاء.

(1/1925)


--------------------------------------------------------------------------------

ومكة وان كانت مجتمعا حضريا، أهله أهل مدر في الغالب، غير إنها لم تكن حضرية تامة الحضارة بالمعنى الذي نفهمه اليوم، لأن الحياة فيها كانت مبنية على أساس العصبية القبلية. المدينة مقدمة إلى شعاب، والشعاب هي وحدات اجتماعية مستقلة، تحكمها الاسر، وبين الأسر نزاع وتنافس على الجاه والنفوذ نزاع وان لم يقلق الأمن ويعبث بسلام المدينة، الا انه اثر في حياتها الاجتماعية أثرا خطيرا، انتقلت عدواه إلى أيام الإسلام.
لقد حاول بعض رؤسائها ووجوهها التحكم بأمر مكة،. وإعلان نفسه ملكا عليها محلي رأسه بالتاج شأن الملوك المتوجين، ولكنه لم يفلح ولم ينجح. حتى ذكر آن بعضهم التجأ إلى الغرباء، لمساعدتهم بنفوذهم السياسي والمادي والعسكري في تنصيب أنفسهم ملوكا علها، فلم ينجحوا، كالذي ذكروه عن "عمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى"، المعروف ب "البطريق"، من انه طمع في ملك مكة، فلما عجز عن ذلك، خرج إلى قيصر، فسأله إن يملكه على قريش، وقال: احملهم على دينك، فيدخلون في طاعتك، ففعل، وكتب له عهدا وختمه بالذهب، فهابت قريش "قيصر" وهموا إن يدينوا له، ثم قام الأسود بن المطلب، أبو زمعة، فصاح، والناس في الطواف" إن قريشا لقاح! لا تملك ولا تملك، وصاح الأسود بن أسد بن عبد العزى" إلا إن مكة حي لقاح، لا تدين لملك. فاتسعت قريش على كلامه، ومنعوا عثمان مما جاء له، ولم يتم له مراده، فمات عند ابن جفنة. فاتهمت بنو أسد ابن جفنة بقتله. وابن جفنة هو عمرو بن جفنه الغساني.

(1/1926)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم يكن عمان بن الحويرث أول زعيم جاهلي فتن بالملك ويلقب ملك، الحبيب إلى النفوس، حتى حمله ذلك على استجداء هذا اللقب والحصول عليه بأية طريقة كانت، ولو عن سبيل التودد إلى الأقوياء الغرباء والتوسل إليهم، لمساعدتهم في تنصيبهم ملوكا على قومهم. ففي كتب أهل الأخبار والتواريخ أسماء نفر كانوا على شاكلته، فتنهم الملك وأعماهم الطمع وحملهم ضعف الشخصية وفقر النفس حتى عاما التوسل إلى الساسانيين والروم، لتنصيبهم على قومهم ومنحهم اللقب الحبيب، ووضع التاج على رأسهم، في مقابل وضع أنفسهم وقومهم في خدمة السادة المساعدين أصحاب المنة والفضل.
لقد استمات عمان بن الحويرث في سبيل الحصول على ملك مكة، حتى ذكر انه تنصر وتقرب بذلك إلى الروم، وحسنت منزلته عندهم. ومن يدري? فلعله كان مدفوعا مأمورا حرضه الروم ودفعوه للحصول على المدينة المقدسة، ليتمكنوا بذلك من السيطرة على الحجاز والوصول إلى اليمن والسيطرة على العربية الغربية والعربية الجنوبية. وإخضاع جزيرة العرب بذلك لنفوذهم. ولقد جمع القوم ورغبهم وأنذرهم وحذرهم بغضا الروم عليهم إن عارضوا مشروعه وقاوموا تنصيبه ملكا عليهم. قائلا لهم: "يا قوم، إن قيصر قد علمتم امانكم ببلاده وما تصيبون من التجارة في كنفه. وقد ملكني عليكم، وأنا ابن عمكم، وأحدكم، وإنما آخذ منكم الجراب من القرظ والعكة من السمن والأوهاب، فأجمع ذلك، ثم اذهب إليه. وأنا أخاف إن ابيتم ذلك إن يمنع منكم الشام، فلا تتجروا به وينقطع مرفقكم منه".

(1/1927)


--------------------------------------------------------------------------------

واذ صح إن هذا الكلام هو كلام "عمان بن الحويرث" حقا، وانه خاطب به قومه لحثهم على الاعتراف به ملكا على مكة، فانه يكون كلام رجل عرف من أين يكلم قومه، وكيف يأتيهم! فقد هددهم بان الروم سيمنعونهم من الاتجار مع الشام إن خالفوه ولم يبايعوه ولم يسلموا له بالملك، وقد كلفه "قيصر" به.. لأنه يعلم إن تجارة قريش مع بلاد الشام هي مصدر من أهم مصادر رزقهم. ولهذا ظن بأنهم سيخضعون له ويقبلون بما جاء به،. ولكن أشراف مكة من أصحاب المال والفوذ، لم يحملوا هذا التهديد محمل الجد، فالروم لا يهمهم أمر "عمان" كثيرا، ثم إن تهديدهم بقطع تجارة قريش مع الشام، تهديد لا يمكن تحقيقه، وحدود الشام طويلة ومفتوحة، ولعلهم وجدوا إن كلام "عثمان" هو ادعاء لم يصدر عن الروم، تفوه به، من حيث لا يعلمون. فلم يقيموا له وزنا.
ولم يذكر أهل الأخبار شيئا عن لقب "البطريق" الذي منحوه ل "عثمان ابن الحويرث". ولا أظن إن الروم قد منحوه له، لأنهم لم يكونوا يمنحون هذا اللقب المهم إلا لكبار العاملين في خدمتهم، ممن أدى لهم خدمات جليلة، ولا أظن انه يشير إلى درجة دينية، لأنه لم يشتهر بين النصارى شهرة كبيرة ولم ينل من العلم والمكانة ما يؤهله لأن يكون "بطريارخا" على الكنيسة. وقد ذكر علماء اللغة إن "البطرق"، القائد، معرب، وهو الحاذق بالحرب وأمورها، وهو ذو منصب عند الروم. فلا يعقل إن يكون "عثمان"، قد نال هذه المنزلة عند البيزنطيين. وهي منزلة لم ينلها إلا بعض ملوك الغساسنة مع صلتهم القوية بهم.
ومما يذكره أبر الأخبار عن "عثمان" هذا، انه كان في رؤساء حرب الفجار من قريش. وانه كان من "بني أسد بن عبد العزى"، وانه كان أحد الهجائين.

(1/1928)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن وجهاء مكة وساداتها المقدمين المعروفين" عبد الله بن جدعان، وكان ثريا واسع الثراء، كما كان كريما، أسرف في أواخر عمره في إكرام الناس وبالغ في إعطائهم حتى حجر رهطه عليه لما أسن، فكان إذا أعطى أحدا شيئا، رجعوا على المعطى فأخذوه منه. فكان إذا سأل سائل، قال: "كن مني قريبا إذا جلست، فإني سألطمك، فلا ترض إلا بأن تلطمني بلطمتك، أو تفتدى لطمتك بفداء رغيب ترضاه". والى هذا الحادث أشار ابن قيس الرقيات: والذي إن أشار نحوك لطما تبع اللطم نائل وعطاء
وينسبه النسابون إلى "بني تيم بن مرة"، ويقولون في نسبه إنه "عبد الله ابن جدعان بن عمرو بن كعب بن سد بن تيم بن مرة". وهو ابن عم والد الخليفة "أبي بكر"، ويذكرون "انه كان في ابتداء أمره صعلوكا ترب اليدين، وكان مع ذلك شريرا فاتكا، لا يزال يجني الجنايات فيعقل عنه أبوه وعومه، حتى أبغضته عشيرته، ونفاه أبوه، وحلف إن لا يؤويه أبدا، فخرج في شعاب مكة حائرا مائرا يتمنى الموت إن ينزل به، فرأى شقا في جبل، فظن إن فيه حية، فتعرض للشق يرجو إن يكون فيه ما يقتله فيستريح، فلم يجد شيئا، فدخل فيه"، فإذا به أمام غار هو مقبرة من مقابر ملوك "جرهم"، وفيه كنوز وأموال من أموالهم ثمينة من بينها "ثعبان" مصنوع من ذهب، له عينان من ياقوت.
ووجد جثث الملوك على أسرة، لم ير مثلها، وعليها ثياب من وشي، لا يمس منها شيء إلا انتثر كالهباء من طول الزمان، فأخذ من الغار حاجته ثم خرج، وعلم الشق بعلامة، وأغلق بابه بالحجارة، وأرسل إلى أبيه بالمال الذي خرج به منه يسترضيه ويستعطفه، ووصل عشيرته كلهم، فسادهم، وجل ينفق من ذلك الكنز، ويطعم الناس، ويفعل المعروف. وكان كلما احتاج إلى مال ذهب، فاستخرج ما محتاج إليه من ذلك الكنز حتى صار من أغنى أغنياء مكة.

(1/1929)


--------------------------------------------------------------------------------

فثراء "عبد الله بن جدعان" هو من هذا الكنز على زعم رواة هذه القصة التي يتصل سندها ب "عبد الملك بن هشام" راوية "كتاب التيجان"، وهو كتاب مليء بالأقاصيص والأساطير. وقد تكون القصة صحيحة، فعثور الناس على كنوز ودفائن من الأمور المألوفة، وقد عثر غيره ممن جاؤوا قبله أو جاؤوا بعده على كنوز، بل ما زال الناس حتى اليوم يعثرون عليها مصادفة أو في أثناء الحفر والتنقيب. والشيء الغريب فيها هو هذا التزويق والتنميق، وهو أيضا شيء مألوف بالنسبة الينا، وغير غريب وقد تعودنا قراءته، فمن عادة القصاصين ورواة الأساطير والأباطيل الإغراب في كلامهم والكذب فيه لأسباب لا مجال لذكرها هنا، وعلى رأس هذه الطائفة "وهب بن منبه"، صاحب "كتاب التيجان".
وذكر انه لثرائه كان لا يشرب ولا يأكل إلا بآنية من الذهب والفضة، فعرف لذلك ب "حاسي الذهب".
ويذكر أهل الأخبار إن "عبد الله بن جدعان" كان نخلها، له جوار يساعين، ويبيع أولادهن. فكانت جواريه تؤجر للرجال، وما ينتج عن هذا السفاح من نسل، يربى، فيبقي منه عبد الله ما يشاء ويبيع منه ما يشاء. ولكنه مع اتجاره بالرقيق، وعلى النحو المتقدم، كان كما يقولون يعتق الرقاب ويعين على النوائب، ويساعد الناس و. يقضي الحاجات، ولا سيما بعد تقدمه في السن.
ولا يستبعد إن يكون ما ذكره أهل الأخبار عن "عبد الله بن جدعان"، هو من صنع حساده ومبغضيه، ممن حسدوه على ما بلغ إليه بمكة من مركز وجاه. ومثل هذا التشنيع على الناس شائع مألوف. لا سيما وقد كان في الأصل فقيرا غير موسر، فغني بجسر واجتهاده فتقول عليه حساده من أهل زمانه تلك الأقوال.

(1/1930)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عرف "ابن جدعان" بإكرام الناس وبالإنفاق على أهل مدينته وروى أهل الأخبار أمثلة عديدة على جوده وسخائه. من ذلك ما رووه من انه كان قد وضع جفنة كبيرة ملاها طعاما ليأكل منها الناس، وكانت الجفنة على درجة كبيرة من السعة بحيث غرق فيها صبي كان قد سقط فيها. وذكروا إن الرسول قال: لقد كنت أستظل بطل جفنة عبد الله بن جدعان صكة عمي،أي وقت الظهيرة. ووصفوا الجفنة فقالوا إنها "كانت لابن جدعان في الجاهلية، يطعم فيها الناس، وكان يأكل منها القائم والراكب لعظمها". يأكل الراكب منها، وهو على بعيره من عرض حافتها وكثرة طعامها.

وذكروا انه كان يطعم التمر والسويق ويسقي اللبن، حتى سمع قول أمية بن أبي الصلت: ولقد رأيت الفاعلين وفعلهم فرأيت أكرمهم بني الديان
البر يلبك بالشهاد طعامهم لاما يعللنا بنو جدعان
فبلغ ذلك عبد الله بن جدعان، فوجه إلى اليمن من جاءه بمن يعمل الفالوذج بالعسل، فكان أول من أدخله بمكة. وجعل مناديا ينادي كل ليلة بمكة على ظهر الكعبة إن هلموا إلى جفنة ابن جدعان. فقال أمية بن أبي الصلت: له داع بمكة مشمعل وآخر فوق كعبتها ينادي
إلى ردح من الشيزى ملاء لباب البر يلبك بالشهاد.
ويذكر أهل الأخبار إن "أمية" كان قد أتى "بني الديان" فدخل على "عبد المدان بن الديان" من بني الحارث بن كعب بنجران، فإذا به على سريره، وكان وجهه قمر، وبنوه حوله، فدعا بالطعام، فأتي بالفالوذج، فأكل طعاما عجيبا، ثم انصرف فصال في ذلك الشعر المذكور، فلما بلغ شعره "ابن جدعان"، أرسل ألفي بعير إلى الشام تحمل إليه البر والشهد والسمن، وجعل له مناديين يناديان: أحدهما بأسفل مكة والآخر بأعلاها، وكان أحدهما سفيان بن عبد الأسود، والآخر أيا قحافة، وكان أحدهما ينادي؛ ألا من أراد اللحم والشحم، فليأت دار ابن جدعان، وينادي الآخر: إن من أراد الفالوذج فليأت إلى دار ابن جدعان. وهو أول من أطعم الفالوذج بمكة.

(1/1931)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر "الجاحظ" إن من اشرف ما عرفه أهل مكة من الطعام، هو "الفالوذ" ولم يطعم الناس منهم ذلك الطعام، إلا عبد الله بن جدعان.
ولبعض أهل الأخبار رواية أخرى في كيفية وقوف "ابن جدعان" على الفالوذ "الفالوذج" وإدخاله إلى مكة، وترجع هذه الرواية مصدره إلى الفرس، فيقول" وفد "ابن جدعان" على كسرى، فأكل عنده الفالوذ، فسأل صفه، فقيل له" هذا الفالوذ. قال: وما الفالوذ? قالوا" لباب البريلبك مع عسل النحل. فأعجبه، فابتاع غلاما يعرف صنعه، ثم قدم به مكة معه، ثم امره فصنع له الفالوذ بمكة، فوضع الموائد بالأبطح إلى باب المسجد، ثم نادى مناديه: ألا من أراد الفالوذ فليحضر، فحضر الناس. فكان فيمن حضر أمية ابن أبي الصلت.
وذكر انه كان يضع "الحيس" على أنطاع على الأرض ليأكل منها القاعد والراكب. والحيس" الأقط، يخلط بالتمر والسمن. وقد يجعل عوض الأقط الدقيق والفتيت. وقيل، الحيس" التمر والأقط يدقآن ويعجنان بالسمن عجنا شديدا حتى يندر النوى منه نواة نواة، ثم يسوى كالثريد. وهو الوطبة أيضا، إلا إن الحيس ربما جعل فيه السويق، واما الوطبة فلا.
ويروي أهل الأخبار إن أهل مكة كانوا يفدون على مائدة "ابن جدعان"، وأن رسول الله كان فيمن حضر طعامه.
وروي إن الرسول لما أمر بأن يستطلع خبر القتلى من قريش يوم بدر، وأن تلتمس جثة "أبي جهل" في القتلى، قال لهم: "انظروا إن خفي عليكم في القتلى، إلى اثر جرح في ركبته، فإني ازدحمت يوما أنا وهو على مأدبة لعبد الله ابن جدعان، ونحن غلامان. وكنت اشف منه بيسير، فدفعته فوقع على ركبتيه"، فخدشت ساقه وانهشمت ركبته، فأثرها باق. في ركبته". فوجدوه كذلك.

(1/1932)


--------------------------------------------------------------------------------

ويذكر أهل الأخبار إن "عبد الله بن جدعان" كان قد مثل قومه "بني تيم" في الوقت الذي أرسلته قريش إلى "سيف بن ذي يزن"، واسمه "النعمان بن قيس"، لتهنئته بظفره بالحبشة، وإخراجهم من وطنه. وكان هذا الوفد في. وفود من العرب جاءته لتهنئته، وفيها شعراء وأشراف وسادات قبائل. ولهد كان في وفد قريش: عبد المطلب بن هاشم، وأمية بن عبد شمس، وخويلد بن أسد، ووهب بن عبد مناف. وقد قدمت تلك الوفود إلى صنعاء، ودخلت قصره: قصر غمدان.
ويروى إن عبد الله بن جدعان كان عقيما، لم يولد له ولد. فتبنى رجلا سماه "زهيرا"، وكناه "ابا مليكة"، فولده كلهم ينسبون إلى "أبي مليكة". وفقد "أبو مليكة" فلم يرجع.
وكانت له بئر بمكة تسمى "الثريا". وقد ذكر إن "بني تيم" حفروها. وذكر إن دار عبد الله بن جدعان كانت في "ربع بني تيم"، وكانت شارعة على الوادي. وكانت دارا فخمة، وبقيت مشهورة معروفة بمكة حتى بعد وفاته. وبهذه الدار عقد "حلف الفضول"، وذلك لشرفه ومكانته بين أهل مكة إذ ذاك. ولثرائه الضخم دخل كبير في ذلك، ولا شك. وقد صيت للمدعوين طعاما.ضيرا قدمه إليهم، ثم عقد الحلف. وكان الرسول ممن شهده، وهو ابن عشرين أو خمس وعشرين. وكان يتذكره ويقول: "لقد شهدت في دار عبد الله ابن جدعان حلفا ما أحب إن لي به حمر النعم. ولو دعي به في الإسلام لأجبت". أو "أما لو دعيت في الإسلام لأجبت، وأحب إن لي به حمر النعم. وأني نقصته وما يزيده الإسلام إلا شدة".

(1/1933)

admin
12-27-2010, 02:10 AM
وقد تكون حلف الفضول من هاشم، و "المطلب"، و "أسد"، و "زهرة"، و "تيم"، وربما من "بني الحارث بن فهر" أيضا. وهم الذين كونوا حلف المطيبين. ولذلك ذهب بعض الباحثين إلى إن حلف الفضول، هو استمرار للحلف المذكور، اذ تألف من الأسر التي كانت ألفت ذلك الحلف ما خلا "بني عبد شمس" و "بني نوفل". وكان قد وقع نزاع بين "نوفل" و"عبد المطلب ابن هاشم"، فعله كان السبب في عدم انضمام "نوفل" إلى هذا الحلف.وقد تعاون "نوفل" و "عبد شمس"، ووجدا في استطاعتهما التعاون بينهما من غير حاجة إلى الدخول في حلف الفضول. ولهذا لم يكن حلف الفضول، في نظر هؤلاء، غير حلف من أحلاف الأسر، ولم يكن على رأيهم لنصرة الضعيف وأنصاف المظلوم، على نحو ما جاء في روايات أهل الأخبار.
وروي انه لمكانة "عبد الله" التي بلغها عند قومه وعند العرب، كانت العرب إذا قدمت عكاظ دفعت أسلحتها إليه حتى يفرغوا من أسواقهم وحجهم، ثم يردها عليهم إذا ظعنوا.
وكان يحافظ على الأمانات محافظة شديدة ة فما جاءه "حرب بن أمية"، صديقه، وهو من وجهاء مكة وأثريائها كذلك، قائلا له: احتبس قبلك سلاح هوازن وذلك يوم نخلة من أيام الفجار الثاني، أجابه ابن جدعان: أبالغدر تأمرني، يا حرب? والله لو اعلم انه لم يبق منها سيف إلا ضربت به، ولا رمح إلا طعنت به، ما أمسكت منها شيئا. ثم أبى إلا تسليم السلاح إليهم.
وقد اسهم "ابن جدعان" في أيام الفجار، وكان على "بني تيم". وأمد قومه بالسلاح والمال، فأعلى مئة رجل سلاحا تاما كاملا، وذلك "يوم شمطة" غير ما ألبس من بني قومه والأحابيش. وحمل مئة رجل على مئة بعير، وقيل: ألف رجل على ألف بعير، وذلك "يوم شرب". أو يوم عكاظ. وله أخ اسمه "كلدة بن جدعان" قتل في الفجار.

(1/1934)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان "ابن جدعان" يشرب الخمر على عادة الجاهليين في شربها، بقي يشربها حتى كبر، فعافها. ودخل فيمن عاف الخمر على كبره من سادات. قريش وأشرافها. وكان من عادتهم إذا كبروا ولعب بهم العمر، حرموا شرب الخمر على أنفسهم. "ما مات أحد من كبراء قريش في الجاهلية الا ترك الخمر استحياء مما فيها من الدنس. ولقد عابها ابن جدعان قبل موته".
ويروون في سبب تركه لها قصتين" قصة تقول انه عافها لأنه سكر مرة ففقد رشده فاعتدى على أمية بأن لطم عينه، فندم على ما فعل حين سمع بالخبر، وقال: "وبلغ مني الشراب ما أبلغ معه من جليس هذا المبلغ? فأعطاه عشرة آلاف درهم، وقال: الخمر علي حرام، ألا لا أذوقها أبدا" ثم قال شعرا في ذم الخمر وفي وصف حاله اذ ذاك.
ومن الرقيق الذي كان في ملك "ابن جدعان" واكتسب شهرة في الإسلام "صهب الرومي". بيع في سوق النخاسة، ثم وضع في شراء "ابن جدعان"، وبقي في ملكه إلى إن هلك سيده، ويقال انه اعتقه وهو في حياته وأنه لازمه حتى مماته.
وقد كان "ابن جدعان" يلتزم من يستجير به، ويحمي من يأوي إليه. وكان "الحارث بن ظالم" قاتل "خالد بن جعفر بن كلاب"، وهو في جوار ملك الحيرة في جملة من لجأ إلى "ابن جدعان" حين طلبه ملك الحيرة، وبقي في جواره وبمكة حتى أتاه ملك الحيرة. ويقال إن "الحارث بن ظالم" قدم على عبد الله بن جدعان بعكاظ، وهم يريدون حرب قيس. فلذلك نكس رمحه، ثم رفعه حين عرفوه وأمن. وكانوا إذا،خافوا فوردوا على من يستجيرون به، أو جاءوا تصلح، نكسوا رماحهم. ويوم عكاظ من أيام الفجار.
ورجل ثري وجيه له مكانة ومنزلة عند بني قومه، لا بد إن يصير مرجعا للناس، يرجعون إليه في المنازعات والخصومات، ليحكم بينهم بما لديه من رجاحة عقل وسلطان، لذلك كان في جملة حكام العرب، الذين تحوكم إليهم.

(1/1935)


--------------------------------------------------------------------------------

ولأمية بن أبي الصلت شعر في مدح "عبد الله بن جدعان"، نجده في ديوان أمية وفي كتب الأدب. وقد كان من المقربين عند "أبي زهير" ومن المكرمين له بسخاء. وكان يعطيه دائما، ونجد لأمية شعرا يطلب فيه من "ابن جدعان" إعطاءه مالا.
وكان هلاك "ابن جدعان" قبل سنوات قبل المبعث. وذكر "البلاذري" إن هلاكه كان "قبل المبعث ببضع عشرة سنة. ولما مات دفن بمكة. وذكر في رواية أخرى انه دفن بموضع "برك الغماد"، وراء مكة بخمس ليال بينها وبين اليمن مما يلي البحر أو بين حلى وذهبان وفيه يقول الشاعر: سقى الأمطار قبر أبي زهير إلى سقف إلى برك الغماد
ومن رجال مكة الأغنياء "الأسود بن المطلب" المعروف ب "أبي زمعة". و "زمعة" ابنه، قتل يوم "بدر" في جملة من قتل من رجال قريش. وكان يقال له" "زاد الركب". وقد عرف ولده الأسود ب "زاد الركب" كذلك. وكان الأسود ممن، أدرك أيام الرسول وعارضه، وعده "ابن حبيب" في جملة المستهزئين من قريش بالرسول، وممن مات كافرا، بعد إن أصابه. العمر.
وكان "الأسود" نديما للأسود بن عبد يغوث الزهري. وكانا من اعز قريش في الجاهلية، وكانا يطوفان بالبيت متقلدين بسيفين سيفين. وكانا من المستهزئين بالرسول. وذكر إن "الأسود بن عبد يغوث" كان إذا رأى المسلمين، قال لأصحابه: "قد جاءكم ملوك الأرض الذين يرثون ملك كسرى وقيصر. ويقول للنبي، صلى الله عليه وسلم: أما كلمت اليوم من السماء، يا محمد وما أشبه هذا القول". مات حين هاجر. النبي، ودفن بالحجون.
وكان "زمعة بن الأسود"، تاجرا، متجره إلى الشام. وعرف بالدقة في العمل وفي وضع خطط سفره وتجارته. "فكان إذا خرج من عند أبيه في سفر، قال: اسير كذا وكذا، وآتي البلد يوم كذا وكذا، ثم اخرج يوم كذا وكذا، فلا يخرم مما يقول شيئا".

(1/1936)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن سادات قريش" "يزيد بن زمعه بن الأسود". وكانت إليه المشورة. وذلك إن رؤساء قريش لم يكونوا مجتمعين على أمر حتى يعرضوه. عليه، فان وافقه، ولا هم عليه، وإلا تخير، وكانوا له أعوانا. وقد اسلم، واستشهد مع الرسول بالطائف.
ويعد حرب بن أمية من وجهاء مكة وسيدا من سادات كنانة. وكان أمر كنانة كلها إليه يوم شمطة. واشترك يوم عكاظ، وقيد نفسه ومعه سفيان وأبو سفيان بن أمية بن عبد شمس، وذلك كي يثبتوا في أماكنهم، ويتقوى بذلك قومهم فيثبتوا في القتال. وكان من أثرياء مكة المعروفين.
ومن سادات مكة: "هشام بن المغيرة، بن عبد الله بن عمر بن مخزوم"، وكان له ولبنيه صيت بمكة وذكر عال. وذكر انه كان سيد قريش في دهره. ولما مات صار يوم موته من أيام مكة المشهورة، حتى انهم أرخوا بموته. ونادى منادي مكة في أمثال هذه المناسبات: "اشهدوا جنازة ربكم". وكان سيدا مطعاما. وطل يوم وفاة "هشام" يوما يؤرخ به سبع سنين إلى إن كانت السنة التي بنوا فيها الكعبة، فأرخوا بها. وهو من الرجال الذين نعتوا بين قومهم ب "زاد الركب"، لأنه كان يقري المسافرين الذين يسافرون معه.

(1/1937)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن أبناء "هشام بن المغيرة" المذكور "أبو جهل" و "الحارث بن هشام". أما "الحارث بن هشام"، فقد عرف بالكرم والجود. ذكر إن داره كانت مفتوحة للضيوف. يدخلون وإذا جفان مملومة خبزا ولحما. وهو جالس على سرير يحث الناس على الأكل. ويروى إن "ابا ذر" قدم مكة معتمرا، فقال" "أما من مضيف?" قالوا" "بلى كثير وأقربهم منزلا الحارث بن هشام". فأتى بابه، فقال: "أما من قرى?". فقالت له جارية: "بلى". فأخرجت إليه زبيبا في يدها. فقال: "ولم لم تجعليه في طبق?" فعلم انه ضيف. وقالت: "ادخل" فدخل. فإذا بالحارث على كرسي وبين يديه جفان فيها خبز ولحم وأنطاع عليها زبيب. فقال: "أصب". فأكل ثم قال: "هذا لك". فأقام ثلاثا ثم رجع إلى المدينة، فأخبر النبي خبره. فقال: "انه لسري ابن سري. وددت انه أسلم". وكان نديما لحكيم بن حزام بن خويلد ابن أسد.
وأما "أبو الحكم" عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن محزوم ابن مرة". فكان من رجال "بني مخزوم" المعدودين، ومن المعادين للإسلام، بل كان على رأس أشد الناس عداوة للرسول. وقد كناه الرسول ب "أبي جهل" لأنه كان يكنى قبل ذلك ب "أبي الحكم" فاشتهر بهذه الكنية، حتى لم يعد يعرف إلا بها في الإسلام. وكان من المقتسمين. وهم سبعة عشر رجلا من قريش، اقتسموا عقاب مكة. فكانوا إذا حضروا الموسم يصدون الناس عن رسول الله. وفيهم نزلت: "كما أنزلنا على المقتسمين" وكان من المطعمين لحرب يوم بدر. نحر عشرا. وكان نديما للحكم بن أبي العاص بن أمية. و "الحكم" هذا هو الطريد.

(1/1938)


--------------------------------------------------------------------------------

وأخبر "ابن الكلبي"، إن أخوين من "بني سليم"، دخلا مكة معتمرين فما وجدا. بها شراء ولا قرى. فبينا هما كذلك إذ رأبا قوما يمضون، فسألا "أين هؤلاء القوم?" فقيل لهما: يريدان الطعام. فمضيا في جملتهم حتى أتوا دارا فولجوها. فإذا رحل آدم، أحول، على سرير وعليه حلة سوداء وإذا جفان مملوءة خبزا ولحما. فقعدوا فأكلوا. فشبع أحد الأخوين وقال لأخيه: "كم تأكل? أما شبعت?". فقال الجالس على السرير: "كل فإنما جعل الطعام ليؤكل". فلما فرغوا خرجوا من باب الدار غير الذي دخلوا منه. فإذا هم بإبل موقوفة. فقالوا: "ما هذه الإبل?" قيل: الطعام الذي رأيتم. وكان الرجل الجالس على السرير: صاحب الطعام. فإذا به أبو جهل بن هشام.
ويظهر انه كان قاسيا قسا حتى على النساء، فعذب عددا منهن بنفسه عذابا أليما. عذب "زنيرة"، وكانت لبني مخزوم حتى عميت، وعذب غيرها حتى هلكت، وممن هلكن "سمية" أم عمار بن ياسر. وكان يأتي من يسلم، فيكلمه ليفتنه عن دينه: يأتي الرجل الشريف، ويقول له" أتترك دينك ودين أبيلك، وهو خير منك? ويقبح رأيه وفعله، ويسفه حلمه. وان كان تاجرا يقول له: ستكسد تجارتك، ويهلك مالك. وان كان ضعيفا، أوصى بمن يعذبه، حتى يترك دينه. جاء مرة دار أبي بكر، فلما لم يجده لطم خد أسماء ابنته لطمة طرح قرطها. وكان فاحشا بذيئا.
ويذكر أهل الأخبار انه كان لا يبالي في أكل حقوق الغرباء القادمين إلى مكة، فماطل مرة في أثمان إبل اشتراها من رجل من "أراش"، وماطل مرة أخرى في إبل أخذها من رجل من "زبيد"، ولم يدفع أثمانها ولم يعوض عنها إلا بالتجاء الرجلين إلى النبي، فأخذ حقهما منه، وانتصف منه. ويظهر إن "أبا جهل" وان كان قاسيا بغيضا للرسول مؤذيا له، غير انه كان يخشاه إذا رآه ووقف امامه، واما ايذاؤه له، فكان بانتهاز غفلة يعتدي فيها على الرسول، أو بتحريض غيره للتحرش به.

(1/1939)


--------------------------------------------------------------------------------

وعرف "عمرو بن عبد الله بن صفوان بن أمية" بالجود. وذكر انه كان معرقا به. كان جوادا ابن جواد ابن جواد ابن جواد.
وكان الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، من أشراف مكة وسادتها. وقد عرف بين قومه ب "العدل". وذكر انه إنما عرف بتلك، لأنه كان يعدل قريش كلها، فكانت قريش تكسو الكعبة جميعها، ويكسوها الوليد وحده، وذلك لثرائه وغناه. قبل انه كان له مال وزع بالطائف، وكان يملك حديقة بها غرس فيها الأشجار والفواكه. وقد كان لذلك متعاليا متغطرسا، فلما أظهر الرسول الإسلام، كان مثل بقية سراة مكة وأغنيائها من المعادين له، لأنه أنف إن يتبع رجلا هو دونه في المال والاسم والثراء. فكافح الإسلام، واستهزأ بالرسول وبالإسلام، وكان أحد "المستهزئين" الذين نزلت بحقهم آيات تعنفهم وتوبخهم وتصفهم بالكفر وبالغرور والاستكبار، وانه كان يرى إن من الذلة الخضوع للرسول لأنه دونه مالا ونفرا.
وقد كان "الوليد" الحكام الذين تحوكم اليهم، واليه تحاكم بنو عبد مناف في موضوع قتل "خداش" إنسانا منهم. وقد عرف ب "ابن صخرة" نسبة إلى أمه. وذكر انه كان في جملة من حرم في الجاهلية الخمر على نفسه وضرب فيها ابنه هشاما على شربها. وقد عده "ابن حبيب" في جملة زنادقة قريش، وذكر انه وجماعته تعلموا الزندقة من نصارى الحيرة، ولم يفسر قصده من الزندقة.
ويذكرون إن "الوليد" كان أسن قريش يوم حكم في قضية "خداش"، وحكم فيها ب "القسامة"، فكان بذلك أول من سن "القسامة" في قريش.
ومات الوليد بعد الهجرة بثلاثة أشهر أو فيها، ودفن بالحجون، وذكر "محمد بن حبيب" إن "أبا أحيحة" كان نديما للوليد بن المغيرة. على عادة القوم في اتخاذ الندماء.

(1/1940)


--------------------------------------------------------------------------------

وأبو "أحيحة" هو سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس، المعروف ب "ذي العمامة"، لأنه كان لا يعتم أحد بمكه بلون عمامته إعظاما له. كما عرف ب "ذي التاج" وذلك للسبب نفسه. وقد ذكوه "أبو قبيس بن الأسلت" في شعر ينسب إليه. وكان مثل أكثر رجال قريش تاجرا. قدم مرة الشام في تجارة، فحبسه "عمرو بن جفنة"، حبسه مع هشام بن سعد العامري، وبقي في محبسه حتى جاء بنو عبد شمس، فافتدوه بمال كثير.
وكان أبو أحيحة ممن أخذتهم العزة من أشراف مكة، فلم يقبلوا الدخول في الإسلام. وممن أظهر عداوته للرسول، خاصة بعد تحريض النضر بن الحارث والوليد بن المغيرة له على معاداته. وقد كان مثل سائر أشراف مكة يرى إن الأمر العظيم يجب إن يكون في العظماء. وهو من العصبة التي أشير إليها في هذه الآية: )وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظم، أهم يقسمون رحمة ربك(.
وقد مات أبو أحيحة بماله في الطائف في السنة الأولى، أو في السنة الثانية من الهجرة، مات في كافرا، وقد بني له قبر مشرف. وقد رأى أبو بكر قبره، فسبه، فسب ابناه أبا قحافة، فنهى النبي عن سب الأموات، لما يثير ذلك من عداوة بين الأحياء، ولما فيه من إهانة للأموات.
وقد ساهم "أبو أحيحة" بثلاثين ألف دينار في رأس مال القافلة التي تولى قيادتها أبو سفيان. ومبلغ مثل هذا ليس بشيء قليل بالنسبة إلى الوضع المالي في تلك الأيام.
ومن سادة قريش: الأسود بن عامر بن السباق بن عبد الدار بن قصي.
ومن رجال بني فهر: في ضرار بن الخطاب بن مرداس بن كبير بن عمرو بن حبيب بن عمرو بن شيبان بن محارب. وكان فارس قريش في الجاهلية، وأدرك الإسلام. وكان شاعرا فارسيا، وقد أخذ مرباع بني فهر في الجاهلية.

(1/1941)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن رجال بني عامر بن لؤي: عمرو بن عبد ود بن أبي قيس. كان فارس قريش في الجاهلية، بل فارس كنانة. قتله علي بن أبي طالب. ومن "يني عبد ود"، سهيل بن عمرو، وكان من رجال قريش في الجاهلية، ثم أسلم، وهو الذي بعثته قريش يحكم الهدنة بينهم وبن النبي يوم الحديبية.
ومن سادات قريش: قيس بن عدي بن سعد بن سهم. وقد ضرب به المثل في العز، حتى قيل: "كأنه في العز قيس بن عدي". وكان يأتي الخمار وبيده مقرعة، فيعرض عليه خمره، فإن كانت جيدة، وإلا قال له: "أجد خمرك، مم يقرع رأسه وينصرف". وذكر انه كانت له قينتان يجتمع إليهما فتيان قريش: أبو لهب وأشباهه، وهو الذي أمرهم بسرقة الغزال من الكعبة، ففعلوا، فقسمه على قيانه، وكان غزالا من ذهب مدفونا، فقطعت قريش رجالا ممن سرقه، وأرادوا قطع يد أبي لهب، فحمته أخواله من خزاعة.
وذكر إن "مقيس بن عبد قيس بن قيس بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم"، هو صاحب قصة الغزال.
وكان "الحارث بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم"، أحد المستهزئين المؤذين لرسول الله، وهو "ابن الغيطلة". وهو الذي نزلت فيه" )أفرأيت من اتخذ إلهه هواه(. وكان يأخذ حجرا، فإذا رأى أحسن منه تركه وأخذ الأحسن. وكان دهريا يقول: "لقد غر محمد نفسه وأصحابه إن وعدهم إن يحيوا بعد الموت، والله ما يهلكنا إلا الدهر ومرور الأيام والأحداث".
وممن اشتهر من بني عبد شمس: "عتبة بن ربيعة بن عبد شمس"، وكان نديما لمطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف.

(1/1942)


--------------------------------------------------------------------------------

أما أبو سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن مناف، ويكنى أيضا بأبي حنظلة، فكان مثل سائر رجال مكة تاجرا صاحب أسفار، ثريا، جمع مالا من تجارته. وكان صاحب "عير قريش"، فهو المؤتمن عليها، وهو قائدها، وهو رجل جد خبير بالطرق والمسالك. وقد نجح في كل أسفاره، وأوصل تجارة مكة إلى أماكنها سالمة مضمونة. فلم يتمكن المسلمون من مفاجأته وأخذه مع أموال قريش وتجارتهم العظيمة التي تحت قيادته، حينما كان قافلا من بلاد الشام يريد مكة، إذ أحس بالخطر، فغير طريقه، وسلك طريق الساحل. وأفت مع قافلته ورجالها، وعدتهم سبعون، ووصل إلى مكة سالما، فنشبت على أثر ذلك معركة بدر.
وكانت قيادة قريش في الحرب إلى أبي سفيان أيضا، ورثها من أبيه. ورحل له فضل قيادة عير قريش، وقيادة مكة في الحرب، لا بد إن يكون في مقدمة سادات مكة وعلى رأس طبقتها المحافظة ذات العنجهية، التي ترى إن لها حق الرئاسة والزعامة، والكلمة والرأي.
وليس لأحد مكانة إلا إذا كان ذا مال وجاه وحسب. وعلى الباقين طاعة السادة، ومراعاة سن الآباء والأجداد، والإخلاص لعبادة الآباء والأجداد، والدفاع عن آلهة الكعبة التي كانت السبب في إعطاء قريش منزلة خاصة عند العرب.

(1/1943)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان فضلا عن هذا وذاك رجلا صاحب لسان، ينظم الشعر ويجيد الهجاء، ومحسن النزول إلى أسوأ مستوى يصل إليه السوقي والحوشة من الإقذاع في الكلام وإلحاق الأذى بالناس. وقد أظهر قابلياته في ذلك في عناده ضد الإسلام وفي إيذائه الرسول وفي الحاقه الأذى بالمسلمين. وقد هيأ كل ما عنده من مواهب وكفايات وقدرات مالية لمقاومة الإسلام ولمحاربة الرسول وللقضاء على الدعوة التي جاءت مقوضة لديانة الآباء والأجداد من عبادة الأصنام، ومن المحافظة.على العرف، ومن تحطيم الزعامة، والخضوع لحكم الفقراء والرقيق. وفي القرآن الكرم آيات نزلت في حقه. وقد كان من المحرضين العاملين في معركة أحدا ويذكر انه ذهب إلى الشام واتصل ب "هرقل" وأخذ يحرضه على الرسول، ولكن الروم لم يبالوا بتحريضه، فعاد إلى مكة.
ويعد" "عبد العزى بن عبد المطلب" من هذا الرعيل من وجهاء مكة الذين حاربوا الرسول، ونصبوا له العداوة. كان موسرا، جمع مالا طائلا، كما يفهم ذلك من "سورة المسد": )ما أغنى عنه ماله وما كسب(. وكان من التجار، له تجارة مع بلاد الشام. وكان من هؤلاء الذين أبوا التنكر لدين آبائهم وأجدادهم وإطاعة رجل فقير، وهم أكثر منه مالا، وأكبر سنا. روي إن رسول الله كان بسوق ذي المجاز يقول: "أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله، تفلحوا"، وإذا برجل يأتي من خلفه ويرميه بحجارة، أدمت ساقيه وعرقوبيه، وهو يقول للناس: انه كذاب لا تصدقوه.
ويعد "أبو لهب" وهو "عبد العزى" ويكنى أيضا ب "أبي عتبة"، من هذه الطبقة الوجيهة المعروفة من قريش. وهو عم الرسول، وكان مع ذلك من الذين حملوا حقدا شديدا عليه. وكانت زوجته تحرضه على معاداته وإيذائه، وفي حقها نزلت سورة "تبت". وهي السورة الحادية عشرة من السور التي نزلت بمكة على رأي أكثر العلماء.

(1/1944)

admin
12-27-2010, 02:11 AM
وكان بيته في جوار بيت رسول الله. فذكر إن رسول الله قال: كنت بين شر جارين: بين أبي لهب وعقبة بن أبي معيط، إن كانا ليأتيان بالفروث فيطرحونها في بابي. وكان النبي يقول: يا بني عبد مناف، أي جوار هذا? ثم يميطه عن بابه.
ويذكر أهل الأخبار إن هنالك عشرة أبطن من بطون قريش انتهت اليهن الشرف في الجاهلية، ووصل في الإسلام، وهم، أمية، ونوفل، وعبد الدار، وأسد، وتيم، ومخزوم، وعدي، وجمح، وسهم.
كسب مكة
ومكة كما ذكرت بلد في واد غير ذي زرع، لذلك كان عماد حياة أهلها التجارة، والأموال التي تجبى من القوافل القادمة من الشام إلى اليمن والصاعدة من اليمن إلى الشام، وما ينفقه الحجيج القادمون في المواسم المقدسة، للتقرب إلى الأصنام. وهناك مورد آخر در على أثرياء هذه المدينة المقدسة ربحا كبيرا، هو الربا الذي كانوا يتقاضونه من إيداع أموالهم إلى المحتاجين إليها من تجار ورجال قبائل.
لقد استفادت مكة كثيرا من التدهور السياسي الذي حل باليمن، ومن تقلص سلطان التبابعة، وظهور ملوك وأمراء متنافسين، إذ أبعد هذا الوضع خطر الحكومات اليمانية الكبيرة عنها، وكانت تطمع فيها وفي الحجاز، لأن الحجاز، قنطرة بين بلاد الشام واليمن. ومن يستولي عليه يتصل ببلاد الشام، وبموانئ البحر الأبيض المهمة. وأعطى تدهور الأوضاع في العربية الجنوبية أهل مكة فرصة ثمينة عرفوا الاستفادة منها. فصاروا الواسطة في نقل التجارة من العربية الجنوبية إلى بلاد الشام، وبالعكس. وسعى تجار مكة جهد إمكانهم لاتخاذ موقف حياد تجاه الروم والفرس والحبش، فلم يتحزبوا لأحد، ولم يتحاملوا على طرف، وقووا مركزهم بعقد أحلاف بينهم وبين سادات القبائل، وتوددوا إليهم بتقديم الألطاف والمال اليهم، ليشتروا بذلك قلوبهم. وقد نجحوا في ذلك، واستفادوا من هذه السياسة كثيرا.

(1/1945)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي القرآن إشارة إلى تجارة مكة، والى نشاط أهلها ومتاجرتهم مع الشام، واليمن: )لإيلاف قريش ايلافهم رحلة الشتاء والصيف(. قال المفسرون: إن رحلة الشتاء كانت إلى اليمن، أما رحلة الصيف فكانت إلى بلاد الشام. وانهم كانوا يجمعون ثروة طائلة من الرحلتين تدر على قريش خيرا كثيرا، وتعوضهم عن فقر بلادهم.
ويظهر إن أهل هذه المدينة كانوا يسهمون جميعا في الاتجار، فيقدم المكي المتمكن كل ما يتمكن تقديمه من مال ليستغله ويأتيه برزق يعيش عليه. ولذلك يعد رجوع القافلة أمنة مطمئنة بشرى وسرورا للجميع.
وقد أدى نشاط بعض أسر مكة في التجارة إلى حصولها على ثروات كبيرة طائلة. وقد أسهم رجل واحد من أهل هذه المدينة هو "أبو أحيحة" بثلاثين ألف دينار في رأس مال القافلة التي تولى قيادتها أبو سفيان. ومبلغ مثل هذا ليس بشيء قليل بالقياس إلى الوضع المالي في تلك الأيام، كذلك كان "عبد الله ابن جدعان" و "الوليد بن المغيرة المخزومي" من أثرياء مكة. وقد اشتهر بنو مخزوم بالثروة والمال.
وكانت لأسر مكة تجارات خاصة مع العراق وبلاد الشمام واليمن ومواضع من جزيرة العرب" تجارات لا علاقة لها برحلتي الشتاء والصيف، وكان لبعضها تجارة مع الأنبار والحيرة في العراق، وكان لبعض آخر تجارة مع "بصرى" و "غزة" وأذرعات في بلاد الشام، وكان لآخرين تجارة مع بلاد اليمن. وكان للأسر الغنية الثرية اتصال تجاري مع كل هذه المواضع. وتعامل مع كل الأماكن المذكورة، ولها وكلاء يبيعون لها ويشترون، كما كانت هي تتوكل لتجار العراق وبلاد الشام واليمن، وتجني من هذا التعامل أرباحا طيبة.

(1/1946)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد تحدثت عن النزاع الذي كان قد نشب بين أهل مكة و "أبرهة"، وهو نزاع ذو طبيعة سياسية في الأغلب، وان جعله أهل الأخبار ذا طبيعة دينية. والأغلب إن الروم حثوا أبرهة على السير إلى مكة والاتجاه منها نحو الشمال، للاتصال ببلاد الشام، والاستيلاء بذلك على العربية الغربية، وبذلك يكون لهم سلطان على القسم الغربي من جزيرة العرب، فيأمنون على مصالحهم الداخلية وينزلون بذلك ضربة كبيرة بأعدائهم الساسانيين وبمن كان يساعدهم من سادات قبائل. ولكن اخفق التدبير، ورجع "أبرهة" خائبا لم يحقق شيئا.
وأدى استيلاء الفرس على اليمن إلى حدوث تطور في علاقات أهل مكة بالفرس وبالروم. وقد اخذ الفرس يتدخلون في تجارة العربية الجنوبية، فصاروا يرسلون ببضائع من أسواق العراق إلى اليمن، ويأخذون في مقابلها بضائع من أسواق أفريقية والعربية الجنوبية، كما اخذ ملوك الحيرة يرسلون ب "لطائمهم" إلى اليمن للبيع والشراء.
وقد اثر هذا الوضع في تجارة أهل مكة أثرا كبيرا، إذ انتزع الفرس وملوك الحيرة من أيديهم قسطا من أرباحهم، وربما لا يبعد إن يكون الهجوم الذي وقع على "لطيمة" "النعمان بن المنذر" ملك الحيرة، بتشجيع من أهل مكة، ذلك الهجوم الذي عرف ب "الفجار"، وذلك للأضرار بالفرس وبملوك الحيرة، ولتخويف القوافل التي صارت تسلك طريق "الطائف"، ثم منها إلى مواضع في البادية إلى الحيرة متجنبة طريق مكة.
وكانت "الشعيبة" ميناء مكة، إليها ترد السفن قبل جدة، ثم أخذت جدة موضعها في أيام الخليفة عثمان بن عفان.
وقد قصدت ميناء "الشعيبة" سفن الروم وسفن الحبش، اذ كانت السفن القادمة من إفريقية، لبيع تجارتها لأهل مكة، ترسو في هذا الميناء.

(1/1947)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من كتب أهل الأخيار إن تجار مكة لم يكونوا يملكون سفنا خاصة بهم، لنقل تجارتهم إلى موانئ إفريقية، أو لنقل ما يشترونه من الموانئ الإفريقية لتصريفه في أسواق العراق أو أسواق بلاد الشام. فنحن لا نكاد نجد في هذه الكتب شيئا يفيد إن أهل مكة كانوا يملكون سفنا يسيرها بحارة منهم. بل نجد انهم كانوا يركبون سفنا حبشية، عند ذهابهم إلى الحبشة. وهي سفن لم تكن شيئا بالقياس إلى سفن الروم في ذلك العهد.
ولمركز مكة ونشاطها في التجارة، توافد عليها أيضا تجار من الخارج من بلاد الشام ومن العراق ومن بلاد الروم والفرس وفيهم. ساكنوا المكيين، وتحالفوا مع أثريائهم، ومنهم من قام فيها في مقابل دفع جزية لحمايته ولحفظ أمواله وتجارته. وكان تجار بلاد الشام خاصة يجلبون القمح والزيوت والخمور الجيدة إلى تجار مكة. وقد اتخذوا مستودعات فيها لخزن بضاعتهم هذه ولتصريفها.
ولا يستبعد "أوليري" إن يكون من بين تجار الروم في مكة من كان عينا للبيزنطيين على العرب، يتجسس لهم، ويتسقط أخبارهم، ويكتب لهم عن صلاتهم بالفرس، وعن أنباء الفرس في جزيرة العرب واتصالهم بالقبائل، لشدة حاجة الروم إلى تلك الأخبار، لإفساد خطط الفرس وإبعادهم عن بلاد العرب وعن البحار. والعالم يومئذ معسكران متخاصمان: معسكر للروم، ومعسكر للفرس.
وقوم هم أصحاب تجارة واتصال بالعالم الخارجي بحكم اتجارهم معه، وذهابهم إليه، لا بد إن يكون لهم اهتمام بما كان يجري ويقع في السياسة الدولية. وكان لهم علم بما يحدث بين الفرس والروم، وبين الحبش وأهل اليمن، لأن لما يحدث علاقة كبيرة بتجارتهم وبالأسواق التي كانوا يخرجون إليها للبيع والشراء.

(1/1948)


--------------------------------------------------------------------------------

ونجد في القرآن الكريم ما يؤيد ذلك. فلما وقعت الحرب بين الفرس والروم، هذه الحرب التي استولى فيها الفرس على القدس، وعلى "الصليب" المقدس عند النصارى، كان اهتمام مكة بها كبيرا وانقسم أهل مكة فريقين: مؤيد للروم، ومؤيد للفرس، مما يدل على وقوف أهل مكة على ما كان يقع في الخارج، وقد أشار إلى ذلك القرآن الكريم في سورة "الروم".
وقد كان المكيون يهتمون اهتماما خاصا بما كان يقع في بلاد الشام وفي اليمن من أحداث، إذ كانت تجارتهم مرتبطة بهذه البلاد بالدرجة الأولى. فما يقع فيها يؤثر تأثرا مباشرا في تجارتهم. ولذلك حاولوا جهد إمكانهم إنشاء صلات حسنة مع الحاكم على بلاد الشام والحاكم على اليمن، كما كان من مصلحة الروم مصالحة حكام العربية الغربية وترضيتهم، ليأمنوا بذلك على سلامة تجارتهم في البحر الأحمر وعلى وصول بضائع إفريقية والبلاد العربية الجنوبية والهند إليهم عند تعسف الفرس بالتجارة البرية التي كانت تأتي من الهند ومن الصين لتباع في بلاد الروم، وعند نشوب الحرب، وهي متوالية كثيرة، فيما بينهما، فتنقطع التجارة عندئذ بينهما، وترتفع الأسعار. إما التجارة عن طريق العربية الغربية، فلم تكن تصاب بأذى الحروب وبالنزاع بين الفرس والروم، لأنها كانت بعيدة عن ساحة الحروب، وهي في مأمن من الغارات.
ويظهر من روايات أهل الأخبار إن سادات مكة والمواضع الأخرى من الحجاز كانوا يتوددون إلى الروم والى حكام اليمن ليمكنوهم من التحكم في شؤون مواطنيهم وللسيادة عليهم. وقد روى "ابن قتيبة" إن "قصيا" استعان ب "قيصر" في نزاعه مع خزاعة. وقد تكون مساعدة قيصر له، بإشارته على الغساسنة حلفاء الروم لتقديم العون إليه. ولمجوز إن يكون "بنو عذرة" وهم من العرب النصارى النازلين في أطراف بلاد الشام قد ساعدوه بطلب من الروم.

(1/1949)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا يستبعد إن يكون تجار اليمن في أيام قصي وبعد موته، كانوا يأتون بتجارتهم إلى "مكة"، ثم يقوم تجار مكة بنقلها إلى بلاد الشام، أو بشرائها من تجار اليمن، ثم يقومون هم ببيعها على حسابهم في "بصرى" أو غزة من بلاد الشام. وقد كان يقع اختلاف في بعض الأحيان بين تجار اليمن وتجار مكة، وقد يقع اعتداء على تجار اليمن فيصادر بعض أهل مكة أموالهم ويغتصبونها، كالذي حدث لتاجر من تجار اليمن، مما حداه بالاستجارة بأشراف مكة وسادتها لإنصافه، وأدى الحال إلى عقد حلف الفضول.
ولطبيعة أهل مكة المستقرين التجار، لزم الابتعاد عن الحروب وعن خلق المشكلات، وجل كل معضلة بالمفاوضات أولا وبالسلم. كما سعت للاتفاق مع القبائل المجاورة على محالفتها ومهادنتها. وقد أفادت هذه السياسة قريشا كثيرا، فظهرت زعامة مكة على القبائل بعد تدهور ملك حمير في السياسة وفي الدين والاقتصاد. والارتفاع مستوى مكة الثقافي بالنسبة إلى الأعراب، ولزعامتها الدينية على القبائل المجاورة لها، ولاتصال سادتها بالعالم الخارجي، ولوجود جاليات أجنبية فيها طورت حياتها الاقتصادية والصناعية مما جعل القبائل تعترف لها بالتفوق عليها، وتسير في ركابها، وتتبع تقويمها، ونحضر في مواسمها، حتى صارت مكة عند ظهور الإسلام القاعدة للغربية العربية والزعيمة لها، ولذلك كانت رمز مقاومة الإسلام، والحصن العتيد المقاوم له. فلما دك هذا الحصن، دكت المقاومة دكا، واستسلمت المواضع والقبائل للإسلام دون مقاومة تذكر.
وبلد مثل مكة فيه تجار وتجارة ورقيق وغنى وفقر وراحة وأصنام وعبادة وحجاج يأتون للتقرب إلى الأصنام، لا بد إن يضع أهله لهم وللقادمين إليه أنظمة وقوانين لتنظيم الحياة، وتأمين الأمن وحفظ الحقوق وحماية من يفد إليه من الأذى لدوام مجيء الحاج إليه على الأقل.

(1/1950)


--------------------------------------------------------------------------------

فالكعبة، وهي بيت الأصنام، ارض حرام، لا يجوز البغي فيها، ولا المعاصي واقتراف الآثام. والمدينة، وهي في جوار البيت ذات حرمة وقدسية. ودار الندوة دار مشورة وحكم وزعامة. وسكان البلد الحرام هم في حمى البيت وفي جواره، ولا بد من أنصافهم وإحقاق حقهم. ولأنصافهم ودفع الأذى عن فقيرهم، عقد حلف الفضول، وتعهد سادات مكة بالدفاع ممن يستجير بهم، وبتأديب من يتجاسر منهم على العرف والسنة، وبذلك، جعلوا مكة بلدا آمنا مستقرا في محيط تتعارك فيه الأمواج.
ولسياسة أهل مكة القائمة على المسالمة وحل الخلاف بالتشاور والتفاوض، رميت قريش البواطن، وهم غالبية أهل المدينة بعدم القدرة على القتال وبالاتكال على غيرهم في الدفاع عن بلدهم، وباعتمادهم على الأحابيش وعلى قريش الظواهر وعلى القبائل المحالفة لهم في الدفاع عن مكة. ولم تكن مكة وحدها بدعا في هذا الأمر، إذ كان أهل يثرب وأهل الطائف وسائر أهل القرى والمدر مثل أهل مكة، غير ميالين إلى الغزو والقتال، ولهم حبال وأحلاف مع القبائل الساكنة بجوارهم، لمنع تعدياتهم عليهم، ولمنع من يطمع فيهم من تنفيذ ما يريد.
الرقيق
وقد كانت بمكة جالية كبيرة من اصل إفريقي، عرفت ب، "الأحابيش" وهم سود البشرة، اشتراهم أثرياء مكة للعمل لهم في مختلف الأعمال ولخدمتهم. وقد كان هذا الرقيق ضرورة لازمة لاقتصاد مكة ولنظامها الاجتماعي في ذلك الزمن. فقد كان يقوم مقام الآلة في خدمة التاجر وصاحب العمل، فكان مصدرا من مصادر الثروة، وآلة مسخرة تخدم سيدها بأكل بطنها، كما كان سلاحا يستخدم للدفاع عن السادة في أيام السلم وفي أيام الحرب.
وقد سبق إن أشرت إلى وجود "إحابيش" بين أهل مكة، زعم الأخباريون انهم عرب، وانهم إنما عرفوا بالأحابيش، لأنهم تحابشوا، أي تحالفوا وتعاهدوا على التناصر والتأثر عند جبل "حبشي"، فهم على زعم هؤلاء الأخباريين أحابيش آخرون لا صلة لهم بالأحابيش الذين أتحدث عنهم.

(1/1951)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد أشار أهل الأخبار إلى إن قوما من أشراف مكة تزوجوا حبشيات فأولدن لهم أولادا. ذكروا منهم "نضلة بن هاشم بن عبد مناف" و "نفيل بن عبد العزى" و "عمرو بن ربيعة" و "الخطاب بن نفيل"، والد "عمر بن الخطاب"، ويذكر إن "ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري" عير "عمر بن الخطاب" فقال ل:" يا ابن السوداء"، فأنزل الله: )يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم، عسى إن يكونوا خيرا منهم( و"عمرو بن العاص" وجماعة آخرين.
وقامت بخدمة قريش طائفة أخرى من الآلات الحية، هي ادق عملا وأحسن خدمة وأرقى في الإنتاج من الطائفة الأولى: الأحابيش، استوردت من الشمال من بلاد الشام والعراق، هي الأسرى البيض الذين كانوا يقعون في أيدي الروم أو الفرس أو القبائل المغيرة على اسود، فيباعون في أسواق النعاسة، ومنها ينقلون إلى مختلف أنحاء جزيرة العرب للقيام بمختلف الأعمال. يضاف إلى هؤلاء، الرقيق المستورد من أسواق اوروبة، لبيعه في أسواق الشرق. وأسعار هذه البضاعة وان كانت أغلى ثمنا من أسعار البضاعة المستوردة من إفريقية، إلا إن الجودة في الإنتاج والتفنن فيه، والبراعة في الصناعات التي لا تعرفها بضاعة الجنوب تعوض عن هذا الفرق.

(1/1952)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن جملة ما وكل إلى رقيق العراق وبلاد الشام والروم وغيرهم من ذوي البشرة البيضاء من أعمال، إدارة المبيعات، والقيام بالحرف التي تحتاج إلى خبرة ومهارة وفن، وهي من اختصاص أهل المدن والمستقرين: مثل أعمال البناء والتجارة والأعمال الدقيقة، وهذه البضاعة التي استوردتها قريش إلى مكة-وان كانت تابعة، تؤمر فتفعل، وتكلف فتستجيب-كانت بضاعة حية، لها قلب نابض، ودماغ يعمل، ولحم ودم، ولبعضها علم وفهم ومعرفة تفوق معرفة أصحابها المالكين لها. فبضاعة هذا شأنها لا بد إن تترك أثرا في البيئة التي استوردت إليها. والأخباريون الذين هم مرجعنا الوحيد في رواية أيام الجاهلية قبيل الإسلام، وان لم يحدثونا عن أمر هؤلاء القوم في نقوس ساداتهم والذين اختلطوا جمهم، نستطيع بالاعتماد على نقد بعض النتف من رواياتهم إن نصل إلى هذه النتيجة التي هي شيء طبيعي وأمر ليس بغريب: نتيجة تقول إن هذه البضاعة تركت في نفوس أهل مكة وفي نفوس العرب الآخرين ممن كان لهم رقيق، أثرا ليس إلى إنكاره من سبيل، وان بعض المصطلحات الفارسية والرومية والحبشية التي كانت معروفة عند العرب قبيل الإسلام، والتي أكدوا هم أنفسهم إنها لم تكن عربية، ولاسيما ما كان يتعلق منها بالصناعات والأعمال التي يأنف العربي من الاشتغال بها، إنما دخلت لغتهم وشاعت بينهم من طريق هؤلاء.

(1/1953)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد كان أغلب الرقيق الأبيض على النصرانية، وقد ذكر الأخباريون أسماء لبعضهم من نزلاء مكة تشير بوضوح إلى تنصرهم. وقد كان فيهم من يتقن العربية، ويعبر عن أفكاره بها تعبيرا صحيحا واضحا، وفيهم من لا يفقه هذه اللغة، لأنه حديث عهد بها، فكان يتكلم بلسان أعجمي أو بعربية ركيكة. ومنهم من كان بتباحث في أمور الدين ويشرح لمن يجالسه ما جاء في ديانته وفي كتبه المقدسة. وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في الآيات" )ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر. لسان الذي يلحدون إليه أعجمي، وهذا لسان عربي مبين(. "وقال الذين نحروا إن هذا إلا إفك ه افتراه وأعانه عليه قوم آخرون. فقد جاؤوا ظلما وزورا. وقالوا أساطير الأولين اكتتبها، فهي تملى عليه بكرة وأصيلا".
وقال "ابن هشام" في تفسر الآية: )ولقد نعلم انهم يقولون إنما يعلمه بشر، لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين(: "وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيما بلغني، كثيرا ما يجلس عند المروة إلى مبيعة غلام نصراني، يقال له جبر، عبد لبني الحضرمي، وكانوا يقولون: والله ما يعلم محمدا كثيرا مما يأتي به إلا جبر النصراني، غلام بني الحضرمي. فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم: ولقد نعلم". وهناك أشخاص آخرون كانوا موالي لا يحسنون العربية ولا يجدون النطق بها.
وروي عن "عبد الله بن مسلم الحضرمي" انه "قال: كان لنا عبدان: أحدهما يقال له يسار، والأخر يقال له جبر. وكانا صيقلين، فكانا يقرآن كتابهما ويعملان عملهما. وكان رسول الله يمر بهما فيسمع قراءتهما. فقالوا: إنما يتعلم منها. فنزلت: ولقد نعلم انهم يقولون".
وأشير إلى غلام آخر كان بمكة، اسمه "بلعام"، وكان قينا، ذكر إن الرسول كان يدخل عليه ويخرج من عنده، فقالوا انه كان يتعلم منه. وقيل إن ذلك الرجل الذي قال أهل مكة إن الرسول كان يتعلم منه، اسمه "أبو اليسر"، وكان نصرانيا".

(1/1954)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي جملة من أشار إليهم أهل اليسر من النصارى الذين كانوا بمكة، رجل اسمه "نسطاس"، وكان من موالي "صفوان بن أمية"، ونسطور الرومي، ويوحنا مولى صهيب الرومي، وصهيب الرومي نفسه، وهو من الصحابة، جاء من بلاد الشام، ونزل بمكة، وتشارك مع مثري قريش عبد الله بن جدعان، ثم استقل عنه، وصار ثريا من أثرياء مكة. ثم دخل في الإسلام. ومنهم مولى يوناني تزوج سمية أم بلال. وقد بقي نفر من النصارى محتفظين بدينهم بمكة في أيام الرسول.
وفي حديث الأخباريين عن بناء الكعبة إن قريشا استعانت بعامل من الروم، أو من الأقباط، اسمه باقوم، كان تجارا مقيما بمكة، في تسقيف البيت. وفي حديث آخر لهم: إن هذا الرجل كان في سفينة جهزها قيصر الروم لبناء كنيسة، وقد شحنها بالرخام والخشب والحديد، فجنحت عند "الشعيبة" فاستعانت قريش بما تبقى من أخشابها وبخبرة هذا الرومي في تسقيف البيت. وقد دعي ب "بلقوم الرومي" أيضا.
وفي كتب السير وكتب تراجم الصحابة أسماء جوار يونانيات أو من بلاد الشام أو من العراق، وقد تزوجن في مكة ونسلن ذرية كانوا فيها قبل الإسلام. وقد كان منهن في مواضع أخرى من جزيرة العرب بالطيع.
ويعود قسط كبير من وجود الكلمات الحبشية والرومية والفارسية في العربية إلى الرقيق الأسود والأبيض. وهذه الكلمات هي مسميات لأمور غريبة عن العربية لم يكن لأهل مكة ولا لغيرهم علم بها، فاستعملوها كما وردت وأخذت، أو صقلت حتى لاءمت اللسان العربي، كما حدث ويحدث في اللغات الأخرى، وعربت وصارت من ألفاظ العربية. وقد لاحق قسما منها علماء اللغة، فوضعو فيها كتبا بحثت في تلك المعربات، وفي القرآن الكريم طائفة منها لم يغفل عنها أرباب اللغة والمفسرون.
أغنياء ومعدمون

(1/1955)


--------------------------------------------------------------------------------

كان أهل مكة بين غني متخم وفقر معدم. وبين الجماعتين طبقة نستطيع إن نقول إنها كانت متوسطة. وأغنياء مكة، هم أصحاب المال، وقد تمكنوا من تكثيره بإعمال ما عندهم من مال بالاتجار وبإقراضه للمحتاج إليه، وبإعماله بالزراعة، واستغلاله بكل الطرق المربحة التي يرون إنها تنفحهم بالأرباح.
وقد تمكن هؤلاء الأغنياء من بسط سلطانهم على قبائل الحجاز، ومن تكوين صلات وثيقة مع أصحاب المال في العربية الجنوبية وفي العراق وبلاد الشام، بحيث كانوا يتصافقون في التجارة ويشار كونهم في الأعمال، حتى صاروا من أشهر تجار جزيرة العرب في القرن السادس للميلاد.

(1/1956)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر مما جاء في القرآن الكريم إن بعض هؤلاء الأغنياء كان قاسيا، لم تدخل الرحمة ولا الشفقة قلبه. فكان يقسو على المحتاج، فلا يقرضه المال إلا بربى فاحش وكان يشتط عليه. وكان بعضهم لا يتورعون من أكل أموال اليتيم والضعيف، طمعا في زيادة ثرائه. وكان يستغل رقيقه استغلالا شنيعا، حتى انه كان يكره فتياته على البغاء ليستولي على ما يأتن به من مال. وفي ذلك نزل النهي عنه في الإسلام. )ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا، لتبتغوا عرض الحياة الدنيا(. قال "الطبري": "كانوا في الجاهلية يكرهون إمامهم على الزنا. يأخذون أجورهن. فقال الله، لا تكرهوهن على الزنا من أخل المنالة في الدنيا. ومن يكرههن، فإن الله من بعد اكراهن غفور رحيم لهن. يعني إذا أكرهن". وقال: "كانوا يأمرون ولائدهم يباغين، يفعلن. ذلك، فيصبن فيأتينهم بكسبهن". وروي إن هذه الآية نزلت في حق "عبد الله ابن أبي سلول" وكان من أغنياء مكة من يأكل بصحاف من ذهب وفضة، ويثرب بآنية من ذهب وفضة ومن بلور، ويأكل على طريقة الروم والفرس، بسكاكين وشوكات مصنوعة من ذهب أو من فضة، على حين كان أكثر أهل مكة فقراء لا يملكون شيئا. وكانوا يلبسون الحرير، ويتحلون بالخواتم المصنوعة من الذهب، تزينها أحجار كريمة. ولعل هذا الإسراف والتبذير كانا في جملة العوامل التي أدت إلى منع المسلمين من استعمال الأواني المصنوعة من الذهب والفضة للأكل والشرب، ومن صدور النهي من استعمال الحرير للرجال.

(1/1957)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد حرص هؤلاء الأغنياء على إكثار أموالهم، وعلى توسيع تجارتهم، لذلك كانت هجرة الرسول إلى يثرب وتحرش المسلين بقوافلهم الذاهبة الآيبة بين بلاد الشام ومكة لطمة كبيرة أصابتهم. لقد اجتمع ملأهم بعد وقعة بدر للتداول في أمرهم. فقال قائل منهم: "قد عور علينا محمد متجرنا وهو على طريقنا. وقال أبو سفيان وصفوان بن أمية: إن أقمنا بمكة أكلنا رؤوس أموالنا. قال زمعة بن الأسود: فأنا أدلكم على رجل يسلك بكم النجدية، لو سلكها مغمض العينين لاهتدى. قال صفوان؛ من هو? فحاجتنا إلى الماء قليل. إنما نحن شاتون. قال: فرات بن حيان، فدعواه فاستأجراه، فخرج بهم في الشتاء، فسلك بهم على ذات عرق، ثم خرج بهم على "غمرة". وانتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم خبر العير وفيها مال كثير، وآنية من فضة حملها صفوان بن أمية، فخرج زيد بن حارثة، فاعترضها، فظفر بالعير، وأفلت أعيان القوم، فكان الخمس عشرين ألفا، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقسم الأربعة أخماس على السرية، وأتى بفرات بن حيان العجلي أسيرا، فقيل، إن أسلمت لم يقتلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسلم، فأرسله". وقد عرفت هذه الغزوة ب "غزوة القردة". وقد كانت في السنة الثالثة من الهجرة.

وقد أشير في ديوان "حسان بن ثابت" إلى "فرات" هذا، كما أشير إلى رجل آخر هو "قيس بن امرئ القيس العجلي"، استأجرته قريش كذلك، ليكون لها دليلا يهدي قوافلها الطريق.

(1/1958)

admin
12-27-2010, 02:12 AM
وقد كانت قريش، كما كان غير قريش، ومنهم المسلمون يستعينون بالأدلاء لإرشادهم الطرق، ولاسيما في أيام الخطر. وأيام جزيرة العرب كلها خطر دائم بالنسبة للتجار، لما كانوا يحملونه معهم من أموال، تسيل لعاب الطامعين في المال، وتنسيهم كل عهد وموثق. لشك كانوا يتحسسون جهدهم الطرق، ولا يسيرون إلا في الطرق الآمنة التي يوثق من ذمم أصحابها ومن قدرة سادتها على ضبطها وعلى إنزال أقصى العقوبة بالخلعاء وبالخارجين على الطاعة والعرف. ويستأجرون الأدلاء أصحاب العلم والدراية العملية بالطرق وبمخارجها وبكيفية الخروج من مآزقها ومهالكها وأخطارها، يتفقون معهم على إرشادهم، على إن يكون لهم أجر حسن إن نجت القافلة من الخطر ووصلت سالمة إلى مكانها المقصود.
وقد استغل تجار مكة أموالهم في الخارج، وامتلكوا الضياع، فامتلك "أبو سفيان ابن حرب" أيام تجارته إلى الشام في الجاهلية ضيعة بالبلقاء تدعى بقبش، فصارت لمعاوية وولده".
ولم يبال رجال مكة من الاشتغال بالصناعات، فقد اشتغل قوم منهم بالبزازة، واشغل بعض منهم بالخياطة، فكان "العوام أبو الزبير خياطا" و "كان الزبير جزارا، وكان عمرو بن العاص جزارا، وكان عامر بن كريز جزارا، وكان الوليد بن المغيرة جزارا. وكان العاص بن هشام أخو أبو جهل حدادا، وكان عقبة بن أبي معيط خمارا. وكان عثمان بن أبي طلحة الذي دفع إليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مفتاح البيت خياطا، وكان قيس بن مخرمة خياطا، وكان أبو سفيان بن حرب يبيع الزيت والأدم، وكان عتبة بن أبي وقاص أخو سعد نجارا، وكان أمية بن خلف يبيع البرم، وكان عبد الله ابن جدعان تخاسا، له جوار يساعين ويبيع أولادهن، وكان العاص بن وائل أبو عمرو بن العاص يعالج الخبل والإبل، وكان النضر بن الحارث بن كلدة يضرب بالعود ويتغنى، وكان الحكم بن أبي العاص أبو مروان بن الحكم حجاما، وكذلك حريث بن عمرو".

(1/1959)


--------------------------------------------------------------------------------

وإذا صح ما ذكرته من كلام نقلته من "الأعلاق النفيسة" لابن رستة، فإن ذلك ينفي ما يذكره أهل الأخبار من عدم وجود "تجار" في مكة كالذي ذكروه من عم وجود تجار بها يوم جددوا بناء الكعبة، فحاروا في كيفية العثور على تجار يقوم بتسقيف البيت، وبقوا في حيرتهم حتى اهتدوا إلى رومي تحطمت سفينته عند الساحل، فجاؤوا به وبخشب سفينته فسقف الرومي "باقوم" لهم عندئذ الكعبة. وتنقي رواية "ابن رستة" ما ذكره غيره من ترفع ذوي الأسر من قريش من الاشتغال بالحرف اليدوية لأنها حرف لم تخلق للأشراف. ويكون ذلك دليلا على إن بعض ما يذكره أهل الأخبار عن أهل مكة بعيد عن الواقع وتناقض فيما يروونه، لم يفطنوا إليه، لأنهم كانوا ينقلون الأخبار، ويأخذونها أنى جاءت، وغايتهم الجمع، وعلينا الآن واجب التمحيص بين تلك الروايات ونقدها وغربلتها، لاستخراج اللب من القشور.
وعندي إن الإسلام، هو الذي صير قريشا قريشا المذكورة في الكتب. وهو الذي سودها على العرب، وجعل لها المكانة الأولى بين القبائل، والخلافة فيها، بفضل كون الرسول منها وظهور الإسلام في مكة. ولولا الإسلام، لكانت مكة قرية من القرى، لبعض أسرها ثراء حصلت عليه بفصل نشاطها وتقرب رجالها إلى سادات القبائل وحكام العراق وبلاد الشام واليمن، وبفضل دعوة رجال قريش القبائل المحيطة بمكة لحج البيت والتقرب إلى الأصنام التي كدسوها فيه وحوله، ومنها أصنام القبائل التي لها تعامل مع مكة، فحصلت على ربح هو "حق قريش" من الغرباء وحق تعشير التجار وتعاطي البيع والشراء معهم.
ويبدو من أخبار الأخباريين عن البيت؛ إن العناية لم توجه إليه إلا قبيل الإسلام. وان الإسلام هو الذي رفع قواعده، وعني بعمارته، وهو الذي فرش مسجد بالرخام، وجعل له أشياء كثيرة لم تكن موجودة في أيام الجاهلية. وقد صرف عليه الخلفاء أموالا طائلة وذلك قربة لله رب البيت.

(1/1960)


--------------------------------------------------------------------------------

والواقع إن في كثير مما يذكره أهل الأخبار عن مكة، ما يناقض بعضه بعضا، وما لا يلتئم مع ما يذكرونه عنها. وهو في حاجة إلى نقد وغربلة. والظاهر إن الرواة عندما وجهوا عنايتهم نحو تدوين تأريخ مكة، وعمدوا إلى الشيبة يسألونهم عن تأريخها، تكلم كل منهم بحسب ما بقي في ذهنه عنا، وبما سمعه من آبائه، فجاء متناقضا، لا توافق ولا تناسق فيما بين تلك الروايات التي أخذت من الأفواه. وقد زوقها بعضهم بعض التزويق، أو هذب فيها وشذب، حتى وصلت إلى الشكل الذي بلغته إلينا. وإني أرجو إن يعثر في المستقبل على كتابات جاهلية قد تلقي بعض الضوء على تأريخ هذه المدينة المقدسة قبلة المسلمين، وان يقوم العلماء بتخصيص وقت كاف لدراسة ما ورد في كتب التفسير والحديث والموارد الأخرى عن مكة، لتقديم تأريخ واضح عن مكة.
هذا ما عندي من تأريخ مكة، أما عن "الكعبة." وعن الحج وعن المسائل الأخرى المتعلقة بالدين أو بالتجارة أو بالحكم، وبما شاكل ذلك، فسيكون الكلام عنها في المواضع المناسبة، فإليها المرجع إذن.
الفضل الثالث والأربعون
يثرب والطائف
وكان ليثرب مكان مهم عند ظهور الإسلام، وفيها وفي أطرافها سكنت جاليات من يهود. وهي من المواضع التي يرجع تأريخها إلى ما قبل الميلاد. وقد ذكرت في الكتابات المعينية، وكانت من المواضع التي سكنتها جاليات من معين، ثم صارت إلى السبئيين بعد زوال مملكة معين. ولعل هذا السكن هو الذي حمل للنسابين على إرجاع نسب أهل يثرب إلى اليمن، فقالوا إنهم من الأزد، وإنهم من "قحطان".
وللأخباريين كعادتهم آراء في الاسم، قالوا إنها سميت "يثرب" نسبة إلى "يثرب بن قانية بن مهلائيل بن أرم بن عبيل بن عوص بن إرم بن سام بن نوح"، وكان أول من نزلها فدعيت باسمه. وقالوا" بل قبل لها "يثرب" من التثريب، وقالوا أشياء أخرى من هذا القبيل.

(1/1961)


--------------------------------------------------------------------------------

وزعم أهل الأخبار إن الرسول لما نزلها كره إن يسميها "يثرب"، فدعاها "طيبة" و "طابة". وذكروا لها تسعا وعشرين اسما، منها: "جابرة" و "مسكينة" و "محبورة" و "يندر الدار" و "دار الهجرة".
ويذكر بعض أهل الأخبار إن أقدم من سكن "يثرب" في سالف الزمان قوم يقال لهم "صعل" و "فالج"، فغزاهم النبي "داوود" وأخذ منهم أسرى، وهلك أكثرهم وقبورهم بناحية "الجرف". وسكنها "العماليق"، فأرسل عليهم النبي "موسى" جيشا انتصر عليهم، وعلى من كان ساكنا منهم ب "تيماء"، فقتلوهم، وكان ذلك في عهد ملكهم الملك "الأرقم بن أبي الأرقم". ولم يترك الإسرائيليون منهم أحدا، وسكن اليهود في مواضعهم.
ونزل عليهم بعض قبائل العرب، فكانوا معهم واتخذوا الأموال والآطام والمنازل. ومن هؤلاء "بنو أنيف"، وهم حي من "بلي"، ويقال انهم بقية من العماليق، و "بنو مريد" مزيد "مرثد"، حي من "بلي"، وبنو معاوية ابن الحارث بن بهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان، وبنو الجدمى "الجدماء" حي من اليمن، فعاشوا مع من كان بيثرب وأطرافها من اليهود، واتخذوا المنازل والآطام يتحصنون فيها من عدوهم إلى قدوم الأوس والخزرج إياها.

(1/1962)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان قدوم "الأوس" و "الخزرج" على أثر حادث "سيل العرم"، فأجمع "عمرو بن عامر بن حارثه بن ثعلبة"، الخروج عن بلاده وباع ما له بمأرب، وتفرق ولده، فنزلت الأوس والخزرج "يثرب" وارتحلت "غسان" إلى الشام، وذهبت "الأزد" إلى عمان وخزاعة إلى تهامة. وأقامت الأوس والخزرج بالمدينة ووجدوا الأموال والآطام والنخل في أيدي اليهود ووجدوا العدد والقوة معهم، فمكثوا معهم أمدا وعقدوا معهم حلفا وجوارا يأمن به بعضهم بعضا ويمتنعون به ممن سواهم، فلم يزالوا على ذلك زمانا طويلا، حتى نقضت اليهود عهد الحلف والجوار، وتسلطها على يثرب، فاستعان الأوس والخزرج بأقربائهم على اليهود، فغلبوهم، وصارت الغلبة للعرب على المدينة منذ ذلك العهد، على نحو ما سأتحدث عنه بعد قليل.
وأقدم مورد أشير فيه إلى "يثرب"، هو نص الملك "نبونيد" ملك بابل، الذي سكن "تيماء" أمدا، وذكر فجه إنه بلغ هذه المدينة. كما سلف إن تحدثت عن ذلك في أثناء حديثي عن صلات العرب بالبابليين. وقد عرفت ب "يثربه" "Jathripa" في جغرافيا "بطلميوس" وعند "اصطيفان البيزنطي". وعرفت ب "المدينة" كذلك من كلمة "Nedinta" "Medinto" الإرمية، التي تعني "مدينة" في عربيتنا و "هكر" في العربية الجنوبية. وقد ورد اسمها في الكتابات المعينية.
ويظهر إنها عرفت ب "مدينة يثرب" على نحو ما وجدنا في كتاب "اصطيفان البيزنطي"، ثم اختصرت، فقيل لها "مدينتا"، أي "المدينة". ولما نزل الرسول بها، عرفت بأ "مدينة الرسول" في الإسلام.
وولقدم تأريخ "يثرب" ولورود اسمها في نص "نبونيد"، الذي يدل على إنها كانت معروفة اذ ذاك، لا يستبعد احتمال عثور المنقبين في المستقبل على كتابات وآثار قد تكشف عن بعض تأريخ هذه المدينة في أيام ما قبل الإسلام.

(1/1963)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم يشر أهل الأخبار إلى وجود حرم أو بيت بيثرب، كان يتعبد فيه اليثربيون ويتقربون إليه بالنذور، مع انهم أشاروا إلى بيت اللات في الطائف. ويثرب مدينة مثل الطائف ومثل مدن أخرى كانت ذات محمضات ومعابد. وقد كان أهل يثرب مثل غيرهم من العرب مشركين يتقربون إلى الأصنام، وكانوا يحفظون أصناما لهم في بيوتهم يتقربون إليها، كما كانوا يحجون إلى محجات كانت على مسافة من يثرب ولذلك يبدو غريبا سكوت أهل الأخبار عن ذكر بيت في هذه المدينة، يحج له الأوس والخزرج ومن والاهم من قبائل وعشائر.
وضر في مواضع لا تبعد كثرا عن "يثرب" على كتابات جاهلية، لم تعرف هويتها الآن، لأن الباحثين لم يتمكنوا من فحص مواضعها ومن نقلها إلى العلماء المختصين لقراءتها. كما انهم لم يتمكنوا من تصويرها ولا من التنقيب في تلك الأماكن تنقيبا علميا. وقد أشار "عثمان ورستم" إلى وجود كتابات من هذا النوع على جبل "سلع"، وعند موضع "بئر عروة" بوادي العقيق وفي أماكن أخرى. أرجو إن يصل إليها الباحثون للتنقيب فيها ولحل رموز هذه الكتابات.
وقد يعثر على كتابات أخرى مطمورة في تربة "يثرب" وفي الأماكن القريبة منها، تكجف للقادمين من بعدنا أسرار هذه المدينة المقدسة.
ويثرب، مثل مكة من شعاب، تسكنها بطون الأوس والخزرج: الأوس في شعاب، والخزرج في شعاب، واليهود في شعاب. وفي الشعاب "حوائط"، بساتين صغيرة، وفي الحوائط "آبار" يسفون منها للشرب وللسقي وللغسل، كما كانت فيها دور مبنية بالأجر ودور مبنية باللبن. وبعضها ذو طابقين. وقد احتفر اليهود آبارا، كانوا يبيعون الماء منها بالدلاء، مثل "بئر ارومة"، وكانت ليهوي، وقد أمر الرسول بشرائها، فاشتراها عثمان. ومن آبار المدينة "بئر ذروان"، وهي البئر التي ذكر إن لبيد "ابن الأعصم" اليهودي سحر بها الرسول.

(1/1964)

admin
12-27-2010, 02:13 AM
ويثرب على شاكلة مكة، بغير سور ولا حائط يحيط بها، ولا خندق يقف حائلا أمام من يريد بالمدينة سوءا. وقد كان عماد دفاع أهلها بالتحصن في بيوتهم وبسد منافذ الطرق في أثناء الخطر. والأغنياء الموسرون يعتمدون على آطامهم وحصونهم وقصورهم، يلجؤون إليها عند الشدة ومن معهم من اتباعهم يرمون أعداءهم من فوق السطوح بالسهام وبالحجارة، اذ لا حائط يحيط بها على نحو ما كان لمدينة الطائف. وقد تحارب الأوس والخزرج على الآطام، وأرخوا بتلك الحرب، وصاروا يؤرخون ب "عام الآطام". وذكر إن أهل المدينة من الأوس والخزرج كانوا يمتنعون بها، فأخربت في أيام عثمان.
ويظهر من وصف أهل الأخبار ليثرب، إنها كانت تشبه مدينة "الحيرة" بالعراق من حيث خلوها من سور ومن تكونها من "قصور"، هي بيوت السادة ومعاقل المدينة ومواضع دفاعها آناء الشدة وأوقات الحروب. وقد عرفت ب "أطم" و "آطام" عند أهل يثرب. وذكر إن "الأطم" كان حصن بني بحجارة، أو كل بيت مربع مسطح. وورد إن "الأطوم": القصور وحصون لأهل المدينة والأبنية المرتفعة كالحصون.
والمدينة عند "وادي اضم". يقال للقسم الذي هو عند المدينة منه "القناة" والذي هو أعلى منها عند السد: الشظاة، اما ما كان اسفل ذلك، فيسمى أضما إلى البحر. وذكر إن اضم واد يشق الحجاز حتى يفرغ في البحر. وأعلى اضم القناة التي تمر دوين المدينة. وان المدينة هي ما بين طرف قناة إلى طرف الجرف، وما بين الماء الذي يقال له "البوا" إلى "زبالة".

(1/1965)


--------------------------------------------------------------------------------

وجو "يثرب" على العموم خير من جو مكة، فهو ألطف وأفرح. ولم يعان أهلها ما عانى أهل مكة من قحط في الماء ومن شدة في الحصول عليه، حتى بعد حفر "بئر زمزم". فالماء متوفر بعض الشيء في المدينة، وهو غير بعيد عن سطح الأرض، ومن الممكن الحصول عليه بسهولة بحفر آبار في البيوت. وهذا صار في إمكان أهلها زرع النخيل، وإنشاء البساتين والحدائق، والتفسح فيها، والخروج إلى أطراف المدينة للنزهة، فأثر ذلك في طباع أهلها فجعلهم ألين عريكة وأشرح صدرا من أهل البيت الحرام.
وتأريخ المدينة مثل سائر تواريخ هذه الأماكن التي نتحدث عنها، مجهول لا نعرف من أمره شيئا يذكر، وإنما ما يذكره الأخباريون عن وجود العماليق وجرهم بها فأمره وان قالوه، لا يستند إلى دليل، وحكمه حكم الأخبار الأخرى التي يروونها والتي عرفنا نوع اكرها وطبيعته. ولكن الشيء الذي نعرفه بقينا إن أهل المدينة كانوا ينتسبون عند ظهور الإسلام إلى يمن، وكاوا يقسمون أنفسهم فرقتين" الأوس والخزرج. وبين الفرقتين صلة قربى على كل حال. ثم يذكرون انه كان بينهم يهود، وهم على زعمهم من قدماء سكان يثرب.
ويلاحظ إن الأوس والخزرج لا يدعون أنفسهم بأبناء حارثة، وإنما يدعون أنفسهم ب "بني قيلة" وب "ابني قيلة" ويقصدون بها "قيلة بنت الأرقم بن عمرو بن جفنة"، أو "قيلة بنت هالك بن عذرة" من قضاعة، أو "قيلة بنت كامل بن عذرة بن سعد بن زيد بن ليث بن سود بن اسلم بن الحاف ابن قضاعة". ولا بد إن يكون لهذه الامرأة التي ينتسبون إليها شهرة في الجاهلية حملتهم على الانتساب إليها. وقد ورد إن "قيلة" اسم ام الأوس والخزرج، وهي قديمة.
وقد ذكر بعض أهل الأخبار إن الأوس والخزرج ابنا قيلة لم يؤدوا اتاوة قط في الجاهلية إلى أحد من الملوك، وكتب إليهم تبع يدعوهم إلى طاعته، فغزاهم تبع أبو كرب، فكانوا يقاتلونه نهارا ويخرجون إليه العشاء ليلا، فما طال مكوثه ورأى كرمهم رحل عنهم.

(1/1966)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرجع الأخباريون مجيء الأوس والخزرج إلى المدينة. إلى حادث سيل العرم، ويقولون انهم لما جاءوا إلى يثرب وجدوا اليهود وقد تمكنوا منها، فنزلوا في ضنك وشدة، ودخلوا في حكم ملوك يهود إلى أيام ملكهم المسمى "الفيطوان" أو "الفيطون" أو "الفطيون"، وكان رجلا شديدا فظا يعتدي على نساء الأوس والخزرج، فقتله رجل منهم اسمه "مالك بن العجلان" وفر إلى الشام إلى ملك من ملوك الغساسنة اسمه "أبو جبيلة". وفي رواية انه فر إلى "تبع الأصغر بن حسان". وتذكر الرواية إن أبا جبيلة سار إلى المدينة ونزل بذي حرض، ثم كتب إلى اليهود يتودد اليهم، فلما جاؤوا إليه قتلهم، فتغلبت من يومئذ الأوس والخزرج، وصار لهم الأموال والآطام. ثم رجع "أبو جبيلة" إلى الشام. وصارت اليهود تلعن "مالك بن عجلان". وهم يروون في ذلك أبياتا ينسبونها إلى شاعر اسمه "الرمق بن زيد الخزرجي". ويذكر الأخباريون إن اليهود صورت "مالك بن عجلان" في كنائسهم وبيعهم ليراه الناس فيلعنوه.
وذكر "ابن دريد" إن "الفطيون"، اسم "عبراني"، وكان تملك بيثرب، وكان هذا أول اسم في الجاهلية الأولى. وقد شهد بعض ولد الفطيون بدرا، واستشهد بعضهم يوم اليمامة، فمن ولد "الفطيون"" أبو المقشعر، واسمه أسيد بن عبد الله. ويذكر بعضهم إن اسم "الفطيون"، هو "عامر ابن عامر بن ثعلبه بن حارثة بن عمرو بن الحارث المحرق بن عمرو مزيقياء". فهو من العرب على رأي هذا البعض، ومن اليمن، وليس من أصل عبراني.
وأبو جبيلة عند بعض الأخباريين، هو "**** بن سالم بن مالك بن سالم"، أحد بني غضب بن جشم بن الخزرج. فهو على هذه الرواية رجل من الخزرج ذهب إلى ديار الشام، فملك على غسان. وذهب بعض آخر من الأخباريين إلى انه لم يكن ملكا، وإنما كان عظيما ومقرب عند ملك غسان. ونسبه بعض أهل الأخبار إلى "بني زريق"، بطن من بطون الخزرج. ونعته ب "أبي جبيلة الملك الغساني".

(1/1967)


--------------------------------------------------------------------------------

ونحن إذا أخذنا بهذه الرواية، وجب علينا القول: إن أخذ الأوس والخزرج أمر المدينة بيدهم، وزحزحة اليهود عنها، يجب إن يكون قد وقع في النصف الثاني من القرن السادس للميلاد، أي في زمن لا يبعد كثيرا عن الإسلام. لأننا نجد إن أحد أولاده وهو "عثمان بن مالك بن العجلان" في جملة من دخل في الإسلام وشهد بدرا، كما نجد جملة رجال من "بني العجلان"، من أبناء أخوة "مالك" وقد شهدوا "بدرا" ومشاهد أخرى، وهذا مما يجعل زمن "مالك" لا يمكن إن يكون بعيدا عن الإسلام.
ويظهر من دراسة هذه الأخبار المروية عن اليهود وملكهم "الفطيون" وعن الأوس والخزرج وما فعلوه بايهود، إن عنصر الخيال قد لعب دورا في هذا المروي في كتب أهل الأخبار عن الموضوع. ونجد في القصص المروي عن ملوك اليمن وعن ولعهم بالنساء وعملهم المنكر بهن، ما يشبه هذا القصص الذي نسب إلى "الفطيون". ونجد للعلاقات الجنسية مكانة في هذا القصص الجاهلي الذي ايرويه أهل الأخبار عن ملوك الجاهلية. وما قصة "الفطيون" إلا قصة واحدة من هذا القصص الذي نبد للغرائز الجنسية مكانة بارزة فيه.
ويظهر إن كلمة "الأوس" هي اختصار لجملة "أوس مناة". و "مناة" كما نعلم صنم من أصنام الجاهلية. و "الأوس" هو جد الأوس، وهو في عرف النسابين "أوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن مرىء القيس بن ثعلبة بن مازن بن عبد الله بن الأزد".
وينقسم الأوس إلى بظون، منهم: عوف، والنبيت، وجشم، ومرة، وامرؤ القيس. وقد عرف "بنو مرة" بالجعادرة كذلك. واتفقت جشم ومرة وامرؤ القيس وكونت حلفا عرف ب "أوس اللاة". وب "أوس" كذلك. وانقسمت هذه الكتلة إلى أربعة أقسام، هي: ختمة وهي "جشم" في الأصل، وأمية، ووائل وهي مرة، وواقف وهي امرؤ القيس. وانقسمت هذه البطون إلى أفخاذ عديدة، حدثت بينها منازعات وحروب.

(1/1968)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرجع أهل الأخبار نسب أهل "قباء" إلى "عوف"، ونسب "النبيت" إلى "عمرو"، ونسب "الجعادرة" إلى "مرة". وقيل انهم سموا بذلك لأنهم كانوا يقولون للرجل إذا جاورهم "جعدر حنث شئت، فأنت آمن. أي اذهب حيث شئت". ومنهم بنو كلفة وبنو حنش وبنو ضبيعة.
ومن الأوس "أحيحة بن الجلاح بن الحريش بن جحجبا"، سيد الأوس في الجاهلية شاعر. وكانت عنده "سلمى بنت عمرر النجارية"، وأولاده منها إخوة عبد المطلب. وهو من "بني جحجبا". ومن ولده "المنذر بن عقبة ابن أحيحة بن الحلاح"، شهد بدرا وقتل يوم بئر معونة. وله أشعار ذكرها الرواة، منها أبيات في رثاء ابن له.
وأما الخزرج، فانهم إخوة الأوس في عرف النسابين. فالخزرج، وهو جد الخزرج، هو شقيق أوس. وهو "الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر ابن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن عبد الله بن الأزد" وقد جاء نسله كما جاء نسل الأوس من اليمن بعد حادث سيل العرم، وسكنوا يثرب والى الشمال منها حتى "خبر" و "تيما،". وتأريخهم مثل تأريخ الأوس في رأي الأخباريين بدأ بالاتصال باليهود وبالعيش معهم وبينهم إلى إن تمكنوا منهم بعد الحادث الذي ذكرته وبعد مجيء أبي جبيلة لنصرتهم.
ومن سادات الأوس عند ظهور الإسلام، "سعد بن معاذ"، الذي قتل يوم "الخندق"، وأخوه "عمرو بن معاذ"، وقتل يوم أحد". و "سماك ابن عتيك" فارسهم في الجاهلية، وابنه "حضير الكتائب"، وكان سيد الأوس ورئيسهم يوم بعاث. وابنه "أسيد بن حضير"، شهد بدرا. ومنهم "أبو الهيثم بن التيهان"، وكان نقيبا، شهد العقبة وبدرا. و "قيس بن الخطيم بن عدي." الشاعر. و "سعد بن خيثمة !، وكان نقيبا، وقتل يوم بدر، وأبو قيس بن الأسلت الشاعر. و "شاس بن قيس بن عبادة"، وكان من أشراف الأوس في الجاهلية.

(1/1969)


--------------------------------------------------------------------------------

والخزرج أيضا بطون، أشهرها: بنو النجار وينتسبون إلى "تيم الله بن ثعلبة" والحارث، وجعثم، وعوف، وكعب. ويلاحظ إن جشما وعوفا هما اسما بطنين أيضا من بطون الأوس.
ومن الخزرج "أبو أيوب خالد بن زيد"، نزل عليه النبي أيام قدم المدينة. و "نعيمان بن عمرو"، وكان النبي يسخف نعيمان، لم يلقه قط إلا ضحك إليه. و "أسعد الخير بن زرارة بن عدس"، شهد العقبة وكان نقيبا، و "أبو أنس بن صرمة" الشاعر، وهو جاهلي، و "ثابت بن قيس بن شاس"، خطيب رسول الله، وعمرو بن الاطنابة الشاعر، جاهلي وهو أحد فرسان الخزرج. و "سعد بن عبادة بن دليم" وابنه "قيس بن سعد بن عبادة" وكان نقيبا سيدا جوادا، وابنه قيس أجود أهل دهره في أيام معاوية، ومنهم "مالك بن العجلان" قاتل "الفطيون"، وأبنه "عثمان بن ممالك بن العجلان"، شهد "بدرا"، و "خالد بن قيس بن العجلان"، شهد بدرا، و "عمرو بن النعمان بن كلدة بن عمرو بن أمية بن عامر بن بياضة". رأس الخزرج يوم بعاث. و "رافع بن مالك بن العجلان"، وهو أول من أسلم من الأنصار، و "النعمان بن العجلان". و "مرداس بن مروان"، شهد يوم الحديبية، وبايع تحت الشجرة، وكان أمين النبي على، سهمان خيبر، و "خشرم بن الحباب"، وكان حارس النبي. و "البراء بن معرور"، عقبي وكان نقيبا، وهو أول من أوصى بثلث ماله وأول من استقبل القبلة، وأول من حفن عليها. و "أبو قتادة بن ربعي" فارس النبي.
ويذكر الأخباريون انه كان للخزرج رئيس منهم، هو "عمرو بن الأطناية"، وقد ملك الحجاز. وكان ملكه على رأيهم في أيام "النعمان بن المنذر"، قتله الحارث بن ظالم قائل خالد بن جعفر بن كلاب. وكانت بينه وبين "عمرو" خصومة. وذكر إن "عمرا"، قال شعرا يهزأ فيه بالحارث جاء فيه: أبلغ الحارث بن ظالم الموعد والنافر النذور عليا
إنما تقتل النيام ولا تقتل يقظان ذا سلاح كميا
وكان عمرو شاعرا ومن الفرسان.

(1/1970)


--------------------------------------------------------------------------------

وبالرغم من صلة الرحم القريبة التي كانت بين الأوس والخزرج، فقد وقعت بينهما حروب ترك لا فيها من الطرفين خلق كثير، وأول حرب وقعت بين الأوس والخزرج هي على رواية الأخباريين حرب "سمير" "سميحة". و "سمير" في روايتهم رجل من الاوس من بني عمرو، شتم رجلا اسمه كعب بن العجلان، وهو من بني ثعلبة من سعد بن ذبيان، نزل على مالك بن العجلان رئيس الخزرج وحالفه وأقام معه، ثم قتله. فثارت الثائرة ببن الأوس بسبب هذا القتل وبسبب دفع دية القتيل، ثم وقعت الحرب. ثم اتفقوا على إن يضعوا حكما بينهم يفصل في الأمر، فوقع اختيارهم على "المنذر بن حرام التجاري الخزرجي". وهو جد حسان بن ثابت، فحكم بينهم بأن يؤدوا لكعب دية الصريح، ثم يعودوا إلى سنتهم القديمة، وهي دفع نصف الدية عن الحليف. فرضوا وتفرقوا، ولكن بعد إن تمكنت العداوة والبغضاء في نفوس الطرفين.
واشتعلت نيران حرب أخرى بين الأوس والخزرج لسبب امرأة من "بني سالم". وفد كانت الحرب في هذه المرة بين "بني جحجبا" من الأوس و "بني مازن بن النجار" من الخزرج. وقد وقعت في موضع "الرحابة" انهزمت فيه "بنو جحجبا".
ثم تجددت الحرب بين "عمرو بن عوف" من الأوس وبني الحارث من الخزرج بسبب مقتل رجل من بني عمرو، وقد عرفت هذه الحرب باسم" "يوم السرارة". وقد كان على الأوس "حضير بن سماك". وهو والد "أسيد بن حضير"، وكان على الخزرج "عبد الله بن سلول" "عبد الله بن أبي" المعروف في الإسلام ب "رأس المنافقين". وقد انتهت بانصراف الأوس إلى دورها، فعدت الخزرج ذلك نصرا لها.

(1/1971)


--------------------------------------------------------------------------------

ووقعت حرب أخرى لأسباب تافهة كهذه الأسباب. وما كانت لتقع لولا هذه العصبية الضيقة يثيرها في الغالب أفراد لا منازل كبيرة لهم في المجتمع ومنهم من الصعاليك والمغمورين بأمور سخيفة، فإذا وقع على أحدهم اعتداء نادى قومه للأخذ بثأره، فنثور الحرب. ومن هذه الحروب، حرب بني وائل ابن زيد الأوسيين، وبني مازن بن النجار الخزرجيين، وحرب بني طفر من الأوس وبن بني مالك من الخزرج، وحرب فارع، وحرب حاطب، ويوم الربيع، وحرب الفجار الأولى، وهي غير حرب الفجار التي وقعت بين قيس وكنانة، ثم حرب معبس ومضرس، وحرب الفجار الثانية، ثم يوم بعاث. وكان اليوم آخر الأيام المشهورة التي وقعت بين الأوس والخزرج.
وكان رئيس الخزرج في يوم بعاث "عمر بن النعمان بن صلاءة بن عمرو بن أمية بن عامر بن بياضة". أما رئيس الأوس، فكان "حضير الكتائب بن سحلك بن عتيك بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل". وقد ساعد الخزرج في هذا اليوم أشجع من غطفان، وجهينة من قضاعة. وساعد الأوس مزينة من أحياء طلحة بن إياس، وقريضة والنضير. وقد قتل فيه "عمرو بن النعمان" رئيس الخزرج. فانهزم الخزرج، وانتصرت الأوس.
وكان "حضير الكتائب بن سماك" سيد الأوس ورئيسهم يوم بعاث. ركز الرمح في قدمه وقل: ترون أفر!? فقتل يومئذ. وابنه "أسيد بن حضير" من الصحابة الذين شهدوا العقبة وبدرا.
وقد تخلل أخبار هذه الأيام كالعادة شعر، ذكر إن شعراء الطرفين المتخاصمين قالوه على الطريقة المألوفة في الفخر، وفي انتقاص الخصم، وفي إثارة النخوة لتصطلم الحرب ويستميت أصحاب الشاعر في القتال. وقد كأن المحلق في هذه الأيام حسان بن ثابت الشاعر المخضرم الشهير، شاعر الرسول. وهو لسان الخزرج والمدافع عنهم، و "قيس بن الخطيم" وهو من الأوس، ثم جماعة ممن اشتركوا في المعارك، مثل: عامر بن الاطنابة، والربيع بن أبي الحقيق اليهودي، وعبد الله بن رواحة وآخرون.

(1/1972)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من روايات أهل الأخبار عن يثرب إن الأوس والخزرج، لم يكونوا كأهل مكة من حيث الميل إلى الهدوء والاستقرار، بل كانوا أميل من أهل مكة إلى حياة البداوة القائمة على الحصمومة والتقاتل. وقد بقي الحيان يتعاصمان حتى جاء الرسول إليهما، فأمرهما بالكف عنه، ووجههما وجهة أخرى أنستهما الخصومة العنيفة التي كانت فيما بينهما. ويظهر من رواياتهم أيضا إن الأوس والخزرج، كانوا قد تحضروا واستقروا، غير انهم لم يتمكنوا من التخلص من الروح الأعرابية تخلصا تاما، بل بقوا محافظين على أكثر سجاياها، ومنها النزعة إلى التخاصم والتقائل، فألهتهم هذه النزعة عن الانصراف إلى غرس الأرض والاشتغال بالزراعة بهما فعل اليهود، وعن الاشتغال بالتجارة بمقياس كبير على نحو ما فعل أهل مكة. ونظرا لمساعدة أهل يثرب للرسول ومناصرتهم له وللمهاجرين، عرف الأوس والخزرج ب "الأنصار" في الإسلام. وصاروا يفتخرون بهذه التسمية، حتى غلبت عليهم، وصارت في منزلة النسب.
وكان أهل "يثرب" مثل غيرهم تجارا، يخرجون إلى أسواق الشام فيتجرون بها. وقد ذكر أهل الأخبار أسماء رجال منها تاجروا مع بلاد الشام. وكان "يهود" يثرب يتاجرون أيضا، ويأتون إلى أهل "يثرب" بما يحتاجون إليه من تجارات. كما "كانت الساقطة تنزل المدينة في الجاهلية والإسلام يقدمون بالبر والشعير والزيت والتين والقماش، وما يكون في الشام". وكانوا يتسقطون الأخبار وينقلونها إلى الروم عند ظهور الإسلام. فقدم بعض الساقطة المدينة.، وأبو بكر ينفذ الجيوش، وسمعوا كلام أبي بكر لعمرو بن العاص، وهو يقول" عليك بفلسطين وإيليا، "فساروا بالخبر إلى الملك هرقل"، وتهيأ لملاقاة المسلين.

(1/1973)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم يذكرا الرواة جنس هؤلاء "الساقطة"، الذين كانوا يأتون بالتجارة من بلاد الشام إلى المدينة، هل كانوا روما أم عربا، أم يهودا، أم كانوا خليطا من كل هؤلاء. على كل كانوا تجارا يأتون يثرب في الجاهلية لبيع ما يحملونه من تجارة، ولشراء ما يجدونه هناك، وبقوا شأنهم هذا إلى الإسلام، كما نرى من الخبر المتقدم.
هذا هو مجمل ما نعرفه عن تأريخ "يثرب" وهو شيء قليل، لا يكفي المتعطش لمعرفة تأريخ هذه المدينة التي تعد من المواضع المقدسة في الإسلام بد وان يأتي يوم سنكتشف فيه الأقنعة عن تأريخ المدينة قبل الإسلام. وذلك حين يقوم المنقبون المتخصصون بالبحث في تربتها عن الماضي المستور الدفين.
الطائف
والطائف على مسافة خمسة وسبعين ميلا تقريبا إلى الجنوب الشرقي من مكة. وهي على عكس مكة أرض مرتفعة ذات جو طيب في الصيف فيه زرع وضرع، وغنى جادت الطبيعة به على أهله. وقد كان وما زال مصيفا طيبا يقصده أهل مكة مرارا من وهج الشمس.
وتقع الطائف على ظهر جبل غزوان، وهر أبرد مكان في الحجاز، وربما جمد الماء في فروته في الشتاء، وليس بالحجاز موضع يجمد فيه الماء سوى هذا الموضع. وبينها وبين مكة واد اسمه نعمان الأراك. وهي كثيرة الشجر والثمر، وأكثر ثمارها الزبيب والرمان والموز والأعناب، ولا سيما الصديفي، وفواكه أخرى عديدة. وهي تمون مكة بالفواكه والبقول. وتحيط بها الأودية. ومن مواضعها، "الوهط"، وهو واد، أو مكان مطمئن من الأرض مستو، تنبت فيه العضاه والسمر والطلح والعرفط، وقد اتخذ بستانا، صار ل "عمرو ابن العاص"، ثم لابنه. وقد عرف بكثرة كرمه وأنواع أعنابه.
والى الشرق من الطائف واد يقال له "لية"، ذكر بعض أهل الأخبار إن أعلاه لثقيف وأسفله ل "بني نصر بن معاوية" من هوازن.

(1/1974)


--------------------------------------------------------------------------------

وتأريخ مدينة الطائف تأريخ غامض، لا نعرف من أمره شيئا. إذ لم تمس تربتها أيدي علماء الآثار بعد، كما إن السياح لم يجدوا في الطائف كتابات قديمة نجد. ولكن مكانا مثل الطائف لا بد إن يكون له تأريخ قدم، ولا يعقل إن يكون من الأمكنة التي ظهرت ونشأت قبيل الإسلام. وليس لنا من أمل في الحصول على شيء من تأريخ الطائف إلا بقيام العلماء بمناجاة تربتها واستدراجها لتبوح لهم بما تكنه من كتابات مسجلة في الألواح يتحدث عن تأريخ هذا المكان المهم.
وقد عثر الباحثون فعلا على كتابات مدونة على الصخور المحيطة بمدينة الطائف الحديثة وفي مواضع غير بعيدة عنها. وقد تبين إن بعضا منها بالنبطية وبعضا آخر بالثمودية، وان بعضا بأبجدية أخرى، وان بعضا بأبجدية القرآن الكريم، أي بقلم إسلامي. ولا يستبعد عثور العلماء في المستقبل على كتابات ستكشف عن تأريخ هذه البقعة، وعن تأريخ من سكنها قبل الإسلام وقبل ثقيف. وذكر إن بعض كتابات يشبه شكلها شكل الأبجدية اليونانية، وكتابات أخرى يشبه خطها الخط الكوفي عثر عليها في "بستان شهار" على مسافة كيلومترين إلى الجنوب من الطائف. غير إنها لم تدرس حتى الآن. ومكان مهم بالنسبة للطرق التجارية ولموقعه المعتدل الجمبل، لا بد وان يكون قد لفت أنطار سكان العربية الغربية قبل الميلاد فسكنوه، ولا أستبعد إمكانية تدوين تأريخ صحيح لهذه المدينة إذا ما قام المنقبون بالبحث فيها وفي الأماكن القريبة منها لاستنطاقها، لتتحدث لهم عما عرفته من أخبار تلك الشعوب التي سكنت هذا الموضع قبل ثقيف.

(1/1975)


--------------------------------------------------------------------------------

ويزهم أهل الأخبار إن الطائف إنما سميت طائفا، بحائطها المطيف بها. اما اسمها القديم، فهو "وج". ولهم روايات عن كيفية قيام ذلك الحائط. وقد حاول بعض أهل الأخبار إعطاء الطائف مسحة دينية، فزعموا بأنها من دعوات إبراهيم، وإنها قطعة من أرض ذات شجر كانت حول الكعبة، ثم انتقلت من مكانها بدعوة إبراهيم، فطافت حول البيت، ثم استقرت في مكانها، فسميت الطائف، وزعمت إن جبريل اقتطعها من فلسطين، وسار بها إلى مكة فطاف بها حول البيت، ثم أنزلها حول الطائف. وهكذا أكسبت هذه الروايات قدسية، وجعلت لها مكانة دينية. وهي روايات يظهر إنها وضعت بتأثير من سادات ثقيف المتعصبين لمدينتهم، والذين كانوا يرون إن مدينتهم ليست بأقل شأنا من مكة أو يثرب. وقد كان بها سادات وأشراف كانوا أصحاب مال وئراء.
وقد زعم بعض أهل الأخبار إن الذي أقام حائط الطائف رجل من الصدف، يقال له "الدمون بن عبد الملك"، قتل ابن عم له يقال له "عمرو" بحضرموت، ثم فر هاربا، ثم جاء إلى "مسعود بن معتب الثقفي" ومعه مال كثير، وكان تاجرا، فقال: أريد إن أحالفكم على إن تزوجوني وأزوجكم وأبن لكم طوفا عليكم مثل الحائط لا يصل اليكم احد من العرب، فوافقوا على ذلك، وبنى لهم طوفا عليهم، في ميت الطائف، فزوجوه.
وقد كان لأهل. الطائف معبد يحجون إليه، هو معبد "اللات". وكانوا يعظمنونه ويتبركون به. ويذكر أهل الأخبار إن اللات كان صخرة مربعة يلت يهودي عندها السويق. وكان سسد نته "بنو عتاب بن مالك"وهم من ثقيف. وقد بنوا له بناء ضخما. وكانت العرب، ومنها قريش، تعظمه، وتحج إليه وتطوف به. وقد هدم في الإسلام عند فتح الطائف ودخول أهلها فيه. وقد هدم الصنم" المغيرة بن شعبة، وأحرقه بالنار. ويقع موضعه تحت منارة المسجد، الذي بني على أنقاض ذلك المعبد، وهو مسجد المدينة. فمسجد الطائف إذن هو معبد اللات القديم، وهو في الطائف نفسها.

(1/1976)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرجع أهل الأخبار زمان الطائف إلى العمالقة، ويقولون: إنها إنما سميت "وجا" بوج بن عبد الحي، من العماليق، وهو أخو "أجأ" الذي سمي به جبل "طي". ثم غلب عليها "بنو عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان ابن مضر"، ثم غلبهم "بنو عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن"، وذلك بعد قتال شديد. ثم استغلت ثقبف الظروف، فاستولت عليها، وأخذتها من "بني عامر"، فارتحل "بنو عامر" عنها، ونزحوا إلى تهامة، وتحكم بها بنو ثقيف.
ويذكز بعض أحل الأخبار إن أول من ملك الطائف "عدوان بن عمرو بن قيس ابن عيلان بن مضر". فلما كثر "بنو عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر ابن هوازن"، غلبوهم على الطائف بعد قتال شديد. وقد كانت مواطن "بني عامر" بنجد. وكانوا يصيفون بالطائف، حتى غلبتهم ثقيف. فخرجوا إلى تهامة. وكان منهم "عامر بن الظرب العدواني" أحد الحكماء العرب.
وقد ورد في بعض الأخبار إن قوم ثمود هم الذين نزلوا بالطائف بعد العماليق، فأخذوها منهم، وذلك قبل ارتحالهم عنها إلى وادي القرى، بسبب منازعة القبائل لهم، ومن ثم ربط رواة هذه الأخبار نسب ثقيف بثمود. وقد صير بعض أهل الأخبار ثقيفا مولى من موالي هوازن، ونسبهم آخرون إلى إياد.
وجاء في رواية أخرى إن أقدم سكان الطائف هم بنو مهلائيل بن قينان، وهم الذين عمروها وغرسوها وأحيوا مواتها. وقد سكنرها قبل الطوفان. فلما وقع الطوفان، كانوا في جملة من هلك فيه من الأمم الباغية. فخلت الطائف منهم، وسكنها بعدهم بنو هانىء بن هذلول بن هوذلة بن ثمود، فأعادوا بناءها وعمروها حتى جاءهم قوم من الأزد على عهد "عمرو بن عامر"، فأخرجوهم عنها، وأقاموا بها وأخذوا أماكنهم، ثم توالى عليها العرب حتى صارت في أيدي ثقيف.

(1/1977)


--------------------------------------------------------------------------------

وصير بعض أهل الأخبار ثقيفا رجلا منتشردا، اتفق مع ابن خاله النخع على الهجرة في طلب الرزق والعيش، فذهب النخع إلى اليمن، فنزل بها، وذهب "ثقيف" إلى وادي الفرى، فنزل على عجوز يهودية لا ولد لها، واتخذها ثقف أما له. فلما حضرها الموت، أوصت له بما كان عندها من دنانير وقضبان، ثم دفنها وذهب نحو الطائف. فلما كان على مقربة منها، وجد أمة حبشية ترعى غنما، فأراد قتلها ليستولي على ماشينها، فارتابت منه، وأخبرته بأن يصعد إلى الجبل، فيستجير ب "عامر بن الظرب العدواني" فإنه سيجيره ويغنيه، ويربح، أكثر من ربحه من استيلائه على هذه الغنم. فذهب إليه، وأجاره، وأغناه، وأنزله عنده، وزوجه ابنة له، وبقي مقيما في الطائف، وتكاثر ولده، حتى زاحموا بني عامر، وتلاحيا ثم اقتتلا، فتغلبت ثقيف على بني عامر، واستولت على الطائف.
ويذكر هؤلاء الرواة إن ثقيفا اتفقوا مع "بني عامر" على إن يأخذوا الطائف لهم ويرحل بنو عامر منها، فيدفعوا لهم نصف ما يحصلون عليه من غلات. وقد بقوا على ذلك أمدا، حتى ثبتت ثقيف نفسها في الطائف وقوت دفاعها وأحكمت مواضعها، ثم امتنعت عن دفع أي شيء كان لبني عامر، فوقع قتال بين الطرفين انتهى بانتصار ثقيف. وصارت بذلك سيدة الطائف بلا نزاع.
وقد حسدهم طوائف من العرب، وقصدوهم لما صار لهم من مركز ومن رزق رغد وأثمار وجنان، ولكنهم لم يتمكنوا من الظفر بطائل، وتركوهم على حالهم.
وذكر بعض أهل الأخبار إن "عبد ضخم" كانوا فيمن سكن الطائف. وقد كانوا من عاد الأولى، وهلكوا فيمن اهلك من عاد ومن أقوام بائدة.
وذكر انه كان بالطائف قوم من يهود، طردوا من اليمن ومن يثرب، فجازوا إلى الطائف، وسكنوا فيها، ودفعوا الجزية لساداتها، ومن بعضهم ابتاع "معاوية" أمواله بالطائف.

(1/1978)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد كان لوقوع الطائف على مرتفع، ولحائطها المزود بأبراج واستحكامات الفضل بالطبع في صد الأعراب ومنعهم من نهبها وغزوها. والظاهر إن أهل الطائف كانوا قد اقتفوا أثر اليمن في الدفاع عن مدنهم وقراهم، حيث كانوا يبنونها على المرتفعات في الغالب، ثم يحيطون ما يبنونه بأسوار ذات أبراج لمنع العدو من الدنو منها، ولا سيما الأعراب الذين لم يكونوا بحكم طبيعة معيشتهم في ارض منبسطة مكشوفة، ولفقرهم وعدم وجود أسلحة حسنة لديهم يستطيعون مهاجمة مثل هذه التحصينات، وأخذها على غرة حيث تقفل أبواب الأسوار وتغلق ليلا، وفي أوقات الخطر-فلا يكون في استطاعة أحد ولوجها، لذلك صارت هذه التحصينات من اثقل الأعداء على قلوب الأعراب.
ولما هم "أبرهة" بالسير إلى مكة، كانت الطائف في جملة المواضع التي نزل بها في طريقه إليها. وقد خرج إليه مسعود بن معتب في رجال ثقيف، فأتوه بالطاعة، وبعثوا معه "أبا رغال" دليلا، فأنزله المغمس بين الطائف ومكة، فهلك "ابو رغال" هناك وقبره في ذلك الموضع.
وعند ظهور الإسلام كان أغلب سكان هذا الموضع ينتسبون إلى قبيلة ثقيف. وترجع هذه القبيلة نسبها مثل القبائل الأخرى إلى جد أعلى، يقولون إن اسمه "قسي بن منبه"، ويقول الأخباريون إنما دعي قسيا لأنه قتل رجلا، فقيل قسا عليه، وكان غليظا قاسيا.
والنسابون يختلفون في نسبه، فمنهم من ينسبه إلى إياد، في جعله قسي بن نبت ابن منبه بن منصور بن مقدم بن أفصى بن دعمي بن إياد بن معد، ومنهم من يجعله من هوازن، فيقول" قسي بن منبه بن بكر بن هوازن بن منصور ابن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان.

(1/1979)


--------------------------------------------------------------------------------

ونحن إذا درسنا ما رواه أهل الأخبار عن نسب ثقيف، وعن القبائل التي اتصلت بها، نجد إنها كانت ذات صلة وثيقة بقبائل "قيس عيلان" من مجموعة مضر. ومعنى هذا إنها كانت على مقربة منها، وإنها كانت من قبائل مضر. كما نجد في الوقت، نفسه إنها كانت على صلات وثيقة مع بعض قبائل اليمن. فسرت هذه الصلات بوجود نسب لثقيف باليمن. وهذا النسب المزدوج، هو كناية عن الصلات التي كانت تربط بين "ثقيف" ومجموعة. "مضر"، وبينها وبين قبائل اليمن. وهو تعبير عن موضع الطائف.المهم الوسط، الذي يربط بين اليمن والحجاز والطرق المارة إلى نجد. مما جعله وسطا وموضعا للاحتكاك بين قبائل هذه الأرضين.
وصروا ثقيفا في رواية اخرى ابنا لأبي رغال، ثم رفعوا نسب الابن والأب إلى قوم ثمود، وجعله حماد الرواية ملكا ظالما على الطائف، لا يرحم أحدا، مر في سنة مجدبة بامرأة ترضع صبيا يتيما بلبن عنز لها، فأخذها منها فبقى الصبي بلا مرضعة، فمات، فرماه الله بقارعة فأهلكه، فرجمت العرب قبره، وصار رجم قبره سنة للناس. فهل تجد رجلا ألأم من هذا الرجل على هذا الوصف?.
وقد قيل في "أبي رغال" انه كان رجلا عشارا في الزمن الأول، جائرا، وقيل كان عبدا لشعيب، وقيل: اسمه "زيد بن مخلف" عبد كان لصالح النبي، وأنه أرسله إلى قوم ليس لهم لبن الا شاة واحدة، ولهم صبي قد ماتت أمه يغذونه بلبن تلك الشاة، فأبى إن يأخذ غيرها، فقالوا: دعها نحايي بها هذا الصبي، فأبى، "فيقال" انه نزلت به قارعة من السماء، ويقال" بل قتله رب الشاة. فلما فقده صالح، قام في الموسم ينشد الناس، فأخبر بصنيعه، فلعنه، فقبره بين مكة والطائف يرجمه الناس".

(1/1980)

admin
12-27-2010, 02:14 AM
وفي رأيي إن معظم هذه الروايات التي يرويها الأخباريون عن ثقيف إنما وضعت في الإسلام، بغضا للحجاج الذي عرف بقوته وبشدته، فصيروا ثقيفا عبدا لأبي رغال، وجعلوا اصله من قوم نجوا من ثمود. وأبو رغال نفسه جاسوس خائن في نظر الأخباريين، حاول إرشاد أبرهة إلى مكة، فكيف يكون أذن حال رجل من قوم فسقة كفرة، ثم صار عبدا لجاسوس لئيم وقد رأيت إن من أهل الأخبار من صير "ثقيفا" رجلا مهاجرا، هاجر في البلاد يلتمس العيش حتى جاء وادي القرى، فتبنته عجوز يهودية، وعطفت عليه، حتى إذا ما ماتت اخذ مالها، وهاجر إلى الطائف، وكان لئيما فطمع في غنم لأمة حبشية، وكاد يقتلها لولا إشارتها عليه باللجوء إلى "عامر بن الظرب"، الجواد الكريم وصاحب الطائف، فأعطاه وحباه، ولكن أبى لؤم ثقيف إلا إن ينتقل إلى ولده، فتنكروا لبني عامر وأخرجوهم عن الطائف، واستبدوا وحدهم بها.
وبنو ثقيف حزبان: الأحلاف ومنهم: "غيلان بن سلمة" و "كنانة بن عبد ياليل" و"الحكم بن عمرو بن وهب بن معتب"، و"ربيعة بن عبد ياليل" و "شرحبيل بن غيلان بن سلمة"و "عثمان بن أبي العاص" و "أوس بن عوف" و "نمير بن خرشة بن ربيعة"، وقد ذهب هؤلاء إلى الرسول وأسلموا، فاستعمل عليهم "عثمان بن أبي العاص". وأما القسم الثاني، فعرف ب "بني مالك"، وقد ذهب نفر منهم مع هذا الوفد إلى الرسول، فضرب لهم قبة في المسجد. وأما الأحلاف، فنزلوا ضيوفا على "المغيرة بن شعبة" وهو من ثقيف. ومن الإخلاف في الإسلام: المختار بن أبي ****، والحجاج بن يوسف.
ومن زعماء الأحلاف عند ظهور الإسلام" أمية بن أبي الصلت، والحارث. ابن كلدة، ومعتب، وعتاب، وأبو عتبة، وعتبان.

(1/1981)


--------------------------------------------------------------------------------

ويذكر أهل الأخبار إن حربا وقعت بين "مالك" والأحلاف، فخرجت الأحلاف تطلب الحلف من أهل يثرب على "بني مالك"، وعلى رأسها "مسعود ابن معتب" رأس الأحلاف. فقدم على "احيحة بن الحلاج"، أحد بني عمرو بن عوف من "الأوس". فطلب منه الحلف. فأشار عليه "احيحة"، إن عليه إن يعود إلى الطائف ويصالح إخوانه، فان أحدا لن يبر له إذا حالفهم، فانصرف "مسعود" عن "عتبة" بعد إن زوده بسلاح وزاد وأعطاه غلاما يبني الأسوار. فلما وصل، أمر الغلام ببناء سور حول الطائف. فبناه له، وأحيطت الطائف بسور قوي حصين، وأمنت بذلك على نفسها من غارات الإعراب.
ويختلف أهل الطائف عن أهل مكة، وعن الأعراب من حيث ميلهم إلى الزراعة واشتغالهم بها وعنايتهم بغرس الأشجار. وقد عرفت الطائف بكثرة زبيبها وأعنابها واشتهرت بأثمارها. وقد كان أهلها يعنون بزراعة الأشجار المثمرة، ويسعون إلى تحسين أنواعها وجلب أنواع جديدة لها، فقد استوردوا أشجارا من بلاد. الشام ومن أماكن أخرى وغرسوها، حتى صارت الطائف تمون مكة وغيرها بالأثمار والخضر.
وثقيف حضر مستقرون متقدمون بالقياس إلى بقية أهل الحجاز. فاقوا غيرهم في الزراعة اذ عنوا بها كما ذكرت مع واستفادوا من الماء فائدة كبيرة، وأحاطوا المدينة ببساتين مثمرة، كما فاقوا في البناء فبيوتهم جيدة منظمة، وكان لهم حذق ومهارة في الأمور العسكرية. وقد تجلى ذلك في دفاعهم عن مدينتهم يوم حاصرها الرسول وتحصنهم بسورهم، ورميهم المسلمين بالسهام وبالنار من فوق سورهم، يوم لم يكن لمكة ولا للمدينة سور ولا خنادق.

(1/1982)


--------------------------------------------------------------------------------

كذلك اختلف أهل الطائف عن غيرهم من أهل الحجاز في ميلهم إلى الحرف اليدوية مثل الدباغه والتجارة والحدادة، وهي حرف مستهجنة في نطر العربي، يأنف من الاشتغال بها. ولكن أهل الطائف احترفوها، وربحوا منها، وشغلوا رقيقهم بها. وقد استفادوا من خبرة الرقيق، فتعلموا منهم ما لم يكن معروفا عندهم من أساليب الزراعة وأعمال الحرف، فجددوا وأضافوا إلى خبرتهم خبرة جديدة.
وقد عاش أهل الطائف في مستوى هو أرفع من مستوى عامة أهل الحجاز، فقد رزقوا فواكه أكلوا منها، وجففوا بعضا منها مثل "الزبيب"، وأكلوا وصدروا منه ما زاد عن حاجتهم، كما اقتاتوا بالحبوب واللحوم. حتى حظ فقراء الطائف، هو أرفع وأحسن من درجة من حظ فقراء المواضع الأخرى من الحجاز.
وقد ذهب المفسرون إلى أن كلمة القريتين الواردة في القرآن الكريم، تعني مكة و الطائف. )وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم(.
و كان رؤساؤها من المثرين الكبار، لهم حصون يدافعون بها عن أنفسهم وعن أموالهم، ولهم علم بالحرب. ولحماية مدينتهم أقاموا حصونا على مسافات منها، وحوطوا مدينتهم بسور حصين عال، يرد من يحاول دخولها، وجمعوا عندهم كل وسائل المقاومة الممكنة التي كانت معروفة في ذلك العهد، مثل أوتاد الحديد التي تحمى بالنار لتلقى على الجنود المختفين بالدبابات، وغير ذلك من وسائل المقاومة والدفاع، كما كانوا قد تغلموا من أهل اليمن مثل مدينة "جرش" صناعة العرادات والمنجنيق والدبابات.
وكان أغنياء "الطائف"، كأغنياء مكة وأغنياء المواضع الأخرى من جزيرة العرب أصحاب ربا، ولما اسلموا اشرط عليهم الرسول أن لا يرابوا، ولا يشربوا الخمر.وكتب لهم كتابا. وكانت لهم تجارة مع اليمن، ولكننا لا نسمع شيئا عن قوافل كبيرة كقوافل أهل مكة، كانت. تتاجر مع بلاد الشام أو العراق. ولعلهم كانوا يساهمون مع تجار مكة في اتجارهم مع تلك الديار.

(1/1983)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد اشتهرت الطائف بدباغة الجلود، وذكر أن مدابغها كانت كثيرة، وان مياهها كانت تنساب إلى الوادي، فتنبعث منها روائح كريهة مؤذية. واشتهرت بفواكهها وبعسلها.
وقد استغل أثرياء قريش أموالهم في الطائف، فاشتروا فيها الأرضين وغرسوها واستثمروها، واشتروا بعض المياه، وبنوا لهم منازل في الطائف ليتخذوها مساكن لهم في الصيف، وأسهموا مع رؤساء ثقيف في أعمال تجارية رابحة، وربطوا حبالهم بحبالهم، وحاولوا جهد إمكانهم ربط الطائف بمكة في كل شيء.
ولما فتحت مكة، وأسلم أهلها طمعت ثقيف فيها، حتى إذا فتحت الطائف أقرت في أيدي المكيين، وصارت أرض الطائف مخلافا من مخاليف مكة.
وقد كان بين أهل مكة وأهل الطائف تنافس وتحاسد، وقد حاول أهل الطائف جلب القوافل اليهم، وجعل مدينتهم مركزا للتجار يستريحون فيه، وقد نجحوا في مشروعهم هذا بعض النجاح يوم استولى الفرس على اليمن، وتمكنوا فيه من طرد الحبش عن العربية الجنوبية، فصارت قوافل "كسرى" التجارية و "لطائم" ملوك الحيرة تذهب إلى اليمن وتعود منها من طريق الطائف، ونغصت بذلك عيش أهل مكة، غير إن أهل مكة تمكنوا من التغلغل إلى الطائف ومن بسط سلطانهم عليها، بإقراض سادتها الأموال، وبشراء الأرضين. فبسطوا بذلك سلطانهم عليها، وأقاموا بها أعمالا اقتصادية خاصة ومشتركة، وهكذا استغل أذكياء مكة هذا الموضع المهم، وحولوه إلى مكان صار في حكم التابع لسادات قريش.
ومن سادات الطائف: "عبد ياليل" وأخوته "حبيبا" و "مسعودا" و "ربيعة" و "كنانة" وهم "بنو عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة الثقفي"، وكانوا أثرياء أجوادا يطعمون بالرياح. وأمهم "قلابة بنت الحارث بن كلدة بن عمرو بن علاج" الثقفي. وبيت "بني علاج" من البيوت القديمة المعروفة بالطائف.

(1/1984)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد لقي الرسول مقاومة عنيفة من أهل الطائف حين حاصرها وأحاط بها، فقد تحصن أهلها بحائطهم وبحصونهم، وأغلقوا عليهم أبواب مدينتهم، وصنعوا الصنائع للقتال. إما من كان حول الطائف من الناس، فقد أسلموا كلهم. ولما ضيق المسلمون الحصار عليها، وقربوا من الحائط، دخل نفر من أصحاب رسول الله تحت دبابة، ثم زحفوا بها إلى جدار الطائف فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد فحماة بالنار، فخرجوا من تحتها، فرمتهم ثقيف بالنبل، وقتلوا رجالا، فأمر رسول الله بقطع أعناب ثقيف،كي يحملهم على فتح أبواب مدينتهم ومهادنة الرسول، للإبقاء على أموالهم، غير انهم لم يبالوا بما رأوا من قطع أعنابهم وتخريب بساتينهم، وبقوا على عنادهم، مما حمل الرسول على ترك حصارهم والرحل عنهم انتظارا لفرصة أخرى.
ويذكر أهل الأخبار، إن "سلمان الفارسي"، اتخذ منجنيقا نصبه المسلمون على الطائف، وان المسلمين كانت لهم دبابة، جاء بها "خالد بن سعيد بن العاص" من "جرش".
ويذكر الطبري إن عروة بن مسعود، وهو من وجوه الطائف، كان قد تعلم مع غيلان بن سلمة صنعة الدبابات والضبور والمجانيق من أهل جرش. وقد اشتهرت هذه المدينة بصنع آلات الحرب.

(1/1985)


--------------------------------------------------------------------------------

ولما انصرف الرسول عن الطائف، اتبع أثره "عروة بن مسعود بن معتب" حتى أدركه قبل إن يصل إلى المدينة، فأسلم. فلما رجع إلى الطائف على أمل إقناع أهلها بالدخول في الإسلام، لمكانته فيهم، رموه بالنبل من كل وجه، فأصابه سمم فقتله. ثم أقامت ثقيف بعد مقتل عروة أشهرا، ثم انهم ائتمروا بينهم ألا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب، فأرسلوا وفدا إلى المدينة لمفاوضة الرسول على الدخول في الإسلام. فلما دخلوا عليه أبوا إن يحيوه إلا بتحية الجاهلية، ثم سألوه إن يدع لهم "الطاغية"، وهي اللات لا يهدمها إلى أجل، لأنهم أرادوا بذلك "فيما يظهرون إن يسلموا بتركها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم، ويكرهون إن يروعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام. فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك إلا إن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فيهدماها. وقد كانوا سألوه مع ترك الطاغية إن يعفيهم من الصلاة، وان يكسروا أوثانهم بأيديهم، فقال رسول الله: أما كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم منه. وأما الصلاة، فلا خير في دين لا صلاة فيه. فقالوا: يا محمد، أما هذه فسنؤتيكها وإن كانت دناءة".
فلما وصل الوفد ومعه أبو سفيان والمغيرة بن شعبة، إلى الطائف، وأرادا هدم الصنم، "أراد المغيرة إن يقدم أبا سفيان، فأبى ذلك أبو سفيان عليه، وقال: ادخل أنت على قومك، وأقام أبو سفيان بماله بذي الهرم، فلما دخل المغيرة بن شعبة، علاها يضربها بالمعول، وقام قوم دونه-بنو معتب -خشية إن يرمى أو يصاب... وخرجن نساء ثقيف حسرا يبكين" "ويقول أبو سفيان والمغيرة يضربها بالفأس: واها لك. فلما هدمها المغيرة، أخذ مالها وحليها، وأرسل إلى أبي سفيان وحليها مجوع، ومالها من الذهب والجزع، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أبا سفيان إن يقضي من مال اللات دين عروة. والأسود ابني مسعود، فقضي منه دينهما".

(1/1986)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر عن "عروة بن مسعود الثقفي" انه كان من الرجال الذين كانوا عندهم عشر نسوة عند مجيء الإسلام، وانه نادى على سطحه بالطائف بالأذان أو التوحيد، فرماه رجل من أهل الطائف فقتله، وان الرسول، قال فيه: "مثله مثل صاحب ياسين". "ويقال إنه الذي ذكره الله عز وجل في التنزيل من القرينين عظيم. وذكر بعض أهل العلم إن أربعة اتصل سؤددهم في الجاهلية والإسلام" عروة بن مسعود، والجارود واسمه: بشر بن المعلى، وجرير بن عبد الله، وسراقة بن جعشم المدلجي".
وثقيف أقرب في الواقع إلى اليمن منهم إلى أهل الحجاز. وتكاد تكون ثقافتهم ثقافة يمانية، وحياتهم الاجتماعية حياة اجتماعية من النوع المألوف في اليمن. حتى في الوثنية نجد لهم معبدا خاصا بهم، يتقربون إليه ويحجون له. ولعل هذه الاختلافات وغيرها هي من جملة العوامل التي صيرت ثقيفا مجتمعا خاصا معارضا لمجتمع مكة، وجعلت أهل الطائف يكرهون أهل مكة الذين امتلكوا أملاكا في الطائف، وكانوا يأتون إليها في الصيف هربا من جو مكة المحرق.
ومن بطون ثقيف، "بنو الحطيط" و "بنو غاضرة". ومن " بني الحطيط "مالك بن حطيط"، وكان من ساداتهم في الجاهلية، ومن ثقيف الشاعر أمية بن أبي الصلت. "وكان بعض العلماء يقول لولا النبي صلى الله عليه وسلم، لادعت ثقيف إن أمية نبي، لأنه قد دارس النصارى وقرأ معهم ودارس اليهود وكل الكتب قرأ. ولم يسلم ورثى قتلى بدر. ومن رجالهم "أبو محجن"، كان شاعرا فارسا شجاعا شهد يوم القادسية، وكان له فيها بلاء عظيم، وقد شهد يومئذ "عمرو بن معد يكرب" وغيره من فرسان العرب، فلم يبل أحد بلاءه. و "الأخنس بن شريق"، وتزعم ثقيف انه أحد الرجلين اللذين ورد ذكرهما في القرآن، على رجل من القريتين عظيم: "الأخنس بن شريق والوليد بن المغيرة. وقد كان حليفا لبني زهرة. وقد خنس ببني زهرة يوم بدر.

(1/1987)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن ثقيف "بنو علاج"، ومنهم "الحارث بن كلدة". "كان طبيب العرب في زمانه وأسلم ومات في خلافة عمر". والمغيرة بن شعبة.
ومن بني ثقيف عثمان والحكم ابنا أبي العاص بن بشر بن دهمان الثقفي، كانا شريفين عظمي القدر، ولى "عمر" عثمان عمان والبحرين وأقطعه الموضع المعروف بالبصرة ب "شط عثمان". ومنهم "تميم بن خرشة بن ربيعة"، أحد وفد ثقيف إلى رسول الله، ومن فرسانهم في الجاهلية" "أوس بن حذيفة" وأدرك الإسلام، و "ضبيس بن أبي عمرو"، و "همام بن الأعقل" وآخرون.
الفصل الرابع والأربعون
مجمل الحالة السياسة في جزيرة العرب عند ظهور الإسلام
استعرضنا في الفصول المتقدمة من هذا الكتاب حالة العرب السياسية قبل الإسلام على قدر ما أدى إليه بحثنا، وساعفتنا عليه الموارد. أما في هذا الفصل وهو خاتمة فصول القسم السياسي، فنستعرض حالة العرب السياسية في القرن السادس للميلاد بوجه عام،
والقرن السادس للميلاد، فترة من الفترات المهمة في تأريخ البشرية، فيه ظهرت أمارات الشيخوخة على الانبراطورية الساسانية التي شيدها "أردشير الأول" على أثر الثورة التي اندلعت عام "224 م" أو "226 م"، ثم لم تلبث إن انهارت في القرن السابع للميلاد بسرعة عجيبة، وبأيد لم يحسب لوجودها حساب، ومن مكان لم يكن له قبل ظهور الإسلام أثر ما فعال في السياسة العالمية. وفي هذا القرن أيضا برزت الأمراض العديدة التي ألمت بالقيصرية، والأملاك التي كانت خاضعة لها، وهي أمراض لم تنج منها إلا ببتر بعض أطرافها في القرن التالي له، فخرجت من ردهة العمليات تئن من فاجعة الألم الذي حل بها، ومن هول ما أصيبت به بذلك البتر.

(1/1988)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي النصف الثاني من هذا القرن ولد الرسول، وبميلاد الرسول ظهر حدث تأريخي خطير للبشرية في النصف الأول من القرن السابع للميلاد، يكفي إن أثره قائم حتى الآن، وانه سيقوم إلى ما شاء. الله، وانه أوجد مفاهيم خلقية جديدة للبشرية، وانه بشر برسالة قائمة على إن الدين لله، وان الناس أمامه سواء، لا فرق بين فرد وآخر وجنس وجنس، ولا تمييز للون على اخر، ثم لم يلبث إن انتشر بسرعة عجيبة لم ينتشر بمثلها دين من الأديان، فقضى على إحدى الانبراطوريتين العظيمتين في عالم ذلك العهد، واستأصل الأعضاء الثمينة من الانبراطورية الأخرى، وأوجد من أشتات سكان جزيرة العرب أمة، ومن قبائلها المتنازعة حكومة ذات سلطان، وفاض على سداد الجزيرة، وسقى ما وراءها من أرضين، ثم وحد بين أقوام عديدين وجمعهم في صعيد دين الله.
وقد ابتلي هذا القرن والنصف الأول من القرن التالي له بأوبئة وبآفات وبمجاعات زادت في مشكلاته الكثيرة التي ورثها من القرون السابقة له، ففيه انتشرت أوبئة ابتلعت بضع مئات من البشر في كل يوم من أيام انتشارها، كانت كالعواصف تنتقل من مكان إلى مكان مكتسحة من تجده أمامها من مساكين، وتعود بين الحين والحين لتبتلع ما يسد حاجتها من البشر والحيوانات. وفيه مني العالم بزلازل وبنقص كبير في الغلات أوجد قحطا ومجاعة وفقرا في كثير من الأقطار، حتى اضطر كثير من الناس إلى هجر الأماكن المنكوبة والارتحال عنها إلى أماكن أخرى فيها النجاة والسلامة.

(1/1989)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا ريب إن ظروفا هذه حالتها، لا بد إن تتولد منها مشكلات اجتماعية وسياسية واقتصادية للحكومات وللرعية، فاختل الأمن خاصة في المناطق الواقعة تحت أقدام الجيوش، فيوما تكتسحها جيوش الفرس فتهدم كل ما تجده أمامها من قرى ومدن، ويوما تغزوها جيوش الروم فتستولي على ما تجده أمامها من حاصلات زراعية ومن أموال. وفي ظروف هذه شأنها لا بد إن يجد الخارجون على النظام والطامعون في الربح السهل الحرام فرصا مواتية لا يفرط فيها للكسب والظفر بما يرغبون فيه، فتأثرت بذلك حالة سكان هذه الأرضين، كما تعرضت التجارة للأخطار، واضطر التجار إلى سلوك طرق ثانية ليكونوا بمأمن من شر قطاع الطرق وفسادهم. وترك أكثر الناس مزارعهم وقراهم فرارا من هذا الوضع إلى المدن الكبيره البعيدة عن مواطن الغزو والأخطار،. فتحولت خيرة الأرضين الخصبة إلى ارضين مجدبة، نتيجة لهذه الهجرة، ولتراكم الأتربة في شبكات الري. ولكن هذا القرن لم يعدم مع ذلك حكاما حاولوا جهد إمكانهم إصلاح الخطأ، وأناسا كان لهم حس وشعور بما وصلت إليه الحالة فنادوا بالإصلاح. ولكن صيحاتهم لم تكن ذات أثر خطير في قوم قلقين حائرين، وليس في أيديهم زمام أمورهم، وقد اعتراهم ذهول جعلهم لا يعرفون كيف يتصرفون. ثم إن الحمل كان ثقيلا، والأخطاء كثيرة، والأمراض، عديدة لا يقومها طبيب واحد أو أطباء معدودون.

(1/1990)


--------------------------------------------------------------------------------

لقد عزم "كسرى" الأول "531-579م" المعروف ب "كسرى أنو شروان"، على إصلاح الحال في مملكته، فأمر بوضع دستور جديد للجباية يخفف عن كاهل الدافعين بعض الثقل، وأمر بإصلاح الأرض وتوزيعها على شعبه بالعدل وبالإنصاف بين الناس حتى عرف لذلك بالعادل، واستعان بمستشارين حكماء كانوا يعظونه ويرشدونه بطريقة الحكم والأمثال والعظات إلى كيفية سياسة الرعية وتدبر أمورها، كما ولى النواحي الروحية عنايته كذلك، فأعاد الزردشتية القديمة، وقاوم الحركة المزدكية التي قام بها "مزدك" في عهد والد "قباد الأول" "483 - 531م" "488 - 531م"، وهي حركة تدعو إلى الغاء الملكية، والى الإباحية، والى القضاء على امتيازات النبلاء ورجال الدين على ما تقوله الموارد التأريخية العربية المستندة إلى موارد "فهلوية" شجعها "قباذ" لما وجد فيها من مبادئ توافق سياسته الرامية إلى مقاومة تلك الطبقات المتنفذة التي عارضت في انتقال العرش إليه، والتي اجتمعت كلمتها برئاسة "موبذان موبذ" والعظماء على إنزاله من عرشه، لما بدا لهم من ازوراره عنهم، وانحرافه عن الزردشتية إلى تعاليم مزدك المناهضة للموابذة ولعظماء المملكة الذين كانوا يتمتعون في المملكة بنفوذ واسع حد من سلطان "شاهنشاه".

(1/1991)


--------------------------------------------------------------------------------

ورسالة مزدك وتعاليمه، غامضة، لا نعلم من حقيقتها شيئا، فقد أبيدت كتبهم وطمست معالم دينهم في.عهد "أنو شروان"، ولم يبق منها إلا هذه النتف المدونة في الكتب العربية عن موارد "فهلوية" دونت في أيام محفة المزدكية وبعدها. ويظهر من هذه النتف إنها حركة دينية اجتماعية سياسية تدعو إلى توزيع الثروات بين الناس بالتساوي. والى انتزاع الأموال والأرضين من الأغنياء لإعطائها للمقلين، حى من كان عنده جملة نساء تؤخذ منه لتعطى لغيره من المحتاجين، فهي على هذا التعريف فكرة اشتراكية متطرفة عارضت النظم الاجتماعية القائمه، وهددت الدين القائم، وجرأت العامة على تلك الطبقات، كان الملك في حاجة إليها للانتقام ممن عارضه فأيدها.
هذا وحيث أننا قد تعلمنا من التجارب التي تجري في الوقت الحاضر ومن دراستنا للموارد التأريخية القديمة، إن ما يكتب عن قوم غضب الحاكمون عليهم لا يمكن إن يكون مرآة صافية يعبر عن وجه أولئك القوم وعن ملامحهم الحقيقية، لذا فإننا لا نستطيع إن نقول ان ما وصل إلينا عن المزدكية بمثل رأيها وعقيدتها تمام التمثيل، إذ يجوز إن يكون منه ما هو مصنوع موضوع حمل عليهم، وان رواة الأخبار قد غرقوا منه، ودونوه على نحو ما وصل إلينا في كتبهم. لذلك يجب الانتباه على هذه الملاحظة.

(1/1992)


--------------------------------------------------------------------------------

وحمل عدل الملك الساساني وحلمه وتسامحه مع رعيته ومساعدته للخارجين على الكنيسة الرومية الرسمية "من الفلاسفة والمثقفين بالثقافة الإغريقية القديمة ممن كانوا هدفا لهجمات الكنيسة الأرثودكسية في الانبراطورية البيزنطية" على الهجرة إلى المملكة الساسانية، طامعين في عدل الملك وحمايته، وفي بيأة تكون فيها الحربة الفكرية مكفولة مضمونة، لا ضغط فيها ولا إكراه. ولكنهم ما لبثوا إن وجدوا إن الزردشتية التي نصرها وأيدها "كسرى أنو شروان"، وهي ديانة المملكة غير ملائمة للفلسفة، وأنها ليست أرحب صدرا من "الأرثودكسية"، وانهم لم يكونوا على صواب بمجيئهم إلى هذه الأرض، فرجوا من "ملك الملوك" الترفق بهم، بالسماح لهم بالعودة إلى بلادهم. فلما كانت الهدنة، طلب "كسرى" من قيصر في سنة 549م إباحة العودة إلى ديارهم والتلطف بهم والعفو عما بدر منهم من الذهاب إن مملكته.
وكان مما فعله "كسرى أنو شروان" أن هاجم الإمبراطورية البيزنطية وقيصرها في عهد "يوسطفيان" "يسطنيانوس" "جستنيان" "527 - 565م"، واشتبك معها في جملة حروب، ووسع حدوده في الشرق، وساعد الأحزاب المعارضة للروم، وأرسل حملة إلى اليمن بناء على طلب الأمراء المعارضين لحكم الحبشة عليها، ساعدتهم في وضع خطة لإزاحة الحبشة عنها. والحبش هم حلفاء البيزنطيين وإخوانهم في الدين وهم الذين حثوا النجاشي على فتح اليمن بعد إن يئسوا من الاستيلاء عليها ومن الاستيلاء على الحجاز وبقية جزيرة العرب.

(1/1993)


--------------------------------------------------------------------------------

واتبع "كسرى الثاني" "595 - 628 م" المعروف ب "كسرى أبرويز"، وهو ابن "هرمز بن كسرى أنو شروان"، خطوات جده وأسلافه الملوك الماضين في الحرب مع البيزنطيين، فبلغ "خلقيدونية" ثلاث مرات، واستولى على بلاد الشام، ودخلت جيوشه القدس في سنة "614 م". ثم استولى على مصر في سنة "619 م" ودوخ بفتوحاته الروم إلى أن عاجله ابنه بخلعه، فاستراح الروم منه، ثم لم يلبثوا أن استردوا من الفرس أكثر ما أخذوه منهم في تلك الحروب.
وقد اضعفت هذه الحروب المتوالية الحكومة الساسانية وآذت الشعوب التي خضعت لحكمها وأفقرتها، وأثرت على الأمن الداخلي وعلى الأوضاع الاقتصادية والعمرانية تأثرا كبيرا ولا سيما في البلاد التي صارت ساحة تعبئة وتلاحم جيوش، وهي بلاد العراق. ولم يعد الإنسان يأمن على حياته وعلى ماله، وصار سواد الناس وكأنهم أبقار واجبها إعطاء الحليب وأداء الأعمال الأخرى للحكام، والذبح للاستفادة من لحومها ومن جلودها وعظامها حينما تنتفي الحاجات الأخرى منها. وتأسد المرازبة وقادة الجيوش في الحكم، حتى صار الحكم حكم عواطف وأهواء ومصالح، و "الشاهنشاه" عاجز عن عمل كل شيء لأن "الشاهنشاهية"، لم تعد متقيدة بالوراثة القديمة وبالآداب السلطانية، بل صارت لمن يستعين بأصحاب العضلات وبمثيري الفتق والاضطرابات. أضف إلى ذلك أن من بيده مفتاح الدفاع عن الدولة، وهم الجنود، والضباط الصغار، شعروا أنهم يقاتلون لا في سبيل وطن ودين وعقبدة، بل يقاتلون لأنهم يساقون اذ القتال قسرا، وهم في حالة. سيئة ووراءهم عوائلهم لا تملك شيئا، وقد جيء بهم إلى الجيش قسرا وعلى طريقة "السخيرة". وهم يحاربون ولا سلاح لهم، لأن الحكومة لا تملك سلاحا، ولا نظام لهم، لأنهم لم يدربوا على القتال ولم يعلموا أصوله، أجسامهم تقاتل، وقلوبهم مشغولة في مصير أولادهم وزوجاتهم وبيوتهم، وهم المعيلون لهم، ليس لهم غيرهم من معين.

(1/1994)


--------------------------------------------------------------------------------

وحكومة هذا شأنها، لا يرممن لها أن تحافط على حدود طويلة مفتوحة سهلة تقيم عليها قبائل غارية، تترقب الفرص لتجد فرصة تهتبلها لتغير فيها على الحضر، فتنتزع منهم ما قد تقع أيديهم عليه من أي شيء. فصار الأعراب يغيرون على الحدود من كل مع مكان فيه نفوذ وجنود للساسانيين، ولاسيما بعد معركة "ذي قار" التي منحتهم قوة معنوية عالية، وعلمتهم مواطن الضعف عند الساسانيين. فما جاء الإسلام من جزيرة العرب صاروا عونا له في تقويض تلك الدولة، ودالة ساعدته في تفهم مواطن الضعف فيها، ومنها نفذ الإسلام إلى ما وراء البحار، وقوض الحكومة الضخمة بسرعة عجيبة وبمحاربين لم يكونوا قد عرفوا من قبل أساليب القتال المنظم، ولا المعارك الضخمة التي صادفوها لأول مرة في حروبهم مع الساسانيين والبيزنطيين.

(1/1995)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد طمعت القبائل في حكومة الحيرة أيضا، هذه الحكومة التي ظهر عليها الوهن كذلك. فأخذت تغير عليها وتتعرض بحدودها، وتتحرش بقوافلها التي كان يرسلها ملوكها للاتجار في أسواق الحجاز واليمن. حتى صارت الطرق التي تسلكها خطرة غير آمنة، لا يتمكن رجالها من المرور بها بسلام. ولم يستطع الساسانيون من مساعدتها وحمايتها، لأن أوضاعهم الداخلية، كانت كما ذكرت على غير ما يرام. وهذا مما زاد في تصميم القبائل على مهاجمة ملوك الحيرة وحدود الفرس في آن واحد. ولعل هذه الغارات، كانت في جملة الأسباب التي حطمت "كسرى" على القضاء على النعمان وعابر إنهاء حكم "آل نصر"، إما بسبب ما رآه "كسرى" من عدم تمكن الملك "النعمان" من تأديب القبائل ومن ضبط الطرق والأمن، فارتأى استبداله بعربي أخر أو برجل قوي من قادة الجيوش الفرس، وإما لظنه أو لما وصل إلى علمه من خبر يفيد بأن النعمان قد أخذ يفاوض سادة القبائل الكبار لإرضائهم وضمهم إليه. وفي هذا العمل تهديد لمصالح الفرس ومحاولة للابتعاد عنهم. فأراد لذلك القضاء عليه وعلى الأسر الحاكمة، قبل أن يتمكن من الحصول على تأييد أولئك السادة الذين أدركوا نواحي الضعف في حكومة الساسانيين.

(1/1996)


--------------------------------------------------------------------------------

وهناك روايات يشتم منها أن "النعمان"، قال لسادات القبائل" "إنما أنا رجل منكم، وإنما ملكت وعززت بمكانكم وما يتخوف من ناحيتكم... ليعلم أن العرب على غير ما ظن وحدث". وروايات تفيد أن "كسرى" إنما قتل "النعمان"، لأنه وسائر أسرته سايروا سادات القبائل وتواطئوا معهم على الساسانيين. ولعل عجز ملوك الحيرة عن حماية قوافل الفرس الذاهبة إلى اليمن والآيبة منها، وعن حماية الطرق البرية المهمة التي توصل العراق باليمن، ثم عجز ملك الحيرة من منع الأعراب من الإغارة على حدود الساسانيين، ثم اضطرار الملك "النعمان" على الاتصال بسادات القبائل لترضيتهم ولضمهم إليه لتأييده ولتقوية ملكه الضعيف، الذي كان يهدده خصوم له. لعل هذه الأسباب وغيرها، كانت في جملة العوامل التي حملت "كسرى" على القضاء على "النعمان" وعلى استبدال الأسرة الحاكمة بأسرة أخرى، أو تسليم أمور الحيرة نهائيا إلى قائد فارسي، يحكمها حكما عسكريا.
وقد نصب الفرس حاكما منهم على الحيرة، لكنه لم يتمكن من سد أبواب الحدود الطويلة وغلقها، وجمع الأعراب من دخولها. لقد اجتازوها ثم جاوزوها إلى مسافات بعيدة في الإسلام، أوصلت العرب إلى الصين والهند وتركستان الصينية. ذلك لأن الفرس كانوا منهوكي القوى في الداخل وفي الخارج، وقد أتعبتهم الأوجاع، بينما جاء العرب بإيمان برسالة، وبعزم وتصميم، وباعتماد على النفس، من أن النصر سيكون لهم حتما. لقد بدأ هذا العزم قبل "ذي قار"، ثم تجسم في "ذي قار"، فكان نصر العركة في هذا الموضع، ناقوس النصر، و "الهرمون" الذي بعث الحيوية في جسم القبائل، فجعلها تشعر أن في استطاعتها أن تفعل شيئا، لو وحدت نفسها، وعملت عملا إيجابيا منتظما، بعد دراسة وتفكير، وباعدت نفسها عن الهياج والحماس والكلام الكثير، الذي يذهب بعد تكلمه مع الهواء.

(1/1997)

admin
12-27-2010, 02:16 AM
والحروب المتوالية التي شنها الفرس على البيزنطيين، والبيزنطيون على الفرس، وانقسام الإنبراطورية إلى حكومتين: حكومة روما وحكومة القسطنطينية، ثم مهاجمة الملوك والأقوام الساكنة في أوربة لهاتين الحكومتين من الشمال والغرب، كل هذه انتجت مشكلات خطيرة للعالم الغربي عامة وللروم خاصة. وقد كان إزعاج الروم وقلاقهم، مما يفيد بالطبع منافسيهم الفرس ويسرهم، فكانوا يشجعون الثائرين ويتحالفون معهم لأن في ذلك قوة لهم، كما كان الروم أنفسهم يشجعون الأحزاب المعارضة للفرس ويحرضونها على الثورة على الساسانيين والتمرد عليهم، وعلى مهاجمة حدودهم نكاية بأعدائهم وللانتقام منهم حتى صارت الحروب بين الانبراطوريتين تقليدا موروثا، لا يتركها أحد الطرفين إلا اضطرارا، ولا تعقد هدنة بينهما الا بدفع جزية تكون مقبولة لدى الطرف الغالب تغنيه عن المكاسب التي يتأملها من وراء الحرب. يدفعها المغلوب صاغرا بسبب الأحوال الحرجة التي هو فيها، آملا تحسن الموقف للانتقام من الخم. فتأريخ الساسانيين والروم، هو تأريخ هدن وحروب عادت إلى بلاد الطرفين بأفدح الأضرار. وما الذي يكسبه الإنسان من الحروب غير الضرر والدمار ? %)165(

(1/1999)


--------------------------------------------------------------------------------

لقد وجد "كسرى أنو شروان" "531ه- 579م" في انشغال "يوسطنيان" "جستنيان" "Justinian" "527 - 565م" بالحروب في الجبهات الغربية فرصة مواتية للتوسع في المناطق الشرقية من الإنبراطورية البيزنطية، فتحلل من "الهدنة الأبدية" التي كانت قد عقدت بين الفرس والروم، وهاجم الإنبراطورية منتحلا أعذارا واهية، واشترك في قتال دموي مر بجيوش الروم. ولم يفلح مجيء القائد "بليزاريوس" "Belisarius" من الجبهات الإيطالية لإيقاف تقدم الفرس، فسقطت مدن الشام وبلغت جيوش الفرس سواحل البحر المتوسط، وبعد مفاوضات ومساومات طويلة تمكن الروم من شراء هدنة من الفرس أمدما خمس سنوات بشروط صعبة عسيرة، وبدفع أموال كثيرة. ثم مددت هذه الهدنة على أثر مفاوضات شاقة مع الفرس خمسين عاما حيث عقد الصلح في سنة "561" أو "562م". تعهد الروم لكسرى بدفع إتاوة سنوية عالية، وتعهد الفرس في مقابل ذلك بعدم اضطهاد للنصارى، وبالسماح للروم في الإتجار في مملكتهم على شرط معاملة الروم لرعايا الفرس المعاملة التي يتلقاها تجار الروم في أرض الساسانيين.

(1/2000)


--------------------------------------------------------------------------------

و "يوسطنيان" معاصر "كسرى أنوشروان" شخصية فذة مثل شخصية معاصره، ذو آراء في السياسة وفي الملك، من رأيه إن الملك يجب إن يكون دليلا وقدوة ونبراسا للناس، وانه لا يكون عظيما شهيرا لحروبه ولكثرة ما يمكله من سلاح وجند، إنما يكون عظيما بقوته وبقدرته وبالقوانين التي يسنها لشعبه للسير عليها، تنظيما للحياة. فالملك في نظره قائد في الحروب ومرشد في السلم، حام للقوانين، منتصر على أعدائه. وكان من رأيه إن الله قد جعل الأباطرة ولاته على الأرض، وأدلة للناس، قوامين على الشريعة. ولذلك فإن من واجب كل انبراطور إن يقوم بأداء ما فرضه الله عليه بسن القوانين وتشريع الشرائع، ليسير الناس عليها. ولما كانت القوانين التي سارت عليها الانبراطورية الرومانية كثيرة جدا، حتى صعب جمعها وحفظها، تطرق إليها الخلل، وتناقضت الإحكام. لذلك رأى إن من واجبه جمعها وتنسيقها وتهذيبها وإصدارها في هيأة دستور الانبراطوري يسير عليه قضاة الانبراطورية في تنفيذ الإحكام بين الناس، وعهد بهذا العمل الشاق إلى "تريبونيان" "Tribonian" من المشرعين المعروفين في أيامه. فجمع هذا المشرع البارع القوانين في مدونات، ورتبها في كتب وأبواب، وكان بتدوينه هذا بعض القوانين البيزنطية والرومانية من الضياع، وأورث المشرعين ذخيرة ثمينة من ذخائر البشرية في التشريع.

(1/2001)


--------------------------------------------------------------------------------

ويعد هذا العمل مم الأعمال العظيمة في تاريخ التشريع، ولم يكن "يوسطغيان" أول من فكر في جميع القوانين السابقة في مدونة، ولكنه كان أول من أقدم على تنسيقها وجمع ما تشتت منها وتيسيرها للمشرعين، وقد وحد بذلك قوانين الانبراطورية. فعد صنيعه هذا إصلاحا كبيرا يدل على شعور الملك وتقديره للعدالة في مملكته. وقد أدخل معاصره "كسرى أنو شروان" إصلاحات على قوانين الجباية، فعد القرن السادس من القرون المهمة في تأريخ التشريع. ولكن الذي يؤسفنا إننا لا نملك موارد تفصل إصلاحات "كسرى" وهل هي نتيجة شعور بضرورة ملحة وحاجة، أو هي صدى للعسل الذي قام به "يوسطنيان"، ثم أي مدى بلغته تلك الإصلاحات? وفكرة إخضاع الانبراطورية لقانون واحد نابعة من أصل عام كان يدين به "يوسطنيان"، يتلخص في دولة واحدة وقانون واحد وكنيسة واحدة. كان يوسطنيان يرى إن الدولة المنظمة هي الدولة التي يخضع فيها كل أحد لأوامر القيصر، وان الكنيسة إنما هي سلاح ماض يعين الحكومة في تحقيق أهدافها، لذلك سعى لجعلها تحت نفوذ الحكومة وفي خدمة أغراضها، فتقرب إلى رجال الدين، وساعد على إنشاء كنائس جديدة، واستدعى إلى عاصمته رؤساء الكنيسة "المنوفيزيتية" ""Monophysites" القائلين بالطبيعة الواحدة واليعاقبة وأتباع "آريوس" "Ariaus" وغيرهم من المعارضين لمباحثتهم ولعقد مناظرات بينهم وبين الكنيسة الرسمية للتقريب فيما بينهم وإيجاد نوع من الاتفاق يخدم أهداف الملك المذكور. ولكن هذه المحاولة لم تنجح، ومحاولات التوفيق لم تثمر، ولتحقيق نظريته في الكنيسة الواحدة اضطهد أصحاب المذاهب المعارضة وكذلك اليهود.

(1/2002)


--------------------------------------------------------------------------------

وزادت نظريته المذكورة في الدولة وفي الكنية في حدة المشكلات التي ورثها من أسلافه وجاءت بنتائج معاكسة لما كان يريد منها. فمحاولة تقربه من "البابا" وتأييده له، اصطدمت بفكرة كانت مسيطرة عليه، هي إن علمه باللاهوت لا يقل عن علم رجال الدين به، وان من حقه التدخل في أمور الكنائس وفي تسيير المجامع الكنيسية، لتوحيد الكنائس وإعادتها إلى أصلها، فأزعج بذلك "البابا"، وصار من أضداده، وأزعج أصدقاءه ومعارضتوه من رجال المذاهب الأخرى، لأنه خالفهم، وجاء بتفسرات لم ترضي أي مذهب منها. واضطر أخيرا على الخضوع لعقيدته المهيمنة على عقله، وهي إن ما يراه في الدين، هو الصحيح، وهو الحل الوسط للنزاع الكنسي، وهو الأصلح للدولة. فخلق. معارضين له. وأغلق "جامعة أثينا" ومدارس البحث، واصدر أمرا بمنع الوثنين و. كل من ليس نصرانيا من الاشتغال في الدولة. وهكذا ولدت نظريته في "أنا الدولة" مشكلات خطيرة لدولته ولدولة من جاء بعده من قياصرة.
وكانت لدى الروم مثل هذه المشكلة التي كانت عند الفرس: مشكلة تهرب كبار الملاكين والمتنفذين من دفع الضرائب، وزيادة نفوذهم وسلطانهم في الدولة. فعزم "يوسطنيان" على الحد من سلطانهم، والتشديد في استيفاء الضرائب لمعالجة الوضع الحربي الناتج من قلة المال اللازم للإنفاق على جيش كبير، مما اضطر الحكومة إلى تقليص عدد الجنود. فأصدر أوامر عديدة بالتشديد في جمع الضرائب، وبإجراء الإصلاحات في الإدارة، غير إن إصلاحاته هذه لم تنفذ، إذ. لم يكن في مقدور الحكومة تنفيذها لعدم وجود قوة لديها تمكنها من "لحد من نفوذ المتنفذين ورجال أكفاء أقوياء يقومون بالتنفيذ.

(1/2003)


--------------------------------------------------------------------------------

واهتم "يوسطنيان" بأمر التجارة. والتجارة مورد رزق للدولة كبير، ولاسيما مع الأقطار الشرقية، فقد كانت بضائعها مرغوبا فيها في أوربة ومطلوبة، تجني الحكومة منها أرباحا كثيرة، وفي مطلع قائمة هذه البضائع النفيسة الأموال التي ترد إلى الانبراطورية من الصين والهند، فقد كانت تلافي إقبالا كبيرا من أثرياء الانبراطورية ومن أثرياء انبراطورية روما الغربية وبقية أنحاء أوربة.
وأثمن بضاعة في قائمة البضائع الواردة من الصين مادة الحرير، ولثمن الحرير الباهض حرص الصينيون على ألا يسمحوا لأي غريب كان إن ينقل معه البيض أو الديدان التي تتولد منه إلى الخارج، خشية المزاحمة والمنافسة التي تلحق بهم أفدح الأضرار. وتلي هذه المادة البضائع النفيسة الأخرى مثل العطور والقطن الوارد من الهند والتوابل وأمثالها من الموات التي كان يعجب بها أصحاب الذوق في ذلك الزمن. كل هذه يشتريها تجار الروم، وبعد إن تأخذ الدولة البيزنطية الضرائب المفروضة، تسمح للتجار بالتصرف فيها وبيعها على بقبة الأوربيين.
وأسعار هذه المواد عالية باهظة إلى درجة كبيرة صارت مشكلة من مشكلات الدولة البيزنطية، ولهذا كانت تتصل دوما بالانبراطورية الساسانية لمحاولة الاتفاق على تحديد الأسعار، وتعيين مقدار الضرائب، وذلك بسبب ورود أكرها من هذه الانبراطورية، إذ كان التجار يأتون بالأموال من أسواق الصين تنقلها القوافل التي تجتاز أرض الدولة الساسانية لتسلمها إلى حدود الانبراطورية البيزنطية، ومنها إلى العاصمة لتوزع في الأسواق الأوربية.
هذا طريق. وهناك طريق آخر هو طريق البحر. يحمل تجار الصين أموالهم على سفن توصلها إلى جزيرة "تبروبانة" "Taprobane" وهي جزيرة "سيلان" ثم تفرغ هناك، فتحمل في سفن تنقلها إلى خليج البصرة، ثم تحمل في سفن أخرى تمخر في دجلة والفرات إلى حدود الروم.

(1/2004)


--------------------------------------------------------------------------------

ولما كانت علافات الروم بالساسانيين غير مستقرة، والحرب بين الانبراطوريتين متوالية صارت هذه التجارة معرضة للتوقف والإنقطاع طوال أيام الحروب، وهي كثيرة، فترتفع أسعارها هناك، كما إن الساسانيين كانوا يزيدون في أسعار البيع وفي ضربية المرور، فتزيد هذه في سعر التكليف، ولهذا فكر "يوسطنيان" في التحرر من تحكم الساسانيين في مورد مهم من موارد رزقهم، وذلك باستيراد بضائع عن طريق البحر الأحمر، وهو بعيد عن رقابة الساسانيين.
والخطة التي اختطها "يوسظيان" لتحرير التجارة البيزنطية من سيطرة الساسانينن عليها، هي الاتصال بالأسواق البيزنطية المصدرة، ونقل المشتريات إلى الانبراطورية بالبحر الأحمر الذي كان يسيطر الروم على أعاليه. لقد كان ميناء "أيلة" في أيدي البيزنطيين، وكان هذا الميناء موضعا لتفريغ السفن الموسقة بالبضائع المرسلة من الهند إلى فلسطين وبلاد الشام، كما كان ميناء "القلزم" "Clysma" في أيديهم كذلك، تقصده السفن التي تريد إرسال حمولتها إلى موانئ البحر المتوسط. أما جزيرة "أيوتابة" "Iotabe" وهي جزيرة "تاران" "تيران"، فقد كانت مركزا مهما لجباية الضرائب من السفن القادمة من الهند، وكانت في أيدي بعض سادات القبائل، فأمر "يوسطنيان" بإقامة موظفي الجباية البيزنطيين بها، ليقوموا بالجباية. وأما ما بعد هذه المنطقة حتى مضيق المندب والمحيط الهندي فلم يكن للبيزنطيين عليه نفوذ.

(1/2005)


--------------------------------------------------------------------------------

ولتحقيق هذه الخطة، كان عليه وجوب السيطرة على البحر الأحمر والدخول منه إلى المحيط الهندي، للوصول إلى الهند وجزيرة "سيلان". ولا يمكن تحقيق هذه الخطة إلا بعملين: عمل عسكري يعتمد على القوة، وعمل سياسي يعتمد على التقرب إلى الحبشة الذين كانوا قد استولوا على اليمن، فصار مدخل البحر الأحمر "مضيق باب المندب" بذلك في أيديهم. ثم بالتودد إلى سادات القبائل العربية النازلة في العربية وفي بادية الشام، لضمهم إلى صفوف البيزنطيين، ولتحريضهم على الفرس، وبذلك يلحق البيزنطيون ضررا بالغا بالفرس ويكون في استطاعتهم نقل التجارة نحو الغرب عن جزيرة العرب والبحر الأحمر إلى أسواقهم بكل حرية وأمان.
أما العمل العسكري، فلم في وسع البيزنطيين القيام به في ذلك الوقت، لعدم وجود قوات برية كبيرة كافية. لتتمكن من اجتياز العربية الغربية للوصول إلى اليمن، حيث الحبش هناك، أخوان البيزنطيين في الدين. وقد علموا من التجارب السابقة، أن الجوع والعطش يفتكان بالجيش فتكا، وان القبائل لا يمكن الاطمئنان إليها والوثوق بها أبدا، لذلك تركوا هذا المشروع. فلم يبق أمامهم غير تنفيذه من ناحية البحر، وقد وجدوا إن هذا التنفيذ غير ممكن أيضا، لأن أسطولهم في البحر الأحمر لم يكن قويا، ولم يكن في استطاعته السيطرة عليه سيطرة تامة. فتركوه، ولو إلى حين، مفضلين عليه العمل السياسي.

(1/2006)


--------------------------------------------------------------------------------

أما العمل السياسي، فقد تم بالاتصال بالحبش، وقد كان ملكهم على النصرانية، لذلك كان من الممكن جلبه إلى البيزنطيين بالتودد إليه باسم الاخوة في الدين. كما تم بالتقرب إلى سادات القبائل المتنصرين، والتودد إليهم باسم الدين أيضا. وتم بإرسال المبشرين إلى جزيرة العرب، وبتشجيعهم على المعيشة بين الأعراب وفي البوادي لتنصير،سادات القبائل، وللتأثير عليهم بذلك. وبإقامة الكنائس وإرسال المال وعمال البناء لبنائها بأسلوب يؤثر في عقول الوثنيين، فيجعلها تميل إلى النصرانية، ولتكون هذه المعابد معاهد تثقيف تثقف بالثقافة البيزنطية كما تفعل الدول الكبرى في هذه الأيام.
وأرسل "يوسطنيان"-كما سبق إن بينا ذلك-رسولا عنه يدعي "يوليانوس" "جوليانس" "Julianus" إلى النجاشي والى "السميفع أشوع" "Esimphanus" حاكم اليمن في ذلك العهد، ليتودد اليهما، وليطلب منهما باسم "العقيدة المشتركة" التي تجمعهم إن يكونا مع الروم جبهة واحدة في محاربة الساسانيين، وان يقوما مع من ينضم إليهم من قبائل العرب بمهاجمتهم، وحمل السفير إلى "السميفع أشوع" رجاء آخر، هو موافقته على تعيين رئيس عربي اسمه "Kaisos" أي "قيس" عاملا "فيلارخ" "Phylarch" على قبيلة عربية تدعى "معديني" "Maddeni"، أي قبيلة "معد"، ليشترك معه ومع عدد كبير من أفراد هذه القبيلة بمهاجمة الساسانيين، وقد رجع السفر فرحا مستبشرا بنجاح مهمته، معتمدا على الوعود التي أخذها من العاهلين. غير أنهما لم يفعلا شيئا، ولم ينفذا شيئا ما مما تعهدا به للسفير، فلم يغزوا للفرس، ولم يعين "للسميفع فوع" "قيسا" "فيلارخا" عاملا على قبيلة معد.
وورد أيضا إن القيصر جدد في أيام "ابراموس" "Abramos" الذي نصب نفسه في مكان "Esimiphaeus"، طلبه ورجائه في محاربة الفرس، فوافق على ذلك وأغار عليهم، غير انه تراجع بسرعة.

(1/2007)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر إن اتصال البيزنطيين ب "ابراموس" "Abramos" كان بعد القضاء على "السميفع أشوع" الذي لم يتمكن من مهاجمة الفرس إذ كان من الصعب عليه اجتياز أرض واسعة بعيدة وطرق بعيدة تمر بصحارى وقفار لمحاربة أناس أقدر من رجاله على القتال. فلما تمكن "ابراموس" من التحكم في شؤون اليمن ومن تنصيب نفسه حاكما عاما على اليمن وصارت الأمور بيديه تماما، فكر البيزنطيون في الاستفادة منه بتحريضه على الساسانيين، وذلك باسم الأخوة في الدين.
وقد تحرش "ابراموس" بالفرس، غير انه لم يستمر في تحرشه بهم. فما لبث إن كف قواته عنهم. ولم يذكر المؤرخ "بروكوبيوس" كيف هاجم "ابراموز" الساسانيين، ومن أين هاجمهم ومتى هاجمهم. لذلك أبقانا في جهل بأخبار هذا الهجوم.
و "ابراموس" هو "أبرهة" الذي تحدثت عنه في أثناء كلامي عن اليمن. أما ما أشار إليه "بروكوبيوس" من تحرشه بالفرس ومن تركه لهم بعد قليل، فقد قصد به حملته على "مكة" على الغالب، وهي حملة قصد بها "أبرهة" على ما يظهر الاتصال بالبيزنطيين عن طريق البر، وإخضاع العربية الغربية بذلك على حكمه وهو من المؤيدين البيزنطيين. وبذلك تؤمن حرية الملاحة في البحر الأحمر ة ويكون في إمكان السفن البيزنطية السير به بكل حرية. ولعله كان يقصد بعد ذلك مهاجمة الفرس من البادية بتحريض القبائل المعادية للساسانيين عليهم، وبتأليف حلف من قبائل يؤثر عليها فيهاجم بها الفرس.
اما "Kaisos" "Caisus"، فكان كما وصفه المؤرخ "بروكربيوس" شجاعا ذا شخصية قوية مؤثرة حازما من أسرة سادت قبيلة "معد". وقتل أحد ذوي قرابة "للسميفع أشوع" "Esimaphaios" "Esimiphaeus"، فتعادى بذلك معه، حتى اضطر إلى ترك دياره والهرب إلى مناطق صحراوية نائية. فأراد القيصر الشفاعة له لدى "Esimaphaios"، والرجاء منه الموافقة على أقامته رئيسا "Phyarch" على قبيلته قبيلة معد.

(1/2008)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا يعقل بالطبع توسط القيصر في هذا الموضوع، لو لم يكن الرجل من أسرة مهمة عريقة، لها عند قومها مكانة ومنزلة، وعند القيصر أهمية وحظوة. ولشخصيته ومكانة أسرته أرسل رسوله إلى حاكم اليمن لإقناعه بالموافقة على أقامته رئيسا على قومه. وبهذا يكسب القيصر رئيسا قويا وحليفا شجاعا يفيده في خططه السياسية الرامية إلى بسط نفوذ الروم على العرب، ومكافحة الساسانيين.
ونحن لا نعرف ن أمر "قيس" هذا في روايات الأخباريين شيئا غير أن هناك رواية لابن إسحاق جاء فيها أن أبرهة عين محمد بن خزاعى عاملا له على مضر، وأن "قيسا" كان يرافق أخاه محمدا حين كان في أرض كنانة. فلما قتل "محمد"، فرا إلى "ابرهة". وقد ورد نسب "محمد" على هذه الصورة: "محمد بن خزاعي بن علقمة بن محارب بن مرة بن هلال بن فالح ابن ذكوان السلمي" في بعض الروايات، وذكر أنه كان في جيش أبرهة مع الفيل.
فهل قيس هذا هو قيس الذي ذكره "بروكوبيوس" ?. اتصل مع أخيه محمد بأبرهة، وصار من المقربين لديه? أو هو رجل آخر لا علاقة له ب "قيس" الذي يذكره "ابن إسحاق"? وقد زار والد "نونوسوس" "Nonnosos" "قيسا" هذا مرتين، وذلك قبل سنة "535م" وزاره "نونوسوس" نفسه في إثناء حكمه. وأرسل "قيس" ابنه "معاوية" إلى "يوسطنيان"، ثم أعلم أخاه ثم ابنه الأمارة. وعينه القيصر عاملا "Phylarch" على فلسطين.
وكانت للقيصر "يوسطنيان" صداقة مع رئيس آخر اسمه "أبو كرب" "Abochorabus"، يقع ملكه في أعالي الحجاز وفي المناطق الجنوبية من فلسطين. عرف هذا الرئيس بالحزم والعزم فخافه الأعداء، واحترمه الأتباع، واتسع لذلك ملكه، وتوسع سلطانه حتى شمل مناطق واسعة، ودخلت في تبعيته قبائل عديدة أخرى على القانون الطبيعي في البادية الذي يحتم دخول القبائل طوعا وكرها في تبعية الرئيس القوي.

(1/2009)


--------------------------------------------------------------------------------

أراد هذا الرئيس أن يتقرب إلى القيصر، وأن يبالغ في تقربه إليه وفي إكرامه له، فنزل له عن أرض ذات تخيل كثيرة، عرفت عند الروم ب "فوينيكون" "Phoinikon" "واحة النخيل"، أو "غاية النخيل". وهي أرض بعيدة. لاتبلغ الا بعد مسيرة عشرة أيام في أرض قفرة. فقبل القيصر هذه الهدية الرمزية، اذ كان يعلم، كما يقول المؤرخ "بروكوبيوس" عدم فائدتها له، وأضافها إلى أملاكه، وعن هذا "الشيخ" عاملا "فيلارخا" على عرب فلسطين.
وقد قام ملك هذا الرئيس على ملك رئيس آخر كانت له صلات حسنة بالروم كذلك، هو "امرؤ القيس" "Amorkesos" وكان "Amorkesos" في الأصل من عرب المناطق الخاضعة للفرس، ثم هجر دياره لسبب لا نعرفه إلى الأرضين الخاضعة لنفوذ الرومان، وأخذ يغزو الأعراب، حتى هابته القوافل، فتوسع نفوذه، وامتد إلى العربية الصخرية، واستولى على. جزيرة "تاران" "Iotaba" وترك رجاله فيها يجبون له الجباية من السفن القادمة من الهند، حتى حصل على ثروة كبيرة، وعزم في سنة "473 م" على إرسال الأسقف "بطرس" أسقف الأعراب التابعين له إلى القسطنطينية، ليتصل بالقيصر، وليتوسط لديه هناك أن يوافق على تعيينه عاملا "Phylarch" على الأعراب المقيمين في العربية الحجرية %)175( ابن المنذر، حليف الفرس. بمعنى أنه تعرض لجماعة كانت في جانب الساسانين. فهل الغزاة التي أشار إليها المؤرخ "بروكوبيوس" هي هذه الغزاة? و "Maddenoi" هي قبيلة "معداية" "Ma'addaye" التي ذكرها "يوحنا الأفسوسي" "John of Ephesus" مع "طياية" "طيايا"" "طيايه" "Tayaye" "Taiyaya" في كتابه الشي وجهه إلى أسقف "بيت أرشام" "Beth Aresham"، ويظهر من هذا الكتاب أنها كانت مقيمة في فلسطين.

(1/2010)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد تحدثت سابقا عن ورود اسم قبيلة "سد" في نص النمارة الذي يرجع عهده إلى سنة "328 م" حيث ورد أن "امرئ القيس بن عمرو" ملك العرب ملك على "معد" وعلى قبائل أخرى ذكرها النصى، منها أسد ونزار ومذحج. ويربط الأخباريون في العادة بين ملوك الحيرة وقبيلة معد، وظالما ذكروا إن ملوك الحيرة غزوا معد، مما يدل على وجود صلة تأريخية متينة بين الحيرة وهذه القبيلة المتبدية التي كانت تمعن في سكنها مع البادية.
ويظهر من روايات أهل الأخبار أنه قد كان للتبابعة شأن في تنصيب سادات على معد. فهي تذكر انهم هم الذين كانوا يعينون أولئك الساده، فينصبونهم "ملوكا" على معد. وذلك بسبب تنازع سادات معد فيما بينهم وتحاسدهم وعدم تسليم بعضهم لبعض بالزعامة. ولهذا كانوا يلجأوون إلى التبابعة لتنصيب "ملوك" عليهم. يضاف إلى ذلك أن معد ا كانت قبائل متبدية: منتشرة في ارضين واسعة تتصل باليمن، وقد. كان أهل اليمن المتحضرون أرقى منهم، وجيوشهم أقوى وأنظم نسبيا من محاربي معد ومقاتليهم الذين كانوا يقاتلون قتال بدو، لا يعرفون تنظيما ولا تشكيلا ولا توزيعا للعمل. وكل ما عندهم هو كر وفر، إذا وجدوا خصمهم أشطر منهم وأقدر على القتال هربوا منه.

(1/2011)

admin
12-31-2010, 04:16 PM
وقد منيت الانبراطورية البيزنطية بانتكاسات عديدة بعد وفاة "يوسطنبان"، فاشتد الاضطهاد للمذاهب المخالفة للمذهب الارثودكسي، وعادت الفوضى إلى الحكومة بعد أن سعى القيصر الراحل في القضاء عليها، وتجددت الحروب بين البيزنطيين والساسانيين، وعاد الناس يقاسون الشدائد بعد فترة من الراحة لم تدم طويلا. وبعد حروب ممتتالية دخل الساسانيون بلاد الشام. وفي سنة "614 م"، احتل اتباع ديانة زرادشت عاصمة النصرانية القدس، فأصيبت المدينة بخسائر كبيرة في أبنيتها التأريخية وفي ثروتها الفينة التي لا تقدر بثمن. ثم أصيبت. الانبراطورية بنكبة عظيمة جدا هي استيلاء الفرس على مصر، وبلوغ جيوش الساسانيين في هذه الأثناء للساحل المقابل للقسطنطينية عاصمة الانبراطورية.

(1/2012)


--------------------------------------------------------------------------------

لقد وقعت هذه الأحداث ونزلت هذه الهزائم بالروم في وقت كان أمر الله قد نزل فيه على الرسول بلزوم إبلاغ رسالته للناس. والرسول إذ ذاك بمكة، يدعو أهلها إلى دين الله. فلما جاء الخبر بظهور فارس على الروم، فرح المشركون، وكانوا يحبون إن يظهر أهل فارس على الروم لأنهم وإياهم أهل أوثان. وكان المسلمون محبون إن تظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب. قلقي المشركون أصحاب النبي، فقالوا: إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب، ونحن اميون. وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب، وأنكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم، فأنزل الله" )الم غلبت الروم. في أدنى الأرض، وهم من بعد غلبهم سيغلبون. في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد. ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله؛ ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم(. وفرح المسلمون بنزول هذه الآيات المقوية للعزيمة وأيقنوا إن النصر لا بد آت، وانهم سينتصرون على أهل مكة أيضا ويغلبونهم بأذن الله. وخرج أبو بكر إلى الكفار فقال: أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا. فلا تفرحوا ولا يقرن الله أعيكنم، فوالله ليظهرن الروم على فارس أخبرنا بذلك نبينا، صلى الله عليه وسلم، فقام إليه أبي بن خلف. فقال: كذبت يا أبا فضل. فقال له أبو بكر، رضي الله عنه: أنت أكذب يا عدو الله. فقال أناحبك على عشر قلائص مني وعشر قلائص منك، فإن ظهرت الروم على فارس غرمت، وإن ظهرت فارس على الروم غرمت إلى ثلاث سنين. ثم جاء أبو بكر إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فقال: ما هكذا ذكرت إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع، فزايد.ه في الخطر وماده في الأجل. فخرج أبو بكر فلقي أبيا، فقال: لعلك ندمت? فقال لا. نقال: أزايدك في الخطر وأمادك الأجل، فاجعلها مائة قلوص لمائة قلوص إلى تسع سنين. قال قد فعلت".

(1/2013)

لقد وقعت هذه الهزائم الحربية الكبيرة في عهد القيصر "هرقل" "Heraclius" "610-641 م". ففي عهده، اقتطعت بلاد الشام ومصر من جسم الانبراطورية، وهي أعضاء رئيسية في ذلك الجسم. غير إن طالع هذا القيصر لم يلبث إن تحسن بعد سنين من النحسى، فاستعاد تلك الأملاك في المعارك التي نشبت بين سنة 622 وسنة 628 م. في هذه الفترة نال هرقل أعظم نصر له في ثلاث معارك كبيرة. ولكن نصره الأكبر جاءه يوم قتل "كسرى أبرويز" صاحب هذه الفتوحات بيد ابنه "شيرويه"، فورد طائر السعد على القيصر بهذا الخبر المفرح، ثم تحققت البشرى بالصلح الذي عقد بين القيصر وبين "شيرويه". وفيه نزل الفرس عن كل ما غنموه، ورضوا بالرجوع إلى حدودهم القديمة قبل الفتح. فعادت الشام وفلسطين ومصر إلى، البيزنطيين، وأعيد الصليب المقدس إلى موضعه في القدس في موكب حافل عظيم.
وسر المسلمون وهم بالمدينة بانتصار الروم على الفرس، وزاد أملهم في قرب مجيء اليوم الذي ينتصر فيه المسلمون على المشركين، وقويت عزيمتهم في التغلب على قريش. "وأسلم عند ذاك ناس كثير". وتضعضت معنويات قريش، وغلب "أبو بكر" أبيا" على الرهان، وكسبه، أخذه من ورئته، لأنه كان قد توفي من جرح أصيب به، فلم يدرك زمن طرد من تعصب له من بلاد. الشام وخسارته الإبل التي تراهن عليها.

(1/2014)


--------------------------------------------------------------------------------

وشاء ربك ألا يكون النصر في هذه المرة لا للروم ولا للفرس، بل للمسلمين. وشاء ألا يبقى الروم في بلاد الشام إلا قليلا، إلا سين، إذ تهاوت مدن بلاد الشام ثم مصر فشمال إفريقية، الواحدة بعد الأخرى، في أيدي أناس لم يخطر ببال الروم أبدا انهم سيكونون شيئا ذا خطر في هذا العالم، أعني بهم أبناء مكة ويثرب ومن تبعهم من، أهل جزيرة العرب. تهاوت بسرعة عجيبة لا تكاد تصدق، وبطريقة تشبه المعجزات. وقد بدأ هذا الانهيار بكتاب يذكر أهل السير والأخبار إن الرسول أرسله إلى "هرقل عظيم الروم"، يدعوه فيه إلى الإسلام، فإن أبى وبقي على دينه فعليه تبعته، فلما لم يسلم، جاءه الإنذار، قوات صغيرة لا تكاد تكون شيئا بالنسبة إلى جيوش الروم الضخمة، أخذت تمهد الطريق لنشر الأيمان في بلاد رفض حكامها الدخول فيه. طهرت الأرض الموصلة إلى الحدود من المخالفين، ثم أخذت تتحرش ببلاد الشام، ولم يأخذ الروم ذلك التحرش مأخذا جديا، اذ تصوروه غزوا من غزو العرب المألوف يمكن القضاء عليه بتحريك عرب بلاد الشام من الغساسنة ومن لف لفهم عليهم، أو بإرشاء رؤسائهم بالهدايا والمال وتنصبهم ملوكا على عرب بلاد الشام في موضع الغساسنة كما كانوا يفعلون مع القبائل القوية الكبيرة التي كانت تتحرش بالحدود، وينتهي بذلك الغزو وتصفو الأمور.

(1/2015)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم يعلم البيزنطيون أن المسلمين يختلفون عن الجاهليين، يختلفون عنهم في أن لهم عقيدة ورسالة، وأن من يسقط منهم يسقط شهيدا في سبيل إعلاء كلمة ربه، وله الجنة، وأن من يعيش منهم وينجو فلن يركن إلى الدعة والحياة الهادئة والرجوع إلى البادية بل لا بد له من أحد أمرين: إما نصر حاسم، وإما موت شريف في سبيل الله ورسوله. وبقوا في جهلهم هذا إلى أن نبهتهم الضربات العنيفة التي وقعت بينهم وبين العرب في "أجنادين" "Gabatha" وفي "اليرموك" "Hieromax" بان المعارك التي وقعت ليست غزوا من الغزو المألوف، بل خطة مهيأة لطرد الروم الذين لا يؤمنون برسالة الرسول من كل بلاد الشام وما ورائها من أرضين، وعندئذ جمعوا جموعهم، وألفوا قلوب "العرب المستعربة، أي العرب النصارى القاطنين في بلاد الشام، بالمال وباسم الدين، وجعلوهم معهم وتحت قيادتهم في جيوشهم الضخمة لمقابلة المسلمين الذين لم يعرفوا الحروب الكبيرة، ذات المعدد الضخم من المحاربين، والأسلحة المتنوعة الحديثة، بالنسبة إلى أسلحتهم المكونة من سيوف وسهام ورماح وحجارة وخناجر. وهنا وقعت غلطة فنية حربية أخرى من الروم، اذ قابلوا المسلمين بجيوش ضخمه، يسيرها قواد كبار تعودوا الحرب بأساليبها النظامية وبالطرق المدرسية الموروثة عن الرومان،وتزودوا بالخبرة الفنية العالية التي كسبوها من حروبهم مع الفرس ومع الأوربيين، فظنوا إن الحرب مع المسلمين شيئا بسيطا، بل ابسط من البسيط، حتى أن كبار القادة وجدوا أن من المهانة الاهتمام بأمر أولئك البدو الغزاة، فتركوا الأمر لمن دونهم في الدرجات يديرونها مع العرب، الذين أظهروا ذكاءا فطريا عظيما في هذه الحروب، بتجنبهم الالتحام بالجيوش، اذ لا قبل لهم بمقاتلتها، وباتخاذهم خطة المناوشات والكر والفر بقوات غير كبيرة العدد، وبذلك تتوفر لهم السرعة في العمل ومباغتة الجيوش الضخمة من ورائها ومن مجنباتها، وبغزو خاطف كالبرق يلقي الفزع في

(1/2016)


--------------------------------------------------------------------------------

القلوب. وبذلك أفسدوا على الروم خطتهم بالهجوم على العرب، بجيوش نظامية كبيرة مدربة على القتال يكون في حكم المحال بالنسبة للعرب الوقوف أمامها لو أنهم حاربوهم حربهم، ووقفوا أمامهم وجها لوجه. وبركون العرب إلى هذه الخطة المبتكرة، وبمعاملتهم من خضع لهم واستسلم لأمرهم معاملة حسنة، وبتحريض "العرب المستعربة"، "العرب المتنصرة"، وسكان، بلاد الشام من غير الروم، بل ومن الروم على الانضمام إليهم، غلبوا البيزنطيين، وحصلوا ما حصلوا عليه من أرضين.
وعند ظهور الإسلام كانت اليمن في حكم الساسانيين كما رأينا، غير أن حكمهم لم يكن في الواقع حكما تاما فعليا.، بل كان حكماء شكليا اسميا، محصورا في صنعاء وما والاها. أما الأطراف والمدن الأخرى. فكان الحكم فيها لسادات اليمن من حضر ومن أهل وبر. وهو حكم نسميه حكم "أصحاب الجاه والنفوذ". وقد شاء بعض منهم أن يظهر نفسه بمظهر الملوك المنفردين بالحكم والسلطان والجاه، فلقبوا أنفسهم بلقب "ملك" وحملوه افتخارا واعتزازا، ولم يكن أولئك الملوك ملوكا بالمعنى المفهوم، إنما كانوا سادات ارض وقبائل، جملوا أنفسهم بالقاب الملك.
فقد نعتت كتب التواريخ والسير سادات حمير في أيام الرسول: الحارث بن عبد كلال، وشريح بن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال، و "النعمان قيل ذي رعين وهمدان ومعافر"، و "زرعة ذو يزن" "زرعة بن ذي يزن" ب "ملوك حمير"، وذكرت أنهم أرسلوا إلى الرسول رسولا يحل إليه كتابا منهم يخبرونه فيه بإسلامهم، وقد وصل إليه مقفله من تبوك، ولقيه بالمدينة، فكتب الرسول إليهم جوابه، شرح لهم فيه ما لهم وما عليهم، وما يجب عليه مراعاة من إحكام. ويذكر "ابن سعد" أن هذا الرسول هو "مالك بئ مرارة الرهاوي" "مالك بن مرة الرهاوي"، وقد وصل المدينة في شهر رمضان سنة تسع، وذلك بعد رجوعه من أرض الروم.

(1/2017)


--------------------------------------------------------------------------------

ودون "ابن سعد" صورة كتاب ذكر أن الرسول أرسله إلى "الحارث" و "مسروح" و "نعيم" أبناء "عبد كلال" من حمير. حمله إليهم "عياش ابن أبي ربيعة المخزومي". وأوصاه بوصايا ليوصي بها أبناء "عبد كلال" إن أسلموا. منها أنهم إذا رطنوا "فقل ترجموا"، حتى يفقه كلامهم. وإذا أسلموا، فليأخذ "قضبهم الثلاثة التي إذا حضروا بها سجدوا. وهي من الأئل قضيب ملمع ببياض وصفرة، وقضيب ذو عجر كأنه خبزران، والأسود البهيم كأنه من ساسم. ثم أخرجها فحرقها بسوقهم. فذهب إليهم ووجدهم في دار. ذات ستور عظام على أبواب دور ثلاثة. فكشف الستر ودخل الباب الأوسط، وانتهى إلى قوم في قاعة الدار. ففعل بمثل ما أمره به الرسول.
ويظهر من قوله: "فاذا رطنوا فقل ترجموا"، أنهم لم يكونوا يحسنون عربية أهل مكة. وأنهم كانوا يتكلمون فيما بينهم بلهجاتهم الخاصة بهم. وأن معنى تحريق القضب الثلاثة، هدم ما كان لهم من عزة وسلطان وتكبر على الرعية، لأن الإسلام قد أمر باجتثات ذلك. وبان يكون الحكم للرسول وحده. ولما كانت تلك القضب رمزا للحكم والسلطان، وقد جعل الإسلام الحكم للرسول وحده، هذا أمر الرسول بكسر تلك القضب، وفي كسرها أشعار لهم بأن حكمهم القديم قد زال عنهم، وأن الحكم الآن للرسول.
ويظهر من نص الكتاب الذي وجهه الرسول إلى "زرعة بن ذي يزن"، وفيه: "إما بعد، فإن محمدا يشهد أن لا إله إلا الله وأنه عبده ورسوله، ثم إن مالك بن مرة الرهاوي قد حدثني أنك أسلمت من أول حمير، وقتلت المشركين... الخ"، أن "زرعة" هذا كان رأس حمير، والمطاع فيها، وهذا أرسل إليه رسولا خاصا به هو "مالك بن مرة الرهاوي"، واستلم جوابا خاصا من الرسول كتب باسمه، ولم يذكر اسمه في الجواب الذي أرسله إلى الباقين بصورة مشتركة.

(1/2018)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر "ابن سعد" أن رسول الله كتب كتابا إلى "بني عمرو" من حمير، ولم يذكر من هم "بنو عمرو"، وأشار إلى أن في الكتاب: "وكتب خالد ابن سعيد بن العاصي"، ما يدل على أنه كان كاتب ذلك الكتاب. ويشير "ابن سعد" أيضا إلى إن الرسول أرسل "جرير بن عبد الله البجلي" إلى "ذي الكلاع بن ناكور بن حبيب بن مالك بن حسان بن تبع" والى "ذي عمرو"، يدعوهما إلى الإسلام، فأسلما وأسلفت "ضريبة بنت ابرهة بن الصباح" امرأة "ذي الكلاع". وتوفي رسول الله، وجرير عندهم، فأخبره "ذو عمر" بوفاته.
ويشير نسب "ذو الكلاع" المذكور. إلى انه من الأسرة التي كانت تحكم اليمن قبيل غزو الحبش لها. فهو من الأسر الشريفة الحميرية في اليمن. وقد عرف ب "ذي الكلاع الأصغر" عند أهل الأخبار تمييزا له عن "ذي الكلاع الأكبر" الذي هو في عرفهم "يزيد بن النعمان الحميري" من ولد "شهال بن وحاظة بن سعد بن عوف بن عدي بن ماللت بن زيد بن شدد بن زرعة بن سبأ الأصغر".
وأما صاحبنا "ذو الكلاع" الأصغر التي راسله الرسول، وأسلم فهو أبو"شراحيل سميفع بن ناكور بن عمرو بن يعفر بن ذي الكلاع الأكبر". قال أهل الأخبار" والتكلع الخلف "وبه سمى فو الكلاع الأصغر، لأن حمير تكلعوا على يد. أي تجمعوا، إلا قبيلتين" هوازن وحراز، فانهما تكلعتا على ذي الكلاع الأكبر" يزيد بن النعمان".

(1/2019)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر نسب "ذو الكلاع الأصغر" على هذا الشكل: "سميع بن ناكور ابن عمرو بن يعفر بن يزيد بن النعمان الحميري". و "يزيد" هذا هو "ذو الكلاع الأكبر". وذكر إن "أبا شراحيل" هو الرئيس في قومه المطاع المتبوع، أسلم في حياة النبي، فكتب إليه النبي على يد جرير بن عبد الله البجلي كتابا في التعاون عل الأسود ومسيلمة وطليحة. وكان القائم بأمر معاوية في حرب صفير. وقتل قبل انقضاء الحرب، فقرح معاوية بموته، وذلك انه بلغه إن "ذا الكلاع" ثبت عنده إن عليا بريء من دم عثمان، وان معاوية لبس عليهم ذلك، فأراد التشتيت عليه فعاجلته منيته بصفين وذلك سنة سبع وثلاثين.
ويكون "ذو الكلاع" الأصغر، قد تزوج بنتا من بنات أبرهة هي "ضريبة".
ونسب إلى النابغة قوله: أتانا بالنجاشة مجلبوها وكندة تحت راية ذي الكلاع
يريد تميما وأسدا وطيا اجلبوا الجيش على بني عامر مع أبي يكسوم وذو الكلاع كان معه أيضا.
وذكر إن رسول الله كتب إلى "معد يكرب بن أبرهة" إن له ما أسلم عليه من أرض خولان. ولم يشر "ابن سعد" إلى بقية اسم أبرهة أو إلى شهرته، ذلك لا ندري إذا كان قصد "أبرهة" المعروف، أم شخصا آخر اسمه "أبرهة". ولكننا نعرف اسم قبل عرف ب "معد يكرب" اسم والده "أبو مرة الفياض" ذو يزن، كان متزوجا من "ريحانة" ابنة "ذي جدن"، فولدت له "سعد يكرب" المذكور. ثم انتزعها منه "الأشرم"، ونشأ. "معد يكرب" مع أمه "ريحانة" في حجر "أبرهة"، فلعله نسب إليه، لذلك قال له "ابن سعد" "معد يكرب بن أبرهة".

(1/2020)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان للفرس وللجيل الجديد الذي ظهر في اليمن من تزاوجهم باليمانيين، وهو الجيل الذي عرف ب "الأبناء" نفوذ كبير في اليمن، وقد تحدثت عنه في الجزء السابق من هذا الكتاب. والى هذا الجيل أرسل الرسول "وبر بن يحنس"، يدعوه إلى الإسلام، فنزل على بنات "النعمان بن بزرج" فأسلمن، وبعث إلى فيروز الديلمي فأسلم، والى مركبود وعطاء ابنه، ووهب بن منبه. وكان أول من جمع القرآن بصنعاء ابنه عطاء بن مركبود ووهب بن منبه.
وقد كان الفرس الذين أقاموا باليمن مثل سائر الفرس على المجوسية، ولما دخل أهل اليمن في الإسلام دخل بعض هؤلاء فيه. وأقام بعض آخر على دينه، وفرض الرسول على من بقي على دينه جزية. وقد نفر منهم بعض سادات اليمن من الأسر القديمة، بسبب انهم غرباء عن اليمن، جاؤوا إلى اليمن فحكموها، ولهذا انضم بعض منهم إلى "الأسود" في ردته. لأن "الأسود العنسي"، كان كارها الأبناء، حاقدا عليهم. يرى انهم عصابة دخيلة، استأثرت بحكم اليمن. وقد شاءت الأقدار إن تكون نهايته بأيديهم. إذ كان قاتله منهم فكأن قلبه كان يعلم بما سيفعلونه به، ولهذا كرههم.
وكانت الأزد من القبائل المعروفة في اليمن، وقد جاء وفد منهم إلى الرسول على رأسه "صرد بن عبد الله" في بضعة عشر، فأسلم، وأمره إن يجاهد بمن أسلم من أهل بيته المشركين من قبائل اليمن، وكان أول ما فعله انه حاصر "جرش"، وكانت قد تحصنت وضوت إليها خثعم، فلما وجد إن من العسر عليه فتحها إ القوة آوى إلى جبل "كشر"، فظن أهل جرش، انه إنما ولى عنهم منهزما، فخرجوا في طلبه، حتى إذا أدركوه عطف عليهم فقتلهم قتلا. ثم أسلم من نجا منهم. وحمى الرسول لهم حمى حول قريتهم على أعلام معلومة للفرس، وللراحلة، وللمثيرة تثير الحرث، فمن رعاها من الناس سوى ذلك فماله سحت.

(1/2021)


--------------------------------------------------------------------------------

وكتب الرسول كتابا إلى "خالد بن ضباد الأردي" إن له ما أسلم عليه من أرضه، وكان كاتب كتابه "أبي". وكتب مثل ذلك لجنادة الأزدي وقومه، وكان كاتب هذا الكتاب "أبي" كذلك. وكتب الرسول إلى "أبي ظبيان الأزدي" من "غامد" يدعوه ويدعو قومه إلى الإسلام. فأجابه في نفر من قومه بمكة. وكانت لأبي ظبيان صحبة، وأدرك عمر بن الخطاب.
وذكر إن "ضماد بن ثعلبة" الأزدي، كان صديقا للرسول في الجاهلية، وكان يتطبب ويرقي من هذه الرياح، ويطلب العلم، فقدم مكة قبل الهجرة، واجتمع بالرسول وكلمه، ثم أسلم. وهو من "أزد شنوءة".
ونجد "ابن سعد" يدون صورة كتاب ذكر إن الرسول كتبه لبارق من الأزد. نظم فيه حقوقهم مثل إن لا تجذ ثمارهم وان لا ترعى بلادهم في مربع ولا مصيف إلا بمسألة من بارق. وغير ذلك. وكتب الكتاب "أبي بن كعب"، وشهد عليه أبو ****ة بن الجراح وحذيفة بن اليمان.
ويجاور الأزد من الشرق "خثعم" و "مذحج" و "مراد" و "همدان" و "بلحارث"، ويجاورهم في غربهم "بنو كنانة" و "بنو عك". وأما من الجنوب، فتتصل ديارهم بديار "همدان" و "حمير".
وتجمع بعد وفاة النبي قوم من الأزد وبجيلة وخثعم، عليهم حميضة بن النعمان وذلك ب "شنوءة"، وعلى أهل الطائف "عثمان بن ربيعة"، فبعث عليهم "عثمان بن أبي العاص"، عامل النبي على الطائف بعثا التقى بهم بشنوءة، فهزموا تلك الجماع، وتفرقوا عن ""حميضة"، وهرب وفسدت ثورة هؤلاء المرتدين.
وتمرد قوم د من "خثعم" على "أبي يكر" حينما بلغهم نبأ وفاة الرسول وخرجوا غضبا إلى "ذي الخلصة" يريدون إعادته، فأمر "أبو بكر" "جرير ابن عبد الله" إن يدعو من قومه من ثبت على أمر الله، وان يستنفر "مقويهم"، فيقاتل بهم خثعم، فنفذ أمره فتتبعهم وقتلهم وعاد إلى الإسلام من تاب. وكان الرسول قد بعث سنة تسع للهجرة "قطبة بن عامر بن حدية" إلى خثعم بناحية "تبالة"، فتغلب عليهم.

(1/2022)


--------------------------------------------------------------------------------

وبقيت "همدان" قبيلة قوية من قبائل اليمن، وقد أسلمت كلها في يوم واحد، أسلمت يوم مقدم "علي بن أبي طالب" إلى اليمن على رأس سرية أمر الرسول بإرسالها إلى هناك. وقد فرح الرسول بإسلامها، وتتابع أهل اليمن على الإسلام.
وقد كانت همدان بطون عديدة، من بطونها "بنو ناعط"، ومن رجالهم "حمرة ذو المشعار بن أيفع"، وكان شريفا في الجاهلية، والظاهر انه كان صاحب موضع "المشعار". وهو "أبو ثور". وقد وفد على الرسول، ووفد معه "مالك بن نمط" و "مالك بن أيفع"، و "ظمام بن مالك السلماني"، و "عميرة بن مالك الخارفي"، فلقوا رسول الله بعد مرجعه من تبوك، وعليهم مقطعات الحبرات والعمائم المعدنية، برحال المبس على المهرية والأرحبية. ويذكر أهل الأخبار، إن الوفد لما وصل المدينة، ارتجز "مالك بن نمط" رحزا، ثم خطب بين يدي الرسول، ذاكرا له إن نصيه، أي أخيارا أشرافا من همدان، يريد رجال الوفد، قدمت إلى الرسول، وهي "من كل حاضر وباد" أي من أهل الحضر ومن أهل البادية، ومن أهل مخلاف خارف ويام وشاكر، ومن أهل الإبل والخيل، قدموا إليه، بعد إن عافوا الأصنام واعتنقوا الإسلام. فأثنى الرسول عليهم، وشكره سم وكتب لهم كتابا، وجهه "لمخلاف خارف وأهل جناب الهضب، وحقاف الرمل مع وافدها، ذي المشعار: مالك بن نمط، ومن أسلم من قومه"، ثم بين لهم ما عليهم وما لهم.

(1/2023)


--------------------------------------------------------------------------------

وورد إن "قيس بن مالك بن سد بن لأي الأرحبي" قدم على رسول الله وهو بمكة، فعرض رسول الله عليه الإسلام فأسلم، ثم خرج إلى قومه فأسلموا بإسلامه، ثم عاد إلى الرسول فأخبره بإسلامهم، فكتب له عهدا على قومه "همدان". وذكر إن رجلا مر بالرسول، وهو من "أرحب" من "همدان"، اسمه "عبد الله بن قيس بن أم غزال"، فعرض عليه الرسول الإسلام، فأسلم، فلما عاد إلى قومه قتله رجل من "بني زبيد". وجاء وفد آخر من "همدان" إلى الرسول فأسلم على يديه، وكان فيه "حمزة بن مالك" من "ذي مشعار"، وكان على الوفد مقطعات الحبرة مكففة بالديباج، فكتب الرسول لهم كتابا، وأوصاهم بقومهم من بقيه بطؤن همدان.
وورد إن الرسول كتب ل "قيس بن مالك بن سعد الأرحبي"، عهدا ثبته فيه على قومه "همدان: أحمورها وعربها وخلائطها ومواليها إن يسمعوا له ويطيعوا". وذكر إن الأحمور: قدم، وآل ذي مران، وآل ذي لعوة، وأذواء همدان. وقيل: حمورها: أهل القرى. وأرى إن المراد بالأحمور هم بقايا حمير الناطقون بالحميرية وهم سكان القرى والمدن. ذكروا وخصوا بالذكر، لأنهم اختلفوا عن غيرهم ممن كان يتكلم بلهجات أخرى، ولهذا ميزوا عن "عربها"، أي عرب همدان، وهم الأعراب، وعن الخلائط وهمم الذين يكونون أخلاط الناس وعن الموالي. وذهب بعض الباحثين، إلى إن "عربها" بالغين، أي "غربها" ويراد بهم: أرحب، ونهم، وشاكر ووداعة، و يام، و موهبة، و دالان، و خارف، وعذر، وحجور".

(1/2024)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما "بنو زبيد"، فكان على رأسهم "عمرو بن معد يكرب الزبيدي"، وكان قد قدم على الرسول في أناس من قومه، ليعرض عليه الإسلام. فأسلم وأسلم من كان معه. وقد نعت بالشجاعة فدعي ب "فارس العرب"، وهو لقب يلقب به الشجعان الفرسان. وأقام في قومه من بني زبيد. وعليهم "فروة بن مسيك المرادي"، الذي كان قد استعمله الرسول على مراد وزبيد ومذحج كلها: فلما توفي رسول الله ارتد عمرو بن معديكرب. ووثب "قيس بن عبد يغوث" على "فروة بن مسيك"، وهو على مواد ة فأجلاه ونزل منزله.
وكان "عمرو بن معد يكرب" قد لقي "قيس بر مكشوح المرادي" حين انتهى إليه أمر رسول الله، فعرض عليه إن يذهب معه إلى رسول الله حتى يعلم علمه، فإن كان نبيا، فإنه لا يخفى أمره عليهم، وإن كان غير ذلك علم علمه أيضا وتركه، فلم يأخذ "قيس" برأيه وسفه فكرته. ثم أوعد "قيس" "عمرو بن معد يكرب" يوم سمع بذهابه إلى الرسول وباعتناقه الإسلام. وقال: "خالفني وترك رأيي".
وكان "فروة بن مسيك المرادي" من "بني مراد" وقد عده "ابن حبيب" في جملة الجرارين، أي الذين قادوا ألفا. وقد كان مفارقا لملوك كندة، ومعاندا لهم. وقد شهد يوم الرزم، وهو يوم كان بين مراد قوم فروة وبن همدان، انتصرت فيه همدان على مراد. وقد نسبوا شعرا لفروة ذكروا انه قاله يعتذر فيه عن الهزيمة التي أصابت مرادا في ذلك اليوم، وكان الذي قاد همدان فيه "مراد الأجدع بن مالك".
ولما وصل "فروة" المدينة، نزل على "سعد بن عبادة"، وقد أكرمه الرسول، واستعمله على مراد وزبيد ومذحج، وبعث معه "خالد بن سعيد بن العاص" على الصدقات 6.

(1/2025)

admin
12-31-2010, 04:17 PM
والى بني الحارث بن كعب أرسل الرسول خالد بن الوليد يدعنهم إلى الإسلام أو البقاء على دينهم وهو النصرانية مع دفع الجزية. فأسلم أكثرهم، وذهب وفد منهم فيه "قيس بن الحصين بن يزيد بن قنان ذي الغصة"، و "يزيد بن عبد المدان"، و يزيد بن المحجل"، و "عبد الله بن قريظ الزيادي"، و "شداد بن عبد الله القناني"، و "عمرو بن عبد الله الضبابي"، فقابل الرسول، وكان السواد غالبا على لونهم، فقال الرسول، لما رآهم: من هؤلاء القوم الذين كأنهم رجال من الهند?. قيل: يا رسول الله، هؤلاء بنو الحارث ابن كعب. وأمر رسول الله "قيس بن الحصن" على "بني الحارث بن كعب". كما زار الرسول "عبدة بن مسهر الحارثي" في المدينة، وأسلم على يديه.
وكتب الرسول لبني الضباب من "بني الحارث بن كعب" إن لهم ساربة ورافعها، لا يحاقهم فبها أحد ما داموا مسلمين، وكتب كتابهم هذا المغيرة. وكتب لبني قنان بن وعلة من بني الحارث كتابا إن لهم محبسا وانهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، كتبه له المغيرة أيضا. وأمر الرسول كاتبه: الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي، إن يكتب لعبد يغوث بن وعلة الحارثي، إن له ما أسلم عليه من أرضها وأشيائها، أي نخلها ما دام يقوم بما يفرضه الإسلام عليه من واجبات. وكتب له "علي بن أبي طالب" إن لبني زياد بن الحارث جماء وأذنبة. وأمر رسول الله المغيرة بن شعبة إن يكتب ليزيد بن المحجل الحارثي، إن له ولقومه نمره ومساقيها ووادي الرحمان من بين غابتها. وانه على قومه من "بني مالك" و "عقبة" لا يغزون ولا يحشرون.
وأصر الرسول إن يكتب كتابا ل "قيس بن الحصين ذي الغصة" أمانة لبني أبيه بني الحارث ولبني نهد حلفاء بني الحارث، يؤمنهم على أموالهم ما داموا مسلمين. وكتب كتابا يشهد بإسلام "بني قنان بن يزيد" الحارثيين، ويؤمنهم فيه أيضا إن لهم مذودا وسواقيه. وكتب مثل ذلك لعاصم، بن الحارث الحارثي، إن له نجمة من راكس لا يحاقه فيها أحدا.

(1/2026)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان "عوز بن سرير الغافقي" في جملة من وفد من "غافق" على الرسول، كما كان فيهم "جليحة بن شجار بن صحار الغافقي".
وقد آلم ولا شك خروج الحبش من اليمن البيزنطيين كثيرا، وأصيبوا بخروجهم منها بخسارة من الوجهة العسكرية والاقتصادية، غير إن مما خفف من هذه المصيبة إن الفرس لم يكن لديهم آنذاك أسطول قوي يستطيع الهيمنة على مضيق المندب، مدجل البحر الأحمر، بل ولا سفن كافية يكون في وسعها حماية سواحل اليمن والعربية الجنوبية. لذلك لم يهدد دخولهم اليمن السواحل الإفريقية المقابلة لسواحل جزيرة العرب وهي مهمة بالنسبة للروم، ثم انهم عوضوا عن خسارتهم الكبيرة الفادحة التي نزلت بهم باحتلال الفرس لبلاد الشام، بطردهم الفرس وإجلائهم عن كل الأرضين التي استولوا عليها وبإعادتهم "الصليب المقدس" إلى مكانه. فرفعوا بذلك من معنوياتهم في الشرق الأوسط وفي إفريقية.
وقد سر اليهود من خروج الحبش من اليمن ومن استيلاء الفرس عليها. إذه صاروا في حكم حكومة لا تحقد عليهم، حكومة لا يهمها أمر اليهود لعدم وجود علاقة لها بها. بل ربما ساعدتها لأنها تناهض الروم، على عكس النصرانية التي كانت قد وجدت في الحبشة نصيرا ومساعدا، لذلك، أتباعها وانحسروا تدريجيا، وبقيت متمركزة بمدينة نجران.

(1/2027)


--------------------------------------------------------------------------------

ولنجران وضع خاص. فقد تمتعت باستقلال ذاتي في الغالب. وقد تحرشت بتأريخها في مواضع متعددة من هذا الكتاب وبحسب المناسبات. ولما استولى الفرس على اليمن لم تدخل في طاعتهم ولم تخضع لحكم "عاملهم"، بل أخذت تدير شؤونها بنفسها وبمجلس تنفيذي حصر أمور البلد في أيدي سادات ثلاثة اختصر أحدهم بالحكم المدني، واختص ثانيهم بالنظر في أمور الدين. واختص الثالث في شؤون الأمن والدفاع عن المدينة. وقد عرفوا بالعاقب والسيد والأسقف. وقد قدموا على الرسول وباهلوه ؛. وكتب لهم كتاب الصلح وذلك سنة عشر للهجرة. واشترط عليهم في جملة. ما اشترطه فيه، إن لا يأكلوا الربا ولا يتعاملوا به. وكتب الكتاب: المغيرة.
وذكر إن الوفد الذي خرج إلى الرسول من نجران كان مؤلفا من أربعة عشر رجلا من أشرافهم نصارى. فيهم" العاقب، وهو عبد المسيح، رجل من كندة، وأبو الحارث بن علقمة، رجل من بني ربيعة، والسيد وأوس إبنا الحارث، وزيد بن قيس، وشيبة، وخويلد، وخالد، وعمرو، و**** الله، وفيهم ثلاثة نفر يتولون أمورهم، والعاقب، وهو أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحبه مدارسهم، والسيد، وهو صاحب رحلهم. فتقدمهم "كرز" أخو "أبو الحارث"، ثم قدم الوفد بعده، فدخلوا المسجد عليهم ثياب الحبرة، وأردية مكفوفة بالحرير، ثم كلموا الرسول، وصالحهم على شروط، ثم عادوا إلى ديارهم، ثم عاد السيد والعاقب إلى المدينة فأسلما، وبقي الآخرون على دينهم إلى زمن "عمر" فأجلاهم، لأنهم أصابوا "الربا" وكثر بينهم. واشترى عقاراتهم وأموالهم، فتفرقوا، فنزل بعضهم الشام ونزل بعضهم "النجرانية" بناحية الكوفة.
وكان الحكم في نجران ل "بني الأفعى"، ثم تحول إلى "بني الحارث بن كعب"، فلما ظهر الإسلام كان حكامها من بني الحارث بن كعب. أما بنو الأفعى فكانوا كثرة فيها. غير إن الحكم لم يكن في أيديهم.

(1/2028)


--------------------------------------------------------------------------------

ولما توفي رسول الله، كان عامله "عمرو بن حزم" بنجران. ولما قام "ذو الخمار عبهلة بن كعب" وهو " الأسود"، بعامة مذحج على الإسلام في حياة الرسول وكان كاهنا شعباذا، يري الناس الأعاجيب، ويسبي قلوب من سمع منطقه، أخرج "عمرو برت حزم" من نجران، واستولى عليها ثم سار "عبهلة" إلى صنعاء فأخذها، وأخذ يدعو الناس إليه، حتى قضى عليه. وأرسل الرسول قبل وفاته بقليل "وبر بن يحنس" إلى "فيروز" و "جشيش الديلمي" و "داذويه اللاصطخري"، و "جرير بن عبد الله" إلى "ذي الكلاع" و "ذي ظليم"، و "الاقرع بن عبد الله الحميري" إلى "ذي زود" و "ذي مران" وذلك للقضاء على "الأسود" وعلى من استجاب إليه، فقتل. قتله: "فيروز للديلمي" و "قيس بن مكشوح المرادي"، وعاد من ارتد واتبعه إلى الإسلام، ولم يكن الرسول قد فارق الدنيا بعد.
وكان النبي حين وفاته قد نصب عمالا على عمالات تمتد من مكة إلى اليمن، فكان على مكة وأرضها "عتاب بن أسيد" و "الطاهر بن أبي هالة"، عتاب على بني كنانة والطاهر على عك. وعلى "الطائف" وأرضها "عثمان بن أبي العاص" و "مالك بن عوف النصري". "عثمان" على أهل المدر ومالك كل أهل الوبر أعجاز هوازن. وعلى نجران وأرضها عمرو بن حزم وأبو سفيان بن حرب. عمرو بن حزم على الصلاة، وأبو سفيان بن حرب على الصدقات، وعلى ما بين "رمع" و "زبيد" إلى حد "نجران" خالد بن سعيد بن العاص. وعلى همدان كلها "عامر بن شهر"، وعلى "صنعاء" فيروز الديلمي يسانده داذويه وقيس بن المكشوح، وعلى الجند يعلى بن أمية، وعلى مأرب أبو موسى الأشعري، وعلى الأشعريين مع عك الطاهر بن أبي هالة، ومعاذ بن جبل يعلم القوم، يتنقل في عمل عامل. بقي الحال على هذا المنوال حتى نزا بهم الأسود الكذاب.

(1/2029)


--------------------------------------------------------------------------------

وورد في ش رواية أخرى، إن رسول الله وجه "خالد بن سعيد بن العاص" أميرا إلى صنعاء وأرضها، وذكر انه ولى "المهاجر بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي" صنعاء، فقبض وهو عليها. وقال آخرون إنما ولى "المهاجر" "أبو يكر"، وولى "خالد بن سعيد" مخاليف أعلى اليمن. وذكر أيضا، إن رسول الله ولى "المهاجر" كندة والصدف، فلما قبض رسول الله، كتب أبو بكر إلى "زياد بن لبيد البياضي" من الأنصار بولاية كندة والصدف إلى ما كان يتولى من حضرموت. وولى المهاجر "صنعاء". والذي عليه الإجماع إن رسول الله ولى "زياد بن لبيد" حضرموت.

(1/2030)


--------------------------------------------------------------------------------

ولما ارتد "قيس بن عبد يغوث المكشوح" ردته الثانية، وعمل في قتل فيروز وداذويه وجشيش، وكتب إلى "ذي الكلاع" وأصحابه" "إن الأبناء نزاع في بلادكم، وثقلاء فيكم، وأن تتركوهم لن يزالوا عليكم، وقد أرى من الرأي أن اقتل رؤوسهم، وأخرجهم من بلادنا، كتب "أبو بكر" إلى "عمير ذي مران" والى "سعيد ذو زود" والى "سميفع ذي الكلاع" والى "حوشب ذي ظلم"، والى "شهر ذي يناف"، يأمرهم بالتمسك بالإسلام، وبمقاومة "قيس" والمرتدين. فكاتب "قيس" "تلك الفالة السيارة اللحجية، وهم يصعدون في البلاد ويصوبون، محاربين لجميع من خالفهم" "وأمرهم إن يتعجلوا إليه، وليكون أمره وأمرهم واحدا، وليجتمعوا على نفي الأبناء من بلاد اليمن"، فاستجابوا له، ودنوا من صنعاء. وعمد إلى الحيلة لقتل "فيروز"، و "داذويه"، و "جشيش". وتمكن من "داذويه"، فقتله. فأحسر "فيروز" و "جشيش" بالمكيدة، فهربا إلى "خولان"، وهم أخوال "فيروز"، و امتنع "فيروز" بأخواله. فثار "قيس" بصنعاء، وجمع "فيروز" من تمكن جمعه من الأبناء، وكتب إلى "بني عقيل بن ربيعة بن عامر بن صعصعة" والى "عك" يستنصرهم ويستمدهم على "قيس". فساروا إليه ووثبت "عك" وعليهم "مسروق"، وسار "فيروز" بهم نحو "قيس"، فهرب في قومه والتحق بفلول "العنسي" التي تذبذبت بعد مقتله، وسار فيما بين صنعاء ونجران. وانضم إلى "عمرو بن معديكرب". وكان "عمرو" قد فارق قومه "سعد العشيرة" في "بني زبيد" وأحلافها وانضم إلى "العنسي".
ولما أرسل "أبو يكر" مددا إلى من أرسله إلى اليمن، انضم إليه قوم من "مهرة" وسعد زيد والأزد وناجية وعبد القيس وحدبان من بني مالك، وقوم من العنبر والنخع، وحمير، واختلف "قيس" مع "عمرو بن معديكرب"، وإنفل من كان معهما، وأخذا أسرين إلى أبي بكر، فعفى عنهما. وانتهت بذلك ردة هذين المرتدين.

(1/2031)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن "بني خشين" "أبو ثعلبة الخشني"،. وقد وفد على الرسول وأسلم ووفد عليه نفر من "خشين" فنزلوا عليه وأسلموا وبايعوه ورجعوا إلى قومهم.
وكان من جملة وفود أهل اليمن إلى الرسول، وفد "بهراء"، جاؤوا إلى المدينة فأسلموا، وقد نزلوا على "المقداد بن عمرو".
ومن قبائل اليمن قبائل "مذحج"، وتقع منازلها جنوب منازل "خثعم" وفي شمال ديار "قهد". ومن بطونها "الرهاويون"، وهم حي من مذحج، قدم وفد منهم على الرسول سنة "عشر" للهجرة فأسلموا. وقدم رجل منهم اسمه "عمرو بن سبيع" على الرسول فأسلم، فعقد له رسول الله لواء.
وأرسل "النخع" رجلين منهم إلى النبي" "ارطاة بن شراحيل بن كعب" من "بني حارثة بن مالك بن النخع" و "الجهيش" واسمه "الأرقم" من "بني بكر بن عوف بن النخع" فأسلما، وعقد لأرطاة لواء على قومه، وجاء وفد آخر من وفد النخع من اليمن سنة إحدى عشرة، وهم مائتا رجل، وكان فيهم "زرارة بن عمرو"، وقيل هو "زرارة بن قيس بن الحارث بن عداء"، وكان نصرانيا، فأسلموا، وبايعوا الرسول، وكانوا قد بايعوا "معاذ بن جبل" باليمن.

(1/2032)


--------------------------------------------------------------------------------

وقسم "جرير بن عبد الله البجلي" سنة عشر المدينة على رأس وفد من قومه "بحيلة"، فأسلموا وبايعوا الرسول. وقدم وفد آخر منهم فيه "قيس بن عزرة الأحمسي" فأسلموا وعادوا إلى ديارهم وجاء وفد "خثعم" وفيه "عثعث بن زحر" و "أنس بن مدرك"، فأسلموا، وكتب النبي لهم كتابا. وقد دون "ابن سعد" صورة كتاب ذكر أن الرسول كتبه ل "خثعم" "من حاضر بيشة وباديتها"، وأن الذي كتبه له وشهد عليه "جرير بن عبد الله" ومن حضر. ودون "ابن سعد" صورة كتاب آخر، أمر الرسول بكتابته ل "مطرف بن الكاهن الباهلي". جاء فيه: "هذا كتاب من محمد رسول الله لمطرف بن الكاهن ولمن سكن بيشة من باهلة". ويظهر منه أن "مطرفا" المذكور وقومه من باهلة كانوا يقيمون اذ ذاك ب "بيشة". ودون "ابن سعد" صورة كتاب آخر كتبه الرسول إلى "نهشل بن مالك الوائلي" من "باهلة. ولم يذكر الكتاب مواضع منازلهم.
وكان من رجال "جعفى" الذين وفدوا على الرسول" "قيس بن سلمة ابن شراحيل"، و "سلمة بن يزيد"، فأسلما، وأستأذنا الرسول بالعودة إلى منازلها. فلما كانا في الطريق، لقيا رجلا من أصحاب رسول الله، معه إبل منه ابل الصدقة، فطردا الإبل، واوثقا الراعي. ومن "جعفى"، "ابو سبرة"، وهو "يزيد بن مالك بن عبد الله الجعفى" وابناه "سبرة" و "عزيز"، قدم بهما أبوهما على الرسول، وأسلموا.

(1/2033)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما "تهامة"، فكان بها عك والأشعرون. وكانوا قد ارتدوا بعد سماعهم خبر وفاة الرسول، ولكنهم غلبوا على أمرهم، وعادوا إلى الإسلام ولما توفي الرسول، كان أول منتقض بعد النبي بتهامة عك والأشعرون، وذلك انهم حين بلغهم موت النبي، تجمعوا وأقاموا على الاعلاب طريق الساحل. فسار عليهم "الطاهر بن أبي هالة" ومعه "مسروق المكي"، فهزمهم وقتلهم كل قتلة، وعرفت الجموع من عك ومن تأشب إليهم" الأخابث، وسمي الطريق الذي تجمعوا فيه "طريق الأخابث"، وجاء وفد من الأشعريين، فيه "أبو موسى الأشعري"، ومعه رجلان من "عك" قدم في سفن في البحر، ثم نزلوا الساحل وذهبوا "برا إلى المدينة، فرأوا الرسول وبايعوه.
وأرسلت "جيشان" نفرا إلى المدينة فيهم "أبو وهب الجيشاني"، فأسلموا. وكان الحكم في حضرموت إلى الاقيال كذلك. وفي أيام الرسول قدم عليه "وائل بن حجر" راغبا في الإسلام، وكانت له مكانة كبيرة في بلده، وقد نعته كتاب الرسول الذي كتبه إليه ب "قيل حضرموت"، وقد كان لكندة والسكاسك والسكون والصدف اثر كبير في تأريخ حضرموت في هذا العهد الذي نتحدث عنه.
وذكر "ابن سعد"، إن الرسول كتب إلى أقيال حضرموت، وعظمائهم، كتب إلى "زرعة" و "فهد" و "البسي" و "البحري" و "عبد كلال" و"ربيعة" و "حجر". وكانت كندة هي القبيلة المتنفذة بحضرموت، كان "الاشعث بن قيس بن معديكرب الكندي" من رؤساء هذه القبيلة البارزين، وقد مدح الأعشى "قيس ابن معديكرب" بقوله: وجلنداء في عمان مقيما ثم قيسا في حضرموت المنيف
وكان "الأشعث بن قيس" على رأس وفد كندة الذي وفد على الرسول سنة عشر، فأسلم مع قومه على يديه. وقد كان رجال الوفد قد رجلوا جمعهم واكتحلوا، ولبسوا جباب الحبرة قد كفوها بالحرير، وعليهم الديباج ظاهر مخوص بالذهب، فأمرهم الرسول بتك ذلك. فألقوه.

(1/2034)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر "أبو ****ة"، إن "الأشعث بن قيس" لم يكن كنديا، وإنما صار في كندة بالولاء. وزعم إن والد "قيس" وهو "معمد يكرب" كان علجا من أهل فارس إسكافا اسمه "سيبخت بن ذكر"، قطع البحر من توج إلى حضرموت. وللفرزدق شعر في ذلك قاله في حق "عبد الرحمن" حين خالف عبد الملك بن مروان. كما زعم إن "وردة بنت معد يكرب" عمة الأشعث كانت عند رجل من اليهود، فماتت ولم تخلف ولدا، فأتى الأشعث "عمر بن الخطاب" يطلب ميراثها، فقال له عمر" لا ميراث لأهل ملتين. وقد عرف ملوك كندة الذين راسلهم الرسول ب "بني معاوية"، وهم الذين عرفوا ب "بني معاوية الأكرمين"، في شعر مدحوا به.
وكان مخوص "مخوس" ومشرح وجمد "حمدة" وأبضعة بنو معد يكرب ابن وليعة بن شرحبيل بن معاوية من الرؤساء الملقبين بلقب ملك، لأن كل واحد منهم قد اختص بواد ملكه، ولقب نفسه بلقب ملك. وقد نزلوا المحاجر، وهي أحماء حموها، وقد عرف هؤلاء بالملوك الأربعة من بني عمرو بن معاوية وقد لعنهم النبي. وعرفوا ب "بني وليعة" ملوك حضرموت وقد جاؤوا إلى الرسول مع وفد كندة فأسلموا.

(1/2035)


--------------------------------------------------------------------------------

ووفد رئيس آخر من رؤساء حضرموت على الرسول اسمه "وائل بن حجر"، ويظهر انه كان ذا منزلة كبيرة عند قومه، فلما وصل المدينة أمر الرسول "معاوية بن أبي سفيان" باستقباله وبإنزاله منزلا خاصا ب "الحرة"، وأمر بأن ينادى ليجتمع الناس: الصلاة جامعة، سرورا بقدومه، ولما أراد الشخوص إلى بلاده كتب له الرسول كتابا دعاه فيه ب "قيل حضرموت"، وذكر فيه انه جعل له في يديه من الأرضين والحصون. ولما أمر الرسول معاوية بأن ينزل "وائلا" بالحرة، مشى معاوية معه ووائل راكب، فقال معاوية: الق إلي نعليك أتوقى بهما من الحر، فقال له: لا يبلغ أهل اليمن إن سوقة لبس نعل ملك، ولما قال له: فأردفني، قال: لست من أرداف الملوك، ولكن إن شئت قصرت عليك ناقتي فسرت في ظلها، فأتى معاوية النبي، فأنبأه بقوله، فقال رسول الله: إن قيه لعبية من عبية الجاهلية.
وكان "الأشعث الكندي" وغيره من "كندة" نازعوا "وائل بن حجر" على واد بحضرموت فادعوه عند رسول الله، فكتب به رسول الله، لوائل ابن حجر. بعد إن شهد له أقيال حمير وأقيال حضرموت. فكتب له بذلك، وأقره على ما في يده من الأرضين.
ومن قرى حضرموت" تريم ومشطة والنجير وتنعة وشبوة وذمار وكان الرسول قد استعمل "المهاجر بن أبي أمية" على كندة والصدف و "زياد بن لبيد البياضي" من "بني بياضة" على حضرموت، و "عكاشة ابن محصن" على "السكاسك" و "السكون". ولما توفي الرسول، خرج "بنو عمرو بن معاوية"، إلى محاجرهم، ونزل "الأشعث بن قيس الكندي" محجرا، و "السمط بن الأسود" محجرا، وطابقت "معاوية" كلها على منع الصدقة وأجمعوا على الردة، إلا ما كان من "شرحبيل بن السمط" وابنه، فإنهما خالفوهم في رأيهم، فهجم المسلمون على المحاجر، وقتلوا الملوك الأربعة.

(1/2036)


--------------------------------------------------------------------------------

وساروا على "الأشعث" ومن انضم إليه من "كندة"، والتقوا بمحجر الزرقان فهزمت كندة وعلهم الأشعث: فالتجأت إلى حصن النجر، ومعهم من استغووا من السكاسلك وشذاذ من السكون وحضرموت والنجير، فلحقتهم جيوش المسلمين، ومنعت المسد عنهم، وأخضعت من بقرى "بني هند" إلى "برهوت"، وأهل الساحل، وأهل "محا"، فخاف من بالحصن على نفسه، واستسلم الأشعث وانتهت فتنته. وأخذ إلى المدينة، فحقن "أبو بكر" دمه، وزوجه أخته، ثم سار إلى الشام والعراق غازيا ومات بالكوفة.
وكان "شرحبيل بن السمط" الكندي مقاوما للأشعث بن قيس الكندي في الرئاسة، وانتقل العداء إلى الأولاد.
وينسب "الصدف" إلى الصدف بن مالك بن مرخ بن معاوية بن كندة"، فهم إذن من كندة.
وذكر إن من سادات حضرموت في هذا العهد" "ربيعة بن ذي مرحب الحضرمي". وقد كتب إليه الرسول كتابا أقره فيه وأقر أعمامه وأخوته وكل "آل ذي مرحب" على أرضهم وأموالهم ونخلهم ورقيقهم وآبارهم ونخلهم وشجرهم ومياههم وسواقيهم ونبتهم وشراجعهم وان "أموالهم وأنفسهم وزافر حائط الملك الذي كان يسيل إلى آل قيس" هو لهم. وكتب الكتاب للرسول معاوية بن أبي سفيان.
وكان يتنازع على رئاسة مهرة رجلان منهم عند ظهور الإسلام، أحدهما "شجريت" وهو من "بني شخراة"، وكان بمكان من أرض مهرة يقال له: "جيروت" إلى "نضدون". وأما الأخر فبالنجد. وقد انقادت مهرة جميعا لصاحب هذا الجمع، عليهم "المصبح" أحد بني محارب، والناس كلهم معه، إلا ما كان من شخريت، فكانا مختلفين، كل واحد من الرئيسين يدعو الآخر إلى نفسه" وقد قتل "المصبح" في أثناء ردة مهرة، أما شخريت الذي كان قد أسلم ثم ارتد، فقد سلم على نفسه بعودته إلى الإسلام، وأرسل مع الأخماس إلى "أبي بكر".

(1/2037)


--------------------------------------------------------------------------------

ويذكر أهل الأخبار إن بعض رجال "مهرة" وفدوا على الرسول، منهم "مهرى بن الأبيض"، وقد كتب له الرسول كتابا، و "زهير بن قرضم ابن العجيل بن قباث بن قمومي"، وقد اسلم، وكتب له الرسول كتابا حين هم بالانصراف إلى قومه.
ومن مواضع "مهرة" "رياض الروضة"، بأقضى أرض اليمن من مهرة، و "جيروت" و "ظهور الشحر" و "الصبرات" و "ينعب" و "ذات الخيم".
وأما عمان، فكان المتنفذ والحاكم فيها "الجلندى بن المستكبر"، وكان قد نصب نفسه ملكا عليها، ويفعل في ذلك فعل الملوك، فيعشر للتجار في سوق "دبا" و "سوق صحار" وكانت سوق دبا من الأسواق المقصودة المشهورة، يأتي إليها البائعون والمشترون من جزيرة العرب ومن خارجها، فيأتيها تجار من السند والهند والصين.
وورد في باب الرسل الذين أرسلهم رسول الله إلى الملوك، انه أرسل "عمرو بن العاص" إلى"جيفر بن جلندى" و"عباد بن جلندى" "****" "جيفر بن جلندى بن عامر ابن جلندى" "عبدا" الأزديين صاحبي عمان. مما يدل على انهما كانا هما الحاكمين على عمان في هذا الوقت. وتعني لفظة "جلنداء" الواردة في شعر الأعشى في مدح "قيس بن معد يكرب" "الجلندى" صاحب عمان. وتذكر الروايات إن "جيفر"، كان هو الملك منهما: وكان أسن من أخيه.
وكان يسامي "الجلندى" "ذو التاج" "لقيط بن مالك الأزدي"، وقد أرتد وادعى يمثل ما ادعى من تنبأ: وغلب على عمان، والتجأ "جيفر" و "عباد" إلى الجبال. فأرسل "أبو بكر" إليهما مددا، فتغلبا عليه وعلى من التف حوله. ويظهر إن لم لقيطا" كان ينافس "آل الجلندى بن المستكبر" على السلطان، وقد اعتصم "آل الجلندى" بالإسلام. وانتصروا بفضل المدد الذي وصل إليهم عليه. وقد قتل "لقيط" وسبي أهل "دبا".
وكلمة "الجلندي" على ما يظهر من روايات الأخباريين ليست اسما لشخص، وإنما هي لقب، وقد تعني "لقبا" أو "قيلاء" أو "كاهنا" في لهجات أهل عمان. ويؤيد ذلك ما ورد من انه "ادعى به من كان نبيا".

(1/2038)


--------------------------------------------------------------------------------

وارتدت طوائف من أهل "عمان"، ولحقوا بالشحر، وارتد جمع من "مهرة بن حيدان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة"، فجهز عليهم "أبو بكر" "عكرمة بن أبي جهل بن هشام المخزومي" و "حذيفة بن حصن البارقي" من الأزد، فتغلبا عليهم جميعا، وعادوا عن ردتهم إلى الإسلام.
ودون "ابن سعد" صورة كتاب ذكر أن الرسول كتبه لرجل من "مهرة" اسمه "مهري بن الأبيض". كتبه له: "محمد بن مسلمة الأنصاري".
وغالب أهل عمان من الأزد. وهم من "القحطانيين على رأي أهل الأنساب، من نسل "أزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن كهلان بن سبأ". وقد عرفوا ب "أزد عمان"، تمييزا لهم عن أزد شنوءة وأزد السراة وعن أزد غسان. وذكر إن أصل كلمة "أزد" هي "أسد"، وان "أسد" "أفصح من"أزد" وان الأزد نزلت عمان بعد سيل العرم، فغلبت على من كان بها من ناس. وإما أزد "شنوءة" فقد اتجهوا نحو الشمال، فذهب قوم منهم إلى العراق، ذكر انهم سموا "شنوءة" لشنآن، أي تباغض وقع بينهم أو لتباعدهم عن بلدهم. وإذا أخذنا بهذا التفسير، قلنا إنه يعني إن هذه الجماعة من الأزد، كانت مستبدية أعرابية، عاشت متباغضة يقاتل بعضها بعضا، وهذا ما دفع فلولها على الارتحال عن مواضعها الأصلية وعلى الانتشار والتفكك والذهاب إلى أماكن بعيدة عن مواطنها شأن الأعراب المتقاتلين المتخاذلين.
ثم نراهم يذكرون إن أول من لحق بعمان من الأزد: "مالك بن فهم بن غانم بن دوس بن عبد الله بن زهران بن كعب بن الحارث بن عبد الله ابن مالك" وكان سبب خروجه عن قومه إلى عمان: إن كان له جار وكان لجاره كلبة، وكان بنو أخيه "عمرو بن فهم بن غانم يسرحون ويروحون على طريق بيت ذلك الرجل، وكانت الكلبة تعوي عليهم وتفرق غنمهم، فرماها أحدهم بسهم فقتلها. فشكا جار مالك إليه ما فعل بنو أخيه، فغضب مالك وقال: لا أقيم في بلد ينال فيه هذا من جاري. ثم خرج مراغما لأخيه عمرو ابن فهم. ثم لحقت به قبائل أخرى من الأزد".

(1/2039)


--------------------------------------------------------------------------------

ويذكر الأخباريون إن "عمان" نسبة إلى رجل اسمه "عمان بن قحطان": وكان أول من نزلها بولاية أخيه يعرب، وذكر أيضا إن "عمان" اسم واد، كان ينزل الأزد عليه حين كانوا بمأرب، وان الفرس كانوا يسمون "عمانا" "مزون". وذكر إن العرب كانت تسمي "عمان" المزون. وذكر إن "أردشير بابكان" جعل الأزد ملاحين بشحر عمان قبل الإسلام بستمائة سنة. وقيل إن المزون، قرية من قرى عمان يسكنها اليهود والملاحون ليس بها غيرهم. ونزل بعمان ناس من غير الأزد. منهم جمع من "بني تميم"، ومنهم "آل جذيمة بن حازم"، وقوم من "بني النبيت" من الأنصار، ومنازلهم في قرية يقال لها "ضنك" من أعمال "السر"، و "بنو قطن" من أهل يثرب. كذلك، ومنازلهم "عبرى" و "السليف" و "تنعم" من أرض السر، وقوم من "بني الحارث بن كعب"، وآخرون من "قضاعة"، وفروع من "عبس".
وكان في جملة من وفد من أزد عمان على الرسول، "أسد بن يبرح الطاحي، خرج في وفد، فبايعوا الرسول، وطلبوا منه إن يرسل إليهم رجلا يقيم أمرهم، فأمر رسول الله "مخربة العبدي"، واسمه "مدرك بن خوط" بأن يذهب اليهم، ويعلمهم القرآن والإحكام. وجاء بعده وفد آخر فيه "سلمة ابن عياذ "عباد" الأزدي".
ومن عمان "صحار"، وقد اشتهرت بسوقها. و "قسات"، وهي فرضة عمان على للبحر، إليها ترفأ أكثر سفن الهند. و "دبا" "حما" و"مهرة". ويعقد سوق صحار في أول يوم من رجب، ولا يختفر فيها بخفير، ثم يرتحلون إلى سوق دبا، فيعشرهم "آل الجلندى".
ودون "ابن سعد" صورة كتاب ذكر إن الرسول كتبه إلى وفد "ثمالة" و "الحدان". جاء فيه "هذا كتاب من رسول الله لبادية الأسياف ونازلة الأجواف مما حاذت صحار"، ثم ورد بعدها ما وضع عليهم الرسول من، حقوق. وقد كتب الصحيفة "ثابت بن قيس بن شماس"، وشهد عليها: سد بن عيادة ومحمد بن مسلمة.

(1/2040)

admin
12-31-2010, 04:21 PM
وأما البحرين، فجل سكانها من "بني عبد القيس" وبكر بن وائل وتميم. وهم بين أهل شرك أو نصرانية وبين شراذم من يهود ومجوس. أما الوالي عليها في أيام ظهور الرسول، فكان "المنذر بن ساوى".. وهو من بني عبد الله ابن زيد" من "بني تميم". وكانوا ملوك المشقر بهجر، وكانت ملوك الفرس قد استعملتهم عليها. و "عبد الله بن زيد" هذا هو "الأسبذي"، نسبة إلى قرية ب "هجر" يقال لها "الأسبذ"، ويقال انه نسب إلى "الأسبذيين"، وهم قوم كانوا يعبدون الخيل بالبحرين.
و "المشقر" حصن آخر من حصون البحرين المعروفة، وهو من الحصون العادية لذلك نسب بعض أهل الأخبار بناءه إلى "سليمان بن داوود" على عادتهم في إرجاع نسب الأبنية العادية إليه في الغالب عند عجزهم عن معرفة أصل الأبنية. وذكر بعض آخر انه من بناء "طسم". وقد كان لعبد القيس، ولهم حصن أخر يليه اسمه "الصفا" قبل مدينة "هجر". وبين الصفا والمشقر نهر يجري يقال له "العين". ويذكر أهل الأخبار إن "بني عبد القيس" لما جاؤوا بها "إيادا"، فأخرجوهم عنها قهرا، وأخذوا مكانهم. وان "كسرى" حبس "تميما" بهذا الحصن، وفيه فتك "المكعبر" والي "كسرى"، ببني تميم. وعرف الموضع لذلك ب "فج بني تميم".
وقد ورد اسم هذا الحصن في شعر "لبيد بن ربيعة العامري"، إذ قال: وأعوصن بالدومي من رأس حصنه وانزلن بالأسباب رب المشقر
وقد ذكر شارح الديوان إن الشاعر "لبيد" قصد بالدومي ملك دومة الجندل. وان المشقر حصن بالبحرين. "قال أبو عمرو" وكان ربه رجلا من الفرس". وجاء في هامش التحقيق إن "المشقر" قصر بالبحرين بناه معاوية بن الحارث بن معاوية الملك الكندي، وكانت منازلهم ضرية، فانتقل أبوه الحارث إلى الغمر ظ وبنى ابنه المشقر، وقال ابن الأعرابي: المشقر بمدينة قديمة في وسطها قلعة، وهي مدينة هجر".

(1/2041)


--------------------------------------------------------------------------------

وتقع ديار "عبد القيس" إلى الشمال من ديار "أزد عمان"، وهي تشرف على الخليج، وتمتد نحو الشمال حتى تصل إلى منازل قبائل "بكر بن وائل"، وقد خالطتها قبائل أخرى. وسكنت إلى الغرب من ديار "عبد القيس" قبائل "تميم"، التي تمتد ديارها موازية لديار "بني عبد القيس" الواقعة إلى شرقها حتى تصل إلى ديار "بكر بن وائل" وديار "أسد" التي تؤلف الحدود الشمالية الغربية لها. وأما القبائل النازلة إلى الغرب من ديار تميم، فهي: أسد وهوازن و "غني" و "باهلة"، وأما القبائل النازلة إلى الجنوب من بلاد تميم، فهي "أزد عمان" و "عبد مناة" و "ضبة".
ويخبر من دراسة الروايات التي يرويها أهل الأخبار عن هجرة القبائل، إن "يبني عبد القيس"، لما جاؤوا إلى البحرين، كانت البلاد إذ ذاك لإياد، فجلت إياد من البحرين ونزحت نحو العراق، فكان ما كان لها من مواقف هناك مع الفرس.
وسبب غدر "المكعبر" ببني تميم، هو وثوبهم على قافلة كانت محملة بالطرف والأموال أرسلها "وهرز" عامل كسرى على اليمن إلى كسرى، فاغتاط "كسرى" من ذلك، وأراد إرسال جيش عليهم، فأخبر إن بلادهم بلاد سوء، قليلة الماء، وأشر إليه إن يرسل إلى عامله بالبحرين إن يقتلهم، وكانت تميم تصير إلى هجر للميرة. فلجأ العامل إلى الغدر بهم، فأمر مناديه إن ينادي لا تطلق الميرة إلا لتميم، فأقبل إليه خلق كثير، فأمرهم بدخول المشقر وأخذ الميرة، والخروج من باب آخر، فدخل قوم منها فقتلهم. ثم أجهز على الباقين، وبعث بذراريهم في سفن إلى فارس.
وذكر إن "المكعبر" واسمه "فيروز بن جشيش"، تحصهن ب "الزارة" وانضم إليه مجوس كانوا تجمعوا بالقطيف، وامتنعوا عن أداء الجزية، فحاصرها "العلاء" وفتحها في أول خلافة "عمر". وفتح "العلاء" "السابون" و "دارين" في الساحل المقابل من الخليج.

(1/2042)


--------------------------------------------------------------------------------

وتميم من القبائل الكبيرة التي كان لها شان عند ظهور الإسلام. وقد سكنت في مواضع متعددة من جزيرة العرب وفي العراق وبادية الشام. وكان من أشرافها عند ظهور الإسلام: عطارد لن حاجب بن زرارة لن عدس التميمي، والأقرع أبن حابس، والزبرقان بن بدر، وعمرو بن الأهتم، وقيس بن عاصم، وربيعة بن رفيع، وسرة بن عمرو. والقعقاع بن معبد، ووردان بن محرز، ومالك بن عمرو، وحنظلة بن دارم، وفراس بن حابس، وقيس بن الحارث، ونعيم بن سعد، ورباح بن الحارث. و "سفيان بن الحارث بن مصاد".
وكان "الزبرقان بن بدر" على الرباب وعوف والأبناء، وقيس بن عاصم على "مقاعس" والبطون، و "صفوان بن صفوان" على "بهدى" و "سبرة بن عمرو" على "خضم" من "بني عمرو". و "بهدى" و "خضم" قبيلتان من "بني تميم". و "وكيع بن مالك" و "مالك بن نويرة" على "بني حنظلة" "وكيع" على "بني مالك" و "مالك" على "بني يربوع". ولما وقعت "الردة"، ارتبك موقف زعماء "تميم"، وكانوا متخاصمين غير متفقين فيما بينهم، وبينهم تحاسد وتباغض، منهم من أدى الصدقة ومنهم من امتنع، وتخاصموا فيما بينهم بسبب ذلك. وزاد في ارتباكهم هذا قدوم "سجاح بنت الحارث بن سويد بن عقفان" من الجزيرة، وكانت ورهطها في "بني تغلب" تقود أفناء "ربيعة"، ومعها "الهذيل بن عمران" في "بني تغلب" و "عقة بن هلال" في النمر، و "تاد" في إياد، و "السليل بن قيس" في "شيبان"، وحاروا في امرهم، منهم من انضم إليها ومنهم من خالفها وقاتلها، ثم اتجهت نحو "مسيلمة" باليمامة واتفقت معه، ثم غادرته راجعة إلى قومها،.
ولما امتنع "مالك بن نويرة" عن دفع الصدقة، سار عليه "خالد بن الوليد" إلى "البطاح"، وكان قد فرق قومه، وأمرهم بعدم التعرض والمقاومة، ولكنه قتل. وانتهى بذلك أمر تميم.

(1/2043)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان "الاقرع بن حابس بن عقال" المجاشعي الدارمي في جملة المؤلفة قلوبهم. وهو من سادات تميم. وذكر انه كان على دين المجوس ولقبيلة تميم صلات بملوك الحيرة، وقد كانت "الردافة" اليها. وهي مكانة ودرجة مهمة جدا، لا تعطى إلا للقبائل المتنفذة القوية. ومع ذلك فقد وقعت بينها وبينهم خطوب ومعارك. لما في طبع القبائل من شق عصا الطاعة عند شعورها بوجود وهن في الحكم وبأن في إمكانها الانفراد بنفسها في الحكم. كما كانت لها صلات متينة برجال مكة التجار، ولها معهم أعمال وتجارة وعهود وحبال. لحماية قوافل قريش ولتأمن وصولها سالمة إلى الأماكن التي كانت تقصدها.
ونجد تميما تحارب "بكر بن وائل" ومن يشد أزرها ويعاونها من "الاساورة" وذلك يوم "الصليب". وفد انتصر "بنو عمرو" وهم من تميم على "بني بكر"، وقتل "طريف" "رأس الاساورة". وقد كانت "بكر بن وائل" من القبائل المؤيدة للساسانيين. وكان الفرس يقومونهم ويجهزونهم، ويشرف على تجهيزهم عاملهم على "عين التمر" وتظهر صلات "تميم" الطيبة بقريش من أخبار أهل الأخبار عن تجارة قريش وعن الطرق التي كان يسلكها تجارهم لوصولهم إلى الاسواق، مثل سوق دومة الجندل والمشقر والأسواق الأخرى. لقد كانت. الطرق المؤدية إلى تلك الأسواق تمر بأرضين هي لأحياء من تميم. ولم تكن هذه الأحياء تتعرض لتجار مكة أو للتجار المتحالفين معهم والذين يتاجرون باسمهم، بأي سوء. على العكس كانت تحترمهم وتقدم لهم المعونة، لوجود حبال وعهود عقدا ساداتهم مع سادات قريش. ونظرا إلى ما كان من حلف بين "كلب" و "تميم"، فقد صار في وسع تاجر مكة ومن هو في حلفه أو يتاجر بحماية تجار مكة، المرور في منازل "كلب" بأمن وسلام.

(1/2044)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن ديار تميم "الحزن"، وهو د "بني يربوع". وهو مرتع من مراتع العرب، فيه رياض وقيعان. وقيل هو صقع واسع نجدي بين الكوفة وفيد. وقيل: هو قف غليظ، ومربع من مرابع العرب، بعيد عن المياه، فليس ترعاه الشياه ولا الحمر. فليس فيها دمن ولا ارواث. وعرف بأنه بلاد بني يربوع. وهناك حزن آخر ما بين زبالة فما فوق ذلك مصعدا في بلاد نجد. وفيه غلظ وارتفاع. وقد ورد ذكر "الحزن" في شعر للأعشى، حيث يقول: ما روضة من رياض الحزن، معشبة خضراء جاد عليها مسبل هطل
وذكر انه موضع كانت ترعى فيه إبل الملوك، وهو من ارض "بني أسد".
وكانت قوافل قريش إذا قصدت "دومة الجندل" ،وسلكت السبل التي تمر ب "الحزن"، فإنها تكون آمنة مطمئنة، لأنها تمر ببلاد مضر. ولا يتحرش مضري بمضري. وكانت إذا عادت وأرادت سلوك مواضع الماء، مرت بديار كلب، فتكون عندئذ آمنة مطمئنة، لأن لكلب حلفا مع "تميم" و "تميم" من مضر ولها صلات وعلاقات بمكة. وإذا مرت بحزن أسد، فأنها تكون آمنة كذلك، لأن "بني أسد" من مضر. وإذا دخلت ديار "طيء"، صارت آمنة أيضا، لأن لطيء حلفا مع بني أسد.

(1/2045)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر انه قد كانت لتميم صلات بقريش وبمكة تعود إلى أيام سابقة على الإسلام. إذ نجد في روايات أهل الأخبار إن نفرا منهم كانوا يذهبون إلى مكة ومنهم من كان يذهب إليها للاتجار. فقد ذكر إن تميمتا كان متجره بمكة، وقد اختلف مع "حبرب"، فاعتدى عليه "حرب". فذهب التميمي إلى "بني هاشم" واستجار بهم، فأجاره "الزبير بن عبد المطلب"، رئيس "بني هاشم"،" وذكر إن نفرا من "بني دارم" كانوا في جوار رجل من "بني هاشم". بل يظهر انه قد كان لهذه القبيلة علاقة بمكة نفسها وبسوق عكاظ. وهو سوق مهم تقصده قريش، وكانت تتحكم في شؤونه. فلتميم صلة ب "الإفاضة"، ولها صلة بالحكومة في سوق عكاظ، وقد. ذكر أهل الأخبار أسماء عدد من حكام تميم حكموا بعكاظ. وكانت هي وقريش وكنانة، تدير مراسم الحج وتحافظ على شعائره. مما يدل على إنها كانت ذات صلة قديمة بمكة، ولاسيما بعض أحياء منها، مثل "بنو دارم"، الذين ظهروا على اكثر أحياء تميم. ولعل ابتعادها عن مكة وارتحال أحيائها إلى مواطن بعيدة عن مكة، قد باعد فيما بينها وبين قريش، وقلل من صلاتها بهم.
وتتجلى هذه العلافة في تزوج قريش من "تميم"، مع ما عرف عن قريش من الامتناع من التزوج من غير قريش. وقد روى أهل الأخبار أسماء جماعة من أشراف مكة، كانت أمهاتهم من "تميم". ونجد في مكة رجالا من تميم تحالفوا مع رجال من مكة. فصاروا من حلفائهم.
وقيام "تميم" بمهمة "الحكومة" في سوق عكاظ، وب "الإجازة"، يدل على أهمية مركز هذه القبيلة بالنسبة لقريش. وما كانت قريش تعطي "الإجازة" لتميم، لولا ما كان لها من نفوذ ومن علاقات طيبة بقريش. وقد افتخر "بنو تميم"، بالحكومة في "عكاظ" وبالإجازة في الجاهلية وفي الإسلام.

(1/2046)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان "بنو عبد القيس" من قبائل البحرين المتنفذة. وكانت غالبيتهم على النصرانية، ومنهم كان "الجارود بن عمرو بن حنش بن المعلي"، الذي قدم في وفد عبد القيس إلى الرسول، فأسلم على يديه. وقد رفض الدخول فيما دخل فيه قومه من الردة عن الإسلام والعودة إلى النصرانية وتأييد "الغرور": المنذر ابن النعمان بن المنذر. وكان في جملة الوفد الذي قسم على الرسول عام الفتح: "عبد الله بن عوف الأشج" و "منقذ بن حيان"، وهو ابن اخت الأشج، فأسلما وعادا إلى ديارهما.
ودون "ابن سعد" صورة كتاب ذكر إن الرسول وجهه إلى "الأكبر بن عبد القيس". ولم يشر إلى المراد من "الأكبر بن عبد القيس".ومما جاء فيه إن "العلاء بن الحضرمي" "أمين رسول الله على برها وبحرها وحاضرها وسراياها وما خرج منها، وأهل البحرين خفراؤه من الضيم وأعوانه على الظالم وأنصاره في الملاحم".
وكان الرسول قد أرسل "العلاء بن الحضرمي" سنة ثمان قبل فتح مكة إلى "المنذر بن ساوي العبدي"، يدعوه إلى الإسلام، فأسلم، فهلك بعد وفاة الرسول بشهر، وارتد بعده أهل البحرين. واجتمعت "ربيعة" بالبحرين وارتدت، وملكوا عليهم "المنذر بن النعمان بن المنذر الغرور"، وكان يعاونه "الغرور بن سويد" أخي النعمان بن المنذر، ويسمى "المنذر بن سويد بن المنذر"، وكان رأس أهل الردة "الحطم بن ضبيعة" أخو بني قيس بن ثعلبة، فجمع من اتبعه من بكر بن وائل، حتى نزل القطيف وهجر، واستغوى الخط ومن فيها من الزط والسيابجة، وبعث بعثا إلى "دارين" وبعث على "جواثي" فحصرهم. وكان قد منى "سويد بن المنذر" بأن يجعله كالنعمان بالحيرة، غير انه فشل وغلب المسلمون أهل الردة، وقتل "الحطم".

(1/2047)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان "المنذر بن النعمان" يسمى "الغرور"، فلما ظهر المسلمون، قال: لست بالغرور ولكني المغرور، ولحق هو وفل "ربيعة" بالخط، فأتاها "العلاء" ففتحها وقتل المنذر ومن معه. وذكر انه نجا فدخل إلى "المشقر"، ثم لحق بسليمة فقتل معه. وذكر انه قتل "يوم جواثا"، وذكر انه استأمن ثم هرب فلحق فقتل. وقيل انه اسلم.
والمنذر بن ساوى هو رجل عربي من "بني تميم" من "بني دارم" على رأي اكثر أهل الأخبار. وقد ذهب بعضهم إلى انه من "بني عبد القيس". ولكن أكثرهم على انه "المنذر بن ساوى بن الاخنس بن بيان بن عمرو بن عبد الله ابن زيد بن عبد الله بن دارم التميمي الدارمي". وكان هو المتولي على البحرين في أيام الرسول.
ونجد في طبقات ابن سعد صورة كتاب أرسله الرسول إلى "المنذر بن ساوى"، يذكر فيه إن رسل رسول الله قد "حمدوك، وانك مهما تصلح أصلح إليك وأثبتك على عملك وتنصح لله ولرسوله"، كما نجد للرسول كتابا آخر، يخبر "المنذر" فيه انه قد بعث إليه "قدامة" و "أبا هريرة"، و "فادقع إليهما ما اجتمع عندك من جزية أرضك". وأرسل كتابا مثله إلى "العلاء بن الحضرمي" يخبره فيه، انه بعث إلى المنذر بن ساوى من يقبض منه ما اجتمع عنده من الجزية، فعجله بها. وابعث معها ما اجتمع عندك من الصدقة والعشور". وكاتب الكتابين أبي. وكتب المنذر كتابا إلى الرسول، جاء فيه: "إني قرأت كتابك على أهل هجر، فمنهم من أحب الإسلام وأعجبه ودخل فيه، ومنهم من كرهه".
وفي طبقات ابن سعد، كتاب من الرسول، ذكر انه أرسله "إلى الهلال صاحب البحرين"، فيه دعوة لهلال إلى الإسلام والى عبادة الله وحده والدخول في الجماعة فان ذلك خير له. ويظهر إن هلالا هذا كان أحد سادات البحرين في هذا الوقت، وانه كان قد تأخر عن "الجماعة" أي قومه في الدخول في الإسلام، فكتب الرسول له ذلك الكتاب.

(1/2048)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما "هجر"، فكان عليها عند ظهور الإسلام مرزبان يدعى "سيبخت" وإليه ذهب أيضا العلاء بن الحضرمي يدعوه إلى الإسلام، فأسلم وأسلم معه جميع العرب وبعض العجم. وأما أهل الأرض هناك من اليهود والنصارى والمجوس، فقد صالحوا العلاء على الجزية. وهجر سوق من أسواق الجاهلية، يؤمها "بنو محارب" من "عبد القيس". ويظهر من كتاب أمر رسول الله بتدوينه إليه. انه لما أسلم وصدق أرسل إلى رسول الله رسولا يخبره بذلك اسمه "الأقرع"، فكتب إليه الرسول كتابا حمله إليه الأقرع صاحبه، ويذكر رسوله الله فيه انه علم بما جاء في كتاب "سيبخت" إليه، وانه يحثه ويدعوه إلى القيام بشعائر الإسلام.
وقد ذهب بعض أهل الأخبار إلى إن هجرا كانت قاعدة البحرين، وقال بعض آخر إنها اسم لجميع أرض البحرين. وقد اشتهرت بالتمر، فقيل في المثل" كمبضع التمر إلى هجر، كما عرفت بأوبئتها، وقد روي إن الخليفة عمر قال: "عجبت لتاجر هجر وراكب البحر"، كأنه أراد ذلك لكثرة وبائها، فعجب من تاجر يذهب لذلك إليها، كما عجب من راكب البحر، لأنه سواء في الخطر. ويظهر إنها كانت كثيرة المياه ذات مستنقعات، لذلك تفشت بها الأوبئة. وذكر الأخباريون إنها عرفت ب "هجر"، نسبة إلى "هجر بنت المكفف"، وكانت من العماليق، أو من العرب المتعربة؛ وكان زوجها: محلم ابن عبد الله صاحب النهر الذي بالبحرين، ويقال له: نهر محلم وهناك عين ماء عرفت بعين هجر وبعين محلم.
وذكر أهل الأخبار إن "ملك هجر"، ولم يشيروا إلى اسمه، كان قد سود "زهرة بن عبد الله بن قتادة بن الخوية"، ووفده على النبي، وانه كان في جيش "سعد بن أبي وقاص" الذي أرسله إلى العراق، فجعله "سعد" من "أمراء التعبية". ولعلهم قصدوا بذلك المرزبان "سيبخت"، الذي ذهب إليه "العلاء بن الحضرمي" بأمر الرسول ليدعوه إلى الإسلام، فأسلم على يديه.

(1/2049)


--------------------------------------------------------------------------------

ويعرف الساحل المقابل لجزيرة "أوال" من جزر البحرين، ب "السيف" سيف البحر. والسيف في اللغة ساحل البحر. ويليه "الستار": "ستار البحرين".
و "كاظمة" جو على سيف البحر، وفيها ركايا كثيرة وماؤها شروب.
وعرفت ب "كاظمة البحور". وقد أكثر الشعراء من ذكرها. وهي موضع مجهول في الوقت الحاضر، يظن إن مكانه على ساحل الجون المقابل لموضع "الجهرة". ويعرف ذلك الموضع ب "دوحة كاظمة".
وكان على الأبلة وما والاها "قيس بن مسعود بن خالد"، فلما علم بما فعله كسرى بملك الحيرة، تفاوض سرا مع بكر، واتفق معها على مساعدتها. فلما انتهت معركة "ذي قار" لم يجرا كسرى إن يلحق به أذى ما هو في أرضه، فعمد إلى الحيلة للانتقام منه، بأن كتب إليه يطلب منه المجيء لرؤيته. فلما ذهب إليه، قبض عليه وحبسه في قصره بالأنبار أو بساباط. وقد عده أهل الأخبار في المعدودين من "أجواد الجاهلية". ذكروا انه كانت له مائة ناقة معدة للأضياف إذا نقصت أتمها. وقد مدحه لذلك الشعراء. وعد من "ذوي الآكال". وذكر إن كسرى كان قد أطعمه "الأبلة" وثمانين قرية من قراها.
وكان على اليمامة "هوذة بن علي الحنفي"، وكان ملكا على دين النصرانية، واليه أرسل رسول الله "سليط بن عمرو" "سليط بن قيس بن عمرو الأنصاري" يدعوه إلى الإسلام. فأرسل "هوذة" وفدا إلى الرسول ليقول له: "إن جعل الأمر له من بعده أسلم، وسار إليه ونصره، وإلا قصد حربه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، ولا كرامة". ثم مات بعد قليل. وذكر انه كان شاعر قومه وخطيبهم، وكانت له مكانة عند العرب.

(1/2050)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر انه كان من "قران" من مواضع اليمامة، وأهلها أفصح بنو حنيفة. وانه كان من وجهاء قومه. وقد نسب على هذه الصورة: "هوذة بن علي بن ثمامة بن عمرو الحنفي" من بكر بن وائل. وورد إن تميما كانت قد قتلت والد "هوذة"، وان هوذة كان يكره بني تميم كرها شديدا حتى إن كسرى حين سأله عنهم أجابه: "بيني وبينهم حساء الموت، فهم الذين قتلوا أبي". وورد إن كسرى سأل هوذة عن عيشه وعن ماله، فقال: "أعيش عيشة رغيدة، وأغزو المغازي، واحصل على الغنائم". ولكن الظاهر انه لم يكن كفؤا لبني تميم. وان ملكه لم يتجاوز حدود اليمامة.
وزعم أهل الأخبار إن "كسرى" توجه إلى اليمامة، أو انه سمع بجوده وكرمه، فاستدعاه إليه، ولما وجد فيه عقلا وسياسة" ورجاحة رأي توجه بتاج من تيجانه، ولذا لقب هوذة ب "صاحب التاج"، وأقطعه أموالا ب "هجر"، وكان نصرانيا. وقيل إن كسرى دعا بعقد من الدر فعقد على رأسه وكساه قباء ديباج مع كسوة كثيرة، فمن ثم سمي هوذة ذا التاج. وذكر إن سبب استدعاء كسرى له، انه أكرم رجال العير التي حملت الطاف وهدايا وأموال "وهرز" التي أرسلها من اليمن إلى "كسرى"، وكانوا قد انتهبوا حتى لم يبق عندهم شيء، فصاروا إلى "هوذة"، فأكرم مثواهم وآواهم وكساهم: وزودهم وحماهم، وسار معهم إليه، فأكرمه كسرى على النحو المذكور. وقيل إنه لم يكن صاحب تاج، وإنما كان يضع على رأسه إكليلا رصعه بأحجار ثمينة كأنه التاج تشبها بالملوك.
ويروي أحل الأخبار إن الشاعر الأعشى قال في حق هوذة: له أكاليل بالياقوت فصلها صواغها لا ترى عيبا ولا طبعا
وذكر انه كان أول معدي لبس التاج، ولم يلبس التاج معدي غيره.

(1/2051)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من روايات أهل الأخبار عن يوم الصفقة وعن يوم المشقر، إن نفوذ "هوذة" لم يكن واسعا بعيدا، بل كان محدودا بحدود قبيلته، وانه لم يكن في مستوى ملوك الحيرة أو آل غسان، بل كان سيد قومه إذ ذاك، حتى انه لما طمع في الجعالة التي كان الفرس يعطونها لمن يتولى خفارة قوافلهم الآتية من اليمن إلى العراق أو الذاهبة من العراق إلى اليمن، ووافق الفرس على إن يعطوه ما أراد، وسار مع القافلة خفيرا لها من "هجر" حتى "نطاع"، وبلغ "بنو سد" ما صنعه "هوذة"، خرجوا عليه وأخذوا ما كان مع الأساورة والقافلة وما معه، وأسروه، حتى اشترى منهم نفسه بثلاثمائة بعير، وقد عير في ذلك، وتغنى شاعر "بني سد" بذلك اليوم، الذي سيق فيه هوذة، وهو مقرون اليدين إلى النحر، فلما استلم بنو سعد الإبل المذكورة جاؤوا به إلى اليمامة فأطلقوه.
ويذكر أهل الأخبار إن هوذة سار مع من تبقى من الأساورة وبقية فلول القافلة إلى "كسرى"، ليخبره بما حدث له، وبما فعلت به بنو تميم، ودخل على ملك الفرس فأكرمه، وأمر باسقائه بكأس من ذهب، ثم أعطاه إياه وكساه قباءا له ديباج منسوج بالذهب واللؤلؤ وقلنسوة قيمتها ثلاثون ألف درهم وحباه ثم عاد إلى بلاده. ولو كان هوذة قد جاء كسرى بخبر انتصار وانقاذ للقافلة جاز لنا أخذ هذا الوصف على محمل الصدق، أما وأن الرواية هي في موضوع هزيمة واندحار، فإن من الصعب،علينا التصديق بها، ولا سيما وان ملوك الفرس كانوا أصحاب غطرسة وكانوا إذا جاءهم أحد بخبر هزيمة قابلوه بالازدراء والتبكيت وبإنزال اللعنات عليه في الغالب. وليس في هذا الموقف ما يدعو إلى اسقاء هوذة بكأس من ذهب.

(1/2052)


--------------------------------------------------------------------------------

ويذكر أهل الأخبار إن اليمامة من نجد، وقاعدتها "حجر"، وكانت تسمى "جدا" في الأصل، كما عرفت ب "جو". وذكروا إنها سميت "يمامة" نسبة إلى "اليمامة بنت سهم بن طسم"، وكانت منازل طسم وجديس في هذا المكان. وقد تناولتها الأيدي حتى صارت في أيدي "بني حنيفة" عند ظهور الإسلام في قصص من قصص أهل الأخبار.
واليمامة من الأماكن الخصبة في جزيرة العرب. وبها "وادي حنيفة". وبه مياه ومواضع كانت عامرة ثم خربت، وهي اليوم خراب أو آثار. وقد اشتهرت قراها ومزارعها، وكانت من أهم الأرضين الخاضعة لمملكة كندة. ويظهر إن سيلا جارفا أو سيولا عارمة اكتسحت في الإسلام بعض قراها، فهجرت إذ ترى في هذا اليوم آثار أسس بيوت مبنية من اللبن ومن الطين، يظهر إنها اكتسحت بالسيول وجاءت الرمال فغطتها بغطاء لتستر بقاياها عن رؤية النور. وقد ذكر أهل الأخبار إن اليمامة كانت من "أحسن بلاد الله أرضا وأكثرها خيرا وشجرا ونخيلا". وبها مياه كثيرة. وقد عرف أهلها بالنشاط وبالتحضر، وذلك بسبب وجود الماء بها، إذ أغرى سحر الماء الناس على الإقامة عند مواضع المياه، فنشأت مستوطنات كثيرة. ولا زال أهل اليمامة يعدون من أنشط سكان المملكة العربية السعودية.
وحدود اليمامة من الشرق البحرين ومن الغرب تنتهي إلى الحجاز، وأما من الشمال فتتصل بواد متصل بالعذيب والضرية والنباج وسائر حدود البصرة وجنوبها بلاد اليمن. هذا على تعريف "ابن رسته". وتبعد "جو" وهي الخضارم من حجر يوما وليلة. ومن مواضع اليمامة "منفوحة"، وهي قرية مشهورة، كان يسكنها الأعشى، وبها قبره. وهي لبني قيس بن ثعلبة بن عكابة. ومن مواضع اليمامة الأخرى "المعلاة" من قرى "الخرج".

(1/2053)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن أبرز قبائل اليمامة في أيام الرسول، "بنو حنيفة". و "حنيفة" لقب "أثال بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل". ويذكر أهل، الأخبار، إن "الأحوى بن عوف" المعروف بجذيمة، لقى أثالا فضربه فحنفه، فلقب حنيفة. وضربه أثال فحذمه جذيمة. فقال جذيمة: فإن تك خنصري بانت فإني بها حنفت حاملتي أثال
وقد وفد وفد منهم، فيه "مسيلمة بن حبيب" الذي عرف ب "الكذاب" لادعائه النبوة، وكان قد طلب من الرسول إن يشركه معه في الأمر. وادعى النبوة، ثم قتل. وكان يسجع السجعات مضاهاة للقرآن. وممن كان في هذا الوفد: "رحال بن عنفوة"، وقد شهد لمسيلمة إن رسول الله أشركه في الأمر فافتن الناس به، و "سلمي بن حنظلة السحيمي" و "طلق بن علي بن قيس" و "حمران بن جابر بن شمر" و "علي بن سنان" و "الأقعس بن مسلمة" و "زيد بن عبد عمرو"، وعلى الوفد "سلمي بن حنظلة".
ويذكر إن "سجاحا"، وهي "سجاح بنت أوس بن العنبر بن يربوع" التميمية التي تكهنت وادعت النبوة، أتت "مسيلمة الكذاب"، وهو ب "حجر"، فتزوجته، وجعلت دينها ودينه واحدا. وكان قد اتبعها قوم من "بني تميم" وقوم من أخوالها من "بني تغلب".
ومن "بني حنيفة"، "عمير" و "قرين" ابنا "سلمي". وكان "عمير" أوفى العرب، قبل أخاه "قرينا" بقتيل قتله من جيرانه. ومنهم "مجاعة بن مرارة بن سلمي"، وكان رسول الله قد أقطعه "الغورة" و "غرابة" و "الحبل"، ثم أقطعه "أبو بكر" "الخضرمة" ثم أقطعه "عمر" "الرياء"، ثم أقطعه "عثمان" قطيعة أخرى.
ومن رجال اليمامة "محكم بن الطفيل بن سبيع" الذي يقال له "محكم اليمامة"، وقد ارتد وقتل مع من قتل من المرتدين.

(1/2054)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن قبائل اليمامة: بنو باهلة بن أعصر، وبنو نمير وأحياء من تميم. واستقرت بطون من بكر وعنزة وضبيعة في القسم الشرقي من اليمامة حتى البحرين، واتصلت منازل بطون منها بالعراق. كما كان بها "بنو هزان"، وهم من قطنة اليمامة القدامى: إذ في أهل الأخبار يرجعون تأريخهم بها إلى أيام طسم، أي إلى أيام العرب العاربة أو العرب البائدة الأولى. والظاهر إن أهل الأخبار قد حاروا في أمر "هزان". فجعلوهم من العرب البائدة ودعاهم الهمداني ب "هزان الأولى"، وجعلوهم من اليمن ونسبوهم إلى "قحطان" وجعلوهم من "معد". وهم الذين بقوا في ديارهم اليمامة إلى الإسلام وفي الإسلام. ويظهر من روايات أهل الأخبار، انهم قصدوا قبائل مختلفة لا قبيلة واحدة هي "هزان" التي طلت باقية ولها بقية في اليمامة حتى اليوم. ولكننا نستبعد كون القبائل الثلاث قبيلة واحدة في الأصل. بدليل إن أهل الأخبار يذكرون إن هزان اليمانية الأصل كانت تقيم في اليمامة، وان هزان "معد" هم من أهل اليمامة أيضا، أي إن مواطن القبيلتين واحدة، بل إن منهم من يرجع مواطن هزان الأولى إلى اليمامة كذلك. وهذا ما يحملنا علي القول إن الهزانيين كلهم من قبيلة واحدة، بقيت فروعها في مواطنها القديمة اليمامة حتى اليوم. ولا قيمة لما يرويه أهل الأنساب من سرد نسب كل قبيلة من القبائل الثلاث إلى العرب البائدة أو إلى العرب العاربة أو إلى العرب المستعربة.

(1/2055)

admin
12-31-2010, 04:22 PM
والظاهر إن "بني حنيفة" ضغطوا على الهزانيين، فاغتصبوا معظم أرضهم باليمامة، فقل بذلك شأنهم، وصاروا دون "بني حنيفه" في القوة. ومن "بني هزان" تزوج الأعشى، ثم أكرهوه على تطليقها، فطلقها حين ضربوه، وأصروا عليه بلزوم تخليه عنها ففعل، فقال في ذلك شعرا، رواه الرواة. ومنهم نفر أسروا "الحارث بن ظالم المري"، ولم يكرنوا يعرفونه، وظنوه صعلوكا، ثم باعوه إلى نفر من القيسيين بزق خمر وشاة، وقيل من بني سعد. ومنهم كان قاتل حيان برت عتبة بن جعفر بن كلاب. وهو المعروف بصاحب الرداع.
ومن مواطن "هزان" العلاة، وهو جبل من جبال اليمامة، وبرك، ونعام، وشهوان، وماوان، والمجازة. ويلاحظ إن أخلاطا من قبائل أخرى جاورت "بني هزان"، وسكنت معهم. منهم "بنو جرم" و "بنو جشم"، و "الحارث بن لؤي بن غالب بن فهر" من قريش، و "ربيعة" وهم من اليمن.
وأما منازل طيء عند ظهور الإسلام فجبلا طيء: أجأ وسلمى. غير إن هناك بطونا من طيء كانت قد انتشرت في أماكن أخرى، فنزلت في العراق وفي بلاد الشام وفي أماكن أخرى في جزيرة العرب.
وطيء من القبائل التي كان لها شأن كبير قبل الإسلام. ولعلها كانت من أشهرها وأعرفها قبيل الميلاد وفي القرون الأولى للميلاد. بدليل إطلاق السريان كلمة "طيايا" على كل العرب، من أي قبيلة كانوا. أي إنها استعملت عندهم بمعنى "عرب"، وأصلها من اسم القبيلة التي نتحدث عنها وهي قبيلة "طيء".

(1/2056)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم تكن طيء متصافية فيما بينها متحابة، فوقعت بين عشائرها حروب، حتى تداخل "الحارث بن جبلة" الغساني فيما بينها، فأصلح حالها، فلما ترك عادت إلى حربها، فالتقت جديلة وغوث بموضع تحاربت فيه، قتل فيه قائد بني جديلة، وهو أسبع بن عمرو بن لأم، وأخذ رجل من سنبس أذنيه فخصف بهما نعليه، فعظم ما صنعت الغوث على أوس بن خالد بن لأم، وعزم على لقاء الغوث بنفسه، وحلف ألا يرجع عن طيء حتى ينزل معها جبليها أجأ وسلمى، وتجبى له أهلها، وكان لم يشهد الحروب المتقدمة، لا هو ولا أحد من رؤساء طيء، كحاتم، وزيد الخيل، وغيرهم من الرؤساء. فلما اقبلت جديلة وعلى رأسها أوس بن حارثة بن لأم، وبلغ الغوث جمع أوس لها، أوقدت نارا على ذروة أجأ، وذلك في أول يوم توقد فيه النار، فأقبلت قبائل الغوث، كل قبيلة وعليها رئيسها، ومنهم زيد الخنيل، وحاتم، وتلاحمت بجديلة في يوم اليحاميم ويعرف أيضا بقارات حوق، الذي انتهى بهزيمة منكرة حلت بجدية، فلم تبق لها بقية للحرب، فدخلت بلاد كلب، وحالفتهم وأقامت معهم.
وكان سيد طيء في أيام الرسول، "زيد الخيل بن مهلهل الطائي". وهو ممن قدم على الرسول في وفد طيء. وقد قطع له الرسول فيدا وأرضين معه، وكتب له بذلك، ولكنه توفي في موضع يقال له "فردة". من بلاد نجد من حمى علقت به أثناء أقامته بيثرب، فلم يبلغ مكانه. وقد مدحه الرسول وأثنى عليه. و "زيد الخيل" الذي سماه الرسول "زيد الخير"، هو من "بني نبهان" من "طيء". وكأن في الوفد رجال آخرون منهم: "وزر بن جابر ابن سدوس" من "بني نبهان"، و "قبيصة بن الأسود بن عامر" من "جرم طيء"، و "مالك بن عبد الله بن خيبري" من "بني معن"، و "قعين ابن خليف بن جديلة".

(1/2057)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن "طيء" الرجل الذي ضرب بجدوه المثل، والذي لا زال الناس يذكرون اسمه على انه المثل الأعلى في الكرم، وهو "حاتم الطائي". مقري الضيوف ومغيث الفقراء. فمدحه لجوده الشعراء" **** بن الابرص والنابغة الذبياني وبشر ابن أبي حازم وغيرهم. وكان مضربه ملجأ للمحتاجين ولمن يسلك الطريق يريد "الحيرة". ونظرا لجوده وكرمه هابته العرب وصارت له دالة ومكانة عند ملوك الحيرة وعند آل غسان. وذكر انه "إذا أسر اطلق. ومر في سفره على عنزة وفيهم أسير، فاستغاث به الأسير، ولم يحضره فكاكه فاشتراه من العنزيين، وأقام مكانه في القد حتى أدي فداؤه.
وقد توفي "حاتم الطائي" قبل الإسلام، وانتقلت رئاسة طيء منه إلى ابنه "عدي بن حاتم طيء"، وكان نصرانيا يسير في قومه بالمرباع، وكان بمثابة الملك فهم، فلما جاءت خيل الرسول سنة تسع بلاد طيء، قرر اللحوق بأهل دينه من النصارى بالشام، ثم ترك الشام ولحق بالمدينة فأسلم وأكرمه الرسول. وعينه الرسول على صدقة طيء وأسد.
وذكر إن "عمرو بن المسبح بن كعب بن عمرو بن عصر بن غنم"، الذي كان أرمى العرب، وهو الذي ذكره "امرؤ القيس" في شعاره وأشار إليه، هو من "طيء"، كان قد أدرك الرسول، ووفد عليه.

(1/2058)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد وقع بين طيء نزاع أدى إلى وقوع حروب وأيام بينها، ومن بينها يوم عرف ب "يوم اليحاميم". وقد كان "الحارث بن جبلة الغساني" قد اصلح بين قبائلها، فلما هلك عادت إلى حروبها. فالتقت جديلة والغوث، فقيل "أسبع ابن عمرو بن لأم"، وهو من جديلة وقائدها، قتل في موضع يقال له "غرثان"، وأخذ رجل من "سنبس" أذنيه فخصف بهما نعليه، فغضبت "بنو جديلة"، واقسم "أوس بن خالد بن لأم" على الانتقام من "الغوث" ومنهم "بنو سنبس"، وأخذ في حشد قومه "جديلة"، وبلغ الغوث ذلك، فأوقدت النار على "اجأ"، فأقبلت قبائل الغوث، وعلى رأسها ساداتها ومنهم "زيد الخيل" و "حاتم الطائي"، ووقع القتال بين جديلة والغوث في موضع يقال له "قارات حوق"، فانهزمت جديلة، وقتل فيها ابرح القتل، حتى لم تبق لها بقية للحرب، فدخلت بلاد كلب وحالفوا كلبا وأقاموا معهم. وعرف هذا اليوم ب "يوم اليحاميم".
وكتب الرسول كتبا إلى جماعة من "طيء". منهم "بنو معاوية بن جرول و "عامر بن الأسود بن عامر بن جوين الطائي"، وجماعة من "بتي جوين"، و "لبني معن" الطائيين.
وتقع إلى الشرق من ديار "طيء" منازل "أسد". والى الشمال من ديار أسد منازل "بكر"، وإما إلى الجنوب من منازل "أسد" فديار "هوازن" و "غطفان". وتتاخم ديار أسد من الشرق قبائل "عبد القيس" و "تميم".
ولما أخذت الوفود تترى على المدينة لمبايعة الرسول والدخول في الإسلام، كان وفد "أسد" في جملة الوفود التي بايعت الرسول ودخلت في الإسلام، وذلك سنة تسع للهجرة. وكان فيه "حضرمي بن عامر" و "ضرار بن الأزور" و "وابصة ابن معبد" و"قتادة بن القايف" و "سلمة بن حبيش" و "طلحة بن خويلد" و "نقادة بن عبد الله بن خلف"، ومعهم قوم من "بني الزنية" وهم من "مالك بن مالك بن ثعلبة بن دودان بن اسد".

(1/2059)


--------------------------------------------------------------------------------

وكتب رسول الله كتابا إلى "بني أسد" كتبه له "خالد بن سعيد"، ورد فيه: "الا يقربن مياه طيء وأرضهم فانه لا تحل لهم مياههم ولا يلجن أرضهم من اولجوا. وأمر عليهم "قضاعي بن عمرو" وهو من "بني عذر"، بأن جعله عاملا عليهم. وكتب الرسول إلى "حصين بن نضلة الأسدي" "إن له اراما وكسة، لا يحاقه فيها احد".
ومن ديار "بني أسد بن خزيمة"، "قطن"، وهو جبل بناحية "فيد" به ماء. وأمر الرسول "ابا سلمة بن عبد الأسد المخزومي" بغزوه، لما بلغه إن "طليحة" و "سلمة" ابني "خويلد" قد سارا في قومهما ومن أطاعهما يدعوانهم إلى حرب الرسول، فذهب إلى "قطن"، ثم عاد، ومعه إبل وشاء.
وتقع إلى الشمال الغربي من ديار "طيء"، ديار "بكر"، وهى "بكر ابن وائل". وهي قبائل ضخمة ذات فروع عديدة، سكنت في مواضع عديدة أخرى غير هذه المواضع.
وذكر في خبر فتوح السواد، إن "المثنى بن حارثة الشيباني" كان يغير على السواد، فبلغ "أبا بكر" خبره، فسأل عنه، فقال له قيس بن عاصم بن سنان المنقري: هذا رجل غير خامل الذكر، ولا مجهول النسب، وأثنى عليه. ثم إن المثنى قدم على "أبي بكر"، فقال له: يا خليفة رسول الله، استعملني على من اسلم من قومي اقاتل هذه الأعاجم من أهل فارس، فكتب له أبو بكر في ذلك عهدا، فسار حتى نزل "خفان" ودعا فيه إلى الإسلام فأسلموا. ثم إن ابا بكر أمر "خالد بن الوليد" بالمسير إلى العراق، وكتب إلى "المثنى بن حارثة" يأمره بالسمع والطاعة له وتلقيه. وكان "مذعور بن عدي العجلي"، قد كتب إلى أبي بكر يعلمه حاله وحال قومه ويسأله توليته قتال الفرس، فكتب إليه يأمره إن ينضم إلى خالد ويسمع له بالطاعة.
و "خفان" مأسدة وموضع أشب الغياض كثير الأسد، أو اجمة قرب "الكوفة".

(1/2060)


--------------------------------------------------------------------------------

ونجد في موارد أخرى إن "المثنى بن حارثة الشيباني" و "سويد بن قطبة العجلي"، وكلاهما من "بكر بن وائل" كانا يغيران على الدهاقين، فيأخذان ما قدرا عليه. فإذا طلبا أمعنا في البر فلا يتبعهما أحد، وكان المثنى يغير من ناحية الحيرة، و "سويد" من ناحية "الأبلة". فكتب إلى "أبي بكر"، يعلمه ضراوته بفارس ويعرفه وهنهم، ويسأله إن يمده بجيش، فكتب إليه "أبو بكر" يخبره انه مرسل إليه "خالد بن الوليد" وان يكون في طاعته، فكره "المثنى" ورود خالد عليه، وكان ظن إن أبا بكر سيوليه الأمر، ولكنه لم يتمكن إن يفعل شيئا فانضم إلى خالد.
ومن "بني عجل" "فرات بن حيان للعجلي"، كان دليل "أبي سفيان" إلى الشام. وذلك إن قريشا خافوا طريقهم الذي كانوا يسلكون إلى الشام حين وقعة "بدر"، فكانوا يسلكون طريق العراق، فخرج بهم دليلهم "فرات"، في السنة الثالثة من الهجرة، ومعه أبو سفيان وصفوان بن امية، وحويطب بن عبد العزى، وعبد الله بن أبي ربيعة، ومعهم مال كثير، فيه فضة كثيرة، وهي اعظم تجارتهم، فلما بلغوا موضع "القردة"، وكان "فرات" قد سلك بهم على ذات عرق، اعترض "زيد بن حارثة" القافلة، وكان الرسول قد أرسله للتحرش بها، يوم بلغه أمر القافلة، فهرب أعيانها واستولى زيد على العير، وجاء بها إلى الرسول. وأسر فرات، فأسلم.

ويذكر أهل الأخبار إن قبائل مضر كانت تنزع إلى العراق، وكان أهل اليمن ينزعون إلى الشام. وانه لم يكن أحد من العرب اجرأ على فارس من ربيعة وقد قيل لها لذلك: ربيعة الأسد، وكانت العرب في جاهليتها تسمى: فارس الأسد.

(1/2061)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد قدم وفد من "بكر بن وائل" على الرسول، فيه "بشير بن الخصاصية" و "عبد الله بن مرثد"، و "حسان بن حوط، "خوط"، فأسلموا وعادوا إلى ديارهم وذهب "حريث بن حسان الشيباني" في وفد من "بكر بن وائل" إلى الرسول، فأسلم على يديه. وذكر إن "عبد الله بن اسود بن شهاب بن عوف بن عمرو بن الحارث بن سدوس"، قدم مع الوفد المذكور، وكان ينزل اليمامة، فباع ما كان له من مال باليمامة واستقر بالمدينة.
وذكر إن رسول الله كتب كتابا إلى "بكر بن وائل"، فما وجدوا رجلا يقرؤه حتى جاءهم رجل من "بني صبيعة بن ربيعة" فقرأه. وكان الذي أتاهم بكتاب رسول الل: "ظبيان بن مرثد السدوسي".
وخرج "خالد" إلى العراق، فمر ب "فيد" و "الثعلبية" وأماكن أخرى منها "العذيب" و "خفان"، ثم سار قاصدا "الحيرة" وهي اهم موضع للعرب في العراق. فخرج إليه ساداتها في هذا الوقت" "عبد المسيح بن عمرو ابن قيس بن حيان بن بقيلة"، وهو من الأزد، وصاحب القصر الذي يقال له: "قصر بني بقيلة" بالحيرة. وهو من "بني سبين". وكان من المعمرين. و "هانىء بن قبيصة بن مسعود الشيباني"، ويقال "فروة بن اياس". وكان "اياس" عامل كسري ابرويز على الحيرة، بعد النعمان بن المنذر، و "عدي ابن عدي بن زيد العبادي"، وأخوه "عمرو بن عدي"، و "عمرو بن عبد المسيح" و"حيرى بن أكال"، وهم نقباء أهل الحيرة. فصالحوه على دفع الجزية وعلى إن يكونوا عيونا للمسلمين على أهل فارس.
وفيد موضع مهم بطريق مكة في نصفها من الكوفة، به حصن عليه باب حديد، وعليه سور دائر. كان الناس يودعون فيه فواصل ازوادهم وما ثقل من أمتعتهم إلى حين رجوعهم. وذكر إن فيدا فلاة في الأرض بين أسد وطيء في الجاهلية. فلما قدم "زيد الخيل" الفارس المشهور على رسول الله اقطعه فيدا. وذكر أهل الأخبار، إن فيدا، إنما سميت فيد بفيد بن حسام أول من نزلها. والظاهر إنها من المواضع القديمة وقد ورد اسمها في الشعر الجاهلي والإسلامي.

(1/2062)


--------------------------------------------------------------------------------

و "العذيب"، اذ ذاك مسلحة كانت للفرس على طريق البادية، ومن القادسية التي تبعد عن الكوفة "15" ميلا إلى العذيب "6" اميال، ويؤدي الطريق من العذيب إلى البرية. وكان لبني تميم. وذكر أهل الأخبار إن "محلم بن سويط الضبي" أخا بني صباع، قاد الرباب كلها. وهو الرئيس الأول: أول من سار في ارض مضر برئاسة، وغزا العراق وبه كسرى حتى بلغ العذيب. فجعلت الإبل تتهيب خرير الماء. ويظهر من شعر لبعض الضبين إن العذيب كان احساءا، يخرج الماء فيه من باطن الأرض ويندفع مكونا خريرا"، لذلك هابته الإبل، فكانت تتخوف من الشرب منه. وبعد العذيب، نهاية حد نجد في الشمال.
ويذكر "ابن رسته" إن "البطانية"، هو "قبر العبادي"، وسماه بعضهم "بطان". وذكر "اليعقوبي" إن هذا الموضع من ديار "بني أسد". وكان للثعلبية شأن يذكر، فقد ذكر إنها كانت موضعا معروفا، بل ذكر إنها مدينة عامرة عليها سور وفيها حمامات وسوق، وهي على ثلث الطريق القادم من بغداد إلى مكة. وقد صار لها شان في صدر الإسلام فما بعد، لأنها تقع على طريق التجارة والحاج. وهي على جادة مكة من الكوفة، ومن منازل أسد ابن خزيمة.
وكان أهل الحرة قد تحصنوا بقصورهم: في القصر الأبيض، وهو قصر "النعمان بن المنذر" وقصر ابن بقيلة، قصر العدسيين، والعدسيون من "كلب" نسبوا إلى امهم، وهي كلبية أيضاء. وذكر انه كان في طرف الحيرة، لبني عمار بن عبد المسيح بن قيس بن حرملة بن علقمة بن عدس الكلبي، نسبوا إلى جدتهم "عدسة بنت مالك بن عوف الكلبي"، وهي "أم الرماح" و "المشط" ابني عامر المذمم.
وعدة قصور الحيرة ثلاثة على ما ورد في بعض الروايات. وهي عدة الحيرة وملاجئها أيام الخطر، فإذا سقطت، سقطت الحيرة، لأنها هي المكونة لها. وقد صالحت "خالد بن الوليد" لما وجدته إن ليس في استطاعتها الصمود أمام المسلمين. ولم يكن لها على ما يظهر من روايات أهل الأخبار سور.

(1/2063)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن مواضع الحيرة، "ربيعة بني مازن"، لقوم من الأزد من بني عمرو ابن مازن من الأزد، وهم من غسان. و "دير هند"، لأم "عمرو بن هند بن ماء السماء"، و "ربيعة بني عدي بن الذميل" من لخم.
وقد هدمت قصور الحيرة التي كانت لآل المنذر واستخدمت حجارتها وأنقاضها لبناء المسجد الجامع بالكوفة ولأبنية اخرى، وقد عوض أصحاب القصور عنها. وفقا لما جاء في "قراطيس هدم قصور الحيرة". وقد هدم بعض الخلفاء العباسيين قصور الحيرة وأزالوا بذلك من معالمها. منهم? الخليفة "أبو جعفر المنصور"، فقد هدم "الزوراء"، وهي دار بناها النعمان بن المنذر على ما يذكره أهل الأخبار.
وذكر "اليعقوبي" إن الحيرة "هي منازل آل بقيلة وغيرهم"، وان علية أهل الحيرة نصارى، منهم من قبائل العرب من بني تميم ومن "سليم" ومن "طيء" وغيرهم. وان "الخورنق" بالقرب منها مما يلي المشرق، وبينه وبين الحيرة ثلاثة أميال، والسدير في برية.
وكان الفرس يستعينون بعرب الحيرة في أمر الترجمة فيما بينهم وبين العرب. ومن هؤلاء أسرة "عدي بن زيد العبادي" على نحو ما ذكرت. وترجمان كان يترجم ل "رستم" اسمه "عبود". وكان عربيا من أهل الحيرة. كما استخدم المسلمون تراجمة، ليترجموا ما كان يدور بينهم وبين الفرس من حوار، أو بينهم وبن من يقبضون عليه من أسرى الفرس، من هؤلاء رجل اسمه "هلال الهجري". واستخدموا كتبة لكتابة الكتب والأخبار، ذكروا منهم "زياد بن أبي سفيان.
لا وقد استعان الفرس ببعض "آل لخم" لمحاربة العرب ولاشغالهم، في معارك صغيرة، من هؤلاء "قابوس بن قابوس بن المنذر"، وقد كلفه "الآزاذبة مرد بن الآزاذبة" بالذهاب إلى "القادسية" لأشغال المسلمين، وأن يكون للفرس كما كان آباؤه قبله من النضر والعون، فنزل القادسية، وكاتب بكر بن وائل، بمثل ما كان النعمان يكاتبهم به، فلما بلغ خبره المسلمون حاصروه.

(1/2064)


--------------------------------------------------------------------------------

والقادسية موضع مهم جدا من الوجهة العسكرية، وقد قال عنه الخليفة "عمر" في كتابه الذي وجهه إلى "سعد" بأنه "باب فارس" وأجمع أبوابهم لمادتهم. وقد وضعوا ما بعده الحصون والقناطر والأنهار لحماية مواقعهم من وقوعها في أيدي من قد يأتي إليهم من البادية. وأهله من العرب، وكان الفرس قد أقاموا فيه مسالح عبثت بجنود من فارس، للدفاع عن خطوطهم الأمامية، ولمشاغلة الغزاة إلى حين وصول المدد الكبير.
وممن ساعد الفرس ودافع عنهم "النعمان بن قبيصة" ظ وهو ابن "حية الطائي" ابن عم "قبيصة بن اياس بن حية الطائي" صاحب الحيرة، وكان مرابطا في قصر "بني مقاتل"، وكان منظرة له. وقد قتله "سعد بن عبد الله بن سنان الأسدي" لما سمعه يستخف بقريش وبالقريشيين. فلما سأل عن "سعد بن أبي وقاص"، وقيل له انه من قريش، قال: "إما إذا كان قرشيا فليس بشيء، والته لأجاهدنه القتال، إنما قريش **** من غلب، والله ما يمنعون خفيرا، ولا يخرجون من بلادهم إلا بخفير".

(1/2065)


--------------------------------------------------------------------------------

ونجد في "فتوح الشام" للواقدي، خبرا مفاده إن "سعد بن أبي وقاص" لما وجهه الخليفة "عمر" إلى العراق قدم ارض "الرحبة"، فاتصلت الأخبار ب "اليعمور بن ميسرة العبسي"، فكتب إلى كسرى يخبره بمجيئه إلى هذا المكان، وان "سدا" لما ارتحل من "الرحبة" إلى "الحيرة البيضاء" في ثلاثين ألفا من بجيلة والنخع وشيبان وربيعة واخلاط العرب، وجد هناك جيش "النعمان بن المنذر"، وقد ضرب خيامه والسرادقات إلى ظاهرها، وهو في ثمانين ألفا من جميع عرب العراق، فكتب "النعمان" إلى "كسرى" بمجيئهم وحث عربه على الصمود وعلى مقاومة سعد قائلا لهم: "إن هؤلاء عرب وأنتم عرب وهلاك كل شيء من جنسه" "وليس لأصحاب محمد فخر يفتخرون به علينا، ولكن نحن لنا الفخر عليهم. وهم يزعمون إن الله بعث فيهم نبيا وأنزل عليهم كتابا يقال له القرآن،، ونحن لنا الإنجيل وعيسى بن مريم، وجميع الحوارين، ولنا المدبح، ولنا القسوس والرهبان والشمامسة، وعلى كل حال ديننا عتيق ودينهم محدث، فاثبتوا عند اللقاء وكونوا عند ظن الملك كسرى بكم". ويذكر رواة هذا الخبر إن عم "النعمان بن المنذر"، وكان صاحب حرسه، دخل إليه وقال له" إن أعداءنا قد أنفذوا إلينا رسولا، فأمر بإدخاله عليه، وكان الرسول "سعد بن أبي **** القاري"، فلما وقف بين يدي النعمان صاح به الحجاب والغلمان: قبل الأرض للملك فلم يلتفت إليهم، وقال: إن الله أمرنا إن لا يسجد بعضنا لبعض. ولعمري إن هذه كانت العادة المعروفة في الجاهلية قبل إن يبعث الله نبيه محمدا، فلما بعث جعل تحيته السلام، وكذا كانت الأنبياء من قبله. وأما السلام، فهو من أسماء الله تعالى، وأما تحيتكم هذه، فهي تحية جبابرة الملوك. فقال النعمان" لسنا من الجبابرة، بل نحن أجل منكم، لأنكم توحدون في دينكم وتقولون إن الله واحد وتوحدون ولده عيسى بن مريم". ويذكرون إن "سعدا" جادل "النعمان" في طبيعة "المسيح"، فأعجب بكلامه. ثم كلمه في الإسلام أو دفع

(1/2066)


--------------------------------------------------------------------------------

الجزية، فغضب "النعمان"، وقال له: "لا ويح قومك، فليس عندنا جواب إلا السيف".
وتقدمت جيوش المسلمين حتى التحمت بجيش "النعمان" بظاهر الحيرة، وان "القعقاع بن عمرو التميمي" أو "بشر بن ربيعة التميمي"، أحدهما التقى بالنعمان في كبكبة من الخيل والازدهارات على رأسه، فحمل القعقاع أو بشر على الكبكبة ففرقها، وعلى الكتيبة فمزقها وعلى النعمان بطعنة في صدره فقتل. فلما نظرت جيوش الحيرة إلى الملك النعمان مجندلا ولوا الأدبار يريدون القادسية نحو جيش الفرس. وأخذ المسلمون أسرى وغنائم، واحتوى "سعد" على قصر الخورنق والسدير، وترك جميع ما أخذه بالحيرة. وتحرك نحو القادسية. وكانت أخبار هزيمة النعمان قد وصلت الفرس وهم بالقادسية، وقد وصلت إليهم الفلول المنهزمة من جيش النعمان، فوقع التشويش في عسكر الفرس، وخارت قواهم، مما أدى إلى انتصار المسلمين عليهم في هذا المكان.
ولا نجد هذا الخبر في أي مورد آخر من موارد أهل الأخبار، فقد نصت جميع الموارد الأخرى على إن النعمان كان قد لقي مصرعه على نحو ما تحدثت عنه في أثناء كلامي على مملكة الحيرة. فلعل "النعمان" هذا هو أحد أبناء "آل لخم"، واستعان به الفرس للدفاع عن الحيرة ومنوه في مقابل مساعدته لهم بالملك، كما استعانوا ب "قابوس بن قابوس". وقد يكون خبره من صنع أهل الأخبار، اقتحموا اسمه إقحاما، وما فطنوا إلى انه كان قد توفي قبل هذا الوقت بسنين، على كل ففي الخبر كلام منمق وحوار وجدل ينبئك لونه إن فيه تكلفا وصنعة، وان الخبر قد وضع وضعه أناس، لغايات لا مجال للبحث عنها في هذا المكان. وسار "خالد" من "الحيرة" إلى الأنبار، فحاصرها، وكان أصحاب النعمان وصنائعه يعطون أرزاقهم منها، ثم صالحهم، ثم أتى "خالد" سد مواقع أخرى "عين التمر".

(1/2067)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان على رأس العرب الذين عاونوا الفرس وانحازوا إليهم" "عقة بن أبي عقة" و "هلال بن عقة بن قيس بن البشر" الثمري، على النمر بن قاسط بعين التمر، و "عمرو بن الصعق" و "بجير" أحد بني عتبة بن سعد بن زهر، والهذيل بن عمران، وسهم رجال من قبائلهم. ولكنهم لم يتمكنوا من الوقوف أمام "خالد بن الوليد"، إذ انهزم جندهم، وأسر "عقة" و "عمرو بن الصق"، وكان "عقة" خفير القوم، وسقط حصن عين التمر في الإسلام. وورد في خبر آخر إن "خالد" قتل "هلال بن عقة" "هلال بن عقبة"، وصلبه. وكان من "النصر بن قاسط"، وكان خفيرا بعين التمر.
وتعرف "عين التمر" ب "شفاثا" "شفاثى" وب "عين شفته"، وقد اشتهرت بالقسب والتمر، وكانت تصدرهما إلى البادية والى أماكن أخرى، ويقصدها الأعراب للأمتيار. وبها حصن يتحصن به وعين ماء. ولما اقترب المسلمون منها، كان بها "مهران بن بهرام جوبين" في جمع عظيم من الفرس للدفاع عنها ومعه جمع عظيم من النمر وتغلب وأياد ومن لآفهم، ولكنهم غلبوا على أمرهم، وفر الفرس. وكان بعين التمر مسلحة لأهل فارس.
وقد وجد "خالد" في كنيسة "عين التمر" جماعة سباهم، ووجد أولادا كانوا يتعلمون الكتابة في الكنيسة، وقد اشتهر وعرف عدد من هؤلاء الذين سبوا، واشتهر أولادهم أيضا. وقد كان من هؤلاء من كان من "بني النمر ابن قاسط" النازلين بعين التمر.
وكانت قريات السواد وهي: بانقيا وباروسما وأليس خليط من العرب ومن النبط وسواد العراق، وقد صالح أهلها "خالد بن الوليد" حينما ظهر أمامها، صالحوه على الجزية، وكان الذي صالحه عليها "ابن صلوبا السوادي" المعروف ب "بصبرى بن صلوبا"، ومنزله بشاطئ الفرات. وقد ورد في كتاب الصلح الذي أعطاه "خالد بن الوليد" له، "وقد أعطيت عن نفسك وعن أهل خرجك وجزيرتك ومن كان في قريتك-بانقيا وباروسما-ألف درهم".

(1/2068)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر "البلاذري" إن الخليفة "عمر" وجه "أبا ****ة الثقفي" إلى العراق، فلما وصل إلى هناك، وهزم "جابان" بالعذيب، ثم هزم الفرس في معارك أخرى، حتى بلغ "باروسما"، صالحه "ابن الأنذر زعر" "ابن الأندر زعر" عن كل رأس على أربعة دراهم. ولم يشر إلى الصلة التي كانت بين "ابن صلوبا" و "ابن الأنذر". انه كان ينزل بها. وان اليهود كانوا يدفنون موتاهم بها. ويذكرون إنها ارض بالنجف دون الكوفة، وان سكانها كانوا على النصرانية عند ظهور الإسلام. وان الساسانيين كانوا هم الذين يدافعون عنها ويتولون أمر إدارتها، أما شؤونها المحلية فكان أمرها بيد ساداتها ورؤسائها.
وكانت عشائر "إياد" من العشائر التي نزحت إلى العراق قبل الإسلام بوقت طويل. نزل بعضهم ب"عين أباغ" ج نزل بعض منهم بسنداد. فأمروا هناك، وكثروا، واتخذوا بسنداد بيتا ذا شرفات تعبدوا له. ثم انتشروا، وغلبوا على ما يلي الحيرة. وصار لهم "الخورنق" و "السدير". فلهم "أقساس مالك". وهو مالك بن تيسر بن زهر بن إياد. ولهم دير الأعور، ودير السواء، ودير قرة، ودير الجماجم. وإنما سمي دير الجماجم لأنه كان بين إياد وبهراء القين حرب، فقتل فيها من إياد خلق، فلما انقضت الحرب، دفنوا قتلاهم عند الدير. فكان الناس بعد ذلك يحفرون فتظهر جماجم. فسمي دير الجماجم. وقيل غير ذلك، مما لا مجال لذكره في هذا الموضع.

(1/2069)


--------------------------------------------------------------------------------

وكانت إياد تغير على السواد وتفسد. فجعل "سابور" ذو الأكتاب مسالح بالأنبار وعين التمر وغير. هاتين الناحيتين. لحماية الحدود منهم. ثم إن إيادا أغارت على السواد في ملك كسرى أنوشروان، فوجه اليهم جيوشا كثيفة. فخرجوا هاربين، واتبعوا، فغرق منهم بشر، وأتى فلهم "بني تغلب"، فأقاموا معهم على النصرانية، فأساءت "بني تغلب" جوارهم، فصار قوم منهم إلى الحيرة، ودخل منهم في جند ملوك الحيرة، ولحق جلهم بغسان بالشام. فلما جاء الإسلام دخل بعضهم بلاد الروم، ودخل منهم قوم في خثعم وفي تنوخ وفي قبائل أخرى.
ويقال إن مواطن إياد قبل نزوحها إلى العراق، كانت بالبحرين، واجتمعت عبد القيس والأزد على إياد، فاخرجوا عن الدار فأتت العراق.
وقد وصف "ابن قتيبة" إيادا على هذا النحو: "وكانت إياد أكثر نزار عددا وأحسنهم وجوها وأمدهم وأشدهم، وأمنعهم. وكانوا لقاحا لا يؤدون خرجا. وهم أول معدي خرج من تهامة، ونزلوا السواد وغلبوا على ما بين البحرين إلى سنداد والخورنق". فاصطدموا بالساسانيين لأنهم أغاروا على أموال فأخذوها، فهزموهم إلى الجزيرة، ووجه إليهم "كسرى" ستين ألفا فكتب إليهم "لقيط" ينبههم. وانتصر عليهم كسرى، وانقسموا ثلاث فرق. فرقة لحقت بالشام، وفرقة أقامت بالجزيرة، وفرقة رجعت إلى السواد.

(1/2070)

admin
12-31-2010, 04:26 PM
ولما سار "خالد" من "عين التمر" أتى "صندوداء" وبها قوم من كندة وإياد والعجم. وتركها واتجه نحو جمع من "تغلب" كانوا ب "المضيح"و "الحصيد" مرتدين صليهم، "ربيعة بن بجير"، فأتاهم فقاتلوه فهزمهم. ثم أغار "خالد" على "قراقر"، وهو ماء لكلب، ثم فوز منه إلى "سوى"، وهو ماء لكلب أيضا. ومعهم فجه قوم من "بهراء"، فقتل "حرقوص بن النعمان البهراني"؛ من "قضاعة". وكان المسلمون لما انتهوا إلى "سوى" وجدوا "حرقوصا" وجماعة معه يشربون ويتغنون فهجموا عليهم وقتلوا "حرقوصا". وخرج خالد من "سوى" إلى "الكواثل"، ثم أتى "قرقيسيا" وانحاز إلى البر، وأتى "أركه "أرك"، فأغار على أهلها، وفتحها، وسار منها نحو "دومة الجندل".
وذكر "ابن سعد" إن الرسول كتب إلى "نفاثة بن فروة بن الدئلي ملك السماوة"، ولم يشير إلى موضع ملكه من بادية السماوة ومقداره في البادية.
وكانت "دومة الجندل" عند ظهور الإسلام في ملك "أكيدر بن عبد الملك الكندي السكوني". والسكون من كندة، فهو كندي النسب أيضا. وكان يتنقل في البادية فيصل إلى الحيرة والى أرض الغساسنة، ويقال إنه ملك "دومة الحيرة" ونزل بها قبل جلائه عن "دومة الجندل" أو بعده على رأي أهل الأخبار. وكان مثل أكثر رؤساء القبائل في العراق وفي البادية وبلاد الشام على النصرانية، وله عقود ومعاهدات مع القبائل العربية الشمالية الضاربة في البادية، تأتي إلى مقره في الموسم أيام افتتاح السوق لتمتار ولبيع ما تحمله من تجارات.
وكان لأكيدر بن عبد الملك أخ اسمه "بشر بن عبد الملك"، يذكر أهل الأخبار انه ذهب إلى الحيرة، وتعلم بها الخط، ثم رجع إلى مكة فتزوج "الصهباء بنت حرب" أخت أبي سفيان.

(1/2071)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد أرسل الرسول خالد بن الوليد إلى دومة الجندل ليفتحها، فسار خالد على رأس خيل إلى "دومة"، فلما بلغها وجد الأكيدر خارج حصنه يصطاد مع نفر من قومه فيهم أخ له يقال له: حسان، فهجم رجال خالد على الأكيدر وأسروه، وقتل حسان، وأخذ خالد قباء "أكيدر" وكان من ديباج مخوص بالذهب، وبعث به إلى الرسول ليقف عليه المسلمون، فلما رأوه عجبوا منه وجعلوا "يلمسونه بأيديهم، ويتعجبون منه، فقال رسول الله" أتعجبون من هذا. فوالذي نفس محمد بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا". وقد زاد عجبهم حين وصل خالد ومعه أسيره "أكيدر"، فحقن له دمه، وصالحه الرسول على الجزية، ثم خلى سبيله، فرجع إلى قريته.
ويذكر الرواة إن الرسول استقبل خالدا ومعه أسيره "الأكيدر" في المدينة، فعرض الرسول الإسلام على الأكيدر، فقبله وحقن الرسول دمه وكتب له كتابا، وعاد إلى "دومة". فلما قبض النبي منع الصدقة وارتد إلى النصرانية ديانته الأولى. وخرج من دومة الجندل فلحق بالحيرة وابتنى بها بناء على مقربة من "عين التمر" سماه "دومة" أو "عومة الجندل" على اسم موضعه، وسكن هناك. ثم عاد إلى "دومة الجندل"، وتحصهن بها، فأمر "أبو بكر" خالد بن الوليد بالتوجه إليهم فسار إليه وقتله. أما أخوه "حريث بن عبد الملك" فقد أسلم، وحقن دمه. وقد تزوج "يزيد بن معاوية" إبنة له.
وتذكر رواية أخرى إن "الأكيدر" بعد إن نقض الصلح وعاد إلى نصرانيته، أجلاه "عمر" من "دومة" فيمن أجلى من مخالفي الإسلام إلى الحيرة، فأقام في موضع قرب "عين التمر"، ابتناه فسماه "دومة" وقيل "دوماء" باسم حصنه. وهي رواية. لا تتفق مع المشهور بين أهل الأخبار من إن خالدا قتل "الأكيدر" في السنة الثانية عشرة أو السنة الثالثة عشرة من الهجرة، وذلك في أيام "أبي بكر" بعد إن أمره ا الخليفة بالتوجه إليه. وهي رواية أقوى من الرواية المتقدمة في نظر المؤرخين.

(1/2072)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر إن أهل "دومة الجندل" كانوا قد سمعوا بخبر مسير "خالد إليهم، فأرسلوا إلى حلفائهم وأحزابهم من بهراء وكلب وغسان وقبائل تنوخ والضجاعم ليساعدوهم في الوقوف أمامه. فأتاهم "وديعة" في "كلب" وبهراء، وسانده "رومانس بن وبرة بن رومانس" الكلبي، وجاءهم "ابن الحدرجان" في الضجاعم، و "جبلة بات الأيهم" في طوائف من غسان وتنوخ. وكذلك "الجودي بن ربيعة الغساني". وكان من المتزعمين في "دومة"، وقد احتمى أهل "دومة" بحصنهم وخلف أسوار المدينة، والتفت حول السور من الخارج نصارى العرب الذين جاؤوا لمساعدة أهلها. وقد تمكن "خالد" يساعده "عياض" من التغلب على أهل المدينة وحلفائهم، وقتل رؤساءهم، ودخل المدينة منتصرا، فغنم جيشه غنائم كثيرة وقتل من أهلها خلق كثير. وسبي ابنة "الجودي". وكان الأكيدر في جملة القتلى.
وكان الرسول قد غزا "دومة الجندل" بنفسه، وذلك في شهر ربيع الأول من السنة الخامسة من الهجرة، وبلغها، ولم يلق كيدا. كان سبب غزوه لها، إن رسول الله أراد إن يدنو إلى أراضي الشام، لأن ذلك مما يفزع الروم، ثم أن أهل دومة الجندل كانوا يظلمون من يمر بهم وبنزل عندهم، ومن يحل بسوقهم للبيع والشراء، وقد كان الناس يذهبون إليها ويعودون إلى المدينة، فقرر غزوها، فلما وصل الرسول كان أهلها قد فروا وتركوا قريتهم، فنزل بها ولم يجد احدا، فرجع عنها، وذلك قبل غزو خالد لهما.
وورد في سبب غزو الرسول لها، إن جمعا من قضاعة ومن غسان تجمعوا، وهموا بغزو الحجاز. فسار في ألف انتخبهم، فلما انتهى إلى موضعهم ألفاهم قد تفرقوا أو هربوا، لم يلق كيدا.
وفي هذه الغزوة وادع رسول الله "عيينة بن حصن" على إن يرعى ب "تغلمين" وما والاه إلى "المراض".

(1/2073)


--------------------------------------------------------------------------------

ويفهم من حديث بعض أهل الأخبار عن "دومة الجندل"، إنها كانت قرية عادية، إلا إن الدهر كان قد لعب بها، فخربت وقل عدد من كان بها، إلى إن نزل بها "أكيدر"، فأعاد إليها رواءها، وغرس الزيتون بها، فتوافد إليها الأعراب. ويذكر هؤلاء إن "أكيدر"، كان ينزل مع اخوته قبل مجيئه إلى "دومة" "دومة الحيرة"، ولما جاء يزور أخواله من "كلب" و نزل بخرائب "دومة الجندل" أعجبته فنزل بها، وأمر باعادة بناء ما تهدم من حائطها وببعث الحياة بها حتى صارت قرية عامرة يقصدها الأعراب للبيع والشراء. وصار "اكيدر" يتردد بينها وبين "دومة الحيرة".
ويحمي "دومة" سور قديم، بني قبل "اكيدر" في زمان لا يحيط علم أهل الأخبار به. يقولون انه بني من "الجندل"، وانه هو الذي جعل الناس يسمون الموضع ب "دومة الجندل". ويذكرون انه كان في دخل السور حصن منبع يقال له "مارد"، وهو حصن "اكيدر بن عبد الملك بن الحي بن أعيا ابن الحارث بن معاوية بن خلاده بن ابامه بن سلمة بن شكامة بن شبيب بن السكون بن اشرس بن شور بن عفير، وهو كندة" فهو سكوني كندي.
وحصن "مارد"، حصن شهير له ذكر بين أعراب الشمال بني قبل أيام "اكيدر". قال عنه بعض أهل الأخبار انه حصن عادي، أي من الحصون الجاهلية القديمة. وقد رأينا فيما سلف إن "دومة" من المواضع المعروفة التي يعود عهدها إلى ما قبل الميلاد. وذكر أهل الأخبار، إن سكانها كانوا أصحاب نخل وزرع، يسقون على النواضح، وحولها عيون قليلة وزرعهم الشعير. وإنها. "دوماء الجندل" أيضا.

(1/2074)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان اكثر سكان "دومة الجندل" من "بني كنانة" من "كلب". ويعدها بعض أهل الأخيار من "القريات" ويقصدون بمصطلح "القريات": دومة وسكاكة وذو القارة. وتحيط بدومة مستوطنات وقرى تحتمي بسلطان حاكم "دومة". وكان "اكيدر" يلقب نفسه بلقب "ملك" على عادة ذلك الوقت في تلقيب سادات المواضع أنفسهم بهذا اللقب، وان كان لا يعني في الواقع اكثر مما يعنيه مصطلح "شيخ" في الوقت الحاضر.
وكان أهل "دومة" على النصرانية، شأنهم في ذلك شأن اكثر أهل القرى في العراق وفي بادية الشام وبلاد الشام. وكان أهل "اكيدر" على هذه الديانة أيضا. إذ ورد إن الرسول أرسل "عبد الرحمن بن عوف" على رأس جيش إلى دومة، فذهب إليها ودخلها، وأسلم "الأصبغ"، وتزوج عبد الرحمن ابنته "تماضر"، اذ كان الرسول قد كتب إليه إن يتزوج ابنة ملكها، أي ملك "دومة"، وهو "الأصبغ". فيظهر من هذا الخبر، إن "الأصبغ" كان يلقب نفسه بلقب "ملك" أيضا، وأنه كان يحكم "دومة" في أيام الرسول. في نفس الوقت الذي كان فيه "الأكيدر" يحكم "دومة"، ويلقب نفسه بلقب "ملك".
وذكر بعض الأخباريين إن أهل دومة الجندل كانوا من عباد الكوفة ويقصدون بذلك انهم كانوا نصارى، فقد كانت عادتهم إطلاق لفظة "عباد" على النصارى العرب، عرب الحيرة بصورة خاصة. وقصدوا بالكوفة، الحيرة، لأن الكوفة لم تكن موجودة في الجاهلية، اذ بنيت في أيام الخليفة "عمر".

(1/2075)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من أهل الأخبار إن "اكيدر السكوني" لم يتمكن من تثبيت ملكه على "دومة الجندل" بصورة دائمة، اذ كان ينافسه زعماء كلب الأقوياء. فقد ذكر "محمد بن حبيب" إن ملكها كان بين "اكيدر العبادي ثم السكوني وبين قنافة الكلبي. فكان العباديون إذا غلبوا عليها وليها اكيدر، واذا غلب الغسانيون ولوها قنافة. وكانت غلبتهم إن الملكين كانا يتحاجيان فأيما ملك غلب صاحبه بإخراج ما يلقى عليه، تركه والسوق فصنع فيها ما شاء. ولم يبع بها أحد شيئا إلا باذله حتى يبيع الملك كلما أراد بيعه مع ما يصل إليه من عشورها". ويؤيد هذا الخبر ما ذكرته من وجود ملك آخر على دومة، هو "الأصبغ" الكلبي المتقدم الذكر.
وهناك خبر آخر يفيد إن "الجودي بن ربيعة"، كان مثل "الاكيدر" رئيسا على "دوفة"، وان الإثنين كانا رئيسين عليها. وورد انه كان من غسان وأن اسمه "عدي بن عمرو. بن أبي عمرو الغساني"، وأن "عبد الرحمن ابن أبي بكر"، "كان يختلف إلى الشام في تجارة قريش في الجاهلية، فرأى هناك امرأة يقال لها: ابنة الجودي من غسان، فكان يهذى بها، ويذكرها كثيرا في شعره"، "وأصيبت حين غزو الروم ليلى ابنة الجودي، فبعثوا بها إلى عبد الرحمن بن أبي بكر لذكره إياها".0 فه إذن على هذه الرواية من غسان.
ويظهر من غربلة روايات الأخباريين إن هنالك موضعا آخر عرف ب "دومة" و "دوماء". يقع في العراق على مقربة من "عين التمر"، ذكر الأخباريون إن اسمه "دومة" و "دوما" و "دومة الجندل". ونسبوا كما ذكرت قبل قليل بناءه إلى "الاكيدر". وهو موضع لا نعرف من أمر تأريخه شيئا يذكر.
وذكر إن "حارثة بن قطن"، و "حمل بن سعدانة بن حارثة بن مغفل"، وهما من "كلب" قدما إلى رسول الله وأسلما، فكتب رسول الله لحارثة كتابا "لأهل دومة الجندل وما يليها من طوائف كلب مع حارثة بن قطن"، ثم بين ما على المذكورين من حقوق وواجبات، وما عليهم من إحكام فرضها الإسلام على المسلمين.

(1/2076)


--------------------------------------------------------------------------------

وترك "خالد" "دومة الجندل"، ثم أتى "قم"، فصالحه "بنو مشجعة بن التيم بن النمر بن وبرة بن ثعلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة"، وكتب لهم امانا. ثم أتى "تدمر"، فأمنهم، ثم أتى "القريتين"، ثم "حوارين" من "سنير"، ثم أتى "مرج راهط"، فأغار على "غسان".
وكان "حاضر" "قنسرين" لتنوخ، من أول ما تنخوا بالشام، نزلوه وهم في خيم الشعر. ثم ابتنوا به المنازل. فسعاهم "أبو ****ة" إلى الإسلام، فأسلم بعضهم وأقام على النصرانية "بنو سليح". وكان بهذا الحاضرقوم من "طيء"، نزلوه بعد حرب الفساد التي كانت بينهم حين نزلوا الجبلين. فلما ورد "أبو ****ة" عليهم اسلم بعضهم وصالح كثير منهم على الجزية، ثم اسلموا بعد ذلك.
وقضاعة قبائل عديدة، منها "بنو جرم بن ربان" و "بنو سليح" و "تزيد" ابنا "عمران بن الحاف بن قضاعة" و "كلب بن وبرة"، وهو قبيل عظيم. منهم "الأسبع"، ومن قبائل قضاعة "عذرة بن زيد اللآت" و "ال**** بن زيد اللآت"، و "بنو كنانة"، و "بنو جناب بن هبل"، و "بنو عليم بن جناب"، و "بنو مصاد"، و "بنو حصن"، و "بنو معقل". ومن "بني جناب" "بحدل بن أتيف"، ج، "يزيد بن معاوية" لأمه. ومن رجالهم "ابن الجلاح"، وكان قائدا للحارث بن أبي شمر. الجفني، واسمه "النعمان". وهو الذي أغار على "بني فزارة" و "بني ذبيان"، ماستباحهم وسبي "عقرب" بنت النابغة، ومن عليها، فمدحه "النابغة".
وقد انتشرت بطون "كلب" في ارضين واسعة، شملت دومة الجندل وبادية السماوة والأقسام الشرقية من بلاد الشام. ولما أخرج الروم عن ديار الشام، لعبت بطون كلب دورا بارزا في السياسة، إذ أيدت الاموين، وتزوج "معاوية" "ميسون" أم "يزيد" وهي كلبية، فصارت كلب في جانب الامويين.

(1/2077)

ومن قبائل "قضاعة"، "بنو عامر الاجدار". ومن رجال "بني وبرة" غير كلب، "بنو القيس بن جسر"، و "بنو مصاد بن مذعور" و "بنو زهير بن عمرر بن فهم". ومن قبائل "جرم بن ربان": "بنو اعجب" و "بنو طرود" و "بنو شميس". ومن بطون "جرم": "بنو خشين"، ومن رجالهم "رأس الحجر"، وقد رأس في الجاهلية وأخذ المرباع. ومن رجال "جرم"، "عصام بن شهبر"، حاجب النعمان. وكان النعمان إذا أراد إن يبعث بألف فارس بعث بعصام.
وقد ذهب وفد من "جرم" إلى المدينة، فيه "الاصقع بن شريح بن صريم" و "هوذة بن عمرو"، فأسلما، وكتب الرسول لهما كتابا. وذهب وفد آخر، اخبر الرسول بإسلام حواء من جرم، كان عليه "سلمة بن قيس الجرمي" ومعه ابنه "أبو زيد عمرو بن سلمة بن قيس الجرمي".
وقد ساعد الغساسنة الروم في حروبهم مع المسلمين، وكان على رأسهم "جبلة ابن الايهم الغساني"، الذي حارب مع مقدمه جيش الروم في مستعربة الشام من غسان ولخم وجذام وغيرهم يوم اليرموك. ثم انحاز "جبلة" إلى المسلبين، وأظهر الإسلام، ثم عاد، ففر إلى بلاد الروم، واستقر بها، وبها مات. وقد استمر "المستعربة" يناصرون الروم، فلما تراجع قوادهم نحو الشمال لضغط المسلمين عليهم، التحق بهم هؤلاء "المستعربة" من غسان وتنوخ وإياد، وقد التحموا بالمسلمين في "درب بغراس".
ويذكر الأخباريون إن "دمشق" كانت منازل ملوك غسان. وبها آثار لآل جفنة. والظاهر، انهم كانوا قد اشتروا وابتنوا بها قصورا، عاشوا فيها، ومنها كانوا يتصلون بكبار الموظفين الحاكمين البيزنطيين. فإذا أرادوا الاتصال بقومهم الغساسنة عادوا إلى قصورهم بين قومهم. وكانت الغوطة: غوطة دمشق من المناطق التي سكن بها الغساسنة.

(1/2078)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من رواية يرجع سندها إلى "محمد بن بكر الغساني" عن قومه "غسان" إن الغساسنة لم يقبلوا على الإسلام إقبال غيرهم من العرب، وانهم لم يسلموا إلا بعد فتوح الشام. ولما. ذهب ثلاثة نفر منهم إلى المدينة، وأسلموا وبايعوا الرسول، لم يستجب قومهم لهم في دعوتهم إلى الإسلام، فكتموا أمهرهم عنهم، خوفا من بطش قومهم بهم.
وورد في أخبار الرسل الذين أرسلهم الرسول إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام، إن الرسول أرسل "شجاج بن وهب" إلى "الحارث بن أبي شمر الغساني" من غسان، وكان يقم إذ ذاك بغوطة دمشق في قصر منيف، ليدعوه إلى الإسلام، فلما دفع "شجاع" كتاب رسول الله إلى "الحارث" رمى به، ولم يدخل في الإسلام وبقي على النصرانية حتى توفي عام الفتح.
وكان "جبلة" مع الروم يوم "اليرموك" ومعه "المستعربة" من غسان وقضاعة وذلك سنة "15" للهجرة، "وكان قد انضم إلى المسلمين بعض لخم وجذام، فلما وجدوا جد القتال فروا ونجوا إلى ما كان قربهم من القرى وخذلوا المسلمين.
وقد كان "جبلة بن الأيهم" على رأس "العرب المتنصرة" يحارب مع الروم، لمنع المسلمين من التقدم نحو "قنسرين"، ويذكر أهل الأخبار إن محاورات جرت بينه وبين المسلمين في موضوع اشتراكه مع الروم، وعنا محاورات مع "خالد بن الوليد" صاغوها بأسلوب قصصي منمق، وذكروا انه كان جالسا "على كرسي من ذهب أحمر وعليه ثياب الديباج الرومي وعلى رأسه شبكة من اللؤلؤ وفي عنقه صليب من الياقوت. وكان ذلك بعد ارتداده عن الإسلام، فلما غلب الروم، "كان جبلة أول من انهزم والعرب المتنصرة أثره".

(1/2079)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن الغساسنة "شرحبيل بن عمرو الغساني"، الذي قتل رسول رسول الله "الحارث بن عمير الأزدي"، الذي كان الرسول قد بعثه إلى ملك "بصرى". فما نزل "مؤتة" قتله "شرحييل". فأمر رسول الله بإرسال حملة عليه، سنة ثمان للهجرة جعل أمرها "زيد بن حارثة". ولما سمع بها "شرحبيل" جمع جمعا من قومه وتقدم نحوهم، وكانوا قد نزلوا "معان". وبلغ المسلمين إن "هرقل" كان قد نزل "مآب" من أرض البلقاء في جمع من بهراء ووائل وبكر ولخم وجذلم والقين، عليهم "مالك بن رافلة" الاراشي من "بلي"، فانحازوا إلى "مشارف"، ولما دنا العدو انحازوا إلى "مؤتة"، وقتل فيها في فيها "جعفر بن أبي طالب"، و "عبد الله بن رواحة" و "ثابت بن رواحة" و "ثابت بن أرقم"، ثم "زيد بن حارثة"، ثم تراجعوا إلى المدينة. وقتل من العرب الذين كانوا مع الروم "مالك بن رافلة" "زافلة". واعتزل بعض "حدس" وهم "بنو غنم" الحرب، لإشارة كاهنتهم عليهم بذلك، فأخذوا بقولها، فاعتزلوا عن "بني لخم" وصلم الحرب بعض منهم، وهم "بنو ثعلبة".
وكان بقرب "حلب" حاضر، عرف ب "حاضر حلب"، جمع أصنافا من العرب من تنوخ، فصالحهم "أبو ****ة" على الجزية. ويرجع هذا الحاضر إلى أيام الجاهلية، فقد كان العرب قد توغلوا إلى هذه الديار قبل ظهور الإسلام، وأقاموا في الحواضر بظواهر المدن يتعيشون من اتصالهم بأهل تلك المدن.

(1/2080)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم تكن الرابطة الدينية التي ربطت بين أكثر عرب بلاد الشام والبيزنطيين، هي العامل الوحيد الذي جعل أولئك العرب ينضمون إلى صفوف الروم في الدفاع عنهم وفي مقاومة جيوش المسلمين، بل كانت هنالك عوامل أخرى، مثل المنافع المادية التي كان يجنبها سادات الأعراب من البيزنطيين، حيث كانوا ينالون هدايا ورواتب منهم في مقابل حماية الحدود والمحافظة عليها من غارات الأعراب وفي مقابل الغارات التي كان البيزنطيون يكلفونهم بها لغزو حدود العراق لازعاج أعدائهم الفرس وقت الحاجة والضرورة، ومثل التسهيلات التي كانوا ينالونها من البيزنطيين في الإتجار مع مدن الشام وفي معاملات البيع والشراء والرواتب السخيفة التي تدفع للأعراب إذا خدموا في صفوف العساكر المتطوعة، وهي رواتب سخية إذا قيست بالنسبة لحالة أهل البادية المنخفضة من الناحية المادية كثيرا بالنسبة إلى حالة سكان بلاد الشام.
وكان "الحيار": "حيار بني القعقاع" بلدا معروفا قبل الإسلام. وبه كان مقبل "المنذر بن ماء السماء" اللخمي، ملك الحيرة. فنزله "بنو القعقاع" من "عبس بن بغيض".
وكانت البلقاء في أيدي قبائل من العرب مثل لخم وجذام وبلقين وبهراء وبلي، وهي قبائل يطلق عليها المؤرخون اسم "المستعربة". وكانوا على النصرانية في الغالب، لذلك كان هواهم إلى جانب الروم. فكانوا معهم في غزوة "مؤتة" يقاتلون مع "هرقل" ضد المسلمين وعليهم "مالك بن رافلة" وهو من "بلي" ثم أحد إراشة. وكان المسلمون إذ ذاك في "معان". وهي من أعمال البلقاء يستعدون للروم. وكان صاحب هذه المدينة في أيام الرسول رجلا من "جذام"، هو "فروة بن عمرو الجذامي". وكان عاملا للروم على من يليهم من العرب، ومنزله بمعان. فلما أرسل فروة رسولا عنه إلى الرسول يبلغه بإسلامه، قبض الروم عليه وحبسوه، ثم ضربوا عنقه وصلبوه.

(1/2081)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن "لخم" "بنو السار بن هانىء". وقد قدم وفد منهم على رسول، الله منصرفه من "تبوك"، فيه" "تميم بن أوس بن خارجة الداري" و "نعيم ابن أوس بن خارجة"، و "يزيد بن قيس بن خارجة"، و "الفاكه بن النعمان بن جبلة بن صفارة"، و "جبلة بن مالك بن صفارة"، و"أبو هند" و "الطيب" إبنا "ذر". وهو "عبد الله بن رزين بن عميت بن ربيعة در اع"، و "هانىء بن حبيب" و "عزيز" و "مرة" إبنا "مالك بن سواد بن جذيمة"، فأسلموا، وأهدى "هانىء بن حبيب" لرسول الله، راوية خمر وأفراسا وقباءا مخوصا بالذهب. فقيل الأفراس والقباء. وقال تميم: لنا جيرة من الروم لهم قريتان يقال لإحداهما "حبرى" والأخرى "بيت عينون"، فإن فتح الله عليك الشام فهبهما لي. فوهبهما رسول الله له. فلم توفي الرسول وقام أبو بكر أعطاه ذلك وكتب له كتابا.
ولما أمر الرسول "أسامة بن زيد بن حارثة" إن يوطىء الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، تجهز معه المهاجرون الأولون، ولكن وفاة الرسول لم تمكنه من السفر، فكان أول ما فعله خليفته "أبو بكر" إن أمره بتنفيذ. ما أمره به رسول الله. ولكنه لم يتقدم كثيرا، بل بلغ الموضع الذي قتل أبوه زيد بن حارثة فيه، وهو من أرض الشام فرجع، لأن الرسول أمره في حياته بالمسير إليه.
و "الداروم" قلعة بعد غزة للقاصد إلى مصر. يجاورها عربان بني ثعلبة بن سلامان بن ثعل من بني طيء. وهم درماء وزريق.
وكانت "جذام" نازلة في "حسمى" عند ظهور الإسلام. وهي من مواطن "ثمود". و "جدام" من نسل "جذام" شقيق "عاملة" و "لخم" أبناء "عدي بن الحارث بن مرة بن كهلان". واسم "جذام" الحقيقي في رأيهم "عمرو".وتقع أرض جذام في الأقسام الجنوبية من بلاد الشام، وتصل إلى "أيلة" ثم تمتد مع الساحل حتى تبلغ "ينبع".

(1/2082)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرجع بعض النسابين نسب جذام إلى اليمن، ويرجها بعض آخر إلى مضر، وتوسط قوم فقالوا إنهم كانوا من مضر في الأصل، ثم غادروا ديار مضر، فذهبوا إلى اليمن، وعاشوا بين قبائل قحطان، فنسوا أصلهم بتقادم العهد، وعدوا في القحطانيين. ويظهر إن هذا الرأي هو محاولة للتوفيق بين الرأيين السابقين.. أما الذي عليه غالبية جذام، فهو إنها من قحطان.
وقد وفد رجال من "جذام" على رسول الله، منهم "رفاعة بن زيد بن عمير بن معبد الجذامي" ثم أحد "بني الضبيب"، فأسلم وكتب الرسول له كتابا. أما "فروة بن عمرو بن النافرة" الجذامي، فقد كان كما سبق إن ذكرت عاملا الروم على ما يليهم من العرب، وكان منزله "معان" وما حولها أو على "عمان"، فلما بلغهم انه كاتب الرسول وانه أسلم أخذوه فحبسوه، ثم ضربوا عنقه. ويذكر أهل الأخبار إن "فروة" كتب إلى الرسول كتابا أرسله مع "مسعود بن سعد"، وبعث إليه ببغلة وفرس وحمار، وأثواب لين، وقباء سندس مخوص بالذهب. وان الرسول كتب إلى فروة جواب كتابه. ويذكر أهل الأخبار إن الروم لما قبضوا على "فروة"، قال شعرا يذكر فيه نفسه والرسول، وقال مثل ذلك لما نقله الروم إلى موضع يقع على ماء لهم بفلسطين اسمه "عفراء"، فلما أرادوا ضرب عنقه، قال بيتا من الشعر في إسلامه وفي إيمانه.
وقد انتشرت النصرانية بين كلب، كما انتشرت بين أكثر القبائل النازلة بديار الشام. والظاهر إنها كانت على مذهب القائلين بالطبيعة الواحدة "Monophysities".
وفي جوار "الحجر" وفي شرق "حرة ليلى"، أقامت بنو عذرة، وهي من قبائل قضاعة، وتنسب إلى "عذرة بن سعد بن هذيم بن زيد بن ليث بن أسلم بن الحاف بن قضاعة". ولا نعلم من تأريخ هذه القبيلة في الجاهلية شيئا يذكر. ولم يرد اسمها كثيرا في الأيام، والظاهر إن ذلك لقلة شعرائها، فإن شعر الشعراء هو الذي خلد أسماء القبائل عند الأخباريين. ويظن إنها قبيلة "Abritai" "Abraetai" التي ذكرها "بطلميوس".

(1/2083)


--------------------------------------------------------------------------------

أما ديار هذه القبيلة، فكانت في وادي القرى وتبوك. ولكنها امتدت حتى بلغت قرب أيلة ويذكر الأخباريون إن هذه القبيلة هاجرت مع من هاجر من قبائل قضاعة بعد حربها مع حمير، فنزلت في هذه الديار ه. وتعاهدت مع قوم من يهود على مجاورتهم، وإلا تتحرش بهم وبنخيلهم وبساتينهم. وتجاور ديار عذرة ديار قبائل أخرى من قضاعة مثل نهد وجهينة وبلي وكلب، كما جاورت من الشمال قبيلة غطفان.
ولعذرة حلف مع عدد من بطون سعد هذيم، مثل بني ضنة، ويعدهم النسابون بطنا من عذرة، وكذلك مع بني سلامان. وقد عرفوا بصحار. وكان لهم حلف مع جهينة، ويرجع الأخباريون عهد هذا الحلف إلى أيام حرب قضاعة، وهي الحرب المسماة ب "حرب القريض".
وهنالك جملة قبائل ذكر الأخباريون أربعا أو خمسا قالوا إنها كانت تعرف ب "عذرة". وقد سبسب تعدد هذه الأسماء للنسابين بعض التشويش.
ويظهر من روايات الأخباريين انه كان لهذه القبيلة صلة بقريش، فزعموا إن أم "قصي" تزوجت رجلا من "بني عذرة"، وان أخاه من أمه "رزاح ابن ربيعة بن حرام" اشترك مع قريش في الدفاع عن الكعبة وفي طرد خزاعة عنها. ورووا أيضا انه كان لها صلة بالأوس والخزرج كذلك، لأن أم القبيلتين، وهي "قيلة بنت كاهل أو بنت هالك"، كانت من هذه القبيلة.
ولما قدم وفد "عذرة" على الرسول في صفر سنة تسع، وفيه "حمزة بن النعمان العذري" و "سليم" و "سعد" ابنا مالك، و "مالك بن أبي رباح"، سلموا على الرسول "بسلام أهل الجاهلية، وقالوا" نحن إخوة قصي لأمه، ونحن الذين أزاحوا خزاعة وبني بكر عن مكة، ولنا قرابات وأرحام". وكان من رجال عذرة الذين وفدوا على الرسول: "زمل بن عمرو العذري".
وذكر "ابن سد" إن الرسول كتب إلى "عشرة" في "عسيب"، وبعث به مع رجل من "بني عذرة"، فعدا عليه "ورد بن مرداس" أحد "بتي سعد هذيم"، فكسر العسيب وأسلم واستشهد مع "زيد بن حارثة" في غزوة وادي القرى أو غزوة القردة.

(1/2084)

admin
12-31-2010, 07:28 PM
ومن "جذام" "زنباع بن روج بن سلامة بن حداد بن حديدة"، وكان عشارا، مر به "عمر بن الخطاب" في الجاهلية تاجرا إلى الشام، فأساء إليه في اجتيازه وأخذ مكسه، فقال "عمر" فيه شعرا يتوعده ويهجوه، فبلغ ذلك "زنباعا" فهجز جيشا لغزو مكة، فنهي عن ذلك وأشر عليه بعدم تمكنه منها، فكف عنها.
وكانت "أيلة" في أيام الرسول، في أيدي "يوحنا بن رؤبة" "يحنة بن رؤبة". ولما سمع "يوحنا" بمجيء الرسول مع جيشي إلى "تبوك"، جاء إليه، وصالحه على الجزية، وصالحه أهل "جرباء" و "اذرح" على الجزية أيضا. كما صالح أهل "مقنا" على ربع كروعهم وغزولهم وحلفتهم وعلى ربع ثمارهم، وكانوا يهودا. وقد دون "ابن سعد" صورة كتاب ذكر إن الرسول كتبه ل "يحنة بن رؤبة" "يحنة بن روبة" وأهل ايلة "لسفنهم وسيارتهم في البر والبحر... ولمن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر".
وأورد "ابن سعد" نص كتاب أرسله الرسول إلى "يوحنا بن روبة" "يحنة ابن روبة" و "سروات" أهل ايلة" جاء فيه إن رسول الله قد أرسل إليه رسلا هم" "شرحبيل" و "أبي" و "حرملة"، و "حريث بن زيد الطائي". و "أن حرملة" قد شفع له ولأهل ايلة لدى الرسول وأن عليه إن يكسو "زيدا" كسوة حسنة. وأنه قد أوصى رسله بهم. ويظهر من هذا الكتاب، إن حامله كان "زيدا، وجاء فيه "وجهزوا أهل مقنا إلى أرضهم".
وكتب الرسول كتبا إلى أهل "اذرح" و "جربا" ولأهل مقنا، وذكر إن أهل مقنا، كانوا يهودا على ساحل البحر. وأهل جربا وافرح يهود أيضا.
إما "كلب" التي كانت ديارها تتاخم ديار جذام، فينسبها النسابون إلى "كلب بن وبرة"، وهي من القبائل التي كانت تنزل ديار الشام عند ظهور الإسلام. غير إننا لا نعرف من تأريخها شيئا يذكر قبل الإسلام.
وتتصل بديار كلب من الشرق أرض الحيرة وديار "بني بكر"، ومن الجنوب ديار طيء، ومن الغرب ديار "بنو بلي" و "جذام"، ومن الشمال "بنو بهراء" وقبائل غسان.

(1/2086)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرجع نسب "كلب" في عرف النسابين إلى قبائل "قضاعة". ومن كلب الأسبع" وهي بطون ثعلب وفهد ودب والسيد والسرحان وبرك. ومن قبائلها: ثور وكلب ورفيدة وعوذي وعرينة وقبائل أخرى يذكرها النسابون.
وينسب إلى هذه القبيلة "زهر بن جناب الكلبي"، وهو في جملة من يذكرهم الأخباريون من المعمرين. ويذكرون انه كان رئيسا من رؤساء هذه القبيلة، وانه كان شاعرا، وأنه كان في أيام "كليب وائل" و "المهلهل بن ربيعة"، ومعنى ذلك انه عاشر في القرن السادس للميلاد.
وقد ذكر الأخباريون أسماء رجال برزوا في الجاهلية، ينتمون إلى بطون هذه القبيلة، منهم "هوذة بن عمرو"، نعتوه ب "رب الحجاز"، وهذا النعت يدل على منزلة الرجل ومكانته التي كان عليها قبل الإسلام. وهو من "حر دش" وقد مدحه "النابغة "لذبياني". وقد نسب الأخباريون هوذة إلى "عص" أو "عيثر بن لبيد"، وهو في زعمهم من المعمرين في الجاهلية.
وقد وفد رجل من "كلب" على الرسول اسمه "عبد عمرو بن جبلة بن وائل بن الجلاح الكلبي"، ومعه "عاصم"، من "بني وقاش" من "بني عامر"، فأسلم. ووفد "حارثة بن قطن بن زائر بن حصن بن كعب بن عليم الكلبي" و "حمل بن سعدانة بن حارثة بن مغفل بن كعب بن عليم"، فأسلما. وكتب الحارثة بن قطن، كتابا، لأهل دومة الجندل وما يليها من طوائف كلب، دون فيه أوامره لهم ونواهيه وشروطه إن أرادوا الدخول في الإسلام.

(1/2087)


--------------------------------------------------------------------------------

وأورد "ابن سعد" صورة كتاب، ذكر إن الرسول كتبه "لبني جناب" من كلب وأحلافهم ومن ظاهرهم. وقد بين فيه الأمور التي يجب عليهم مراعاتها من حقوق وإحكام. وأشهد عليه فيه: سعد بن عبادة، وعبد الله بن انيس، ودحية الكلبي 60 ولعذرة عدة بطون، منها" بنو الجلحاء، وبنو جلهمة، وبنو زقزقة، وبنو ضنة، وبنو حردش، وبنو حن، وبنو مدلج. ويظهر من ابيات للشاعر النابغة إن "النعمان بن حارث الغساني" لما هم بغزو "بني حن" في موضعهم ب "برقة صادر"، نهاه عن ذلك، غير انه لم ينته، فأصيب غزوه بهزيمة. وحن، هم الذين قتلوا "الجلاس بن وهب بن قيس بن ****" من طيء، في الحجر. وكان الجلاس ممن اجتمعت عليه جديلة طيء.
وتبوك هي من جملة مواضع بني عذرة، وهي موضع "Thapaua" الذي ذكره "بطلميوس"، ولا نعرف من أمرها قبل الإسلام شيئا يذكر. وقد ذكرت في الفتوح، اذ وصل الرسول إليها، وصل الرسول، وصالح أهلها على الجزية، مما يدل على إن سكانها كانوا من أهل الكتاب.
وكان غزو الرسول لها سنة تسع للهجرة، اذ بلغه إن الروم قد جمعت جموعا كثيرة بالشام، وانهم قد جمعوا إليهم جمعا من لخم وجذام وعاملة وغسان وقدموا مقدماتهم إلى البلقاء، فأراد الرسول مباغتتهم قبل إن يباغتوه، فلما وصل إليها، وجد إن الروم بعيدون عنه فرجع.
ويذكر أهل الأخبار إن "بني عذرة" نصروا قصيا وساعدوه، لوجود صلة له بهم. ويظهر انه قد كان عند القدامى من "بني عذرة" كتاب في أخبارهم كانوا يرجعون إليه إذا احتاجوا إلى الوقوف على خبر يخص هذه القبيلة. فقد ذكر "أبو عمرو بن حريث العذري"، انه رجع إلى كتاب من كتب آبائه في أمر "وفد عذرة" الذي ذهب إلى الرسول .

(1/2088)


--------------------------------------------------------------------------------

وتقع ديار "غطفان" جنوب "طيء"، وشمال "هوازن" و "خيبر" والى الغرب من بلي وديار سعد. وهم من القبائل الكبيرة التي يرجع النسابون نسبها إلى "سعد بن قيس بن مضر". فهي من القبائل المضرية في اصطلاح أهل الأنساب. وهم قبائل: منهم: ريث وبغيض وأشجع، ومن بغيض ذبيان، وهو والد عبس، وأنما أجداد قبائل كبيرة. وتقع ديار أشجع على مقربة من المدينة، وأما ديار "بغيض" فتقع عند شربة والربذة، وتجاورها "خصفة بن قيس عيلان"، وسليم الذين تقع ديارهم في جنوبهم.
ومن رجال "أشجع" "مسعود بن رخيلة بن نويرة بن طريف"، وقد وفد على الرسول على رأس وفد قوامه مئة رجل، وادعوا رسول الله، ثم أسلموا.
وقد كانت بين "غطفان" وبين "بني عامر بن صعصعة" وهم بطن من هوازن حوادث وأيام. من ذلك "يوم النفراوات"، وفيه قيل خالد بن جعفر ابن كلاب العامري زهير بن جذيمة سيد عبس. وكانت هرازن تخضع لزهير. وتقدم له الإتاوة كل سنة في سوق عكاظ. فلما استبد بهم زهير، ولم يرع لهم حرمة، ولم ينصفهم، نقموا عليه. وأقسم جعفر ليقتلنه، وقد وفى بقسمه في يوم "النفراوات".
وقد غزا الرسول قوما من "غطفان"، هم من "بني محارب" و "بني ثعلبة"، حتى نزل نخلا فلقي جمعا من "غطفان"، ولم تقع بينهم حرب، وعرفت الغزوة ب "غزوة ذات الرقاع". وكانت هذه الغزوة في أول السنة الثالثة من الهجرة. وعرفت أيضا ب "غزوة ذي أمر" ناحية "النخيل". وكان قد جمعهم رجل يقال له: "دعثور بن الحارث" من "بني محارب"، وهم من الأعراب، فلما وصل الرسول إليهم، هربوا في رؤوس الجبال، ثم أسلم "دعثور" ودعى قومه إلى الإسلام.
وقد تجمع جمع من غطفان بالجناب، وأرادوا مباغتة المسلمين، فوصلت الأنباء بذلك إلى الرسول، فأرسل سرية عليهم فلت ذلك الجمع.

(1/2089)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد استجابت "غطفان" لدعوة سادات "بني النضير" أمثال: "سلام ابن أبي الحقيق"، و "حيي بن أخطب" و "كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق"، ودعوة نفر من "بني وائل"، فيهم "هوذة بن قيس الوائلي" و "أبو عمار الوائلي"، ولزعماء مكة وعلى رأسهم "أبو سفيان"، فخرجت وقائدها "عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري" في بني فزارة، و "الحارث بن عوف بن أبي حارثة المري" في "بني مرة" و "مسعود "مسعر" بن رخيلة بن نويرة بن طريف بن سحمة الأشجعي" فيمن تابعه من أشجع. واستجابت لهم "بنو سليم"، يقودهم "سفيان بن عبد شمس" وهو أبو "أبي الأعور السلمي"، وانضمت إليهم "بنو أسد" يقودهم "طليحة بن خويلد الأسدي"، وكونوا الأحزاب. وساروا باتجاه المدينة، فوجدوا المسلمين وقد حفروا خندقا حولها، حال بينهم وبين اقتحامها، ووقعت مناوشات، انتهت برجوع الأحزاب. ونجاح المسلمين في الدفاع عن أنفسهم.
ومن رجال "عبس" الذين وفدوا على الرسول "ميسرة بن مسروق" و "الحارث بن ربيع" وهو الكامل، و "قنان بن دارم"، و "بشر بن الحارث بن عبادة" و "هدم بن مسعدة"، و "سباع بن زيد"، و "أبو الحصن بن لقمان"، و "عبد الله بن مالك"، و "فروة بن الحصين بن فضالة". وذكر إن رسول الله سأل نفرا من "عبس" عن "خالد بن سنان"، فقالوا: لا عقا له، فقال: نبي ضيعه قومه، ثم أنشأ يحدث أصحابه حديث خالد.
وقد كتب الرسول إلى "بني زهير بن أقيش" كتابا، أمنهم فيه على أنفسهم وأموالهم. و "بنو أقيش" هم حي من "عكل". و "عكل" من "الرباب". وهم "تيم" و "عدي" و "عكل" و "مزينة" .وذكر إن الرسول كتب لبني اقيش في ركية بالبادية.
ومن ديار "هوازن"، "تربة"، وهي ناحية "العبلاء" على طريق صنعاء ونجران. وتقع في "عجز هوازن". وقد أرسل الرسول عليهم سرية بقيادة "عمر" وذلك سنة سبع للهجرة. وتقع ديار هوازن بغور تهامة إلى إلى بيشة والسراة وحنين وأوطاس.

(1/2090)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي جنوب شرقي "حسمى" أقامت بطون "فزارة"، وتنسب إلى "فزارة بن ذبيان بن بغيض بن غيث بن غطفان". وقد اشتركت في حرب داحس والغبراء بين عبس وذبيان، وفي معارك أخرى، وتعاونت مع يهود خيبر ضد الرسول. ومن رجال "فزارة" "خارجة بن حصن"، وكان فيمن وفد على التي من وفد "بني فزارة" سنة تسع للهجرة.
ومن "بني فزارة" في أيام الرسول "عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر"، أغار على لقاح رسول الله وهي ترعى بالغابة، وهي على بريد من المدينة، فوجه رسول الله جمعا عليه، قتل "مسعدة بن حكمة بن مالك بن حذيفة بن بدر الفزاري" و "حبيب بن عيينة"، ثم لحقهم الرسول ب "ذي قرد"، فوجدهم قد مضوا. وقد نعت النبي "عيينة" ب "الأحمق المطاع في قومه". ومن بني فزارة الذين وفدوا إلى الرسول بعد رجوعه من تبوك سنة تسع للهجرة، "خارجة بن حصن" و "الحر بن قيس بن حصن. وذكر إن "عيينة بن حصن" كان من المؤلفة قلوبهم. شهد حنينا والطائف. وكان أحمق مطاعا دخل على النبي بغير إذن وأساء الأدب، فصبر النبي على جفوته وأعرابيته. وقد ارتد وآمن بطليحة،. ثم أسر، فمن عليه الصديق، ثم لم يزل مظهرا للإسلام. وكان يتبعه عشرة آلاف قناة. وكان من الجرارة. واسمه حذيفة ولقبه عيينة لشتر عينه.
ولما خرج "زيد بن حارثة" في تجارة له إلى الشام، ومعه بضائع لأصحاب رسول الله، وكان دون "وادي القرى" لقيه ناس من "فزارة" من "بني بدر"، فضربوه وأخذوا ما كان معه، فعاد "زيد" إلى المدينة وأخبر الرسول بما حدث. فأعاده مع سرية لغزوهم، فحاصرهم، ولكنهم كانوا قد هربوا، فأسر منهم "فاطمة بنت ربيعة بن بدر" وابنتها "جارية بنت مالك بن حذيفة ابن بدر"، وقتل "النعمان" و "عبد الله" ابنا "مسعدة بن حكمة بن مالك ابن بدر".

(1/2091)


--------------------------------------------------------------------------------

وعلى السنة الجارية بن القبائل، تشتت شمل عشائر غطفان بسبب الحروب التي نشبت بينها من جهة، وبينها وبن بطون خصافة من جهة أخرى. ونعني بخصافة هوازن وسليما. وقد استمر التنافس بين عشائر غطفان وعشائر خصافة إلى ظهور الإسلام، وتميز بحوادث الفتك والاغتيالات، وبرز في هذا النزاع اسم "دريد بن الصمة" وهو من هوازن، ومعاوية وصخر أخوي الخنساء وهما من سليم.
ولما انتقل الرسول إلى جوار ربه، ارتد كثير من غطفان، وأيد بعضهم طليحة، ولم يرجعوا إلى الإسلام إلا بعد انتصاره على المرتدين.
وكان من وجوه "بني عامر بن صعصعة"، عامر بن الطفيل، وأريد بن قيس بن مالك بن جعفر، "أريد بن ربيعة بن مالك بن جعفر"، وجبار بن سلمى بن مالك، وكان هؤلاء رؤوس القوم وشياطينهم. وقد وفدوا على الرسول. ولم يسلم "عامر بن الطفيل"، بل رجع كافرا ومات على الشرك. وكان معجبا بنفسه، جريئا على الناس، من الفرسان. طلب من الرسول إن يجعل الأمر له من بعده في مقابل إسلامه، أو إن يقتسم معه الحكم على الناس مناصفة، فيكون الرسول حكم أهل الوبر، وله حكم أهل الوبر. فما قال له الرسول: " لا، ولكني أجعل لك أعنة الخيل فإنك امرؤ فارس" قال: أوليست لي? لأملأنها خيلا ورجالا. ثم ولى، فلما كان في طريقه إلى منازله مرض وهلك.

(1/2092)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان "أبو براء عامر بن مالك بن جعفر" المعروف ب "ملاعب الأسنة الكلابي"، بعث إلى رسول الله إن ينفذ إليهم قوما يفقهونهم ويعرضون عليهم الإسلام وشرائعه، فبعث إليهم قوما من أصحابه. فعرض لهم "عامر بن الطفيل" يوم بئر معونة فقتلهم أجمعين. واغتم "أبو براء" لاخفار عامر بن الطفيل ذمته في أصحاب رسول الله، ثم تود بعد ذلك بقليل. وكان سيد "بني عامر ابن صعصعة" في أيامه. و "بئر معونة"، أرض بين أرض "بني عامر" و "حرة بني سليم"، وهي إلى حرة بني سليم أقرب. وقد استصرخ "عامر بن الطفيل" جماعة من "بني سليم" و "عصية" و "رعلا" و "ذكران" فنفروا معه على المسلمين.
ولما أرسل "أبو بكر" "خالد بن الوليد" إلى "بني عامر بن صعصعة"، لم يقاتلوه ودفعوا الصدقة. وكان "قرة بن هبيرة" القشري امتنع من أداء الصدقة، وأمد "طليحة الأسدي"، فأخذه خالدا، فحمله إلى "أبي بكر" فحقن أبو بكر دمه.
ومن بني "عامر بن صعصعة "، بنو "رؤاس بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة". ومنهم "عمرو بن مالك بن قيس" الذي وفد على الرسول فأسلم. ومنهم "بنو البكاء". ووفد وفد من "بني البكاء" على الرسول كان فيه "معاوية بن ثور بن عبادة بن البكاء" و "الفجيع بن عبد الله بن جندح بن البكاء" و "عبد عمر البكائي"، وهم الأصم.
وتقع ديار "بني عامر بن صعصعة" في الأقسام الغربية من نجد وتمتد إلى الحجاز. وذكر انهم كانوا يصيفون بالطائف لطيب هوائها، فلما اشتد عود ثقيف وقوي أمرهم، منعوهم منها، واستقلوا بها وحدهم.

(1/2093)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرجع نسب "بني سليم" إلى "قيس عيلان"، وتقع منازلها في مواطن حرار ذات مياه ومعادن عرفت ب "معدن سليم". وكانوا يجاورون عشائر غطفان وهوازن وهلال. ولخيرات أرضهم ووقوعها في منطقة مهمة تهيمن على طرق التجارة، صارت بنو سليم من القبائل الغنية. وكانت صلاتها حسنة بيهود يثرب، كما كانت صلاتها وثيقة بقريش.. وقد تحالف عدد كبير من رجالات مكة مع بني سليم، واشتغلوا معهم في الاستفادة من المعادن والثروة في أرض سليم.
وقد قدم رجل من "بني سليم" اسمه "قيس بن نسيبة"، على الرسول فأسلم، ذكر انه كان على علم بلسان الروم وبهينمة الفرس، وبأشعار العرب، وانه كان ذا حظ بثقافة ذلك اليوم. فلما رجع إلى قومه، وكلمهم بالإسلام، اقتنعوا بحديثه فأسلم منهم عدد كبير، وذهب وفد عنهم إلى الرسول، فيه "العباس بن مرداس" و "أنس بن عياض بن رعل" و "راشد بن عبد ربه"، فأسلموا على يديه. وكان "راشد" يسدن صنما لبني سليم. وكان اسمه "غاوي"، وكان قد رأى ثعلبين يبولان على صنمه فشد عليه فكسره، ثم جاء مع الوفد إلى الرسول فأسلم، وسماه الرسول "راشدا" على طريقته في تغييره أمثال هذه الأسماء. وأعطاه الرسول "رهانا"، وفيها عن ماء.
ويذكر أهل الأخبار، إن سيدا من سادات "بني شليم"، اسمه "قدر ابن عمار"، كان قد قدم على النبي بالمدينة فأسلم، وعاهده على إن يأتيه بألف من قومه، فلما ذهب إلى قومه، وعاد ليأتي إلى للرسول برجاله، نزل به الموت، فأوصى إلى رهط من "بني سليم" بالذهاب إلى الرسول، هم "عباس ابن مرداس" و "جبار بن الحكيم" و "الأخنس بن يزيد" وأمر كل واحد منهم على ثلاثمائة، ليقدموا على الرسول، ثم جاء من بعدهم "المنقع بن مالك ابن أمية" وهو على مائة رجل، فصار عددهم ألفا.

(1/2094)


--------------------------------------------------------------------------------

وكتب الرسول إلى "سلمة بن مالك بن أبي عامر" السلمي" من "بني حارثة"، انه أعطاه مدفوا لا يحاقه فيه أحد. وأعطى "العباس بن مرداس" "مدفوا"، لا يحاقه فيه أحد، كتبه له العلاء بن عقبة، وشهد عليه. ويظهر إن "سلمة بن مالك السلمي"، الذي ذكر "ابن سعد" إن الرسول "أعطاه ما بين ذات الحناظى إلى ذاتا الأساور"، هو "سلمي بن مالك بن أبي عامر" المتقدم.
وكان العباس بن مرداس يهاجي "ضاف بن ندبة السلمي" أحد الشعراء المعروفين. ثم تمادى الأمر إلى إن احتربا، وكثرت القتلى بينهما، ولما تماديا في هجائهما، ولم يسمعا نصيحة "الضحاك بن عبد الله السلمي"، وهو يومئذ صاحب أمر بني سليم، ولجا في السفاهة، خلعتهما بنو سليم. ثم أتاهما "دريد ابن الصمة" و "مالك بن عوف النصري" رأس، هوازن، وأصلحا بينهما. واستراح منهما بنو سليم.
وأسلم "العباس بن مرداس" قبل فتح مكة وحضر مع النبي يوم الفتح في جمع من "بني سليم" بالقنا والدروع على الخيل. وله ولد اسمه جلهمة، روى عن النبي. ويروى إن العباس بن مرداس، شهد حنينا على فرسها ال****، فأعطاه التي أربع قلايص، فقال العباس: أتجعل نهبي ونهب ال**** بين عيينة والأقرع، فقال النبي: "اقطعوا عني لسانه، فأعطوه ثمانين أوقية فضة". وكان فيمن اشترك مع العباس بن مرداس من قومه في فتح مكة. "أنس بن عباس بن رعل" و "راشد بن عبد ربه"، وقد طلب العباس وقومه من الرسول، إن يجعل لهم لواء أحمر. وشعارا مقدما، ففعل ذلك بهم. وكان للعباس أخ اسمه "عمرو بن مرداس"، ويعد مثل أخيه في جملة المؤلفة قلوبهم كذلك.

(1/2095)


--------------------------------------------------------------------------------

وأعطى الرسول "هوذة بن نبيشة السلمي" من "بني عصية". "ما حوى الجفر كله". وكتب للأجب رجل من "بني سليم" "انه أعطاه فالسا"، وكتب كتابه وشهد عليه "الأرقم". وأعطى الرسول "راشد بن عبد السلمي". "غلوتين بسهم. وغلوة بحجر برهاط" "لا يحاقه فيها أحد". كما أعطى "حرام بن عبد عوف" من "بني سليم" "إذاما وما كان له من شواق".
ومن "بني سليم" "نبيشة بن حبيب"، قاتل "ربيعة بن مكدم" الكناني. وكان فارس كنانة.
ويذكر إن الردة لما وقعت بوفاة الرسول، جاءت "بنو سليم" إلى "أبي بكر"، فطلبوا منه إن يمدهم بالسلاح لمقاتلة المرتدين، فأمر لهم بسلاح، فأقبلوا يقاتلون "أبا بكر": فبعث أبو بكر خالد بن الوليد عليهم، وجعلهم في حظائر ثم أضرم عليهم النيران.
ومن ديار "بني سليم" معدن بني سليم، وهو منزل كثير الأهل فيه أعراب بني سليم، وماؤه من "البرك"، وهي قرى قديمة. قد غزا الرسول على رأس ثلاثة وعشرين شهرا من مهاجره "قرقرة الكدر" "قراقرة الكدر"، ناحية معدن "بني سليم" بينه وبين المدينة ثمانية برد، وذلك لما سمع إن بهذا الموضع جمعا من "بني سليم" و "غظفان"، فلما لم يجد أحدا، اخذ ما عثر عليه من جمال تعود إليهم، كانت ترعى هناك، ورجع إلى المدينة. وغزا الرسول في السنة الثالثة من الهجرة موضعا آخر من مواضع "بني سليم" اسمه: "بحران" من ناحية الفرع، وهي قرية من ناحية المدينة، لما بلغه إن بها جمعا كثيرا من "بني سليم".

(1/2096)


--------------------------------------------------------------------------------

وكانت منازل عجز هوازن بموضع شربة. ومن رجال "هوازن" في أيام الرسول "مالك بن عوف النصري" أحد بني نصر. وهو الذي جمع جموع هوازن وثقيف وأقبل عامدا إلى النبي، حتى وافاه ب "حنين" فوقعت غزوة حنين. وقد جمعه نصر وجشم كلها وسعد بن بكر وناس من بني هلال، وهم قليل، ولم يشهدها من قيس عيلان الا هؤلاء وغابت عنها فلم يحضرها من هوازن كعب ولا كلاب. وفي جشم "دريد بن الصمة"، شيخ كبير، ليس فيه شيء إلا التيمن برأيه ومعرفته بالحرب. وكان شيخا كبيرا مجربا، وفي ثقيف سيدان لهم في الأحلاف: قارب بن الأسود بن مسعود، وفي بني مالك ذو الخمار سبيع بن الحارث وأخوه الأحمر بن الحارث في بني هلال.
وبنو سليم أيضا قبائل، منها: بنو ذكوان، وبنو بهثة، وبنو سمال، وبنو بهز، وبنو مطرود. وبنو الشريد، وبنو قنفذ، وبنو عصية، وبنو ظفر. وقد نجلت هذه القبائل رجالا عرفوا في الجاهلية والإسلام، منهم: العباس بن مرداس الشاعر الشهير، ممن شهدوا معركة حنين مع الرسول، ومجاشع بن مسعود ممن قاد الجيوش. وهو من المهاجرين، والعباس بن انس الأصم من فرسان الجاهلية، ورجال آخرون. ولسليم شقيق في عرف النسابين اسمه "مازن" 0 إما أبوهما فهو منصور.
و "جهينة" بطن مثل "بلي" و "بهراء" و "كلب" و "تنوخ" من بطون "قضاعة"، كانت ديارها في نجد، ثم هاجرت إلى الحجاز، فسكنت على مقربة من يثرب في المنطقة التي بين البحر الأحمر ووادي القرى، عند ظهور الإسلام. وقد دخلت في الإسلام في حياة الرسول ولم تشترك مع من أشرك في الردة بعد وفاته. وينسب النسابون جهينة إلى صحار والد جهينة، ومن بطونها بنو حميس.

(1/2097)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن ديار "جهينة"، موضع "بواط"، وهو من "جبال جهينة" من ناحية "رضوى" قريب من "ذي خشب" مما يلي طريق الشام. وبن "بواط" والمدينة نحو أربعة برد. ويمر به طريق إلى بلاد الشام. ولما سمع الرسول، وهو على رأس ثلاثة عشر شهرا من مهاجره، إن قافلة لعير قريش" فيها أمية بن خلف الجمحي ومئة من رجال قريش وألف وخمسمائة بعير، تمر من هناك، خرج في مئتين لاعتراضها، ولكنها فرت ونجت، فلم تقع في الأسر.
وكان في جملة من وفد على الرسول من جهينة" "عبد العزى بن بدر بن زيد بن معاوية الجهني" من "بني الربعة بن رشدان بن قيس بن قيس بن جهينة"، ومعه أخوه لأمه "أبو روغة". وكان لهم واد اسمه "غوي". ومن "بني جهينة" "بنو دهمان" ومنهم "عمرو بن مرة الجهني"، وكان سادن صنمهم، فأسلم وكسر الصنم، وقدم المدينة، وأعلن إسلامه أمام الرسول.
وقد كتب الرسول كتابا لبني زرعة وبني الربعة من جهينة، أمنهم فيه على أنفسهم وأموالهم. كما كتب لعوسجة بن حرملة الجهني من "ذي المروة"، وقد "أعطاه ما بين بلكثة إلى المصنعة إلى الجفلات إلى الجد جبل القبلة لا يحاقه أحد"، وشهد على صحة الكتاب وكتبه "عقبة" كما كتب الرسول كتابا لقوم آخرين من جهينة، هم من "بني شنخ"، وقد "أعطاهم ما خشوا من صفينة وما حرثوا"، وكتب الكتاب وشهد عليه "العلاء بن عقبة". كما كتب الرسول كتابا لبني الجرمز بن ربيعة، وهم من "جهينة"، كتبه المغيرة. وكتب كتابا ل "عمرو بن معبد الجهني" و "بني الحرفة" من جهينة وبني الجرمز، أهم ما جاء فيه "وما كان من الدين مدونة لأحد من المسلمين قضى برأس المال وبطل الربا في الرهن. وأن الصدقة في الثمار العشر"، ويظهر من ذلك أن هذا الكتاب قد دون بعد نزول الأمر بتحريم الربا.

(1/2098)


--------------------------------------------------------------------------------

وبلي من قبائل قضاعة كذلك، وتنسب إلى بلي بن عمرو بن الحاف بن قضاعة. وتقع ديارها على مقرية من تيماء بين ديار جهينة وديار "جذام"، وهي مثل اكثر قبائل قضاعة، لا نعرف من تأريخها في الجاهلية شيئا يذكر. أما في أول ظهور الإسلام، فقد اشتركت مع القبائل النصرانية في جانب الروم ضد المسلمين. ومنهم "مالك بن رافلة"، قائل "زيد بن حارثة" يوم "مؤتة".
وفي سنة ثمان من الهجرة أرسل الرسول "عمرو بن العاص" إلى ارض "بلي" و "عذرة"، فلما بلني موضع "السلاسل" خاف، فبعث إلى رسول الله يستمده، فأمده بجماعة من المهاجرين الأولين، فيهم "أبو ****ة بن الجراح" و "أبو بكر" و "عمر" وقد عرفت تلك الغزوة ب "ذات السلاسل".
وقد دخل دين يهود فرعت من بلي ينسب إلى "حشنة بن اكارمة"، وسكن على مقربة من تيماء مع يهود، وظل في هذا الدين وفي هذه الديار إلى إن أمر "عمر" باجلائهم عنها في الإسلام.
وقد وفد نفر من "بلي" على الرسول، وكان "شيخ الوفد" "أبو الضباب" "أبو الضبيب" فأسلم وأسلم من كان معه، ثم عادوا إلى ديارهم.
وتقع إلى الجنوب من ديار "بلي" ديار "مزينة"، وهي في الشرق من منازل "جهينة" والى الغرب من ديار "سعد" والى الشمال من بلاد "خزاعة". ويرجع نسب "مزينة" إلى "مضر". وقد وفد قوم منهم إلى الرسول فيهم "خزاعي بن عبد نهم" فبايع الرسول على قومه مزينة، وقدم معه جماعة من أعيان مزينة منهم" "بلال بن الحارث" و "النعمان بن مقرن" و "**** الله ابن بردة"، و "عبد الله بن درة"، و "بشر بن المحتقر". و "خزاعي" هو الذي حمل لواء مزينة يوم الفتح، وكانوا يومئذ ألف رجل، وهو أخو المغفل أبي عبد الله بن المغفل وأخو عبد الله ذي البجادين.

(1/2099)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما وادي القرى، فهو واد كثرت قراه، لذلك قيل له وادي القرى وأهله عرب ويهود. وهو من المواضع المعروفة بالخصب في جزيرة العرب، وبه عيون وآبار.. لذلك اشتهر بالعمار منذ أيام ما قبل الميلاد. فنزلت به قبائل عديدة، منه قوم ثمود. وقد جلب خصب هذا الوادي أنظار من نزح إليه من اليهود، فحفروا فيه الآبار وأساحوا العيون، وزرعوا فيه النخيل والحبوب، وعقدوا بينهم حلفا وعقدا. ودفعوا عنه قبائل بلي بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، وغيرهم من القبائل. وعقدوا لهم أحلافا مع القبائل القوية، لتحميهم ولتدافع عنهم، مقابل جعل سنوي.
وقد غزا الرسول بعد فراغه من خيبر هذا الوادي، فقاتله أهله، ففتحه عنوة، وترك الرسول النخل والأرض في أيدي اليهود، وعاملهم على نحو ما عامل عليه أهل خيبر.
وكانت "فدك" حكومة مستقلة كسائر الواحات والقرى في أعالي الحجاز، أهلها من اليهود، وعليهم في أيام الرسول "يوشع بن نون اليهودي"، واليه بعث "محيصة بن مسعود" لدعوته ولدعوة قومه إلى الإسلام، وبها قوم من "بني مرة". وقوم من "بني سعد بن بكر".
وكان أهل خيبر من يهود كذلك، يتحكم فيهم رؤساء منهم، ولهم حصون وآطام تحمي أموالهم ومساكنهم، فتحت في أيام الرسول بسبب معاداة أهلها للإسلام واتفاقهم مع المشركين. وكان يظاهرهم "غطفان". ومن حصونهم "حصن ناعم" و "حصن القموص"، حصن "أبي الحقيق"، و "الوطيح" و "السلالم"، وكان آخر حصون خيبر و "الشق" و "النطاة".
وكاتب الرسول "بني غاديا"، وهم قوم من يهود. وكتب كتاب رسول الله إليهم: "خالد بن سعيد". وكتب "خالد" كتابا آخر إلى "بني عريض" وهم أيضا قوم من يهود، حدد لهم الرسول ما افرضه عليهم، يؤدونه لحينه في كل عام.

(1/2100)

admin
12-31-2010, 07:30 PM
وكان يهود "بنو قينقاع"، قد تحالفوا مع الأوس والخزرج، تحالفوا مع "عبد الله بن أبي سلول"، كما تحالفوا مع "عبادة بن الصامت"، وكانوا صاغة، ولهم سوق عرف ب "سوق بني قينقاع"، وكانوا أشجع يهود. فلما كانت وقعة "بدر"، اظهروا ميلا إلى قريش، فحاصرهم الرسول، ثم غلبهم فأجلاهم عن ديارهم ولحقوا بأذرعات ومن منازل "بني لحيان" موضع "غزان"، واد بين أمج و عسفان إلى بلد يقال له "ساية". وهو موضع مرتفع غزاه الرسول غزوته التي عرفت ب "غزوة بني لحيان" في سنة ست للهجرة. وكان بنو لحيان ومن لأفهم من غيرهم قد استجمعوا، فلما بلغهم إقبال الرسول إليهم هربوا، فلم يلق كيدا. واعتصموا في رؤوس الجبال، فلم يقدر منهم على أحد. ولم تستطع السرايا إن تقبض على أحد منهم، فرجع الرسول.
وأقام "القرطاء"، وهم ". بنو قرط"، "قريط" من "بني. كلاب"، بناحية "ضرية"، فبعث رسول الله عليهم "محمد بن مسلمة"، فاستاق إبلا وغنما منهم، وهرب القرطاء. وقد أرسل الرسول "أبا بكر" لغزو "بني كلاب" بنجد، وذلك سنة سبع للهجرة، وذكر انه غزا "بني فزارة". وأرسل عليهم سنة تسع "الضحاك بن سفيان الكلابي"، ومعه "الأصيد بن سلمة بن قرط"، فلقيهم "بالزج" موضع بنجد، وتغلب على "القرط".
ولما غزا الرسول غزوة "الأبواء"، وهي غزوة "ودان"، وكانت أول غزوة غزاها الرسول، وادعه "مخشي بن عمرو الضميري"، وكان سيد "بني ضمير" "بني الضمير" في ذلك الوقت. والأبواء قرية من أعمال "الفرع" من المدينة، بينها وبين "الجحفا" مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلا.
وتقع ديار "بني مدلج" بناحية "ينبع"، ومن أرضهم "ذو العشيرة"، وهو لبني مدلج. وقد غزاهم الرسول غزوته المعروفة ب "ذي العشيرة" على رأس ستة عشر شهرا من مهاجره، فوادعهم ووادع حلفاءهم من "بني سمرة". ويظهر إن هذا الموضع إنما سمي ب "ذي العشيرة"، نسبة إلى الصنم "ذو العشيرة"، كان له معبد في هذا المكان، فعرف به.

(1/2101)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن القبائل التي أقامت على مقربة من مكة "خزاعة"، ومن رجالهم عند ظهور الإسلام، "عمرو بن الحمق" الكاهن، صحب النبي وشهد المشاهد مع "علي" وقتله "معاوية" بالجزيرة. وكان رأسه أول رأس نصب في الإسلام. و "عمرو بن سالم الخزاعي"، الذي جاء إلى الرسول يشكو تظاهر "بنو بكر ابن عبد مناة بن كنانة" وقريش على خزاعة، ونكث قريش عهدهم الذي قطعوه للرسول ألا يظاهروا أحدا على خزاعة، فكان ذلك من عوامل فتح مكة.
ومن رجال خزاعة "بديل بن ورقاء بن عبد العزى"، شريف كتب إليه النبي يدعوه إلى الإسلام، وكان له قدر في الجاهلية بمكة. ومن بطون خزاعة "بنو المصطلق"، وعرفوا ب "بلمصطلق" أيضا، وقد كانوا ينزلون ب "المريسيع"، وهو ماء لهم، من ناحية "قديد" إلى الساحل. وقد كان . قائدهم وسيدهم "الحارث بن أبي ضرار"، أبو "جويرية"، التي تزوجها النبي بعد إن خرج إليهم في غزوة "بني المصطلق" من سنة ست. وهم من "خزاعة". وكان "الحارث" قد سار في قومه ومن قدر عليه من العرب، ودعاهم إلى حرب الرسول. فلما وصل الرسول إلى "المريسيع"، تفرق من كان مع الحارث من العرب. وتغلب الرسول على "بني المصطلق" وأخذ منهم أسرى وغنائم، وكانت "جويرية" في جملة من وقع في الأسر فتزوجها الرسول. ومن بطون خزاعة "بنو الملوح"، وكانوا ب "الكديد".
وكان في جمله من يقيم بتهامة "بنو جذيمة بن عامر بن عبد مناة"، ومن مياههم "الغميصاء". ولما توفي الرسول تجمعت بتهامة جموع من مدلج، تأشب إليهم شذاذ من خزاعة وأفناء من كنانة، عليهم جندب بن. سلمي، أحد "بني شنوق"، من بني مدلج، فحاربهم "خالد بن أسيد" وشتت شملهم، وأفلت جندب، ثم ندم على ما صنع.

(1/2102)


--------------------------------------------------------------------------------

وكتب الرسول لقوم من "أهل تهامة"" بديل وبسر وسروات بني عمرو، ذكر فيه انه لم يأثم مالهم، ولم يضع في جنبهم، ثم قال لهم: "وان أكرم أهل تهامة علي وأقربهم رحما مني أنتم ومن تبعكم من المطيبين". ثم أخبرهم إن "علقمة بن ثلاثة" قد أسلم. وأسلم "ابنا هوذة وهاجرا وبايعا على من تبعهم من عكرمة".
وينقل "ابن سعد" صورة كتاب كتبه "أبي بن كعب" وجهه "لجماع كانوا في جبل تهامة قد غصبوا المارة من كنانة ومزينة والحكم والقارة ومن اتبعهم من ال****"، فلما ظهر رسول الله، وقوي أمره، وفد منهم وفد على النبي، فكتب لهم كتابا جاء فيه: "هذا كتاب من محمد النبي رسول الله لعباد الله العتقاء. انهم إن آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، فعبدهم حر ومولاهم محمد. ومن كان منهم من قبيلة لم يرد إليها. وما كان فيهم من دم أصابوه أو مال أخذوه، فهو لهم. وما كان لهم من دين في الناس رد إليهم، ولا ظلم عليهم ولا عدوان".
ويظهر من مضمون هذا الكتاب، ومن بيان أهل الأخبار عن الذين كانوا قد اعتصموا في جبل تهامة، انهم كانوا من الخارجين على الأعراف، ومن الرقيق الآبق، تجمعوا في هذا المكان المرتفع وتحصنوا وأخذوا يغتصبون منه المارة. وبقوا على ذلك حتى ظهر الرسول على أعدائه، فوجدوا إذ ذاك انهم لن يتمكنوا بعد ظهور الرسول من الاستمرار في التحرش بالمارة والتحرز بهذا الجبل، وان ظروفا جديدة قد ظهرت، ستؤمن لهم سبل العيش، وان الرسول سيعفو عنهم ويغفر لهم ما وقع منهم قبل الإسلام، فجاؤوا إليه وأسلموا عند. وكتب لهم كتاب أمان بذلك.
ومنازل "كنانة" بتهامة، وهم فيها قبل الإسلام بأمد طويل.
و "علقمة بن علاثة"" هو "علقمة بن علاثة بن عوف بن الأحوص بن جعفر بن كلاب". وهو الذي نافر "عامر بن الطفيل" عند "هرم بن قطبة بن سنان".
وأما "ابنا هوذة" فهما: العداء وعمرو ابنا خالد بن هوذة من بني عمرو ابن ربيعة بن عامر بن صعصعة.

(1/2103)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما "عكرمة"، فعكرمة بن خصفة بن قيس عيلان. وذكر إن مراد الرسول ب "ومن تبعكم من المطيبين"، "بنو هاشم" وبنو زهيرة، وبنو الحارث بن فهر، وتيم بن مرة، وأسد بن عبد العزى.
وكتب الرسول إلى "العداء بن خالد بن هوذة"، ومن تبعه من "عامر ابن عكرمة"، انه "أعطاهم ما بين المصباعة إلى الزح ولوابة". يعنى لوابة الخرار. وكتب لهم الكتاب: خالد بن سعيد.
ومن منازل "هذيل" "الرجيع"، وهو ماء لهم. ويقع إلى الشرق من "هذيل" ديار "ضبة" وديار "عبد مناة"، وأما في جنوبها فتقع ديار "خثعم" وثقيف، وتمتد ديارها في الشمال حتى تتصل بديار "بني سليم"، ومن "هذيل" "سفيان بن خالد بن نبيح الهذلي"، وكان قد جمع جمعا ليغزو به الرسول، وكان قد نزل "نخلة" أو "عرنة"، موضع بقرب عرفة، أو قرية بوادي عرفة، فأرسل رسول الله إليه "عبد الله بن أنيس" فقتله. ومن القبائل المجاورة لهذيل: "فهم" و "عدوان" وكانت ديارهم بالسراة.
وممن كتب إليهم الرسول، ودون "ابن سعد" صور كتبه إليهم: "سعيد ابن سفيان الرعلي"، وقد أعطاه الرسول "نخل السوارقية وقصرها، لا يحاقه فيها أحد". وكتب الكتاب وشهد عليه "خالد بن سعيد". و "عتبة بن فرقد"، وقد أعطاه الرسول موضع دار بمكة، يبنيها مما يلي المروة.

(1/2104)


--------------------------------------------------------------------------------

على هذا النحوا كان الوضع السياسي في جزيرة العرب عند ظهور الإسلام وفي أوائل أيامه" قوى مستقلة تخشى القبائل المحيطة بها. وأذواء وأقيال في اليمن وحضرموت ورؤساء قبائل يتحكمون في مناطق نفوذ قبائلهم، ويعيشون على ما يأخذونه من أتباعهم من حق الرئيس على المرؤوس في السلم وفي الحرب، وهم فيما بينهم في خصام وتنافس، لم تتركهم الخصومة من الانصراف إلى شؤون رعيتهم، وهم أنفسهم لم يفكروا في الانصراف إلى ذلك. فتدهورت الأحوال، وظهر أفراد ينادون بإصلاح الحال، وبالتفكير في تحسين الأوضاع وبالتعقل. وكان الصراع بين الفرس والروم، قد جسر الأعراب على الدولتين. وأخذت النصرانية ترسل المبشرين إلى العرب، لنشر النصرانية بينهم. وتغلب القلم المتصل الحروف، الذي صار قلم العرب والإسلام على القلم المنفصل الحروف، قلم العرب القدم، القلم المسند. وانتشر في مكة ويثرب. ونادى الأحناف بنبذ الوثنية والأوثان. ونزل الوحي على الرسول في أول العشر الثاني من القرن السابع للميلاد. وظهر الإسلام داعيا العرب وغيرهم إلى الإيمان بإله واحد خالق لهذا الكون. وبرسالة رسوله وبما جاء به من أوامر وأحكام. فكان ظهوره نهاية للجاهلية، وبداية لعهد جديد، عهد الإسلام.
وبظهور الإسلام على أعداثه في جزيرة العرب، وبقضائه على أهل الردة، أوجد لجزيرة العرب وجها جديدا. من وجوه الحياة، لم تشهده في حياتها ولم تعرفه. فقد أوجد الإسلام لأهلها موارد غنية من موارد الرزق، وبسط لهم الأرض من الصين إلى المحيط "الاطلانطي" وأخرج سكانها من ديارهم الفقيرة وأنزلهم في ديار غنية كثيرة السكان. وعرفوا بذلك نظما لم تكن مألوفة عندهم، وأمما لم يسمع أكثرهم بها، وخرج المؤمنون الأولون والمؤلفة قلوبهم ومن دخل الإسلام وقلبه غير مطمئن به، إلى خارج جزيرة العرب يحكمون باسم الإسلام. حدث كل ذلك في مدة لا تعد طويلة بالنسبة إلى ما وقع فيها من أحداث.

(1/2105)


--------------------------------------------------------------------------------

فالإسلام، إذن نهاية حياة قديمة، وبداية حياة جديدة، تختلف عن الحياة الأولى كل الاختلاف.
الفصل الخامس والأربعون
المجتمع العربي
المجتمع العربي: بدو وحضر. أهل وبر وأهل مدر، يتساوى في هذه الحال عرب الشمال وعرب الجنوب وعرب جميع أنحاء جزيرة العرب الأخرى.
وقسم بعضهم عرب الجاهلية إلى ملوك وغير ملوك. وقسموا سائر الناس بعد الملوك إلى طبقتن: أهل مدر وأهل وبر. فأما أهل المدر، فهم الحواضر وسكان القرى، وكانوا يعيشون من الزرع والنخل والماشية والضرب في الأرض للتجارة. وإما أهل الوبر، فهم قطان الصحارى يعيشون من ألبان الإبل ولحومها، منتجعين منابت الكلأ، مرتادين لمواقع القطر، فيخيمون هنالك ما ساعدهم الخصب وأمكنهم الرعي، ثم يتوجهون لطلب العشب وابتغاء المياه، فلا يزالون في حل وترحال.
ويعرف الحضر، وهم العرب المستقرون ب "أهل المدر"، عرفوا بذلك لأن أبنية الحضر إنما هي بالمدر. والمدر: قطع الطين اليابس. قال "عامر للنبي، صلى الله عليه وسلم: لنا الوبر ولكم المدر"، فعنى به المدن أو الحضر. ومن هنا قيل للحضر: بنو مدراء. وورد في حديث "الجساسة والدجال": "تبعه أهل الحجر وأهل المدر، يريد أهل البوادي الذين يسكنون مواضع الأحجار والرمال، وأهل المدر، أهل البادية". ويظهر من روايات أخرى إن "أهل، المدر" هم أهل البادية. ولكن أكثرها إن "أهل المدر"، هم الحضر، لأن اتخاذ بيوت المدر لا يكون في البادية، بل في الحضر.
وورد أن أهل البادية إنما قيل لهم "أهل الوبر"، لأن لهم أخبية الوبر. تمييزا لهم عن أهل الحضر الذين لهم مبان من المدر، ومن هنا قيل للقرية "المدرة"، لأنها مبنية بالطين واللبن، وذكر إن "المدرة" القرية والمدينة الضخمة أيضا، لأن المدن تبنى بالمدر أيضا. ومن هنا قيل للحضر عموما: بنو مدراء.

(1/2106)


--------------------------------------------------------------------------------

ويذكر علماء اللغة إن الحضر والحاضرة والحضارة خلاف البادية والبداوة والبدو. والحضارة الإقامة في الحضر. والحاضر والحضر هي المدن والقرى والريف، سميت بذلك لأن أهلها حضروا الأمصار ومساكن الديار التي يكون لهم بها قرار. وقد عرفوا بأهل القارية، وذلك في مقابل أهل البادية،. لأهل البدو.
و "أهل القرار"، هم الحضر، لأنهم اختاروا القرار وأحبوا الاستقرار والإقامة في مكان واحد. ولأن الطبيعة حبتهم بكل شيء يغري على الارتباط بالأرض، ولو ولد الأعرابي بين الحضر وتوفر لديه ما يؤمن له رزقه الدائم في مكانه الذي ولد فيه، لما تنقل وارتحل، ولصار حضريا من دون شك مثل سائر أهل الحضر. ولكن الطبيعة حرمته من نعم الاستقرار، فصار بدويا يتتبع العشب والماء. فالطبيعة هي المسؤولة عن البداوة وعن انتشارها في جزيرة العرب.
ومن هنا قيل للحضري الذي لا ينتجع ويكون من أهل الأمصار "القراري". ولما كان أكثر "أهل القرار"، هم من الصناع، قبل لكل صانع "قراري". وذكر بعض علماء اللغة إن "القراري": الخياط. واستشهدوا على ذلك ببيت شعر للأعشى، هو: يشق الأمور و يجتابها كشق القراري ثوب الردن
وذكر بعض آخر انه القصاب. وقد تجوز الناس فيما بعد، فقالوا" خياط قراري، ونجار قراري.
ويقال لساكن القرية القاري، كما يقال لساكن البادية البادي. والقارية سكنة القرى أي خلاف. البادية والأعراب. والقرية كل مكان اتصلت به الأبنية واتخذ قرارا. وتقع على المدن وغيرها. و سكانها من الحضر. ويذكر علماء اللغة إن "المدينة من مدن، بمعنى أقام بمكان. ويراد بها الحصن يبنى في اصطمة الأرض. و تقابلها لفظة "مدينتو" في الارمية. و "هكرن" "هكر" "هجر" في العربية الجنوبية. وأما "البلدة"، فذكر علماء اللغة إنها كل موضع أو قطعة من الأرض مستحبزة عامرة أو عامرة ؛ خالية أو مسكونة. فالبلدة، إذن من مواطن الحضر أيضا.

(1/2107)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد كان من الصعب التمييز عند الشعوب القديمة بين القرى والبلدان والمدن. وكل بلدة أو مدينة كانت قرية في الأصل، أي مستوطنة صغيرة غير محصنة، وعندما ازداد عدد سكانها، وكثر عمرانها ومالها لأسباب عديدة، توسعت وحصن أهلها أنفسهم بحصون وبأطم أو بسور وخندق يحيط به لمنع العدو من الدنو منها. و بهذه التحصينات و بكثرة عدد. السكان تميزت هذه المستوطنات السكنية بعضها عن بعض، و لهذا كانت الشعوب القديمة لا تطلق لفظة "مدينة" إلا على القرى المحصنة المسورة، وفي ضمن هذه الشعوب العرب.
وتطلق لفظة "عرب" على أهل المدر خاصة، أي على الحضر و "الحاضر" و "الحاضرة" من العرب، أما أهل البادية، فعرفوا ب "أعراب". مع إن كلمة "العرب" قد أطلقت في لغتنا لتشمل العربين" عرب الحاضرة وعرب البادية ويظهر إن هذا الإطلاق إنما وضع قبيل الإسلام. فقد سبق لي أن بينت في الجزء الأول من هذا الكتاب تاريخ كلمة "عرب"، وبينت كيف تطورت اللفظة إلى ظهور الإسلام، وقد رأينا إنها كانت تعني أهل البادية، أي الأعراب في الأصل. أما الحضر فعرفوا بأسماء أماكنهم أو قبائلهم، وآية ذلك أن التوراة والكتابات الآشورية والبابلية بل والجاهلية، أي الكتابات العربية التي تعود إلى ما قبل الإسلام، كانت كلها إذا ذكرت الحضر، ذكرتهم بأسمائهم، ولم تطلق عليهم لفظة "عرب، أما إذا ذكرت أهل البادية، فأنها تستعمل لفظة "عرب" و "عربي"، أي أعراب وأعرابي مع أسمائهم، وذلك مثل "جندب"، وهو رئيس قبيلة، وقد حارب الآشوريين، فقد دعي في الكتابات الآشورية ب "جندب العربي"، أو " جندب الأعرابي" بتعبير أصح، ومثل "جشم" الذي نعت في سفر "نحميا" من أسفار التوراة بي "جشم العربي" اشارة إلى كونه من الأعراب، لا من الحضر، وهو من الملوك كما سبق أن تحدثت عنه في الجزء الأول من هذا الكتاب إلى غير ذلك من أمثلة تحدثت عنها في أثناء حديثي عن لفظة عرب.

(1/2108)


--------------------------------------------------------------------------------

أما "يقطن" وهو "قحطان" ونسله مثل" سبأ وحضرموت. و أما "إسماعيل" ونسله، وأما أهل "تيماء" و "مدين" وأمثالهم، فلم تطلق التوراة عليهم لفظة "عرب"، لأنهم لم يكونوا أعرابا، بل كانوا حضرا، ولهذا ذكرتهم بأسمائهم، فاستعمال "عرب" إذن بمعنى أهل الحاضر والحاضرة، أو أهل المدر، هو استعمال متأخر، ظهر بعد الميلاد.
لقد ذهب علماء العربية كما سبق إن بينت في الجزء الأول من هذا الكتاب، إلى إن العربية هي لغة "يعرب"، وهو أول من أعرب بلسانه على حد قولهم، وذهبوا إلى إن العدنانيين متعربون، ولم يكونوا عربا في الأصل، ثم تعلموا واختلطوا بالعرب حتى صاروا طبقة خاصة منهم. وذهبوا إلى إن التبابعة كانوا عربا ينظمون الشعر بالعربية التي نظم بها الشعراء الجاهليون شعرهم. ثم ذهبوا إلى إن "حمير" كانت تتكلم بلسان غريب عده بعض العلماء غير عربي مع إنها من لب العرب الصرحاء على حسب رأيهم، ولم يبينوا كيف وقع ذلك عندهم، إلى آخر ما نراه عندهم من آراء، لم تبن على دراسات تأريخية أصلية ونصوص جاهلية.

(1/2109)


--------------------------------------------------------------------------------

ولو كان المذكورون أحياء في هذا اليوم، ولو كانوا قد وقفوا على النصوص الجاهلية المختلفة و قرأوها، لغيروا رأيهم حتما من غير ريب، ولقالوا قولا آخر غير قولهم المتقدم في العربية وفي سبب تسميتها. فعربية القرآن الكريم هي عربية أهل مكة وما والاها، وهي عربية الأعراب، أي عربية أهل البادية. أما عربية أهل اليمن، وهم صلب القحطانية، فعربية أخرى. وان اردت قولا اصح تعبيرا وأدق تحديدا، فقل: عربيات أخرى. فعربية يعرب إن تجوزت وجاريت رأي أهل الأنساب والأخبار وقلت قولهم في وجود جد وهو يعرب، يجب إن تكون عربية أخرى، بل عربيات مخالفة لعربية أهل مكة، وذلك استنادا إلى النصوص الجاهلية المدونة بأقلام أبنائه وحفدته والواصلة إلينا. ولما كانت اللغة العربية، هي عربية القرآن الكريم في رأي علماء اللغة، وهي عندهم وحدها اللغة الفصحى، وأشرف لغات العرب، إذن فلغة يعرب على هذا القياس لغة أعجمية غير عربية، أو عربية من الدرجات الدنيا إن أردنا التساهل في القول. وعندئذ يكون يعرب هو العربي المتعرب، و يكون نسله على وفق هذا المنطق، هم العرب المستعربة، لا العرب العدنايين.
ويكون العدنانيون هم أصل العرب ولبها والعرب العارية الأولى، أي عكس ما يراه و يزعمه أهل الأخبار. أحكي هذا القول بالطبع متجوزا أو مجاريا رأي أهل الأخبار ولا أحكيه لأني أراه، فأنا لست من المؤمنين بمثل هذه الأقاصيص التي يقصها علينا القصاص، ولا سيما قصاص أهل اليمن من أمثال وهب بن منبه وابن اخته، أو ابن الكلبي، وبعض القصاص الذين هم من اصل يهودي مثل وهب المذكور ومحمد بن كعب القرظي. فرأيي أن كل لغات العرب الجاهلية هي لغات عربية، وأنها كانت متباينة عديدة، وبعضها لغات وصلت مرحلة التدوين مثل المعينية والسبئية والقتبانية والحضرمية وغيرها. ولغات تصل إلى درجة التدوين عند المتكلمين بها، لا يمكن أن تعد لغات سوقة ولهجات عامة.

(1/2110)


--------------------------------------------------------------------------------

وبعد فلست أرى أن لين "يعرب" المزعوم، وبين لفظة "العربية" والعرب أية رابطة أو صلة، وأن الصلة المزعومة المذكورة التي يذكرها أهل الأخبار في تفسر اللفظة، هي صلة خلقت خلقا وصنعت صنعا، لكي يجد صانعوها لهم مخرجا في تفسيرها، وليس تفسيرهم هذا هو أول تفسير أوجدوه، فلدينا مئات من التفاسير المصنوعة، لألفاظ أشكل أمرها على الرواة وأهل الأخبار، فوضعوا لها تفسيرات على هذا النمظ، ليظهروا أنفسهم مظهر العالمين بكل شيء.
هذا وقد قلنا إن العربية هي بمعنى الأعرابية، أي البداوة في لغة الأعاجم وفي لغات أهل جزيرة العرب أنفسهم، وهي نسبة إلى العرب، والعرب هم الأعراب في البدو في لغات المذكورين. فتكون العربية أذن بمعنى عربية الأعراب: أي لغة أهل الوبر، وقد نسبت إليها، لا إلى يعرب بن قحطان. وهي بالطبع لم تكن لهجة واحدة، أي عربية واحدة، بل كانت لهجات. قيل لها عربية، لأن الأعراب وان كانوا قبائل، تجمع بينهم رابطة واحدة، هي رابطة البداوة، فكأنهم طبقة واحدة، تقابلهم طبقة "أهل المدر"، وهم الحضر. لذلك نعت لسانهم بلسان عربية ولما كانت البداوة أعم من الحضارة في بادية الشام وفي طرفي الهلال الخصيب وفي والحجاز والعربية الشرقية، صار لسانها اللسان الغالب في هذه الأرضين، وبلسانها نظم الشعراء شعرهم؛ وبلسان عرب الحجاز نزل القرآن الكريم، فصار لسانهم لسان الوحي والإسلام.

(1/2111)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن ثم صار اعتماد أوائل علماء العربية في دراستهم لقواعد اللغة من نحو وصرف ومن استشهاد بشواهد على "العرب"، أي أهل الوبر من أبناء البادية، من الأعراب المعروفين بصدق لسانهم وبصحة أعرابينهم وبعدم تأثر ألسنتهم بألسنة الحضر من أهل الحواضر، بل لم يكتف أولئك العلماء بألسنة هؤلاء الأعراب القادمين عليهم من البوادي، لأسباب لا مجال لذكرها هنا، فركبوا ابلهم وذهبوا بأنفسهم إلى صميم البوادي البعيدة عن الحضر، ليأخذوا اللغة صافية نقية من أفواه رجالها الأصلاء الذين لم يتعلموا خدع أهل الحاضرة وغشهم وكذبهم، ولم تنحرف ألسنتهم عن ألسنة اجسادهم، ولم تتأثر بأحرف للأعاجم المندسين في القرى والمدن و الأرياف. فكان "سيبويه" مثلا إذا استشهد بشاهد نظر إلى أنه من "العرب الذين ترضى عربيتهم" أو من "العرب الموثوق بعربيتهم"، أو من "العرب الموثوق بهم"، أو من "فصحاء العرب". وكان يرى أن لسان أهل الحجاز هو "الأول والأقدم". وكان علماء اللغة إذا اختلفوا في شيء من لغة من ألفاظ أو قواعد، حكموا أهل البادية، أي الأعراب فيما شجر بينهم من خلاف، حتى ولن كان أولئك العلماء من أوثق الناس علما بعلم العربية، فحكموا الأعراب مثلا في المناظرة اللغوية التي وقعت بين سيبويه والكسائي والأخفش في حضرة "يحيى بن خالد" مع أنهم أعلم الناس بعلوم العربية. وقد أورد "ابن النديم" أسماء عدد من "الأعراب" كان علماء العربية يلجؤون إليهم في الملمات، ويأخذون عنهم، و يحكمونهم فيما يقع بينهم من خلاف. فهم "حكام" ذلك للزمن وقضاته، يحكمون في منازعات الناس في اللغة.

(1/2112)


--------------------------------------------------------------------------------

والحد الفاصل بين الحضارة والبداوة، هو طراز الحياة ونوعها، فالحضر أهل قرار. و الأعراب ينتجعون ويتتبعون مساقط الغيث يرعون الكلأ والعشب إذا أعشبت البلاد، ويشربون "الكرع" وهو ماء السماء، فلا يزالون في النجع إلى إن يهيج العشب من عام قابل و تنش الغدران، فيرجعون إلى محاضرهم على إعداد المياه. و حياتهم على الإبل فلا يعتنون بتربية ماشية غيرها. ومن هنا أقرنت البداوة بالبادية وبتربية الإبل، التي تنفرد عن غيرها من الحيوانات بقابليتها على المعيشة في البادية وبقوة صبرها على محمل الجوع والعطش أياما، بينما تقصر همم الحيوانات الأخرى عن مجاراتها في هذا الباب. ومن هنا نقصد بالأعراب: البدو الحقيقيين أبناء البادية وأصحاب الجمال الذين ينتجعون ويتتبعون مساقط الغيث ويشربون الكرع ويكون تماسهم بالحضارة والحضر قليلا.

(1/2113)


--------------------------------------------------------------------------------

وما أقوله يخص أعراب نجد و بادية الشام بالدرجة الأولى. أما أعراب العربية الجنوبية، فإن وضعهم يختلف عن وضع هؤلاء الأعراب. فهم وان عدوا أعرابا ونص عليهم ب "اعرب" "أعراب" في نصوص المسند، لكنهم لم يكونوا أعرابا نقلا، يعيشون على تربية الإبل والغارات وعلى بعض الزراعة وكره الاشتغال بالحرف، بل كانوا شبه مستقرين سكنوا خارج المدن والقرى في مستوطنات متجمعة مؤلفة من بيوت وأكواخ وعشش من طين. ومارسوا تربية الإبل والماشية الاخرى، واشتغلوا بالزراعة وبالحرف اليدوية لم يجدوا في ذلك بأسا. وكانوا يغيرون على الحضر إن وجدوا فرصة مؤاتية ولم يكونوا أقوياء بالنسبة إلى الحضر، لوجود حكومات منظمة، في استطاعتها ضربهم إن تحرشوا بأهل المدن والقرى. ولهذا لا نجد للأعراب ذكرا في نصوص المسند القديمة ولم يظهر اسمهم فيها كقوة ضاربة إلا بعد الميلاد و قبيل الإسلام. حين ارتبك الوضع السياسي في العربية الجنوبية، وتدخل الحبش في شؤونها، و ولع بعض ملوكها مثل الملك "شمر يهرعش" في إثارة الحروب. مما أفسح المجال للأعراب فجربوا حظهم بالدخول في لعب الحروب. فلما وجدوا لهم حظا حسنا وربحا طيبا، مارسوها مع هذا الحاكم أو ذاك، وظهر اسمهم عندئذ في المسند. بل دخل في اللقب الرسمي الذي حمله الملوك فصار اللقب: "ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت وأعرابها. في الهضاب وفي التهائم". وطمع أعراب نجد في الحصول على مغانم في العربية الجنوبية فارتحلوا نحوها، وزاد بذلك عدد الأعراب. ومن هؤلاء. كندة الذين تركوا ديارهم بنجد. بعد نكبتهم وانضموا إلى إخوانهم في العربية الجنوبية فصار لهم فيها شأن كبير، حتى ذكروا في النصوص، ومنها نصوص أبرهة.

(1/2114)


--------------------------------------------------------------------------------

ومعاش الحضر، على الأرض يزرعونها ويعيشون عليها، أو على التجارة أو على الحرف اليدوية ونحوها. ومن طبيعة أهل الحضر الاستقرار في أرض تكون وطنا ثابتا لهم، ومقاما يقيمون فيه فيحمونه ويموتون في سبيله. أما أهل الوبر، فهم رحل، يتنقلون طلبا للماء والكلأ والامتيار، فموطنهم متنقل قلق غير مستقر. الأرض كلها وطنهم، ولكنها الأرض التي يكونون فيها، فإذا ما ارتحلوا عنها، صارت الأرض الجديدة وطنا لهم جديدا. أما الأرض القديمة فتكون وطنا لمن يحل فيها من طارئ جديد أو طارئ قديم.
والمشهور عن? العرب وعنه الأعاجم، أن العرب قوم يكرهون الزراعة والاشتغال بالحرف والصناعات، ويستخفون بشأن من يشتغل بها ويزدرونه، فلا يتزوجون منه ولا يزوجونه منهم. وينطبق هذا القول على الأعراب وعلى بعض الحضر إلى حد ما. لكنه لم ينطبق على كل العرب. فالعرب الحضر، الذين وجد الماء بغزارة عندهم، غرسوا الأشجار أيضا وزرعوا، لم يجدوا في ذلك خسة ولا دناءة. والعرب الذين توفرت لهم مواد العمل و ظروف العمل، اشتغلوا بالحرف وبالصناعات، كما هو شأن الطائف والعربية الجنوبية بل وبعض رجال مكة أيضا. أما الذين ازدروها وكرهوها فهم الذين لم تتوفر لهم الأسباب التي تغريهم على الاشتغال بالحرف والصناعات، ولم تتوفر لديهم المواد الأولية ولا الظروف المساعدة على قيام الحرف. لذلك كرهوها كره من يكره شيئا لأنه لا يملكه ولا يناله، أو لأن يده لا تصل إليه، ولو ملكه لغير حكمه عليه من غير شك.
وقد أشار "أمية بن خلف الهذلي" إلى اشتغال أهل اليمن بالحرف، بقوله: يمانيا يظل يشد كيرا وينفخ دائبا لهب الشواظ
وقد أفد أهل اليمن الحجاز وأماكن أخرى من جزيرة العرب بالسيوف وبمصنوعات المعادن وبالبرد والأنسجة الأخرى. كما عرفوا بإتقانهم البناء والتجارة وغير ذلك من حرف الحضر، التي أتشير إليها في الشعر الجاهلي.

(1/2115)

admin
12-31-2010, 07:32 PM
وقد عيب على أهل اليمن اشتغالهم بالحرف: كالحدادة والحياكة والصياغة وما شاكل ذلك من حرف،على نحو ما تحدثت عن ذلك في فصل: "طبيعة العقلية العربية". ولكن من عابهم كان عالة عليهم وعلى غيرهم من أهل الحرف في أكثر الأمور التي كانت نخص شؤون حياتهم اليومية، كالسيوف والخناجر الجيدة مثلا التي هي عماد المحافظة على حياة الإنسان في البادية. كما اعترف لهم بالتفوق على من كان يزدري الصناعة والحرف. فكانوا يخافونهم في الحروب، و يهابونهم عند القتال، لامتلاكهم أسلحة لا يملكونها هم. وكانوا يلجئون إليهم لتنصيب رئيس منهم عليهم. تهابه القبائل لصعوبة انصياع القبائل لقيادة رئيس منها، بسبب التحاسد القبلي، كما كانوا يخضعون لحكم أهل اليمن بسبب تفوقهم عليهم في السلاح وفي الثقافة إلى غير ذلك من أسباب ترجع في الواقع الطبيعية التي عطفت على اليماني وعلى العربي الجنوبي، ففوقته على الأعراب.
ولما كانت طبيعة الجفاف، هي الغالبة على جزيرة العرب، كان هذه الطبيعة أثرها في حياكة العرب، فغلبت البداوة على الاستقرار، و أثرت في النظم بالآراء السياسية والاجتماعية و الاقتصادية والحربية وفي سائر نواحي ا?حياة الأخرى. لقد حالت دون قيام المجتمعات الكبرى القائمة على الاستقرار والاستيطان واستغلال الأرض، وجعلت من الصعب قيام الدول الكبيرة في هذه البلاد، وتكوين حكومات تقوم على احترام حقوق جميع أبناء الحكومة دون نظر إلى البيوتات والعشائر و القبائل و الرئاسات.

(1/2116)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي الأماكن التي توافرت فيها المياه، المياه النابعة من الأرض أو النازلة بن السماء، نشأت مجتمعات مستقرة، وظهرت حكومات، غير أنها حكومات اختلف طابعها وشكلها باختلاف المحيط الذي ظهرت فيه، و الأحوال الطبيعية التي ألمت بها، والقدرة المادية التي تميزت لديها. فيها الحكومات الصغيرة التي قد تكون حكومات "قرية"، أو رئاسات عشائر، وفيها ما يمكن أن يعبر عنه بحكومات مدن، إن جاز إطلاق مصطلح "المدن" عليها، وفيها حكومات أكر وأوسع مثل حكومات الحرة و الغساسنة، وفيها حكومات مثل حكومات العرب الجنوبيين، وهي حكومات كبيرة إذا قيست إلى الحكومات التي كونها سادات القبائل في أنحاء أخرى من جزيرة العرب، ولم تعمر طويلا، بل كانت مثل رغوة الصابون، لا تكاد تنتفخ حتى تزول، وذلك لأسباب وعوامل لا يتسع لها صدر هذا المكان.
فالطبيعة هي التي صيرت العرب على هذا الحال، وهي التي غلبت عليهم البداوة. إذ حرمتهم من الماء وجادت عليهم برمال تلفح الوجوه، وبسموم مؤذية وبحرارة شديدة، وبأرض متسعة تظهر وكأنها بحر من رمل لا حد له، صيرت من ولد فيها إنسانا قلقا هائما على وجهه، يتنقل من مكان إلى مكان بحثا عن ماء وأكل. خلا الأماكن السخية التي خرجت منها دموع جرت فوق الأرض بقدر وبمقدار، أو مواضع قرب الماء فيها من سطح التربة فاستنبطه الإنسان، أو أماكن انهمرت من سمائها العاشقة للأرض دموع حبها في مواسم من السنة فأصابت الأرض بطل، فاستهوت الإنسان، واستقر بها وتحضر. وصار العرب من ثم بدوا وحضرا، أهل بادية وأهل حاضرة.

(1/2117)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن آيات ذلك، أننا في قبيلة واحدة، فيها بادية وفيها حاضرة، استقرت وتحضرت وسكنت في بيوت ثابتة، لا يهمنا أكانت بيوتها من صخر أو من حجر أو من مدر أو من بيوت شعر، إنما المهم إنها بيوت ثابتة ارتبطت بالأرض، شعر قطانها إن لهم صلة بهذه الأرض وان لهم بها رابطة، لا يحل عقدها إلا الموت أو الضرورات القصوى. فقريش حاضرة و بادية. وجهينة حضر، أقاموا بينبع وقرية "الصفراء"، و أعراب هبطوا رضوى و "عزور" ?. و "همدان" حاضرة وبادية.. ونهد حضر، وهم من سكن الصفراء منهم، وأهل وبر، وهم من سكن دون المدر في جبلي رضوى وعزور. وتنوخ حضر، وتنوخ أهل بادية وتنقل. إلى في ذلك من قبائل، استقرت أحياء منها، وتبدت أحياء أخرى منها.
ثم إننا نجد قرى منتشرة في موضع من العربية الغربية وفي نجد و العربية الشرقية أو العربية الجنوبية، وقد سكنها قوم عرب حضر زرعوا وحفروا لهم الآبار وتعهدوا العيون بالرعاية ليستفيدوا من مياهها، وجائوا بأشجار من الخارج لزرعها هناك. وفي كتب "الهمداني" و "عرام"، وكتب غيرهما ممن بحث عن جزيرة العرب أسماء قرى و مدن جاهلية، كانت ذات مزارع وحدائق، أما اليوم، فبعضها أثر، وبعض منها. قد زال وذهب مع الذاهبين، لم يترك له حتى بقية من أثر. وتلك المواضع هي دليل في حد ذاته على أن الماء إذا وجد في مكان ما أكره سكانه على الاستقرار به، وأجر قسما من أهله على الاشتغال بالزرع. ولم ينضب الماء من تلقاء نفسه عن المواضع التي اندثرت وماتت وإنما وقعت أحداث لا مجال لي للبحث عنها في هذا المكان، ومنها الهجرة إلى خارج جزيرة العرب بالفتح وتحول الطرق التجارية العامة و إعراض الحكومات عن الاهتمام بشؤون جزيرة العرب ونحوها، فكرهت السكان على الارتحال عنها، فأهملت آبارها و ترستها الرمال فجفت وذهب مائها عنها.

(1/2118)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي تلك المواضع التي. توفرت فيها المياه من مطر وعيون وآبار ومياه جوفية قريبة من سطح الأرض ظهرت الحضارة على شكل قرى ومستوطنات وأسواق موسمية، كان لها كلها أثر خطير في حياة العرب عموما من عرب وأعراب. لما كان يقع فيها من اتصال ومن تبادل آراء بين الحضر والبدو، وبين هؤلاء جميعا وبين الأعاجم الذين كانوا يؤمونها للاتجار بها بصورة مؤقتة أو دائمة، حيث كانوا يقيمون بها إقامة طويلة أو أبدية، وبالأعاجم الذين كانوا يقيمون فيها رقيقا مملوكا لمن اشتراهم من الملاكين. وبذلك حدث نوع من التلقيح في الآراء والأفكار وفي شؤون الحياة: تلقيح مهما قيل فيه وفي درجته، فإنه تلقيح على كل حال. وهذه المواضع هي التي كونت وخلقت تأريخ العرب فيما قبل الإسلام.
وقد نبه "الجاحظ" إلى الاختلاف بين البدوي والحضري، والسهلي والجبلي، فأشار إلى اختلاف ما بين الطائي الجبلي والطائي السهلي، والى اختلاف ما بين من البطون وبين من نزل الحزون، و بين من نزل النجود وبين من نزل الأغوار، ثم إلى ما ترك هذا الاختلاف في المواضع والمكان من أثر في اختلاف اللغة، فتحالفت عليا تميم، وسفلى قيس، وعجز هوازن وفصحاء الحجاز في اللغة. وهي في أكثرها على خلاف لغة حمير، وسكان مخاليف اليمن. "وكذلك في الصورة والشمائل والأخلاق. وكلهم مع ذلك عربي خالص". وأشار إلى ما تركه هنا السكن من أثر في أخلاق العرب، حتى ليقال: "إن هذيلا أكراد العرب". بسبب طباعهم وصبرهم على تحمل القتال.
كما أشار "الجاحظ" إلى إن هذا الاختلاف ظاهر في العرب جميعا، قحطانيين و عدنانيين. ومع ذلك فهم كلهم عرب، لأنهم استووا في التربة وفي اللغة والشمائل والهمة وفي الأنفة والحمية، وفي الأخلاق والسجية، فسبكوا سبكا واحدا، وافرغوا إفراغا واحدا.

(1/2119)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان من أثر اختلاف طبيعة الجو والأرض والضغوط الجوية في أهل جزيرة العرب، إن صار لأهل المدر مجتمع يختلف في شكله وتكوينه عن مجتمع أهل الوبر، وان صار مجتمع أهل المدر جملة مجتمعات اختلفت في تكوينها باختلاف الظروف المؤثرة التي تحدثت عنها، وباختلاف المؤثرات الخارجية المحيطة بها أو المجاورة، والقريبة منها في ظروف تلك المجتمعات. و صار من ثم مجتمع العرب الجنوبيين، ولا سيما مجتمع اليمن، مجتمعا خاصا له طبيعة خاصة و شخصية مستقلة متأثرة بظروف اليمن الكلية من طبيعة أرض وطبيعة جو، وصار لأهل مكة وهم أشبه بأهل الحضر مجتمع خاص له طابع متميز، وصار لأهل الحيرة طابع خاص بهم، وصار لأهل برب كذلك مجتمع وطبيعة خاصة متميزة، وهكذا قل عن بقية المجتمعات الحضرية.
فمجتمع اليمن مثلا مجتمع خاص نجد فيه صفات المجتمع الحضري أكثر مما نراه في أي مجتمع حضري آخر في جزيرة العرب، مجتمع يختلف حتى "عربه" أي بدوه وهم الطبقة الثانية من هذا المجتمع، عن أعراب بقية جزيرة العرب. فهم بالقياس إلى بدو الجزيرة.
شبه أعراب، ووسط بن البداوة الصرفة وبين أدنى درجات الحياة الحضرية الساذجة، المستندة إلى الاستقرار والتعلق بالأرض. ومجتمع اليمن الحضري مجتمع استغل عقله ويده في سبيل تكييف حياته و إسعاد أيامه في الدنيا، فاستغل الأرض وكيفها بحسب قدره واستعداده في إنتاج الغلة الزراعية وفي إنتاج المعادن وفي تربية الحيوان، وأقام له قصورا وحصونا، واستورد آلات حبة يستعملها وتيسر له ما يحتاج إليه - استوردها من كل الأنحاء من الشمال ومن العراق ومن بلاد الشام، واستوردها من إفريقية. وسخرها في استغلال الأرض وفي إقامة الأبنية وفي أداء الأعمال اليدوية التي تحتاج إلى حنق ومهارة، فتفوق هذا المجتمع من ثم وبمزايا إقليمه من جو وأرض على المجتمعات العربية الأخرى، وأنتج حضارة لا تجد لها مثيلا في بقية أنحاء جزيرة العرب.

(1/2120)


--------------------------------------------------------------------------------

فعرف اليمن في جاهليته واشتهر بمهارته وبحذقه بحرف وبمنتجات بقي ذكرها خالدا إلى الإسلام، وتميز عن غيره محسن الذوق و بالبراعة في استعمال أنامله. و حين برع بقية عرب الجزيرة في التعبير عن أحاسيسهم بكلام منظوم، نجد عرب اليمن و بقية العربية الجنوبية يعبرون عن أحاسيسهم بنقشها على المرمر وعلى بقية الأحجار وعلى المعادن والخشب، نجد السيوف اليمانية، و لها شهرة وخبر، ونجد بسط " اليمن و برودهم و أكسيتهم مشهورة لها صيت في كل مكان، لا يدانيه صيت أي صنف مما ينتج في مكان آخر من أمكنة جزيرة العرب، ونجد لهم ذكرا في الصياغة وفي سوق الأحجار الكريمة والعطور، وغير ذلك من المنتجات التي تحتاج إلى يد وفكر.
و مجتمع اليمن المتحضر، مجتمع طبقي، تكون من طبقات: طبقات رفيعة ذات منزلة ومكانة عالية، تتلوها طبقات أخرى أقل درجة ومنزلة حتى تنتهي بالطبقات الدنيا التي تكون قاعدة لهرم هذا المجتمع وسواد الناس. وهي طبقات تكاد تكون مقفلة، لو شبه مقفلة إن صح هذا التعبير، ولا سيما بالقياس إلى الطبقات الدنيا، التي تجنبت الطبقات التي هي فوقها للتصاهر معها و الاتصال بها، للفروق المنزلية التي تشعر بوجودها فيما بينها. ثم إن الناس فيها يرثون منازل آبائهم ودرجاتهم، فابن النجار نجار، وابن الحداد حداد في الغالب، وابن التاجر يرث عمل والده، ويستطيع تغيير حرفته وتحسين حاله، إذ ليس لديهم قوانين إلزامية تجبر الناس على البقاء في طبقتهم إلى أبد الآبدين، ولكن مثل هذا التغير لا يقع إلا إذا كان الشخص ذا استعداد وكفاية وطموح، فيشق طريقه بنفسه هاتكا ستور الأعراف والعادات.

(1/2121)


--------------------------------------------------------------------------------

وما زالت الحياة الاجتماعية في العربية الجنوبية، تستمد قوتها وحياتها من جذور الحياة الاجتماعية القديمة التي كانت عليها قبل الإسلام. ففد نشأت هذه الحياة ونبتت من حاصل ظروف ذلك المجتمع الذي تحدثت عنه، و حافظ على خصائصه إلى هذا اليوم، لأنه عاشر في عزلة عن العالم الخارجي، أو في شبه عزلة، ولهذا بقي يعيش على ما تغذيه به بقايا جذور تلك الأيام من غذاء.
والحضر، وان استوطنوا واستقروا في أماكن ثابتة، لم يكونوا حضرا بالمعنى المفهوم من اللفظة عندنا، فلم يكونوا على شاكلة حضر الروم أو الفرس، ولا على شاكلة حضر العراق أو حضر بلاد الشام من غير العرب. انهم ضر من ناحية السكنى والاستقرار، أي من ناحية تعلقهم بالأرض ونزولهم بها واستيطانهم فيها، وعدم ارتحالهم عنها على نحو ما يفعل الأعراب، واتخاذهم مساكن دائمة في مكان ما. أما من ناحية التفكير وطراز المعيشة ونظم الحيلة الاجتماعية. فقد بقوا مخلصين لمثل البوادي ولطبيعتها في الحياة. فهم في قراهم ومدنهم "بيوت" و "بطون"، يقيمون في "شعاب" ولهم عصبية. وهم مثل الأعراب في أكثر مألوف حياتهم. وما زال هذا الطابع الأعرابي باديا على حياة من نسميهم الحضر في جزيرة العرب وفي خارجها، مؤثرا في حياتهم السياسية و الاجتماعية بل في عقلية من نسميهم "المثقفين" الدارسين من مدنيين وعسكريين، ذلك لأن عقول هؤلاء المثقفين وإن حشيت بالمعلومات وبالعلوم، لم تتمكن مع ذلك من التخلص من إرث البداوة المستمدة من طبيعة المجتمع وأثرها في الناس، في الماضي السحيق و في الحاضر، ومن طبيعة المجتمع الذي خلقته هذه الطبيعة وجبلت الناس عليه. ومن أهم صفاته: العنجهية، و التغني بذكريات الماضي: والابتعاد عن الواقع وعن مشكلات الحياة العلمية، واللجوء إلى العواطف والخيال، والاسراف في تمجيد النفس إلى حد أدى إلى ازدراء كل ما هو غير عربي من إنسان ومن نتاج إنسان. أضف إليها "العصبية" بأنواعها: العصبية

(1/2122)


--------------------------------------------------------------------------------

للأهل و العصبية للعشيرة ثم القبيلة فالحلف في حالة الأعرابية، والعصبية للآهل والبيوت والشعاب ثم للقرية أو للمدينة والقبيلة التي يرجع أهل القرى نسبهم إليها في الأخر، وذلك بالنسبة إلى أهل المدن. ثم الفردية المفرطة التي جعلت من الصعب على الفرد الانقياد لغيره. والخضوع لأحد إلا إذا وجد نفسه أمام مصلحة خاصة أو أمام لا قوة، ذلك لأنه يرى نفسه أشرف الناس، وان من المذلة خضوعه لحكم أحد، ولا سيما إذا كان من يحكمه من أناس هم دون أهله، ومن عشيرة دون عشيرته. ثم ليس هو من أهل الجاه ولا من أهل المال، فكيف يسلم أمره إليه?
الرعاة
وندخل في الحضر الرعاة: رعاة الغنم والمعز والبقر، ذلك لأنهم اضطروا بحكم طبيعة حياة حيواناتهم إلى شيء من الاستقرار، والى عدم التنقل مسافات بعيدة طويلة في البوادي على نحو ما يفعل الأعراب. ثم انهم يعيشون على الآبار و برك الماء وعلى مقربة من الحضر، وفي وضع بجعلهم شبه مستقرين في أكثر أيام حياتهم. وهم "أعراب الضواحي"، وعنصر مهم من عناصر تكون القرى والمستوطنات، إذ إن قربهم من الحضر واعتماد حياتهم عليهم، يحملانهم على التأثر بهم، وعلى التقرب منهم ومن مستوطناتهم. فتصير "الخيمة" بيتا مستقرا، ثم تصير "كوخا" من طين أو من أغصان شجر، ثم تتحول بيتا من بيوت قرية أو حي من أحياء مدينة، لما في المدينة من وسائل معاشية تستهوي الناس، لا تتوافر في الضواحي البعيدة، فتحول الرعاة قطان مدن.

(1/2123)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا يشترط في الرعاة الاقتصار في حياتهم على تربية الغنم، إذ فيهم من يربي الإبل أيضا، وهم "رعاة الإبل". والفرق الوحيد بينهم وبين الأعراب وهل رعاة الإبل، إن الرعاة يلازمون أرضهم و إذا تنقلوا طلبا للماء والكلأ فلا يذهبون إلى مسافات بعيدة ولا يمعنون في اختراق البوادي، لأنهم لا يستطيعون الابتعاد عن الماء كثيرا ولا يستطيعون الاكتفاء بكلأ البادية لوجود ماشية أخرى عندهم لا تستطيع الصبر على الجوع طويلا، كما إن اتصالهم بالحضر أكثر من اتصال الأعراب بهم. ومنازلهم هي في الغالب خليط من بيوت مدر ومن بيوت وبر. ولكنها ثابتة على العموم وحياتهم وسط بين البداوة والحضارة. والأرض التي يقيمون بها تكون ذات آبار وعيون ومتجمعات أمطار، وهم لا يبتعدون عنها كثيرا ولا يفارقونها لارتباط معيشتهم بها. بينما تكون حياة الأعراب على الغيث في الغالب، وعلى الآبار والتنقل.
وفي العربية لفظة "جشر". ذكر علماء اللغة إنها تعني القوم يبيتون مع الإبل في المرعى لا يأوون بيوتهم. والقوم يخرجون بدوابهم إلى المرعى ويبيتون مكانهم لا يأوون إلى البيوت. والمال الذي يرعى في مكانه لا يرجع إلى أهله بالليل. وان تخرج بخيلك فترعاها أمام بيتك. إلى آخر ذلك من معان تدل على إن الجشر رعاة يخرجون إلى المجاشر، أي المراعي لرعي إبلهم أو خيلهم بعض الوقت، إذا شبعت إبلهم واكتفت، عادوا بها إلى بيوتهم فأقاموا بها.
الأعراب
أما أهل الوبر، وهم الأعراب، فحياتهم حياة تنقل وارتحال، وعماد حياتهم "الإبل"، ولولا هذا الحيوان الصبور لما تمكن الأعرابي أن يقهر البوادي، وأن يوسع تنقله في أنحائها، وأن يعيش في هذه الأرضيين المقفرة الشحيحة التي يشح فيها سقوط المطر، ويضطر الإنسان فيها إلى ضرب الأرض بأرجل جمله بحثا عن الكلأ والماء. ولهذا صار "الجمل" "المال" الوحيد الذي يملكه الأعرابي، به يقدر الأسعار، و به يقدر "الصداق" و ثراء الإنسان.

(1/2124)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد سبق لي أن تحدثت عن معنى "عرب"، وعن المراد منها إلى قبيل الإسلام، فلا حاجة لي هنا إلى إعادة الكلام عن شيء سبق إن تكلمت عنه.
أما مصطلح أهل الوبر"، فمعناه "عرب"، أي أعراب بالمعنى الجاهلي القديم. وذلك لأن الأعراب قوم نقل، يتنقلون من مكان إلى مكان، حاملين بيوتهم وما يملكونه معهم، وبيوتهم هي الخيام، وهي مصنوعة من "الوبر" وبر الإبل في الغالب، ولذلك عرفوا بها. وعرفوا في الموارد اليونانية ب "أهل الخيام" و ب "سكنة الخيام"، وقد استعمل أعراب العراق وبادية الشام وأعراب بلاد الشام الخيام المصنوعة من شعر الماعز، وهي خيام لونها السواد، وقد أشير إليها في التوراة وفي موارد تأريخية أخرى.
وذكر علماء اللغة إن العرب: سكان القرى والمدن أي الحضر، أهل الحاضرة. أما الأعراب، فهم سكان البادية من هذا الجيل. ويقال للرجل أعرابيا إذا كان بدويا همه البحث عن الكلأ وتتبع الغيث والرعي. وأما من ينزل الريف ويستوطن القرى والمدن، فهو عربي، وان كان دون الأعراب في الفصاحة وفي سلامة اللغة. ويقال للأعراب "الأعاريب"، وذلك جمع الأعراب. فالأعرابي البدوي، وهو صاحب نجعة وانتواء وارتياد للكلأ، وتتبع لمساقط الغيث، وسواء كان من العرب أو من مواليهم. ومن نزل البادية، أو حاور البادين وظعن بظعنهم، وانتوى بانتوائهم: فهم أعراب. ومن نزل بلاد الريف واستوطن المدن والقرى العربية وغيرها مما ينتمي إلى العرب: فهم عرب، وان لم يكونوا فصحاء.
ويذكر علماء اللغة إن البادية من البروز والظهور. قيل للبرية لكونها ظاهرة بارزة. وان البادية اسم للأرض التي لا حضر فيها، وهي خلاف الحاضرة والحضارة. وقيل لسكان البادية البدو والبداة. ومن هذا الأصل جاءت لفظة "Bedouin" في الإنكليزية وفي عدد من اللغات الأوربية الأخرى، بمعنى أعراب.

(1/2125)


--------------------------------------------------------------------------------

والأعرابي بالمعنى العلمي المفهوم من اللفظة، هو - كما قلت قبل قليل - المتبدي، أي الذي قطن الباديه و عاش معظم حياته فيها وانقطع معظم حياته عن القرى والمدن. مكتفيا باتخاذ الإبل شريكة له في حياته هذه. قاطعا البوادي الجافة التي يقل معدل سقوط الأمطار فيها عن "4" عقد في السنة، للبحث عن الكلأ والماء. قانعا بحياته التي يحياها والتي أحبها وتعلق بها على ما فيها من قساوة وضراوة وفقر وشح في العيش. حتى صار لا يفارقها لأنه ولد بها. فهو لا يعرف دنيا غيرها، ولا يعرف إن في الدنيا مكانا أطيب من وطنه الذي يعيش فيه. وكل مورد على ما يولد عليه.
وتعيش بين الحضر والبادية قبائل، صيرتها إقامتها بين العالمين عالما وسطا، لا هو مجتمع حضري ولا هو بدوي أصيل، حافظ على خصائصه البدوية الموروثة من البادية، و اكتسب باحتكاكه بالحضر ما يلائم طبعه وما فرضه عليه محيطه الجديد من حياة أهل الحضر. فصار يزرع بعض الزرع ويرعى البقر والخيل والأغنام والمعز ويأتي إلى القرى والمدن للامتيار، و يستخدم مواد لا يستخدمها الأعراب لعدم وجود حاجة لهم بها، ولفقرهم الذي لا يسمح لهم بشرائها، وأخذ يبيع لأهل الحضارة ما يفيض عن حاجته من الألبان والزبد والجلود والأصواف والحيوانات. فأهل هذا العالم إذن. هم عالم وسط عالمين، وقنطرة تربط بين العتبة الأولى من عتبات الحضارة والدرجة الأولى من درجات البداوة. وخير مثل على هؤلاء هم عرب مشارف الشام، وعرب مشارف العراق. ويراد بالمشارف القرى والمستوطنات والمضارب القائمة على ما بين بلاد الريف وبين البوادي.
و "الريف" في رأي بعض علماء اللغة الخصب. والسعة في المأكل والمشرب وما قارب الماء من الأرض. أو حيث يكون الخضر والمياه والزرع. ولهذا قيل: "تريف" إذا حضر القرى وهي المياه، و "راف البدوي" يريف إذا أتى الريف. ومن هنا عرف البدوي بأنه جواب بيداء، لا يأكل البقل ولا يريف.

(1/2126)


--------------------------------------------------------------------------------

وورد في الحديث: "كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف. أي إنا من أهل البادية لا من أهل المدن". ولكن المفهوم من لفظة "ضرع"، إنها لفظة تطلق على الماشية ذوات الظلف والخف، أو للشاء واليفر، ولهذا فيجب تفسيرها، بإنا من أهل ذوات الظلف والخف، أي من الرعاة لا أهل الزرع، والرعاة هم قطان المشارف، القريبين من القرى والريف، ولا يقيمون في البادية، لأن الشاء والبقر وبقية الماشية باستثناء الإبل لا تعيش في البادية وإنما ترعى الأماكن الخصبة من الماء والريف.
والحاضرة خلاف البادية، وهي القرى والمدن والريف، سموا بذلك لأن أهلها حضروا الأمصار ومساكن الديار التي يكون لهم بها قرار. وذكر إن كل من نزل على ماء عد ولم يتحول عنه شتاء ولا صيفا، فهو حاضر، سواء نزلوا في القرى فالأرياف وبيوت المدر أو بنوا الأخبية عند المياه فقروا بها ورعوا ما حوليها من الكلأ. ولهذا قالوا: الحاضر: المقوم نزول على ماء يقيمون به ولا يرحلون عنه. وقد يكون ذلك في البوادي. إذ يقيمون حول بر أو ماء دائم، ولا يرتحلون عنه. فهذا نوع من أنواع الحاضرة في جزيرة العرب. وهم بهذا حضر جزيرة العرب، فهم سكان مستوطنات صغيرة ظهرت في مواضع الماء وعند مفترق الطرق، في هذه البوادي الجافة الواسعة.

(1/2127)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي هذه الحواضر التي أسعفها الحظ بالماء، ظهرت مجتمعات متحضرة، أي مستقرة، استفادت من الماء فبنت بعض البيوت وزرعت بعض النخيل والأشجار. ومقياس هذه الحواضر، هو الماء. فإذا وجد بغزارة أو كان قريبا من سطح الأرض توسعت فيه رقعة الحضارة، بمقدار سعة الماء وسعد الناس بالعيش في بيوت مستقرة دائمة ثابتة، أما إذا كانت الأرض شحيحة بخيلة، لا تسعف من يعيش فوقها بماء، فان الإنسان يتحاشاها بالطبع ويبتعد عنها خلال أيام الغيث. وحواضر البوادي هي المواضع التي يجب أن نوجه إليها أنظارنا للبحث فيها عما قد يكون الدهر قد خبأه فيها من كنوز وآثار. وهي منتشرة في مواضع عديدة من جزيرة العرب، لا سيما عند الأودية وقرب الحسي والجعافر والعيون.
و "عرب الضاحية" أو "عرب الضواحي"، هم العرب النازلون بظواهر الريف والحضارة وبظواهر البادية. و "الضاحية" الظاهرة الخارجة من الشيء التي لا حائل دونها، و "الضامنة" ما أطاف بالشيء مثل سور المدينة، أي ما كان داخل شيء. وضواحي الروم: ما ظهر من بلادهم وبرز. ويراد ب "عرب الضاحية"، عرب مشارف العراق وعرب مشارف الشام، لأنهم أقاموا ضواحي العراق وبلاد الشام، وعلى تخوم البادية. وقد تأثر أكثر الأعراب الساكنين بأطراف الحضارة وبأخلاق الحضر، ودخلوا مثلهم في النصرانية، بحكم تأثرهم بهم وبعوامل التبشير والسياسة، إلا أن نصرانيتهم كانت. نصرانية أعرابية مكيفة بالعقيدة الوثنية الموروثة من السنين الماضية التي كونتها طبيعة البداوة في عقلية أهل الجاهلية.

(1/2128)


--------------------------------------------------------------------------------

وسوف نجد في بحثنا عن اللغة، أن لغة "أهل المشارف" أو "أهل الضواحي" و "عرب الأرياف"، م قد تأثرت بلهجات "إرم" العراق وبلاد الشام، فظهرت في لغتهم رطانة، وبرزت فيها ألفاظ ارمية وأعجمية، و انحازت في النطق بعض الانحياز عن عربيات أهل البوادي، وكتبوا بقلم نبطي وبلهجات عربية، لا تقرها عربية القرآن الكريم، التي صارت لسان الإسلام. ولهذا حذر علماء اللغة من الاستشهاد بشعر شعراء القرى والريف وأهل المشارف والضواحي، لاعوجاج لسانهم بالنسبة إلى لسان الإسلام.
فأعراب الضواحي، أو عرب الضاحية، هم أعراب أيضا، لكنهم لم يعزلوا أنفسهم عن العالم الخارجي، و إنما عاشوا على مقربة منه ومن مواطن الحضر، فصار حالهم أحسن من حال الأعراب الأقحاح، وارتفع مستواهم العقلي عن أولئك المعنيين في حياة الأعرابية. بسبب اتصالهم بالأجانب وأخذهم عنهم واحتكاكهم بالحضر، الذين هم أرقى من الأعراب بكثير. فأخذوا عنهم وتعلموا منهم أشياء كثيرة، من مادية ومعنوية. سأتحدث عنها في المواضع المناسبة من أجزاء هذا الكتاب.
وقد عرفت الأرض التي تقع بين الفرات وبين برية العرب ب "العبر". قال علماء اللغة: "والعبر بالكسر ما أخذ على غربي الفرات إلى برية العرب" لأنها المعبر الذي يعبر عليه للوصول إلى البادية، أو الدخول من البادية إلى الفرات. وقد تكونت بها قرى عربية لعبت دورا مهما في تأريخ العراق لموقعها العسكري المهم، ولأنها الخط الأمامي الذي كان يواجه الأعراب الغزاة ومن كان يحكم بلاد الشام من حكام. ولكونه المنطلق الذي تنطلق. منه الجيوش التي تريد غزو بلاد الشام، أو صد القوات الزاحفة على العراق من الغرب.
والبداوة هي التي أمدت العراق وبلاد الشام وسائر جزيرة الغرب بالحضر، فقد كان الأعراب يأتون الحواضر وينيخون هناك، ويستقرون ثم يتحولون إلى حضر. لذلك تكون البادية المنبع الذي يغذي تلك الارضين بالعرب الحضر.
عبية الجاهلية

(1/2129)


--------------------------------------------------------------------------------

ولقد تحدثت في الجزء الأول من هذا الكتاب عن العقلية العربية بصفة عامة: عقلية العرب أي الحضر وعقلية الأعراب. وأعود في هذا الموضع إلى الحديث عن عقلية الأعراب وما رماهم به أهل الحضر من الغلظة والجفاء والجهالة والعنجهية والكبر إلى غير ذلك من نعوت عرفت عند العلماء ب "عبية الجاهلية". وذلك لما هذه العبية من صلة بهذا الموضوع في هذا المكان.
و إذا أردت الوقوف على عنجهية الجاهلية وتكبر سادات القبائل وعلى نظرتهم إلى من هم دونهم في ذلك الوقت، فخذ ما روي من قصة وقعت لمعاوية بن أبي سفيان على ما يرويه أهل الأخبار. فقد روي أن الرسول أمر معاوية بإنزال "وائل بن حجر" الحضرمي منزلا بالحرة، فمشى معه ووائل راكب وكان النهار حارا شديد الحرارة. فقال له معاوية: ألق الي نعلك، قال: لا، أني لم اكن لألبسها وقد لبستها. قال فأردفني، قال: لست من أرداف الملوك.: قال: إن الرمضاء قد أحرقت قدمي، قال: لا يبلغ أهل اليمن أن سوقة لبس نعل ملك. ولكن إن شئت قصرت عليك ناقتي فسرت في ظلها. فأتى معاوية النبي، فأنبأه. فقال: "إن فيه لعبية من عبية الجاهلية".
و "العبية" الكبر والفخر. "وعبية الجاهلية: نخوتها. وفي الحديث: إن الله وضع عنكم عبية الجاهلية، وتعظمها بآبائها، يعني الكبر". وقد وصفت "قريش" و نعتت بتكبرها حتى قيل: "هذه عبية قريش". وتجد في القرآن الكريم إشارات إلى عبية زعماء قريش وفخرهم على غيرهم بالآباء و بالأحساب وبأمور لا تستوجب فخر مفاخر، لانها لا تتناول عمل إنسان ليحمد أو ليذم عليه.وقد ذمها الإسلام ونهى المسلمين عن عبية الجاهليين.

(1/2130)


--------------------------------------------------------------------------------

ونظرا إلى ما للبداوة من فقر و قساوة و غلظ في المعاشى، ومن ضيق أفق في المدارك وقصر نظر في شؤن هذا العالم الخارجي وفي فهم الحياة - نظر العربي إلى الأعرابي نظرة استجهال وازدراء، ونظر إلى نفسه نظرة فيها علو واستعلاء. فورد أن الأعرابي إذا قيل له: يا عربي. فرح بذلك وهش له، والعربي إذا قيل له: يا أعرابي! غضب له. لما بين الحياتين من فروق وتضاد. فقد جبلت البادية أبناءها على أن يكونوا غرباء عن العالم الحضر وعن عقلية أهل القرى والمدن. متغطرسين مغرورين على فقرهم وفقر من يحيط بهم. فخورين بأنفسهم إلى حد الزهو والإعجاب والخروج عن الحد، فكانوا إذا تكلموا رفعوا أصواتهم، و ظهرت الخشونة في كلماتهم، و إذا تعاملوا مع غيرهم ظهر الحذر عليهم، خشية الغدر بهم. ولهذا قال الحضر: "أعرابي جلف"، أي جاف. وفي الحديث: "من بدا جفا"، أي غلظ طبعه لقلة مخالطة الناس. وقالوا: "أعرابي قح" و "أعرابي قحاح"، و هو الذي لم يدخل الأمصار ولم يختلط بأهلها. و لهذه الخشونة التي خلقتها طبيعة البادية في الأعرابي، وهو لا دخل له بها بالطبع، كما انه لا يشعر بها ولا يرى أن فيه شيئا منها، كان العرب، إذا تحدثوا عن شخص فيه عنجهية وخشونة، قالوا عنه: فيه أعرابية. كالذي ذكروه مثلا عن "عيينة بن حصن الفزاري"، من أنه كان أحمق مطاعا، دخل على النبي من غير إذن وأساء الأدب فصبر النبي "على جفوته و أعرابيته". إلى غير ذلك من نعوت تصف الأعرابي بالغلظ والقسوة والأنانية وما شاكل ذلك من نعوت تحدثت عنها في الجزء الأول من هذا الكتاب. وهي حاصل هذا المحيط الذي ولد فيه وعاشى، والظروف التي ألمت به، فعزلته عن العالم الخارجي، وأبعدته عن التحسس بتنوع مظاهر الطبيعة وبتغيرها، فلم ير الثلج في حياته وهو يتساقط من السماء. ولم يتعود على رؤية الأمطار وهي تتساقط عليه على نحو ما يقع في عالم أوربة أو في البلاد الحارة ذات الأمطار الموسمية الواضحة، حتى يستفيد

(1/2131)

admin
12-31-2010, 07:34 PM
منها في استغلال ارضه، ولم تعطه الطبيعة انهارا ومياها جارية، إلى غير ذلك من أمور تحدثت عنا أثناء كلامي على العقلية العربية في الجزء الأول من هذا الكتاب.
و وصف الأعرابي بالجهل، بل بالجهل المطبق. فهو وثني ولكنه لا يفهم شيئا من أمور الوثنية، وهو نصراني، لكنه نصراني بالاسم، لا يعرف عن النصرانية في الغالب شيئا، وهو مسلم ولكنه لا يعرف عن الإسلام إلا الاسم. ونجد في كتب آهل الأخبار والأدب قصصا مضحكا بمثل هذا الجهل الذي رمي به الأعراب في بعضه حق وفي بعضه باطل لأنه موضوع حمل عليهم حملا للانتقاص منهم وليكون قصصا وتفكهة وتسلية يتسلى بها الحضر في مجالسهم في أثناء قتلهم للوقت.
وهو حقود، لا يرى إن يغفر ذنب من أساء إليه. بل يظل في نفسه حاقدا عليه حتى يأخذ بثأره منه. "قيل لأعرابي: أيسرك أن تدخل الجنة ولا تسيء إلى من أساء إليك ? فقال: بل يسرني أن أدرك الثأر وأدخل النار".
ويذكر إن الرسول كان يميز بين الأعراب وبين البادية، وهم الذين كانوا ينزلون أطراف القارة "القارية" وحولهم. فما أهدت "أم سنبلة" الأسلمية لبنا إلى بيت رسول الله، أبت عائشة قبوله، لأن الرسول قد نهى أهله عن قبول هدية أعرابي. وبينما كانت أم سنبلة في بيته، دخل رسول الله، فقال: ما هذا ? قالت عائشة: يا رسول الله، هذه أم سنبلة أهدت لنا لبنا، وكنت نهيتنا إن نقبل من أحد من الأعراب شيئا. فقال رسول الله: خذوها، فان أسلم ليسوا بأعراب، هم أهل باديتنا. ويفهم من هذا الخبر، إن الرسول فرق بين العرب البادية المقيمين حول "القارية" أهل الحاضرة، الذين هم على اتصال دائم بالحضر، وبين الأعراب. وهم البادون البعيدون عن أهل الحواضر. وهم الذين نهى الرسول عن قبول هدية منهم. وذلك بسبب جفائهم على ما يظهر ولأنهم لا يهدون شيئا إلا طمعوا في رد ما هو أكثر منهم. لغلظ معاشهم وضيق تفكيرهم. وآية ذلك ما ورد عنهم في القرآن الكريم.

(1/2132)


--------------------------------------------------------------------------------

فأهل البادية المجاورون للحضر أخف على النفس، من الأعراب، لتأثرهم بحياة الحضر. ولعل منهم من شارك أهل الحضر في التعاطي والتعامل. ونرى آهل الأخبار يروون إن أهل القرى كانوا أصحاب زرع ونخيل وفواكه وخيل وشاء كثير وإبل، يقيم حولهم أناس بادون. كالذي كان حول مكة ويثرب والطائف وقرى الحجاز واليمن وغير ذلك، فان هؤلاء لم يكونوا أعرابا أي بدوا صرفا، هجروا الحواضر و أقاموا في البوادي البعيدة، بل هم وسط بن الحفر وبين الأعراب. فأخلاقهم ألين من أخلاق الأعراب وطباعهم أرق.. ويمكن الاعتماد عليهم نوعا ما، بينما لا يمكن الركون إلى قول أعرابي.
وقد بلغ من استعلاء الحضر على أهل البادية، إن الأعراب لما أرادوا التسمي بأسماء المهاجرين قبل أن يهاجروا، منعوا من ذلك، فأعلموا إن لهم أسماء الأعراب لا أسماء المهاجرين، وعليهم التسمي بها.
والأعراب أهل منة، إذا فعلوا معروفا بقوا يتحدثون عنه، ويمنون بصنعه على من قسموه له. وهم يريدون منه صنع أضعاف ما صنعوه له. وهم خشنون إذا تكلموا رفعوا أصواتهم. وقد وبخهم القرآن وأنبهم لفعلهم هذا. فجاء فيه: "يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض، أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون. إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم". وأمر المسلمين بالتأدب بأدب الإسلام. فقال: "واقصد في مشيك واغضض من صوتك. إن أنكر الأصوات لصوت الحمير". وقد كانوا يجهرون له بالكلام ويرفعون اصواتهم، فوعظهم الله ونهاهم عن ذلك، يقول تعالى ذكره "يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت رسول الله تتجهموه بالكلام وتغلظون له في الخطاب".

(1/2133)


--------------------------------------------------------------------------------

و كان من خشونتهم و أعرابيتهم إن أحدهم إذا جاء الرسول فوجده في حجرته نادى: يا محمد يا محمد? وذكر إن وفدا من "تميم" وفد على رسول الله، فوجده في حجرته، ونادى مناديه:. اخرج إلينا يا محمد? فان مدحنا زين وذمنا شين. أو: يا محمد ! إن مدحي زين وان شتمي شين. فأنزل الله: )إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون. ولو انهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم. والله غفور رحيم(.
وقد اتهم الأعرابي بماديته المفرطة وبطمعه الفظيع. فهو يحارب معك، ثم ينقلب عليك ويصير مع خصمك، إذا وجد إن في الجانب الثاني حلاوة، وانه مستعد لإعطائه أكثر مما أعطيته. حاربوا مع الرسول ثم صاروا عليه و انتهبوا عسكره، و جاؤوا إليه فعرضوا عليه الإسلام، فلما أرادوا العودة إلى بلادهم وهم مسلمون، وجدوا رعاء للرسول، فانتهبوه وقتلوا حماته مع علمهم بأنه له، وان انتهاب مال المسلم حرام، فكيف بهم وهم ينتهبون مال رسول الله. وقد ندد القرآن الكريم بطمعهم في الآية: )قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا، ولكن قولوا أسلمنا(. فهؤلاء قوم من بوادي العرب قدموا على النبي، صلى الله عليه وسلم، المدينة، طمعا في الصدقات، لا رغبة في الإسلام، فسماهم الله تعالى الأعراب.. و مثلهم الذين ذكرهم الله في سورة التوبة، فقال: )الأعراب أشد كفرا ونفاقا(. وذكر عن "قتادة" قوله: "قالت الأعراب آمنا، قل: لم تؤمنوا، ولعمري ما عمت هذه الآية الأعراب. إن من الأعراب من. يؤمن بالله واليوم الاخر، ولكن إنما أنزلت في حي من أحياء الأعراب إمتنوا بإسلامهم على نبي الله، صل الله عليه وسلم، فقالوا: أسلمنا ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان. فقال الله تعالى: )لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا(". "وقال أخرون: قيل لهم ذلك لأنهم منوا على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بإسلامهم. فقال الله لنبيه، صلى الله عليه وسلم، قل لهم لم تؤمنوا ولكن استسلمتم خوف السباء

(1/2134)


--------------------------------------------------------------------------------

والقتل".
ولا يعرف الأعرابي شيئا غير القوة ولا يخضع إلا لسلطانها. وبموجب هذه النظرة بنى أصول الحق والعدل، وما يتبعهما من حقوق. كما سأتحدث عن ذلك فيما بعد. وهو فخور بنفسه متباه بشجاعته، لكنه لا يصبر إذا طال القتال وجد، ولا يتحمل الوقوف طويلا في ساحة المعركة، لا سيما إذا شعر إن للقتال غبر متوازن، وان أسلحة تصمه أمض و أقوى في القتال من أسلحته، فيولي عندئذ الأدبار، و لا يرى في هروبه هذا من المعركة شيئا ولا عيبا. وفي تأريخ معارك الجاهلية ولا سيما في معاركهم مع الأعاجم ومع القوات النظامية العربية أمثلة عديدة من هذا القبيل. ففي الحروب التي وقعت بين المسلمين والفرس أو الروم، خذلت بعض القبائل المسلمين، وتركتهم لما رأت جد القتال وان لا، فائدة مادية ستحصل عليها منه. "وقد كان انضم إلى المسلمين حين ساروا إلى الروم ناس من لخم وجذام، فلما رأوا جد القتال فروا ونجوا إلى ما كان قربهم من القرى، و خذلوا المسلمين". فروا وهربوا لأنهم وجدوا إن القتال قد طال وانه قتال جد، ولا قبل للقبائل على القتال الطويل للشديد الجد. فاختاروا الهروب دون إن يفكروا، في شدهم الذي عقدوه مع إخوانهم في الجنس على القتال معهم والاستمرار فيه حتى النهاية، فإما نصر وإما هزيمة وموت وهلاك. ولكن طبيعة الأعراب لا تقيم وزنا ولا تعطي أهمية للعقود في مثل هذه المواقف. إن رأت هواها في القتال قد تغير وتحول، وان الأمر في كسب مغنم قد تضاءل، انسحبت منه بعذر قد يكون تافها وبغير عذر أيضا. وقد لا تنسحب، وإنما تبدل الجبهة، بأن تذهب إلى الجانب الآخر فتحارب معه، وتقاتل عندئذ من كانت تقاتل معه. لأنها وجدت إن الربح من هذا الجانب مضمون، وان ما ستناله منه من فائدة أكثر. وذك بعد مفاوضات سرية تجرى بالطبع. وهذا ما أزعج الروم والفرس، وجعلهم لا يطمئنون إلى قتال العرب معهم وفي صفوفهم.، فرموهم بالغدر. فكانوا إذا كلفوهم بالحرب معهم عهدوا إليهم

(1/2135)


--------------------------------------------------------------------------------

القيام فيها بأعمال حربية ثانوية، أو الانفراد بحرب الأعراب الأعداء الذين هم من أنصار الجانب الآخر. فقد حدث مرارا إن هرب الأعراب من ساحة القتال حين سعرت نار الحرب، وارتفع لهيبها، فأحدث هروبهم هذا ارتباكا في جانب من كان يقاتلون معه أدى إلى هزيمته هزيمة منكرة، لما أحدثه فرارهم هذا من فجوة في صفوف المقاتلين. وقد أشارت إلى هذه الحوادث مؤلفات الكتاب اليونان و اللاتين.
وهو صارم عبوس، إذا ضحك ضحك بقدر، وكأنه يسقع بضحكته هذه ضريبة فرضت عليه. يكره الدعابة، ويرى فيها تبذلا لا يليق صدوره من إنسان كريم. بقي هذا شأنه حتى في الإسلام. فما وصف "أبو عبد الله المصعب بن عمد الله بن المصعب الزبيري" "عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر-الصديق" قال عنه: "كان امرءا صالحا، وقد كانت فيه دعابة". حتى إن من العلماء من عد "الدعابة" من الشوائب التي تنقص المرومة، وتؤثر في صاحبها، وتطعن فيه، فلا تجعله أهلا لأن يؤخذ عنه الحديث. أي جعلوه شخصا غير موثوق به.
و قد بحث "غوستاف لبون" و "رينان" و "الأب لامانس" في عقلية الأعرابي. وما رأوه فيه من وجود "فردية" متطرفة عنده، إلى درجة تجعله يقيس كل شيء بمقياس الفائدة التي يحصل عليها من ذلك الشيء. ثم ما وجدوه فيه في الوقت نفسه من خوفه من الإمعان في القسوة، ومن الإمعان في القتل، لما يدكه من رد الفعل الذي سيحدث عند أعدائه ضده إذا تمكنوا منه، ومن نتائج الأخذ بالثأر. كما بحثوا عن ميل الأعرابي إلى المبالغة. المبالغة في كلامه. والمبالغة في إعطائه إذا أعطى، والمبالغة في مدح نفسه، والتباهي بشجاعته و بكرمه و بشدة صبره إلى غير ذلك، مع وجود تناقض فيه بالنسبة إلى دعاويه هذه. وهو يحب المديح كثيرا، وهو على حد قولهم. إذا أعطى، صور ذلك غاية الجود، وبالغ فيه، ويظل يذكره في كل وقت ويحب إن يطرى عليه، لا سيما إذا كان من شاعر وهو صحافي ومذيع ذلك الوقت.

(1/2136)


--------------------------------------------------------------------------------

وللفوارق الموجودة بين العرب والأعراب، بين الحضر وبين أهل البوادي رأى "الأزهري" وجوب التفريق بين الاثنين. إذ قال: "والذي لا يفرق بين العرب والأعراب والعربي والأعرابي، ربما تحامل على العرب، بما يتأوله في هذه الآية. وهو لا يميز بين العرب والأعراب. ولا يجوز إن يقال للمهاجرين والأنصار أعراب، إنما هم عرب، لأنهم استوطنوا القرى القريبة، وسكنوا المدن. سواء منهم الناشئ بالبدو، ثم استوطن القرى و الناشئ بمكة، ثم هاجر إلى المدينة. فان لحقت طائفة منهم بأهل البدو بعد هجرتهم واقتنوا نعما ورعوا مساقط الغيث بعد ما كانوا حاضرة أو مهاجرة. قيل: قد تعربوا أي صاروا أعرابا بعد ما كانوا عربا. وفي الحديث تمثل في خطبته مهاجر ليس بأعرابي. جعل المهاجر ضد الأعرابي. قال والأعراب ساكنو البادية من العرب الذين لا يقيمون في الأمصار ولا يدخلونها إلا لحاجة. وقال أيضا المستعربة عندي قوم من العجم دخلوا في العرب فتكلموا بلسانهم وحكوا هيآتهم وليسوا بصرحاء فيهم. وتعربوا مثل استعربوا". وقد ذهب هذا المذهب "ابن خلدون"، إذ رأى إن الأعراب يختلفون عن العرب. ولذلك فإن ما أشار إليه "ابن خلدون" من إن العرب إذا دخلوا بلدا أسرع إليه الخراب إنما قصد به الأعراب لا العرب الحضر.

(1/2137)


--------------------------------------------------------------------------------

ولكي نكون منصفين في الأحكام عادلن غير ظالمين علينا التفريق بين الأعراب وبين العرب. فما يقال عن الأعراب يجب ألا يتخذ قاعدة عامة تطبق على العرب. لما بين العرب والأعراب من تباين في الحياة وفي النفسية والعقل. ثم علينا لكي نكون منصفين أيضا إن نفرق بين عرب وعرب. لما أصاب عرب كل أرض من أرض العرب من أثر تركه الأجانب فيهم، ومن امتزاج الأعاجم في العرب ودخولهم فيهم واندماجهم بهم حتى صاروا منهم تماما. والامتزاج والاندماج يؤثران بالطبع في أخلاق أهل المنطقة التي وقعا فيها، أضف إلى ذلك عوامل البيئة والمحيط. ولهذا يرى المرء تباينا بينا بين عرب كل قطر، تباينا يلمسه حتى الغريب. فبين أهل العراق وأهل بلاد الشام العرب، تبابين و فروق في الملامح الجسمية وفي المظاهر العقلية والاجتماعية وغيرها، مع انهم جميعا عرب يفتخرون بانتسابهم إلى العروبة. وبين عرب العربية الجنوبية وبين عرب عالية نجد فروق واضحة جلية. وهكذا قل عن بقية بلاد العرب. بل نجد هذا التباين أحيانا بين أجزاء قطر واحد. فإذا كان هذا هو ما نراه ونلمسه في الجاهلية وفي الإسلام، فهل يجوز لأحد التحدث عن عقلية عامة جامعة تشمل كل العرب? وقد أدرك المتقدمون علينا بالزمن اختلاف العرب في الصفات والشمائل، فتحدثوا عن "حلم قريش"، وعن لينها ورقة ذوقها وعن براعتها في التجارة، وتحدثوا عن عمق تفكير أهل اليمن وعن اشتهارهم بالحكمة، حتى قيل: الحكمة يمانية. وورد إن "علي بن أبي طالب"، لما وافق على اختيار "أبي موسى الأشعري" ليكون ممثله في التحكيم، قال له "أبو الأسود الدؤلي": "يا أمير المؤمنين لا ترض بأبي موسى، فإني قد عجمت الرجل وبلوته، فحلبت أشطره، فوجدته قريب القعر، مع انه يمان".
الحنين إلى الأوطان

(1/2138)


--------------------------------------------------------------------------------

ومع فقر البادية وغلظ معاشها وشحها، فإن الأعرابي يحن إليها، ولا يصبر عن فراقها حتى وان أخذ إلى جنان الريف. قال الجاحظ: "وترى الأعراب تحن إلى البلد الجدب، والمحل القفر، والحجر الصلد، وتستوخم الريف". "واعتل أعرابي في أرض غربة، فقيل له: ما تشتهي? فقال: حسل فلاة، و حسو قلات". ويروى إن "ميسون بنت بحدل" الكلبية، زوجة معاوية، كانت تحن إلى وطنها، وقد سمعها زوجها وهي تنشد أبياتا في شوق وحنين إلى البادية، فخيمتها التي تلعب الأرياح بها، خير عندها وأحب لها من العيش في قصر منيف، ورجل من بني عمها نحيف أحب إليها من "علج عليف"، أي حضري سمين من كثرة الأكل. وانتقل أعرابي من البداوة إلى الحضارة، فرأى المكاء في الحضر، فقال يخاطبه: فارق هذا المكان، فإنه ليس لك فيه الشجر الذي تعشش عليه، و أشفق من إن تمرض كما مرضت.
والعربي الذي ألف الحضارة وأمعن في الترف وتفن في العيش بالمدن، لا يفقه سحر البادية الذي يجلب إليه أهل البادية. لأنه يرى إن كل ما فيها ضيق وجوع وحر شمس وفقر. فيسخر من الأعرابي ويضحك عليه لحنينه إلى باديته. ولما استظرف "الوليد بن عبد الملك" أعرابيا واستملحه، فأبقاه عنده وسأله عن سبب حنينه إلى وطنه أجابه جوابا خشنا، مثل جفاء الأعراب وصلفهم. فقال الوليد، وهو يضحك: أعرابي مجنون. ولم يتأثر منه، لأنه أعرابي، والأعرابي في حكم المجانين. وقد سقط حكم القلم عنه.
ويروي أهل الأخبار حديثا لكسرى أنوشروان مع وفد وفد عليه فيه بعض خطباء العرب. فسألهم عن سبب تفضيلهم السكن بالبادية وعن حياتهم بها وعن طبائعهم إلى غير ذلك من أسئلة وأجوبة دونوها على إنها أسئلة كسرى و أجوبة العرب عليها. و فيها أمور مهمة عن حياة الأعراب. وقد يكون الخبر قصة موضوعة، غير إننا لا ننظر إليها من جهة تاريخية، إنما نأخذها مثالا على ما كان يدور في خلد من صنعها عن نفسية الأعراب وعن نظرة الحضر إلى أهل البوادي.

(1/2139)


--------------------------------------------------------------------------------

و للمسعودي كلام في اختيار العرب سكنى البادية وسبب ذلك، كما تحدث عن أثر البوادي في صحة أجسام العرب وفي تكوين أخلاقهم، مما جعلهم يختلفون بذلك عن بقية الناس.
والعرب وإن عرفوا بالترحل والتنقل، بسبب البداوة إلا انهم يحنون إلى أوطانهم، ولا ينسون موطنهم القديم. يستوي في ذلك العربي والأعرابي. وهم يرون إن في الغربة كربة، وان الإنسان إذا صار في غير أهله ناله نصيب من العذل. "وكانت العرب إذا غزت وسافرت حملت معها من تربة بلدها رملا وعفرا تستنشقه عند نزلة أو زكام أو صداع". "وقيل لأعرابي: كيف تصنع في البادية إذا اشتد القيظ وانتعل كل شيء ظله? قال: وهل العيش إلا ذاك، يمشي أحدنا ميلا فيرفض عرقا، ثم ينصب عصاه ويلقي عليها كساءه، ويجلس في فيئه يكتال الريح، فكأنه في إيوان كسرى".
وجاء إن "الوليد بن عبد الملك" استظرف أعرابيا فاحتسبه عنده وحباه، فمرض فبعث إليه "الوليد" بالأطباء، وعالجوه، ورأى من الخليفة كل رعاية. لكن هواه بقي في وطنه، ولم يطق على هذه المعيشة الراضية الطيبة صبرا، فهلك بعد قليل. إلى غير ذلك من قصص وشعر ورد في الحنين إلى الأوطان، وفي تفضيل الوطن على كل منزل آخر، ولو كان آية في الجمال ومثالا من الراحة و الاطمئنان.
وهو يعجب من لغة أهل الحضر، ولا سيما حضر ريف العراق وريف بلاد الشام. ومن الاكرة الذين لا يفهم عنهم ولا يستطيع إفهامهم، فكان يجد نفسه و كأنه في سجن مطبق، يريد الخلاص منه. حدث ذلك حتى في الإسلام، وقد ذكر "أبو عمان الجاحظ"، انه رأى أعرابيا، وكان عبدا حبشيا لبني أسيد، وقد صار "ناظورا"، و كأنه اصيب بمس من الجن، فلما رآه، قال له: لعن الله أرضا ليس بها عرب.
حياة الأعراب

(1/2140)


--------------------------------------------------------------------------------

وحياة الأعراب حياة تكاد تكون حياة واحدة لا تغير فيها ولا تبدل، فهي على وتيرة واحدة. على تعدد القبائل، وابتعاد مواضع بعضها عن بعض. ذلك لأن الظروف المخيمة عليهم، ظروف واحدة لا اختلاف فيها ولا تبدل. إلا ما كان منها بالنسبة إلى أعراب الضواحي والحواضر، فان ظروفهم تختلف عن هؤلاء، ومجال تفكيرهم أوسع من مجال تفكير الأعراب. بسبب نوع المعيشة المتغير، المتصل بالأرض، وقربهم من الحضر. ولو درسنا حياة القبائل في الجاهلية وج معنا دراستنا من المروي عنها في الكتب، وجدنا إن بين الماضي البعيد وبين الحاضر شبها في نمط الحياة، وان ما ذكرته عن قبائل الجاهلية يكاد ينطبق على حياة قبائل البادية في وقتنا هذا، ذلك لأن الظروف والمؤثرات بالنسبة إلى حياة الأعراب الممعنين في البادية لا تزال كما كانت عليه. ولكنها سوف لن تبقى على ما هي عليه و إلى أبد الآبدين بالطبع، لأن التقدم الحضاري والاكتشافات المادية، قد آخذت تغزو الأعراب وتضيق الخناق عليهم، لتغير من حالهم. فبعد إن كان البدو قوم غزو، أكرهتهم الحكومات القوية على الابتعاد عن الغزو ونبذه، حتى اضطروا إلى توديعه إن الأبد أو كادوا وصاروا مغزوين، تغزوهم الحضارة الحديثة والآليات بما لا قبل لهم بمقاومته، لتفوق الغزو الجديد عليهم. وهم سيكونون ولا شك بمرور الوقت على شاكلة النصف الآخر من العرب. أي إخوانهم الحضر. يوائمون أنفسهم مع التطور الجديد. وسوف يبدل هذا من حياتهم ولا شك، ومن أهم ما سيفعله فيهم، تحويل حياتهم من حياة غير مرتبطة بالأرض، إلى حياة ترتبط بها ارتباطا. وثيقا، فتتحول البداوة عندئذ إلى حضارة، وسيشعر الأعرابي عندئذ انه مواطن له ارض ووطن وقوم هم إخوة له يشعرون بشعوره. وأن من يعزل نفسه عن العالم، فلن يعزل بذلك إلا نفسه، ولن يضر إلا بصالحه. وان الإنسان بغير عمل ولا إنتاج، إنسان تافه لا قيمة له. وأن العنتريات و العبية الجاهلية من جملة مؤخرات الحياة

(1/2141)

admin
12-31-2010, 07:35 PM
في كل الأزمنة والأوقات.
ملامح العرب
والعرب وان كانوا من الجنس السامي، إلا انهم يختلفون عن بقية "أبناء سام" في الملامح الجسمانية وفي فصائل الدم، وفي أمور أخرى. ذلك لأن السامية، كما سبق إن قلت -جنسية ثقافية، أما من الناحية "البيولوجية" وهي تتعلق بالملامح وبأمور بيولوجية أخرى فليست بجنسية خاصة يمكن تمييزها من بن قبائل الأجناس البشرية، لما نراه فيما بين شعوبها من تباين. ثم إن بين العرب أنفسهم، تباينا واختلافا في الملامح، بسبب قرب العرب وبعدهم من الأعاجم، وأثر فعل الرقيق والأسرى في امتزاج الدم بينهم، ثم اثر فعل الطبيعة و عملها في الإنسان، وما تقدمه له من غذاء ونوع ماء وحر وبرد ومطر وضغط جوي ونوع تربة.
واليهود هم من الجنس السامي، جنس خليط كذلك في القديم وفي الحديث فقد دخل اليهود دم غريب أيضا، وفي في التوراة وفي أسفار المكابيين والكتب العبرانية الأخرى، إكراه اليهود للشعوب التي استولوا على أرضها على التهود. فدخلت في اليهودية، وهي ليست من اصل يهودي، وصارت من يهود وقد دخلت اليهودية في حمير وبني كنانة وبني الحارث كعب و كندة، وهم من العرب. و دخل آخرون في اليهودية، وصاروا يهودا فاليهود مثل غيرهم، فيهم اليهودي الخالص، وفيهم اليهودي الغريب، وفي ملامحهم المتباينة ما هو دليل على وجود الاختلاط في الدم.

(1/2142)


--------------------------------------------------------------------------------

وأنا إذ أتكلم عن ملامح العربي، فإني لا ازعم إن لدي أو لدى الباحثين مقاييس خاصة ثابتة نستطيع إن نقيس بها ملامح العرب، بحيث نحددها في حدود ونرسم لها رسوما، لا تتعداها ولا تتخطاها. فحدود مثل هذه لا يمكن إن توجد ولا يمكن إن ترسم، لان بين العرب تباينا وتنابزا في الصور وفي الملامح بحيث يكون من الصعب علينا وضع حدود ثابتة لملامح العرب، يخضع لها كل العرب أو أكثرهم. وسبب ذلك اتساع جزيرة العرب، ووجود سواحل طويلة جدا تقابل قارتين: قارة سوداء هي إفريقية، وقارة أخرى هي آسية، لون بشرة سكان سواحلها الجنوبية الشرقية السواد والسمرة الغامقة. وهي سواحل مفتوحة غذت جزيرة العرب بعناصر ملونة اختلط دمها بالدم العربي حتى اثر ذلك اللون في سحن الناس هناك فبان السواد أو اللون الداكن على السواحل العربية المقابلة لسيلان والمهند. وظهرت الملامح الأفريقية على سحن الساحل الغربي لجزيرة العرب من تهامة فيما بعد حتى ساحل عمان. وظهرت سحن وملامح أقوام بيض من روم و رومان وأهل فارس في مواضع أخرى من جزيرة العرب، بسبب سياسة الحكومات القاضية بالتهجير نكاية بالمهجرين، أو بسبب تنقلات الجيوش والحروب، أو التجارة، أو الخطط العسكرية القاضية بحماية المصالح الاقتصادية. وذلك بوضع حاميات عسكرية على سواحل الجزيرة لحماية السفن من غارات الأعراب ولصوص البحر. ثم يحدث إن تنقطع الأسباب برجال تلك الحاميات، وتنقطع صلاتهم بالأم لعوامل عديدة، فيستقرون في مواضعهم ويتعربون حتى صاروا عربا. نسوا أصلهم وعدوا من خلص العرب. ولكن العرق دساس كما يقول الناس، فبقي أثره بارزا ظاهرا على الوجوه، نراه حتى اليوم في تغاير وتمايز سحن سكان السواحل فيما بينها، وفي تغايرها عن سحن أهل باطن جزيرة العرب تغايرا. ملحوظا. وقد أشرت في كتابي "تأريخ العرب قبل الإسلام" و في الجزء الأول والثاني من هذا الكتاب إلى أثر المستعمرات اليونانية في سحن العرب، كما

(1/2143)


--------------------------------------------------------------------------------

هو الحال في جزيرة "فيلكة" في الكويت والى أثر الرقيق، التجارة في باطن جزيرة العرب مما يجعلني في غنى عن إعادة الكلام عن ذلك مرة أخرى.
وقد ذكر أهل الأخبار إن الروم سكنت في الجاهلية جبل "ملكان" وهو جبل في بلاد طيء. فلا يستعد بقاء هؤلاء فيه وسكنهم فيه، وتحولهم إلى عرب بتعربهم كما تعرب غيرهم من اليونان ممن نزل المستوطنات اليونانية في بلاد العرب.
ونجد بمكة ويثرب وبمواضع أخرى من جزيرة العرب موالي أصلهم من الفرس أو الروم برز منهم بعض الصحابة مثل: "سلمان الفارسي" و "رومان الرومي"، وهو من موالي الرسول، وغيرهم. وقد ترك هؤلاء الموالي آثرا في ملامح الناس ولا شك.
ثم يلاحظ إن أجسام سكان السواحل اقصر من أجسام أبناء الجبال والنجاد. وان أهل التهائم والسواحل الجنوبية لجزيرة العرب اقصر قامة من أهل نجاد اليمن أو أهل نجد. كما نجد اختلافا بين ملامح القبائل لا زال بارزا حتى اليوم. اختلافا يتحدث عن طبيعة الامتزاج الذي وقع في الدم في أيام الجاهلية أيضا، لاختلاط الدماء وامتزاجها بالعوامل التي ذكرتها.، وان ذهب البعض إلى إن جزيرة العرب كانت في عزلة عن العالم، فهذه العزلة التي يتحدثون عنها، هي عزلة لم تكن عامة و لا يمكن إن نسميها عزلة صحيحة إلا بالنسبة للقبائل المتبدية التي عاشت في صميم البوادي، غير إن تلك القبائل لم تتمكن مع ذلك من عزل نفسها عن الرقيق والأسرى الغرباء.

(1/2144)


--------------------------------------------------------------------------------

ثم نجد فروقا بين العرب والأعراب، سببه اختلاف المحيط والظروف والغذاء. فالعربي ممتلئ الجسم بالقياس إلى الأعرابي الرشيق القليل اللحم، الدقيق العظم. وتظهر هذه النحافة في وجه الأعرابي أيضا، فوجهه ممشوق قليل اللحم، دقيق ممتد ذو ذقن بارز، وأنف دقيق، وعينان براقتان. وتعد الرشاقة في جسم العربي من محاسنه لأنها تجعله معتدل القوام. خفيف الحركة،. وقد مدح "امرؤ القيس" الغعلام الخف، أي الخفيف الجهم، السريع الحركة الذي ينزل، عن صهواته ويلوي بأثواب العنيف المثقل. أي الثقيل الجسم السمين. وقيل: الخفيف في الجسم والخفاف في التوقد والذكاء. ويعد ثقل الجسم من المعيبات. ومن المجاز التخفيف ضد التثقيل والخفيف ضد الثقيل. وقد اعتبروا الثقل ذما في الإنسان. فقبل: هو ثقيل على جلسائه، وهو ثقيل الظل، ويقال مجالسة الثقيل تضني الروح، حتى ألف بعض العلماء في أخبار الثقلاء.
و "الربع" من الرجال، أي المتوسط القامة، النموذج الأوسط للإنسان وحد الكمال في الجسم عند العرب. ويقال له: "ربعة" و "مربوع". وقد نعت رسول الله بأنه "ربعة" من الرجال، وورد أنه كان أطول من المربوع وأقصر من المشذب. والوسط عند العرب هو بين. الجيد والرديء. وأوسط الشيء أفضله وخياره. ومنه الحديث: خيار الأمور أوساطها. وقد هابت العرب أصحاب الطول في الجسم، والكبر في الرأس، واحترموا أصحاب الهيبة والتأثير في النفس، وقد ذكر بعض منهم في كتب أهل الأخبار. وقد رموا القصير بالمكر والخديعة، ولكنهم اعتبروا القصر في الجسم من العيوب، لا سيما إذا كان ذلك القصير غليظ البطن. وقد عرف الإنسان الموصوف بهذه الصفة بالدحداح و بالداح وبالدودح وبالذحذاح. والدودحة القصر مع السمن. وأما "الدرحاية"، فالرجل الكثير اللحم القصير السمين البطين، اللئيم الخلقة. وعرف الرجل المسن الذي ذهبت أسنانه ب "الدردح".

(1/2145)


--------------------------------------------------------------------------------

واعتبر العرب طول العنق من سمات المدح. ولذلك وصف رؤساء العرب بطول العنق. وعبر عن الرؤساء والكبراء والأشراف ب "الأعناق" و "أعناق". وعبر عن الجماعة الكثرة ب "الأعناق" كذلك. وذكر الشاعر "عروة بن الورد" عنق الآرام في شعر له في وصفه للناشئات الماشية بتبختر. إذ قال: والناشئات الماشيات الخوزرى كعنق الآرام أوفى أو صرى
والعرب مثل غيرهم لا يحبون الصلع. ويكثر ظهوره بين العجزة والمسنين والأشراف. وقد ذكر إن أكثر الأشراف من العرب كانوا من الصلع، وتفسير ذلك إن أكر الأشراف هم من ذوي الأسنان، وان الإنسان إذا تقدمت به السن، أخذ الصلع يجد له مكانا في رأسه فيلعب فيه. ومن ذلك قول الناس يوم بدر: "ما قتلنا إلا عجائز صلعا" أي مشايخ عجزة عن الحرب. وأنشد "ابن الأعرابي": "يلوح في حافات قتلاه الصلع" أي يتجنب الأوغاد ولا يقتل إلا الأشراف.
وهم يفضلون "الأفرع" على الأصلع. والأفزع هو الكثير الشعر. وكان "أبو بكر" أفرع، وكان عمر أصلع. وكان رسول الله أفرع ذا جمة. والصلع خير من "القرع"، لأن القرع داء يصيب الرأس، فيؤثر في منظره ويسبب سقوط شعره وحدوث أثر دائم فيه، وقد تنبعث رائحة كريهة منه. وقد ذكر الأخباريون أسماء عدد من الأشراف عرفوا بقرعهم.

(1/2146)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد اشتهر بعض العرب بطول القامة، حتى زعم إن بعضا منهم كان إذا ركب الفرس الجسام خطت إبهاماه في الأرض. وذكروا من هؤلاء: "جذيمة ابن علقمة بن فراس"، المعروف ب "جذل الطعان" الكناني، و "ربيعة بن عامر بن جذيمة بن علقمة بن فراس"، وكان يماشي الظعينة فيقبلها، فسمي "مقبل الظعن". و "زيد الخيل بن المهلهل الطائي"، و "أبو زيد حرملة ابن النعمان الطائي"، وعدي بن حاتم بن عبد الله الطائي، وقيس بن سعد بن عبادة الأنصاري، وأبوه سعد بن عباسة، وسعد بن معاذ، وعبد الله بن أبي ابن سلول، وبشير بن سعد، أخو بني الحارث بن الخزرج، وجبلة بن الأيهم الغساني، وحمل بن مرداس النخعي، ومالك الأشتر بن الحارث النخعي، و عبد الله بن الحصين ذي الغصة الحارثي، وعامر بن الطفيل الجعفري، وقيس ابن سلمة بن شراحيل بن أصهب الجعفي.
العرب أفخر الأمم
يرى الجاحظ إن العرب أفخر الأمم، وأرفعها وأحفظها لأيامها، وينسب ذلك إلى طبيعة بلادهم. إذ "كانوا سكان فياف وتربية العراء، لا يعرفون الغمق ولا اللثق، و لا البخار ولا الغلظ و لا العفن، ولا التخم، أذهان حداد، ونفوس منكرة، فحين حملوا حدهم ووجهوا قولهم لقول الشعر وبلاغة المنطق، وتشقيق اللغة وتصاريف الكلام، بعد قيافة الأثر وحفظ النسب، والاهتداء بالنجوم، والاستدلال بالآفاق، وتعرف الأنواء، والبصر بالخيل وآلة الحرب، والحفظ لكل مسموع والاعتبار بكل محسوس، وإحكام شأن المثالب والمناقب، بلغوا في ذلك الغاية، وحازوا كل أمنية. و ببعض هذه العلل صارت نفوسهم أكبر، وهمهم أرفع من جميع الأمم وأفخر، ولأيامهم أحفظ وأذكر". وهم لطبيعة الأرض التي ولدوا بها صاروا على هذه الحال، ولم يصيروا كاليونان في الحكمة وفي العلوم، ولا كالصين في السبك والصياغة والإفراغ و الإذابة والأصباغ العجيبة، وأصحاب الخرط والنحت و التصاوير، و لا كالهنود أو الفرس.

(1/2147)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد وصف الأعرابي بالتفاخر وبالتباهي، فهو فخور معجب بنفسه مترفع عن غيره حتى لكأنه النمر، مع انه من أفقر الناس. ولهذا صاروا إذا أرادوا وصف شخص متغطرس متجبر مع انه لا يملك شيئا يفوق به نفسه على غيره، قالوا عنه: "نبطي في حبوته. أعرابي في نمرته، أسد في تامورته".
العجم
ويطلق العرب على غيرهم ممن لا. ينتمون إلى العرب، لفظة "أعاجم". و "العجم" عندهم خلاف العرب. والرجل الواحد "أعجمي". ولعلماء اللغة آراء في تفسير هذه اللفظة. وهي من الألفاظ الجاهلية، لورودها في القرآن الكريم. ففيه: )لسان الذي يلحدون إليه أعجمي(،. و )أ أعجمي وعربي. قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء(، و )لو جعلناه قرآنا أعجميا، لقالوا لولا فصلت آياته(، و )لو نزلناه على بعض. الأعجميين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين(. ففي هذه الآيات دلالة واضحة على إن المراد من "أعجمي" خلاف العربي، وان هذا المصطلح كان معروفا عند العرب قبل "لإسلام." ويطلق العرب على العجم "الحمراء" لبياضهم ولأن الشقرة أغلب الألوان عليهم. وكانت العرب تقول للعجم الذين يكون البياض غاب على ألوانهم مثل الروم والفرس ومن صاقبهم: انهم الحمراء. والعرب إذا قالوا: فلان أبيض وفلان بيضاء، فمعناه الكرم في الأخلاق لا لون الخلقة. و إذا قالوا: فلان أحمر وفلانة حمراء عنوا بياض اللون. والعرب تسمي الموالي: الحمراء. جاء في الحديث: "بعثت إلى الأحمر والأسود"، أي إلى العجم والعرب كافة.

(1/2148)


--------------------------------------------------------------------------------

وورد إن العرب تقول: جاء بغنمه حمر الكلى وجاء بها سود البطون، معناهما المهازيل. وهو مجاز. ويذكرون إن معنى حمر الكلى الامتلاء والسمن، والسواد معنى الهزال والرشاقة. ولما كان الأعاجم ممتلئي الجسم بالنظر إلى العرب، قالوا لهم "الحمراء". وقد كان العرب يطلقون على الموالي "الحمراء"، و إذا سبوا أحدهم قالوا، "يا ابن حمراء العجان أي يا ابن الأمة. كلمة في السب والذم". ولعلهم فعلوا ذلك بسبب امتلاء أجسام الموالي ولا سيما العجان، الذين لا يتحركون ولا يتنقلون من أماكنهم، ويأكلون الخبز فامتلأت لذلك بطونهم و تكرشوا.
ولم يشرح علماء العربية الأسباب التي حملت العرب على تلقيب العجم ب "رقاب المزاود" "رقاب المزود". وقد ذكر بعض العلماء، إن العرب إنما لقبت العجم ب "رقاب المزاود"، لطول رقابهم أو لضخامتها كأنها ملأى.
ويكنى العرب ب "السبط" عن العجمي و ب "الجعد" عن العربي. وذلك لان سبوطة الشعر هي الغالبة على شعور العجم من الروم والفرس وجعودة الشعر هي الغالبة على شعور العرب. ولكنهم كانوا يفرقون بين جعودة شعر العرب وجعودة شعر الزنج والنوبة. لأنهم ينظرون إلى الزنج والسود على انهم دونهم في المنزلة والمكانة. وهذا قالوا إن العرب تمدح الرجل إذ تقول رجل جعد، أي كريم جواد كناية عن كونه عربيا سخيا، لان العرب موصوفون بالجعودة، و تذم الرجل أيضا حين تقول: رجل جعد، إذ. يقصدون بذلك رجلا لئيما لا يبض حجره، وقد يراد به رجل قصير متردد الخلق. فهو من الأضداد. لذلك فالجعد في صفات الرجال يكون مدحا وذما. و إذا قالوا رجل جعد السبوطة فمدح، إلا إن يكون قططا مفلفل الشعر فهو حينئذ ذم.
ومن المجاز قول العرب: الأعداء صهب السبال وسود الأكباد، وان لم يكونوا كذلك، أي صهب السبال، فكذللك يقال لهم. ورد في الشعر: جاؤا يجرون الحديث جرا صهب السبال يبتغون الشرا

(1/2149)


--------------------------------------------------------------------------------

وانما يريدون إن عداوتهم كعداوة الروم. والروم صب السبال والشعر، و إلا فهم عرب و ألوانهم الأدمة والسمرة والسواد.
ويذكر علماء اللغة إن العرب تصف ألوانها بالسواد، وتصف ألوان العجم بالحمرة. وقد افتخر الشعراء بذلك في الجاهلية وفي الإسلام. من ذلك قول الفضل بن عباس بن عتبة اللهبي: وأنا الأخضر من يعرفني أخضر الجلدة في بيت العرب
يقول: أنا خالص لأن ألوان العرب السمرة. ومن ذلك قول مسكين الدارمي: أنا مسكين لمن يعرفني لوني السمرة ألوان العرب
قال "الجاحظ": "والعرب تفخر بسواد اللون.. و قد فخرت خضر محارب بانها سود، والسود عند العرب الخضر". ثم ذكر أمثلة من أمثلة افتخار بعض القبائل والأشخاص بكونهم "خضرا". حتى قال: "وخضر غسان بنو جفنة الملوك? قال الغساني: إن الخضارمة الخضر الذين ودوا أهل الربص ثمانى منهم الحكم
وقد ذكر حسان أو غيره الخضر من بني عكيم، حين قال: ولست من بني هاشم في بيت مكرمة ولا بني جمح الخضر الجلاعيد
قالوا: وكان ولد عبد المطلب العشرة الساحة سلا ضخما، نظر إليهم عامر ابن الطفيل يطوفون كأنهم جمال جون، فقال: بهؤلاء تمنع السدانة.
وكان عبد الله بن عباس أدلم ضخما، وآل أبي طالب أشرف الخلق، وهم سود وأدم وسلم".
واشتهر بعض سودان العرب بالشجاعة والأقدام، منهم أربعة عرفوا ب "أغربة العرب" وذؤبان العرب. منهم: عنترة وخفاف بن ندبة السلمي، سرى فيه السواد من قبل أمه، وهو من حرة بني سليم. أدرك النبي، وكان شاعرا شجاعا، وقل ما يجتمع الشعر والشجاعة في واحد. ومنهم السليك بن السلكة.

(1/2150)


--------------------------------------------------------------------------------

وهناك قبائل غلب على لونها السواد، حتى عبر عنها ب "دلم". والدلم الرجل الشديد السواد. جاء إليها السواد، لكون أصلها من إفريقية على ما يظهر، وكانت قد استقرت بجزيرة العرب وتعربت، حتى عدت من العرب. أما الأسر والأفراد الدلم، فقد ظهر السواد على لونهم بالتزاوج من الملونين. فقد كان من عادة الأشراف الاتصال بالإماء السود، فإذا ولدن منهم أولادا نجبا شجعانا ألحقهم آباؤهم بهم، ونسبوهم إليهم كالذي كان من أمر عنترة العبسي. وقد مال قوم من قريش إلى التزوج بالإماء السود، وقد ظهرت هذه النزعة بين السادات والأشراف.
وقد ذكر "الجاحظ" في معرض حجج السودان على البيضان، و على لسان الزنج قولهم للعرب: "من جهلكم أنكم رأيتمونا لكم أكفاء في الجاهلية في نسائكم، فلما جاء عدل الإسلام رأيتم ذلك فاسدا، وما بنا الرغبة عنكم. مع إن البادية منا ملأى ممن قد تزوج ورأس وساد، ومنع الذمار، وكنفكم من العدو". وفي هذا القول إشارة إلى التزاوج الذي كان بين العرب والزنج، أي السودان المجلوبين من إفريقية، في أيام الجاهلية. والى انصراف العرب عنه في الإسلام، ما خلا البادية، وذلك بسبب إقبالهم على التزوج بالفارسيات والروميات وبغيرهن على ما يظهر، بسبب الفتوح وتوسع أسواق النخاسة في هذا الوقت. وارتفاع مستوى الوضع الاقتصادي للعرب في الإسلام عنه في الجاهلية، مما مكنهم من التزوج بالأجنبيات البيض الجميلات و تفضيلهن على السودانيات. وظهور نظرة الازدراء إلى السودان في الإسلام، بسبب الأعاجم المسلمين الذين كانوا يزدرون ال**** وينظرون إليهم على انهم عونهم في المنزلة، فانتقلت هذه النظرة منهم إلى العرب.

(1/2151)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من رسالة الجاحظ: "فخر السودان على البيضان"، إن نزاعا كان قد دب بين السودان والعرب في الإسلام، بسبب نظرة الازدراء التي أخذ الفاتحون ينظرون بها إليهم فصاروا يترفعون عنهم ولا يخالطونهم. و هذا مما أغاضهم، وحملهم على نبش الماضي، والإتيان بالأخبار وبالأشعار عن دور الحبش في جزيرة العرب قبل الإسلام، وكيف انهم كانوا قد ملكوا "بلاد العرب من لدن الحبشة إلى مكة"، وهزموا ذا ئواس، وقتلوا أقيال حمير، فملكوا العرب ولم يملكهم العرب. إلى غير ذلك من دعاوي تجدها في قصيدة الشاعر الزنجي "الخيقطان"، التي يفتخر فيها بالحبش على العرب، على نحو فخر الشعوبية بأصولهم على العرب. وهي قصيدة شهيرة، قالها يوم سمع "جرير" يسخر منه بشعر قاله، في وصفه. فرد عليه ردا شديدا بقصيدته هذه التي نظمها وهو باليمامة.
وقد عرفت بعض القبائل ببياض بشرتها، واشتهرت نساؤها ببياض البشرة، ورد "في الحديث انه لما خرج من مكة قال له رجل: إن كنت تريد النساء البيض والنوق الأدم فعليك ببني مدلج". ويقال للمرأة التي يغلب على لونها البياض "الحمراء"، وقد لقب الرسول زوجته "عاثشة" ب "الحميراء"، لبياض لونها.
القبيلة
والقبيلة هي عماد الحياة في البادية، بها يحتمي الأعرابي في الدفاع عن، نفسه وعن ماله، حيث لا "شرط" في البوادي تؤدب المعتدين، ولا سجون يسجن فيها الخارجون على نظام المجتمع، وكل ما هناك "عصبية" تأخذ بالحق و "أعراف" يجب إن تطاع.
والرابط الذي يربط شمل القبيلة ويجمع شتاتها هو "النسب". ويفسر ذلك بارتباط أبناء القبيلة كلها بنسب واحد وبدم واحد و بصلب جد أعلى من صلبه انحدر أفراد القبيلة في اعتقادهم. ولهذا نجد أهل الأنساب يرجعون نسب كل قبيلة إلى جد أعلى، ثم يرجعون أنساب الجدود، أي أجداد القبائل إلى أجداد أقدم، وهكذا، حتى يصلوا إلى الجدين للعرب: قحطان و عدنان.

(1/2152)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد حفظت الكتابات العربية الجنوبية أسماء عدد كبير من القبائل، لم يعرف أسماء أكثرها أهل الأخبار. وهي تفيدنا من هذه الناحية فائدة كبيرة في الوقوف على هذه القبائل، وبعضها كان قد هلك و انحل واختلط في القبائل الأخرى قبل الميلاد وبعضها بعد الميلاد وقبل الإسلام بأمد.
و تتألف القبيلة من بيوت، يختلف عددها باختلاف حجم القبيلة، وباختلاف المواسم. ففي مواسم الربيع، تضطر أحياء القبيلة على الانتشار والابتعاد، لتتمكن إبلها من الرعي ومن إملاء بطونها بالعشب. فتتجمع على شكل مستوطنات يتراوح عدد بيوت كل مستوطنة منها ما بين الخمسين والمائة والخمسين بيتا. أما في المواسم الأخرى، حيث تنحبس الأمطار وتجف الأرض، فتعود أحياء القبيلة إلى تكتلها وتجمعها، فتكون كل مجموعة حوالي "500" بيت أو أكثر. تتجمع حذر وقوع غزو عليها، وللتعاون فيما بينها عند الشدة والعسر.
والقبيلة في عرف علماء اللغة جماعة من أب واحد، والقبائل في نظرهم من قبائل الرأس لاجتماعها، أو من قبائل الشجرة وهي أغصانها، فهي إذن جماعة من الناس تضم طوائف أصغر منها، وهي تنتمي كلها إلى أصل واحد وجذر راسخ، ولها نسب مشترك يتصل بأب واحد هو أبعد الآباء والجد الأكبر للقبيلة. فالرابط الذي يربط بين أبناء القبيلة ويجمع شملها ويوحد بين أفرادها هو "الدم"، أي النسب. والنسب عندهم هو القومية ورمز المجتمع السياسي في البادية. والقبيلة هي الحكومة الوحيدة التي يفقهها الأعرابي، حيث لا يشاهد حكومة أخرى فوقها. وما تقرره حكومته هذه من قرارات يطاع وينفذ، وبها يستطيع إن يأخذ حقه من المعتدي عليه.

(1/2153)


--------------------------------------------------------------------------------

وهذه النظرة الخاصة بتعريف القبيلة، هي التي حملت أهل الأنساب والأخبار على إطلاق لفظة "القبيلة" على الحضر أيضا. مع انهم استقروا وأقاموا. فقريش عندهم قبيلة، والأوس، والخزرج قبيلة، وثقيف قبيلة. ذلك لأن هؤلاء الناس وان تحضروا واستقروا وأقاموا، وتركوا الحياة الأعرابية، إلا أنهم بقوا رغم ذلك على مذهب أهل الوبر ودينهم في التمسك بالأنساب إلى جد أعلى و إلى أحياء وبطون. وفي إجابة النخوة والعصبية، وما شابه ذلك من سجايا البداوة، فعدوا في القبائل، وان صاروا حضرا وأهل قرار، وقد طلقوا التنقل وانتجاع الكلأ.

وتشارك الشعوب السامية العرب في هذه النظرة. لأن نظامها الاجتماعي القديم هو كالنظام العربي قائم على القبيلة. والقبيلة عندها جماعة من بيوت ترى إنها من أصل واحد، وقد انحدرت كلها من صلب جد واحد. فهم جميعا أبناء الجد الذي تتسمى به القبيلة. وهم مثل العرب في النداء وفي النسب. قد يذكرون الاسم فقط، فيقولون مثلا: أدوم و مؤاب و إسرائيل ويهوذا، أو أبناء إسرائيل وأبناء يهوذا، وبنو إسرائيل وبنو يهوذا. وقد يقولون: بيت إسرائيل وبيت يوسف وبيت خمرى وبيت أديني، بمعنى أبناء المذكورين. تماما كما نقول: غسان، وآل غسان، وأبناء غسان وأولاد غسان ومن غسان، وغساني، وما شاكل ذلك، ويريدون بها شيئا واحدا، هو النسب. أي الانتماء إلى جد واحد به تسمى القبيلة واليه يرجع نسبها.

(1/2154)


--------------------------------------------------------------------------------

وهم يشعرون كالعرب إن أبناء القبيلة هم إخوة وهم من دم واحد، ومن لحم ودم ذلك الجد. وهم يخاطبون بعضهم بعضا بقولهم: "أنت من لحمي ودمي". وفي التوراة أمثلة عديدة من هذا القبيل. فلما ذهب "أبو مالك بن يربعل" إلى عشيرة أمه خاطب أبناءها بقوله: "أيما خير لكم! أن يتسلط عليكم سبعون رجلا جميع بني يربعل، أم إن يتسلط عليكم رجل واحد. واذكروا أني أنا عظمكم ولحمكم". وقد اعتبر "داوود". جميع أبناء عشيرته إخوة له. وخاطب "شيوخ يهوذا" بقوله: "أنتم إخوتي، أنتم عظمي ولحمي". فأبناء القبيلة هم إخوة من دم واحد، يسري في أجسامهم جميعا ما دامت القبيلة حية باقية. ووحدة الدم هذه هي الرابط الذي يجمع شمل القبيلة. وهي صلة رحم، وعصبية، والحكومة الصحيحة التي يجب إن تطاع.
والعربي مثل بقية الساميين لم يفهم الدولة إلا إنها دولة القبيلة. وهي دولة صلة الرحم التي تربط الأسرة بالقبيلة. دولة العظم واللحم، دولة اللحم والدم، أي: دولة النسب. فالنسب هو الذي يربط بين أفراد الدولة ويجمع شملهم. وهو دين الدولة عندهم وقانونها المقرر المعترف به. وعلى هذا القانون يعامل الإنسان. وبالعرف القبلي تسير الأمور. فالحكام من القبيلة، وأحكامهم أحكام تنفذ في القبيلة، و إذا كانت ملائمة لعقلية القبيلة والبيئة، وهذا هو ما يحدث في الغالب، تصير سنة للقبيلة، نستطيع تسميتها ب "سنة الأولين". ووطن القبيلة هو بالطبع مضارب القبيلة حيت تكون، وحيث يصل نفوذها إليه، فهو يتقلص ويتوسع بتقلص وبتوسع نفوذ القبيلة.

(1/2155)

admin
12-31-2010, 07:36 PM
وقد واجه المسلمون في أيام الفتوح صعوبة كبيرة في فتوحهم بسبب العقلية القبلية وضيق أفقها، وعدم تمكنها من التخلص من مثلها الجاهلية بسهولة. فقد كان على القائد إن يقاتل عدوه بجيش يحارب على شكل كتل قبائل، تتكون كل كتلة من مقاتلي قبيلة واحدة، لا من جنود ينتمون إلى أمة هي فوق الكتل والقبائل. وكان على رأس كل وحدة مقاتلة رؤساء من القبيلة التي ينتمي إليها الجنود. وقد واجه الإمام "علي" صعوبة حينما حارب في معركة الجمل وفي معركة صفين وغيرها، إذ اشترطت عليه القبائل المحاربة، ألا تحارب إلا رجال قبيلتها الذين يكونون ضده.، فالهمدانيون الذين معه يحاربون الهمدانيين الذين يحاربون مع خصمه. وهكذا فعلت بقية القبائل، للعصبية القبلية، لأنهم لم يكونوا يستطيعون رؤية قبيلة غريبة تفتك بإخوانهم من قبيلتهم، وهم ينادون بشعار العصيبة، شعار القبيلة. أما هم فإن قاتلوا إخوانهم من قبيلتهم، فإن قتالهم هذا يختلف عن قتال الأخوة حين يقتتلون قتالا قد يكون أشد ضراوة من قتال الغرباء، لا يلتفت فيه إلى وجود دم واحد بين المتقاتلين، والى أنهم من بيت أب وأم، يحتم عليهم التكتل والتعصب، إذ لا غريب هنا أمامهم في هذا القتال.
ولست بحاجة و أنا في هذا المكان، لتكرار قول سبق إن قلته في الجزء الأول من هذا الكتاب - من إن أسماء القبائل لا تعني بالضرورة إنها أسماء أجداد حقيقيين عاشوا وماتوا. فبينها كما سبق إن قلت أسماء مواضع، مثل غسان، وبينها أسماء أصنام مثل "بنو سعد العشيرة" وبينها أسماء أحلاف مثل "تنوخ" وبينها نعوت وألقاب.. إلى آخر ذلك من أسماء قبائل وصلت إلى علم علماء الأنساب، فأوجدوا لها معاني و اعتبروها أسماء رجال حقيقيين تزوجوا و نسلوا ومنهم من كان عاقرا فلم ينسل، فذهب أثره، ولم تبق له بقية.

(1/2156)


--------------------------------------------------------------------------------

والمفهوم من لفظة "القبيلة" في العادة: القبائل التي تتألف من عمائر وما وراء العمائر من أقسام. فإذا ذكرت القبيلة انصرف الذهن إلى آلاف من البيوت تجتمع تحت اسم تلك القبيلة. ولكن الناس يتجوزون في الكلام وفي الكتابة أحيانا فيطلقونها على عدد قليل من الناس قد يبلغ ثلاثة نفر أو أربعة مثل: "بنو عبد الله ابن أفصى بن جديلة"، و "بنو جساس بن عمرو بن خوية بن لوذان"، من "بني فزارة"، و "كليب بن عدي بن جناب بن هبل"، و "بنو شقرة" من تميم. وقد يطلقونها على أكثر من ذلك، ولكن على عدد قليل من الناس أيضا، كأن يكون خمسين رجلا أو ستين. وهذا الاستعمال، هو على سببل التجوز لا الاصطلاح.
ويرى علماء العربية إن هناك تجمعات، هي في نظرهم أكبر حجما من القبيلة أطلقوا عليها "الشعوب". فذكروا إن الشعوب فوق القبائل، ومثاله: بنو قحطان، وبنو عدنان، فكل منهما شعب. وما دونهما قبائل. وذهب بعض منهم إلى إن "الشعوب" للعجم، فإن الشعوب بالنسبة لهم، مثل القبائل للعرب، ومنه قيل للذي يتعصب للعجم "شعوبي"، وقيل: بل هي للعرب وللعجم. والذي عليه اكثر علماء الأنساب، إن الشعب أكبر من القبيلة، وان الشعب أبو القبائل الذي ينتسبون إليه، أي يجمعهم ويضمهم.

(1/2157)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر إن مرد هذا الاختلاف هو ما ورد في القرآن الكريم من قوله: )وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا(. فقدم "الشعوب" على القبائل. فذهب أكثر المفسرين والعلماء إلى إن هذا التقديم يعني إن الشعب أكبر من القبيلة، وان الشعوب الجماع والقبائل البطون، أو الشعوب الجمهور والقبائل الأفخاذ، أو الشعوب: النسب البعيد، والقبائل: دون ذلك، كقولك فلان من بني فلان، وفلان من بني فلان. وتأول بعض آخر هذا المعنى، فذهبوا إلى إن هذا التقديم أو التأخر، لا علاقة له بالكبر، أي بحجم الشعب أو القبيلة، والآية لا تريد ذلك، و إنما تريد الأنساب، و إنها نزلت في بيان إن الإنسان لا بنسبه، و إنما بعمله. وعلى هذا، فإن الشعب، في نظرهم دون القبيلة في الترتيب. والشعب بعد القبيلة في الدرجة.
وقد أخذ العلماء بالتأويل الأول للفظة "الشعب"، حتى صار هذا المعنى هو المعنى المفهوم منها عند الناس في الإسلام. فهي إنما تعني اليوم جنسا من أجناس البشر له خصائصه ومميزاته، كالشعب العربي والشعب اليوناني والشعب التركي والشعب البريطاني والشعب الأميركي، و هكذا. أو جزا كبيرا مستقلا من أجزاء أمة واحدة، كأن نقول: الشعب العراقي، والشعب السوري، والشعب السعودي، والشعب المصري، أي وحدة جغرافية سياسية ذات كيان.

(1/2158)


--------------------------------------------------------------------------------

ولفظة "الشعب"، من الألفاظ الواردة في نصوص المسند. وهي فيها بمعنى قبيلة، وتكتب "شعبن"، بمعنى "الشعب". وحرف النون في أواخر الأسماء أداة للتعريف في العربيات الجنوبية. فهي إذن مرادف "قبيلة" بالضبط. والجمع "اشعب"، أي "شعوب". ورد "سباواشعبهمو"، أي "سبأ وشعوبهم"، أو "سبأ وقبائلهم" بتعبير أدق وأصح. وورد "شعبن معن"، أي "قبيلة معين"، و "شعبن همدان"، أي "قبيلة همدان". والظاهر إن أهل مكة، وقفوا في الجاهلية على هذه اللفظة أيضا فاستخدموها، وان قبائل حجازية مجاورة لمكة، كانت تستعمل لفظة "شعب" و "الشعب"، بمعنى قبيلة، ونظرا لورودهما معا في القرآن الكريم، فرق العلماء بين اللفظتين، باعتبار إن ذكرهما معا، يعني وجود بعض الاختلاف في المراد منهما. فوقع من ثم بين المسلمين هذا التمييز، وصارت لفظة "الشعب" تدل على معنى يختلف عن معنى كلمة "قبيلة" و"القبيلة".
ويلي الشعب في اصطلاح أهل النسب: القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة. فالشعب النسب الأبعد مثل عدنان و قحطان، والقبيلة مثل ربيعة ومضر، والعمارة مثل قريش وكنانة، والبطن مثل بني عبد مناف و بني مخزوم، ومثل بني هاشم، وبني أمية، والفصيلة مثل بني أبي طالب وبني العباس. وجعل "ابن الكلبي" مرتبة بين الفخذ والفصيلة هي مرتبة العشيرة، وهي رهط الرجل.
وورد إن البطن دون القبيلة أو دون الفخذ وفوق العمارة. وذكر بعضهم. إن أول العشيرة: الشعب ثم القبيلة ثم الفصيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ. وذلك على رأي من جعل العشيرة: العامة. مثل: بني تميم و بني عمرو بن تميم أي الجماعة العظيمة.

(1/2159)


--------------------------------------------------------------------------------

وزاد بعض العلماء الجذم قبل الشعب، وبعد الفصيلة العشيرة، ومنهم من زاد بعد العشيرة الأسرة، ثم العترة. ورتبها آخرون على هذه الصورة، جذم، ثم جمهور، ثم شعب، ثم قبيلة، ثم عمارة، ثم بطن، ثم فخذ، ثم عشيرة، ثم فصيلة، ثم رهط، ثم أسرة، ثم عترة، ثم ذرية. وزاد غيرهم في أثنائها ثلاثة هي: بيت، وحي، وجماع. وذكر بعض علماء اللغة أن "الجذم"، الأصل في كل شيء. فيقال: جذم القوم أهلهم وعشيرتهم. ومنه حديث حاطب، لم يكن رجل من قريش إلا له جذم بمكة.
وذكر بعض العلماء إن العمارة الحي العظيم يقوم بنفسه. وان الفرق بين الحي والقبيلة هو إن الحي لا يقال فيه بنو فلان نحو قريش و ثقيف ومعد وجذام. والقبائل يقال فيها بنو فلان مثل بني نعيم وبني سلول. وذكر أيضا إن العمارة: الحي العظيم الذي يقوم بنفسه، ينفرد بظعنها و إقامتها و نجعتها. وقيل هو اصغر من القبيلة. وفي الحديث: انه كتب لعمائر كلب وأحلافها كتابا. قال التغلبي: لكل اناس من معد عمارة عروض، إليها يلجأون، وجانب
وقسم "النويري" النظام القبلي عند العرب إلى عشر طبقات. وابتدأ ب "الجذم" وهو الأصل: وهو قحطان وعدنان، والطبقة الأولى. ثم الجماهير، وهي الطبقة الثانية، ثم الطبقة الثالثة: الشعوب، والطبقة الرابعة القبيلة، وهي التي دون الشعب تجمع العمائر، ثم الطبقة الخامسة: العمائر، و هي التي دون القبائل، وتجمع البطون، ثم الطبقة السادسة: البطون، وهي التي تجمع الأفخاذ، والطبقة السابعة: الأفخاذ. وهي اصغر من البطن. والفخذ تجمع العشائر. والطبقة الثامنة: العشائر، واحدها عشيرة، وهم الذين يتعاقلون إلى أربعة آباء. والطبقة التاسعة: الفصائل، واحدها فصيلة، وهم أهل بيت الرجل وخاصته، والطبقة العاشرة: الرهط، وهم الرجل و أسرته.

(1/2160)


--------------------------------------------------------------------------------

ما ذكرته يمثل مجمل أراء علماء النسب عند العرب في موضوع كيان القبيلة وفروعها التي تتفرع منها درجة درجة، حتى تصل إلى البيت، الذي يتكون من الأب والأم وأولادهما. وقد رأينا انهم قد اختلفوا فيما بينهم وتباينوا في الترتيب وفي العدد. منهم من يقدم، ومنهم من يؤخر، ومنهم من يزيد، ومنهم من ينقص. واختلافهم هذا فيما بينهم، هو دليل يشعرنا إن التقسيم المذكور لم يكن تقسيما ثابتا. عند كل القبائل وأنه لم يكن تقسيما جاهليا بل كان تقسيما محليا اختلف بين قبيلة وأخرى، وأن أسماء أجزاء القبيلة، لم تكن أسماء عامة متبعة عند الجميع، أي أسماء مقررة عند كل قبيلة، بل هي أسماء آخذها العلماء من هنا وهناك، وهذا وقع بينهم هذا الاختلاف، ولو كان عند الجاهليين تقسيم واحد لأجزاء القبيلة فما كان من المعقول إن يقع علماء النسب واللغة فيما رأينا من تباين واختلاف، ولوجب اتفاقهم في الترتيب وفي العدد. فالتقاسيم المذكورة اذن، هي من وضع وترتيب وجمع علماء النسب واللغة في الإسلام.
وأصغر وحدة من وحدات القبيلة هي: الأسرة، أي "البيت". فهي نواة القبيلة و بذرتها وجرثومتها، ومن نموها ظهرت شجرة القبيلة التي تختلف حجمها وتختلف كثرة أغصانها وفروعها باختلاف منبت الشجرة والظروف والعوامل التي أثرت في تكوينها. من بذرة جيدة ومن تربة صالحة وماء كاف. والبيت هو نواة القبيلة عند العرب، وهو نواة القبيلة عند كل الشعوب القبلية. بل هو نواة المجتمع في كل مجتمع إنساني.
القحطانية و العدنانية

(1/2161)


--------------------------------------------------------------------------------

تحدثت في الجزء الأول من هذا الكتاب عن القحطانية والعدنانية بما فيه الكفاية، وأعود هنا فأقول إن ما ذكرته عن أهل المدر وأهل الوبر، أي عن الحضر و البدو أو الأعراب وهم أهل البادية، لا يعني إن الحضر هم القحطانيون، وان الأعراب هم العدنانيون. كما ذهب إلى ذلك بعض المستشرقين باعتبار إن غالبية من نسميهم القحطانيين هم حضر، أو اقرب من غيرهم إلى الحضر، وأن غالبية العدنانية أعرابية متبدية. والصواب عندنا إن في القحطانيين عربا و أعرابا، وفي العدنانيين حضرا وبادية، وان غلبت البداوة على العدنانيين. لأن من وجد الماء الدائم تنخ عليه و تحضر، قحطانيا كان النازل أم عدنانيا، فالحضارة تنبت حيث يكون الماء، والماء لا يعرف النسب والقبائل. من وجده وظفر به وأقام عليه تحضر واستقر، فصار حضريا.
ولهذا نجد في حضر جزيرة العرب أقواما يحشرهم أهل الأنساب في قحطان، ونجد في حضرها أقواما يرجعون نسبهم إلى عدنان.
ونحن إذا ما رسمنا خارطة لكيفية توزع الحضر و الأعراب، أو لكيفية استثمار القبائل، فإننا في إن منازل القبائل متداخلة مشتبكة. ليست بينها حدود ولا أسوار حاجزة تحجز القبائل القحطانية عن القبائل العدنانية. إلا في العربية الجنوبية حيث يرجع النسابون نسب اكثر قبائلها إلى أصل قحطاني. أما في الأماكن الأخرى، فان القبائل القحطانية وكذلك القبائل العدنانية منتشرة، انتشارا لا يسل على وجود تكتل وتحزب. بل نجد القحطانية نجاور العدنانية وتخالطها ونجد القحطانية في جوار القحطانية، والعدنانية في جوار العدنانية، مما يدل على إن هذا التوزيع لم يقم ولم يستند على عنصرية وحزبية وعلى هجرات منتظمة، و إنما قام على حق القوة وتحكم القوي في الضعيف، مهما كان عنصر القوي وأصله. وأن التكتل قد حدث بدوافع سياسية عسكرية لعبت دورا خطيرا في تكون النسب.

(1/2162)


--------------------------------------------------------------------------------

وظاهرة أخرى نراها عند القبائل، تتجلى في إن القبائل وان تنقلت وارتحلت من مكان إلى مكان، سعيا وراء الماء والكلأ، كما يذكر أهل الأخبار، إلا إن ذلك لا يعني إن هذه الحركة هي حركة دائمية مستمرة، وان القبائل كانت تتنقل دوما من مكان إلى مكان. بحيث صار الترحل لها سنة دائمة لازمة. فلو ثبتنا منازل القبائل على "خريطة" صورة جزيرة العرب، استنادا إلى روايات أهل الأخبار عنها، وجدنا، إن منازل القبائل لم تتبدل إلا للضرورات ولأسباب قاهرة تكره القبيلة على ترك ديارها والارتحال عنها إلى منازل جديدة. كان تغزوها قبائل كثيرة العدد أقوى منها أو ينحبس عنها المطر سنين، تهلك الضرع، أو تحاربها قوة نظامية أقوى منها، كالذي وقع ل "إياد" حيث أزاحها "بنو عبد القيس" عن مواطنها في البحرين، ثم شتتت الفرس شملها في العراق فعندئذ تضطر القبيلة وهي مكرهة مجبورة على ترك ديارها للبحث عن ديار أخرى جديدة. وتكاد تكون اكثر أسباب هجرات القبائل وارتحالها من أماكنها إلى أماكن أخرى هي الأسباب المذكورة.

(1/2163)


--------------------------------------------------------------------------------

وطراز حياة القبائل في جزيرة العرب باستثناء العربية الجنوبية، متشابه، بحيث يصعب إن نجه فروقا واضحة ظاهرة بين القبائل التي ينسبها النسابون المسلمون إلى قحطان أو آل عدنان، فهي متشابهة وعلى وتيرة واحدة. وأما اللغة، فإننا لا نجد فيما بين القبائل العدنانية و القحطانية أي خلاف يذكر على ما يظهر من روايات علماء اللغة. بل نجد إن لهجات القبائل القحطانية، الشمالية هي لهجات عدنانية، مخالفة للهجات أهل اليمن المعروفة التي كانت سائدة في اليمن إلى ظهور الإسلام. فلهجات آهل اليمن من الحميرية وغيرها، بعيدة عن لهجات القبائل القحطانية والعدنانية بعدا متساوا، حتى بالنسبة إلى القبائل اليمانية التي غادرت اليمن في عهد متأخر، كما سأبحث عن ذلك فيما بعد، وفي القسم الخاص بلغات أهل الجاهلية.. ولهذه الظاهرة أهمية كبيرة بالنسبة إلى دراسة اللغة والنسب عند العرب الجاهليين.

(1/2164)


--------------------------------------------------------------------------------

وعندي أن ما يذهبا اليه المستشرقون من تقسيم العرب إلى عرب جنوبيين وعرب شماليين، هو تقسيم لا يمكن اعتباره تقسيما علميا. فان ما نشاهده من فروق في الملامح والمظاهر بين أهل العربية الجنوبية من أهل اليمن وحضرموت ومسقط وعمان وبن أهل الحجاز ونجد، والعرب الشماليين الآخرين، وان كان واضحا. ظاهرا ولا مجال إلى نكرانه، إلا إن هذه الفروق لا يمكن اعتبارها مع ذلك حدا فاصلا يقسم العرب إلى مجموعتين: مجموعة شمالية ومجموعة جنوبية، لسبب بسيط جدا سبق إن بينته في الجزء الأول من هذا الكتاب، وتحدثت عنه في مواضع، أخرى منه. وهو إن كل مجموعة من المجموعتين لا تكون في نفسها وحدة متناسقة متجانسة، بل تتألف من مجموعات تختلف بعضها عن بعض في السحن وفي الملامح، بسبب عوامل الاتصال بالعالم الخارجي، وبسبب اختلاف الظروف للطبيعية التي يعيش? أفراد كل مجموعة. فأهل جبال اليمن والجبال المتصلة بها الممتدة إلى عمان، يختلفون اختلافا بينا عن أهل السواحل و الارضين المنخفضة، ليس في الملامح والسحن فحسب، بل وفي العمل وفي النشاط وفي المدارك أيضا. وأهل السراة في العربية الغربية يختلفون عن أهل تهامة وبقية ساحل البحر الأحمر، وأهل نجد يختلفون عن أهل ساحل الخليج. يختلفون عنهم في السحن والملامح كما يختلفون عنهم في المدارك وفي حدة الذهن. وهذا الاختلاف هو شيء واقعي بين للعيون، يراه كل إنسان حين يزور بلاد العرب. وهو في حد ذاته شاهد على فساد نظرية المستشرقين في تقسيم العرب إلى مجموعتين.

(1/2165)


--------------------------------------------------------------------------------

وبعد، فهذه الطبيعة طبيعة جزيرة العرب - من جو وارض، من انحباس مطر ومن ارتفاع في درجات الحرارة. ومن يبوسة في الهواء، وقلة في الرطوبة، ومن اختلاف في ضغط الجو اختلافا يخل بتوازنه فيثير فيه أعاصير وعواصف، تعتدي على حرمة التربة الهادئة الراقدة، فتقع رمالها إلى ارتفاعات متباينة، وتلفح الأوجه والأجسام ب "سموم" و بما شاكله من اهوية مزعجة، تثير الغضب وتلهب العصب، وتجعل الجو داكنا اظلم مغبرا، أضف إلى ذلك ما نراه من نور ساطع و أشعة لامعة تحمل أمواجا غير مرئية تؤثر في خلايا البشرة وفي النفس، ثم هذه الرطوبة المفرطة المتحكمة في التهائم، و هذه الندرة في الأنهار، والإسراف في ظهور البوادي والصحارى، وتحكم الطبيعة تحكما جائرا في توزيع النبات والحيوان على أهل جزيرة العرب: كل هذه الأمور و أمثالها أثرت أثرا كبيرا في نفس أهل جزيرة العرب، وفي شكل أجسامهم، وفي حالة معيشتهم، فجعلتهم يختلفون عن غيرهم بأمور، ويتباينون فيما بينهم بأمور، وذلك لاختلاف طبيعة أجزاء الجزيرة نفسها. ونحن لن نستطيع فهم العرب فهما صحيحا دقيقا، إلا إذا درسنا هذه الأمور المذكورة وأمثالها دراسة علمية دقيقة. وعندئذ فقط نستطيع فهم سبب تفشي البداوة بين العرب، وسبب تطبع العرب بطباع خاصة، واتسامهم بسمات وعلامات خاصة وبملامح ومظاهر جسمية متباينة، وأمثال ذلك مما تعرضت له في بحث الجنس والسامية وفي بحث طبيعة العقلية العربية وما قبل في حقها من أقوال، وما ورد في العرب من مدح أو ذم ومن وصف صادق أو كاذب.
أركان القبائل
يرجع كل العرب من حيث النسب إلى ركن من "أركان القبائل". فقد اصطلح علماء النسب على إن للنسب عند العرب بعد قحطان و عدنان أربعة أركان: ربيعة ومضر و يمن و قضاعة. وذلك على رأي من جعل قضاعة ركنا قائما بذاته. ولا يمكن إن يخرج نسب عربي أصيل عن أصل من هذه الأصول.

(1/2166)


--------------------------------------------------------------------------------

وورد إن العرب في النسب على أربع طبقات: خندفي وقيسي، ونزاري، ويمني. ويمن هي قحطان. وكان العرب يتعززون بانتسابهم إلى اليمن، فكان من ينقلب على نسبه يتخذ لنفسه نسبا يمانيا. "وأكثر العزوة لمن ينقلب عن نفسه إلى اليمن، لأجل أن الملوك كانت في اليمن: مثل آل النعمان بن المنذر من لخم، وآل سليح من قضاعة، و آل محرق، وآل العرنج، وهو حمير الاكبر ابن سبأ كالتبابعة والأذواء وغيرهم. والعرب يطلبون العز ولو كان في شامخات الشواهق، وبطون الامالق البوالق، فينتسبون إلى الأعز لحماية الحمية و اباءة الدنية ..".
ورجع بعض النسابين المعروفين نسب العرب إلى ثلاث جراثيم: نزار، واليمن وقضاعة. ويمثل رأيهم هذا رأي القائلين بالأركان الأربعة للقبائل بالضبط، لأن نزارا هو في عرفهم والد ربيعة ومضر، وكل ما فعلوه هنا، هو انهم حذفوا اسمي الولدين وأحلوا اسم والدهما في محلهما.
ورجع "المأمون" الخليفة العباسي، أصول العرب إلى قيس ويمن و ربيعة ومضر. فلما تعرض عربي بالمأمون وهو في زيارته بلاد الشام، ولامه في تقديم أهل خراسان على العرب، بقوله: "يا أمير المؤمنين انظر لعرب الشام كما نظرت لعجم خراسان"، أجابه الخليفة: "أكثرت علي يا أخا أهل الشام، والله ما أنزلت قيسا عن ظهور الخيل إلا وأنا أرى انه لم يبق في بيت مالي درهم واحد. وأما اليمن فو الله ما أحببتها ولا أحبتني قط. وأما ربيعة فساخطة على ربها منذ. بعث الله نبيه من مضر، ولم يخرج اثنان إلا خرج أحدهما شاربا، أعزب عني فعل الله بك..." فأركان العرب في رأي المأمون أربعة: قيس ويمن و ربيعة ومضر. وهي كتل كانت على عادة العرب متنافسة متحاسدة متباغضة، ترى كل واحدة منها نفسها وكأنها أمة دون سائر الأم: و "يمن" كناية عن العرب الجنوبيين من همدان وحمير وكندة وأمثالها، وأما قيس و ربيعة ومضر، فكناية عن تكتلات وتجمعات العرب من غير اليمن.

(1/2167)


--------------------------------------------------------------------------------

وذهب "ابن حزم" إلى إن جميع العرب من أب واحد، سوى ثلاث قبائل، هي: تنوخ، والعتق، وغسان، فان كل قبيلة منها مجتمعة من عدة بطون. وذلك إن تنوخا اسم لعشر قبائل اجتمعوا وأقاموا بالبحرين، فسموا تنوخا، والعتق جمع ما اجتمعوا على النبي، فظهر بهم فأعتقهم فسموا بذلك، وغسان عدة بطون نزلوا على ماء يسمى غسان فسموا به.
ولما جاء "خالد بن الوليد، إلى العراق كان جيشه من "ربيعة" و "مضر" ومن قبائل يمانية. ومعنى هذا وجود ثلاثة أركان قبائل محاربة. ولما قال "خالد ابن الوليد" ل "عدي بن عدي بن زيد العبادي": "ويحكم! ما انتم! أعرب? فما تنقمون من العرب! أو عجم! فما تنقمون من الإنصاف والعدل! فقال عدي: بل عرب عاربة و أخرى متعرية، فقال: لو كنتم كما تقولون لم تحادونا وتكرهوا امرنا? فقال له عدي: ليدلك على ما نقوله انه ليس لنا لسان إلا بالعربية، فقال: صدقت" ولا تعني جملة "بل عرب عاربة و أخرى متعربة" معنى: إن العرب عربان، عرب عاربة وعرب متعربة، على النحو المفهوم منها عند أهل الأخبار. بل هي تعبر عن واقع اصل أهل الحيرة. فقد كان أهلها بين عرب صرحاء وبن عرب متعرية أي جماعة لم تكن عربية في الأصل وانما كانت من اصل عراقي وفارسي أقامت في الحيرة، وتأثرت بأهلها العرب فتكلمت العربية حتى صارت العربية لسانها، فهي من العرب المتعربة. وقد كان كل عرب العراق على هذا النحو في ذلك الوقت. فمنم بين عرب خلص وبن عرب متعربة، لم تكن أصولها من منبت عربي، و إنما دخلت في العرب فتطبعت بطباعهم و أخذت لسانهم حتى نسيت ألسنتها القديمة، وصارت من العرب.

(1/2168)

admin
12-31-2010, 07:37 PM
وقد ذكر بعض المؤرخين إن العرب من "نزار" ملكتهم الفرس. وأن العرب من غسان ملكتهم الروم. فجعل "نزارا" في مقابل غسان. ولم يكن كل عرب العراق من "نزار". يدلك على ذلك إن ملوك الحيرة على رأي أهل الأخبار من قحطان. والذي يلاحظ من كيفية توزيع القبائل علي حسب رواية أهل الأخبار إن. معظم قبائل العراق، هي من قبائل "نزار" أو من "ربيعة" و "مضر" بتعبير آخر. أما معظم قبائل بلاد الشام فهي من "يمن" أي على عكس الحال في العراق. فهل يمثل هذا التقسيم توزيعا تاريخيا صحيحا ? بمعنى إن اكثر قبائل العراق، قد وردت العراق? من العربية الشرقية والعربية الوسطى، أي من سواحل الخليج ونجد، وان عرب بلاد الشام إنما جاؤوا إلى هناك من اليمن، عن طريق الحجاز ونجد.. أو انه تقسيم سياسي اصطلاحي، نشأ قبل الإسلام بعهد طويل من، المنافسة التي كانت بين العراق وبلاد الشام، المنافسة التي ظلت باقية في الإسلام. فقد كان بن العراق وبين بلاد الشام عداء وتباغض، لعوامل لا مجال للبحث فيها في هذا المكان.. وقد استولت حكومات العراق من حكومات وطنية وأجنبية على بلاد الشام مرارا، مما ولد مرارة وأوجد حقدا بين أهل العراق وأهل الشام، فانتقل ذلك إلى عرب القطرين أيضا. فحارب عرب العراق عرب بلاد الشام، حتى وصل هذا العداء إلى دعوى وجود فرق بين اصل عرب العراق وأصل عرب بلاد الشام. فصارت اكثر قبائل العراق في عرف أهل الأنساب من ربيعة ومضر ونزار، وصار معظم بلاد الشام في عرفهم من اليمن. قياسا على ما كان عليه، العرب عند ظهور. الإسلام من أنصار ومهاجرين، أو من يمن وعدنان، أو قحطان و عدنان وما شابه ذلك من أسماء. أما رأيي، فان لأهل الأخبار يدا طولى في هذا التقسيم الذي ظهر واينع في الإسلام. وان الجاهلية لم تكن تخلو من تجمعات وتكتلات قبلية، لكنها كانت تختلف عن التجمعات التي أثارتها النعرة القبلية الجديدة التي برزت في الإسلام، والتي آثرت على ظهورها

(1/2169)


--------------------------------------------------------------------------------

عوامل عديدة إلى إن ثبتت و دونت في كتب أهل الأنساب والأخبار.
وجعل بعض أهل الأخبار العرب يمنا ونزارا. وذكر إن اليمن أصحاب بحر وبني نزار أصحاب بر. وقصدوا باليمن أصحاب الساحل، الذين عركوا البحر وخبروه. عكس "نزار"، عرب البر، وهم قوم لا علم لهم بالبحر، انهم لم يتعودوا على ركوبه. إذ سكنوا البر ولم يعركوا البحر، فخافوا منه و تجنبوه.
و الآراء المتقدمة في تقسيم العرب إلى أركان وكتل، هي آراء عربية محضة أخذت، من واقع الحال، ولم تستند من التقسيم المألوف للعرب إلى قحطانيين و عدنانيين، التقسيم المأخوذ من التوراة على نحو ما شرحت ذلك في الجزء الأول من هذا الكتاب. ذلك لأن الحياة في بلاد العرب هي حياة تكتل و تحزب، فكان لا بد للقبائل من عقد أحلاف فيما بينها للمحافظة على نفسها من افتراس القبائل الكبيرة لها، ومن إستذلالها وآخذ ما تملكه. وبهذه الأحلاف حافظت القبائل - الضعيفة على حياتها، وجدت من طمع القبائل الضخمة في القبائل الهزيلة، وصار في الإمكان السيطرة على الأمن والتقليل من حمى غزو القبائل بعضها بعضا.
وحاجة الأعراب إلى الأحلاف اكثر وأشد من حاجة الحضر إليها، وذلك بسبب إن الغزو في البادية ضرورة من ضرورات الحياة لفقر البادية وشحها، لانبساط أرضها وعم وجود حواجز طبيعية تعوق الغزو وتحمي المغزو منه. فاضطرت القبائل على خلق حماية طبيعية لها هي الأحلاف. و الأحلاف هي لغاية حماية المال والنفس في الغالب، ولكبح جماح المعتدين إذن. أما الأحلاف الهجومية التي تعقد لتحقيق أغراض هجومية مثل غزو حلف حلفا آخر لو قبيلة ضخمة قبيلة ضخمة أخرى، فإنها لا تعمر طويلا كما تعمر الأحلاف الدفاعية، لأن أسباب انعقادها تزول بتنفيذ ما اتفق عليه، وقد يتحطم الحلف بسبب ظهور اختلافات مصالح لم تكن في حسبان المتحالفين يوم عقدوا حلفهم، فيتصدع بنيان الحلف ويتهدم ويزول الحلف ليظهر محله حلف آخر جديد.

(1/2170)


--------------------------------------------------------------------------------

أما الحضر، فان لهم من حماية أرضهم لهم، ومن طبيعة الحياة التي يحيونها ما يخفف من حاجتهم إلى الحلف القبلي، ويجعل أحلافهم أحلافا من طراز آخر.
فقد منحت الطبيعة الحضر حجرا صلدا بنوا به أبراجا وحصونا ومعاقل حموا بها مستوطناتهم، من طمع الطامعين فيهم، ولا سيما من الأعراب الذين لا يسهل عليهم اقتحام الحصون ولا تهديمها. لعدم وجود أسلحة تؤثر فيها ومنحتهم تربة صار من الممكن عمل الآجر أو اللبن منها لبناء المحافد و الآطام وما شاكل ذلك من وسائل الدفاع، كما أمدتهم بمواد بناء مكنتهم من إنشاء الحيطان والأسوار حولها، وهي مانع يصد الأعراب عن الحضر. وهم بالإضافة إلى ذلك أقدر على الدفاع عن أنفسهم وعلى اللجوء إلى الحيل للتخلص من الأعراب بسبب تحضرهم وتقدمهم في التفكير على عقلية الفطرة التي جبل البدو عليها. وغاية ما فعله الحضر من الأحلاف، هو تحالفهم مع من أحاط بهم من الأعراب لضمان عدم تحرشهم بهم أو لمنع الأعراب الآخرين من التحرش بهم. وعقد حبال مع القبائل لمرور تجارهم من أرضها بأمن وسلام مقابل هدايا أو أرباح أو أموال تعين، تدفع إلى ساداتها تأليفا لقلوبهم وضمانا منهم لهم بعم تحرش أحد بهم.

(1/2171)


--------------------------------------------------------------------------------

ولما تقدم انحصرت الأحلاف الكبرى أو التكتلات القبلية الضخمة بالأرضيين المكشوفة التي غلب عليها الطابع الصحراوي. وبين القبائل التي غلبت البداوة عليها. و الأحلاف الكرى، هي في نظري كناية عن النسب الأكبر عند العرب. فربيعة ومضر و إياد وأنمار وقضاعة، هي في الواقع تكتلات قبيلة تكونت من قبائل غلبت البداوة على طبعها، وقد ظهرت خارج العربية الجنوبية، أي خارج الأرضين التي غلب على سكانها طابع الارتباط بالأرض والقرار. أما القبائل القحطانية، التي هي في التوراة كناية عن قبائل غربية جنوبية مستقرة، فكتل أخذت أسماءها من الأرضين التي كانت حكمها أو من اسم القبيلة التي سميت باسمها. وبين أسماء القبائل وأسماء الأرضين صلة متينة، بحيث يصعب الحكم فيما إذا كانت الأرض قد أخذت اسمها من اسم القبيلة، أو إن القبيلة أخذت اسمها من اسم الأرض.
وقد لعبت فكرة "قحطان" و "عدنان" دورا مهما في حصر الأنساب عند العرب في الإسلام. يذكر الجاحظ إن رجلا اسمه "شويس الساسي التميمي العدوي"، المعروف ب "أبي فرعون"، كان قد قدم البصرة، فذهب إلى رجل منها اسمه "كهمس" يلتمس العون منه، فأعطاه رغيفا من الخبز الحواري، ثم ذهب إلى رجل آخر اسمه "عمر بن مهران"، فلم يعطه ما كان يريد، فضاق ذرعا من هذا الرغيف، وذهب إلى حلقة "بني عدي" فوقف عليهم وهم مجتمعون، وأخرج الرغيف من جرابه وألقاه في وسط المجلس، وقال: يا بني عدي، استفحلوا هذا الرغيف، فإنه أنبل نتاج على وجه الأرض! ثم قال شعرا سخر فيه من أهل البصرة ومن تشدقهم في الانتساب إلى قحطان أو عدنان، وفحش بهما ومن انتساب الناس اليهما، بينما الناس هنالك ما بين نبط أو خوزان.

(1/2172)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن أهم القبائل القحطانية التي كان لها شأن يذكر عند ظهور الإسلام، و في الإسلام. حمير وكهلان. ومن مجموعة حمر قضاعة، في رأي من جل قضاعة من اليمن. ومن قضاعة كلب وأسد ومن أسد تنوخ. و أما مجموعة. كهلان، فتتألف من الأزد و همدان و مذحج وطيء، ومن الأزد: غسان و الأوس و الخزرج و ربيعة من القبائل العربية الكبيرة العدد، وقد سبق إن تحدثت عنها في مواضع من الأجزاء السابقة من هذا الكتاب. وقد عرفت "ربيعة" ب "ربيعة الفرس". ويعلل أهل الأخبار اشتهارها بذلك بقولهم: "وربيعة الفرس. هو ا?ن نزار بن معد بن عدنان، أبو قبيلة. وإنما قيل له ربيعة الفرس لأنه أعطي من ميراث أبيه الخيل، وأعطي أخوه مضر الذهب. فسمي مضر الحمراء. وأعطي أنمار أخوهما: الغنم، فسمي أنمار الشاة. وذكروا أيضا: إن نزارا لما حضرته الوفاة، آثر إيادا بولاية الكعبة، وأعطى مضر ناقة حمراء، فسمي مضر الحمراء، وأعطى ربيعة فرسه، فسموا ربيعة الفرس، وأعطى أنمار جارية له تسمى: بجيلة فحضنت بنيه، فسمي بجيلة أنمار". وذكر أيضا إن نزارا لما حضرته الوفاة قسم ماله بين بنيه، "وهم أربعة: مضر و ربيعة و إياد و أنمار. وقال: يا بني، هذه القبة وهي من أدم حمراء وما أشبهها من المال لمضر، وهذا الخباء الأسود وما شبهه من المال لربيعة، وهذه الخادم وما أشبهها من المال لإياد، وهذه البدرة والمجلس لأنمار يجلس فيه". ولما مات توجهوا إلى "الأفعى بن الأفعى الجرهمي" وكان ملك نجران، وصادفوا في طريقهم أعرابيا ضل بعيره، فوصفوه لة، فقال لهم دلوني عليه، ولما حلفوا له أنهم لم يروه وإنما وصفوه من أثره لم يصدقهم بل أخذهم إلى "الأفعى" ليحلفوا أمامه انهم لم يروه، فلما بلغوه قصوا قصتهم مع الأعرابي، وذكروا انهم إنما وصفوه من أثره على الأرض، فحكم لهم "الأفعى" بأنهم صادقون، وانهم لم يشاهدوه، ثم احتفل بهم بعد إن عرفهم وجرب ذكاءهم، وحكم بأن لمضر القبة الحمراء والدنانير والإبل،

(1/2173)


--------------------------------------------------------------------------------

وهي حمر فسميت: مضر الحمراء، وان لربيعة الخباء الأسود من داية ومال، فصارت له الخيل، وهي دهم، فسميت ربيعة الفرس. ثم قال: وما اشبه الخادم، وكانت شمطاء، فهو لإياد، فصارت له الماشية البلق من الخيل وغيرها، وقضى لأنمار بالدراهم والأرض.
و "مضر" من القبائل الكبيرة. وقد عرفت ب "مضر الحمراء" كما ذكرت. وفسر علماء اللغة والنسب اشتهار "مضر" على نحو ما ذكرت قبل قليل، وفسره بعضهم يقوله ومضر الحمراء، لأنه أعطي الذهب من ميراث أبيه. وأخوه ربيعة أعطى الخيل. فلقب بالفرس. أو لأن شعارهم في الحرب الرايات الحمر. وقال بعض علماء اللغة، وإنما سمي مضر بمضر: "لولعه بشرب اللبن الماضر أو لبياض لونه"، "والعرب تسمي الأبيض أحمر، فلذلك قيل مضر الحمراء". وذكر بعض أهل الأخبار إن مضر مضران: مضر الحمراء لسكناها قباب الأدم، ومضر السوداء لسكناها المظال.
ويظهر من هذه التفسيرات، إن "مضر" كانت قد نعتت ب "الحمراء" قبل ظهور الإسلام. وان "ربيعة" كانت. قد عرفت ب "ربيعة الفرس"، ولعل هذا بسبب، إن "مضر" كانت إذ ذاك قبائل ذات إبل و تجارة ومال، ومنها "قريش" التي عرفت بتجارتها وبما جمعته من مال، فقالوا "مضر الحمراء". و أما "ربيعة"، فكانت قبائل متبدية غازية محاربة، لها خيل وفرسان لهذا عرفت ب "ربيعة الفرس".
- وقد أشار الشاعر "لبيد" إلى ربيعة ومضر في شعره حين تعرض لذكر الموت، فقال: تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر
أراد: هل أنا إلا من أحد هذين الجنسين، فسبيلي إن أفنى كما فنيا. ونسب إليه قوله: فإن لم تجد من دون عدنان والدا ودون معد فلتزعك العواذل
فأشار بذلك إلى "عدنان" و "معد".

(1/2174)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن أشهر قبائل مضر "قريش."، حتى إن الناس كانوا إذا قالوا: مضري انصرف ذهنهم إلى قرشي. علي سبيل الشهرة، لاشتهار. قريش بالمضرية. فلما رأى رجل "أبا سفيان" واقفا بباب "عثمان بن ضان" ينتظر الإذن بالدخول عليه. قال له: "يا أبا سفيان، ما كنت أرى، إن تقف بباب مضري، فيحجبك! فقال أبو سفيان: لأعدمت من قومي من أقف ببابه فيحجبني".
القبائل القوية
والقبائل مثل الدول، أنماط ودرجات..منها قبائل قوية نشطة تعتمد على نفسها في الدفاع عن كيانها، ومنها قبائل أقل من هذه القبائل شأنا وقوة تحالف مع غيرها في الدفاع عن نفسها، نم لتكون من الحلف كتلة قبلية مهابة. وقبائل صغيرة ليست لها قدرة على الدفاع عن حياتها لوحدها، لذلك تركن إلى التحالف مع قبائل أخرى أقوى منها لتحافظ بذلك على وجودها.
والقبائل القوية هي القبائل الكثيرة العدد والموارد. و إذا ترأسها سادات ذوو كفاءة وقدرة، هابتها القبائل الأخرى.، وسادت على غيرها، وكونت منها ومن القبائل التي تستولي عليها مملكة، كالذي فعلته كندة. ولم يورد العلماء شروطا في الحد الأدنى أو الحد الأكبر للقبيلة.. وذلك من ناحية. عدد العشائر والبطون والأفخاذ، فلم نعثر على حد معين إذا بلغته جماعة من الناس وجب إطلاق لفظة "قبيلة" عليها. بل نجد علماء النسب يطلقونها أحيانا على بطون و أفخاذ، فيقولون: قبائل قريش، ويذكرون أسماءها، بينما هي في الواقع "آل" أو أرهاط وبطون.

(1/2175)


--------------------------------------------------------------------------------

و يقال للقبائل التي تستقل بنفسها وتستغني عن غيرها "الأرحى". وعرفت القبيلة التي لا تنضم إلى أحد ب "الجمرة". ذكر إنها القبيلة تقاتل جماعة قبائل. وكل قبيل انضموا فصاروا يدا واحدة ولم يحالفوا غيرهم، فهم جمرة. وقيل: الجمرة: كل قوم يصبرون لقتال من قاتلهم لا يحالفون أحدا ولا ينضمون إلى أحد. تكون القبيلة نفسها جمرة تصبر لقراع القبائل كما صبرت عبس لقبائل قيس. ولما سأل "عمر" "الحطيئة" عن عبس و مقاومتها قبائل قيس. قال: "يا أمير المؤمنين كنا ألف فارس كأننا ذهبة حمراء، لا نستجمر و لا نحالف، أي لا نسأل غيرنا إن يجتمعوا إلينا لاستغنائهم عنهم". والجمرة إجماع القبيلة الواحدة على من ناوأها من سائر القبائل.
وذكر إن "الجمرة" ألف فارس، أي القبيلة التي يكون فيها ذلك العدد من الفرسان ؛ وقيل ثلاثمائة فارس، أو نحوها. والذي يستنتج من آراء علماء اللغة والنسب في تعريف "الجمرة"، إنها القبائل المقاتلة القوية التي تعتمد على نفسها في القتال، ولا تركن إلى غيرها، ولا تحالف غيرها لتستفيد من هذا الحلف في قراع القبائل.
ومن مفاخر هذه القبائل كثرة ما عندها من فرسان، والفرسان في ذلك اليوم هم عماد حركة الجيوش، ومن أسباب القوة والانتصار. وقد عدوا القبيلة التي يكون فيها ثلاثمائة فارس أو نحوها جمرة، وقيل الجمرة: ألف فارس.

(1/2176)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن جمرات العرب: ضبة بن اد، وعبس بن بغيض، والحارث بن كعب، ويربوع بن حنظلة. و ذكر بعض العلماء إن جمرات العرب ثلاث جمرات: بنو ضبة بن اد بن طابخة بن الياس بن مضر، وبنو الحارث بن كعب، وبنو نمير بن عامر. فطفئت منهم جمرتان. طفئمت ضبة، لأنها حالفت الرباب وطفئت بنو الحارث، لأنها حالفت مذحج. وبقيت "نمير" لم تطفأ، لأنها لم تحالف. وورد إن الجمرات: عبس بن ذبيان بن بغيض، والحارث بن كعب، وضبة بن اد، وهم إخوة لأم، لأن أمهم امرأة من اليمن. تزوجها "كعب بن عبد المدان يزيد بن قطن، فولدت له: الحارث بن كعب، وهم أشراف اليمن ثم تزوجها "بغيض بن ريث بن غطفان"، فولدت له عبسا وهم فرسان العرب، ثم تزوجها "اد" فولدت له ضبة. فجمرتان في مضر، وهما عبس وضبة و جمرة في اليمن، وهم بنو الحارث بن كعب. وذكر بعض آخر إن الحارث، هم بنو كعب بن علة بن جلد. ومنهم من عد تميما من الجمرات.
"قال الخليل: الجمرة كل قوم يصبرون لقتال من قاتلهم، لا يحالفون أحدا، ولا ينضمون إلى أحد، تكون القبيلة نفسها جمرة تصبر لمقارعة القبائل كما صبرت عبس لقيس كلها".
و إذا تأملت كلام العلماء في جمرات العرب، تجده يصادم بعضه بعضا حتى إن الواحد منهم يذكر عددا، ثم يذكر عددا غيره في موضع آخر من كتابه. وقد اعتذر عن ذلك بعض العلماء إذ قال: "قلت فإذا تأملت كلامهم تجده مصادما بعضه مع بعض"، ثم ذكر أمثلة من أمثلة هذا التصادم، ثم خلص إلى هذه النتيجة، واعتذر عنهم بقوله: "و إذا تأملت كلامهم علمت انه لا مخالفة ولا منافاة، إلا إن البعض فصل والبعض أجمل".

(1/2177)


--------------------------------------------------------------------------------

وعندي إن للعواطف القبلية دخل في هذا الاضطراب، فمن النسابين من تعصب لقبيلة، فجعلها من الجمرات، بسبب صلته بها، ومنهم من تعصب لغيرها، ومنهم من تعصب على هذه القبيلة أو تلك، فأخرجها من الجمرات، فمن هنا وقع هذا الارتباك عند العلماء حين سألوا نسابي القبائل ورواة الأخبار عن أيام الجاهلية، وعن الأنساب والقبائل، وهي من أهم الامور حساسية عند العرب، فظهرت العصبية في مؤلفات أهل النسب والأخبار حين شرعوا بالتدوين.
وعرفت القبائل القوية الكبيرة التي تفرعت منها جملة قبائل ب "أم القبائل". ومن القبائل القوية "بكر بن وائل". وسبب ذلك إن القبيلة القوية تكبر بسبب انضمام القبائل الصغيرة، فإذا توسعت وتضخم عددها صار من الصب عليها البقاء في منازلها، فتضطر عندئذ على التوسع والانتشار في أرضين جديدة. و قد تغادر أحياء منها منازلها لتجد لها منزلا طيبا جدبدا،، فتبتعد بذلك عن القبيلة الكبيرة التي جمعت تلك الأحياء. فتكون بمثابة الأم للقبائل النازحة. تربطها بها رابطة ذكرى الأمومة، التي تتحول إلى نسب تخطه ذاكرة حفاظ الأنساب.
وعرفت أربع قبائل بشدتها وبأسها، فقيل لها: "رضفات العرب". وهي: "شيبان وتغلب وبهراء وإياد".
وقيل ل "كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان" من قضاعة، و "طيء ابن ادد"، و "حنظلة بن مالك بن زيد مناة" من "تميم"، و "عامر بن صعصعة بن معاوية" من "فوازن"، "جماجم العرب". وذكر إن "الجماجم" السادات والرؤساء، وان القبائل المذكورة، كانت من جماجم القبائل، أي من رؤسائها، وقد دعيت ب "جماجم"، لأنها بمنزلة جمجمة للرأس بالنسبة للإنسان، أي إن هذه القبائل من القبائل الرئيسة عند الجاهليين.
وبين القبائل، قبائل دعاها "ابن حبيب" "أثافي العرب". وهي "سليم" و "هوازن" من "قيس عيلان"، و "غطفان"، و "أعصر" و "محارب ابن خصفة". و "الإثفية" العدد الكثير والجماعة من الناس. والظاهر إنها إنما عرفت بذلك لكثرة عددها.

(1/2178)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن مفاخر القبائل اعتزالها القبائل الأخرى وعدم مخالطتها قبيلة ثانية. وتفخر الأحياء بحردها أيضا. فيقال "حي حريد منفرد"، ومعناه-معتزل من جماعة القبيلة لا يخالطهم في ارتحاله وحلوله لعزته، لأنه لا ينزل. في قوم من ضعف وذلة لما هو عليه من القوة والكثرة.
وذكر أن القوم الذين يكون آمرهم واحدا يعرفون ب "الخليط". وذلك انهم كانوا ينتجعون أيام الكلأ، فتجتمع منهم قبائل شتى في مكان واحد، فتقع بين هم ألفة، ويكونون يدا واحدة. فإذا افترقوا ورجعوا إلى أوطانهم ساءهم ذلك وريعوا.
وهناك قبائل ضعيفة، لم تتمكن إن تعيش لوحدها، لذلك تحالفت مع غيرها من قبائل أقوى منها، واندمجت بها. كما يندمج الأشخاص بالقبائل، بالحلف أو بالجوار أو بالموالاة. وعند انضمام الأحياء والعشائر والقبائل الضعيفة إلى الأقوى منها، بطريقة من الطرق، يتم ذلك، بطقوس دينية على نحو ما سأتحدث عنه في عقد الأحلاف. بسبب إن العقود في نظر العرب تستوجب البر بها والوفاء، ولهذا تعقد في ظروف خاصة أمام الكهنة وفي المعابد.
ألقاب بعض القبائل
ولقد لقبت بعض القبائل بألقاب. فقد قيل: مازن غسان أرباب الملوك، وحمر أرباب العرب، و كندة كندة الملوك، ومذحج الطعان، وهمدان احلاس الخيل، والأزد أسد البأس، والذهلان: احدهما ذهل شيبان بن ثعلبة ويشكر، و الآخر ضبيعة وذهل بن ثعلبة، و اللهزمتان: إحداهما عجل وتيم اللآت، والأخرى قيس بن ثعلبة وعنزة، وكلهم من بكر بن وائل، إلا عنزة بن ربيعة.

(1/2179)


--------------------------------------------------------------------------------

وبعض هذه الألقاب ألقاب حسنة جميلة، وبعضها ألقاب تشير إلى قوة وبأس وشدة، وبعض منها مقبول لا بأس به. وهي ألقاب كانت القبائل الملقبة بها تفاخر وتتباهى بها، أو تقبلها ولا ترى فيها أي بأس. وهي على العموم أما إن تكون قد نبعت من القبيلة، كان ينعت سيد قبيلة قبيلته بنعت.، فتتمسك به، أو إن ينعتها بذلك شاعر منها أو شاعر من قبيلة. أخرى، فيذهب هذا النعت بين الناس، و يصير سمة للقبيلة. غير إن في الألقاب بعض آخر يشير إلى استصغار شأن القبيلة التي نعتت به، مثل "القين" و "الأجارب" و "الأقارع"، و "قراد"، وما شاكل ذلك من ألقاب، تحولت إلى مسميات. أي تحول اللقب فصار اسم علم. وهي نعوت يظهر إن مصدرها شعر الهجاء و القبائل المعادية المتنابزة بالألقاب. وقد شاعت وثبتت لأنها أثرت في القبائل المهجوة وآلمتها، فتمسك قائلوها بها، وشاعت بين الناس حتى نسي سبب قولها، وصارت اسم علم للقبيلة، ولم ير من جاء بعد ذلك بأسا من الانتماء إلى القبيلة المنبوزة به.
وقد رمت بعض القبائل قبيلة إياد بالفسو، وعيرتها به، حتى إذا كان أحد رجالها بعكاظ، ومعه بردا حبرة، قام فقال: من يشتري مني عار الفسو بهذين البردين? فقام عبد الله بن بيدرة احد "مهو" حي من عبد القيس، فقال: هاتها، واشهدوا أني اشتريت عار الفسو من إياد لعبد القيس بالردين. فلما أتى رحله وسئل عن الردين، قال: اشتريت لكم بهما عار الدهر، فوثبت عبد القيس، و قالت:.
إن الفساة قبلنا إياد ونحن لا نفسو و لا نكاد
و تفرق الناس عن عكاظ بابتياع عبد القيس عار الفسو. ثم إن هذا العار زال عن اياد ولصق بعبد القيس، فهجوا به كثيرا. وضرب المثل ب "عبد الله بن بيدرة"، فقيل: "شيخ مهو"، ضرب به المثل في الخسران. وقيل: أخسر صفقة من شيخ مهو.

(1/2180)


--------------------------------------------------------------------------------

وبعض هذه النعوت قيل في الإسلام، من ذلك رمي "تميم" بالبخل واللؤم، بسبب هجاء الطرماح لها وقوله فيها: تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ولو سلكت سبل المكارم ضلت
ونجد لجرير و للفرزدق و للأحابيش ولغيرهم ذما في قبائل الشعراء المتهاجين.
ومن القبائل الملقبة: الأحابيش، وقد تحدثت عنهم، والمطيبون و الأحلاف، وهم من قريش. وقد تحدثت عنهم أيضا، والأراقم، وهم جشم، ومالك، وعمرو بن ثعلبة، ومعاوية، و الحارث، بنو بكر بن حبيب بن ضم بن ثعلب ابن وائل. وهم أحياء من ثعلب، جعلهم بعضهم ستة. هم: جشم ومالك وعمرو وثعلبة ومعاوية والحرث بنو بكر بن حبيب بن غنم بن ثعلب بن وائل. وقال بعض علماء اللغة، الأراقم: بطون من بني تغلب يجمعهم هذا الاسم. قيل سموا. بذلك لأن ناظرا نظر إليهم تحت الدثار وهم صغار، فقال: كأن أعينهم أعين الأراقم، فلج عليهم اللقب.
وعرفت بعض القبائل ب "البزاجم"، و هم خمسة بطون من بني حنظلة: قيس، وغالب، وعمرو، و كلفة و الظليم، و هو مرة. قيل انهم إنما سموا بذلك، لأنهم تبرجموا على اخوتهم يربوع و ربيعة وماللك، وكلهم أبوهم حنظلة ابن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مرة. وذكر أيضا انهم إنما سموا البراجم، و ذلك لأن أباهم قبض أصابعه، وقال كونوا كبراجم يدي هذه. أي لا تفرقوا، وذلك اعز لكم. وقيل: لا، و إنما سموا بذلك، لأنم تحالفوا إن يرنوا كبراجم الأصابع في الاجتماع.

(1/2181)


--------------------------------------------------------------------------------

وعرف "الثعلبات" بهذه التسمية، لأنهم بطون، اسم كل بطن منهم "ثعلبة". وهم: ثعلبة بن سعد بن ضبة، وثعلبة بن سعد بن ذبيان، و ثعلبة بن عدي فزارة، و أضاف إليهم قوم: ثعلبة بن يربوع. ويقال لهم "الثعالب" أيضا. وهم قبائل شتى، فثعلبة في "بني اسد"، وثعلبة في تميم، وثعلبة في ربيعة، و ثعلبة في قيس. ومنهما الثعلبتان من طيء. وما ثعلبة بن جذعاء بن ذهل بن رومان بن جندب بن خارجة بن سعد بن قطرة من طيء. وثعلبة بن رومان بن. جندب المذكور. وذكر إن الثعالب في طيء يقال لهم مصابيح الظلام، كالربائع في تميم.
و أما "الرباب"، فهم ضبة بن أد بن طانجة، وتيم، وعدي، وعوف، وهوعكل، وثور، وكل هؤلاء بنو عبد مناة بن أد بن طابخة. قيل انهم إنما سموا بذلك لتفرقهم، وقبل: سمو ربابا لترابهم، أي تعاهدهم وتحالفهم على تميم. وقبل: سموا بذلك لأنهم أدخلوا أيديهم في رب وتعاقدوا وتحالفوا عليه فصاروا ع يدا واحدة.
و أما "الأجارب"، فهم: خمس بطون من "بني سعد"، وهم: ربيعة، ومالك، والحارث، وعبد العزى، وبنو حمار. وورد الأجارب حي من بني سعد بن بكر من قيس عيلان، و إذا قيل: الأجربان، فهما: عبس و ذبيان.
و "الحرام"، هم: بنو كعب بن سعد بن زيد مناة. وذكر إن في العرب بطونا ينسبون إلى "آل حرام". منهم بظن في تميم وبطن في جذام وبطن في بكر بن وائل. وهناك بطون أخرى عرفت ب "حرام".
وأما "الضباب"، فهم "بنو عمرو بن معاوية بن كلاب"، قال بعض أهل الأنساب انهم أربعة بطون من "بني كلاب". وقال بعض آخر. انهم اكثر، و أوصلوهم إلى أربعة عشر بطنا.
واشتهرت بعض القبائل والعشائر والبيوت بنعوت لازمتها في الجاهلية وامتدت إلى الإسلام، فقد عرف بنو مخزوم وبنو جعفر بن كلاب بالتيه والكبر، حتى قيل: "أربعة لن يكونوا ومحال إن يكونوا: زبيدي سخي، و مخزومي متواضع، وهاشمي شحيح، وقريشي يحب آل محمد".

(1/2182)


--------------------------------------------------------------------------------

واشتهرت "طيء" بالجود. لكون حاتم وأوس بن حارثة بن لأم منهم. وعرفت "باهلة" باللؤم، حتى ضرب بها المثل في اللؤم، فقيل: لؤم باهلة. واشتهر "بنو ثعل" بالرمي، وذكروا بذلك في شعر لامرئ القيس. واكتسبت "مدلج" شهرة واسعة في القيافة، إذ اختصت بها من بين سائر العرب. وبرز "بنو لهب" في العيافة. فهم أزجر العرب وأعينهم. وعرفت "إياد" بخطبائها، وملوك غسان بثريدهم، الذي قيل له: "ثريدة غسان". وعرفت كندة بغلاء مهور بناتهم، وعرفت "خزاعة" بالجوع والأحاديث، قيل لزهمان: ما تقول في خزاعة? قال جوع وأحاديث. أي فقر و دعاوى فارغة وأضغاث أحلام.
وعرفت بعض القبائل ب "الضبيعات". وهي "ضبيعة بن قيس بن ثعلبة"، أشرفهن. و "ضبيعة أضجم بن ربيعة بن نزار"، و "ضبيعة بن عجل بن لجيم". وذكر أيضا أن في العرب قبائل تنسب إلى "ضبيعة": "ضبيعة ابن ربيعة بن نزار"، وهو المعروف ب "الأضجم"، و "ضبيعة بن أسد ابن ربيعة"، قال بعضهم إنما ضبيعة أضجم، و "ضبيعة بن قيس بن ثعلبة ابن عكابة بن صعب بن بكر بن وائل"، وهو أبو رقاش أم مالك وزيد مناة ابني شيبان، و هم رهط الأعشى: ميمون بن قيس. و "ضبيعة بن عجل بن لجيم بن صعب بن بكر بن وائل، رهط الوصاف. و "ضبيعة بن فريد". بطن من الأوس من بني عوف بن عمرو، و ضبيعة بن الحارث العبسي.
وذكر "ابن حبيب" أسماء قبائل عرفت ب "الربائع". هي في "تميم". وهي: "ربيعة الجوع بن مالك بن زيد مناة بن تميم"، و "ربيعة بن حنظلة ابن مالك بن زيد بن تميم"، و "ربيعة بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم"، كل واحد منهم عم صاحبه. و "ربيعة بن كعب بن سعد ابن زيد مناة"، وهم "الحباق". وورد: في تميم ربيعتان: الكبرى وهي ربيعة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، وتدعى: ربيعة الجوع. والصغرى وهي: ربيعة بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة من تميم.
أسماء أجداد القبائل

(1/2183)

admin
12-31-2010, 07:38 PM
ولكل قبيلة - كما ذكرت - جد تنتمي إليه وتفاخر وتباهي به. وقد يكون هذا الجد جدا حقيقيا، أي إنسانا عاش ومات، وساد القبيلة. وترك أثرا كبيرا في قبيلته، حتى نسبت القبيلة إليه. وقد يكون الجد اسم حلف تكون، وتالف من قبائل عديدة، حتى عرفت به، ودعيت بذلك الحلف، وصار وكأنه اسم جد وإنسان عاش. ومن هذا القبيل اسم "تنوخ" على حد زعم أهل الأخبار، فقد زووا إن تنوخ قبائل عديدة، اجتمعت وتحالفت، وأقامت في مواضعها.
وقد يكون اسم بوضع، أقامت قبيلة به، فنسبت إليه. كما يذكر أهل الأخبار من اسم "غسان". وقد يكون اسم إله عبد، فنسب عباده إليه مثل "بنو سعد العشرة"، و "تالب ريام" جد قبيلة "همدان"، و قد يكون اسم حيوان أو نبات أو ما شابه ذلك، مما يدخل في دراسة أصول الأسماء ومصادرها واشتقاقها، وهو شيء مألوف نراه عند غير العرب أيضا، فليس العرب بدعا وحسهم في هذه الأمور.
وما يذكره ويرويه أهل الأخبار عن أزمنة أجداد القبائل، فيه أغلاط وأوهام. فقد يرفعون زمان رجل فيبعدونه كثيرا عن الإسلام، بينما هو من الرجال الذين عاشوا قبيل الإسلام. وقد يجعلون الرجل من الجاهلية القريبة من الإسلام، بينما يجب وضعه قبل الإسلام بقرون. ثم هناك أخطاء فاضحة في سرد سلاسل النسب، وفي أسماء الاشخاص، ولا سيما في الأنساب القديمة، بحيث يصعب على الباحث. الأخذ بها والتأكد منها. أما بالنسبة إلى الأنساب القريبة من الإسلام، فان وضعها يختلف عن وضع الأنساب المذكورة، إذ يغلب عليها طابع الصحة والضبط.

(1/2184)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذهب المستشرق "بلاشير" إلى إن طريقة النسابين بالنسبة إلى الأرهاط، هي طريقة إيجابية مقبولة، ولكنها لا تستند إلى أسس صحيحة بالنسبة للقبائل و الأحلاف. بسبب إن تحالف القبائل وتكتلها، راجع إلى عوامل المصلحة الخاصة والمنافع السياسية، وهي تتغير دوما بتغير المصالح، تتولد تبعا لذلك أحلاف لم تكن موجودة وتموت أحلاف قديمة. وتظهر قبائل كبيروة وتموت غيرها. ولهذا التغير. فعل قوي في تكوين الأنساب وفي نشوئها إذ تتبدل وتتغير الأنساب تبعا لذلك التغير، ومن ثم فلا يمكن الاعتماد على الأنساب الكبرى، التي دونها علماء النسب وجمعوها في مجموعات، وشجروها حفدة وآباء و أجدادا.
والمصالح السياسية للقبائل لا تقيم وزنا. للاخوة وللنسب. فإذا اختلفت المصلحة، فلا تجد القبائل عندئذ أي غضاضة في الانفصال عن قبيلة مؤاخية لها لتتحالف مع قبيلة غريبة عنها في النسب، ومحاربة أختها التي انفصمت عنها. فعبس مثلا تحالفت مع "بني عامر" في حرب البسوس على "ذبيان"، وهي اختها، وتحالفت ذبيان مع "تميم" على "عبس"، مع ما بين "تميم" و "عبس" و "ذبيان" من عداء قديم. وقد وقعت أيام بين "تغلب" و "بكر" مع صلة الرحم والقرابة القوية التي ربطت بين القبيلتين الأختين. وقع كل ذلك وحدث بسبب تغير المصالح التي كانت تربط فيما بين هذه القبائل.
ارض القبيلة
ولكل قبيلة ارض تعيش عليها وتنزل بها وتعتبرها ملكا لها، تنتشر بها بطونها وعشائرها، ولا تسمح لغريب النزول بها والمرور بها إلا. بموافقتها وبرضاها. وقد اختص كل بطن منها بناحيته فانفرد بها واعتبرها أرضا خاصة به.

(1/2185)


--------------------------------------------------------------------------------

وتكون الأرض التي تحل القبيلة بها "منزلا" لها، و "منازل" لأبنائها الذين ينزلون بها. يضربون بها، خيامهم. فتكون الأرض مضارب لها. تستوطنها وتقيم بها وتصير وطنا لها، أي دار إقامة، ما دامت تقيم بها. وموضع بيوتها. لذلك يعبر عن الأرض التي تقيم بها القبيلة ب "بيوت القبيلة" و ب "بيوت العشيرة"، لأنها مضرب البيوت.
وتمتد ارض القبيلة إلى المواضع التي تصل بيوتها أليها. فما يقع إلى الداخل فهو من موطن القبيلة، وما وقع خارج حدود نفوذ القبيلة خرج عن مواطنها. وتعين الحدود بالظواهر الطبيعية البارزة، مثل تلال أو أودية أو رمال أو ما شاكل ذلك. ونظرا إلى عدم تثبيت القبائل لحدودها على الأرض برسم معالم بارزة لها، صارت الحدود سببا من أسباب النزاع المستمر والقتال الدائم بين القبائل.
وتكون مواضع الماء في أرض القبيلة قبلة أبنائها، يستقون منها ما يحتاجون إليه من "اكسير الحياة". وتكون هذه المواضع آبارا أو عيون ماء أو حسيا وما شاكل ذلك. وتتفق القبيلة فيما بينها على حقوق السقي. ويؤدي الإخلال بحقوق السقي إلى وقوع نزاع، قد يؤدي إلى قتال، ولا سيما في أيام القيظ وانحباس المطر، حيث تشتد الحاجة إلى الماء، ويصير افتقاده سببا لهلاك الأنفس والمال. والقاعدة إن ماء القبيلة مشاع في القبيلة. أما المياه المحمية: المياه التي تحمى للسادة والرؤساء، والمياه الخاصة، كالآبار التي يحفرها أصحابها، فتكون خاصة بهم. لا يجوز الاستقاء منها إلا بآذن.

(1/2186)


--------------------------------------------------------------------------------

ولكل قبيلة حق حماية أرضها. شأنها في ذلك شان الدول. و إذا أراد غريب اجتياز أرضها فلا بد من إن يكون في حماية إنسان منها. و إذا كان المجتاز جماعة، كأن يكون قافلة أو قبيلة أو حيا يريد التنقل إلى ارض أخرى، ولا بد له من المرور بأرض هذه القبيلة للوصول إلى هدفه، فعليه اخذ أذن من القبيلة يخوله جواز المرور بها، و إلا تعرض للمنع والقتال. لذا كان لا بد للتجار من ترضية سادات القبائل للسماح لهم بالمرور، بدفع حق المرور، وهي إتاوات تعارفت القبائل آنذاك على آخذها من المارة.
سادات القبائل
وسيد القبيلة بالنسبة للقبيلة، مثل ملك مملكة بالنسبة لمملكته. فهو الرئيس والمرجع والمسؤول عن أتباعه في السلم والحرب. يقصده ذوو الحاجات من أبناء القبيلة إن احتاجوا إلى حاجة. وقد يجمع هذا الرئيس شمل جملة قبائل، ويترأسها، وقد ينصب نفسه ملكا عليها، كالذي فعله ملوك كندة من بني "آل اكل المرار" و غيرهم من الملوك. وقد لا تخطئ إذا ما قلنا إن اكثر مؤسسي الأسر المالكة في بلاد العرب، كانوا سادات قبائل في الأصل، استغلوا مواهبهم وقابليتهم، و إمكانية قبيلتهم، وسخروها في سبيل الحصول على الملك، وعلى التلقب بلقب "ملك"، فنالوه.

(1/2187)


--------------------------------------------------------------------------------

ويقال للسيد: المسود. ويذكر علماء اللغة إن السيد يطلق على الرب والمالك والشريف والفاضل والكريم والحليم ومحتمل أذى قومه والزوج والمقدم والرئيس. وسيد القبيلة هو رئيسها. تقول العرب: "فلان سيدنا" أي رئيسنا والذي نعظمه، ونقول "ساد قومه". وهي من الألفاظ المستعملة عند عرب الحجاز ونجد والعراق وبلاد الشام، أما العربية الجنوبية، فقد استخدمت ألفاظا أخرى بدلا عنها. ويقال لسيد القبيلة "رئيس القبيلة". والرئيس، سيد القوم. والرياسة: السيادة. ويقال فلان راس ورئيس القوم. ورؤساء القبائل هم سادات القبائل والمتولون لأمورها. كما يقال فلان: ساد قومه، وهو سيد القوم وسيدهم. فاللفظتان مترادفتان وفي معنى واحد. ووردت لفظة "زعيم" بمعنى سيد القوم ورئيسهم والمتكلم عنهم. والجمع زعماء. كما وردت الزعامة، الشرف و الرياسة على القوم وحظ السيد من المغم. غير إن استعمال "زعيم القبيلة"، أقل في الكلام من استعمال "سيد" و "رئيس".
و أنا حين استعمل "سيد قبيلة"، اقصد بها الرئيس الفعلي لقبيلة، المسؤول عنا، والمدبر لأمورها والمرجع الآخر لها، والذي يكون كالملك أو الحاكم بالنسبة لقبيلته لأن هناك سادات آخرين سادوا في القبيلة وقد عرف خبرهم في كل مكان، وربما اشتهر ذكرهم اكثر من اشتهار اسم سيد قبيلتهم، ومع ذلك فانهم لا يعدون رأس تلك القبيلة. لأن الرأس المسؤول عن القبيلة رأس واحد، إلا إن العرف إن يسود الرؤساء في القبائل، هو كما يترأس الأشراف أمر مدينة، بان يترأسوا عمائر القبيلة ثم فروعها الدنيا التي تلي العمائر، فهم رؤساء في قبيلة بالمعنى المجازي، الذي جوز إطلاق لفظة "القبيلة" حتى على الأفخاذ والبطون، بل و البيوت. بأن يبزوا الرئيس بالخصال الحميدة، التي تجلب لهم الشهرة والسيادة، و تجعل اسمهم يعلو اسم رئيس القبيلة في كثير من الاحايين.
صفات الرئيس

(1/2188)


--------------------------------------------------------------------------------

وعلى من يسود في قومه إن يتحلى بخلال حميدة وسجايا طيبة، تجعل الناس يعترفون، بسيادته عليهم، كأن يتحمل أذى قومه، ولذلك قيل للسيد "محتمل أذى قومه"، وأن يكون شريفا في أفعاله حليما كريما، يغض نظره عن أعمال الحمقى والجهلة، وأن يتجاهل السفلة والسفهاء الجاهلين. فلا يغضب ولا يثور، وأن "يكظم غيظه جاء في المثل: "احلم تسد".وان يحترم الناس مهما كانت منازلهم، وأن يؤلف بينهم و يكتسب محبتهم، وأن يكون ملاذهم، وأن يجعل بيته بيتا للجميع، ومضيفا لكل من يفد إليه من كبير أو حقير أو صغير، وأن يفتح قلبه للجميع.
وعلى الرئيس إن يكون في مقدمة القوم في الحروب والغزو، وأن يكون شجاعا لا يهاب الموت، حتى يكسب النصر لنفسه ولقومه، وعليه إن يكون قائد قبيلته وواضع خطط الحرب. لأنه رمز القبيلة ورمز النصر وباعث الهمم في نفوس أبنائه، وهو أب القبيلة. و إذا لا يكون قدوة لأبنائه في ساعات الشدة والخطر، فترت همم أبناء القبيلة. ولا يثير القبائل إلا الشعارات و النخوة وإلهاب المشاعر، حتى تندفع اندفاعا في القتال. والرئيس هو روح القبيلة وشعارها، فإذا أصيب بمكروه أو جبن في القتال، و إذا خر صريعا في المعركة، هربت قبيلته في الغالب، وتراجعت القهقرى، إلا إذا وجد في القبيلة من يؤجج فيها نار الحماسة ويبث فيها العزيمة للوقوف والصمود. ويكون مثل هذا الرجل من الشجعان الأقوياء أصحاب الإرادة القوية الذين يعرفون نفسية قبيلتهم، و إلا فليس من السهل على رجل التأثير على قبيلة وهي في مثل هذا الوضع.

(1/2189)


--------------------------------------------------------------------------------

ولأثر الرئيس في مصير الحرب، كان الفرسان يوجهون كل قوتهم نحو الرؤساء، لأنهم على علم بأنهم إن تمكنوا من الرئيس فقتلوه، غلبوا عدوهم في الغالب وقضوا عليه. فهو الروح المعنوية عند الأعراب. يليه حامل اللواء فإذا سقط حامل اللواء قتيلا أسرع من عين ليكون خليفته في التقاط الراية وحملها، و إذا سقط هذا أيضا أسرع من يأتي بعده، وهكذا. فان سقوط الراية معناه هزيمة منكرة ستحيق بمن سقطت رايته، ولهذا كانوا يختارون رجالا شجعانا يولونهم أمر اللواء، بحيث. إذا سقط أحدهم اخذ من يليه مكانه، وهكذا حتى النصر.
صعوبة انقياد القبائل
وليست قيادة القبيلة بأمر سهل يسير، لا سيما إذا كانت القبيلة قبيلة كبيرة ذات عشائر وأرهاط منتشرة في مواضع متباعدة. فان رؤساء العشائر يستغلون. فرصة ابتعادهم عن ارض الأم، ويعلنون انفصالهم عنها، وتوليهم آمرهم بأنفسهم.
فيحدث الانفصام و الانقسام، وقد يعلن الرئيس حربا على العشيرة العاقة المنشقة، لهذا يعد سيد القبيلة الذي تجتمع له، رئاسة قبيلة كبيرة من السادات المحظوظين. وحظه هو ثمرة ذكائه ومواهبه و قابلياته ولا شك. ومن هؤلاء المحظوظين الذين دون أهل الأخبار أسماءهم: "جهبل بن ثعلبة اليشكري"، سيد "بكر بن وائل"، فقد اجتمعت ". بكر" حوله، و "عمرو بن شيبان بن ذهل"، و "عمرو بن قيس الأمم" و،"، الكلح" و "بشر بن عمرو بن مسعود"، و "همام بن مرة" و "الحارث بن عباد"، وقد، اجتمعت حولهم "بكر ابن وائل"، وانضوت تحت لوائهم، وذلك في مناسبات أشار إليها أهل الأخبار، مثل وقوع بعض الأيام. ولولا هذه الأيام، وتلك المناسبات التي اضطرت القبيلة على التكتل، والتجمع فيها حول زعيم واحد، ليخلصها من المخاطر، لما تجمعت حوله، لأن التجمع لا يلتئم مع طبع أهل البادية، الذين جبلتهم الطبيعة على التشتت والتفرق.

(1/2190)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر أهل الأخبار إن "خالد بن جعفر بن كلاب"، و "عروة الرحال ابن عتيبة بن جعفر"، و " الأحوص بن جعفر"، و "عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب"، هم أربعة اجتمعت عليهم "هوازن"، و لم تجتمع "هوازن" كلها في الجاهلية إلا على هؤلاء الأربعة. وهم كلهم من "بنى جعفر بن كلاب". مما يدل على صعوبة انقياد عشائر "هوازن" لزعامة رجل واحد. وهذا مثل واحد من أمثلة صعوبة انقياد القبائل برئاسة رئيس، لأن الانقياد لرئيس واحد، معناه في نظر رؤساء العشائر، خضوعهم لغيرهم و إستذلالهم له وتنازلهم عن حريتهم وعن استقلالهم في إدارة شؤون عشائرهم لغيرهم و لو كان هذا الرئيس منهم، أضف إلى ذلك الخسائر المادية التي قد يصابون بها من هذا الانقياد.
وقد عرفت قبائل "ربيعة" خاصة بتخاصمها و بتباغضها وبتحاسد رؤسائها، لذلك لم تقبل في الغالب بتملك رئيس منها عليها. بل كان سادتها يراجعون التبابعة على ما يقوله أهل الأخبار لتمليك سيد منهم عليهم. كانوا يراجعون اليمن كلما اختلفوا فيما بينهم على تمليك ملك عليهم. وقد ذكر أهل الأخبار إن من جملة أسباب تعين والد الشاعر "امرئ القيس" الكندي ملكا على بني أسد وتعيين أعمامه ملوكا على القبائل الاخرى، هو تناحر سادات ربيعة فيما بينهم، و تباغضهم وتفرق كلمتهم، حتى كان كل واحد منهم يرى انه أولى من غيره بالملك، فدب الخلاف بين القبائل، وتطاول السفهاء على الأشراف وأهل البيوتات، وعندئذ وجد سادات القبائل إن الآمن لا يرجع إليهم إلا بذهابهم إلى كندة لتنصيب ملوك منها عليهم. فكان ما كان من تنصيب والد الشاعر على "بني أسد وتنصيب أعمامه على القبائل الأخرى. إلا إن الأمن لم يستتب ولم يستقر، طويلا بين هذه القبائل المتنازعة، إذ قرر الرحيل عنها، وعاد الخصام داء "ربيعة" إلى وطنه. وعادت حليمة إلى عادتها القديمة على ما يقوله أهل الأمثال.

(1/2191)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد أشار أهل الأخبار إلى رجال ذكروا انهم تمكنوا من حكم معد و ربيعة. ومعنى ذلك انهم كانوا من ذوي الشخصيات القوية. وبذلك تمكنوا من فرض. أنفسهم على هذه القبائل المتباغضة. من هؤلاء: حذيفة بن بدر. وهو من سادات غطفان وبيتهم. وهو والد "حصن" أبو عيينة. وقد أدرك "عيينة" النبي، فأسلم ثم ارتد وأسلم بعد ذلك على يد أبي بكر. وقد قاد "حذيفة" "بني فزارة" و "مرة" يوم النسار، و يوم الجفار، و في حرب داحس حتى قتل فيها يوم الهباءة. وقد عرف ب "رب معد". وما كان ليعرف بذلك لو لم يكن من أصحاب القوة والمكانة حتى ساد قبائل معد.
ومن سادات "ربيعة" "الأفكل"، و "عمرو بن جعيد" من "بني الديل". وكان ذا بغي، فسارت إليه "بنو عصر" فقتلوه. و "الحارث الأضجم بن عبد الله بن ربيعة بن دوفن"، من "بني دوفن". قدم السؤدد فهم كانت تجبى إليه إتاوتهم. و "عامر الضحيان بن سعد بن الخزرج بن تيم بن النمر بن قاسط"، وكان سيد "النمر بن قاسط" في الجاهلية وصاحب مرباعهم.
وكان "القدار بن الحارث" رئيس ربيعة في أول الإسلام. وورد إن "القدار بن عمرو بن ضبيعة"، كان رئيس ربيعة، يلي العز والشرف فيهم.
و يمتاز سيد القبيلة عن سائر رجال قبيلته ببيته الكبير، المكون من خيمة ضخمة، والتي قد تتكون من جملة قطع من للنسيج خيطت بعضها إلى بعض لتتكون منها خيمة كبيرة. تكون مضيفا للرئيس ومجلسا للقوم، يؤبه سادات القبيلة. وأشراف الأحياء. وموئلا لذوي الحاجات من الناس. وله خيام أخرى، أعدت لحريمه. ولأهله. فهي منازل رئيس. القبيلة الخاصة به وبأفراد أسرته.

(1/2192)


--------------------------------------------------------------------------------

و امتاز الرئيس عن أفراد قبيلته بكثرة عدد نسائه. فسيد القبيلة مزواج في الغالب، عنده المال، وعنده الجاه والرئاسة، فلا يجد صعوبة في الحصول على ع زوجات صغيرات السن لينجبن له أولادا، يكونون له حصنا حصينا وأمنا له على ماله، وعونا له على القبيلة. فيحمي بهم نفسه ممن قد يطمع في الرئاسة وفي انتزاع السيادة منه بالقوة.
ومن واجب الرئيس الأشراف على تقديم الغنائم، ومن حقه المرباع إن كان من ذوي المرباع، وله إن ع ينفق من جيبه على الضيوف، وان يفتح بيته للقادمين إليه من مختلف الناس، وان يستقبل ضيوف القبيلة بوجه فرح بشوش. وآن يرعى شؤون قبيلته، ويسأل عن أبنائها، وعليه إن يسعى لفك من يقع من أبناء عشيرته أسيرا في أيدي قبيلة أخرى، وان يشارك قومه في تحمل الديات، حين يعجز رجال القبيلة عن حملها، وعليه إن يعين أتباعه في كل جناية يجنونها، فهي وان صدرت من غيره لكنها تقع في النهاية على رأس سيد القبيلة. فعليه وحده إيجاد حل لها و مخرج. و من هنا كنت العرب عن سيد القبيلة بقولها "سيد معمم"، يريدون إن كل جناية يجنيها أحد من عشيرته معصوبة برأسه.
رئاسة القبائل
لا تملك نصا جاهليا فيه شيء عن الشروط التي يجب إن تتوفر في الرجل كي يكون رئيسا على قبيلة. ولا نجد في روايات أهل الأخبار أخبارا واضحة صريحة عن طريقة تولي الرئاسة عند الجاهليين. لذا لا نستطيع البت في موضوع شروط انتقال الرئاسة من رئيس قبيلة متوفى أو مخلوع إلى رئيس جديد. وهل كانت الرئاسة وراثية على طريقة انتقال العروش في النظام الملكي، أم كانت اختيارا وانتخابا وشورى، بمعنى إن اختيار الرئيس يكون برأي من رؤساء القبيلة، وليس بسنة الإرث. والذي ظهر لنا من دراسة أخبار أهل الأخبار في هذا الموضوع إن الجاهليين كانوا قد ساروا على سنة الإرث في تولي الرئاسة كما ساروا على طريقة الاختيار.

(1/2193)


--------------------------------------------------------------------------------

أما إنها كانت رئاسة وراثية، فلأنها رئاسة مثل سائر الرئاسات عند العرب، كرئاسة المكربين والملوك والأقيال و الأذواء والأقيان وكل الرئاسات الجاهلية الأخرى. وقد كانت هذه الرئاسات رئاسات وراثية في الأغلب، لذا كانت رئاسة القبيلة بالوراثة أيضا. تنتقل الرئاسة من الأب إلى الابن الأكبر. ويؤيد هذا الاستنتاج ما نجده في أكثر روايات القبائل، وتولي الأبناء رئاستها بعد الآباء.
وأما إنها بالنص والتعيين، فكالذي ذكروه من أمر اختيار "حصن بن حذيفة ابن بدر" ابنه "عيينة" لرئاسة قومه من بعده. ولم يكن عيينة أليق. من غيره بأن يكون سيد قومه، فاستدعى أولاده وقال لعيينة: أنت خليفتي ورئيس قومك من بعدي. ثم قال لقومه "بني بدر": لوائي و رياستي لعيينة، ثم أوصاهم بما يجب إن يفعلوه على عادة السادات عند اشتداد المرض بهم و شعورهم بدنو أجلهم. من وجوب التكتل والتهيؤ للقتال وعدم التجرؤ على الملوك، فان أيديهم أطول من أيدي الرعية. فسمعوا له وأطاعوا، واختاروه رئيسا عليهم.
وأما إنها شورى ورأي، فعند عدم وجود عقب للرئيس المتوفى، أو عند وجود تنافس وتباغض بين أبناء الرئيس المتوفى بسبب كونهم من زوجات مختلفات فيما بينهن، يخشى عندئذ من انقسام القبيلة على نفسها، ويحسم الخلاف باختيار أحزم الأبناء أو تنصيب رجل قريب أو بعيد عن الرئيس، يجدونه أهلا و كفؤا لتولي الرئاسة فيولونها إياه. وقد يلجئون إلى الرأي في حالة. تشتت شمل القبيلة، بظهور رجال أشراف فيها، لهم كفاءات و قابليات وشهرة تفوق شهرة أسرة الرئيس المتوفى، يطمعون في الرئاسة، فينتخبون اكفأهم و أقواهم ليكون الرئيس الجديد.

(1/2194)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد لا تجتمع كلمة المتنافسين على الرئاسة، ولا تتفق على اختيار رئيس، فلا يكون أمام القبيلة في مثل هذه الحالة سوى اللجوء إلى الملوك في الغالب لتعيين رئيس عليهم يختارونه من جماعتهم وينصبونه سيدا عليهم. وقد كان هذا شأن قبائل "معد" في الغالب، إذ كانت قبائلها متبدية متنافرة، ذات رؤساء متحاسدين، لا يقرون برئاسة واحد منهم، لذلك كانوا يلجأون إلى ملوك اليمن لتعين رئيس من غيرهم عليهم، وبذلك يحل الخلاف.
ونجد في شعر "عامر بن الطفيل"، وهو أحد مشاهير فرسان العرب، تغنيا بفعاله وبشجاعته وبدفاعه عن قومه، وتبجحا بسيادته على قومه: واعتزازا بأن سيادته هذه لم تأت إليه عن وراثة، و إنما جاءته بفعاله وبدفاعه عن قومه وذبه عن حماهم، فسودوه لهذه الخلال عليهم، ولم يسودوه لأنه "ابن سيد عامر"، وفي هذا الشعر دلالة على إن الرئاسة كانت بالوراثة، وان والد "عامر" كان سيدا، فأراد "عامر" إن يتبجح بنفسه على غيره، بأنه ليس من أولئك الرؤساء الذين يرثوا السيادة إرثا، فلا دخل لهم بمجيئها إليهم، و إنما أخذها عن جدارة واستحقاق، ولو لم يكن أبوه سدا، لجاءته السيادة تركض إليه، لما فيه من محامد ومكارم. فسيادته سياحة وراثة لأنه ورثها عن أبيه، وسيادة جدارة شجاعته لما فيه من خصال السادة الأشراف.
خصال السادة
يذكر أهل الأخبار إن أهل الجاهلية كانوا لا يسودون إلا من تكاملت فيه ست خصال: السخاء والنجدة والصبر والحلم والتواضع والبيان وقالوا: قيل:

(1/2195)


--------------------------------------------------------------------------------

لقيس بن عاصم بم سدت قومك ? قال ببذل الندى وكف الأذى ونصرة المولى، وتعجيل القرى. وقد يسود الرجل بالعقل والعفة والأدب والعلم. ووصف بعضهم السؤدد: بأنه اصطناع العشيرة و احتمال الجريرة. وقد سئل أحد السادات بأي شيء سدت قومك ? فقال: "إني - والله - لأعفو عن سفيههم، وأحلم عن جاهلهم، وأسعى في حوائجهم وأعطي سائلهم، فمن فعل فعلي فهو مثلي، ومن فعل احسن من فعلي فهو أفضل مني، ومن قصر عن فعلي فأنا خير منه".
وذكر أهل الأخبار أيضا، إن العرب كانت تسود على أشياء. فكانت مضر تسود ذا رأيها. وأما ربيعة فمن أطعم الطعام، وأما اليمن فعلى النسب.
والرئيس الناجح، هو الرئيس الذكي الفطن الذي تكون له قدرة وقابلية على التصرف بذكاء ومحذر وفقا لعقلية القبائل. فيجرف كيف يعامل كل شخص يأتي إليه المعاملة التي تلائمه وتليق به، بحلم وصبر وأناة. و بقساوة وغلظة أحيانا من أجل إخافة أتباعه، لخوف القبائل من البطاش الظالم على إلا يسرف في ظلمه ويمعن في غيه، فيقع له ما وقع لكليب وائل ولأمثاله من الذين أسرفوا في الاعتماد على أنفسهم وعلى قابليتهم، فأهلكوا أنفسهم. ولهذا كان من شأن عقلاء سادات القبائل عرض المنازعات والخصومات القبلية للحكم فيها وبذلك يخلصون أنفسهم من مشكلات صعبة كانت ستقع تبعتها على أكتافهم فيما إذا انفردوا بالنظر.بها دون سائر الرؤساء.

(1/2196)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن أعراف الحكم عند القبائل، إن سيد القبيلة يستمد رأيه من رأي أشراف قبيلته ووجوهها في الأمور الهامة التي تخص حياة القبيلة. ليستنير برايهم، وليعرف رأي أتباعه في معالجتها. وتساعد هذه المشورة سادات القبائل مساعدة كبيرة في التمكن من إدارة القبيلة إدارة حسنة ترضي الغالبية. وقد توصل الرئيس إلى النجاح والنصر في الغزو. فيرتفع اسمه ويعلو نجمه. ولا زال سادات القبائل يستمعون إلى مشورة رؤساء القبيلة، ويقيمون لرأيهم وزنا إلى يومنا هذا. ورأيهم هذا هو مجرد مشورة ونصيه. بمعنى انه لا يلزم سيد القبيلة بوجوب العمل بموجبه. فقد ينبذه ويعمل برأيه و بقراره، لا سيما إذا كان قوي الشخصية متجبرا عنيدا.
وقد يكون النجاح حليفه، فتزداد بذلك هيبته على أتباعه، وقد يمنى بخسارة فادحة، فتقضي عليه وعلى رئاسته وربما تقضي على حياته أيضا. و النظام القبلي يعد، هو نظام استشاري، الرأي فيه لأصحاب الرأي فقط، أما الأفراد أي أبناء القبيلة وسوادها، فلا رأي لهم في تسيير الأمور، إلا إذا برز أحدهم وظهر في قبيلته بمواهب يعترف بها، كالحكمة أو الشرف، فقد يدخل في عداد أولي الرأي، ويكون له عندئذ عندهم رأي مسموع.
وعلى الرغم من استبداد بعض السادة برأيهم، و حكمهم بما يوحي إليه به حسهم وشعورهم، وتصرفهم في الأمور تصرفا كيفيا، فانهم كانوا يقيمون مع كل ذلك وزنا للرأي، وقد يكون هذا الرأي رأي رحل مغمور من عامة أبناء القبيلة، أو رأي شاعر أو خطيب أو أي شخص آخر من أبناء القبيلة. فالحكم عند القبائل بهذا، حكم فردي استشاري يتوقف الرأي فيه على شخصية وكفاءة، رئيس القبيلة، وعلى شخصية وكفاءة رؤساء البطون والأحياء.

(1/2197)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد أدت غطرسة وعنجهية بعض سادات القبائل بهم إلى الموت فقد لجأوا إلى القسوة والقهر في الحكم واستبدوا برأيهم استبدادا فرق بينهم وبين رؤساء قبيلتهم، مما دفع بعض فرسان القبيلة و شجعانها على قتلهم للتخلص منهم كالذي كان من أمر "كليب وائل"، الذي تعسف في حكمه وتجبر فاختار خيرة الأرضين الخصبة، فجعلها حمى له لا يحق لأحد الرعي بها، إلا بأذن منه. فأزعج عمله هذا من خضع لحكمه، فكانت عاقبته القتل.
والحلم عند العرب من أهم الصفات التي تؤهل الإنسان لحكم الناس. وهو، عندهم الأناة والعقل، وقيل ضبط النفس و الطبع عن هيجان الغضب. ومعالجة الأمور بهدوء وضبط أعصاب. وهو أحزم سياسة تلائم طبع الحكم. وقد عدوه من خلال الحكماء.
وممن عرف واشتهر أكثر من غيره بالحلم: "الأحنف بن قيس". حتى ضربت العرب به المثل. فقالت: هو أحلم من الأحنف. وقد نسب أهل الأخبار
له حكما كثيرة وأمثالا، هي من الأمثال التي ينسبونها في العادة إلى الحكماء. وذكروا من أمثلة حلمه انه كان قاعدا يوما بفناء داره. محتبيا بحمائل سيفه يحدث قومه، حتى أتي بمكتوف ورجل مقتول، فقيل له: هذا ابن أخيك قتل أبنك، فما قطع كلامه حتى انتهى، ثم كلم ابن أخيه وأنبه و عفى عنه، ثم قال لأبن آخر له: وار أخاك وحل كتاف ابن عمك وسق إلى أمك مائة ناقة دية ابنها فإنها غريبة. إلى قصص آخر من هذا القبيل.
النسب
النسب هو جرثومة العصبية وأساسها ولهذا حرص العربي على حفظ نسبه، ولا يزال يحرص عليه، فيروي لك شجرة نسبه حفظا ويرفعها إلى جملة أجداد.
وقد وجد السياح أعرابا سرحوا لهم نسبهم سردا من غير كتاب مكتوب إلى عشرات من الأجداد، وقد تأكدوا بعد فحوص واختبارات إن ما قيل لهم وسرد عليهم كان صحيحا في الغالب.

(1/2198)

admin
12-31-2010, 07:39 PM
و أما أهل المدر، فإن حرصهم على حفظ نسبهم، وإن لم يكن حرص أهل الوبر، غير إن فيهم من يحفظ شجرة نسبه، و فيهم من يحتفظ بها مكتوبة، وقت شهد على صحتها جماعة من النسابين. وفي جملة من يعتني بنسبه اعتناء كبيرا، ويأبى الزواج من غير الأسر الكفوءة له، السادة المنتمون إلى الرسول، من ذوي الجاه و الحسب والنسب، والأشراف السادات من أهل الحضر والوبر.
وحفظ النسب هذا هو استمرار لما كان عليه الجاهليون من حرص على حفظ أنسابهم. و إذا كنا لا نملك اليوم جرائد جاهلية في النسب، فإن في بعض الكتابات الجاهلية تأييدا لما نقول. فبين أيدينا في هذا اليوم كتابات جاهلية ذكرت أسماء جملة أجداد لأشخاص دونوا أسمائهم في تلك الكتابات. وقد دون على شاهد قبر "معنو" "معن"، اسم أبيه وجدين من أجداده، كما عثر على أسماء عشرة أجداد في بعض الكتابات الصفوية. وهنالك أمثلة أخرى من هذا القبيل، تثبت عناية العرب في الجاهلية بتدوين أنسابهم وحفظها. وهي من أهم المزايا التي حافظ عليها العرب إلى هذا اليوم.
ويبدأ النسب بالأب في الغالب، وب "الأم" في الأقل في حالات تتغلب فيها شهرة الأم على شهرة الأب، ويكون "البيت" إذن جرثومة النسب. وحين ينسب إنسان يقول انه: "ابن فلان". ويشمل نسب البيت الأب و الأولاد و البنات والزوجة أو الزوجات، وهم أكثر الناس التصاقا بالأب. وقد يقال انه من "بيت فلان" تعبيرا عن الانتساب إلى رئيس ذلك البيت. وقد عرف بعض علماء اللغة النسب: انه القرابة، أو هو في الآباء خاصة، وان النسب إن تذكر الرجل فتقول: هو فلان ابن فلان، وذكر انه يكون من قبل الأم والأب.
والبيت هو بيت أب. ولما كان المجتمع مجتمع بيوت، صار النظام فيه نظاما أبويا. السلطة العليا فيه للاب، إليه ينتسب وهو المسؤول قانونا عن العائلة. يتساوى في ذلك مجتمع الحضر ومجتمع أهل الوبر.

(1/2199)


--------------------------------------------------------------------------------

ويذكر أهل الأخبار إن العرب تنسب ولد المرأة إلى زوجها الذي يخلف عليها بعد أبيهم. وذلك عنى حسان بن ثابت بقوله: ضربوا عليا يوم بدر ضربة دانت لوقعتها جميع نزار.
أراد بني كل هؤلاء من كنانة. وهم بنو عبد مناة. و إنما قيل لهم بنو علي عزوة إلى علي بن مسعود الأزدي. وهو أخو عبد مناة لأمه، فخلف على أم ولد عبد مناة. وهم: بكر وعامر ومرة و أمهم: هند بنت بكر بن وائل النزارية فرباهم في حجره فنسبوا إليه.
و إذا توفي والد وله مولود في بطن زوجته، أو كان طفلا رضيعا وكان له أعمام، تركه أعمامه عند أمه حتى يكبر، ثم يأخذه أعمامه. وقد تأتي أمه معه. و لكن العادة إن الأم تبع أهلها أي عشيرتها، فإذا توفي زوجها و هي من عشيرة أخرى، تركت عشيرته لتعود إلى عشيرتها، فإذا كبر المولود خير بين البقاء مع أمه أو الالتحاق بأعمامه، أي بعشيرة والده. والأغلب إن يختار الولد عشيرة الوالد، لأن نسب الولد من نسب والده. فيلتحق المولود بعشيرة الأب. وتقدم عشيرته على عشيرة الأم. إذ يشعر إن عشيرة أمه وان كانت قريبة منه، إلا إن قربه منها ليس كقربه من عشيرة والده، وقد يعير باختياره عشرة أمه عشيرة له. ولدينا أمثلة تشير إلى تعيير الأولاد أولادا آخرين، لالتحافهم بعشيرة أمهم وتركهم عشيرة والدهم، كالذي كان، من أمر عبد المطل في يوم كان طفلا، إذ عيره أطفال عشيرة أمه بلجوئه إلى عشيرتهم، إذ لا عشيرة له. ولو كانت له عشيرة للحق بها. مما حمله على ترك يثرب والرجوع إلى أعمامه بمكة. فالعم في نظرهم بمنزلة الوالد. وهو اقرب الناس إليه، وهو وريثه في العصبات.. وبهذه الحجة احتج العباسيون على العلويين في تقدمهم عليهم بحق الخلافة.
ومن هنا في العرب يوصون بأولاد العم خيرا، و إلا يتهاتروا معهم ولا يختلفوا مهما وقع بينهم من خلاف. وفي هذا المعنى يقول أبو الطمحان: إذا كان في صدر ابن عمك إحنة فلا تستثرها سوف يبدو دفينها

(1/2200)


--------------------------------------------------------------------------------

وللخؤولة مكانة كبيرة في العصبة عند العرب. قد تقوى على العمومة، فإذا هلك إنسان، وكان إخوته على خلاف مع زوجته أو كان حالهم ضعيفا، قامت الخؤولة مقام العمومة في رعاية الأولاد وحمايتهم ومدهم بالعصبية. بل قد نجد إن عصبية الخؤولة أقوى عند العرب في الغالب من عصبية العمومة وفي تأريخ الجاهلية. والإسلام أمثلة كثيرة على ذلك.
ومن حسن حظ الإنسان في الجاهلية إن يكون له أعمام وأخوال كثيرون، خاصة إذا كانوا أصحاب جاه وسيادة. لأنه سيعتز بهم، ويفتخر بكثرتهم. وكان الجاهليون يقولون: رجل معم ورجل مخول وأخول، إذا كان له أعمام وأخوال. ويقال: كريم الأعمام والأخوال، على سبيل المدح والتقدير ومنه قول امرئ القيس: بجيد معم في العشرة مخول. وقول الشاعر: تروح بالعشي بكل خرق كريم الأعممين وكل خال
والنسب، نسب أهل، ويقوم على الدم القريب، ونسب قبيلة، و يقوم على العصبية للدم الأبعد. دم جد القبيلة يجري في عروق المنتسبين إليه.
والعرب من حيث النسب صرحاء. وحلفاء و جيران وموالي وشركاء يستلحقون بالنسب. أما الصريح، فهو المحض من كل شيء، والخالص النسب. ويقال جاء بنو فلان صريحة إذا لم يخالطهم غيرهم.
والنسب إذن، نسب آباء، و هو نسب الصرحاء الخلص من العرب المنحدرين من صلب جد القبيلة، على حد تعبير أهل الأنساب، ونسب حلف أو جوار، أي نسب استلحاق. والغالب إن يتحول نسب الاستلحاق إلى نسب صريح، حين تطول إقامة الدخيل بين من دخل بينهم: فينسى أصله، ويأخذ أحفاده نسب من دخل جدهم فيهم. ويشمل ذلك نسب القبائل أيضا. وفي في كتب أهل الأخبار أمثلة كثيرة من أمثلة تحول الأنساب، حيث نجدها تنص على دخول نسب فلان في نسب بني فلان، ونسب قبيلة في نسب قبيلة أخرى.

(1/2201)


--------------------------------------------------------------------------------

ويقال للقوم الذين ينسبون إلى من ليسوا منهم "الدخل". والدخيل هو الرجل الغريب الذي ينتسب إلى قوم ليس هو بواحد منهم. وذكر أيضا إن "الدخل" بمعنى الخاصة، وأيضا الحشوة الذين يدخلون في قوم وليسوا منهم، أي في المعنى المتقدم.
وفي كتب أهل الأخبار أمثلة عديدة على تنقل الأنساب واثبات نسب قوم في قوم ليسوا منهم لغاية ومأرب. وقع ذلك في الجاهلية وفي الإسلام. قال "الكندي": "كان أبو رجب الخولاني وفلان وفلان يتحرشون أهل الحرس ويؤذونهم، فمشى أهل الحرس إلى زكريا بن يحيى كاتب العمري، فقالوا له حتى متى نؤذى ويطعن في أنسابنا. فأشار. عليهم زكريا بجمع مال يدفعونه إلى العمري ليسجل لهم سجلا بإثبات أنسابهم، فجمعوا له ستة آلاف دينار، فلما صار المال إلى العمري لم يجسر على إن يسجل لهم، وقال: ارفعوا إلى الرشيد في ذلك، فخرج وفد منهم إلى العراق وانفق مالا عظيما هناك، وادعى الوفد إن المفضل بن فضالة قد كان حكم لهم بإثبات أنسابهم وانهم بنو خوتكة بن الحاف ابن قضاعة، ثم عاد الوفد بكتاب محمد الأمين إلى العمري بالتسجيل لهم، فدعاهم العمري إلى إقامة البينة عنده على أنسابهم فأتوا بأهل الجوف الشرفي و آهل الشرقية. وقدم جماعة من بادية الشام، فشهدوا. انهم عرب فسجل لهم العمري. ثم تجدد نظر القضية فيما بعد وفسخ حكم القاضي العمري. ورد أهل الحرس إلى أصلهم القبطي".
وأشار أهل الأخبار إلى قبائل كانت تتنقل من قوم إلى قوم، فتنتمي إليهم، قالوا لها: "النواقل". والنواقل من انتقل من قبيلة إلى قبيلة أخرى فانتمى إليها. والتنقل دليل على إن النسب لم يكن من الصرامة والشدة على نحو ما يصوره لنا النسابون المتأخرون.

(1/2202)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي الذي يذكره علماء النسب عن أنساب القبائل، أمور لا يمكن لنا قبولها، لا سيما ما يتعلق منها بالتعصب القبلي وبسرد الأنساب وتشجيرها وفي تفرعها. وأنساب القبائل موضوع لم يبحث بعد بحثا علميا، وهو يحتاج إلى تفرغ وتتبع والى مقارنة ما جاء عند العرب فيه بما جاء عند غيرهم من الساميين وغيرهم عنه. فقد لعبت الأنساب دورا خطيرا عند البشرية، لأنها كانت الحماية والوقاية للإنسان، قبل إن تتولد الحكومات الكبيرة التي رعت الأمن وبسطت سلطانها، وبذلك خففت من غلواء النسب و الانتساب.
الاستلحاق
والاستلحاق، هو إن يستلحق انسان شخصا فيلحقه بنسبه، و يجعله في حمايته ورعايته، أي في عصبيته. وقد يكون الرجل صريحا معروف النسب، وقد يكون أسيرا أو مولى أو عبدا، فيسميه مولاه وينسبه إليه.
ومن هذا القبيل ما كان يفعله أهل الجاهلية من استلحاق أبناء الإماء البغايا بهم. وذلك انه كان لأهل الجاهلية إماء بغايا. وكان سادتهن يلمون بهن، فإذا جاءت إحداهن بولد ربما ادعاه السيد والزاني، فيقع خلاف بينهما على الولد. و قد وقع مثل هذا الخلاف في أيام الرسول، في أول زمان الشريعة، فقضى الرسول بإلحاقه بالسيد، لأن الأمة فراش كالحرة، فان مات السيد ولم يستلحقه ثم استلحقه ورثته بعده لحق بابيه. وفي ورثته خلاف.
الدعي
ويقال للمستلحق "الدعي". والدعي المنسوب إلى غير أبيه. و "الدعوة" في النسب إن ينتسب الإنسان إلى غير أبيه وعشرته وقد كانوا يفعلونه فنهي عنه وجعل الولد للفراش. ومن هذا القبيل المتبنى. الذي تبناه رجل فدعاه أبنه. ونسبه إلى غيره، وكان للنبي، تبنى "زيد بن حارثة"، ثم ألحقه بنسبه، بعد إن نزل الوحي عليه )ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله، فإن لم تعلموا آباءهم. فإخوانكم في الدين ومواليكم(.. وقال: )ما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلك قولكم بأفواهكم(.

(1/2203)


--------------------------------------------------------------------------------

ويكون حكم الدعي من الناحية القانونية في حكم النسب الصحيح و البنوة الشرعية عند الجاهليين، لذلك كان الجاهليون يورثونه كما يورثون الأبناء.
ويقال للدعي ينتمي إلى قوم: منوط مذبذب، سمي مذبذبا لأنه لا يدري إلى من ينتمي. وقد يكون الرجل دعي أدعياء، فيكون هو دعيا في رهطه، ورهطه دعي في قبيلة مثل "ابن هرمة"، فقد كان دعيا في الخلج وكان الخلج دعيا في قريش. ويقال للدعي "ملصقا"، والملصق، هو المقيم في الحي وليس منهم بنسب.
وقد ورد في حديث "علي بن الحسين": المستلاط لا يرث، و يدعى له ويدعى به، المستلاط المستلحق في النسب، ويدعى له، أي ينسب إليه، فيقال: فلان بن فلان، ويدعى به أي يكنى، فيقال: هو أبو فلان، وهو مع ذلك لا يرث لأنه ليس بولد حقيقي. ومن ذلك قولهم: "لاط القاضي فلانا بفلان ألحقه به"، وورد إن أناسا في الجاهلية. كانوا يليطون الأولاد بآبائهم، أي يلحقونهم. والظاهر إن استلحاق الأبناء بالآباء، كان معروفا بين الجاهليين بسبب الاتصال بالإماء وببعض الأعراف الأخرى التي حرمت في الإسلام.
ويقال للدعي: المخضرم وقيل هو من لا يعرف أبوه أو أبواه ورجل مخضرم أسود وأبوه أبيض، أو هو من ولدته السراري. وذلك ذم في الإنسان.
ويقال رجل "خلط ملط"، بمعنى: مختلط النسب. وذكر إن الملط الذي لا يعرف له نسب ولا أب. وأما خلط، فإما بمعنى المختلط النسب، وإما بمعنى ولد الزنا. والخليط المشارك في حقوق الملك كالشرب والطريق و نحو ذلك. ومنه الحديث: الشريك أولى من الخليط، والخليط أولى من الجار. والشريك المشارك في الشيوع. و الخليط القوم الذين أمرهم واحد.
و "الأهل" أهل إلا الرجال وأهل الدار، وأهل الرجل أخص الناس به. وأهل الدار أهل البيت. و "آل الرجل" أهله. ويقال في النسب: هو من آل فلان.

(1/2204)


--------------------------------------------------------------------------------

وينتهي النسب بجد القبيلة الأكبر. فلكل قبيلة جد اكبر ينتمي إليه، وتتسمى به، وله ابن ينتسب إليه أو أبناء ينتسبون إليهم، ويكون هذا الجد محور "النسب" و "العصبية" للقبيلة. ونجد هذا النوع من النسب معروفا عند غير العرب أيضا.. عند العبرانيين و الآراميين وعند الإغريق والرومان مثلا.
الجوار
وللجوار صلة كبيرة ب "النسب" وبالعصبية عند للعرب، فقد يتوثق الجوار، وتتقوى أواصره فيصير نسبا، فيدخل عندئذ نسب "المستجير" بنسب "المجير"، ويصير وكأنه نسب واحد، هو نسب "المجير". وقد اندمجت ب "الجوار" أنساب كثيرة من القبائل الصغيرة، أو القبائل التي تشعر بخوف من قبيلة أخرى أكبر منها، فتضطر إلى طلب "جوار" قبيلة أكبر منها، نتدافع عنها، ولتكون بذلك قوة رادعة تحمي حياتها و تحافظ على نفسها ومالها بهذا الجوار.
وهو من السنن التي حافظ عليها الجاهليون، و إعتدوها كالقوانين. فإذا استجار شخص بآخر، أو استجارت قبيلة بأخرى، اكتسب هذا الجواز صيغة قانونية، ووجب على المجير المحافظة على حق الجوار. و إلا نزلت السبة بالمجير، وازدراه الناس.
ويكتسب الجوار حكمه بإعلان الطرفين قبولهم له على الملأ، في أماكن الاجتماع في الغالب، في مثل المواسم من حج أو سوق. فإذا أعلن ذلك، و علم الناس الخبر، صار المجار في ذمة المجر، وترتب على المجير إن يكون مسؤولا عن كل ما يقع على المجير وما يصدر منه.
وقد ورد في القرآن الكريم، )والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل(. والجار ذو القربى هو نسيبك النازل معك في الحواء، ويكون نازلا في بلدة وأنت في أخرى، فله حرمة جوار القرابة. والجار الجنب إن لا ينهون له مناسب في جيء إليه ويسأله إن يجيره، أي يمنعه فينزل معه، فهذا الجار الجنب له حرمة نزوله في جواره ومنعته وركونه إلى أمانه وعهده. لأنه جاوره وان كان نسبه في قوم آخرين ولا قرابة له به.

(1/2205)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان سيد العشيرة إذا أجار عليها إنسانا لم يخفروه. و إذا دخل قبته أو خباءه أو دار حول خيمته، ونادى بالجوار والأمان صار آمنا وقد وجب على صاحب القبة أو الخباء أو الخيمة حمايته، حتى وان كان من سائر أبناء القبيلة.
والجار والمجير والمعيذ واحد. ومن عاذ بشخض استجار به. ومن هذا القبيل استجارة أهل الجاهلية بالجن. "قبل: إن أهل الجاهلية كانوا إذا نزلت رفقة منهم في واد، قالت: نعوذ بعزيز هذا الوادي من مرد الجن وسفهائهم. أي نلوذ به ونستجير".
وللجوار حرمة كبيرة عند الجاهليين. فإذا استجار شخص بشخص آخر، وقبل ذلك الشخص إن بجعله جارا ومستجيرا به، وجبت عليه حمايته، وحق
على المجار الدفاع عن مجيره: و الذب عنه. وإلا عد ناقضا، للعهد، ناكثا للوعد، مخالفا لحق الجوار. وعلى القبائل استجارة من يستجير بها، و الدفاع عنه دفاعها عن أبنائها. ويقال للذي يستجير بك "جار". والجار. الذي أجرته من إن يظلمه ظالم. و جارك المستجير بك، والمجير هو الذي يمنعك ويجيرك. و أجاره: أنقذه من شيء يقع عليه.
وقد أوصوا بالجار خيرا، ورجوا من الجار إن يكون كذلك قدوة حسنة في جواره، فلا يسيء إلى جاره أو إلى جيرانه، و على الجار إن يغض نظره من عيوب جاره، وأن يكون يقظا في حفظ حقوق جاره، فطنا في الدفاع عنه. ليس له أن يتملص من حقوق الجوار إذا استحقت ووجبت، لأن للجار حقا عليك.

(1/2206)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان يقال في الجاهلية للرجل إذا استجار بيثرب: قوقل في هذا الجبل ثم قد أمنت. فإذا فعل أحد ذلك، وجب على أهل يثرب قبول جواره والدفاع عنه. وذكر إن "قوقل" رجل من الخزرج، اسمه "غنم بن عوف بن عمرو ابن عوف بن الخزرج"، سمي به "لأنه كان إذا أتاه إنسان يستجير به أو بيثرب قال له: قوقل في هذا الجبل، وقد أمنت. أي ارتق". وقيل: "لأنهم كانوا إذا أجاروا أحدا أعطوه سهما. وقالوا: قوقل به حيث شئت. أي سر به حيث شئت". وذكروا. أيضا أن "القوقل" اسم أبي بطن من الأنصار، اسمه ثعلبة بن دعد بن فهر بن ثعلبة بن غنم بن عوف بن الخزرج. وقالوا: هو النعمان بن مالك بن ثعلبة.
والغاية من الجوار طلب الحماية والمحافظة على النفس والأهل والمال، لذلك لا يطلبه في العادة إلا المحتاج إليه. ولا يشتط في الجوار نزول الجار قرب المجير، أو في جواره أي أن يكون بيته ملتصقا ببيته. فقد يكون على البعد كذلك. لأن الجوار حماية ورعاية، وتكون الحماية. حيث تصل سلطة المجير، وتراعى فيه حرمته و ذمته. ويكون في إمكانه الدفاع عن جاره. ولهذا كان على الجار أن يعرف حدود "الجوار"، وقد يعلقانه بأجل احترازا وتحفظا من الجوار المطلق، الذي لا يعلق بزمن و إنما يكون عاما.
ولا يجير أحد إنسانا إلا إذا أحس إن في إمكانه أداء أمانة الجوار. و إلا عرض نفسه وأهله وقبيلته للأذى والسبة، إن قبل شخص جوار أحد، وهو في وضع، لا يمكنه من الوفاء بحقوق الجوار. ولا يطلب رجل مجاورة رجل آخر إلا إذا شعر أن من سيستجير به هو كفؤ لأن يجيره. و إلا فما الفائدة من الاستجارة برجل ضعيف قد يكون هو نفسه في حاجة إذ الاستجارة بأحد.

(1/2207)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا يشترط في الجوار أن يكون جوار أحياء. فقد يستجير إنسان بقبر، فيصير في جواره وفي حرمة ذلك القبر. وعلى أصحاب ذلك القبر الذب عن هذا الجار والدفاع عنه. ومن هذا القبيل استجارة الناس بقبر "عامر بن الطفيل". فقد ذكر أن قومه من "بني عامر"، وضعوا حول قبره أنصابا على مسافة منه، إذا اجتازها اللاجئ ودخل "الحرم" المحيط بالقبر، صار آمنا على ماله ونفسه، لا يخشى خشية. أحد، يريد إنزال سوء به. وقد منعوا دخول حيوان إليه أو مرور راكب به، احتراما لحرمة صاحب هذا القبر. وكالذي كان من أمر قبر "تميم بن مر"" جد قبيلة تميم في عرف النسابين.
وقد يستجير الإنسان بمعبد أو بأي موضع مقدس، فيكون في جوار وحرمة ذلك المكان. وعلى أصحابه أداء حقوق الجوار. ومن هذا القبيل جوار مكة. فمن دخل حرم "البيت" صار في جواره، آمنا مطمئا لا يجوز الاعتداء عليه و لا إخافته، لأنه في حرمة "البيت" وعلى قريش الذب عنة.
وقد كان لآل "محلم بن ذهل" قبة بوادي "عوف" عرفت ب "قبة المعاذة"، من لجأ إليها أعاذوه. و "آل عوف" من اشرافهم في الجاهلية ومن رجالهم "عوف" التي يضرب به المثل: لا حر بوادي عوف. والعوذ الالتجاء. وهذا. عرفت بتلك التسمية. وهو "عوف بن محلم بن ذهل بن شيبان". وقد ضرب به المثل في الوفاء. فورد: "هو أوفى من عوف". وذلك لأن عمرو ابن هند طلب منه مروان القرظ. وكان قد أجاره فمنعه عوف وأبى إن يسلمه، فقال عمرو: لا حر بوادي عوف. أي أنه يقهر من حل بواديه وكل من فيه كال**** له لطاعتهم إياه. وهو من أمثال العرب في الرجل العزيز المنيع الذي يعز به الذليل ويذل به العزيز. و قيل إن كل من صار في ناحيته خضع له. أو قيل ذلك لأنه كان يقتل الأسارى. ولما توفي "عوف" دفن بواديه، و أقاموا قبة على قبره صارت ملاذا لمن يطلب الجوار.

(1/2208)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن طرق الجوار، أن يأتي رجل إلى رجل ليستجير به فلا يجده، فيعقد طرف ثوبه إلى طنب البيت، فإذا فعل ذلك عد جارا، ووجب على صاحب البيت أن يجيره.
والجوار جواران: جوار جماعة كجوار بيت أو فخذ أو بطن أو ظهر أو عشيرة أو قبيلة، وجوار أفراد. و للجوارين حرمة وقدسية ليس أحدهما دون الآخر في الحرمة والوفاء.
و إذا نزل انسان على انسان آخر جارا، فان من المتعارف عليه أن تكون حرمة جواره ثلاثة أيام،: "وكانت خفرة الجار ثلاثا" فإذا انتهت، انتهت مدة الجوار. وعلى الجار الارتحال، إلا إذا جدد "المجير" جواره له، وطلب منه البقاء في جواره. فيكون عندئذ لهذا الجوار حكم آخر، إذ يبقى الجوار قائما ما دام عقده باقيا. وقد استفاد من حق الجوار الغرباء والمسافرون، والمحتاجون وأمثالهم. فقد أمنوا على راحتهم و رزقهم وهم في محيط صعب، كما أمنوا على حياتهم، حتى أن المجير ليغفر لجاره ما قد يبدر منه من سوء بسبب حكم الجوار. قال مجير لجاره: "لولا أنك جار لقتلناك". ويشمل هذا الجوار المسافر والضيف.
ومن عاداتهم في الجوار، أن أحدهم إذا خاف، فورد على من يريد الاستجارة به، نكس رمحه، فإذا عرفه المجير، رفع رمحه. فيصير في جواره. فلما هرب "الحارث بن ظالم المري" من ملك الحرة، وأخذ يتنقل بين القبائل حتى وصل عكاظ وبها "عبد الله بن جدعان"، نكس رمحه أمام مضرب "ابن جدعان"، ثم رفعه حين عرفوه، وأمن وأقام بمكة، حتى أتاه أمان ملك الحيرة.
وقد يحدد الجوار بحدوده. كأن يذكر من يطلب الاستجارة لمن يريد إن يستجير به، إن استجارته به من قبيلة كذا أو من القبائل الفلانية أو من الشخص الفلاني. فإذا قبل المجير ذلك حسد جواره بما حسد في عقد الجوار. فإذا اعتدت على المستجير قبيلة أخرى لم تذكر في نص الجوار، فلا ذمة للمستجير على المجير، و ليس من حقه طلب مساعدته له. كما قد يحدد الجوار بزمن، كاقامة شخص في مكان، أو ايصاله من موضع إلى موضع، أو تعيين أمد له.

(1/2209)


--------------------------------------------------------------------------------

و الخفارة الخفرة: الأمان، والخفير:المجير، والخفارة: الذمة. ويقال: خفرت الرجل: أجرته وحفظته، و تخفرت به إذا استجرت به. و أخفرت الرجل إذا نقضت عهده وذمامه. بان يعلن ذلك ليقف عليه الناس، والا بقيت التبعة في عنق الخفير.
وعلى من أعطى خفارته لأحد، الوفاء بما أعطى، والوفاء بما ألزم نفسه به عليه، و إلا عد ناكثا للعهد حقيرا.
المؤاخاة
لا وتكون المؤاخاة بين الأفراد كما تكون بين الجماعات، كالعشائر والقبائل. وهي تدعو إلى العناصر والمؤازرة والمساعدة. وتؤدي إلى الموارثة. وخير مثل على المؤاخاة، ما فعله الرسول يوم مقدمه المدينة من مؤاخاته بين الأنصار والمهاجرين لتوحيد الكلمة وليساعد بعضهم بعضا.
ولا يشترط في المؤاخاة أن تكون بين أعراب وأعراب، أو بين حضر وحضر، إذ يجوز أن تعقد أيضا بين العرب والأعراب، أي بين الحضر والبدو. لأن المؤاخاة عقد، والعقد يقع بين كل الناس، كما قد تقع بين عربي وأعجمي، فقد آخى الرسول بين سلمان الفارس وأبي الدرداء.
الموالي
والمولى: الولي والعصبة والحليف وابن العم وللعم والأخ و الابن و ابن الأخت و العصبات كلهم والجار والشريك. فللفظة إذن معان عديدة، أهمها. بالنسبة لنا، إن المولى: العبد، أي المملوك الذي يمن عليه صاحبه، بان يفك رقبته، فيعتقه، ويصير المملوك بذلك مولى لعاتقه. وسوف نرى إن الموالي أنواع. وهم الذين نبحث عنهم في هذا المكان.
و "الموالي: العصبة. هم كانوا في الجاهلية الموالي، فلما دخلت العجم على العرب لم يجدوا لهم اسما، فقال الله تبارك وتعالى: )فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم(. فسموا الموالي.. والمولى اليوم موليان: مولى يرث ويورث، فهؤلاء ذوو الأرحام، ومولى يورث ولا يرث. فهؤلاء العتاقة".
والعرب تسمي ابن العم المولى، ومنه قول الشاعر: ومولى رمينا حوله وهو مدغل بأعراضنا والمنسبات سروع

(1/2210)

admin
12-31-2010, 07:41 PM
يعني بذلك و ابن عم رمينا حوله. ومنه قول الفضل بن العباس: مهلا بني عمنا، مهلا موالينا لا تظهرن لنا ما كان مدفونا
والموالي أنواع، موالي عتق وموالي عتاقة، وهو الرقيق أو الأسر الذي تفك. رقبته بعتقه. كأن يشتري، رجل مملوكا فيشتريه فيعتقه. وفي جملة ما كان يفعله الجاهليون في مقابل فك رقبة المملوك اشتراطهم على المملوك عمل عمل يعين له، فإن قام به وأتمه، أعتقت رقبته. ويصير مولى لمعتقه إن شاء، وله الخيار في إن يختار غير. سيده مولى له، إن اشترط ذلك على سيده، أو اشترط سيده عليه ذلك الشرط. وقد يقع الاختبار على ذلك بعد وقوع العتق.
ومن الموالي: موالي مكاتبة "موالي المكاتبة" وذلك، بأن يشترط في عقد البيع، إن العبد يكاتب على نفسه بثمنه، فإذا سعى وأداه عتق. وذكر أيضا إن المكاتبة، إن يكاتب الرجل عبده على مال يؤديه إليه منجما، فإذا أداه صار حرا. والعبد مكاتب. وقيل: المكاتبة: إن يكاتب الرجل عبده أو أمته على مال ينجمه عليه، ويكتب عليه انه إذا أدى نجومه في كل نجم كذا وكذا، فهو حر، فإذا أدى جميع. ما كاتبه عليه، فقد عتق، وولاؤه لمولاه الذي كاتبه. وذلك إن مولاه سوغه كسبه الذي هو في الأصل لمولاه، فالسيد مكاتب، . والعبد مكاتب إذا عقد عليه ما فارقه عليه من أداة المال. سميت مكاتبة لما يكتب للعبد عليه على السيد من العتق إذا أدى ما فورق عليه، ولما يكتب للسيد على العبد من النجوم التي يؤديها في محلها، وان له تعجيزه إذا عجز عن أداء نجم يحل عليه.
والأصل في ولاء المكاتبة، إن من أعتق عبدا كان ولاؤه له، فينسب إليه. و إذا مات كان هو وارثه. وقد لا يتحول الولاء للولي، إذا اشترطوا أولا إلا يكون ولائه لمعتقه، بل لمن يؤدي ثمن المكاتبة مثلا. وقد يعتق المملوك ولا يكون لأحد ولاء عليه. وتكون العتاقة عندئذ "سائبة". و "السائبة": العبد يعتق على إن لا ولاء له، أي عليه. ويحق عندئذ إن يضع ماله حيث يشاء.

(1/2211)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن أسباب العتاقة: التدبير. وهو إن يعلق المالك عتق مملوكه على شرط، هو بعد وفاته. كأن يقول له: أنت حر بعد موتي. فلا يرثه أهله.
و أما مولى العقد، ويقال له مولى حلف ومولى اصطناع، فيكون بانتماء رجل إلى رجل آخر بعقد، أو قبيلة إلى قبيلة أخرى بحلف. و ذلك بأن يتعاقد ضعيف مع قوي على إن يساعده و يعاضده، ويقوم في مقابل ذلك بأداء ما اتفق عليه من شروط. وينسب المولى عندئذ إلى سيده، أي مولاه الذي قبل ولاءه. ومن هذا القبيل يهود يثرب، فقد كانوا في ولاية الأوس والخزرج، لجأ كل بطن منهم إلى بطن من الأوس أو الخزرج يتعززون بهم، وصاروا موالي لهم. إذا وقع جمليهم ضيم لجأوا إلى من انتموا إليه بالولاء للدفاع عنه. ولما ظهر الإسلام كان من دخل في ولاء "عبد الله بن أبي"، ومنهم من دخل في ولاء "سعد بن معاذ" ومنهم من كان في ولاء "عبادة بن الصامت". وكان عليهم في مقابل ذلك، العون والنصرة لمن دخلوا في ولائه أو ولائهم، والدفاع عنهم، وان يكونوا بمثابة العون لهم.
وكان من موالي الحلف، قوم من اليهود والنصارى والمجوس. ولما ظهر الإسلام، أبطل عن تولي أهل الكتاب. إذ جعلهم في ذمة المسلمين. ويدخل في هذا الولاء ولاء قبائل وعشائر صغيرة لقبائل أكبر منها. وذلك في سبيل الحصول على حمايتها لها ودفاعها عنا. فيتوجب عليها أداء ما شرط عليها من شروط عند طلبها الولاء، من العصبية والعقل وما شاكل ذلك من حقوق.
أما مولى الرحم، فيكتسب الولاء بالزواج من موالي بعض القبائل، فينسب إلى القبيلة التي تزوج من مواليها.
وذكر بعض أهل الأخبار إن الموالي ثلاثة: مولى اليمين المحالف، ومولى الدار المجاور، ومولى النسب ابن العم والقرابة. وقد ذكرت هذه الأنواع في هذا البيت: نبئت حيا على نعمان أفرادهم مولى اليمين ومولى الدار والنسب

(1/2212)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذكر "الجاحظ" "إن الموالي أقرب إلى العرب في كثير من المعاني? لأنهم عرب في المدعى، وفي العاقلة، وفي الوراثة. وهذا تأويل لقوله: مولى القوم منهم، ومولى القوم من أنفسهم. والولاء لحمة كلحمة النسب". وهذا عد الموالي في نسب من دخلوا في ولائه. وتعصبوا وتحزبوا لولاء المولى. والموالي مهما كانوا: عربا أم عجما، كانوا أقل شأنا في مجتمعهم من الأحرار. إذ نظر إليهم على انهم دون العرب الأحرار في المكانة. ولهذا فقلما زوج الأحرار بناتهم للموالي. حتى ضرب بهم المثل في القلة و الذلة ولا سيما إذا كان الإنسان مولى موالي. فقيل: "مولى الموالي"، قيل ذلك في الإسلام أيضا. ورد في الشعر: فلو كان عبد الله مولى هجوته ولكن عبد الله مولى مواليا

(1/2213)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد بقيت نطرة الازدراء المذكورة حتى في الإسلام. فمع مساواة الإسلام للعرب بغيرهم و إتيانه بمقياس جديد في تفضيل الخلق بعضهم على بعض هو مقياس العمل الصالح، المتجسم في قوله: "أيها الناس إن الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية، وفخرها بالآباء، كلكم لآدم، وآدم من تراب، ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى". أو قوله: "الناس في الإسلام سواء، الناس طف الصاع لآدم وحواء. لا فضل لعربي على عجمي، ولا عجمي على عربي إلا بتقوى الله"، "لا تأتوني بأنسابكم وأتوني بأعمالكم، فأقول للناس هكذا ولكم هكذا"، نجد إن العرب بقيت في الإسلام أيضا تأنف من تزويج بناتها إلى الموالي بسبب شرط "الكفاءة" الذي كان سنة من سنن أهل الجاهلية في الزواج: كفاءة النسب والمنزلة والحرفة. و إذا تزوج مولى بنتا عربية، عيرت القبيلة به. وقد هجا الشاعر "أبو بجير" "عبد القيس"، لتزويجهم بناتهم للموالي. و ذهب البعض إلى قاعدة: "الكفاءة في النسب والدين و الصنعة والحرية، ولا تزوج عربية بأعجمي و لا قرشية بغير قرشي، ولا هاشمية بغير هاشمي، ولا عفيفة بفاجر". وان "قريشا بعضهم أكفاء لبعض بطن ببطن، والعرب بعضهم أكفاء لبعض، قبيلة بقبيلة، والموالي بعضهم أكفاء لبعض رجل برجل".
أما كفاءة النسب، فيراد بها النسب العربي، أي إن الرجل لا يزوج بنتا عربية إلا إذا كان عربيا. و أما المنزلة، فيراعى فيها الكفاءة في المكانة، كأن يراعى في اختيار الزوجة أن تكون من عائلة ليست منزلتها دون منزلة الزوج، وإلا عير بزواجه، وأما الحرفة، فان يتزوج الرجل بنتا من بنات حرفته، فلا يتزوج الرجل ابنة صائغ مثلا وإلا عير ابنها به، كالذي كان من أمر "النعمان بن المنذر" ملك الحيرة، فقد عيره الناس بأمه لأنها ابنة صائغ، ثم لأنها يهودية. وكان هذا العرف صارما في اليمن، فحصروا الزواج بأصحاب الحرف على نحو ما سأتحدث عنه في باب الزواج.

(1/2214)


--------------------------------------------------------------------------------

ونظرا إلى ازدراء العرب لشأن الموالي، وما كان يجلبه الولاء من ازدراء العرب بعضهم بعضا لهذا السبب، بسبب ولاء العتق أو ولاء الموالاة، فقد أمر الخليفة "عمر" بإبطال الولاء بين العرب، وجوز بقاءه فيما بين العرب وغير العرب، فاقتصر الولاء على هذا النوع وحده في الإسلام.
الأحلاف
وكان للأحلاف شأن خطير في حياة الجاهليين. والحلف في اصطلاح علماء اللغة العهد بين القوم، والحلف والمحالفة: المعاهدة، وأصله اليمن الذي يأخذ بعضهم من بعض بها العهد، ثم عبر به عن كل يمين. والمحالفة إن يحلف كل للآخر. فمعنى الخلف في الأصل المعاقدة والمعاهدة على التعاضد و التساعد والاتفاق. وتحالفوا بمعنى تعاهدوا وعقدوا اتفاقا وعهدا، و تآخوا على العمل يدا واحدة، وقد حالف الرسول بين المهاجرين والأنصار، أي آخى بينهم.
وفي كلمة الحلف شيء من الدلالة على الشعائر والأيمان والمعاني الدينية، ولذلك قيل للحلف اليمين، لأن من عادتهم عند عقد الحلف بسط أيمانهم إذا حلفوا وتحالفوا وتعاقدوا وتبايعوا. وكانوا ينظرون إليها على إن لها قداسة خاصة وحرمة، والحانث بيمينه ينظر إليه بأشد أنواع التحقير والازدراء. ويعد الحنث باليمين من الموبقات ومن الكبائر التي لا يغتفر صدورها من شخص في شريعة الجاهليين. وقد أمر الإسلام بالوفاء بالعهد.
و "العهد" بمعنى الحلف أيضا وقيل: العهد كل ما عوهد عليه، وكل ما بين الناس من المواثيق. وهو أيضا الموثق واليمين. و لذلك ورد: "على عهد الله" و "أخذت عليه عهد الله"، و "ولي العهد"، لأنه ولي الميثاق الذي يؤخذ على من يابع الخليفة. وعلى من يعطي العهد الوفاء به: "وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم". "وما وجدنا لأكثرهم من عهد"، أي من وفاء. ووردت لفظة "عاهدتم" بمعنى التحالف والتعاقد في مواضع من كتاب الله.

(1/2215)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرد "الميثاق" بمعنى العهد. و المواثقة المعاهدة. و أما "التواثق"،، فالتحالف والتعاهد. وفي القرآن الكريم: )الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق( 7 )فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق(، )والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه(. وقد قال العلماء في الميثاق إنه: عقد مؤكد بيمين وعهد. والحلف الذي نتحدث عنه هو "ميثاق"، لأنه عهد يؤخذ بحلف مؤكد بيمين.
و تكون بين المتحالفين مواثيق على الوفاء بالالتزامات التي نص عليها، واتفق الطرفان المتعاقدان أو الأطراف المتعاقدة على الوفاء بها كاملة غير منقوصة.
ويكون الحلف بين الأفراد، كما يكون بين الجماعات والحكومات، فيتحالف الأفراد بعضهم مع بعفى، ويعلن ذلك الحلف ليكون معلوما بين الناس، وتتحالف القبائل بعضها مع بعض، ويعلن حلفها هذا ليكون معلوما عند أفرادها وعند القبائل الأخرى، وتحالف الحكومات: حكومات عربية مع حكومات عربية، أو حكومات عربية مع حكومات أعجمية. وفي المسند أمثلة عديدة على محالفات الحكومات العربية بعضها مع بعض، أو محالفتها لحكومة أجنبية مثل: الحبشة، كما في الكتابات الآشورية وفي مؤلفات اليونان واللاتين، وفي كتب أهل الأخبار أمثلة من محالفات العرب مع غيرهم، أو محالفاتهم بعضهم مع بعض.
والفكرة التي حملت العرب على عقد الأحلاف، هي نفس الفكرة التي تدفعهم اليوم على عقد الأحلاف بي نهم أو مع غيرهم. وهي الضرورة والدفاع عن مصالح خاصة أو عامة، أي نفس الفكرة التي تدفع الدول على التكتل والتحزب وعقد الأحلاف الدولية، في هذا اليوم، أو في المستقبل. وهناك أحلاف عقدت لأغراض هجومية، وأحلاف عقدت لمصالح اقتصادية، مثل أكثر أحلاف قريش مع القبائل . وأحلاف لتثبيت نظم و إقرار قوانين وأخذ حقوق وردع ظالم و إنصاف مظلوم.

(1/2216)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد تعقد الأحلاف لأغراض معينة، فتكون لها آجال محددة، كأن تسعى قبيلة لعقد حلف مع قبيلة أخرى لمساعدتها في صد غزو سيقع عليها أو لمساعدتها في غزو قبيلة أخرى، أو الوقوف موقف حياد تجاه الغزو. أو مساعدة قبيلة قبيلة أخرى للأخذ بثأر من قبيلة لها ثأر معها.ومثل هذه الأحلاف لا تعمر طويلا، إذ ينتهي أجلها بانتهاء الغاية التي من أجلها عقد الحلف.
والغالب إن الضعيف هو الذي يبحث عن حليف. يحالفه، ليقوي بهذا التحالف نفسه، ويعز به مكانه. قال البكري: "فلما رأت القبائل ما وقع بينها من الاختلاف والفرقة، وتنافس الناس في الماء والكلأ، والتماسهم المعاش في المتسع، وغلبة بعضهم بعضا على البلاد والمعاش، واستضعاف القوي للضعيف، انضم الذليل منهم إلى العزيز وحالف القليل منهم الكثير، وتباين القوم في ديارهم ومحالهم، وانتشر كل قوم فيما يليهم".
لقد دفعت الضرورات قبائل جزيرة العرب إلى تكوين الأحلاف، للمحافظة على الأمن وللدفاع عن مصالح المشتركة كما تفعل الدول. و إذا دام الحلف أمدا، وبقيت هذه الرابطة التي جمعت شمل تلك القبائل متينة، فإن هذه الرابطة تنتهي إلى نسب يشعر معه أفراد الحلف أنهم من أسرة واحدة تسلسلت من جد واحد، وقد يحدث ما يفسد هذه الرابطة، أو ما يدعو إلى انفصال بعض قبائل الحلف، فتنضم القبائل المنفصلة إلى أحلاف أخرى، وهكذا تجد في الجزيرة أحلافا تتكون، وأحلافا قديمة تنحل أو تضعف.

(1/2217)


--------------------------------------------------------------------------------

لم يكن في مقدور القبائل أو العشائر الصغيرة المحافظة على نفسها من غير حليف قوي يشد أزرها إذا هاجمتها قبيلة أخرى، أو أرادت الأخذ بالثأر منها. لقد كانت معظم القبائل داخلة في هذه الأحلاف، إلا عددا قليلا من القبائل القوية الكثيرة العدد، و كانت تتفاخر بنفسها، لأنها لا تعتمد على حليف يدافع عنها، بل كانت تأخذ بفأرهما وتنال حقها بالسيف. ويشرك المتحالفون في الغالب في المواطن، وقد تنزل القبائل على خلفائها، وتكون الهيمنة بالطبع في هذه للقبائل الكبيرة.
وقد عرفت مثل هذه الأحلاف عند سائر الشعوب السامية كالعبرانيين مثلا، وطالما انتهت تلك الأحلاف كما انتهت عند العرب إلى نسب، فيشعر المتحالفون انهم من أسرة واحدة يجمع بينهم نسب واحد. و يقال للحلف "تكلع" عند اليمانيين. "وبه سمي ذو الكلاع، و هو ملك حميري من ملوك اليمن من الأذواء، و سمي ذا الكلاع، لأنهم تكلعوا على يديه أي تجمعوا، و إذا اجتمعت القبائل وتناصرت فقد تكلعت".

(1/2218)


--------------------------------------------------------------------------------

ولما كانت المصالح الخاصة هي العامل المؤثر في تأليف الأحلاف، كان أمد الحلف يتوقف في الغالب على دوام تلك المصالح. وقد تعقد الأحلاف لتنفيذ شروط اتفق عليها، كأن تعقد لغزو قبيلة، أو للوقوف أمام غزو محتمل، أو لأجل معين. ومتى نفذت أو تلكأ أحد الطرفين في التنفيذ، انحل الحلف. وتعد هذه الناحية من النواحي الضعيفة في التاريخ العربي، فإن تفكير القبائل لم يكن يتجاوز عند عقدهم هذه الأحلاف مصالح العشائر أو القبائل الخاصة، لذلك نجدها تتألف للمسائل الداخلية التي تخص قبائل جزيرة العرب، ولم تكن موجهة للدفاع عن بلاد العرب ولمقاومة أعداء العرب. و لا يمكن إن نطلب من نظام يقوم على العصبية القبلية إن يفعل غير ذلك. فإن وطن القبيلة ضيق بضيق الأرض التي تنزل فيها، فإذا ارتحلت عنها، ونزلت بأرض جديدة، كانت الأرض الجديدة هي الموطن الجديد الذي تبالغ القبيلة في الدفاع عنه. ولما كانت هذه النزعة الفردية هي هدف سياسة سادات القبائل ، أصبحت حتى اليوم من أهم العوائق في تكوين الحكومات الكبيرة في جزيرة العرب، ومن أبرز مظاهر الحياة السياسية للأعراب.
وخير مثال للقبائل التي اقتضت مصالحها التكتل والتحالف بينها، هو الحلف الذي قيل له "تنوخ". فقد اجتمع بالبحرين قبائل من العرب، وتحالفوا وتعاقدوا على التناصر و التساعد والتآزر فصاروا يدا واحدة، وضمهم اسم "تنوخ". وحلف "فرسان"، وهو حلف آخر قديم تكون من انضمام قبائل عديدة بعضها إلى بعض للتناصر والتآزر. ولما لم يعرف أهل الأخبار واللغة شيئا من تلك الأمور العادية، أوجدوا تلك القصص والأخبار والأنساب المدونة عن تنوخ وأمثال تنوخ.

(1/2219)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن هذا القبيل، الحلف الذي قيل له: "البراجم". وهو من عمرو و ظليم وقيس وكلفة وغالب زعم أهل الأخبار، إن "حارثة بن عمرو بن حنظلة"، قال لهم: أيتها القبائل التي قد ذهب عددها، تعالوا فلنجتمع ولنكن كبراجم يدي هذه. فقبلوا، فقيل لهم البراجم. وهم يد مع عبد الله بن دارم. فنحن أمام حلف من أحياء قل عددها وذهب أمرها، وخافت على نفسها، فلم تجد أمامها من وسيلة للمحافظة على حياتها سوى التحالف، فكان من ذلك حلف البراجم.
وتجد لفظة "الحليفان" للدلالة على تحالف قبيلتين، أو "الأحلاف" تعبيرا عن حلف عقد بين قبيلتين أو أكثر، تتردد في كتب أهل الأنساب والأخبار. وقد قصد بها أحلاف عديدة. فقد قيل لأسد و غطفان "الحليفان"، لأنهما تحالفا وتعاقد" وعقدا حلفا بينهما على التناصر والتآزر، كما قيل لهما "الأحلاف". و الأحلاف أسد و غطفان. وقيل لقوم من ثقيف: "الأحلاف". والظاهر أنهم. كانوا في الأصل طوائف لم تتمكن من البقاء وحدها في وسط عالم لا يعيش فيه إلا القوي، فتحالفت للدفاع عن نفسها، ويقال لأسد وطيء "الحليفان" ولفزارة وأسد "حليفان"، لأن خزاعة لما أجلت بني أسد عن الحرم، خرجت فحالفت طيئا، ثم حالفت بني فزارة.
ولما تحالفت غطفان وبنو أسد وطيء، قيل لهم: الأحاليف، لعقدهم حلفا على التناصر والتآزر.
وقد ورد في معلقة "الحارث بن حلزة اليشكري" اسم "حلف ذي المجاز" الذي عقد بين بكر وتغلب بوساطة "عمرو بن هند"، وقد أخذ فيه عمرو بن هند العهود و المواثيق و الكفلاء من الطرفين حذر الجور والتعدي.
وتكون الهيمنة في الأحلاف التي تعقد بين قبائل غير متكافئة للقبائل القوية، أي للقبائل التي لجأت إليها القبائل الضعيفة لعقد حلف معها. فتكون الكلمة عندئذ لسادات القبائل البارزة التي هذا الخلف. وعلى القبائل الضعيفة دفع شيء للقبائل القوية في مقابل حمايتها لها وبسط سلطانها عليها، ومنع ما قد يقع من اعتداء من قبائل أخرى عليها.

(1/2220)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد كانت هذه الأحلاف تدوم ما دامت المصالح متشابهة، فإذا اختل التوازن بين المتحالفين، أو وجد أحد الطرفين طرفين أن مصالحه تقتضي الانضمام إلى حلف آخر، فسخ ذلك العقد، وعقد حلفا آخر، وحالف قبائل أخرى قد تكون معادية لقبائل الحلف السابق، ويقال لفسخ الأحلاف "الخلع".
وهكذا كانت الحياة السياسية في الجاهلية: أحلاف تتكون وأخرى قديمة تنحل. ولا سيما إذا كانت قد تكونت من قبائل لا رابطة دموية بينها ولا اشتراك في المواطن، و إنما كانت عوامل مؤقتة وأحوال طارئة اقتضت تكتلها، ثم اقتضت انحلالها لزوال تلك الأسباب.
وتعقد الأحلاف أحيانا بين عشائر وبطون قبيلة واحدة، تعقد على نمط الأحلاف التي تعقد بين القبائل. وقد يعقد الحلف بين عشائر وبطون قبيلة، وبين عشائر وبطون قبائل غريبة. وذلك بسبب حدوث مشاحنات ومنافسات بين عشائر وبطون القبيلة، فتتكتل العشائر والبطون وتتحزب وقد تتقاتل، وتضطر عندئذ إلى تأليف أحلاف بينها لتتغلب بها على العشائر والبطون المنافسة. ومثل هذه الأحلاف تضعف القبيلة وتؤدي إلى تصدعها ما لم يتدارك أمرها أصحاب الرأي والسداد فيتولوا إصلاح ما قد وقع بين رجال القبيلة من فساد وتهدئة الحال حفظا لمصلحة القبيلة. ونجد أمثلة من هذا القبيلة عند أهل الأخبار.
ولم يكن من الواجب على كل أحياء قبيلة، الاشتراك في الأحلاف التي تعقدها غالبية أحياء تلك القبيلة. فقد اعتزلت "حنيفة" الحلف الذي عقدته قبائل "بكر" في الجاهلية. لأنها كانت من أهل المدر، وكان الخلف في أهل الوبر. فلما جاء الإسلام، دخلت في "عجل"، وصارت لهزمة.
وكان في العرف الجاهلي أن الأحياء التي تتحضر من قبيلة ما، لا تدخل في الأحلاف التي تعقدها الأحياء المتبدية، لاختلاف الحالة، لا سيما إذا كانت المواطن بعيدة. فالحضارة تبعد الأعراب عمن يتحضر منهم. إلا إذا وجدت مصالح خاصة، والمصالح أساس التعامل.

(1/2221)


--------------------------------------------------------------------------------

ونظرا إلى ما للحلف من قدسية في النفوس، أصبح من المعتاد عقده في مراسيم مؤثرة ورد وصف بعضها في الأخبار، مثل حلف "المطيبين" الذي عقد في مكة بعد اختلاف بني عبد مناف وهاشم والمطلب ونوفل مع بني عبد الدار بن قصي، و إجماعهم على اخذ ما في أيدي بني عبد الدار مما كان قصي قد جعله فيهم من الحجابة واللواء والسقاية والرفادة، فعقد كل قوم على أمرهم حلفا مؤكدا، على إلا يتخاذلوا، ولا يسلم بعضهم بعضا "ما بل بحر صوفة"، فأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبا، فيزعمون أن بعض نساء بني عبد مناف أخرجنها لهم، فوضعوها لأحلافهم في المسجد عند الكعبة، ثم غمس القوم أيديهم فيها، فتعاقدوا وتعاهدوا هم وحلفاؤهم، ثم مسكوا الكعبة بأيديهم توكيدا على أنفسهم، فسموا المطيبن، وتعاقد بنو عبد الدار وتعاهدوا هم وحلفاؤهم عند الكعبة حلفا مؤكدا على ألا يتخاذلوا، ولا يسلم بعضهم بعضا، فسموا الأحلاف.
"و الأحلاف ست قبائل: عبد الدار، وجمح، ومخزوم، وبنو عدي، و كعب، وسهم".
ومن هذا القبيل حلف الفضول، إذ تداعت قبائل من قريش إلى حلف وتعاهدوا وتعاقدوا على إلا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها ومن غيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حنى ترد عنه مظلمته، فسمت قريش ذلك الخلف حلف الفضول. وهو من الأحلاف التي ظل الناس يحترمون أحكامها حتى في الإسلام. وقد عقد على هذه الصورة: اجتمعت بنو هاشم وأسد وزهرة وتيم في دار عبد الله بن جدعان، وصنع لهم طعاما كثيرا، ثم "عمدوا إلى ماء من ماء زمزم فجعلوه في جفنة، ثم بعثوا به إلى البيت فغسلت به أركانه، ثم أتوا به فشربوه".

(1/2222)


--------------------------------------------------------------------------------

و أضيف إلى هذه الأحلاف، حلف "الرباب". و فو حلف عقد بين المتحالفين بإدخال أيدهم في "رب" وتحالفوا عليه، أو لأنهم جاؤوا برب فأكلوا منه، وغسلوا أيديهم فيه، وتحالفوا عليه. فصارو يدا واحدة، وقيل: لأنهم اجتمعوا كاجتماع الربابة، و هم: تيم وعدي وعكل ومزينة و ضبة ، أو: ضبه وثور، وعكل، وتيم، وعدي.
ومن تلك الأحلاف، حلف لعقة الدم. وقد عقد على أثر تخاصم القبائل من قريش في وضع الحجر الأسود فيء موضعه. فلما استعدت للقتال "قربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما، ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة، فسموا "لعقة الدم". ويظهر أن عقد الحلف بإدخال الأيدي في الدم من المراسيم المعروفة. وقد عرف قوم من بني عامر بن عبد مناة بن كنانة بلعقة الدم. وكانوا ذوي بأس شديد. و جاء أن خثعما إنما سموا خثعما لانهم غمسوا أيديهم في دم جزور.
وتعقد الأحلاف على النار كذلك، وقد وصف "هيرودوتس" طريقة من طرق التحالف والمؤاخاة والمحافظة على العهود عند العرب، فذكر أن العرب يحافظون على العهود والمواثيق محافظة شديدة، لا يشاركهم في ذلك أحد من الأمم، ولها قداسة خاصة عندهم، حتى تكاد تكون من الأمور الدينية المقدسة. و إذا ما أراد أحدهم عقد حلف مع آخر، أوقفا شخصا ثالثا بينهما ليقوم بأجراء المراسيم المطلوبة في عقد الحلف، ليكتسب حكما شرعيا، فيأخذ ذلك الشخص حجرا له حافة حادة كالسكين يخدش به راحتي الشخصين قرب الإصبع الوسطى. ثم يقطع قطعة من ملابسهما فيغمسهما في دمي الراحتين، ويلوث بها سبعة أحجار. و يكون مكان هذا الشخص الذي يقوم بإجراء هذه الشعائر في الوسط، يتلو أدعية وصلاة للإلهين "باخوس" "Bachus" و "اورانيا" "Urania"، حتى إذا انتهوا منها قاد الحلف حليفه إلى أهله وعشيرته لإخبارهم بذلك، و للإعلان عنه، فيصبح الحليف أخا له وحليفا، أمرهما واحد بالوفاء.

(1/2223)


--------------------------------------------------------------------------------

وما ذكره "هيرودوتس" عن عقد العرب أحلافهم على النار، هو صحيح على وجه عام. يؤيده ما ذكره أهل الأخبار عن "نار التحالف". وقولهم: كان أهل الجاهلية إذا أرادوا أن يعقدوا حلفا، أوقدوا نارا وعقدوا حلفهم عندها، ودعوا بالحرمان والمنع من خيرها على من ينقض العهد، وحل العقد، وكانوا يطرحون فيها الملح والكبريت، فإذا استشاطت، قالوا للحالف: هذه النار تهددتك، يخوفونه بها حتى يحافظ على العهد والوعد، ولا يحلف كذبا، وبضر غير ما يظهر. ولذلك عرفت هذه النار بنار التحالف. وهي نار يقسم المتخاصمون عليها كذلك، فان كان الحالف مبطلا نكل، وان بريئا حلف ولهذا سموها أيضا "نار المهول" و "الهولة". وذكر أنهم كانوا لا يعقدون حلفا إلا عليها. وقد أشار إلى هذه النار "أوس بن حجر"، إذ قال: إذا استقبلته الشمس، صد بوجهه كما صد عن نار المهول حالف
كما أشار إليها الكميت: همو خوفوني بالعمى هوة الردى كما شب نار الحالفين المهول
وقد ذكر أهل الأخبار حلفا سموه: "حلف المحرقين"، وزعموا أن المتحالفين تحالفوا عند نار حتى أمحشوا أي احترقوا، وأن "يزيد بن أبي حارثة ابن سنان، وهو أخو هرم بن سنان الذي مدحه زهر، يمحش المحاش، و هم بنو خصيلة بن مرة وبنو نشبة بن غيظ بن مرة على بني يربوع بن غيظ بن مرة رهط النابغة، فتحالفوا على بني يربوع على النار، فسموا المحاش بتحالفهم على النار. وزعموا أن المحاش القوم يجتمعون من قبائل شتى، فيتحالفون عند النار.
وذكر علماء اللغة أن "المحاشن": القوم يجتمعون من قبائل محالفون غيرهم من الحلف عند النار. وكانوا يوقدون نارا لدى الحلف ليكون أوكد. وقد أشير إلى ذلك في شعر للنابغة، إذ يقول: جمع محاشك يا يزيد، فإنني أعددت يربوعا لكم، وتميما
قيل: يعنى صرمة وسهما ومالكا بني مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض وضبة بن سعد، لأنهم تحالفوا بالنار، فسموا المحاش.

(1/2224)

admin
12-31-2010, 07:42 PM
وقريب من هذا ما كانت تفعله قريش حين تعقد حلفا، فيأخذ الحليف حليفه إلى الكعبة، ثم يطوفان بالأصنام لإشهادها على ذلك، ثم يعود الحليف بحليفه لإشهاد قريش ومن يكون في الكعبة آنئذ على صحة هذا الحلف، وقبوله محالفة الحليف، إذ أصبح وله ما له وعليه ما عليه، وعلى قومه حمايته حمايتهم له وقد ذكرت كتب السيرة والأخبار والأدب طرفا من أخبار المحالفات التي كانت تعقد بمكة و كيفيتها وبعض المراسيم التي تمت فيها.
ولا تعرف صيغة واحدة معينة لاقي م الذي يقسم به المحالفون. فمنهم من أقسم بالأصنام التي يعبدونها ويقفون عندها حين يعقدون الحلف. ومنهم، وهم أغلب أهل مكة.، من كانوا يحلفون ضد الركن من الكعبة، فيضع المتحالفون أيديهم عليه، فيحلفون. وقد ذكر أن قسم قريش والاحابيش عند الركن يوم تحالفوا وتعاقدوا، حلفوا "بالله القائل وحرمة البيت والمقام والركن والشهر الحرام على مصر على الخلق جميعا حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وعلى التعاقد والتساعد على من عاداهم من الناس ما بل بحر صوفة، وما قام حراء وثبير،وما طلعت شمس من مشرقها إلى يوم القيامة".
و منهم من أقسم بالآباء والاجداد، لما لهم من مكانة ومقام في نفوسهم. ومنهم من حلف وعقد الحلف عند المشاهد العظيمة، أو في معابد الأصنام، أو عند تجور سادات القبائل المحترمين، فيحلفون بصاحب هذا القبر ويذكرون اسمه على التعاقد والتآزر أو على ما يتفق المتحالفون عليه، وعلى الوفاء بالعهد. وقد روي أن النبي أدرك "عمر" في ركب وهو يحلف بأبيه، فنادى رسول الله: "أما إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم. من كان حالفا، فليحلف بالله، أو يصمت".
وفي كتب أهل الأخبار والأدب أسماء قبائل يظهر إنها كانت أسماء أحلاف عقدت في مراسيم خاصة، يمكن الوقوف عليها وتعيينها من دراستها والوقوف على معانيها، مثل الرباب و المحاش وما شاكل ذلك من أسماء.

(1/2225)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن عاداتهم في عقد الأحلاف ما ذكرته من التحالف على الطيب أو النار أو القسم عند صنم. "وفي حديث الهجرة: وقد غمس حلفا في آل العاص، أي أخذ نصيبا من عقدهم وحلفهم يأمن به. وكان عادتهم أن يحضروا في جفنة طيبا أو دما أو رمادا، فيدخلون فيه أيديهم عند التحالف ليتم عقدهم عليه باشتراكهم في شيء واحد". وحلفوا بالملح وبالماء. "قال ابن الأعرابي": "والعرب نحلف بالملح والماء تعظيما لهما". ومن المجاز "ملحه على ركبته"، بمعنى قليل الوفاء. وحلفوا بالخبز والملح، وعلى من يأكل خبز وملح شخص للوفاء نذلك الشخص. ولا يجوز الاعتداء على من أكل خبز وملح قبيلة. وعليها الدفاع عنه وأخذ حقه ممن ظلمه من أهل تلك القبيلة.
وتدو ن الأحلاف أحيانا لتوكيدها وتثبيتها، وتحفظ عند المتعاقدين، وقد تودع في المعابد، كالذي روي في خبر "صحيفة قريش" يوم تم مر للمشركون وتحالفوا على مقاطعة "بني هاشم" في شعبهم، إذ كتبوا صحيفة بما اتفقوا عبيه، ثم أودعوها كما يقول أهل الأخبار جوف الكعبة، وكالذي ورد، من تحالف ذبيان وعبس وتدوينهم ما تحالفوا عليه في كتاب، وتعاهدوا وأقسموا على اتباع ما كتب فيه، والعمل به، والى ذلك أشر في شعر قيس.
ونجد في شعر "زهر": إلا ابلغ الأحلاف عني رسالة وذبيان: هل أقسم كل مقسم?
إشارة إلى قسم أخذ من المتعاقدين، ليلتزموا الوفاء بما تحالفوا عليه، وهم "الأحلاف". كما نجد في شعر الحارث بن حلزة اليشكري: و اذكروا حلف ذي المجاز وما قد م فيه العهود و الكفلاء
حذر الجور والتعدي، وهل ين قض ما في المهارق الاهواء
إشارة إلى العهود والرهائن التي أخذت من "بني تغلب" و "بني بكر" للوفاء بما توافقوا وتعاهدوا عليه و دونوه من شروط على "المهارق"، أي القراطيس، توكيدا لما اتفقوا عليه مشافهة. وكان الملك "عمرو بن هند"، قد أصلح بين الطرفين بحلف، سمي حلف ذي المجاز، فأخذ عليهم المواثيق والرهائن.

(1/2226)


--------------------------------------------------------------------------------

ويوثق ما اتفق عليه عن عهود وأحلاف ومواثيق، رؤساء الأطراف المتعاقدة، بأن تدون أسماؤهم وتختم بخواتيمهم، لتكون شهادة بصحة ما اتفق عليه، كما يفعل المتعاهدون على صحة العقد، وعلى صحة الخواتيم، وبأن مي اتفق عليه كان بجضورهم، وبأنهم شهود على كل ذلك.
وفي أخبار أهل الأخبار شواهد تشهد بتدوين الجاهليين لعقود الأحلاف. ورد في شرح "التبريزي" على المعلقات قوله في معرض شرحه لمعلقة "الحارث بن حلزة اليشكري": إن كانت أهواؤكم زينت لكم الغدر والخيانة بعد ما تحالفنا وتعاقدنا، فكيف تصنعون بما هو في الصحف مكتوب عليكم من العهود والمواثيق والبينات فيما علينا وعليكم? وورد إن أهل الجاهلية "كانوا يدعون في الجاهلية من يكتب لهم ذكر الحلف والهدنة تعظيما للامر، وتبعيدا من النسيان". وورد في شعر ينسب إلى "درهم بن زيد الأوسي"، ما يفيد بوجود صحف مكتوية بعهود عقدت بين الأوس والخزرج. ووردت إشارة إلى "الصحف": صحف العهود والمواثيق في شعر للشاعر: قيس بن الخطيم.
وروي انه قد كان عند "عمر بن إبراهيم" من ولد "أبرهة بن الصباح" الحبشي المعروف، كتابا دون "الدينوري" صورته، فيه حلف اليمن و ربيعة في حكم الملك "تبع بن ملكيكرب". وقد دون بشهر رجب الأصم. وهو كتاب يظهر انه دون في الإسلام، وان واضعه لم يكن له علم بأحوال اليمن في ذلك العهد. على كل، فإنه يشير إلى وجود تدوين العهود عند الجاهليين. ولما تحالفت قريش على مقاطعة "بني هاشم" و "بني المطلب" كتبت كتابا بما اتفقت عليه، كتبه "منصور بن عكرمة العبدري"، وذكر انه حفظ عند "أم الجلاس بنت مخربة الحنظلية" خالة أبي جهل، وذكر انه علق في جوف الكعبة.

(1/2227)


--------------------------------------------------------------------------------

وشهادات الشهود على صحة العقود أو الأوامر، معروفة عند أهل اليمن، إذ وردت في الأوامر الملكية التي أصدرها ملوك اليمن وفي قوانينهم التي كانوا يصرونها لأتباعهم. وقد عرفت عند أهل مكة، وهم قوم تجار وأصحاب مصالح، ولهم عقود ومواثيق ومعاهدات مع غيرهم من أهل القرى وسادات القبائل. وفي القرآن الكريم ألفاظ لها صلة بالشهادة والشهود، منها ة "شهدتم"، و "شهدوا"، و "أشهد" و "تشهد"، و "تشهدون"، و "شاهد"، و "الشهادة"، وقد أمر بوجوب المحافظة على الشهادة وعدم كتمانها: )ولا تكتموا الشهادة، ومن يكتمها فإنه آثم قلبه".
ولما كانت مراسيم الأحلاف من المراسيم المهمة ومن الأحداث الخطيرة، اقترنت من أجل ذلك بتقديم الطعام للمتحالفين. فيجلس المتحالفون من جميع الفرقاء على مائدة واحدة كالذي ذكرته من تقدم عبد الله بن جدعان الطعام للمتحالفين يوم عقدوا "حلف الفضول". وقد تكون الوليمة نفسها مظهرا من مظاهر مراسيم عقد الأحلاف، لما للخبز والملح من أثر عند العرب. فعلى من يأكل خبز رجل وملحه إن يمر به ويوفي له، ولهذا يعنف الإنسان الإنسان الغادر ويوبخه، لأنه لم يراع حرمة الخبز والملح، وهي حرمة تكاد تصل إلى حرمة الدم والرحم.

(1/2228)


--------------------------------------------------------------------------------

يتبين مما تقدم إن الحرب كانت ترى توكيد الأحلاف بكسوتها بقدسية خاصة، وذلك بعقدها مراسيم ذات صبغة دينية. وقد راعت في تلك المراسيم جهد إمكانها إيلاج ما يوضع في تلك المراسيم إلى أجسام المتحالفين لم، وكأنهم أرادوا بذلك إدخال القسم وما حلف عليه في جسم المتحالفين، ولهذا كان الذين يغمسون إصبعهم في جفنة الدم أو في دم الجزور، يلطعون إصبعهم، وكان الذين يغمسون أصابعهم في الطيب يلطعون أصابعهم أيضا، وكان الذين يقسمون على الماء المقدس يشربون من ذلك الماء؛ وكان الذين يجرحون أيديهم ويعقدون الحلف يضعون راحتي المتحالفين اليمنى إحداهما فوق الأخرى، إلى آخر ذلك من مظاهر توحي إن المتحالفين لم يكونوا قد فعلوا ذلك عبثا ومن غير هدف ولا قصد، بل أرادوا من كل ذلك التأثير في المتحالفين وجعلهم يشعرون بأن حلفهم هذا أي قسمهم على التحالف لتنفيذ ما اتفق عليه قد صار جزءا من جسمهم، وقد حل في دمهم، كما يحل الدم والخبز في دم الجسم.
وتعقد الأحلاف الخطيرة المهمة أمام الأصنام وفي المعابد في الغالب، وذلك كي تكتسب قدسية خاصة. ويشرف على عقدها سادن الصنم، وقد يساعده مساعدون، ليقوموا بمساعدته في إتمام المراسيم.
ويكون بين قبائل الحلف سلم وود، لذلك يستطيع أبناء القبائل المتحالفة المرور بمواطن هذه القبائل غير خائفين، وتمر قوافلهم بأمان لا يتعرض لها، ولا تجبى إلا على وفق ما اتفق عليه وجرت عليه عادة المتحالفين. وعلى أبناء هذه القبائل حماية من يجتاز بأرضهم وتقديم المساعدات له و إضافته ودفع الأذى عنه، و إذا وقع عليه اعتداء من قبائل غربية فعليه مساعدته والذب عنه واستصراخ قومه لنجدته، لأنهم من حلف واحد. وعلى الإنسان إن يتعصب للحلف تعصبه لقبيلته.

(1/2229)


--------------------------------------------------------------------------------

ويلاحظ إن الأحلاف إذا طالت وتماسكت، أحدثت اندماجا بين قبائل الحلف، قد يتحول إلى النسب. بأن تربط القبائل والعشائر الضعيفة نسبها بنسب القبيلة البارزة المهيمنة على الحلف. وينتهي الأفراد إلى سيد تلك القبيلة البارزة، فتدخل أنسابها في نسب الأكبر. وفي كتب الأنساب والأدب أمثلة عديدة على تداخل الأنساب، وانتفاء قبائل من أنسابها القديمة ودخولها في أنساب جديدة.
ويؤدي انحلال الحلف أو انحلال عقد عشائر القبيلة الذي هو في الواقع حلف سمي "قبيلة" إلى انحلال الأنساب وظهور أنساب جديدة، فان القبائل المنحلة تنضم إلى حلف جديد، فيحدث ما ذكرته آنفا من تولد أنساب جديدة، ومن تداخل قبائل في قبائل أخرى، وأخذها نسبها. ومن هنا قال "كولد زيهر": إنه لفهم الأنساب عند العرب، لا بد من معرفة الأحلاف والتحالف، فإنها تكون القبائل، لأن أكبر أسماء أجداد القبائل هي أسماء أحلاف، ضمت عددا من القبائل توحدت مصالحها فاتفقت على عقد حلف فيما بينها على نحو ما مر.
وفي كتب الأنساب والأدب أدلة عديدة معروفة على إنهاء أحلاف، مشت بين الناس وفشت وشاعت حتى صارت كأنها نسب من الأنساب. من ذلك "الأحلاف" و "المطيبون". جاء "ابن صفوان" إلى "عبد الله بن عباس"، فقال له: "نعم الإمارة إمارة الأحلاف، كانت لكم" فقال "ابن عباس": "الذي كان قبلها خيرا منا. كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من المطيبين، وكان عمر من الأحلاف" يعني "إمارة عمر". وقيل لعمر: أحلافي، لأنه عدوي. و الأحلاف صار إسما لهم كما صار الأنصار إسما للاوس و الخزرج.
وقد أشرت سابقا إلى اسم "تنوخ". و "، الأحابيش"، حلف عقد عند جبل حبش بأسفل مكة، فعرف المتحالفون به. وهم "بنو المصطلق، والحيل ابن سعد بن عمرو، م وبنو الهون بن خزيمة"، و ذلك على حد قول اكثر أهل الأخبار.

(1/2230)


--------------------------------------------------------------------------------

و "الرباب." حلف أيضا، ضم خمس قبائل، هي: تيم، وعدي، و عكل، ومزينة وضبة، ولكنه سار بين الناس ومشى وكأنه اسم جماعة ترجع إلى نسب واحد. وأما "الأحلاف"، الذين ورد اسمهم في شعر "زهير ابن أبي سلمي"، فهم "أسد" و "غطفان"، و يقال لحلفهما المذكور أيضا "الحليفان". و "الأحلاف": كذلك قوم من "ثقيف".
لقد تركت الأحلاف أثرا مهما" في الحياة السياسية والاجتماعية عند العرب قبل الإسلام وعند العرب في الإسلام كذلك، على الرغم من الحديث المنسوب إلى الرسول الذي يناهض الحلف: "لا حلف في الإسلام". وقد أدرك الرسول، ولا شك، ضررها بالمجتمع العربي إذ كانت من أسباب التفريق، فحل الأحلاف وأحل الدولة مكانها، وحتم على القبائل إطاعة الرسول أو من يقوم مقامه من المسلمين.
وأما ما رواه "قيس بن عاصم من إن الرسول قال: "لا حلف في الإسلام، ولكن تمسكوا بحلف الجاهلية"، فالطاهر انه قصد بذلك الجوار. وقد أكد الإسلام احترام الجار، ووجوب الدفاع عنه، كما أيد الأحلاف الجاهلية التي تدعو إلى الخير ونصرة الحق. أما الممنوع، فما خالف حكم الإسلام، ودعا إلى الهلاك والضرر والفتن والقتال، فذلك الذي ورد النهي عنه في الإسلام.
واستعمل الجاهليون لفظة "حبل" و "حبال" للعهود والمواثيق. ف "الحبل" هو العهد والذمة والأمان، و هو مثل الجوار. وكان من عادة العرب في الجاهلية إن يخيف بعضهم بعضا، فكان الرجل إذا أراد سفرا أخذ عهدا من سيد كل قبيلة، فيأمن به ما دام في تلك القبيلة، حتى ينتهي إلى الأخرى، فيأخذ مثل ذلك أيضا، يريد به الأمان. فهذا حبل الجوار، أي ما دام مجاورا أرضه. وفي هذا المعنى جاء قول الأعشى: و إذا تجوزها حبال قبيلة أخذت من الأخرى اليك حبالها
وجاء في الحديث: "بينا وبين القوم حبال"، أي عهود ومواثيق. وفي هذا المعنى، أي العهد والذمة والأمان، جاء: مازلت معتصما بحبل منكم من حل ساحتكم بأسباب،نجا

(1/2231)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد استفادت قريش من "الحبال" التي عقدتها بينها وبين القبائل، إذ أمنت بذلك على تجارتها، وقد كانت واسعة تشمل كل جزيرة العرب، وتتصل بالعراق وببلاد الشام، فصارت قوافلها العامة والخاصة تمر بأمن وسلام من كل مكان بفضل حنكة سادة مكة وذكائهم في تأليف قلوب سادات القبائل وربطهم بهم بعهود ومواثيق، جعلت التحرش بقوافلهم من الأمور الصعبة، و إذا طمع بها طامع أدبه سيد قبيلته الذي يخضع له.
ولقريش ولغيرها أحلاف مع أسر وأفراد. فقد كان ل "بني دارم" من تميم حلف مع "بني عبد مناف" من قريش. وكان ل "عكاشة بن محصن" حلف مع رجال من مكة. روي إن رسول الله قال: "منا خير فارس في العرب: عكاشة بن محصن. فقال ضرار بن الأزور الأسدي ذاك رجل منا يا رسول الله. قال: بل هو منا بالحلف. فجعل حليف القوم منهم. كما جعل ابن أخت القوم منهم". وكان للأخنس بن شريق، وهو رجل من ثقيف، وكذلك "يعلى بن منبه"، وهو رجل من "بلعدوية"، وكذلك "خالد ابن عرفطة" وهو رجل من عذرة جلف مع قريش، فصاروا منها بالحلف. ذلك لأن "حليف القوم منهم، وحكمه حكمهم".
وقد يقع أسير في أسر آسر، فلا يتمكن من فداء نفسه، ثم يطلب من آسره إن يكون حليفا له، فإذا قبل آسره منه ذلك، صار في حلفه وفي حلف قبيلته. أي يكون ذلك الشخص حليفا لقبيلة آسره. ويكون حكمه بالنسبة للإرث، إنه يرث من القبيلة كما يرث الصريح من أبنائها. أما إذا قتل، فديته نصف دية الصريح وكان "معيقيب بن أبي فاطمة" حليفا لبني أسد، وكان يكتب مغانم الرسول.
التخالع
و إذا أراد المتحالفون إنهاء حلفهم وعهدهم الذي تعاهدوا عليه بينهم، أعلنوا عن ذلك، وكتبوا به كتابا، ليكون مشعرا بتخالعهم، و انهم نقضوا الحلف الذي كان بينهم، فتسقط بذلك كل مسؤولية تولدت عن الوفاء بذلك الحلف أو العهد، فلا يطالب طرف الطرف الثاني بالوفاء به. ورد في كتب اللغة: و تخالعوا:. نقضوا الحلف والعهد بينهم وتناكثوا.

(1/2232)


--------------------------------------------------------------------------------

ويكون التخالع باتفاق الطرفين عليه، وبرضائهما عنه. أما إذا نكل طرف واحد بتنفيذ ما جاء في الحلف، أو أعلن عن انسحابه منه ساعة الحاجة إليه، كأن يتبرأ منه في وقت يكون فيه حليفه في شدة وضيق، عد ذلك غدرا وخيانة، لتلكؤه عن تنفيذ ما اتفق عليه. وليس الغدر من سجايا إنسان شريف.
وقد كان للحلف أثر مهم في تلاحم الأنساب وفي انفكاكها وتجزئها، وطالما نقرأ في الكتب عبارات تشير إلى تلاحم الأنساب وتداخلها بسبب العوامل المتقدمة. مثل: "ومنهم سليم بن عباد. كان حليفا لأبي طالب. وولده اليوم يدعون في آل أبي طالب".
و الأحلاف بنوعيها أحلاف القبائل وأحلاف الأفراد قد لا تدوم أمدا طويلا، ولا سيما أحلاف القبائل، فالقبائل في تنقل وحركة، ومصالحها وضرورات الحياة عندها متغيرة غير ثابتة، وهي قلقة غير مستقرة. وأحلاف تقوم على مثل هذه الأسس لا يمكن إن تدوم وتعمر، ولا سيما إذا ما تشتت شمل الحلف، وتنقلت قبائله، وتحولت إلى أماكن بعيدة. فتضعف الروابط والصلات التي تجمع بين شملها، ثم ترخى وتزول ولا يبقى من الحلف غير الاسم. تزول بغير تخالع ولا تقاتل أو تباغض، تزوله لأن الظروف التي دعت إلى عقدها، تكون قد زالت وتغيرت ولأن التباعد قد برد من نار الحب التي كانت قد قاربت بين القلوب فجعلها تنسى ذلك الحب، ولا تذكره إلا عندما تتذكره.
إخاء للقبائل
وإخاء القبائل، هو إخاء اصطناعي، وان عده أهل الأنساب والأخبار إخاء

(1/2233)


--------------------------------------------------------------------------------

حقيقيا من اقتران والد بأم. فنحن نعلم في هذا اليوم ومن قراءاتنا للكتابات الجاهلية، ومن نقدنا:غربلتنا لأخبار أهل الأخبار و لروايات أهل الأنساب، إن التآخي، هو في الواقع جوار، ونزول قبيلة بجرار قبيلة أخرى، أو نتيجة حلف تآخت قبائله واتحدت، فعد تآخيها تآخيا بالمعنى المفهوم من الاخوة. أو حاصل تضخم قبيلة لم تعد أرضها يتسع صدرها لها، فاضطرت عشائرها وبطونها على التنقل والارتحال إلى مواطن جديدة، وعدت نفسها لذلك من نسل تلك القبيلة التي كانت تعيش معها، فعد ذلك أهل الأنساب نسبا حقيقيا بالمعنى المفهوم من النسب عندنا.
وقد تضطر بعض القبائل على ترك مواطنها والارتحال عنا، بسبب غزو قبيلة أقوى منها لها، فتنزل بين قبيلة جديدة وتتحالف معها، أو تقهرها على النزول بأرضها. وفي كتب أهل الأنساب والأخبار أمثلة عديدة على ذلك. فتتداخل أنسابها، ويتولد من ذلك نسب جديد. من ذلك، ما يرويه أهل الأنساب عن "عك" وهو أخو "معد" على زعم أهل النسب، فلما حارب "بختنصر" "عدنان"، والد "معد" و"عك"، هاجر أبناء "عك" نحو الجنوب فرارا من "بختنصر" وأقاموا في اليمن، فدخل نسبهم في اليمن، وعدهم بعض أهل الأنساب من قحطان، ومن ذلك قضاعة وقبائل أخرى عديدة.
الهجن
وتزوج العرب من الإماء، وذلك إن من الإماء من كانت جميلة الصورة حلوة المنظر والكلام، ولهذا تزوج ساداتهن منهن، فولد لهم نسل، قيل للواحد منه الهجين. والهجين: ولد العربي من غير العربية، قيل له ذلك لأن الغالب على ألوان العرب الأدمة، ويقال للزواج الذي يقع بين عربي وأعجمية: "مهاجنة". وقد عابته العرب وعدت الهجين دون العربي الصريح، لوجود دم أعجمي فيه. والأعاجم هم، مهما كانوا عليه من منزلة، دون العرب في نظر العرب.

(1/2234)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من تعريف علماء اللغة للفظة "الهجين"، إنها خصصت بمن يولد من أم أعجمية بيضاء، كأن تكون الأم رومية أو فارسية. فقد ذكروا إن العرب أطلقت على أولادها من العجميات اللائي يغلب على ألوانهن البيإض، الهجن و الهجناء، لغلبة البياض على ألوانهم و إشباههم أمهاتهم، فيجب إن تكون الأمهات الأعجميات إذن من ذوات البشرة البيضاء، تمييزا لهن عن ذوات البشرة السوداء من الرقيق المستورد من إفريقية. ويذكر علماء اللغة أيضا إن العرب قالت للعجم "الحمراء" و "رقاب المزاود"، لغلبة البياض على ألوانهم، ويقولون لمن علا لونه البياض: أحمر. وقد هجا "حسان بن ثابت" "سعد بن أبي سرح" بأن اتهمه بأنه عبد هبجين، أحمر اللون فاقع، موتر علباء القفا، قطط، جعد.
والهجنة من الكلام: ما يعيبك. وقد جاء هذا المعنى من الفساد الذي قد يظهر في كلام. الهجن، بسبب عجمة الأمهات وعدم إتقانهن العربية. ولما كان الخطأ في اللغة عيبا، عدت الهجنة من الأمور المعيبة.
ويطلق العرب لفظة "رجل مولد" على الرجل إذا كان عربيا غير محض. و "المولدة" الجارية المولودة بين العرب.، وقيل: تولد بن العرب وتنشا مع أولادهم ويغذونها غذاء الولد ويعلمونها من الأدب مثل ما يعلمون أولادهم. و "التليد" التي ولدت ببلاد العجم وحملت فنشأت ببلاد العرب، وقيل: هي التي تولد في ملك قوم وعندهم أبوها.
الجوار
و للجوار حرمة كبيرة عند الجاهليين. فإذا استجار شخص بشخص آخر، وقبل ذلك الشخص إن يجعله جارا و مستجيرا به، وجبت عليه حمايته، وحق على المجار الدفاع عن مجيره، والذب عنه. وإلا عد ناقضا للعهد، ناكثا للوعد، مخالفا لحق الجوار. وعلى القبائل استجارة من يستجير بها، والدفاع عنه دفاعها عن أبنائها. و يقال للذي يستجير بك "جار". والجار الذي أجرته من إن يخلصه ظالم. وجارك المستجير بك، والمجير هو الذي يمنعك ويجرك. وأجاره: أنقذه من ع شيء يقع عليه.
العصبية

(1/2235)


--------------------------------------------------------------------------------

وأساس النظام القبلي هو العصبية، العصبية للآهل والعشيرة وسائر متفرعات الشعب أو الجذم أو القبيلة، أو العشيرة. ومن شروطها إن يدعو الرجل إلى نصرة عصبته والتألب معهم على من يناوئهم، ظالمين كانوا أو مظلومين، وليس له إن يتساءل: أهو ظالم أم مظلوم، وهي ضرورية للقبائل، لأنها لا تستطيع إن تدافع عن نفسها إلا إذا كانت ذات عصبية ونسب، وبذلك تشتد شوكتها، ويخشى جانبها، كما انه لا يمكن وقوع العدوان على أحد مع وجود العصبية. وتقوم العصبية على النسب، وهي تختلف لذلك باختلاف درجات تقارب الأنساب، ولذلك تجد عصبيات مختلفة. و تقوم العصبية الصرحاء والموالي والجيران.
وتشمل العصبية أهل المدر كذلك، فأهل المدر وإن تحضروا واستقروا و أقاموا في بيوت ثابتة، إلا إن نظامهم الاجتماعي والسياسي بني على العصبية أيضا، فتألفت المدن والقرى من "شعاب"، وتكونت الشعاب من جماعات بينها روابط دم و وشائج قرابة. والشعب هو وحدة، وهو الذي يأخذ حق المظلوم من الظالم، و بظلامة من تقع عليه ظلامة. وغالبا ما تكون بين الشعاب المتجاورة قرابة وصلة رحم، و إذا حدث حادث لهذه الشعاب، هبت للنظر فيه واتخاذ ما ينبغي اتخاذه من موقف، ثم تكون عصبية الشعاب للمدينة أو للقرية ثم إن سكان هذه المدن وإن تحضروا واستقروا كانوا يرجعون أنفسهم كأهل الوبر إلى قبائل وعشائر. فهم إذن أعراب من حيث التعصب والأخذ بالعصبية، واختلافهم عن الأعراب، هو في استقرارهم وفي عيشهم في محيط ضيق محدود وفي خطط مثبتة مرسومة.
وفي المعنى المتقدم من العصبية، ورد قول الشاعر: إذا أنا لم أنصر أخي وهو ظالم على القوم، لم أنصر أخي حين يظلم
فالعصبية: أن يدعو الرجل عصبته إلى نصرته. وهي "النصرة على ذوي القربى وأهل الارحام، أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة".
وفي هذا المعنى أيضا ورد قول الشاعر، قريط بن أنيف، حيث يقول: قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم طاروا إليه زرافات ووحدانا

(1/2236)


--------------------------------------------------------------------------------

لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا
فهو يهب إذا سمع نداء العصبية حاملا سيفه أو رمحه أو أي سلاح بملكه، وبغير سلاح، لينصر أخاه، لا يسأله: لم? فليس من العصبية والاخوة القبلية أن "تسأل أخاك عما وقع له، بل عليك تلبية ندائه و تقديم العون له، معتديا كان أم معتدى عليه.
و العصبية صلة كبيرة بالمسؤولية و بالعقوبات. فعلى درجة العصبية تقع المسؤولية. فأقرب الناس إلى الجاني، يكون أول من يتناوله الأخذ بالثأر، ثم الأبعد فالأبعد. ومن هنا كان الطالبون للثأر يبدأون بالجاني أولا. فان فاتهم أخذوا أقرب الناس رحما به، فان فاتهم أخذوا الذي يليه أو من هو في درجته وهكذا.
وكلما بعدت العصبية عن دم الأبوين، خفت حدتها، وطبيعي ألا تكون العصبية إلى القبيلة مثل العصبية إلى الآهل في الشدة. ولهذا فان العصبية ترتبط بدرجة الدم والتحام النسب ارتباطا طرديا. وهذا شيء طبيعي، وهو حاصل هذه الحياة.
ولا تمنع العصبية بطون القبيلة من مخاصمة بعضها بعصا ومن القبائل فيما بينها، بسبب تغلب المصالح الشخصية على عاطفة "العصبية". ومتى اصطدمت المصالح بالعواطف، تغلبت المصلحة عليها. فالمصلحة حاجة وواقع عملي، والعصبية شعور، والحاجة أقوى منها. وهذا نجد المصلحة تدفع بطون القبيلة المتخاصمة على الاستعانة ببطون غريبة عنها، أو بقبائل بعيدة عنها في النسب لمقارعتها أخواتها و للتغلب عليها، مدفوعة إلى ذلك بدافع المصلحة وغريزة المحافظة على الحياة. فتقاتلت بطون من طيء و تحاربت فيما بينها، وتقاتلت قبائل بكر ووائل مع وجود النسب والدم، وتقاتل بنو جعفر والضباب. تقاتلت لظهور مصالح تغلبمت على العصبية و على الشعور بالاخوة. ومتى ظهرت المصالح المادية عجزت عاطفة النسب والعصبية من التغلب عليها.

(1/2237)


--------------------------------------------------------------------------------

وجرثومة العصبية، العصبية للدم، وأقرب دم إلى إنسان هو دم أسرته وعلى رأسها الأبوان والاخوة والأخوات ثم الأبعد فالأبعد، حتى تصل إلى العصبية للقبيلة. ولهذا تكون شدة العصبية وقوتها تابعة لدرجة قرب الدم والنسب وبعدها. فإذا ما حل حادث بإنسان، فعلى أقرب الناس دما إليه أن يهب لإسعافه والآخذ بالثأر ممن ألحق الأذى بقريبه. ولهذا صارت درجات العصببة متفاوتة بحسب تفاوت الدم ومنازل النسب.
وآخر مرحلة من مراحل العصبية، العصبية للقبيلة، والعصبية للحلف، أو العصبية للنسب الأكبر، وذلك في حالة تكتل القبائل وتخاصمها كتلا. وتكون العصبية للقبيلة أقوى من العصبية للحلف أو النسب الأكبر مثل معد أو نزار أو حمير أو ما شاكل ذلك، وذلك لشعور أبناء القبيلة بأن الرابطة التي تربطهم هي رابطة الدم، والدم أبرز وأظهر في القبيلة من رابطة الحلف أو رابطة النسب الأكبر، ولا سيما رابطة الحلف، فإنها رابطة مصلحة في الغالب لا رابطة دم، والشعور بروابط. لمصالح لا يكون مثل الشعور بروابط الدم.
وتدفع العصبية للحلف، قبائل الحلف على التناصر والتآزر والتكتل، والوفاء بالعهد، و إلا لم تكن للمتحالفين فائدة ما من الحلف، وعلى أفراد الحلف أن ينصر بعضهم بعضا، وعلى قبائل الحلف أن يتآزروا في دفع الديات أيضا. وبالمطالبة بديات من يقتل من قبائل الحلف، إذا عجز أهل القتيل لو قبيلة القاتل عن الأخذ بحقه.

(1/2238)


--------------------------------------------------------------------------------

وتشمل العصبية كل منتم إلى القبيلة، تشمل أحرارها أي أبناءها الخلص الصرحاء، و تشمل الموالي أي الرقيق وكل مملوك تابع لحر، كما تشمل أهل الولاء والجوار. فالعصبية لا تعرف تفريقا في هذه الناحية، فعلى كل من ينتمي إلى قبيلة ويحمل اسمها أن يتعصب لقبيلته ويذود عنها، وان كان عبدا مملوكا، ذلك قانون وأمر محتوم، لا جدال فيه ولا نقاش، من حيث وجود حقوق أو عدم وجودها، ومن حيث إن اصل هذا حر واصل هذا عبد. لأن ما يصيب الحر يصيب المولى والجار، وما يصيب المولى والجار يؤثر على الحر، لأنه مسؤول عن مولاه وعن جاره بحكم التملك والجوار، وعلى الرقيق والجار تبعة الدفاع عن الصريح وعن القبيلة التي ينتمي إليها الصريح.
وتلزم العصبية أبناء القبيلة بوجوب تحمل التبعة والقيام بواجبها وتلبية ندائها وإجابة الصارخ بالعصبية، ليس له إن يسأل عن السبب، ولا إن يعتذر عن تلبية النداء، و إنما عليه إن يعمل بقول الشاعر: لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا
و إذا قتل قتيل لزم الأخذ بثأره، و إذا كان القتيل سيد قبيلة وجب على القبيلة الأخذ بثأر سيدها، وهيهات إن تسكت عن قتله، وعلى كل فرد من أفراد تلك القبيلة واجب الأخذ بثأره ممن قتله.
ويفرض قانون العصبية على القبيلة تحمل التبعة، إذ جعلها تبعة جماعية. فإذا جنى رجل جناية قتل، تكون قبيلته مسؤولة عن جنايته، وعليها تقع تبعة قتل القاتل إذا تعذر الأخذ بالثأر منه أو تعذر تسليم القبيلة له، كما يقع على القبيلة دفع الدية إذا عجز القاتل أو آله عن دفعها، وذلك لتوزيعها على المتمكنين من أفرادها، أو بقيام ساداتها أو سيدها بدفعها كاملة أو يدفع ما تبقى منها.

(1/2239)

admin
12-31-2010, 07:43 PM
ومن هنا خضعت فردية الأعرابي المتطرفة لقانون الجماعة، أي لسلطان العصبية فصار واجبا عليه إن يضع نفسه تحت إمرة القبيلة، وذلك بتلبية ندائها حين يبلغه ذلك النداء، وتقديم نفسه طائعا مختارا لإمرة القبيلة ليدافع عنها أو ليشترك معها في الغزو، ليس له إن يفر أو يعتزل أو يتلكأ، فهذا واجب مفروض عليه، إذا خالفه خالف جماعته وخسر حمايتها له، وصار مسبوبا من الناس.
الحمية
ومن مظاهر العصبية "الحمية" وهي الأنفة والغيرة والغضب، وذلك، أن الشخص كان يأنف من عمل قبيح، وتأخذه حميته من إن يفعل شيئا يعاب ويعار عليه. وهو يغضب وتأخذه حميته من أن يترك سنة آبائه وأجداده. وقد نهى الإسلام عن الحمية، واعتبرها من أخلاق أهل الجاهلية والكفر. ونزل الوحي يندد بها: )إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية. فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين والزمهم كلمة التقوى(. وذلك حين جعل "سهيل بن عمرو" في قلبه الحمية فامتنع أن يكتب في كتاب المقاضاة الذي كتب بين الرسول والمشركين بسم الله الرحمن الرحيم، وأن يكتب فيه محمد رسول الله، وامتنع هو وقومه من دخول رسول الله مكة عامه ذلك. فوضع الإسلام "السكينة" في موضع حمية الجاهلية.
و "النعرة"، وهي الصياح ومناداة القوم بشعارهم طلبا للغوث والاستعانة، أو لإهاجتهم ولتجمعهم في الحرب. ومن هنا ورد في الحديث "ما كانت فتنة إلا نعر فيها فلان". أي نهض فيها. وفي حديث الحسن: كلما نعر بهم ناعر اتبعوه، أي ناهض يدعوهم إلى الفتنة ويصيح بهم إليها. ولما كان العرب أصحاب حس مرهف، وعاطفة ذات حساسية شديدة، لذلك لعبت النعرات فيهم دورا خطيرا في إثارة الفتن بينهم. وكانت سببا لحدوث حوادث مؤسفة عند الحضر وعند الأعراب.

(1/2240)


--------------------------------------------------------------------------------

و إذا أصيب شخص بضيم، أو نزلت به إهانة أو نازلة، نادى قومه بشعائر العصبية، وعلى قومه تلبيته ونصرته. و قد ينادي الإنسان شخصا طالبا منه العون والنصرة، فتلزمه مساعدته كأن ينادي "يا لفلان"، وهو شعار يستعمل عند التحزب والتعصب، ينادي به بصوت عال مسموع، عند بيت المنادى أو في موضع عام أو في مكان مرتفع ليصل الصوت إلى ابعد مكان.
وللقبائل شعار ينادون به عند العصبية، فإذا وقع على أحد من أهل يثرب اعتداء وأراد المؤازرة والنصرة، نادى: يا لآل قيلة، و إذا كان من تميم نادى: يا لتميم، وهكذا، فيهرع من يكون حاضرا ساعة النداء لينصر صاحبه الذي هو من قومه و ليؤازره. وتعد التلبية من أهم مفاخر الرجال والقبائل وواجبا من الواجبات ويتداعى الناس إلى العصبية في القتال. و إذا أرادوا إهاجة قومهم نادوا بالعصبية.
وقد وقع خلاف بين المهاجرين والأنصار في المدينة والرسول فيها. فقال قوم: يا للأنصار. وقال قوم يا للمهاجرين. فسمع النبي تداعيهم وصراخهم، فقال لهم: دعوها فإنها منتنة. ودعاها ب "دعوى الجاهلية". "وفي الحديث: ما بال دعوى الجاهلية? هو قولهم: يا لفلان كانوا يدعون بعضهم بعضا عند الأمر الشديد".
الإسلام والعصبية

(1/2241)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد تركت "العصبية" أثرا مهما في الحياة السياسية والاجتماعية عند العرب تجبل الإسلام. وقد كانت إذ ذاك ضرورة من الضرورات اللازمة بالنسبة إلى الحياة في الجاهلية، لأنها الحائل الذي يحول بين الفرد وبين الاعتداء عليه، والرادع الذي يمنع الصعاليك و الخلعاء و المستهترين بالسنن من التطاول على حقوق الناس، إذ لا حكومة قوية رادعة ولا هيئة حاكمة في استطاعتها الهيمنة على البوادي وعلى الأعراب المتنقلين. بل هنالك قبائل متناحرة و إمارات متنافرة، إذ ارتكب إنسان جريمة. في أرضها، وفر إلى ارض أخرى، نجا بنفسه وأمن على حياته هناك، ولكنه كان يخشى من شيء وأحد، لم يكن لأحد فيه عليه سلطان، هو "العصبية" وسنة "الأخذ بالثار"، وهي العصبية في ثوبها العملي. كان نحشى من سلطان الأخذ بالثأر، حيث يتعقبه أهل الثأر، فلا يتركون الجاني يهنأ بالحياة ولو بعد مضي عشرات من السنين، حتى يقتل أو يقتل اقرب الناس إليه. وبذلك صارت العصبية ضرورة من ضرورات الحياة، بالنسبة لسكان جزيرة العرب، لحمايتهم وصيانتهم من عبث العابثين.
وقد أدرك الإسلام ما في العصبية من أخطار على المجتمع، ولما في الأخذ بالثأر من ضرر على الأمة، إذ يحول المجتمع إلى مجتمع ذئاب، يأخذ كل ذئب بحقه من غريمه، فنهى عنها، وحول العصبية الجاهلية إلى عصبية إسلامية. بأن يتعصب المسلم لأهل عصبيته، ولدينه، فيدافع عنه ويقاتل في سبيله وفي سبيل رفع الظلم عمن وقع الظلم عليه بمساعدة من بيدهم الأمور على إحقاق الحق وإظهار حق المظلوم لديهم. وحرم العصبية الجاهلية المعروفة، فورد في الحديث: "ليس منا من دعا إلى عصبية أو قاتل عصبية". ومنع الأخذ بالثأر، إذ جعل حقه من حقوق أولي الأمر، ومن بيده سلطان المسلمين ومن ينيبونه عنهم للقضاء بين الناس.
من أعراف للعرب

(1/2242)


--------------------------------------------------------------------------------

وللأعراب بصورة خاصة أعراف أوجبت الطبيعة عليهم إطاعتها والعمل بها لأن في تنفيذها مصلحة الجميع، وفي الخروج عليها ضررا بالغا. من ذلك وجوب الأخذ بالثار، والبحث عن القاتل لقتله مهما طال الزمن، لان "الدم لا يغسل إلا بالدم". وقد أملت طبيعة المحيط الذي يعيش فيه العرب عليهم هذا العرف. فليس في البادية من يحول بين قتل الناس بعضهم بعضا إلا الأخذ بالثأر، و قيام أهل القتيل والعصبية بالأخذ بدمه. ولولا الخوف من الأخذ بالثأر لعم القتل الحياة: فالحياة في البوادي وفي أكثر أنحاء جزيرة العرب شدة ومحنة و فقر وقسوة. وليس في البادية أي خير كان مما يستمتع به أهل الحواضر، ولا سيما تلك التي امتازت بوفرة الماء فيها و بحسن جوها واعتداله. لذلك صارت حياة الأعراب ضنكا في العيش وفقرا مرا، وصار كل شيء تقع عليه عين الأعرابي ذا قيمة وفائدة عنده مهما كان تافها، فيريد الاستيلاء عليه وسلبه من صاحبه، لأنه محتاج إليه وفقير، ويرى إن من حقه إن يستولي على كل ما يراه عند من هو أضعف منه، وان أدى ذلك إلى إزهاق حياته. ولكن الطبيعة التي علمت الأعرابي هذا المنطق و درسته هذا الدرس درسته في الوقت نفسه إن الاستهتار بالسلب والنهب والقتل، يؤذيه ويهلكه، وانه لا بد له من الحد من غلوائه ومن أعدائه على غيره، ووضعت له حدودا و قيودا من طبيعة هذه الحياة التي يحياها. منها عرف "العصبية"، والأخذ بالثأر، وغير ذلك من أعراف أملتها الطبيعة على سكان هذه البوادي، وصارت سننا متبعة بعضها يتعلق بالأعراف التي تخص داخل القبيلة، وبعضها يتعلق بالأعراف التي تتعلق بالقبائل المتحالفة، ومنها ما يتعلق بالأعراف التي تكون بين القبائل المتعادية.

(1/2243)


--------------------------------------------------------------------------------

والقاعدة عند العرب إن الدم - كما سبق إن قلت - لا يغسل إلا بالدم، وان تعويض الدم بمال يرضى عنه "آل" القتيل، منقصة و ذلة لا يقبل بها إلا ضعاف النفوس. أما أهل البيوت والحمولة، فلا يقبلون إلا بالقصاص وبأخذ الثأر، وبقتل رجل كفء يكافئ المقتول في المنزلة والدرجة والمكانة، فإذا كان القتيل سيد قبيلة والقاتل من عامة الناس أو من ****هم، أبوا الاكتفاء بقتله به اقتصاصا منه، إذ انه دون القتيل في المنزلة والشرف والمكانة، بل لا بد عندهم من قتل سيد من سادات القبيلة التي يكون منها القاتل، على إن يكون مكافئا للقتيل، حتى يغسل الدم. وان كان ذلك السيد بعيدا عن القاتل ولا صلة له به. فالسيد سيد ولا يغسل دمه إلا بدم سيد مثله. ولعل الطبيعة وضعت لهم هذه السنة لتأديب سادات القبيلة أو غيرهم، ممن قد يحرضون ال**** أو غيرهم من السوقة على قتل خصومهم وأعدائهم. فإذا عرفوا إن أهل القتيل سينتقمون منهم بقتلهم، حاربوا سفكة الدماء من أتباعهم ولاحقوهم، وبذلك ينظفون المجتمع منهم، و يخلصون الناس من سفاكي السماء.
والأصل في القتل: القصاص، وقتل القاتل بدل القتيل. فيطالب أهل المقتول

(1/2244)


--------------------------------------------------------------------------------

بالقود وهو قتل النفس بالنفس. وقد ورد ذكره في الحديث، إذ جاء: "من قتل عمدا، فهو قود". و إذا لم يتم، القود، أو لم يحدث التراضي على الدية، أو إذا فر القائل، فلا بد من الأخذ بالثأر. ولا يستقر لأهل القتيل قرار إلا بعد الأخذ يثأر القتيل. وقد يتركون الخمر والطيبات ولا يقربون النساء طيلة طلبهم للثأر. وقد يلبسون ألبسة الحزن ويجزون شعورهم، ولا يأكلون لحما، ولا يميلون إلى ضحك ولا سماع دعاية ولا إلى الاستراحة، حتى ينالوا منالهم من الأخذ بثأر القتيل. كالذي روي في قصة طلب امرئ القيس الكندي ثأر أبيه من بني أسد. وقد آلى على نفسه إن لا يمس رأسه غسل ولا يشرب خمرا حتى يثأر بأبيه. فلما ظفر ببني أسد قتلته وأدرك ثأره حل له ما حرم على نفسه. وكالذي روي في قصة طلب قيس بن الخطيم ثأر أبيه أو عن "يوم الأقطانيين"، إذ أقسموا إلا يغسلوا أجسامهم حتى يأخذوا بثأرهم.
وقد يستغرق طلب الأخذ بالثأر.عشرات السنين، لا يكل في خلال هذه المدة أصحاب القتيل عن إدراك الثأر. وينظر إلى الذين يتوانون عن إدراك الثأر نظرة ازدراء واحتقار، وقد يلحق بهم وبنسلهم العار من هذا الإهمال، وقد يلحق ذلك العشيرة أو القبيلة برمتها ويكون لها سبة، إذا كان القتيل من أشرافها أو من سادتها. لهذا لا يتهاون أهل القتيل عن تتبع آثار القاتل أو أقربائه أو أفراد قبيلته التي ينتمي. إليها لغسل هذا العار، فإن الدم لا يغسل إلا بالدم.
ومتى أدرك أهل الثأر ثأرهم، ووجدوا المقتول كفؤا لدم القتيل ورضوا عن ذلك، قالوا هذا النوع من الثأر "الثأر المنيم". وقد عرفه بعضهم: أنه الذي إذا أصابه الطالب رضى به فنام بعده. وقيل هو الذي يكون كفؤا لدم وليك. ويقال أدرك فلان ثأرا منيما، إذا قل نبيلا فيه وفاء لطلبته، وكذلك أصاب الثأر المنيم. قال أبو جندب الهذلي: دعوا مولى نفائة ثم قالوا: لعلك لست بالثأر المنيم

(1/2245)


--------------------------------------------------------------------------------

أي لست بالذي ينيم صاحبه، أي إن قتلتك لم أنم حتى أقتل غيرك، أي لست بالكفؤ فأنام بعد قتلك.
ومتى أخذ بثأر القتيل بكته النساء. لأن من عادة نساء الجاهليين ألا يبكين المقتول إلا إن يدر ك بثأره، و إذا أدرك بثأره، بكين.
ويشبه الثأر إن يكون عقيدة من العقائد الدينية عند العرب. لما يكتنفه أحيانا من "حلف" و "قسم" بوجوب الأخذ بالثأر. ولما تحوط به من شعائر يحافظ عليها، من أخذ على نفسه القسم بوجوب الأخذ بالثأر. وهي من شعائر الدين عند الجاهلين. ولا يتركها حتى يبر بقسمه.
و إذا عجز الإنسان عن أخذ ثأره بنفسه، استغاث بغيره لينجده على ثأره. و على من قبل نداء الاستغاثة ووافق على النجدة، مساعدة المستغيث في الأخذ بالثأر وعدم تركه حتى يأخذ بثأره من طلبته.
وقد لعب الأخذ بالثأر دورا خطيرا في الإسلام كذلك. ولا سيما في الأحداث السياسية. فلما قتل "عثمان" ارتفع نداء: يا لثارات عمان. قال حسان: لتسمعن وشيكا في ديارهم الله أكبر يا ثارات عثمانا
ومن ذلك قولهم: "يا لثارات الحسين"، و "يا لثارات زيد" إلى غير ذلك. وهو لا يزال يلعب دورا خطيرا في الحياة العربية إلى اليوم.
وقد عير أحد الشعراء "بني وهب"، لأنهم أخذوا دية قتيل، فاشتروا بها نخلا، فقال لهم: إلا أبلغ بني وهب رسولا بأن التمر حلو في الشتاء
أي اقعدوا وكلوا التمر ولا تطلبوا بثأركم.
وهناك رجال ضرب بهم المثل في إدراكهم الثأر. ويقال للواحد من هؤلاء: البيهس.
الاستغاثة:
ومن مظاهر العصبية: الإستغاثة. وهي إن يصيح الإنسان واغوثاه. طلبا للعون والنصرة وعلى من يسمع نداء الاستغاثة من أهل المستغيث أو من رجال قبيلته أو الحلف الذي تكون قبيلته فعليه مد يد العون له ونصرته. ويعاب من يسمع الاستغاثة فلا يعمل على مساعدة المستغيث. وقد يجو المستغيث قومه إذا تباطأوا في إغاثة المستغيث أو لم يستجيبوا لندائه، وقد يتبرأ منهم و يتركهم ليلحق بقوم آخرين.

(1/2246)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن أخلاق الجاهلية المناداة بالنصرة. و قد ذكرت معناها في العصبية فهي أيضا وجه من وجوهها. ذكر إن الرسول قال: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما"، وتفسيره إن يمنعه ومن الظلم إن وجده ظالما. وان كان مظلوما أعانه على ظالمه. والتناصر التعاون، وقد حول الإسلام نصرة الجاهلية إلى تناصر، أي تعاون وتعاضد لأن المسلمين إخوة. ويكون بالانتصار من الظالم وبالانتصاف حتى يؤخذ بحق المظلوم من الظالم.
الوفاء
وعلى الإنسان الوفاء لأهل عصبيته، ليس له مخالفتهم ولا معاكستهم مها كانت درجة الخلاف بينه وبينهم، لأنه واحد، وهم جماعة، إن أصابه ضيم فلا بد لجماعته من مواساته و من الانتصار له مهما كانت أسباب الفرقة.وما يصيب جماعته سيصيبه، وما سيصيبه، سيؤثر في جماعته حتما، فيجعلها إلى جانبه في الأخر.
وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
وهي في الأخر كما بقول الشاعر "المتلمس" لشخص ظن انه منتقل عنهم لخلاف وقع بينه و بينهم: أمنتقلا من نصر بهثة خلتني ألا إنني منهم وان كنت أينما
ألا إنني منهم وعرضي عرضهم كذي الأنف بحمي أنفه إن يصلما
فإذا أعطى رجل رجلا عهدا، فلا يسعه إن يغدر به، ولا بد له من المحافظة على الجهد وما برح العرب يحافظون على عهودهم حتى اليوم. وقد يضحي الإنسان بنفسه على إن يخدش سمعته فيوسم بالغدر. وكانوا في الجاهلية إذا غدر الرجل رفعوا له في سوق عكاظ لواء ليعرفوه الناس. وقد ورد: "إن لكل غدرة لواء" ونصب. اللواء في المواضع العامة وفي المواسم للإشارة إلى غدر شخص بشخص آخر من أشهر الأشياء عند العرب.
والى هذا اللواء أشار "الحادرة"، "قطبة بن أوس" إذ قال: أسمي ويحك هل سمعت بغدرة رفع اللواء لنا بها في مجمع
و إذا غدر الرجل بجاره، أوقدوا النار بمنى أيام الحج على أحد الأخشبين، ثم صاحوا: "هذه غدرة فلان" ليحذره الناس. وقد قيل لهذه النار: نار الغدر.

(1/2247)


--------------------------------------------------------------------------------

وربما جعلوا للمغادر مثالا من طين، ينصبونه ليراه الناس، وكانوا يقولون: إلا إن فلانا قد غدر فالعنوه. جاء في الشعر: فلنقتلن بخالد سرواتكم و لنجعلن لظالم تمثالا
فهدا التمثال، هو تمثال الغدر والخيانة، نصب ليقف الناس على خبر غدر الشخص الذي نصب له.
وقد عاب الناس الغادر و عيروا به فإذا شتموا شخصا قالوا: يا غدر ! وقد جعلوا الذئب من الحيوانات الغادرة، فقالوا: الذئب غادر، أي لا عهد له. كما قالوا: الذئب فاجرا.
أهل الغدر
وقد حفظ أهل الأخبار أسماء رجال عرفوا بالغدر. وقد قال بعضهم: أعرف الناس بالغدر "آل الأشعث بن قيس بن معد يكرب". وذكر إن الغدر ارث فيهم انتقل بهم إلى الإسلام. وضربوا المثل بغدر الصيزن بأبيها صاحب الحصن.
ومن الوفاء: الوفاء بالعهود والمواثيق. فلا يجوز لمن أعلى عهدا وميثاقا الغدر بهما و التنصل من الوفاء بهما. والوفاء من أنبل الخصال الحميدة التي يتخلق بها إنسان. وهو من المثل العليا عند العرب ومن أخلاق "الإنسان الفاصل" عندهم. وقد أوفى "حنظلة الطائي" بعهد الذي أعطاه للملك "النعمان" يوم بؤسه بأن يعود إليه، ليرى الملك رأيه في قتله فعاد، وهو يعلم إن الملك سيقتله، لأنه أعطاه قولا بالعودة، وجعل "شريكا" نديم الملك ضامنا له بالعودة. فلما عاد، واستمع الملك إلى قصة وفائه أبطل عادته في قتل أول من كان يظهر أمامه يوم بؤسه، إكراما لعمله. ورأى "السموأل" ابنه وهو في أيدي أحد ملوك الغساسنة أو ملوك كندة، وهو يناديه بوجوب دفع ما عنده من دروع وأسلحة مودعة عنده، من دروع وأسلحة "امرئ القيس" فقال له: "ما كنت لأخفر ذمامي وأبطل وفائي فاصنع ما شئت". فذبح ولده واحتسب السموأل ذبح ولسر وصبر محافظة على وفائه، ولم يسلم الوديعة إلا إلى ورثة امرئ القيس.

(1/2248)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد دون أهل الأخبار أسماء أناس عرفوا بالوفاء منهم: "أوفى بن مطر المازني"، جاوره رجل ومعه امرأة له، فأعجبت قيسا أخاه، فقتل زوجها غيلة، فبلغ ذلك "أوفى" فقتل قيس بجاره. و "الحارث بن عباد"، وكان من وفائه انه أسر يوم "قضة" "عدي بن ربيعة أخا مهلهل"، وهو لا يعرفه. فقال له: دلني على عدي. فقال له عدي: إن دلتك عليه فأنا آمن? فأعطاه ذلك. فقال له: فأنا عدي. فخلى سبيله.
ومن أوفياء العرب "عوف بن محلم الشيباني"، وهو من مشاهير سادات العرب. وكان من وفائه ان "مروان بن زنباع العبسي" كان قد وتر "عمرو بن هند"، فجعل على نفسه إلا يؤمنه حتى يضع يده في يده. وان "مروان" غزا "بكر بن وائل" فأسر، ولم يكن آسره منيعا، فطلب من أم آسره إن توصله إلى "عوف بن مسلم"، ولها منه مئة بعير، فحمل إلى "عوف"، ولاذ بقبته، وبلغ "عمرو بن هند" مكانه، فبعث يطلبه، فأبى عوف إن يسلمه إلا إن يؤمنه. ثم أخذه عوف إلى "عمرو بن هند"، وجعل يده بين يد عمرو ويد مروان، وأصلح بينهما، فعفا "عمرو" عنه وآمن مروان. فقال عمرو: "لا حر بوادي عوف" فذهبت مثلا.
وعد "مروان بن زنباع" من أوفياء العرب، لأنه وفى بعهده الذي أعطاه لأم آسره، وكان قد أعطاه عودا التقطه من الأرض ليكون رمز وفائه، على إن توصله إلى "محلم" فلما أوصلته دفع إليها المئة بعير، كما تعهد لها بذلك.

(1/2249)


--------------------------------------------------------------------------------

وضرب المثل بوفاء "عمير بن سلمى الحنفي"، وله قصة في الوفاء تشبه قصة "أوفى بن مطر المازني". ذكروا إن من وفائه ان رجلا من "بني عامر بن كلاب" استجار. بعمير وكانت معه امرأة جميلة. فرآها "قرين بن سلمى الحنفي" أخو عمير، وصار يتحدث إليها حتى بلغ ذلك زوجها، فنهاها. فخافته فانتهت. فلما رأى "قرين" ذلك وثب على زوجها، فقتله. و عمير غائب، فأتى أخو المقتول قبر "سلمى" فعاذ به. فقدم "عمير بن سلمى"، فأخذ أخاه. وبلغ وجوه "بني حنيفة" الخبر، فأتوه فكلموه، فأبى إلا إن يقتله أو،يعفو عنه جاره، وأبى أخو المقتول أخذ دية أخيه القتيل ولو ضوعفت، فأخذ.عندئذ "عمير" أخاه وقتله لغدره بجاره.
ومن الأوفياء "أبو حنبل: جارية بن مر الطائي ثم الحنبلي". وكان من وفائه إن "امرئ القيس بن حجر الكندي"، كان جارا "لعامر بن جوين الطائي" فقبل "عامر" امرأة "امرئ القيس"، فأعلمته ذلك فارتحل إلى "جارية" ليستجير به. فلم يجده، ووجد ابنا له أجاره، فلما جاء "جارية" ورأى كثرة أموال "امرئ القيس" طمع فيها، وعزم على الغدر ب "امرئ القيس"، ثم فكر في أمره ورأى إن الغدر عار، فعقد له جواره، ثم أخذه إلى "عامر بن جوين"، فقال لامرئ القيس: قبل امرأته كما قبل امرأتك. ففعل.
ومنهم "المعلى الطائي"، أحد "بني تيم" من جديلة. وهم "مصابيح الظلام". وكان "المنذر" يطلب امرئ القيس، فلجأ إلى "المعلى" فأجاره، وبلغ المنذر مكان "امرئ القيس" فركب حتى أتى منزل المعلى، ولم يكن المعلى موجودا، وأبى ابنه تسليم امرئ القيس إلى المنذر ومنعوه.

(1/2250)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن الأوفياء "عصيمة بن خالد بن سنان بن منقر"، وكان "النعمان" قد غضب على "بني عامر بن صعصعة"، فقتل منهم ناسا وشردهم، فالجأهم "عصيمة" وأجارهم. فبعث إليه النعمان: "ابعث الي ب****ي" فأبى ونادى في قومه شعاره "كوثر"، وأقبل "النعمان" فأهبرى "عصيمة" بالرمح إلى معرفة فرسه، ورجع الملك خائبا. ثم كسا "عصيمة" "بني عامر" وبلغهم مأمنهم.
وقد عد الوفاء محمدة وواجبا، ولأجل توكيد الوفاء وترسيخه، كانوا يضعون رهنا، قد يكون ثمينا مثل أبناء سادات القبائل ، يقدمونهم رهينة لدى، الملوك ضمانا لهم في مقابل وفائهم بما تعهدوا للملك وبما عاهدوه عليه من شروط، وقد يكون شيئا لا قيمة كبيرة له من الوجهة المادية، مثل رهن قوس، أو سهم، أو التقاط عود من الأرض و إيداعها رهنا بالوفاء، كما مر معنا في قصعة "مروان ابن زنباع العبسي" مع "عوف بن محلم الشيباني."، أو في مقابل إعطاء كلمة بالوفاء، كما في قصة "الحارث بن عباد"، أو الوفاء بسبب استجارة إنسان بقبر، كما في قصة وفاء "عمير بن سلمى الحنفي".
العرض
وعرض الرجل نفسه وبدنه، وقيل العرض: موضع المدح والذم من الإنسان سواء كان في نفسه أو سلفه أو من يلزمه أمره. وقيل أيضا: هو جانبه الذي يصونه من نفسه وحسبه و يحامي عنه إن ينتقص ويثلب. وذكر أيضا إن العرض: عرض الإنسان، ذم أو مدح. ويحرص الجاهلي على إلا يمس بسوء. و إذا تحرش أحدهم به، أو شعر إن شخصا أراد الانتقاص منه. ولو بتلميح أو بإشارة أو بغمز ثار وهاج مدافعا عن نفسه وعرضه، لأن عرض الإنسان أشرف شيء بالنسبة له في هذه الحياة.
ومن العرض صيانة أعراض الناس، لأن من ينتهك عرض غيره، ينتهك الناس عرضه ويعرض نفسه وماله وأهله للتهلكة. فقد لا يصبر شخص أهينت كرامته على هذه الإهانة فينتقم ممن تعرض به شر انتقام. إن لم يتمكن هو بنفسه، ساعده في أخذ حقه أهل عصبته ورجال قبيلته، حتى يثأر لنفسه ممن تعرض لعرضه بسوء.

(1/2251)


--------------------------------------------------------------------------------

ونجد في الشعر الجاهلي تبجحا بالنفس و إشادة في الدفاع عن العرض، وتهديدا و وعيدا لمن يحاول النيل منه بأي سوء. وهو كلام يحمل حساد المتبجح بنفسه على الرد عليه وعلى الطعن فيما قاله. وبذلك تتولد خصومة قد تطول وتكر وتودي إلى سقوط قتلى كانوا في غنى عنها لولا هذه الحمية الجاهلية القائمة على التفاخر و التباهي والزهو والحمق.
الحرية
والعربي مجبول على الحرية، وهو لا يطيق الخضوع لأحد غير قبيلته على إن لا يؤثر ذلك في حريته الشخصية، وقد أعجب "هيرودوتس" وغيره من كتبة اليونان والرومان بحب العرب للحرية ولمقاومتهم للاسترقاق، فذكروا انهم كانوا الشعب الوحيد من بين الشعوب الآسيوية الذي لم بخضع لحكم الفرس، فلم يتمكن ملوك الفهرس من استعبادهم، وانما اضطروا إلى معاملتهم معاملة أصدقاء حلفاء، فقاموا لهم بخدمات جليلة سهلت لهم فتح مصر، ولو كان العرب حربا على الفرس لما تمكنوا قط من حملتهم على مصر.
والعربي من هذه الناحية شديد التعلق بالحرية، والأعرابي يشعر، وهو في الحضر بين سكان القرى أو المدن، انه في سجن لا يطاق لكثرة القيود التي تقتضيها عادات المتحضرين، ويسعى للعودة إلى وطنه حيث ينطلق حرا كما يشاء. والقبائل تشعر هذا الشعور نفسه، فهي تعيش متمتعة بأعظم قسط من الحرية، لا تضحي بها، إلا لمقتضيات المحافظة على الحياة حيث ترتبط بواجبات التحالف مع القبائل الأخرى للدفاع عن النفس وضمان ضروريات الحياة.

(1/2252)


--------------------------------------------------------------------------------

ولما كان لكل شيء حد ونهاية، غدت هذه الحرية أنانية شديدة، وفردية مطلقة حالت دون تعاون الأفراد، ومنعت من مساعدة القبائل بعضا بعضا مع وجود،خطر أجنبي داهم، وحالت دون تكون المجتمعات الكبرى وهي الحكومات، واقتصرت التنظيمات السياسية على القبائل، وأصبحت العصبية للقبيلة تعني القومية. وزاد في حدة هذه الأنانية القبلية اعتقادهم بالرابطة الدموية التي تربط الأسر بالعشائر، والعشائر بالقبائل، وإرجاع ذلك إلى الأنساب فلا تتعصب القبائل إلا لتلك القبائل التي تعتقد إنها وإياها من شجرة واحدة وأصل واحد.

(1/2253)


--------------------------------------------------------------------------------

إن الحياة الصحراوية التي طبعت أصحابها بطابع الإفراط في حب الحرية الفردية، قد آثرت كثيرا في الحياة السياسية و التفكير السياسي في بلاد العرب، فاقتصرت الأفعال السياسية على أفعال القبيلة، وتراجع الفرد بل الآهل والعشيرة تجاه القبيلة، وأثرت في أشكال الحكومات التي تكونت في الأماكن الخصبة وبين المتحضرين، فجعلت منها اتحادا مع قبائل جمعت بينها مصالح متشابهة ومنافع مشتركة. فإذا ما شعرت بزوال مصلحتها أو إن من مصلحتها الانفصال عن هذا الاتحاد فلا تتوانى عن تنفيذ رغباتها وتحقيقها بالقوة. ولهذا نجد القبائل تهيج وتثور على الحكومات التي تخضع لها، وتدين بالولاء لها، لأسباب تافهة منبعها ومبعثها هذه الأنانية الضيقة التي تدفع سادات القبائل إلى الانفصال والخروج من عبودية الخضوع لحاكم، عليهم تقديم واجب الإخلاص والطاعة له. حاكم يرون انه لا يمتاز عنهم. بشيء، بل يرى كل واحد منهم لأنانيته انه أولى منه بالحكم وبتسلم القيادة، وان من حقه الخروج عن طاعته إن وجد ظروفا ملائمة متهيئة للانفصال عنه. فلما وجدت القبائل التي خضت لحكم "ملوك كندة" ضعفا في إلاسرة الكندية الحاكمة، ثارت عليها، وقتلت منهم من قتلت، وطردت من طردت، وكون سادات القبائل إمارات عديدة، حلت محل مملكة كندة. ولما كان سادات القبائل يجدون ضعفا في العلاقات بين ملوك الحيرة والفرس، وبين ملوك الغساسنة وبين الروم، كانوا يسارعون إلى الاتصال بالفرس وبالروم لتنصيبهم مكان ملوك الحيرة وملوك الغساسنة، لا يرون في هذا العمل أي شين أو بأس.

(1/2254)

admin
12-31-2010, 07:44 PM
ويصعب في الحقيقة التوفيق بين الفكرة القبلية الضيقة والفكرة القومية التي تسمو فوق القبائل، فالفكرة القبلية لا تعترف بوجود قومية غير قومية القبيلة، ولا ترى وجود وطن غير الوطن الذي تنزل فيه القبيلة فإذا ارتحلت عنه، وحلت في ارض أخرى أصبحت هذه الأرض وطن القبيلة الجديد، الذي يجب أن يدافع عنه. وأما الأوطان الأخرى، ومنها وطن القبيلة السابق، فليست بأوطانها. و من هنا كان بون شاسع بين هذه الفكرة الوطنية الضيقة، وبين الفكرة القومية التي تدين بعقيدة الأيمان بالقوم أي الجنس الذي هو فوق القبائل والأمكنة، وبالوطن العام الذي يشكل الأرضيين التي يستوطنها ذلك الجنس.
وقد جابهت الحكومات العربية في الجاهلية ثم في الإسلام متاعب كثيرة من الروح القبلية العنيفة، ومن الفردية المتطرفة، فكانت هذه من أهم عوامل هد المجتمعات السياسية الكبرى في بلاد العرب، وكانت من اعنف أعداء القومية العربية، لا في الجاهلية حسب، بل في الجاهلية وفي الإسلام كذلك.

(1/2255)


--------------------------------------------------------------------------------

فأهم ما يعوز العرب في الجاهلية الشعور بفكرة "الأمة"، التي تسمو فوق القوميات القبلية، وفوق الإقليميات الضيقة التي هي أيضا صفحة من صفحات الأنانية. والشعور بلزوم الحد من الفردية الجامحة التي لا تعترف بحريات الآخرين، وبضرورة إطاعة المجتمع في سبيل المصلحة العامة، و إخضاع إرادة الحاكمين لمصلحة حكم الجماعة، والتحديد من أنانيتهم المفرطة ومن البت في أمور الرعية، وكأن الرعية سواد من ماشية، عليها إطاعة سوط الحاكم وأوامره، دون إن يكون لها سق في إبداء الرأي. فان غلطة الاستبداد بالرأي تؤدي إلى أسوأ العواقب، غير أن الحرية المفرطة، أو الأنانية الشديدة بتعبير أصح، التي كادت تجعل المجتمع فوضى، ضبطتها من ناحية أخرى قوة كبحت جماعها، وحدت من حريتها، وأجبرتها على التقيد بقيود، وعدم التحرك إلا بحد وحسود هي سنة وجوب إطاعة أوامر المجتمع، والاستجابة لنداء الجماعة، و لأحكام رؤساء الأحياء والبطون والأفخاذ، والصيحات التي تصرخها القبيلة أو فروعها لتنادي بنداء، "العصبية". و إلا عد الخارج على نداء الجماعة والمخالف لقرار رؤساء الأسرة أو الحي أو القبيلة خارجا على القانون وعلى العصبية فاستحق بذلك واجب خلعه من عصبية القبيلة له وطرده من قومه. وهو اشد عقاب يفرض على مخالف ما. عقاب: الخلع.
الخلع
ويبقى الفرد متمتعا بعطف قبيلته عليه، وبحمايتها له ما دام قائما بواجباته المترتبة عليه، شاعرا بعظم التبعة. فإذا أجرم، أو عمل عملا ينافي شرفه أو شرف قبيلته، واستمر في غيه لا يسمع نصائح أهله وعشيرته، كاسرا أعراف آله وقبيلته، فقد عصبية أهله وقبيلته له، وهام على وجهه طريدا يلتمس مجاورة رجل من عشيرة أو قبيلة أخرى قريبة من موطنه أو بعيدة عنه. وتكون هذه. الفترة من حياة الإنسان شر فترة في حياته، ولا يهدأ للطريد بال إلا إذا وجد له حليفا أو جارا يتعهد له بحمايته وببذل "العصبية" له، وبالدفاع عنه.

(1/2256)


--------------------------------------------------------------------------------

ويقال للرجل الذي تغضب عليه قبيلته وتحرمه عطفها وعصبيتها له "الخليع"، ويقال ذلك لمن يخلعه أهله أيضا. وقد يقال له "الرجل اللعين" و "اللعين". واللعين هو المطرود "، ولذلك يقال له "الطريد"، إلى غيرها من مصطلحات.
وربما خلعوا الرجل من القبيلة ولو كان من صميمها، ويسقط عن أهله وقبيلته كل واجب يترتب عليهم أو عليها إذا عمل عملا يستوجب خلعه، كما تسقط عن القبائل التي قد تتعرض للخليع بشر كل تبعة تقع عليها من الاعتداء عليه، لخلع أهله أو قبيلته له، وتبرئهم أو تبرئها منه، فلا يطالبون بثأر.
ولا بد من إعلان خلع أقل "الخليع" أو خلع قبيلته له وترثها منه، ليكون ذلك معلوما عند أفراد قبيلته أو القبائل الاخرى، فتسقط العصبية عندئذ عن "الخليع" عند إعلان قرار الخلغ، والا بقيت في رقبة أولياء أمره "وقبيلته، وذلك كأن يعلن الأب في المواضع العامة وفي المواسم انه خلع ابنه، بأن يقول: إلا، أني قد خلعت ابني هذا، فان جر لم اضمن، وإن جر عليه لم اطلب. أو يعلن قومه: إنما خلعنا فلانا، فلا نأخذ أحدا بجناية تجنى عليه، ولا نؤخذ بجناياته التي يجنيها.
وقد كان الحج من المواسم المناسبة لإعلان خلع الخلعاء، وكذلك كانت مواسم الأسواق كسوق عكاظ. فهي مواسم تجمع، ينادي فيها. المنادي يخلع من براد خلعه. وكان أقل مكة يكلفون مناديا بالطواف بالأحياء، ينادي بأعلى. صوته عن خلع الخليع. وقد يكتبون كتابا يحفظونه عندهم أو يعلقونه في محل عام ليقف عليه الناس.

(1/2257)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عاش الخلعاء عيشة صعبة، لا أحد يساعدهم أو يؤويهم خشية إن ينزل بهم أذى، أو يترتب على قبول جوارهم تبعة تجاه من يقتص آثارهم طلبا للثأر منهم. ولذلك تكتل الصعاليك أحيانا وكونوا عصابات تغزو وتغير وتقطع الطريق. وكان. الشاعر "عروة بن الورد" وهو منهم يجمع حوله الصعاليك والفقراء في حظيرة. ويغزو بهم ويرزقهم مما يغنمه، ولذلك سمي "عروة الصعاليك". ذكر أنه كان إذا شكا إليه فتى من فتيان قومه الفقر، أعطاه فرسا ورمحا، وقال له: إن لم تستغن بهما فلا أغناك الله.
والصعلوك الفقر الذي لا مال له. ومن الصعاليك "السليك بن سلكة" الشاعر العداء. وهو من العدائين الذين ضرب بهم المثل في العدو. وكان "حاجز بن عوف بن الحرث"، و هو شاعر جاهلي مقل، أحد الصعاليك العدائين. كان يعدو على رجليه عدوا يسبق به الخيل. وكان يغير على قبائل العرب. وكان "قيس بن الحدادية" من الشعراء الصعاليك الفاتكين الشجعان. خلعته خزاعة بسوق عكاظ، وأشهدت على نفسها بخلعها اياه، فلا تحتمل جريرة له، ولا تطالب بجريرة جمرها أحد عليه.
ومن بقية الصعاليك "الشنفرى" و "تأبط شرا". غير إن اعرفهم وأشهرهم

(1/2258)


--------------------------------------------------------------------------------

وحامل لواء الصعلكة فيهم، هر "عروة بن الورد"، الذي نصب نفسه سيدا على الصعاليك. فكان يجمعهم ويشركهم فيما يغنمه ويرزقهم من رزقه. ويبذل جهده لمواساتهم. فاجتمع حوله صعاليك "عبس"، وهو منهم واتخذ لهم حظائر آووا إليها، ولهذا نعت ب "عروة الصعاليك". قال أهل الأخبار: إنما قيل له عروة الصعاليك مع أنه عروة بن الورد، لأنه كان يجمع الفقراء في حظيرة، فيرزقهم بما يغنمه. فعروة لم يكن فقيرا محتاجا معدما، كما يفهم من لفظة "صعلوك". لقد كان في وسعه إن يجمع مالا مما كان يغنمه من غاراته على العرب، فيكون حسن الحال غنيا. لكنه فضل الصعلكة على اكتناز المال، ورجح إشراك الفقراء فيما يغنمه على جمعه له و استئثاره له وحده، لأن له مروءة تأبى عليه إن ينام شبعانا وجاره فقير جائع. فكان ينفق ما يغنمه على المحتاجين فهو صاحب مذهب إنساني أحس بالألم، وأدرك ما أصابه يوم خلعه أهله من شدة و ضنك، فأراد إن يخفف من آلام أمثاله ممن خلعهم مجتمعهم لعدم وقوفه على أسباب خروجهم عليه. فصار بذلك نصير الصعاليك. ولقد ذكره "عبد الملك ابن مروان"، فقال: "ما كنت احب إن أحدا ولدني من العرب إلا عروة بن الورد". فعروة صعلوك فلسف، الصعلكة بأن جعلها مثلا من مثل الحياة، بينما كانت تعني فقرا مدقعا و جوعا قتالا و هياما على وجه الأرض للاستجداء.

(1/2259)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد كون الصعاليك عصابات تنقلت من مكان إلى مكان تسلب المارة و تغير على أحياء العرب، لترزق نفسها و من يأوي اليها. أنضم اليها الصعاليك من مختلف القبائل. و لكون أكثر الصعاليك من الشبان الطائشين الخارجين على أعراف قومهم، و من الذين لا يبالون و لا يخشون أحدا، صاروا قوة خشي منها، و حسب لها حساب. خاصة و فيها شعراء فحول، يحسنون الهجاء و يتقنون فن ثلب الأعراض، و فيها مقاتلون شجعان لا يعبأون بالموت، يفتكون بمن يريدون الفتك به. و خافهم الناس و امتنعوا جهد إمكانهم من التحرش بهم و معاداتهم، و منهم من قبل جوار الصعاليك ورد عنهم و أحسن إليهم فأستفاد منهم و استفادوا منه.
وقد كان العرب ينفون الخلعاء إلى أماكن معينة مثل "حضوضى"، و هو جبل في الجزيرة العربية كان الناس في الجاهلية ينفون إليه خلعاءها. و قيل جبل في البحر أو جزيرة فيه، كانت العرب تنفي إليه خلعاءها.
الفصل السادس و الأربعون
أنساب القبائل
تحدثت في مواضع متعددة من هذا الكتاب عن تقسيم القبائل العربية المألوف عند الأخباريين. أما الحديث في هذا الفصل، فهو عن أثر القبائل العربية في الجاهلية المتصلة بالإسلام. وبعبارة أخرى القبائل العربية التي كانت في القرن السادس للميلاد. ويضيق بنا هذا الفصل لو أردنا الكلام على جميع القبائل وبطونها وأفخاذها وعمائرها، لذلك سأكتفي في هذا الفصل بذكر القبائل الكبرى و بالإشارة إلى بطونها إن كانت مهمة. وفي كتب الأخباريين والمؤلفات المدونة في الأنساب الكفاية لمن طلب المزيد.

(1/2260)


--------------------------------------------------------------------------------

والتصنيف المألوف للقبائل هو حاصل عرف جرى عليه النسابون، ولا نعرف تدوينا لأهل الجاهلية للأنساب، إنما نعرف إن أول تدوين رسمي كان هو التدوين الذي تم في زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، حيث ظهرت الحاجة إلى التسجيل، فسجلت. ولم تصل ويا للأسف سجلات ذلك الديوان إلينا، ولم يصرح أحد من النسابين انه أخذ مادة أنسابه من تلك السجلات. و إنما الذي بين أيدينا هو خلاصة وجهة نظر النسابين في أنساب القبائل، وعلى هذا التقسيم اعتمد المعنيون بهذا الموضوع.
و إذا غضضنا الطرف عن التصنيف المتبع في حصر أنساب العرب كلها في أصلين أساسيين قحطان وعدنان، فاننا نرى القبائل كما يفهم من روايات الأخباريين كتلا، ترجع كل كتلة منها نسبها إلى جد قديم تزعم إن قبائلها انحدرت من صلبه. وقد تحدثت مرارا عن طبيعة هؤلاء الأجداد.
ومن هذه الكتل التي كانت عند ظهور الإسلام، كتلة حمير، وكتلة كهلان، وكتلة قضاعة، وكتلة مضر، وكتلة ربيعة. وكل كتلة مجموعة قبائل كبيرة، ترجع في عصبيتها إلى تلك الكتلة.
أما حمير، فقد تحدثت عنها سابقا، وأشرت إلى ورود اسمها لدى بعض الكتبة الكلاسيكيين مثل "سترابون" والمؤرخ "بلينيوس" وذلك في أثناء كلامه
على حملة "أوليوس غالوس" حيث عدها من أشهر القبائل العربية التي كانت في اليمن إذ ذاك، كما أشرت إلى ورود اسمها في نصوص المسند التي يعود تأريخها إلى ما بعد الميلاد، وهو اسم أرض معينة واسم شعب. أما الذي نفهمه من الأخباريين، فهو إن حمير اسم واسع يشمل قبائل قحطان عند ظهور الإسلام. وقد يكون مرد ذلك إلى ظهور هذه القبيلة في هذا الزمن وبروزها في هذا العهد في اليمن، فانتمى إليها كثير من القبائل على العادة الجارية في الانتماء إلى المشاهير.

(1/2261)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرجع النسابون نسب حمير إلى حمير بن سبأ الأكبر بن يشجب بن يعرب، ويقولون إن اسمه "العرنج" "العرنجج"، وهو في نظرهم والد جملة أولاد، جعلهم بعضهم شعة، هم: الهميسع، ومالك، وزيد، وعريب، ووائل و "مشروح" مسروح، ومعد يكرب، وأوس، ومرة. وجعلهم بعض آخر أقل من ذلك، أو أكثر عددا.
و هم أنفسهم أجداد قبائل حمير. ومن نسل هؤلاء: بنو مرة، وهم في حضرموت، والأملوك، و بنو خيران، وذو رعن، و بنو هوزن، و الأوزاع، وبنو شعبان، وبنو عبد شمس، وبنو شرعب، وزيد الجمهور. وبنو الصوار، و أكثر قبائل حمير منهم. وقد كان الملك فيهم وبقي إلى مبعث الرسول. ومنهم الحارث الرائش الذي غزا - على زعم الأخبارين - الأعاجم والروم، وعرف ب "ملك الأملاك"، وحملت إليه الهدايا من أرض الصين وبلاد الترك والهند، وملك الأرض بأسرها، و أدت إليه جميع الناس الخراج. وقد جعلوا مدة حكمه خمسا وعشرين و مئة سنة، وهي مدة لا أدري كيف اكتفى بها أصحاب الأخبار الذين اعتادوا منح العمر الطويل لملوك هم أقل شأنا ودرجة بكثير من هذا الملك المظفر السعيد.
ويظهر لنا من تدقيق منازل القبائل والبطون المنسوبة إلى حمير، إنها كانت في العربية الجنوبية، و إنها بقيت في مواضعها على الغالب في الإسلام. بينما نجد قبائل "كهلان" وبطونها، وهي فرع سبأ الثاني وقد سكنت في مواضع بعيدة عن اليمن. وهي قبائل ضخمة. اضخم من قبائل حمير. ثم إنها كانت تتكلم بلهجة قريبة من لهجة القرآن الكريم في الإسلام. أما بطون حمير، فقد كانت تتكلم بلغة ركيكة رديئة غير فصيحة بعيدة عن العربية على حد تعبير الأخباريين، ويظهر إن هذا التباين كان عاملا مهما في تمييز حمير عن غيرها وفي حشر البطون في جذم حمير. فمن حافظ على لهجته القديمة، وبقي يستعملها، عد في هذا الجذم. ولم محافظ على هذه اللهجات إلا الذين بقوا في أماكنهم وفي مواضعهم، ولم يختلطوا بالقبائل الأخرى التي تأثرت لهجتها بلهجة القرآن الكريم.

(1/2262)


--------------------------------------------------------------------------------

وحمير عند الأخباريين أبو الملوك التبابعة والاذواء والأقيال، و هو شقيق كهلان أبي الملوك من الأزد من بني جفنة ومن لخم. ويلاحظ انهم قد حصروا حكم اليمن والقبائل القحطانية المقيمة بها في حمير، على حين جعلوا الملك على عرب الشام وعرب العراق ويثرب في أيدي المنتسبين إلى كهلان، أي انهم خصوا الحكم في خارج اليمن بايدي إخوة حمير، فوزعوا الملك في اليمن وفي خارجها بين الأخوين.و حمير في عرفهم هو الابن الأكبر لسبأ، فلعل هذا الكبر هو الذي شفع له إن يكون الوارث لليمن، والحاكم على قبائل قحطان و عدنان فيها. وأخذ مكانة الأب بعد موته والجلوس على عرشه، ميزة لا ينالها إلا الابن البكر، وقد ملك حمير بعد أبيه على حد قولهم أكثر من مئة عام.
ويذكر قوم من الأخباريين إن حكم حمير كان للملوك منها، ثم للاقيال. وللقيل هو الذي يخلف الملك في مجلسه، فيجلس في مكانه، ويحكم فلا يرد حكمه. ومن هؤلاء الأقيال على زعممهم المثامنة، "وهم ثمانية رجال كانوا من حمير، وكانوا ملوكا على قومهم، وهم من تحت أيدي ملوك حمير، وأولادهم قبائل من حمير، ويسمون المثامنة. وكان من شأنهم لا يتملك ملك من حمير إلا بإرادتهم، وان اجتمعوا على عزله عزلوه. وهم: يزن، وسحر، وثعلبان الأكبر، ومرة ذو عثكلان. هؤلاء من أولاد سبأ الأصغر. ومقار بن مالك من أولاد حمير الأصغر، وعلقمة ذو جدن، وذو صرواح".
ويلي الأقيال في الحكم الأذواء، وهم كثرون منهم: ذو فيفان، وذو يهر، وذو يزن، وذو اصبح، وذو الشعبين، وذو حوال، وذو مناخ، وذو يحضب، وذو قينان.
ولما أعاد "عمر بن يوسف بن رسول" مؤلف كتاب "طرفة الأصحاب في

(1/2263)


--------------------------------------------------------------------------------

معرفة الأنساب" المتوفى سنة ست وتسعين وستمائة، وهو نفسه ملك من ملوك اليمن، الحديث عن المثامنة، ذكر انهم ثمانية أقيال استقاموا بعد سيف بن ذي يزن، وهم: آل ذي مناخ، وآل ذي يزن، وآل ذي خليل، وآل ذي مقار، وآل ذي عثكلان ؛ وآل ذي ثعلبان، وآل ذي معافر، وآل ذي جدن. وأعظهم آل ذي يزن لخؤولة أسعد الكامل. وهكذا نجده يرجع تأريخ ظهورهم إلى ما بعد أيام سيف بن ذي يزن، ثم يرجعها إلى ما قبل ذلك، ويغير في الأسماء ويبدل. ولكن علينا إن نعلم إن الأخباريين لا يعرفون التواريخ على وجه صحيح مضبوط، ثم انهم يخلقون من الرجل جملة رجال، فخلقوا من أبرهة مثلا، وقد عرفنا زمانه، جملة أبرهات، وزعوا أيامها في أزمان تبدأ عندهم قبل أيام سليمان بن داوود وتنتهي بأبرهة الحقيقي حاكم اليمن يعد الميلاد. فلا غرابة إن ذكروا أكثر من سيف بن ذي يزن ورجعوا بتاريخ أيامه إلى الوراء.
وكثر من أسماء البطون والقبائل التي يرجع النسابون نسبها إلى حمير، هي أسماء وردت في نصوص المسند، ومنها أسماء قبائل وبطون حقا، ولكنها ليست بالطبع على" الشكل الذي يراه الأخباريون، و لا من حمير بال ضرورة. هي أسماء أقوام ولكنها خالية من الآباء والأجداد. أما الآباء و الأجداد، فهي من مولدات المتأخرين منهم، وأغلب ظني إنها من المستحدثات التي ظهرت في الجاهلية المتصلة بالإسلام وفي الإسلام. وقد ذكر الأخباريون أسماء عدد كبير من البطون والقبائل المنتمية إلى حمير، كان لها شأن كبير في تأريخ اليمن في الإسلام. أما في خارجها، فقد أعطى الأخباريون الأدواء الكرى لأبناء كهلان.

(1/2264)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما "قضاعة" فللنسابين في أصلها آراء، منهم من أرجع نسبها إلى حمير، فجعل نسبها قضاعة بن مالك بن عمرو بن مرة بن زيد بن حمير. ومنهم من نسبها إلى معد"، فجعل قضاعة الابن البكر لمعد، ومنهم من صيرها جذما مستقلا مثل جذم قحطان و عدنان. ومرد هذا الاختلاف إلى عوامل سياسية أثرت تأثرا كبيرا في تصنيف الأنساب، ولا سيما في أيام معاوية وابنه يزيد، اللذين بذلا أموالا جسيمة لرؤساء قضاعة في سبيل حملهم على الانتفاء من اليمن والانتساب إلى معد، لكنونها قوة كبيرة في بلاد الشام في ذلك العهد، ولا سيما إن منهم بني كلب، فذكر إن زعماءها وافقوا تجاه هذه المغريات على الانتساب إلى معد، غير إن الأكثرية رفضت ذلك، وأبت إلا الانتساب إلى قحطان. ويرى بعض النسابين والمستشرقين إن انتساب قضاعة إلى يمن غير قديم. "قال أبو جعفر بن حبيب النسابة: لم تزل قضاعة في الجاهلية والإسلام،. تعرف بمعد حتى كانت الفتنة بالشام بين كلب وقيس عيلان أيام مروان بن الحكم. فمالت كلب يومئذ إلى اليمن، فانتمت إلى حمير، استظهارا منهم بهم إلى قيس. وذكر ابن الأثير في الأنساب هذا الاختلاف، ثم قال: ولهذا قال محمد بن سلام البصري النسابة لما سئل: أنزار أكثر أم اليمن? فقال: إن تمعددت قضاعة، فنزار أكثر، وان تيمنت، فاليمن". والظاهر إن اختلاط قبائل قضاعة بقبائل قحطان وبقبائل عدنان هو الذي أحدث هذا الارتباك بين أهل الأنساب، فجعلهم ينسبونها تارة إلى قحطان، وأخرى إلى عدنان. تضاف إلى ذلك العوامل السياسية التي يغفل عن إدراكها أهل الأخبار.
ولا استبعد كون قضاعة كتلة من القبائل كانت قائمة بنفسها. قبل الإسلام. ربما كانت حلفا كبيرا في الأصل، ثم تجزأت وتشتتت، فالتحق قسم منها بمعد، وقسم منها باليمن.

(1/2265)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد صرح بعض النسابين المعروفين إن العرب ثلاث جراثيم: نزار، واليمن و قضاعة. فجعل قضاعة جذما قائما بذاته مما يشير إلى أهميتها قبل الإسلام وفي الإسلام، خاصة إذا ما تذكرنا مكانة القبائل المنتمية إليها وأثرها الكبير في السياسة في الجاهلية وبعدها. ولما للنسب من أثر خطير في الميزان السياسي لذلك العهد، خاصة في أيام معاوية وفي دور الفتن التي وقعت في صدر دولة الأمويين، ولثقل هذه الكتلة، كان من المهم لمعاوية اجتذابها إليه، وضمها إلى معد وهو منها، لتقوية هذا الحزب.
وكان قضاعة جد القضاعيين الأكبر على رواية أهل الأخبار، مثل سائر أبناء سبأ، مقيما في اليمن أرض آبائه وأجداده. ولكنه تشاجر مع وائل بن حمير، وتخاصم معه وآثر الهجرة إلى الشحر، فذهب إليها، وأقام في هذه الأرض مع أبنائه، وصار ملكا عليها إلى إن توفي بها، فقبر هناك فصار الملك لابنه "الحاف" "الحافي"، وهو في زعم الأخباريين والد ثلاثة أولاد، هم: عمرو، وعمران، وأسلم. ومن نسل هؤلاء تفرعت قبائل قضاعة. وأما أمهم، فبنت غافق بن الشاهد بن عك. فكان من صلب عمرو: حيدان: وبلي، وبهراء. وكان من عمران ابنه حلوان، وأمه ضرية بنت ربيعة بن نزار بن معد. فولد حلوان: تغلب، وربان، ومزاحا وعمرا وهو سليح، وعابدا وعائذا وقد دخلا في غسان، وتزيد وقد دخل نسله في تنوخ. وكان من نسل اسلم: سد هذيم، وجهينة، ونهد.
وجعل من رجع نسب قضاعة إلى معد، الأرض التي أقام فيها قضاعة وأبناؤه جدة وما دونها إلى منتهى ذات عرق، إلى حيز الحرم، من السهل والجبل. وبجدة ولد جدة بن جرم بن ربان بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة وبها سمي على قول أصحاب الأخبار.

(1/2266)


--------------------------------------------------------------------------------

أما حيدان، فتنسب إلى حيدان بن عمرو بن الحاف، والد مهرة في نظر النسابين، فهو جد قبيلة عربية جنوبية على هذا الرأي، وما زال اسم مهرة معروفا حتى ألان. ولمهرة لغة خاصة، عني بدراستها المستشرقون. وهم من القبائل العربية القديمة التي ورد ذكرها في مؤلفات "الكلاسيكيين". وقد علل بعض العلماء القدماء بعد لغة جمهرة عن العربية بقوله: "مهرة انقطعوا بالشحر، فبقيت لغتهم الأولى الحميرية لهم، يتكلمون بها إلى هذا اليوم". وذكر ابن حزم لحيدان أولادا آخرين، هم يزيد، وعريب، وعربد، وجنادة.
ويظهر من روايات النسابين إن بطون حيدان لم تكن كثيرة، وان مواطنها لم تتجاوز العربية الجنوبية، وإنها كانت تتكلم بلهجات العربية الجنوبية القديمة، وحافظت عليها في الإسلام. فهي مثل بطون حمير، تختلف في لهجتها عن القبائل الأخرى التي تكلمت بلهجة مقاربة من اللهجة العربية الفصحى. إذن فما الرابط الذي جعل النسابين يرجعون نسب قبائل حيدان إلى قضاعة مع هذا الاختلاف البين في اللهجات? ومع سكناها في محل قاص ناء عند الساحل الجنوبي للجزيرة? اللهم إلا إن تكون كل فروع قضاعة على هذا الطراز من اللهجات، وهذا أمر لم يتحدث عنه الأخباريون ولم يعرفوه.
وأما بلي، فقد كانت مواطنهم عند ظهور الإسلام على مقربة من تيماء بين مواطن جهينة وجذام، أبمب في المنطقة التي كانت لثمود في جغرافية "بطلميوس". ومن بلي، بنو فران وهني.
ولم يذكر الأخباريون بطونا ضخمة عديدة لبهراء، ويظهر إنها لم تكن من القبائل الكثيرة العدد. ومن بطونها: قاسط، وعبدة، وأهود "أهوذ"، ومبشر، وبنو هنب بن القين، وبنو فائش "بنو قاس"، و شبيب ابني دريم، و مطرود، وثمامة، و عكرمة، و ثعلبة، و دهز، وسعد.
وأما عمران بن الحاف "الحافي". فولد حلوان، وقد ولد هذا جملة أولاد هم: تغلب، وربان وهو علاف، ومزاح، وعمرو ? وهي سليح، وعابد، وعائذ، وهم أجداد قبائل، كما ذكرت ذلك آنفا.

(1/2267)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن بني سليح: حماطة، وهم ضجعم بن سعد بن سليح، وهم الضجاعمة الذين ملكوا بالشام قبل غسان. وبنو سليح هم أسلاف الغساسنة كذلك، وهم في نظر النسابين أبناء: سليح بن حلوان بن عمران بن الحاف. ونسبت إلى سليح بطون أخرى منها: أشجع وعمرو والأبصر وال****،.
ومن نسل "ربان" "زبان"، قبيلة "جرم"، ومن ولد جرم: قدامة، وملكان، وناجية، وجدة. ومن جرم كان "عصام" حاجب النعمان. ومن بطون جرم الأخرى: بنو راسب، وبنو شمخ.
أما تغلب بن حلوان، فولد وبرة، وولد وبرة أسدا، والنمر وكلبا. وهي قبائل ضخمة، والبرك، والثعلب، وهما بطنان ضخمان. وولد أسد، تيم الله وشيع اللآت. فولد تيم الله بن أسد: فهم، وهم من تنوخ؛ وقسم، وهم بالجزيرة، حلفاء لبني تغلب، ومن فهم: مالك بن زهير بن عمرو بن فهم ابن تيم الله بن أسد بن وبرة. وعليه تنخت تنوخ وعلى عم أبيه مالك بن فهم، فتنوخ على ثلاثة أبطن: بطن اسمه فهم، وهم هؤلاء. وبطن اسمه نزار، وهم لوث، ليس نزار لهم بوالد ولا أم. ولكنهم من بطون قضاعة كلها، من بني العجلان بن الثعلب، ومن بني تيم الله بن أسد بن وبرة، ومن غيرهم؛ وبطن ثالث يقال له الأحلاف، وهم من جميع القبائل كلها، ومن كندة ولخم وجذام وعبد القيس.
ومن نسل شنيع اللآت: بنو القين. وهو النعمان بن جسر بن شيع اللآت بن أسد بن وبرة. ومن بطون بني القين، جشم "جسم"، وزعيزعة، وأنس، وثعلبة، وفالج، وبنو مالك بن كعب بن القين. وكعب وكنانة، ومالك ومعاوية. وبطون أخرى ذكرها "وستنفلد". وكان للقين جمع عظيم وثروة في أكناف الشام، فكانوا يناهضون كلب بن وبرة، ثم ضعف أمرهم ووهن حتى ما يكاد إن يعرفوا.

(1/2268)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن نسل النمر بن وبرة بن تغلب: التم، وجعثمة، ووائل وهو خشين، وقتبة، وغاضرة، و "عاينة" عاتية، وبطون أخرى دخلت في قبائل عديدة، فعدت منها، مما يدل على إنها لم تكن ذات عدة وعدد، لذلك كان لا بد لها من الدخول في القبائل الأخرى والاندماج فيها، لحماية نفسها من تعديات القبائل والبطون القوية عليها.
وكلب من قبائل قضاعة الشهيرة. وتنسب إلى هذه المجموعة: تغلب بن حلوان فجدها. في عرف النسابين كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن، الحاف بن قضاعة. و كانوا ينزلون في الجاهلية دومة الجندل و تبوك وأطراف الشام.،وقد كانت لهم لهجة خاصة لم يستعملها أحد من الشعراء. الجاهليين. ولعل ذلك بسبب اتصال هذه القبيلة بالنبط، أي ببقية بني ارم وبغيرهم ممن لم تكن لهم لهجة عربية نقية، فتأثرت لهجتها بهذا الاختلاط.
واشتهر من رجال هذه القبيلة زهير بن جناب، وهو ممن يدخله الأخباريون في المعمرين الجاهليين. وجعلوا عمره أربع مئة وعشرين سنة، ونسبوا إليه مئتي وقعة، وجعلوه سيد قومه وخطيبهم وشاعرهم ووافدهم إلى الملوك وطبيبهم وكاهنهم وفارسهم، ونسبوا إليه الأمثال والشعر، وذكروا إن من شعره قوله: ونادمت الملوك من آل عمرو وبعدهم بني ماء السماء
وأنه قاله وقد بلغ من العمر مئتي عام، فجعلوه بذلك معاصرا للمناذرة ملوك الحيرة، فيكون على قولهم هذا قد عاشر طويلا في الإسلام. وقد أدرك هشام ابن الكلبي هذا التناقض في إحدى رواياته، فصحح عمر زهير واقتصر على مئتي عام. وهو عمر كاف ولا شك يشتاق إن يبلغه كل إنسان. ولكنه عمر استقله الأشياخ الكلبيون الذين لا يرضيهم هذا التنقيص في السن.

(1/2269)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم يكن زهير رئيسا لكلب خاصة، بل كان على رأي الرواة الكلبيين رئيسا على كل قضاعة. ويذكر الأخباريون إن قضاعة لم تجمع على إطاعة رئيس إلا زهيرا و إلا رزاح بن ربيعة، وهو من عذرة. وكان رزاح هذا أخا قصي بن كلاب لأمه. وقد جعل الأخباريون زهيرا معاصرا لكليب بن وائل. ويفهم من شعر منسوب إلى المسيب بن الرفل، وهو من ولد زهير بن جناب قاله مفتخرا بزهير متبجحا به: إن ابرهة كان قد اصطفى آل زهير، وسودها على الناس، و أعطاه الإمرة عليهم، وجعله أميرا على حيي معد وعلى ابني وائل حيث أهانهما وأذلهما. ومعنى ذلك إن زهيرا كان في أيام ابرهة، أي في النصف الأول من القرن السادس للميلاد، وأنه على ذلك كان معاصرا لقصي زعيم قريش.
ولم يقنع الرواة الكلبيون بكل ما ذكروه عن حياة زهير، بل أرادوا إن تكون خاتمة زهير خاتمة غريبة كذلك كغرابة حياته، فذكروا انه كبر حتى خرف وحتى استخفت به نساؤه، وأنه لم يتمكن من الأكل، بنفسه، فصارت معزبته تطعمه بنفسها، إلى إن مل الحياة على هذا النمط، فأخذ يشرب الخمر صرفا أياما حتى مات. وذكروا إن أحدا من العرب لم يفعل هذا الفعل غير زهير وغير أبي براء عامر بن مالك بن جعفر، والشاعر عمرو بن كلثوم.

(1/2270)

admin
12-31-2010, 07:46 PM
ومن حروب زهير حربه مع بكر وتغلب ابني وائل، ويروي الأخباريون في ذلك إن ابرهة حين طلع على نجد أتاه زهير فأكرمه و فضله على من أتاه من العرب، ثم أقره علي بكر وتغلب ابني وائل، فوليهم. وصار يجبي لهم الخراج، وحدث إن أصابتهم سنة شديدة لم يتمكنوا فيها من دفع ما عليهم إليه. فلما. طالبهم بها، اعتذروا عن الدفع، فاشتد عليهم، ومنعهم من النجعة حتى يؤدوا ما عليهم، فكادت مواشيهم تهلك. فلما رأى ذلك "ابن زيابة" أحد بني تيم الله ابن ثعلبة، وكان فاتكا معروفا، أتى زهيرا. وهو نائم، فاغمد السيف في بطنه، ثم فر هاربا ظانا انه قد أهلكه. ولما أفاق زهير، أخذه من كان معه من قومه حتى وصلوا به إلى قبيلته، فجمع عندئذ جموعه ومن قدر عليه من أهل اليمن، وغزا بهم بكرا وتغلب، وقاتلهم قتالا شديدا انهزمت به بكر، وقاتل تغلب بعدها، فانهزمت أيضا، وأسر كليب ومهلهل ابنا ربيعة، وأخذت الأموال، وكثرت القتلى في بني تغلب، وأسرت جماعة من فرسانهم ووجوههم، وانتصر زهير نصرا عظيما.
ونسبت إليه حرب أخرى مع غطفان، قالوا إن سببها إن بني ريث بن غطفان حين خرجوا من تهامة ساروا بأجمعهم، فتعرضت لهم صداء، وهي قبيلة من مذحج، فقاتلوهم، وبنو بغيض سائرون بأهليهم وأموالهم، فقاتلوهم عن حريمهم فظهروا على صداء وفتكوا فيهم، فعزت بغيض بذلك، وأثرت، وكثرت أموالها، فلما رأت ذلك، قالت: "والله لنتخذن حرما مثل مكة لا يقتل صيده ولا يهاج عائذه"، فبنوا حرما، ووليه "بنو مرة بن عوف" فلما بلغ فعلهم وما اجمعوا عليه زهير بن جناب، أبى ذلك، وقرر منع غطفان من اتخاذ هذا الحرم، فسار إليها بجموع كبيرة، فظفر بها، وأصاب حاجته منها، وأخذ فارسا منهم في حرمهم فقتله، وعطل ذلك الحرم.
وروى الأخباريون انه حارب بني القين بن جسر. وكانت له أخت متزوجة فيهم، فأرسلت من اخبره بعزم بني القين على محاربته، فاستعد لها، فقاتلها، وقتل رئيسها وانصرفت خائبة عنه.

(1/2271)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من غربلة روايات الأخباريين عن زهير بن جناب، إن بطل كلب هذا كان من رجال القرن السادس للميلاد، وأنه لم يكن بعيد عهد عن الإسلام، وأنه كان معاصرا لأبرهة، ولعله كان قد تحالف معه، فترك حلفه معه أثرا في ذاكرة الأخباريين. والظاهر انه كان ذا شخصية قوية، محاربا، حارب جملة قبائل فأخضعها، وبذلك بسط نفوذه عليها، ورفع اسم قبيلته على القبائل الأخرى. ولعل اتصاله بابرهة وباليمن هو الذي أوجد رابطة نسب قبائل قضاعة بحمير. وقد سبق إن قلت إن المحالفات كانت تؤدي في الغالب إلى الالتحام في الأنساب.
أما ما أورده الأخباريون بشأن زمانه وعمره، فهو مما لا قيمة له. فمن عادة القصاص، رفع من كانوا يتحدثون عنهم من الشخصيات البارزة التي كانت لها شان وخطر في القدم، و إضافة السنين الطويلة إلى أعمارهم، والمبالغات و الأغراب إلى قصصهم ليكون ذلك أوقع في نفوس السامعين وفي مخيلة المعجبين بهذا النوع من الحكايات. ولهذا الأغراب جعل بعض المستشرقين زهيرا شخصية خرافية، وبطلا خياليا أوجدته على رأيهم مخيلة الأخباريين، ولكن الأغراب في القصص مهما بولغ فيه لا يكون حجة قاطعة في كون من قيل فيه شخصية خرافية لاوجود لها. فقد اغرب الأخباريون في ابرهة معاصر زهير، وبالغوا في الذي رووه عنه، ورفعوا أيامه إلى أيام داوود وأيام سليمان، وجعلوا له أياما أخرى. ولكن ابرهة فند أقاصيصهم عنه وبين في كتاباته التي دونها على سد مأرب انه من رجال القرن السادس للميلاد.

(1/2272)


--------------------------------------------------------------------------------

ومعظم من روى عنهم الأخباريون هذا النوع من القصص، هم رجال مثلنا، عاشوا وماتوا، وكانت أيامهم في الغالب في القرن السادس للميلاد، أي في عهد لم يكن بعيدا جدا عن الإسلام لم تتمكن ذاكرة الرواة وحفظة الأخبار من حفظ شيء عنهم، إلا هذا النوع من القصص المحبوب، المطلوب من الناس، يقصه القصاصون في الليالي المقمرة الجميلة ويقصه المعمرون من رجال القبيلة ليكون فخرا لقبيلتهم. وهذا النوع من القصص هو نوع بدائي من أنواع حفظ التأريخ، وأكثر من حفظ وروى أخبار زهير بن جناب الشرقي بن القطامي، و هشام بن الكلبي، و أبوه محمد، وجماعة آخرون من المشايخ الكلبيين. كانوا يروون هذا النوع من القصص عن رجال كلب، حملهم على ذلك تعصبهم لقبيلتهم كلب.
و أكثر ما روي عن كلب، هو من إخراج تلك الأيدي الكلبية، نشرته وأذاعته بين الناس، ومن حسن حظ كلب إن شيوخ الأخباريين الذين ذكرتهم كانوا منها، فكان لقصصهم هذا صداه البعيد عند جمهرة الأخباريين.
وكلب في حد ذاتها جملة قبائل وبطون ضخمة، منها: رفيدة، وعرينة، و صحب، وبنو كنانة، وهي قبيلة ضخمة من بطونها: بنو عدي، وبنو زهير، وبنو عليم، وبنو جناب.
وذكر بعض الأخباريين إن كلبا كانت تحكم دومة الجندل، و أن أول من حكمها منهم هو دجانة بن قنافة بن عدي بن زهير بن جناب. وذكروا أيضا إن الملك على دومة الجندل وتبوك، كان لهم إلى إن ظهر الإسلام، وانهم كانوا يتداولونه مع السكون من كندة. فلما ظهر الإسلام، كان على دومة الجندل الأكيدر بن عبد الملك بن السكون.
وأظهر قبائل مجموعة أسلم، جهينة، وسعد هذيم، ونهد. ابناء زيد بن ليث ابن الأسود بن اسلم بن الحاف بن قضاعة. أما جهينة، فقد كانت منازلها في نجد في الأصل، وعند ظهور الإسلام كانت تقيم في الحجاز على مقربة من المدينة بين ساحل البحر الأحمر ووادي القرى.
ومن جهينة: قيس ومودعة. فولد قيس: غطفان وغيان. ويعرفون برشدان كذلك. عرفوا في أيام الرسول.

(1/2273)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما نهد، فقد سكنت اكبر بطونها في منطقة نجران. وقد دخلت بطون منها في قبائل أخرى واندمجت فيها. وأما سعد هذيم، فأشهر قبائلها: بنو عذرة، و بنو ضنة وتقع منازل بني عذرة في أعالي الحجاز في جوار عدد من القبائل المنتمية إلى مجموعة قضاعة، وهي: نهد، و جهينة، وكلب، و بلي. وتقع أرضها في جوار غطفان، ومن مواضعها: وادي القرى، و تبوك حتى ايلة. ويذكر الأخباريون إن بني عذرة حينما وفدوا إلى وادي القرى من مواطنهم الأصلية على اثر الحروب التي وقعت بين قبائل قضاعة وحمير، وجدوا اليهود في هذه الديار، فتحالفوا معهم، وعاشوا في هذا الوادي وفي المواضع المجاورة له.
وقد ذهب شبرنكر إلى إن "عذرة" هي "ادريته Adrithaess" القبيلة التي ذكرها "بطلميوس". أما تأريخ "عذرة" البعيدة عن الإسلام فلا نعرف عنه شيئا يذكر. وما نعرفه منه يخص الأيام القريبة من الإسلام. و إلى صلاتها الوثيقة وحلفها مع قبائل سعد هذيم، خاصة بني ضنة وبنو سلامان، يعود نشوء هذا النسب الذي ربط فيما بن فروع هذه الكتلة، وكذلك كتلة بني أسلم ومنها جهينة التي كانت ذات صلآت حسنة ببني عذرة. وهذا السبب أطلق النسابون على هذه الجماعة "صحار".
وكان لبني عشرة صلات بقبيلة قريش تتجلى في خبر الأخباريين عن مساعدة رزاح، وهو منهم لأخيه من أمه قصي زعيم قريش في نزاعه مع خزاعة كما أشرات إليه في أثناء كلامي على مكة. كذلك كانت لهم صلات بالأوس والخزرج حيث يذكر الأخباريين إن والدة الأوس والخزرج كانت من تلك القبيلة، فهي - في عرفهم - قيلة بنت كاهل "هالك" بن عذرة. وهكذا نجد لبني عذرة علاقات بأهل المدينتين المتنافستين: يثرب، ومكة. والزواج بين القبائل من الأمور التي تقرب بينها وتصل أنسابها بعضها ببعض.

(1/2274)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن بطون هذه القبيلة. بنو ضنة، وبنو جلهمة، وبنو زقزقة، وبنو الجلحاء، وبنو حردش، وبنو حن، وبنو مدلج على رأي بعض النسابين، وبنو رفاعة، وبنو كثر، وبنو صرمة، وبنو حرام، وبنو نصر، وبطون أخرى يذكرها أهل الأنساب.
وتنسب قبائل كثيرة من اليمن إلى كهلان بن سبأ، وكهلان هو شقيق حمير، فهناك إذن صلة بن قبائل حمير وقبائل كهلان. ويذكر النسابون إن بني كهلان وبني حمير تهانوا يتداولون الملك في بادئ الأمر بينهم، ثم انفرد به بنو حمير، وبقيت بطون كهلان في حكمهم في اليمن. فلما تقلص ملك حمير، صارت الرياسة على العرب البادية لبني كهلان، لما كانوا بادين لم يأخذ ترف الحضارة منهم. وهكذا نجد النسابين يقسمون أبناء سبأ إلى قسمين: حضر، وهم في رأيهم أبناء حمير، وأهل وبر أو متزعمون لأهل الوبر وهم من نسل كهلان. والابن الذي ذكره الأخباريون لكهلان، هو زيد ومن ظهره تسلسلت قبائل كهلان.
وقد نجل زيد، على حد قول النسابين، ولدين، هما:. مالك و عريب. وأضاف الهمداني إلى هذين الولدين ولدا ثالثا سماه غالبا. ومن صلب هؤلاء الأبناء انحدرت قبائل كهلان.
و نجل مالك من الولد الخيار ونبتا، فولد نبت الغوث وولد الغوث أدد، وهو الأزد، وعمرا. ومن ولد عمرو خثعم و بجيلة. ونجل عمرا و قداز ومقطعان "مقطعا" على رواية للهمداني.
أما الخيار فقد ولد ربيعة، وولد ربيعة أوسلة، وولد أوسلة زيد بن أوسلة، وولد زيد بن أوسلة مالكا وسبيعا وساعا الأكبر عاى رأي. ومالكا وتبع، وعبدا، على رواية ابن حزم. وقد دخل تبع وعبد في همدان. وولد مالك ابن زيد من الولد همدان والهان. وقد ولد همدان نوفا "نوفل?" بن همدان على رأي. وجملة أولاد آخرين على روايات أخرى. ومن نسل نوف تفرعت قبائل همدان: حاشد، وبكيل ابنا جشم بن خيران بن نوف.

(1/2275)


--------------------------------------------------------------------------------

أما عبريب، فولد يشجب على رواية ابن حزم، ونهرا على رواية الهمداني، فولد يشجب أو عمرو زيد بن يشجب أو زيد بن عمرو على اختلاف الروايتين. والهمينسع وهو ذو القرنين السيار ويكنى بالصعب على رواية ذكرها الهمداني. ونجل زيد أدد بن زيد، فولد أدد مرة، ونبتا، وهو الأشعر، وجلهمة وهو طيء، ومالكا، وهو ملحج. وقد تفرعت من هؤلاء قبائل وبطون.
والأزد قبائل عديدة تنتمي كما قلت إلى الأزد، وهو الغوث. وينسب الأخباريون بيتا من الشعر إلى حسان بن ثابت، يقولون: إنه قاله في نسب ا لأزد، هو: ونحن بنو الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان وأهل المفاخر
يذكرون انه قاله مفتخرا بهذا النسب، وهو منهم. وهو شعر قد يكون وضعه النسابون وأهل الأخبار على لسانه، وهو ما أظنه، ليكون دليلا لهم على صحة دعواهم في نسب الأزد، وهم يعلمون ما كان عليه الشاعر من تعصب لليمن. وقد ذكر الأخباريون أيضا إن حمير تقول إن، الأزد منهم، وانه هو الأزد بن الغوث الأكبر بن الهميسع بن حمير الأكبر. ولم يكفهم ذلك بل أرادوا إن يثبتوا هذا القول و يؤيدوه بشعر. والشعر في نظرهم سند قوي لإثبات رأي، ولا سيما إذا كان من شعر معمر أو ملك من الملوك القدماء. وقد قرأت في كتبهم ولا شك ما كتبوه من الأشعار على لسان آدم وهابيل و قابيل وعاد وثمود و أمثال ذلك من شعر زعموا انهم نظموه بهذه العربية الجميلة التي تكتب اليوم بها، فكيف لا يأتون بشعر لإثبات رأيهم في هذا الباب ينسب إلى التبابعة، وهم من خلص العرب وملوكها المعروفين البارزين? فرووا شعرا للتبع لسعد تبع، قالوا، انه ذكي فيه الأزد، وكانوا معه، فهم من حمير إذن وهو: ومعي مقاول حمير وملوكها و الأزد أزد شنوءة وعمان
وهكذا أضافوا إلى حمير الأزد بجملتها.

(1/2276)


--------------------------------------------------------------------------------

وأسعد تبع من التبابعة الذين لهم حظ سعيد عند الأخباريين، فهو مؤمن في نظرهم، وهو ذو القرنين. وهو من أعظم التبابعة، وأفصح شعراء العرب. ولم يكتفوا بما أغدقوا عليه من نعوت، بل أرادوا أكثر من ذلك وأبعد، فقالوا انه كان نبيا مرسلا إلى نفسه، وانه تنبأ بظهور الرسول، صلى الله عليه وسلم، قبل ظهوره بسبع مئة سنة، وانه قال شعرا في ذلك حفظه الناس هذه السنين الطويلة عنه، وانه لذلك نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن سبه. فهو إذن من المؤمنين الصالحين ومن رجال الجنة ولا شك، وهو قصص روجه ولا شك الحميريون والقحطانيون المتعصبون في الإسلام، ليسسكتوا بذلك خصومهم السياسيين. وهم في نظرهم العدنانيون الذين شرفتهم النبوة ورفعت مقامهم في الإسلام، فافتخروا بها على القحطانيين، ولم يكن القحطانيون أقل باعا في توليد القصص في الفخر من منافسيهم القحطانيين، فأوجدوا هذه الحكايات عن تبابعتهم، و أوجدوا لهم الفتوحات العظيمة، ثم لم يكفهم ذلك كله، فقالوا: إن النبوة إذا كانت في العدنانيين، فإنها كانت أيضا في القحطانيين، بل هي أقدم عهدا فيهم منهم، فمنهم كان عدة أنبياء. وهكذا سدوا الثغرة التي كان يهاجم منها العدنانيون.
و قد ولد الأزد عدة أولاد، منهم: مازن، ونصر، وعمرو، وعبد الله، ووقدان، و الأهبوب. ومن ولد مازن عمرو، وعدي، وكعب، وثعلبة. ومن ولد ثعلبة: عامر، وامرؤ القيس، وهو البطريق، وكرز. فولد امرؤ القيس حارثة، وهو الغطريف، وولد حارثة هذا عامرا المعروف بماء السماء، والتوأم، وهو عامر، وعديا.
و نجل مالك من الولد الخيار ونبتا، فولد نبت الغوث وولد الغوث أدد، وهو الأزد، وعمرا. ومن ولد عمرو خثعم و بجيلة. ونجل عمرا و قداز ومقطعان "مقطعا" على رواية للهمداني.

(1/2277)


--------------------------------------------------------------------------------

أما الخيار فقد ولد ربيعة، وولد ربيعة أوسلة، وولد أوسلة زيد بن أوسلة، وولد زيد بن أوسلة مالكا وسبيعا وساعا الأكبر عاى رأي. ومالكا وتبع، وعبدا، على رواية ابن حزم. وقد دخل تبع وعبد في همدان. وولد مالك ابن زيد من الولد همدان والهان. وقد ولد همدان نوفا "نوفل?" بن همدان على رأي. وجملة أولاد آخرين على روايات أخرى. ومن نسل نوف تفرعت قبائل همدان: حاشد، وبكيل ابنا جشم بن خيران بن نوف.
أما عبريب، فولد يشجب على رواية ابن حزم، ونهرا على رواية الهمداني، فولد يشجب أو عمرو زيد بن يشجب أو زيد بن عمرو على اختلاف الروايتين. والهمينسع وهو ذو القرنين السيار ويكنى بالصعب على رواية ذكرها الهمداني. ونجل زيد أدد بن زيد، فولد أدد مرة، ونبتا، وهو الأشعر، وجلهمة وهو طيء، ومالكا، وهو ملحج. وقد تفرعت من هؤلاء قبائل وبطون.
والأزد قبائل عديدة تنتمي كما قلت إلى الأزد، وهو الغوث. وينسب الأخباريون بيتا من الشعر إلى حسان بن ثابت، يقولون: إنه قاله في نسب ا لأزد، هو: ونحن بنو الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان وأهل المفاخر

(1/2278)


--------------------------------------------------------------------------------

يذكرون انه قاله مفتخرا بهذا النسب، وهو منهم. وهو شعر قد يكون وضعه النسابون وأهل الأخبار على لسانه، وهو ما أظنه، ليكون دليلا لهم على صحة دعواهم في نسب الأزد، وهم يعلمون ما كان عليه الشاعر من تعصب لليمن. وقد ذكر الأخباريون أيضا إن حمير تقول إن، الأزد منهم، وانه هو الأزد بن الغوث الأكبر بن الهميسع بن حمير الأكبر. ولم يكفهم ذلك بل أرادوا إن يثبتوا هذا القول و يؤيدوه بشعر. والشعر في نظرهم سند قوي لإثبات رأي، ولا سيما إذا كان من شعر معمر أو ملك من الملوك القدماء. وقد قرأت في كتبهم ولا شك ما كتبوه من الأشعار على لسان آدم وهابيل و قابيل وعاد وثمود و أمثال ذلك من شعر زعموا انهم نظموه بهذه العربية الجميلة التي تكتب اليوم بها، فكيف لا يأتون بشعر لإثبات رأيهم في هذا الباب ينسب إلى التبابعة، وهم من خلص العرب وملوكها المعروفين البارزين? فرووا شعرا للتبع لسعد تبع، قالوا، انه ذكي فيه الأزد، وكانوا معه، فهم من حمير إذن وهو: ومعي مقاول حمير وملوكها و الأزد أزد شنوءة وعمان
وهكذا أضافوا إلى حمير الأزد بجملتها.

(1/2279)
وأسعد تبع من التبابعة الذين لهم حظ سعيد عند الأخباريين، فهو مؤمن في نظرهم، وهو ذو القرنين. وهو من أعظم التبابعة، وأفصح شعراء العرب. ولم يكتفوا بما أغدقوا عليه من نعوت، بل أرادوا أكثر من ذلك وأبعد، فقالوا انه كان نبيا مرسلا إلى نفسه، وانه تنبأ بظهور الرسول، صلى الله عليه وسلم، قبل ظهوره بسبع مئة سنة، وانه قال شعرا في ذلك حفظه الناس هذه السنين الطويلة عنه، وانه لذلك نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن سبه. فهو إذن من المؤمنين الصالحين ومن رجال الجنة ولا شك، وهو قصص روجه ولا شك الحميريون والقحطانيون المتعصبون في الإسلام، ليسسكتوا بذلك خصومهم السياسيين. وهم في نظرهم العدنانيون الذين شرفتهم النبوة ورفعت مقامهم في الإسلام، فافتخروا بها على القحطانيين، ولم يكن القحطانيون أقل باعا في توليد القصص في الفخر من منافسيهم القحطانيين، فأوجدوا هذه الحكايات عن تبابعتهم، و أوجدوا لهم الفتوحات العظيمة، ثم لم يكفهم ذلك كله، فقالوا: إن النبوة إذا كانت في العدنانيين، فإنها كانت أيضا في القحطانيين، بل هي أقدم عهدا فيهم منهم، فمنهم كان عدة أنبياء. وهكذا سدوا الثغرة التي كان يهاجم منها العدنانيون.
و قد ولد الأزد عدة أولاد، منهم: مازن، ونصر، وعمرو، وعبد الله، ووقدان، و الأهبوب. ومن ولد مازن عمرو، وعدي، وكعب، وثعلبة. ومن ولد ثعلبة: عامر، وامرؤ القيس، وهو البطريق، وكرز. فولد امرؤ القيس حارثة، وهو الغطريف، وولد حارثة هذا عامرا المعروف بماء السماء، والتوأم، وهو عامر، وعديا.
ويفهم من هذا البيت إن خزاعة إنما تخلفت عن الأزد بموضع "بطن مر"، وهو موضع من نواحي مكة، فأقامت به، ولم تلحق ببقية ولد عمرو بن عامر حين أقبلوا من مأرب يريدون الشام، وقد نسب "ياقوت الحموي" هذا البيت مع آبيات أخرى إلى عون بن أيوب الأنصاري الخزرجي.

(1/2280)


--------------------------------------------------------------------------------

ولبعض النسابين و الأخباريين رأي في نسب خزاعة، فهم يرون إنها من معد، أي من العدنانية، وإنها من نسل خزاعة بن لحي بن قمعة بن الياس بن مضر. ولكن الأكثرية من النسابين ترى إنها من الأزد، أي من قحطان.
وقد اختارت خزاعة بعد اعتزالها الأزد الذاهبين إلى الشام الإقامة بمكة، وكانت مكة بأيدي جرهم يومئذ أخذتها في أيام ملكها مضاض بن عمرو من العماليق أصحابها قبل جرهم، وساعده في ذلك "السميدع" ملك قطورا، و بقيت جرهم فيها إلى إن أجلتهم خزاعة عنها أجلاهم رئيسها يومئذ، وهو ثعلبة بن عمرو مزيقياء بعد حرب، فانتقل الحكم إلى الخزاعين. وتولاها رجال منهم تلقبوا كسابقيهم بألقاب الملوك.
وانفرد زعيم خزاعة لحي بالحكم، و تزوج فهيرة بنت عامر بن عمرو بن الحارث بن مضاض بن عمرو الجرهمي ملك جرهم، فولدت له عمرا، وهو عمرو بن لحي على نحو ما ذكرت. ثم انتقل الحكم من بعده إلى أولاده، فكان مجموع، ما حكموا خمس مئة عام، و أخرهم حليل بن حبشية في أيام قصي.
و للإخباريين روايات في كيفية استيلاء خزاعة على مكة، وفي الذي استولى عليها من رؤساء خزاعة، وهم يبالغون كثيرا في الزمن الذي استولت خزاعة فيه على مكة. وربما لا يتجاوز ذلك القرن الخامس للميلاد. أما تأريخ انتهاء حكمها على مكة وانتقاله إلى قريش في أيام قصي، فقد كان في النصف. الأول من القرن السادس للميلاد. ولكن انتقال السلطة منها إلى قريش لا يعني إنها أصيبه بما أصيبت جرهم أو غير جرهم به من ضعف واندثار، فقد بقيت خزاعة معرفة مشهورة ذات بطون عديدة في الإسلام.
فمن جملة خزاعة كعب ومليح وسعد، ومنهم بنو سلول بن عمرو، وبنو حليل بن حبشية سادن الكعبة، وبنو قمر، وبنو المصطلق الذين غزاهم الرسول، وبطون أخرى عديدة يذكرها النسابون.

(1/2281)


--------------------------------------------------------------------------------

وكانت خزاعة محالفة للرسول في نزاعه مع قريش. ولما وقعت حرب بينها وبين بني بكر، وأعان مشركو قريش حلفائهم بني بكر، ونقضوا بذلك العهد، نصر الرسول خزاعة، وأعلن الحرب على قريش، فكان ذلك سبب فتح مكة.
و يعد آل الجلندي، و هم ملوك عمان، من الأزد، كذلك و الجلندي لقب لكل من ملك منهم عمان. وآخر من ملك منهم جيفر و عبد ابنا الجلندي، أسلما مع أهل عمان على يد عمرو بن العاص، و قد كان "الجلندي بن المستكبر" يعشر من يقصد سوق "صحار"، ومن يقصد ميناء "، دبا" من التجار القادمين من مختلف أنحاء الجزيرة أو من الهند والصين و إفريقية. ويفعل في ذلك فعل الملوك. ويرجع نسب "المستكبر" إلى "بني نصر بن زهران بن كعب". وهو في عرف النسابين "المستكبر بن مسعود بن الجرار بن عبد الله. ابن مغولة بن شمس بن عمرو بن غنم بن غالب بن عثمان بن نصر بن زهران". أما جيفر، فهو ابن الجلندي بن كركر بن المستكبر وكان أخوه عبد الله، ملك عمان.
وقد جعل بعض علماء الأنساب الأزد ستا وعشرين قبيلة يجمعها جميعها الأزد، وهي: جفنة، وغسان و الأوس والخزرج، وخزاعة، ومازن، وبارق، وألمع، و الحجر، والعتيك "العتيق" و راسب، و غامد، و والبة، وثمالة، ولهب، وزهران، و دهمان، و الحدان، وشكر، و عك، و دوس، و فهم، والجهاضم، و الأشاقر، و القسامل و الفراهيد. وهي أكثر من ذلك، أو أقل عددا على حسب مذاهب أهل الأنساب في ضبط أسماء البطون.
ويصنف النسابون قبائل الأزد جميعها في أربعة أصناف من الأزد، هي: أزد عمان وأزد السراة وهم الذين أقاموا في سراة اليمن، وأزد شنوءة أبناء كعب ابن الحارث بن كعب بق عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد، وهم من سكنة السراة كذلك، وأزد غسان وهم من شرب من ماء غسان. ويلاحظ إن هذا التصنيف مبني على أسماء مواضع نزلت فيها قبائل الأزد.

(1/2282)


--------------------------------------------------------------------------------

ومواطن الأزد القديمة هي مثل مواطن بقية القحطانيين في اليمن، وقد تركتها على أثر حادث سيل العرم، فتفرقت مع من تفرق من القحطانيين إلى الأماكن المذكورة. وذكر إن أزد السراة حاربت قبيلة خثعم التي كانت نازلة في السراة، فتغلبت عليها و انتزعت الأرض منها، وان "أردشير" الأول أسكن الأزد في عمان. فبقوا فيها تحت حكم الفرس.
وكان مناة و ذو الخلصة من أصنام الأزد الرئيسية التي تعبدت لها، كما تعبدت لصنم اسمه العائم كان في السراة. ولصنم آخر اسمه باجر، كان للأزد ولمن جاورهم من طىء.
وأما القبائل المتفرعة من عمرو بن الغوث، فهي أنمار، وتنسب إلى أنمار بن "أراش" "إراش" "أراشة"، و أراش هو ابن عمرو، وقد نسب بعض النسابين أنمارا إلى أتمار بن نزار بن معد بن عدنان، فجعلوها من العدنانيين، ويدل ذلك على اختلاط هذه القبيلة بالقبائل التي ترجع نسبها إلى مجموعة معد.
وولد أنمار أفتل، وهو خثعم، وأمه هند بنت مالك بن الغافق بن الشاهد ابن عك، فهي ذات صلة بعك من ناحية الأم. وولد أنمار أيضا خزيمة وقد دخلت في الأزد، و وادعة، وعبقرا، والغوث، وصهيبة، وأشهل، وشهلا، و طريفا، وسنية، والحارث، و خذعة. وأمهم كلهم بجيلة بنت صعب بن سعد العشيرة، وكانوا كلهم متحالفين على ولد أخيهم خثعم. ولهذا يرجع كثير من النسابين قبائل أنمار إلى أصلين: خثعم و بجيلة.
وولد خثعم ولدا اسمه حلف أو خلف، ويعود هذا الاختلاف إلى غلط النساخ، ومن نسله عفرس، فولد عفرس ناهسا وشهران وناهبا ونهشا وكودا وربيعة أبا اكلب. ومن بني "ناهش" ناهس حام بن "ناهس" ناهش، وهم بطن، وبنو أجرم وهم بطن أيضا. ويسمون ببني معاوية كذلك، وأوس مناة بن ناهس، وهو الحنيك، وهم بطن، وبنو عنة، وبنو قحافة.
وكانت منازل خثعم في الهضبة الممتدة من الطائف إلى نجران عند طريق القوافل الممتدة من اليمن إلى الحجاز.

(1/2283)

admin
12-31-2010, 07:47 PM
ولا تزال بطون خثعم معروفة حتى الآن. ومنها بطون في تهامة وفي عسير. منها ما هي بادية، ومنها ما هي مستقرة تتكسب قوتها من الزرع.
وذهب "ليفي ديلافيدا" في "المعلمة الإسلامية" إلى إن خثعما ليست قبيلة في الأصل إنما هي حلف تألف من قبائل متعددة تحالفت. بينها لمصالح مشتركة جمعت بينها، كما يحدث في سائر الأحلاف، والذي أداه إلى هذا الفهم اختلاط هذه القبيلة في القبائل العدنانية واختلاف النسابين في نسب خثعم وتفسيرهم معنى كلمة خثعم.
وقد ورد ذكر خثعم في روايات الأخباريين عن حملة أبرهة على مكة، إذ هم يذكرون إنها عزمت على منعه من الوصول، إلى مكة، وان نفيل بن حبيب االخثعمي رئيس خثعم إذ ذاك، خرج بقبيلتي خثعم: شهران وناهس ومن تبعه من قبائل العرب، وقاتله حينما بلغ أرض خثعم، غير إن أبرهة تغلب عليه، وأسره، وأبقاه حيا على إن يكون دليله في طريقه إلى مكة، وقد سار معه حتى أبلغه الطائف، وهناك قام بوظيفة إرشاد الحبش إلى مكة أبو رغال الثقفي، وذلك بأمر من مسعود بن معتب رئيس ثقيف. ويقول الأخباريون إن اعغرب صارت ترجم قبر أبي رغال بالمغمس، وصار سبة للناس، ولست أدري لم خص الأخباريون قبر أبي رغال بالرجم، ولم يشركوا معه قبر مسعود بن معتب، وهو الذي كلف - على حد قولهم - أبا رغال إن يرشد أبرهة إلى مكة.
وقد اشتركت خثعم في المعركة المعروفة عند الأخباريين باسم يوم فيف الريح، وهو يوم كان لمذحج على بني عامر بن صعصعة. اشتركت فيه عدة قبائل أخرى مع المتخاصمين. وقد كانت بطون من مذحج تسكن في جوار خثغم، وعند ظهور الإسلام كانت خثعم في حلف مع مراد، وقد اشتركت معها في حربها مع قيس.
وقد تعبدت خثعم مثل بجيلة ودوس وباهله و الأزد للصنم المسمى بذي الخلصة الذي هدم في الإسلام، هدمه عبد الله بن جرير البجلي. وكان لها بيت يدعى كعبة اليمامة به الخلصة. تعبدت إليه.

(1/2284)


--------------------------------------------------------------------------------

أما بجيلة، فهم بطون عديدة متفرقة، تفرفت في أحياء العرب منذ يوم حربها مع كلب بن وبرة بالفجار، وقد أعاد شملها وجمعها جرير بن عبد الله ابن جابر البجلي، وهو الشليل بن مالك بن نصر بن ثعلبة بن جشم، صاحب رسول الله. ومن أشهر بطون بجيلة قسر، وعلقمة، وبنو أحمسن. وقيس كبة، وبنو عرينة بن نذير، وبنو دهن بن معاوية. ومن قسر خالد بن عبد الله القسري.
وأعرف قبائل المجموعة الثانية من قبائل كهلان، وهي المجموعة التي ترفع نسبها إلى الخيار بن زيد بن كهلان، هي قبيلة همدان. وهي من القبائل المعروفة في الجاهلية والإسلام، وكان لها شأن خطير في كلا العهدين.
وقد تحدثت في الجزء الثاني من كتاب: تأريخ العرب قبل الإسلام عن همدان استنادا إلى كتابات المسند، وأشرت إلى صنمها وهو "تألب ريام" والى نفر من ملوكها، والى منازل في الأرض التي عرفت ببلد همدان أما الأخباريون وأهل الأنساب، فيروون إن هذه القبيلة من نسل جد أعلى هو "همدان" وكان يسمى "بلاد الملك"، وهو في نظرهم والد نوف "نوفل"، وعمرو، و رقاش زوج عدي بن الحارث. ويختلف النسابون بعض الاختلاف في سرد أسماء آباء همدان، وهو اختلاف لا يهمنا نحن كثيرا أو قليلا بعد إن وقفنا على طبيعة هذه الأنساب.
وأولد نوف بن همدان "حبران" "خيوان" "خيران"، ويعود، اختلاف هذا الاسم إلى الخطأ الذي وقع فيه النساخ ولا شك. وولد حبران "خيوان" ولدا اسمه جشم، وهو والد حاشد وبكيل. وهما قبيلا همدان العظيمان، والحارث وقد غبر في قيس، وزيد وقد دخل في حاشد.
وأولد حاشد جشما، وعوصا وقد دخل في كلب. وولد نجشم بن حاشد مالكا ومعد يكرب وعمرا وأسعد و عريبا وزيدا ومرثدا وضماما و يريم الأكابر وعامرا و ربيعة. و أولد يريم بن جشم حاشد الوحش، وهم بطن بالوحش من أرض الكلاع بين السحول وزبيد، وعمرا. وأولد عمرو زيدا وهو والد تباع جد التباعين، وتقع منازلهم بالسحول من بلد الكلاع بعلقان ووادي النهى.

(1/2285)


--------------------------------------------------------------------------------

و إلى حاشد تنسب مرثد، وهو مرثد بن جشم بن حاشد في عرف النسابين. وقد سبق إن أشرت إلى مرثد. وهو والد ولد اسمه ربيعة، وهو ناعط، وهو بطن، وولد آخر اسمه الحارث وهم اسم بطن كذلك. وأولد ناعط مرثدا وشراحيل وعامرا وشرحبيل، فولد شرحبيل أفلح، وأولد أفلح عميرا ذا مران وكان معاصرا للنبي.
ومن همدان بطون عديدة كان لها صيت. في الجاهلية وفي الإسلام، مثل بني عليان، وبني حجور، وبني قدم، وبني فائش، وبني شاسذ، وبني جحدن، وبني ابزن، وبني شبام. وذي جعران وذي حدان، وبني ناعط. وهم في الواقع عدة بطون، ومنهم آل ذي المشعار.
ومن بطون بكيل بن جشم بن حبران آل ذي لعوة، و بنو جذلان و ثعلان، وبنو دومان، ومنهم النشقيون، وبنو صعب بن دومان، وبنو مرهبة من الصعب، وبنو أرحب من الصعب كذلك، وبطون أخرى ذكرها الهمداني في الجزء العاشر من الإكليل. وهو الجزء الخاص بقبائل همدان.
ويظهر من روايات الأخباريين أن الهمدانيين كانوا يتعبدون للصنمين: يغوث ويعوق عند ظهور الإسلام. ومعنى ذلك إن تطورا خطيرا كان قد طرأ على عبادة هذه القبيلة، فابتعدت عن صنمها الخاص بها وحاميها الذي كانت تلجأ إليه في الملمات، وهو "تألب" الذي كان معبده بمدينة "ريام"، ونسيته وتعبدت للصنمين. المذكورين اللذين لم يرد اسمهما في كتابات المسند، وهما من الأصنام التي استوردت إلى الحجاز ونجد على ما يظن من الشمال.
وقد وقع بين مراد و همدان والحارث بن كعب يوم عرف بيوم رزم "يوم الرزم"، و هو موضع في بلاد مراد، وقد اخذ فيه الصنم يغوث.
أما قبائل مجموعة عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ، فاشهرها الأشعر، وطيء، ومذحج، وبنو مرة.
أما الأشعر، فولد نبت بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ، وهم الأشعريون والأشعرون والأشاعرة، وتقع منازلهم في ناحية الشمال من زبيد.

(1/2286)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن بطون الأشعر: الجماهر، وجدة و الأنغم "الانعم" "الاتعم"، والأرغم، ووائل، وكاهل. ومن بطونهم: غاسل، وناجية، والحنيك، والركب.
وأما طيء، فإنها من ولد جلهمة بن أدد بن يشجب بن عريب بن زيد كهلان، ويذكر الأخباريون إنها كانت باليمن، ثم خرجت على اثر الأزد إلى الحجاز، ونزلوا سميرا وفيدا في جوار بني اسد، ثم استولوا على اجأ وسلمى وهما جبلان من بلاد اسد، فأقاموا في الجبلين حتى عرفا بجبلي طيء.
وتفرقت طيء إلى بطون عديدة، يرجع أصولها النسابون كعادتهم إلى آباء وأجداد، ومن هؤلاء جديلة، وتيم الله "بنو تيم" وحيش والأسعد، وقد جلا هؤلاء عن الجبلين. و بحتر بن عتود، وبنو نبهان، وبنو هنيء، وبنو ثعل والثعالب. وهم بنو ثعلبة بن رومان بن جندب بن خارجة بن سعد بن فطرة بن طيء، وهم في طيء نظير الربائع في بني تميم. وبن بني ثعلبة بن جدعاء تيم بن ثعلبة، وعليهم نزل امرؤ القيس بن حجر، وعمرو بن ثعلبة بن غياث، و كان على مقسمة عمرو بن هند يوم اوارة، و بنو لأم بن ثعلبة.
ويذكر الأخباريون إن طيئا بعد إن بلغت جبلي اجأ وسلمى، شاهدت هناك شيخا كان مع ابنته يمتلكان جبلي اجأ وسلمى، وقد ذكرا لطيء انهما من بقايا صحار، وذكروا إن لغة طيء هي لغة هذا الشيخ الصحاري. وقد أوجد الأخباريون هذه القصة تفسيرا لبعض المميزات اللغوية التي امتازت بها لهجة طيء. وصحار أسم موضع واسم بطن من قضاعة أيضا. وقد أخذت بطون قضاعة مواطن طيء في الشمال، واختلطت بعض بطون طيء بقضاعة. فهل عنى الأخباريون بصحار هذا البطن من قضاعة، و لا سيما إذا تذكرنا إن علماء اللغة يذكرون وجود التلتلة في لغة طيء، وقد نسبوا التلتلة إلى قضاعة كذلك? ولا يستبعد إن يكون لأسطورة الأخباريين عن الشيخ الصحاري، شيء من الواقع، كأن يشير ذلك إلى صلة صحار بطيء.

(1/2287)


--------------------------------------------------------------------------------

ويذكر الأخباريون إن الرئاسة في الجاهلية على طيء كانت لبني هنيء بن عمرو ابن الغوث بن طيء، وهم رمليون واخوتهم جبليون، ويعنون بذلك إنها كانت تنزل البوادي، لا جبلي طيء. ومن ولده اياس بن قبيصة بن أبي غفر بن النعمان بن حية بن سعنة بن الحارث بن الحويرث بن ربيعة بن مالك بن سفر بن هنيء بن عمرو بن الغوث بن طيء الذي ولي ملك الحيرة بأمر كسرى. كما سبق إن أشرت إلى ذلك في الفصل الخاص بتأريخ الحيرة وكان له شأن يذكر عند الفرس.
وكان لطيء جد هذه القبيلة من الولد: فطرة، والغوث والحارث. فأما وبد الحارث فدخلوا في مهرة بن حيدان. وأما ولد فطرة، فمنهم: جديلة، وولد خارجة بن سعد بن فطرة، وتيم الله، وحيش، و الأسعد ومن نسل هؤلاء تفرعت سائر بطون طيء.
ومن بني الغوث بن طيء بنو ثعل، ومنهم سلامان وجرول. ومن بني سلامان بحتر، ومعن، وهما بطنان ضخمان، و جرول بن ثعل. ومن بني جرول ابن ثعل ربيعة بن جرول. وهم بطن ضخم، ولوذان بن جرول بن ثعل. ومن بني ربيعة بن جرول اخزم والنجد. والأخزم بطون عديدة، ومنها عدي بن اخزم، ومن رجالها حاتم الطائي المعروف بجوده. وعمرو بن الشيخ وكان أرمى الناس في زمانه.

(1/2288)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي استطاعتنا إن نقول عن طيء، وان كنا لا نعرف شيئا يذكر من تاريخها في الجاهلية، إنها كانت ذات مكانة خطيرة في تلك الايام، بدليل إطلاق اسمها عند بعض الكتبة الكلاسيكيين وعند الفرس والسريان وعند يهود بابل، على جميع العرب كما أشرت. إلى ذلك في الجزء الأول من هذا الكتاب. ولا يعقل إطلاق اسم هذه القبيلة على جميع العرب لو لم تكن لها منزلة ومكانة في تلك الأيام، ولو لم تكن قوية كثيرة العدد ممعنة في الغزو ومهاجمة الحدود، حتى صار في روع السربان إنها أقوى العرب، فأطلقوا اسمها عليهم. وبدليل اختيار الفرس لإياس بن قبيصة، وهو من طيء لتولي الحكم في الحيرة مرتين، ولا بد إن يكون لمركز قبيلته سند قوي أسنده في الحكم. وليس بمستبعد إن تكون قبائل قضاعة قد حله محل طيء في الشمال مما اضطر الاخيرة إلى التزحزح من أماكنها والدخول في غيرها والاكتفاء بمنطقتها في جنوب النفود. أي في جبلي طيء.
وبالرغم من انتزاع طيء لجزء من أرض بني أسد، وهم من مضر، وسكناهم فيها، فإن بني أسد وكذلك بني ضبة التي كانت قد تحولت عن بني تميم إلى طيء، انضموا إلى طيء وساعدوها في الحرب التي وقعت بينها وبين بني يربوع، وهم من تميم، تساعدهم بنو سعد. وانتهت بهزيمة بني يربوع في موضع "رجلة التيس". ولكن ذلك لا يعني إن العلاقات بين بطون طيء وأسد كانت حسنة دوما، وثيقة لم يعكر صفوها ما يقع عادة بين القبائل من حروب. فقد وقعت بين القبيلتين حروب كذلك. منها: الحرب التي وقعت بالخص في العراق على مقربة من ناحية الكوفة. وقد انتهت هذه الحرب كما تنتهي الحروب الأخرى. بتصفية حسابها بدفع الديات وبعقد صلح.

(1/2289)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد، وقعت بين عبس و طيء جملة غزوات. قضت إحداها على حياة "عنترة ابن شداد"، البطل الأسود الشهير. أغار عنترة مع قومه على بني نبهان من طيء، وهو شيخ كبير، قد عبثت به يد الدهر، فجل يرتجز، وهو يطرد طريدة لطيء. فانهزمت عبس. وأصيب عنترة بجرح قضى عليه. وهناك رواية أخرى في مقتل بطل عبس.
وفي رواية للإخباريين إن ابن هند ملك الحيرة أغار على إبل لطيء، فحرض زرارة بن عدس، عمرو بن هند على طيء، وقال له انهم يتوعدونك، فغزاهم فوقعت بسبب ذلك جملة حوادث تسلسلت إلى يوم أوارة. وكان عمرو ابن هند كما يقول الأخباريون قد عاقد الحي الذي غزاه على إن لا ينازعوا ولا يفاخروا ولا يغزوا، فلما غزا عمرو بن هند اليمامة، ورجع، مر بطيء، انتهز زرارة بن عدس - وكان كارها لطيء مبغضا لها - هذه الفرصة، وأخذ يحرضه على غزوها، ويشجعه عليه. وما زال به على ذلك، حتى. غزاها، بعد آن بلغه هجاء الشعراء الطائيين له، لإصابته بعض النسوة من طيء. فتمكن منها م وأخذ جملة أسرى، من بطن "أخزم"، وهم رهط حاتم الطائي.
وكانت صلة هذه القبيلة بالفرس حسنة، ولما أراد، الملك النعمان الالتجاء إليهم والدخول فيهم ليمنعوه من الفرس، لمصاهرته لهم، وأخذه زوجتن هما فرعة بنت سعد بن حارثة بن لام وزينب بنت أوس بن حارثة بن لام منهم، لم تقبل طيء جواره ولا مساعدته، وقالت له: "لولا صهرك قاتلناك، فإنه لا حاجة لنا في معاداة كسرى". و قد جعل كسرى إياس بن قبيصة على الرجال من الفرس والعرب في حرب بكر بن وائل في معركة ذي قار.
ويظهر من روايات الأخباريين إن رؤساء طيء كانوا يحكمونها، وكانوا يلقبون بملك. فقد ذكروا إن عدي بن حاتم الطائي كان رئيس طيء في أيام الرسول، وكان مالكا عليهم يأخذ منها المرباع. فلما جاءت خيل الرسول إليه. بقيادة علي بن أبي طالب، فر إلى الشام، ثم ترك الشام، وذهب إلى الرسول فأسلم.

(1/2290)


--------------------------------------------------------------------------------

أما صنم طيء، فكان "الفلس"، وكان بنجد، قريبا من فيد. وسدنته من بني بولان. هدمه علي بن أبي طالب بأمر النبي، وكانت طيء قد قلدت الصنم سيفين يقال لأحدهما مخذم و للآخر رسوب، أهداهما إليه الحارث بن أبي شمر، فأخذهما علي بن أبي طالب. وتعبدت طيء لصنم تخر هو "رضى". كما تعبدت لصنم ثالث هو سهيل.
ومذحج من القبائل اليمانية الكبيرة، وقد تفرعت منها قبائل كبيرة كذلك. وتنتسب إلى جد أعلى لها، هو مذحج. وهو مالك بن أدد بن زيد بن يشجب ابن عريب بن زيد بن كهلان، وأبو عدة أولاد، هم: جلد بن مذحج، ويحابر. وهو مراد: وزيد. وهو عنس، وسعد العشيرة، ولهيس بن مذحج.
وأمهم كلهم سلمى بنت منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر.
ومن بني عنس بن مذحج: عمار بن ياسر الصحابي المعروف، والأسود العنسي المتنبي.
و لمذحج مثل القبائل الأخرى أيام. منها يوم فيف الريح ويوم السلان. وهو لربيعة على مذحج. وسأتحدث عن أيام مذحج في الفصل الخاص بأيام العرب قبل الإسلام.
ويشير هذا النسب الذي يذكره النسابون إلى وجود صلات قديمة وثيقة بين مراد و خثعم، وبين مجموعة القبائل المعروفة بمذحج. وهم أبناء اخوة على رأي النسابين.
ويذكر الأخباريون إن مواطن مراد القديمة هي في الجوف، في منطقة رملية جرداء. ويظهر إنها كانت متبدية وكان معبودها الصنم يغوث، الصنم الذي تعبدت له مذحج كذلك. روي إن الصنم يغوث، كان لمذحج كلها. وكان في أنعم، فقاتلتهم عليه. غطيف من مراد، حتى هربوا به إلى نجران، فأقروه عند بني النار من الضباب، من بني كعب، و اجتمعوا عليه جميعا.
ويذكر الأخباريون إن المنذر بن ماء السماء حينما بغى على أخيه عمرو، هرب عمرو إلى مراد، فاحتفلت به، وعينته رئيسا عليها. غير انه اشتد عليها حينما تمكن وقوي أمره، فغدرت به وقتلته. لذلك غزاها عمرو بن هند، وقتل قتلة عمرو.

(1/2291)


--------------------------------------------------------------------------------

وكانت بين مراد وهمدان حرب، وقعت في عهد لم يكن بعيدا عن الإسلام. عرفت بيوم الرزم، انتصرت فيها همدان على مراد. وكان رئيس مراد أيام الرسول فروة بن مسيك المرادي. وقد استعمله الرسول على صدقات مراد و زبيد ومذحج، فاستاءت زبيد ومذحج من ذلك. وارتد عمرو بن معديكرب في مرتدين من زبيد ومذحج. فاستجاش فروة النبي، فوجه إليهم جيشا، هزم المرتدين.
و قبيل الإسلام كان هبيرة بن المكشوح بن عبد يغوث رئيسا بارزا على مراد، وقد عده الأخباريون من "الجرارين" في اليمن، ويقصد بالجرار من ترأس ألفا في الجاهلية. وقد كان ابنه قيس من رؤساء مراد البارزين عند ظهور الإسلام. وهو الذي قتل الأسود العنسي. وكان هناك رئيس آخر على مراد عند ظهور الإسلام هو فروة بن مسيك المتقدم ذكره، كان كذلك من الجرارين.
وأشهر أولاد محابر، وهو مراد، ناجية وزاهر. ومن ولد ناجية مفرج، وكنانة، وعبد الله، ومالك، ويشكر، و ردمان. وقد انتسب ردمان إلى حمير. ومن ولد عبد الله غطيف، وهم بطن. ومن نسل ردمان قرين ونابية، وهما بطنان. ومن بني زاهر قيس بن المكشوح، و بنو الحصين والربض والصنابح وهما بطنان.
وأولاد سعد العشرة كثيرون، تفرعت منهم قبائل وبطون، ويذكر الأخباريون إن سعد العشيرة كان رجلا كثير الأولاد حتى انه كان إذا ركب ركب معه ثلاث مئة فارس من صلبه. والظاهر إنها كانت من القبائل الكبيرة، وأظن إنها كانت تحتمي بصنم هو "سعد العشيرة"، ثم نسبته فتصور أبناؤها انه إنسان، وانهم من صلبة منحدرون، وليس هذا بأمر غريب، وقد ذكرت أمثلة من هذا القبيل، ومنه "تالب" صنم همدان المذكور في المسند، الذي صيره النسابون جدا من أجداد همدان.

(1/2292)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن أولاد سعد العشرة: الحكم، والصعب، ونمرة، و جعفي، وعائذ الله، وأوهن الله، وزيد الله، وأنس الله، والحر. ومن البطون المتفرعة من هؤلاء الدئل، وهم من نسل الحكم، وقد دخلوا في تغلب. وأسلم. ومن جعفي مران وحريم أما بنو صعب فأشهرهم أود ومنبه، ويسمى أيضا بزبيد. ومن نسل زبيد مازن، وهم بطن ومن قبيلة أود الأفوه الأودي الشاعر المعروف.
وأبين بطون جلد بن مالك بن أدد، أي جلد بن مذحج، بنو علة بن جلد. ومن أولاد علة: عمرو، وعامر، وحرب تفرغت جملة قبائل أظهرها: النخع بن عمرو بن علة. وبنو الحارثي. بن كعب بن عمرو بن علة، ورهاء وهو ضبة بن الحارث بن علة، و صداء وهم من نسل يزيد بن حرب ابن علة.
وقد تحالفت منبه والحارث والعلاء "العلى" وسيحان "سيحان" "سنجان" وهفان وشمران، وهم ولد يزيد بن حرب بن علة بن جلد على بني أخيهم صداء ابن يزيد بن حرب، فسموا جنبا، لأنهم جانبوا. عمهم صداء، و حالفوا بني عمهم بني سعد العشيرة. ومن جنب، معاوية الخير الجنبي، صاحب لواء مذحج في حرب بني وائل، وكان مع تغلب.
أما صداء، فحالفت بني الحارث بن كعب . و من بني منبته، كان معاوية ابن عمرو بن معاوية بن الحارث بن منبه بن يزيد الذي تزوج بنت مهلهل بن ربيعة التغلبي.
وتنتسب قبيلة النحغ إلى النحغ وهو جسر بن عمرو بن علة بن جلد بن مالك، وهو مذحج. ومن النخع الأشتر النخعي، واسمه مالك بن الحارث، صاحب رسول الله، ثم علي بن أبي طالب. وللنخع بطون عديدة منها: صهبان، ووهبيل، وجسر، وجذيمة، وقيس، وحارثة، وصلاءة، و رزام، و الأرت، ومن الأرت بنو عبد المدان وعبد الحجر بن المدان.
وولد مرة بن أدد رهما، والحارث. ومن رهم كان الأفغى الذي كان يتحاكم إليه بنجران على رواية ابن حزم، أو من رهم، من طيء على رواية ابن دريد. أما الهمداني، فذهب إن انه من رهم بن مرة بن أدد، أي على نحو ما ذهب ابن حزم إليه.

(1/2293)


--------------------------------------------------------------------------------

وبنو مرة بن أدد، اخوة طيء و مذحج والأشعريين، بطون كثيرة تنتهي كلها إلى الحارث بن مرة، مثل خولان و معافر ولخم وجذام وعاملة وكندة. أما خولان، فيرجع نسبها إلى خولان بن عمرو بن مالك بن الحارث بن مرة ابن أدد. ويسمي النسابون خولان فكلا "أفكلا" كذلك. والخوليون هؤلاء هم خولان أدد، وعرفوا بخولان العالية أيضا، وهم غير خولان بن عمرو ابن الحاف "الحافي" بن قضاعة، أي خولان القضاعية، وهي قبيلة يمانية كذلك في نظر من جعل قضاعة من اليمانيين. وأظن إن هناك صلة بين "فكل" و "أفكل" و "يكلى" أو "ركلى" المذكور عند بعض الأخباريين، وقد زعم الهمداني انه شقيق خولان، وابن الابن الآخر لعمرو بن مالك. وقد نشأت هذه الصور للاسم من تحريف النساخ، ومن لتبلبل الذي يحدثه أمثاله للنسابين والباحثين في الأنساب. و أما إن يكلى أو فكل هو شقيق خولان، أو انه خولان نفسه، فأمر لا قيمة له.
ورجح نشوان بن سعيد الحميري كون المراد ب "خولان العالية" خولان قضاعة، وقد ذكر الرأيين وناقش كل واحد منهما، ثم رجح إن خولان العالية هي خولان قضاعة..
واسم خولان من الأسماء التي ورد ذكرها في كتاباتي المسند. ورد اسما لأرض، كما ورد اسما لقبيلة، هي قبيلة خولان ويعود تأريخ هذه الكتابات إلى ما قبل الميلاد. وتقع أرض خولان في نفس المكان الذي عرف في الإسلام ب "عر خولان" وبأرض خولان. وقد ذهب "شبرنكر" إلى إن خولان هي "حويلة" إحدى القبائل العربية المذكورة في التوراة.
وعند ظهور الإسلام، كانت خولان تتعبد للصنم، عم أنس "عميأنس" وللصنم يعوق. وفي السنة العاشرة للهجرة، وصل وفد منها إلى الرسول معلنا له الدخول في الإسلام. وقد اشتركت خولان مع من اشترك من القبائل العربية في الفتوح، فلعبت دورا هاما فيها خاصة في فتوحات مصر.

(1/2294)


--------------------------------------------------------------------------------

و إلى جعفر بن مالك بن الحارث بن مرة يرجع نسب المعافر. جد المعافرين، . ويسمى بالمعافر الاكبر تمييزا له عن المعافر الأصغر، وهو ابن حضرموت. وقد اشتهرت المعافر بنوع من الثياب سميت باسمهم.
ومن ولد، عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن يشجب، كان الحارث بن عدي وهو عاملة، وعمرو بن عدي وهو جذام، و مالك بن عدي وهو لخم، وعفير بن عدي وهو والد كندة. وكلها كما نرى قبائل معروفة شهيرة تنتسب إلى القحطانيين. وأما أمهم، فهي رقاش بنت همدان.
وذكر ابن خلدون إن الحارث بن عدي والد عاملة، سمي عاملة باسم أمه عاملة، وهي من قضاعة. وذكر إنها كانت في بادية الشام.
وقد يستنتج من هذه الصلة بين القبائل الثلاث، إنها كانت حلفا في الأصل جمع بينها لمصالح مشتركة ولظروف متشابهة ألفت بي ها على نحو ما رأينا عند قبائل أخرى فضارت نسبا بمرور الأيام. وقد كانت هذه الصلة قوية خاصة. بين لخم وجذام، حيث اقترن اسمهما معا في الغالب، ولا سيما في الإسلام، مما يدل على اشتراك المصالح بين القبيلتين.
وكانت عاملة حليفة لكلب، "وغزت معها إلى طيء، فأسر رجل من عاملة، اسمه ععيسيس، عدي بن حاتم، فانتزعه منهم شعيب بن مسعود. العليمي من كلب، وقال له: ما أنت وأسر الأشراف ?"، وأطلقه بغير فداء. ومن عاملة الشاعر عدي بن الرقاع.
ويذكر الأخباريون إن بطونا من عاملة كانت في الحيرة ? كما إن بعضا منها كانت خاضعة للزباء. و إذا صح زعم الإخباريين هذا، فانه يدل على قدم وجود هذه القبيلة في بلاد الشام والعراق، ولكننا لا نجد لها ذكرا مثل اكثر القبائل الأخرى في كتب "الكلاسيكيين.

(1/2295)


--------------------------------------------------------------------------------

وكانت منازلها عند ظهور الإسلام في المنطقة الجنوبية الشرقية للبحر الميت. وقد اشتركت مع القبائل العربية الأخرى التي ساعدت الروم، وانضمت إلى جانب "هرقل" "Heraclius"، ولكن اسمها لم يرد كثيرا في أخبار فتوح المسلمين لبلاد الشام، وانما كان من الأسماء المعروفة في أيام الأمويين. وتدل إقامتها في هذه البلاد منذ أيام الجاهلية على إن صلتها ببلاد الشام كانت أقوى وأمتن من صلتها بالعراق.
وصنم عاملة هو الأقيصر، وكان في مشارف الشام، يحجون إليه، ويحلقون رؤوسهم عنده.
وولد جذام: وهو عمرو بن عدي بن الحارث بن مرة والد قبيلة جذام الشهيرة من الولد حراما، و "جشم". ومن بني حرام غطفان وأفصى، وهما ابنا "سعد بن اياس بن افصى بن حرام بن جذام". وذكر ابن حزم: ارن روح بن زنباع، و هو من بني افصى، اراد إن يرد نسب جذام إلى مضر، فيقال جذام بن أسدة أخي كنانة وأسد ابني خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر، فعارضه في ذلك نائل بن قيس.
ومن بطون جذام: "بنو ضبيب، وبنو مخرمة، وبنو بعجة، وبنو نفاثة، وديارهم حوالي ايلة من أول أعمال الحجاز إلى ينبع من أطراف يثرب. وكانت لهم رياسة في معان وما حولها من ارض الشام لبني النافرة من نفائة، ثم لفروة ابن عمرو بن النافرة. وكان عاملا للروم على قومه وعلى من كان حوالي معان من العرب. وهو الذي بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامه، و أهدى له بغلة بيضاء وسمع بذلك قيصر، فأغرى به الحارث بن أبي شمر الغساني ملك غسان، فأخذه وصلبه بفلسطين".

(1/2296)


--------------------------------------------------------------------------------

أما لخم، الأخ الآخر لعاملة وجذام، فولد جزيلة ونمارة، وولد نمارة عديا، وهو عمم وحبيب وجذيمة، وهم العباد، وغيرهم. وولد حبيب، هانئا، ومن نسله تميم الداري صاحب رسول الله، ومن نمارة عمرو بن رزين ابن لخم، ومن ولده قصير الوارد اسمه في قصة الزباء، ومن نسل عمم بنو نصر بن ربيعة بن عمرو بن الحارث بن مسعود بن مالك بن عمم بن نمارة ابن لخم، رهط آل المنذر ملوك الحيرة.

ويظهر إن اللخمين كانوا أقدم جماعة في هذا الحلف، وقد كانوا قبل الإسلام في بلاد الشام والعراق وفي البادية الفاصلة بينهما وفي مواضع متعددة من فلسطين. ومنهم كما رأينا كان آل لخم ملوك الحيرة. ولا يستبعد إن يكون ظهور هذه القبيلة علن أثر تصدع حكومة تدمر. حيث مكن هذا التصدع رؤساء القبائل . الكرى من الظهور. وقد كان اللخميون على النصرانية مثل الغساسنة في الشام.
ويدل القصص المروي عن أصل لخم، وانحدارها من صلب إبراهيم، على قدم هذه القبيلة في نظر أهل الأخبار. ومما جاء في هذا القصص إن أحد بني لخم هو الذي أخرج يوسف من البئر. وقد لعب اللخميون دورا هاما كما رأينا في سياسة البادية وفي مقدرات عرب الشام والعراق.
وفي الإسلام صارت كلمة "لخم" تطلق على جذام. ويدل ذلك على الصلات الوثيقة التي ربطت بن القبيلتين. ثم قل استعمال كلمة "لخم" و لخمي، بالقياس إلى جذام. حتى صارت لخم تعني في الغالب الأمراء اللخميين.

(1/2297)


--------------------------------------------------------------------------------

وشقيق لخم هو عفير بن عدي والد ثهور، وهو كندة جد قبيلة كندة الشهيرة. وولد كندة معاوية بن كندة، وأشرس، وأمهما هي رملة بنت أسد ابن ربيعة بن نزار. وبمثل هذا النسب صلة كندة بقبائل معد. وقد نسب بعض النسابين كندة إلى كندة، وهو ثور بن مرخ بن معاوية بن كندي بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن عمرو بن عريب بن زيد بن كهلان، وقد ولد هذا النسب من نسب آخر جعل اسم ولدم عفير "كندي"، ثم ساقوا النسب على هذا النحو إلى إن وصلوا إلى ثور بن مرخ، فقالوا: إنه هو كندة وانه شقيق مالك وهو الصدف، وقيس.
ومن بطون كندة معاوية بن كندة، ومنه الملوك بنو الحارث بن معاوية الأصغر بن ثور بن مرتع بن معاوية أسلاف الشاعر امرؤ القيس، وقد حكموا القبائل الأخرى من غير كندة، ومنها قبائل من عدنان.
ومن ولد أشرس: السكون والسكاسك، ومن السكون بنو عدي وبنو سعد وأمهما من مذحج اسمها تجيب بنت ثوبان بن سليم بن رها بن مذحج، ولذلك عرفوا ب "تجيب".
وكان أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل في أيام الرسول من السكون، وأخوه بشر بن عبد الملك. يذكرون انه ذهب إلى الحيرة، وتعلم بها الخط، ثم رجع إلى مكة فتزوج الضهياء بنت حرب أخت أبي سفبان.

(1/2298)

admin
12-31-2010, 07:48 PM
وأما الصدف، فهو كقب مالك بن أشرس على رواية. وقد نسب إلى كندة، كما نسب إلى حضرموت. ونسبه بعض النسابين إلى حمير. فمن نسبه إلى كندة، قال: الصدف هو: عمرو بن مالك بن أشرس بن شبيب بن السكون ابن أشرس بن ثور وهو كندة، أو عمرو بن مالك بن أشرس أخي السكون ابن أشرس. ومن نسبه إلى حضرموت، قال: الصدف، هو الصدف بن أسلم بن زيد بن مالك بن زيد بن حضرموت الأكبر. وقد قال عنه بعض، الأخباريين: انه مالك بن الصباح، أخو أبرهة بن الصباح. وأبرهة بن الصباح هو عربي في نظر أكثر الأخباربين. ولم يعرفوا انهم يقصدون به أبرهة الحبشي، صاحب حملة. الفيل. ومن نسبه إلى حمير قال: الصدف هم من نسل: الصدف ابن عمرو بن ديسع بن السبب بن شرحبيل بن الحارث بن مالك بن زيد بن سدد بن حمير الأصغر أو الصدف بن سهلة بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن هميسع بن حميرا.
واختلاف أهل الأنساب، وأهل الأخبار في نسب الصدف، دليل على اختلاط هذه القبيلة ببطون كندة وحمير وحضرموت. ودخول بطونها فيها، وانتسابها إلى البطون التي دخلت فيها، ويؤدي ذلك في الغالب كما رأينا إلى اختلاط الأنساب.
الفصل السابع و الأربعون
القبائل العدنانية
اوجزت الكلام في الفصل المتقدم على القبائل القحطانية، أي القبائل التي يرجع نسبها إلى اليمن، وفي هذا الفصل سأحاول الكلام على قبائل القسم الثاني من العرب، أي قبائل العدنانين، مقتصرا في الغالب على ذكر القبائل الكبرى، سالكا ما سلكته في الفصل المتقدم من طريقة أهل الأنساب في ترتيب القبائل.

(1/2299)


--------------------------------------------------------------------------------

وجد قبائل هذا الفصل عدنان من سلسلة تنتهي بإسماعيل بن أيراهم الخليل، جد الإسماعيليين. وهو مثل قحطان شخصية لا نعرف من أمرها شيئا، ولا من خبرها غير هذا الذي يقصه علينا الأخباريون. وهو على حد قولهم من معاصري الملك بختنصر ملك بابل "604 - 561ق.م" الذي أوحى الله إليه على لسان "برخيا بن احنيا بن زربابل بن سلتيل" إن يغزو العرب في أيام ابنه معد بن عدنان على حد قول الأخباريين.
ويزعم الأخباريون انهم وجدوا في كتب "برخيا" هذا نسب عدنان، وأنه كان معروفا عند أهل الكتاب وعلمائهم، مثبتا في أسفارهم. واستشهدوا على نسبه بشعر لأمية بن أبي الصلت. فمن ذرية عدنان أذن، تفرعت هذه القبائل التي سأتحدث عنها في هذا الفصل.
وقد بخل الأخباريون على عدنان، فلم يمنحوه من الولد غير ولدين، هما:.
معد، والحارث وهو عك. وأمهما: منهاد بنت لهم بن جليد بن طسم. وقد بخلوا عليه بأسماء نسائه أيضا على ما يظهر، إذ لم يذكروا لنا اسم زوجة أخرى له. ولا ندري نحن، وقد عشنا بعدهم بقرون، سر هذا البخل الشنيع.

(1/2300)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن نسل هذين الولدين تفرعت قبائل عدنان فأولد معد نزارا، وأضاف بعض النسابين قضاعة إليه. و أمهما معانة بنت جوشم بن جهلمة بن عامر بن عوف ابن عدي بن دب بن جرهم. وقد أشرت إلى اختلاف النسابين في نسب قضاعة و إرجاع بعضهم إياه إلى معد وبعضهم إلى قحطان، والى محاولة كل فريق جرهم إليه، لعوامل سياسية بحتة و إن اكتسبت صبغة نسب وأصل وحسب، فالموضوع هو تكتل وتحزب وتنافس. و قضاعة كتلة من القبائل كبيرة، لذلك كان لاجتذابها إلى أحد المعسكرين السياسيين المتطاحنين أهمية عظيمة في سياسة ذلك العهد، لذلك نجد نسابي كل فريق يحاولون جهدهم إثبات نسب قضاعة في فريقهم، حريصين على نفي نسبتها إلى الفريق المعارض، و إخراجها منها، وتفنيد حجج الخصوم هذا، أبو عبد الله الزبيري. "156 - 236 ه" و هو قرشي، و معدود من مشاهير النسابين، يذكر نسب قضاعة فيقول: "وقد انتسبت قضاعة إلى حمير، فقالوا: قضاعة بن مالك بن حمير بن سبأ، وأمه عكبرة، امرأة من سبأ، خلف عليها معد، فولدت قضاعة على فراش معد، وزوروا في ذلك شعرا فقالوا: يا أيها الداعي ادعنه وأبشر ولكن قضاعيا ولا تنزر
قضاعة بن مالك بن حمير النسب المعروف غير المنكر
قال: وأشعار قضاعة في الجاهلية، وبعد الجاهلية، تدل على إن نسبهم في معد".
وجعل ابن حزم لمعد خمسة أولاد، هم: نزار بن معد، و أياد بن معد، وقنص بن معد، و**** الرماح بن معد، والضحاك بن معد. وذكر إن من الأخباريين من يزعم إن ملوك الحيرة من المناذرة هم من ولد قنص، وأن **** الرماح دخلوا في بني مالك بن كنانة، وان الضحاك بن معد هو الذي أغار على بني إسرائيل في أربعين من تهامة. ونسب ابن الكلبي لمعد جملة أولاد آخرين.
ويذكر بعض الأخباريين إن الإمارة بعد معد على العرب كانت إلى قنص بعد أبيه، فأراد إخراج أخيه نزار من الحرم، فأخرجه أهل مكة، و قدموا عليه نزارا.

(1/2301)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ولد لنزار مضر واياد، وأمهما، خبية بنت عك بن عدنان، و ربيعة وانمار، وأمهما حدالة بنت وعلان بن جوشم بن جهلمة بن عامر بن عوف بن عدي بن دب بن جرهم، فهما ليسا صريحين في نظر النسابين كمضر و أياد، لأنهما ليسا مثلهما من أب عدناني و أم عدنانية. ومن النسابين من قال: إن "ربيعة ومضر الصريحان من ولد إسماعيل"، فلم يجعل ايادا بذلك من العدنانيين الصريحين.
وفي رواية الأخباريين إن نزارا حينما شعر بدنو اجله قسم ما عنده على أولاده، فجل لربيعة الفرس، ولمضر القبة الحمراء، ولأنمار الحمار، و لإياد الحلمة والعصا.. ثم تخاصموا بعد ذلك، واتفقوا على التحكيم، فحكم بينهما أفعى نجران.
ولم يجزم ابن حزم في نسبة أنمار نزار، فبعد أن ذكر مضر وربيعة وايادا، وهم ولد نزار، قال: "وقيل: أنمار"، ثم قال: "وذكروا أن خثعما وبحيلة من ولد أنمار". أما ابو عبد الله المصعب بن عبد الله مصعب الزبيري، فأثبت نسب أنمار في نزار، وذكر إن من أنمار بجيلة "انتسبوا إلى اليمن، إلا من كان لهم بالشام والمغرب، فانهم على نسبهم إلى أنمار بن نزار".
ويظهر إن نسابي خثعم وبجيلة يأبون انتسابهم إلى أنمار، إذ ذكروا ذلك، ويرون إن اراش بن عمرو تزوج ابنة أنمار، وهي سلامة، فولدت له ولدا سمي أنمار بن اراش. ويذكر النسابون انه لم يشتهر أحد من ولد أنمار. ومعنى هذا إن هذه القبيلة كان قد ضعف حالها وذابت في غيرها، لذلك يذكر لها النسابون شيئا من البطون.
وقد نسب "الزبيري" خثعما إلى اقبل "افتل" بن أنمار بن نزار، وذكر إن خثعما هم اسم جبل تحالفوا عليه، "فنسبوا إليه، وهم بالسراة على نسبهم إلى أنمار بن نزار. و إذا كانت بين اليمن فيما هنالك وبين مضر حرب، كانت خثعم مع اليمن على مضر". كذلك نسب خزيمة، وهو يشكر إلى أنمار.

(1/2302)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان اياد على رواية الأخباريين اكبر أولاد معد، واليه يرجع نسب كل أيادي. وأولد اياد زهرا ودعميا ونمارة، ومن نسلهم تفرعت سائر اياد.
وقد ارتحلت اياد عن منازلها الأصلية، بسبب الحروب، فذهب قسم كبير منها إلى العراق حيث نزلوا في الأنبار وفي عين أباغ و سنداد و تكريت وبطن اياد و باعجة وأماكن أخرى، وذهب قسم آخر منهم إلى البحرين حيث انضموا إلى قضاعة، كما سكن قسم منهم في بلاد الشام.
ويروي الأخباريون إن ايادا الذين كانوا اختاروا الإقامة في البحرين وهجر بعد تركهم مواطنهم القديمة في تهامة اضطروا إلى ترك مواطنهم الثانية والهجرة منها إلى العراق على اثر قدوم بني عبد القيس وشن بن افصى ومن معهم مهاجرين من منازلهم إلى هجر و البحرين، فان هؤلاء القادمين الجدد لما بلغوا هجر والبحرين ضاموا من وجدوهم بها من اياد و الازد، ثم أجلت عبد القيس ايادا عنه تلك البلاد، فساروا نحو العراق، وتبعتهم شن بن افصى، فعطفت عليهم اياد واقتتلوا معهم حتى كاد القوم يتفانون، وقد بادت بسبب ذلك قبائل من شن.

(1/2303)


--------------------------------------------------------------------------------

أما منازل اياد القديمة، فكانت تهامة مع ابناء أنمار ما بين حد ارض مضر إلى حد نجران وما والاها وصاقبها من البلاد. ثم فارقت أنمار اخوتها ربيعة ومضر و ايادا، فكثرت اياد وزاد عددها وكثرت قبائلها، فأخذت تعتدي على ابناء ربيعة ومضر، فوقعت بينها وبينهم من جراء بغيها هذا حروب، واجتمعت مضر وربيعة عليها، ثم تحاربوا في موضع من ديارهم يسمى "خانقا" وهو لكنانة، فغلبت اياد، وظعنت من منازلها، وافترقت عن اخوتها، وتفوقت على رأي بعض الأخباريين ثلاث فرق: "فرقة مع أسد بن خزيمة بذي طوى، و فرقة لحقت بعين اباغ. وأقبل الجمهور حتى نزلوا بناحية سنداد. ثم أتفقوا، فكانوا يعبدون ذا الكعبات: بيتا بسنداد - وعبدتها بكر بن وائل بعدهم - فانتشروا فيما بين سنداد وكاظمة، والى بارق و الخورنق وما يليها، و استطالوا على الفرات، حتى خالطوا ارض الجزيرة، فكان لهم موضع دير الأغور ودير الجماجم ودير مرة، وكثر من بعين اباغ منهم، حتى صاروا كالليل كثرة، وبقيت هناك تعير على من يليها من أهل البوادي، وتغزو مع ملوك آل نصر المغازي"، وحالها حسن معهم ومع الأكاسرة، حتى حدث حادث افشل ما بينهم وبين الفرس، يرجعه الأخباريون إلى اعتداء نفر من اياد على نسوة من أشراف الأعاجم، وذلك في أيام "انو شروان بن قباذ" أو "كسرى بن هرمز"، فسار إليهم الفرس، فانحازت اياد إلى الفرات، وجعلوا يعبرون ابلهم بالقراقير، و يجوزون الفرات فتبعتهم الأعاجم، وكان على اياد يومئذ. "بياضة ابن رباح بن طارق الايادي". فلما التقى الناس، ارتجزت "هند بنت بياضة" شعرا مشهورا معروفا، أوله: نحن بنات طارق نمشي على المفارق
ثم هجمت اياد على الفرس، وهزمتها آخر النهار، وقتلت الجيش الذي كان يتعقبها، فلم يفلت منه إلا الشريد، وجمعوا جماجمهم، فجعلوها كالكوم، فسمي ذلك الموضع دير الجماجم.

(1/2304)


--------------------------------------------------------------------------------

هذه رواية من عدة روايات وردت عن الحرب التي وقعت بين الفرس و اياد، وهي الرواية الوحيدة التي ورد فيها خبر انتصار اياد على الفرس. أما الروايات الاخرى، فتقول بانتصار الفرس على اياد. فرواية أبي علي القالي مثلا،عن رجاله تنص على غزو انو شروان لاياد على اثر اعتداء نفر من اياد على نسوة الاعاجم، وتعقيبه لهم، وقتله خلقا منهم، حتى اضطر بعضهم إلى النزول بتكريت، وبعضهم ارض الموصل والجزيرة، عندئذ بعث انو شروان ناسا من بكر بن وائل مع الفرس، فنفوهم من تكريت والموصل إلى قرية. يقال لها الحرجية: ثم التقوا بهم ثانية في هذا الموضع، فهزمهم الفرس، وقتلت. منهم كثيرا، ودفنت أجسادهم بها في مقبرة ذكر صاحب الرواية إنها كانت معروفة بها إلى يومه. وسارت البقية حتى نزلت بقرى من ارض الروم، فسار بعضهم إلى حمص وأطراف الشام. وكان الحارث بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان فيمن سار إليهم من بكر بن وائل مع الأعاجم، فأجار ناسا من اياد، كان فيهم: أبو دواد الايادي..

(1/2305)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي رواية أخرى إن ايادا كانت مقربة عند الفرس، حتى إن كسرى بن هرمز كان قد اتخذ جماعة منهم امتازوا بحسن الرماية، فجعلهم رماة عنده، وجعلهم مراصد على الطريق فيما بينه. وبين الفرات لئلا يعبره أحد عليهم، إلى إن حدثت حادثة الاعتداء على نسوة، فغضب كسرى على اياد، وأرسل جيشا عليهم، لحقهم وقد عبروا دجلة، فجثا الاياديون على الركب، ورموا الفرس رشقا واحدا. عندئذ آمر كسرى بإرسال الخيل عليهم، وأمر "لقيط بن يعمر ابن خارجة بن عوبثان الايادي"، وكان كاتبه بالعربية وترجمانه، وكان محبوسا عنده إن يكتب إلى من كان من شداد قومه، فيما بينهم وبين الجزيرة، إن يقبلوا إلى قومهم، فيجتمعوا، ليغير على اياد كلهم، فيقتلهم. فكتب لقيط إلى قومه ينذرهم كسرى، ويحذرهم إياه في جملة قصائد رواها الأخباريون، فهربت اياد وأمر كسرى الخيل، فأحدقت بهم وبالذين بقوا من خلف الفرات. ثم وضعوا فيهم السيوف، ومن غرق منهم بالماء اكثر ممن قتل بالسيف. ولما بلغ كسرى شعر لقيط قتله.
أما من هرب من اياد إلى الشام، ومن كان قد هاجر إليها، فقد دان للغساسنة، و تنصر كأكثر عرب الروم، ولحق أكثرهم بلاد الروم فيمن دخلها مع جبلة بن الايهم من غسان وقضاعة ولخم وجذام.

(1/2306)


--------------------------------------------------------------------------------

ولدينا رواية أخرى في أسباب تسمية موضع دير الجماجم بهذا الاسم، تشير إلى حدوث، معركة بن الفرس و اياد، وقتل اياد لقوم من الفرس، ولكنها حادثة أخرى غير الحادثة المتقدمة على ما يظهر، يرويها ابن الكلبي، خلاصتها: إن رجلا من اياد اسكنه بلاد الرماح أو بلال الرماح، وهو انبت بن محرز الايادي، قتل قوما من الفرس، ونصب رؤوسهم عند الدير، فسمي دير الجماجم. ولم تذكر هذه الرواية زمن حدوث هذا القتل، وهل كان قبل إجلاء اياد عن العراق أو بعده كما جاء في الروايات السابقة? وهل كان هذا انتقاما من الفرس بعد ما فعلوه بإياد? غير إن هناك رواية أخرى يرويها ابن الكلبي أيضا تشير بوضوح إلى إن فتك اياد بالفرس في موضع دير الجماجم إنما كان بعد نفي كسرى إياهم إلى الشام وفتكه بهم، أي إن هذا الفتك كان عملا انتقاميا من الفرس، لما فعلوه بإياد. يقول ابن الكلبي: "كان كسرى قد قتل ايادا، ونفاهم إلى الشام، فأقبلت ألف فارس منهم حتى نزلوا السواد، فجاء رجل منهم وأخبر كسرى يخبرهم، فأنفذ إليهم مقدار ألف وأربع مئة فارس ليقتلوهم، فقال لهم ذلك الرجل الواشي: انزلوا قريبا حتى أعلم لكم علمهم. فرجع إلى قومه وأخبرهم، فأقبلوا حتى وقعوا بالأساورة، فقتلوهم عن آخرهم، وجعلوا جماجمهم قبة. وبلغ كسرى خبرهم، فخرج في اهليهم يبكون. فلما رآهم، إغتم لهم، وأمر أن يبني عليهم دير سمي دير الجماجم". وهذه الرواية عن فتك اياد بالفرس، هي اقرب إلى المنطق من الرواية الأولى التي ذكرتها عن النزاع بين كسرى و اياد.
على إن هناك أخبارا أخرى ذكرها الأخباريون في تعليل اسم موضع "دير الجماجم" لا تشير إشارة ما إلى هذا الاصطدام بين الفرس واياد، إنما أشار بعضها إلى حرب وقعت بين اياد وبين بني نهد في هذا المكان، قتل فيها خلق من اياد و قضاعة، ودفنوا هناك، فسمي الموضع بهذا الاسم، كما نسبت الحرب إلى قبائل أخرى لم يرد بينها اسم اياد.

(1/2307)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي رواية. الإخباريين عن فتك كسرى بإياد، ونفيه إياهم إلى الشام، مبالغة كبيرة ولا شك. فإننا نجدهم أنفسهم يذكرون ايادا مع الفرس تحارب في معركة "ذي قار"، ثم يذكرون إنها اتفقت سرا مع بكر على إن تخذل الفرس يوم اللقاء. وقد خذلتهم بالفعل، إذ ولت منهزمة، ساعة اشتداد القتال فانهزمت الفرس. ثم تراهم يذكرون ايادا في أخبار الفتوح، فيروون إنها حاربت تحت امرة "بهران ابن بهران جوبين" المسلمين، أي إنها كانت تحارب مع الفرس في العراق. وان صلاتهم كانت حسنة بهم. وهذا يناقض ما زعموه عن نفي الفرس لهم عن العراق.
ولم تكن اياد من القبائل العربية النصرانية التي مالت إلى تأييد المسلمين، ففي الفتوحات الإسلامية للعراق كانوا مع الفرس على المسلمين وإن ساعدهم قسم منهم بالاتفاق معهم سرا، كما حدث في فتح تكريت. وفي الشام انضم قسم منهم إلى "هرقل" "Heraclius" في محاولاته اليائسة التي قام بها للاحتفاظ ببلاد الشام ولاستخلاص ما استولى عليه المسلمون من تلك البقاع. ولما حلت الهزائم بالروم، فضل قسم منهم الهجرة إلى بلاد الروم و الإقامة فيها. وقد كان ذلك عن عاطفة دينية ولا شك. غير إن هذا لا يعني إن جمهرة اياد كانت كلها مع الروم.
ذكرت إن من المواضع التي كانت لإياد في العراق، موضع سنداد، ويفهم من روايات الأخباريين عنه، انه قصر ونهر ومنازل نزلت بها إباد حين مجيئها إلى العراق، وانه كان في الأصل اسم حاكم فارسي كان قد عين على هذه المنطقة، فأقام بها مدة طويلة، وبنى أبنية كثيرة من جملتها القصر الذي ذكر في شعر ينسب إلى الأسود بن يعفر النهشلي، جاء فيه: أهل الخورنق والسدير وبارق والقصر ذي الشرفات من سنساد

(1/2308)


--------------------------------------------------------------------------------

وانه أيضا اسم قصر كانت العرب تحج إليه، هو الذي قصده الهمداني بقوله: "وكانوا يعبدون بيتا يسمى ذا الكعبات، والكعبات حروف الترابيع". ويظهر من روايات الأخباريبن عن هذا القصر انه كان من القصور الضخمة المعروفة. يظهر انه كان مربع الشكل، أو ذا مربعات ولذلك عرف ب "الكعبات"، وب "ذي الكعبات". وذكر أيضا انه كان لربيعة، وانها كانت تطوف حوله حيث قالوا: "الكعبات، بيت كان لربيعة، كانوا يطوفون به".
ويظهر من أقوال الأخباريين وجود عدة بيوت كانت على هيأة كعبات في جزيرة العرب لعبادة الأصنام، تحج القبائل إليها وتطوف حولها، سأتحدث عنها في الجزء الخاص بالحياة الدينية عند العرب قبل الإسلام، ومنها بيت كان ب "أحد" على رواية، أو على مقربة من شداد "سنداد" على رواية ابن دريد، أو على شاطئ الفرات على رواية تنسب إلى ابن الكلبي عرف ب "السعيدة" كانت ربيعة تحجه في الجاهلية، وأظنهم يقصدون هذا البيت بيت سنداد.
أما مضر، فولد الياس والناس، ويعرف،أيضا. بعيلان، وأمهما الحنفاء ابنة إياد بن معد، وسماها ابن حزم "أسمى بنت سود بن أسلم بن الحارث. ابن قضاعة"، فهي قضاعية على هذا الرأي. وجعل بعض النسابين أم الياس امرأة دعوها الرباب بنت إياد المعدية، فهي إذن على هذه النسبة من معد.

(1/2309)


--------------------------------------------------------------------------------

ومضر هو شعب في نطر أهل الأنساب، والشعب في عرفهم أعظم من القبيلة، فهو أكبر وحدة اجتماعية سياسية في اصطلاح النسابين. وهو من أعظم شعوب مجموعة عدنان، ولم يعثر على هذا الاسم في الكتابات الجاهلية، ولا في مؤلفات الكلاسيكيين. أما اسم معد، فقد أشير إليه كما ذكرت سابقا في بعض مؤلفات الكلاسيكيين. وأما اسم نزار فقد ورد في نص النمارة الذي يرجع عهده إلى سنة 328 للميلاد. وقد عرف مضر ب "مضر الحمراء" عند النسابين، ويقولون انه عرف بذلك "لأن أباه أوصى له من ماله بالذهب". ويظهر إنها كانت قبيلة عظيمة عند ظهور الإسلام، ثم اندمجت في غيرها من قبائل هذه المجموعة: مجموعة عدنان. حتى تغلبت على مضر تسمية قيس، أي تسمية أبناء قيس عيلان "قيس بن عيلان" "قيس عيلان" في الإسلام، فصارت "قيس" تؤدي معنى العدنانية، واستعملت في مقابل عرب اليمن قاطبة، فيقال: قيس ويمن.
. وولد لألياس مدركة واسمه عامر، وعمرو وهو طابخة، وقمعة واسمه عمير، وأمهم خندف، و أما ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة. وقد نسبوا إلى أمهم فقيل لهم خندف. وقد حصر بعض النسابين نسل خندف في مدركة وطابخة، ولذلك حصروا قبائل مضر في أصلين خندف وقيس عيلان.
أما مدركة، فولد له خزيمة ؛ وهذيل. وأمهما سلمى بنت أسد بن ربيعة ابن نزار، و نسب بعضهم له ولدا آخر هو غالب. وولد خزيمة كنانة، وأمه عوانة بنت قيس بن عيلان، وأسدا، وأسدة، و الههون، وأمهم برة بنت مر بن أد بن طابخة بن الياس بن مضر بن مضر بن نزار،وهي أخت تميم ابن مر و هذيل قبيلة متسعة، لها بطون كثيرة.
وليس النسابون على اتفاق بين هم في تعيين، أولاد أسدة، فجعلهم بعضهم جذاما ولحما وعاملة، ونسب هؤلاء في اليمن كما أشرت إلى ذلك في أنساب قبائل قحطان على رأي أكثر النسابين.

(1/2310)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما نسل الهون فهم: عضل، و ديش، ويعرفون بالقارة، وهم بنو بيشع بن مليح بن الهون. على حد قول بعض النسابين وبطنان من خزاعة هما الحيا والمصطلق، حلفاء بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة. ويعرفون على حد قولهم بالأحابيش: أحابيش. قريش. لأن قريشا حالفت بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة على بكر بن عبد مناة، فهم حلفاء قريش.
و أولاد كنانة، هم: النضر، وهو أكبر أولاده وبه يكنى، ومالك "مالكا"، وملكان، ومليك وغزوان، وعمرو، وعامر، وأمهم برة بنت مر أخت تميم بن مر، وهي نفسها زوج خزيمة والد كنانة، تزوجها كنانة بعد وفاة أبيه. وكانت العادة في الجاهلية إن يتزوج الولد البكر زوجة أبيه بعد وفاته إذا لم تكن أمه، وان يرث خيار ماله، وهو زواج منعه الإسلام. ويعرف هذا الزواج بزواج المقت.
وكانت لكنانة زوج أخرى، هي هالة بنت سويد بن الغطريف، و يقصدون بالغطريف حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن النبت، وقد ولدت له حدال وسعدا وعوفا ومجربة. وقد ترك هؤلاء الأولاد فرية، فكان من نسل حدان جماعة أقامت بعدن أبين، وكان من نسل مجربة بنو ساعدة.
أما زوج كنانة الثالثة، فكانت الذفراء: واسمها فكيهة. وهي بنت هنى ابن بلي بن عمرو بن الحاف بن قضاعة. وقد ولدت له: عبد مناة.
وولد النضر، وهو قريش على بعض الآراء مالكا على رأي أكثر النسابين، و أضاف بعضهم إليه ولدين آخرين، هما: يخلد الصلت، وأمهم عكرشة بنت عدوان بن عمرو بن قيس ابن عيلان. ومن يخلد قريش بن بدر بن يخلد بن النضر، وكان دليل قريش في التجارة في الجاهلية، وبه سميت قريش على رأي بعض النسابين، وباسم بدر والده دعي بدر، والى الصلت بن النضرة ينسب بنو مليح "ملح"، على رأي، بينما يعدون من خزاعة في رأي آخر.

(1/2311)


--------------------------------------------------------------------------------

أما ولد مالك، فهو فهر، وهو قريش، وأمه جندلة بنت الحارث بن جندل ببن عامر بن سعد بن الحارث بن عضاض بن جرهم، فهي جرهمية على هذا النسب. وبه سميت قريش قريشا على رأي أكثرية أهل الأخبار. ولهذا يقال لهم بنو فهر. و للإخباريين روايات عديدة في معنى قريش.
وولد فهر غالبا والحارث ومحاربا وجندلة، وأمهم ليلى بنت الحارث بن تميم ابن سعد بن هذيل بن مدركة، وولد غالب بن فهر لؤيا وتميما وهو الأدرم، وأمهما عاتكة بنت يخلد بن النضرة بن كنانة، وقيس بن غالب وقد انقرض نسله.
ومن ولد لؤي كعب وعامر، وهما البطاح، وسامة ومن نسله بنو ناجية، وخزيمة وهم عائذة، وقد نزلوا في بني أبي ربيعة من شيبان، والحارث وهو جشم، وهم في همدان، وأمهم مارية بنت كعب بن القين بن جسر بن شيع الله ابن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران، بن الحاف بن قضاعة، وسعد ابن لؤي وهم بنانة، وقد نزلوا في بني شيبان، وأمه يسرة بنت غالب بن الهون بن خزيمة، وعوف بن لؤي وقد دخل نسله في بني ذبيان بن غطفان أم بن قيس عيلان، وهم بنو مرة بن عوف بن ذبيان رهط الحارث بن ظالم المري. وقد دخل أكثر هؤلاء الأبناء في غيرهم، ولذلك أدخلهم النسابون فيمن دخلوا فيهم، وعدوا نسل كعب وعامر الصرحاء من ولد لؤي وحده?
وولد كعب مرة، وهصيصا، وأمهما وحشية بنت. شيبان بن محارب بن فهر، وعدي وأمه حبيبة بنت بحالة بن سعد بن فهم بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر، وولد مرة كلابا، وأمه هند بنت سرير بن ثعلبة بن الحارث ابن مالك بن كنانة، وسرير والد هند هو أول من نسأ الشهور، ثم نسأها القلمس ابن أخيه من بعده واسمه عدي بن ثعلبة بن الحارث بن كنانة. ثم صار النسيء في ولده، وكان آخرهم جنادة بن عوف. وولد أيضا تيم بن مرة ويقظة بن مرة، وأمهما بنت سد، وهو بارق بن الحارثة بن عمرو بن عامر. جد قبيلة بازق، ومن عدي بن كعب عمر بن الخطاب وزيد.

(1/2312)


--------------------------------------------------------------------------------

أما كلاب، فكان له من الولد قصي وزهرة. ومن نسل قصي: عبد مناف وعبد الدار وعبد العزى. وقد تحدثت سابقا عن قصي منظم قريش.
فولد عبد مناف بن قصي: عمرا وهو هاشم، والمطلب وهو عبد شمس ونوفلا. وأم هاشم وعبد شمس والمطلب عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالح بن ذكوان السلمية، وأم نوفل واقدة من بني مازن بن صعصعة السلمية، خلف عليها هاشم بن عبد مناف بعد أبيه، فولدت له ابنتين خالدة وضعينة.
ومن بطون كلاب بنو زهرة ومن بطون تيم بن مرة أبو بكر الصديق، وعبد الله بن جدعان سيد قريش في الجاهلية، ومن بطون يقظة بن مرة بنو مخزوم، ومنهم خالد بن الوليد.
ومن نسل هصيص بن كعب، بنو جمح، وهم ولد جمح بن عمرو بن هصيص، وبنو سهم بن عمرو بن هصيص. ومن بني سهم، عمرو ابن العاص.
وقد وقعت حرب بين بني جمح وبني محارب بن فهر في موضع عرف بردم بني جمح بمكة، قتلت فيه بنو محارب بني جمح اشد القتل، فعرف ذلك الموضع بالردم، بما ردم عليه من القتلى يومئذ. وكان أمية بن خلف على بني جمح في حرب الفجار.
أما نسل ربيعة بن نزار، فهم أسد وضبيعة ، ويضاف اليهما أكلب على بعض الروايات. ومن نسل هؤلاء تفرعت قبائل ربيعة. فمن أسد كانت جديلة وعنزة و عمير، ومن بني عنزة بنو هزان بن صباح بن عتيك بن أسلم بن يذكر بن عنزة. وبنو جلان بن عتيك بن أسلم بن يذكر بن عنزة. وبنو الحارث بن الدؤل بن صباح بن عتيك بن أسلم. كان إذا مصر ثوبية مصرت عنزة معه. وعرف من بي هزان آل ضور بن رزاح بن مالك بن سعد بن وائل بن هزان، والحارث بن رزاح أخو ضور بن رزاح وهو الذي يقال انه الحارث بن لؤي بن غالب الذي يسمى جشما، و جشم كان عبدا لأبيه، حضنه فسمى به.

(1/2313)

admin
12-31-2010, 07:49 PM
وتعد عنزة من القبائل العربية الكبيرة، وهي لا تزال من القبائل البارزة في الزمن الحاضر، ولها بطون عديدة في الحجاز وفي وبادية الشام والشام. أما تأريخها قبل الإسلام، فهو مثل تواريخ القبائل الأخرى من حيث الغموض. وقد كانت تتعبد في الجاهلية لمحرق ولسعير.
وأما ولد ضبيعة ، فهم أحس والحارث. ومن بني أحمس الشاعر المسيب، و هو زهر بن علس، والحارث الأضعم بن عبد الله بن ربيعة بن دوفن سيد ربيعة الذي نشبت بسبب مقتله حرب بين بني ربيعة، والمتلمس الشاعر. ومن بني أحمس أيضا بنو الكلبة، وهم أولاد مرة بن مازن بن أوس بن زيد بن أحمس بن ضيعة، ومنهم الحليس وابن المسيب.
أبا جديلة، وهو جد جديلة، فولد دعميا و جديا. وقد دخل بنوه في بني شيبان، وجدار "جدانا"، وقد دخل نسله في بني زهير بن جشم من بني النمر بن قاسط. وولد غير ذلك في بعض الروايات. وولد دعمي أفصى، و ولد أفصع هنبسا وعبد القيس وجشما ودخل بنوه في عبد القيس، وناشما، ودخل بنوه في بنى تغلب.
ومن نسل عبد القيس بن أفصى، شن ولكيز. و من ولد لكيز وديعة وهو جد بطن، وصباح، وهم بطن كذلك ونكرة، ومن بطون وديعة عمرو، وغنم، ودهن، ومن عمرو بن "وديعة مالك وثعلبة وعائدة وسعد وعوف والحارث، ومن الحارث، ابن أنمار بن عمرو بن وديعة البراجم، وهم عبد شمس وعمرو وحي بني معاوية بن ثعلبة بن عوف بن أنمار بن عمرو بن ربيعة، وهؤلاء البراجم هم غير براجم تميم، والجارود وقد كانت له صحبة بالرسول وولي أولاده منازل رفيعة في الإسلام.

(1/2314)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن نسل عجل بن عمرو بن وديعة بن لكبز، ذهل وذاهل، ومن بني ذهل ليث وثعلبة، وهما ابنا حداد بن ظالم بن ذهل بن عجل بن عمرو. ومن ليث بن حداد بنو ذهل بن ليث، ومنهم جيفر بن عبد عمرو بن خولي ابن همام بن الفاتك، ومن نسل عمرو بن وديعة بنو محارب، ومنهم الحطم بن محارب، واليه تنسب الدروع الحطمية، وبنو الديل بن عمرو بن وديعة، ومن نسل وديعة بن لكيز بنو دهن وبنو غنم. ومنهم الديل ومازن.
واشتهر من ولد نكرة بن لكيز، الشاعر المثقب، والشاعر الآخر الممزق، وهوشأس، والمفضل بن معشر بن أسجم وهو شاعر كذلك.
أما شن بن أفصى، فكان من نسله يزيد بن شن، يذكر أهل الأخبار انه أول من ثقف القنا بالخط، وعدي، والديل. ومنهم. عمرو بن الجعيد بن صبرة بن الديل بن شن بن أفصى بن عبد القيس، وهو الذي ساق عبد القيس من تهامة إلى البحرين، وعرف بالأفكل، وكان سيد ربيعة في الجاهلية، وكان ذا بغي، فسارت إليه بنو عصر، فقتلوه. ومن بني عمرو رئاب بن البراء، وكان على دين المسيح.
ومواطن بني عبد القبس بتهامة في الأصل، ثم ارتحلت عنها بسبب الحروب التي وقعت بين أبناء ربيعة، فذهبت إلى البحرين، فتغلبت على من كان قد سكن قبلهم بها من اياد ومن بكر بن وائل و تميم. واقتسمتها بينهم، فنزلت جذيمة بن عوف بن بكر بن عوف بن أنمار بن عمرو بن وديعة بن لكيز الخط وأفناءها، ونزلت شن افصى طرفها وأدناها إلى العراق، ونزلت نكرة بن لكيز القطيف وما حوله والشفار والظهران إلى الرمل وما بين هجر إلى قطر وبينونة، ونزلت عامر بن الحارث بن أنمار بن عمرو بن وديعة والعمور، وهم بنو الديل ابن عمرو، ومحارب بن عمرو، وعجل بن عمرو الجوف و العيون و الاحساء، ودخلت قبائل منهم جوف عمان فصاروا شركاء للازد في بلادهم. وقد بقيت بنو عبد القيس في هذه المواضع محتفظة بها عند ظهور الإسلام.

(1/2315)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظن إن "Aboukaiun"، وهو اسم قبيلة، موضع ذكر في جغرافية "بطلميوس" هو "عبد القيس". ولم يتحدث "الكلاسيكيون" شأنهم في اكثر ما كتبوه عن بلاد العرب بشيء ص عن هذه القبيلة. ولكن الأخباريين يروون إن عرب بلاد عبد القيس والبحرين وكاظمة غزوا السواحل المقابلة لهم من ارض إيران، وذلك لضيق معاشهم، وللضنك الذي حل بهم في عهد سابور ذي الاكتاف "سابور الثاني" منتهزين فرصة اضطراب الأمن في تلك البلاد وضعف الحكومة بسبب صغر سن المملك. فلما كبر الملك واشتد، جمع جموعه وسار بها على الغازين، ففتك بهم، وأسر منهم خلقا كثيرا، ثم عبر البحر "فورد الخط واستقرى بلاد البحرين، يقتل أهلها ولا يقبل فداء. ولا يعرج عن غنيمة، ثم مضى على وجهه، فورد هجر، وبها ناس من أعراب تميم وبكر بن وائل وعبد القيس، فأفشى فيهم القتل" "ثم عطف على بلاد عبد القيس، فأباد أهلها" ثم سار إلى اليمامة، فقتل بها مقتلة كبيرة، ولم يمر في طريقه بماء إلا غوره، ولا جب من جبابهم إلا طمه، حتى وصل قرب المدينة، فقتل من وجد هناك من العرب، وأسر. ثم عطف نحو بلاد بكر وتغلب فيمار بين مملكة فارس ومناظر الروم بأرض الشام، فقتل من وجد بها من العرب، وسبى وطم مياههم، ثم أسكن من بني تغلب من البحرين دارين واسمها هيبج والخط، ومن كان من عبد القيس وطوائف من بني تميم هجر، ومن كان من بكر بن وائل كزمان، ومن كان منهم من بني حنظلة بالرملية من بلاد الأهواز.

(1/2316)


--------------------------------------------------------------------------------

وهم يذكرون أيضا إن عرب الشام قد تأثروا بما فعله سابور بهم، فاتفقوا مع الروم، وانتقموا منه. ولكن سابور بعد انتصاره على الروم، عاد فاتبع، سياسة استرضاء العرب، فاستصلحهم، وأسكن بعض قبائل تغلب وعبد القيس وبكر بن وائل كرمان وتوج و الاهواز. وهذه الرواية الثانية هي، ولا شك الجزء الآخر من حديثهم عن حملة سابور على بلاد العرب، أخذها الطبري أو المورد الذي اعتمد عليه من مورد كان قد جزأ الكلام، فصار الحديث الواحد حديثين اثنين. ونجد ذلك واضحا وضوحا تاما في اتفاق العبارات بين الروايتين، ثم إن الإسكان الإجباري في ارض ما ليس نوعا من الاستصلاح والاسترضاء.
وفي حديث الأخباريين عن حملة سابور على بلاد العرب ووصوله إلى مقربة من المدينة. وعن تنكيله بالعرب وحرقه المدن وطمه المياه، مبالغات كبيرة ولا شك، اخذت من موارد فارسية بولغ فيها، وليس في روايات المؤرخين الروم عن هذا الحادث ما يؤيد هذا الزعم.
وكان والي البحرين عند ظهور الإسلام، المنذر بن ساوى، وهو من بني تميم، يحكمها باسم الفرس على حد رواية الأخباريين، وقد أرسل إليه الرسول رسولا عنه يدعوه وقومه من بني عبد القيس إلى الإسلام. وكان رسول رسول الله هو العلاء بن الحضرمي. فلما أتاه العلاء يدعوه ومن معه بالبحرين إلى الإسلام أو الجزية، اسلم المنذر، وأسلم جميع العرب بالبحرين. وقد أوفدوا وفدا عنهم إلى الرسول برئاسة المنذر بن الحارث بن النعمان بن زياد بن نصر بن عمرو بن عوف بن جزيمة بن عوف بن أنمار بن عمرو بن وديعة بن بكر، فاتصل بالرسول، وصارت له صحبة ومكانة منه. ووفد منهم إلى الرسول أيضا الجارود وهو "بشر ابن عمرو بن خناش"، وثعلبة أخو عوف بن جذيمة، وفهدا في بني عبد القيس سنة تسع مع المنذر بن ساوى. وكان نصرانيا فأسلم.

(1/2317)


--------------------------------------------------------------------------------

و كان بين بني عبد القيس وسكان البحرين والعربية الشرقية بصورة عامة جماعة على دين يهود، وجماعة أخرى على دين المجوس، وجماعة على دبن النصارى. وقد صالح من قرر البقاء في دينه العلاء بن الحضرمي والمنذر بن ساوى على الجزية.
وينسب إلى ابي ****ة معمر بن المثنى كتاب في أخبار بني عبد القيس، اسمه "كتاب خبر عبد القيس" والى علان الشعوبي كتاب اسمه "مثالب عبد القيس"، كذلك ينسب إلى المدائني كتاب اسمه "كتاب أشراف عبد القيس".
ومن ولد هنب بن أفصى قاسط بن هنب، وهو والد وائل بن قاسط، والنمر، ومن بني النمر تيم الله وأوس مناة وعبد مناة وقاسط، ومن بني تيم الله ابن النمر عامر الضحيان، وقد ساد ربيعة أربعين عاما وأخذ منها المرباع وهو عامر بن سعد بن الخزرج بن تيم الله بن النمر بن قاسط. وأبو حوط الحظائر ابن جابر، والد جابر الخير، أخو المنذر بن ماء السماء لأمه.
ومن رجال بني النمر بن قاسط سنان بن مالك، وكان على الأبلة، استعمله كسرى عليها. وهو والد صهيب من أصحاب الرسول. وقد عرف "صهيب" بصهيب الرومي. وذكر ابن خلدون انه ينسب إلى الروم، فهل عنى بذلك إن أمه من الروم، أو إن أجداده من اصل رومي، عدوا من النمر بن قاسط? ومن اشهر ديار النمر بن قاسط راس العين "رأس".

(1/2318)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد كانت النمر بن قاسط في جملة القبائل العدنانية الأخرى التي خضعت لحكم كندة، ويذكر الأخباريون في تعليل ذلك إن الحارث بن أبى شمر الغساني لما قتل عمرو بن حجر "ملك بعده ابنه الحارث بن عمرو، وأمه بنت عوف بن محلم ابن ذهل بن شيبان. و نزل الحيرة. فما تفاسدت القبائل من نزار، آتاه أشرافهم، فقالوا: أنا في دينك، ونحن نخاف إن نتفانى فيما يحدث بيننا، فوجه معنا بنيك، ينزلون فينا، فيكفون بعضنا عن بعض ففرق ولده في قبائل العرب، فملك ابنه حجرا على بني أسد وغطفان، وملك ابنه شرحبيل قتيل يوم الكلاب على بكر بن وائل بأسرها وبني حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم و الرباب، و ملك ابنه معديكرب، وهو غلفاء، على بني تغلب والنمر بن قاسط وسعد بن زيد مناة وطوائف من بني دارم بن مالك بن حنظلة والصنائع، وهو بنو رقية قوم كانوا يكونون مع الملوك من شذاذ العرب، و ملك ابنه عبد الله على عبد القيس، وملك ابنه سلمى على قيس". فكانت هذه القبيلة إذن في جملة القبائل العدنانية التي جمع شتاتها تاج كندة. وليس في رواية الأخباريين هذه غرابة، فقد رأينا امرؤ القيس يحكم قبله قبائل عديدة، ويفرض تاجه عليها، ثم يوزع أبناءه على تلك القبائل. ولكن هذا التوحيد لا يدوم في العادة أمدا طويلا، إنما يتوقف على حكمة الحكام، وعلى حسن تصرفهم، وعلى قوتهم وقدرتهم، وسلطة ذات يدهم. فإذا ظهر ضعف على الحاكم أو الحكام، أو حدث حادث، يتبن منه للقبائل الخاضعة إن من خضعت له لم يعد،قويا متمكنا، ثارت عليه ثم لا يلبث ذلك البناء إن ينهار.
أما نسل وائل بن قاسط، فهم بكر ودثار، وهو تغلب، وعبد الله، وهو عنز، والشخيص، وقد دخل نسله في بني تغلب، والحارث وقد دخل في بني عائش بن مالك بن تيم الله بن ثعلبة بن بكر بن وائل. أمهم كلهم هند بنت مر بن طابخة بن الياس بن عامر.

(1/2319)


--------------------------------------------------------------------------------

وولد تغلب بن وائل غنما، والأوس، وعمران. ومن ولد غنم عمرو ووائل ومن ولد وائل شيبان ولوذان، ومن ولد عمرو بن غنم بن تغلب حبيب ومعاوية وتيد، ومن نسل حبيب بكر وجشم ومالك، ومن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب كان الشاعر عمرو بن كلثوم، وبنوه: عبد الله والأسود، وهما شاعران كذلك، وعباد، وهو قاتل بشر بن عمرو بن عدس. وكان من بني جشم مرة بن كلثوم، وهو فارس من فرسان الجاهلية، وكان أخا لعمرو ابن كلثوم، وأبو حنش عاصم بن النعمان بن مالك بن عتاب وهو ابن عم عمرو ابن كلثوم، وعاصم هذا هو قاتل شرحبيل بن الحارث الملك آكل المرار يوم الكلاب.
ومن بني الحارث بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب، كليب و مهلهل، وعدي، وسلمة بنو ربيعة بن الحارث بن زهير بن جشم، ومن نسل مهلهل ليلى وهي أم عمرو بن كلثوم، ومن نسل كليب هجرس بن كليب.
تغلب
وتغلب من القبائل العربية الكبيرة التي ورد اسمها كثيرا في مؤلفات الأخباريين والمؤرخين ولها أيام مع القبائل الأخرى، وهي مثل سائر القبائل العدنانية الأخرى مهاجرة كل عرف النسابين، تركت ديارها وارتحلت إلى الشمال، فسكنت في العراق وفي بادية الشام، واتصلت منازلها بالغساسنة والمناذرة والروم والفرس. وكانت غالبيتها على النصرانية عند ظهور الإسلام.
وينسب النسابون تغلب إلى جد أعلى زعموا إن اسمه "تغلب"، وهو "تغلب ابن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة أبن نزار".
وقد عرفت هذه القبيلة ب "الغلباء". وهو نعت يدل على فخر القبيلة بنفسها وعلى تباهيها على غيرها من القبائل. وقد ذكر بعض أهل الأخبار عنها. قوله:. "لو أبطأ الإسلام قليلا، لأكل بنو تغلب الناس". تعبيرا عن قوتها وكثرتها وأهميتها إذ ذاك بين القبائل.
و قيل في اسمها تغلب بنت وائل بالتأنيث، ذهابا إلى القبيلة، كما قالوا: تميم بنت مر. جاء في شعر الفرزدق: لولا فوارس تغلب ابنة وائل ورد العدو عليك كل مكان

(1/2320)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد كانت لرؤساء تغلب الرئاسة على قبائل ربيعة،. كما صار لها اللواء. أي رئاسة الحرب. فمن يحمل اللواء تكون له الرئاسة في الحرب.
ويرى أهل الأخيار إن قبيلة تغلب مثل سائر قبائل ربي ة كانت تسكن في الأصل في تهامة، ثم انتشرت فنزلت الحجاز ونجد والبحربن، فلما تحاربت مع "بكر بن وائل"، زحفت نحو الشمال حتى بلغت أطراف الجزيرة، فسكن قوم منها جهات سنجار ونصيبن، حتى عرفت تلك الديار ب "ديار ربيعة". وديار ربيعة بين الموصل إلى رأس عين ونصيبين و "دنيسر" والخابور، وما بين هذه من المدن والقرى. وجمعت هذه الديار بين "ديار بكر" و "ديار ربيعة" وسميت كلها ب "ديار ربيعة". وقد انتشرت بطون تغلب في الثرثار، بين سنجار وتكريت.
ويروي أهل الأخبار إن أول من نزل بطون تغلب في الجزيرة الفراتية هو: "علقمة بن سيف بن شرحبيل بن مالك بن سعد بن جشم بن بكر" وقد قاتل أهل الجزيرة حتى غلبهم، وأنزل قومه بها. ويؤيدون رأيهم هذا بما جاء في معلقة "عمرو بن كلثوم": ورثنا مجد علقمة بن سيف أباح لنا حصون المجد دينا
وقد كان شريفا رئيسا في الجاهلية.
وقد أدى اتصال تغلب بالروم وبنصارى العراق والجزيرة وبلاد الشام إلى دخول قسم منهم في النصرانية كمعظم القبائل التي دخلت العراق وبلاد الشام. وهي من القبائل المتنصرة ومن سكان الخيام.
وقد تغلب الشاعر "جابر بن حتى التغلبي"، ويقال انه قال في شعر له مخاطبا بهراء: وقد زعمت بهراء إن رماحنا رماح نصارى لا تخوض إلى الدم
وهو بيت من قصيدة يفتخر. فيها بقومه وبشجاعتهم: ومعنى هذا البيت إن صح، إن النصارى لم يكونوا أشداء في الحروب، وانهم لم يكونوا على شاكلة العرب الوثنيين في الطعن والضرب.

(1/2321)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن ولد تغلب في رأي النسابين: غنم والأوس وعمران. ومن بطون غنم: "الاراقم". و هم جشم و مالك و عمرو و ثعلبة و الحارث و معاوية و هم بنو بكر ابن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب. و منهم: عمرو بن الخنس قاتل "الحارث بن ظالم"، و كان "الاسود بن منذر" ملك الحيرة قد طلب ذلك منه. و منهم "الهذيل بن هبيرة" و كان قد رأس تغلب في الجاهلية. و كان جرارا للجيوش، وأسره يزيد بن حذيفة السعدي.
و من بني "تغلب" "السفاح بن خالد"، و اسمه "سلمة". و كان جرارا للجيوش في الجاهلية. و إنما سمي "السفاح"، لأنه سفح المزاد يوم كاظمة، و قال لأصحابه: قاتلوا فإنكم إن أهزمتم متم عطشا.
و من بني غنم: بنو جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب. و منهم الشاعر: عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتاب بن سعد بن زهير بن جشم، و من ولده: عبد الله و الأسود، و هما شاعران سيدان. و عباد، و هو قاتل بشر بن عمرو بن عدس.
و منهم "أبو حنش"، عاصم بن النعمان بن مالك بن عتاب ، و هو ابن عم عمرو بن كلثوم. و هو قاتل "شرحبيل بن الحارث" الكندي، و ذلك يوم الكلاب. و منهم "الفدكس" الذين منهم "الأخطل".
و من بني جشم بن بكر بن الحارث، "كليب وائل"، ذو الصيت الشهير في كتب أهل الاخبار شقيق "مهلهل". و "كليب وائل" هو "وائل بين ربيعة بن الحارث بن زهير". و قد ضرب به المثل في العز فقيل "أعز من كليب وائل". و كان والده "ربيعة"، قد قاد مضر وربيعة يوم السلآن إلى أهل اليمن، وأدخله "السكرى" في جملة "الجرارين".

(1/2322)


--------------------------------------------------------------------------------

أما السبب الذي حمل "ربيعة بن مرة بن الحارث بن زهير التغلبي" على مقارعة قبائل اليمن وحروبها، فهر شعور أبناء تغلب بوجوب التخلص من نفوذ اليمن عليها، ومن حكم "زهير بن جناب الكلبي" عليها. فقد زعم أهل الأخبار إن "تغلب" كانت مثل سائر قبائل "معد" خاضعة لنفوذ حكام اليمن، وقد سئمت من جوار الحكام الذين ينصبهم "التبابعة" عليها، فظهر رجال فيها عزموا على التخلص من ذلك النفوذ، وتكوين حلف قوي. يكبح جماح اليمن يتألف من قبائل معد. وكان من بين أولئك الرجال "ربيعة بن الحارث ابن زهر" والد "كليب وائل"، وكانت خطته ضرب اليمن للتخلص من حكم "زهير بن جناب" الذي كان حكام اليمن قد أقاموه على قبائل معد. وجمع قبائل مضر وربيعة تحت زعامة واحدة، وبذلك تتخلص تلك القبائل من تحكم اليمن في شؤونها ومن دفع الإتاوة لها.
ويذكر أهل الأخبار إن "زهير بن جناب" الكلبي القضاعي، كان قد ولى أمر "معد" بمساعدة حكام اليمن وتأييدهم له، ويذكر بعض منهم إن "أبرهة" الحبشي هو الذي نصب زهيرا عليها وايده وأعانه على معد. وذاك حينما غزا "أبرهة" نجدا وتوسع فيها، فجاءه "زهير" ليتقرب إليه، وليعينه على بعض قبائل معد.
وسار "زهير" في حكم معد، حتى اشتط وبغى وقسا في جمع الإتاوة، فضجر الناس منه، وهاجمه "زباية" من "بني تيم الله"، وطعنه طعنة ظن انه قد قضى بها عليه. ولكن زهيرا نجا منها، فجمع عندئذ قومه ومن كان معهم من قبائل قحطان وغزا بكرا وتغلب، فانهزمت بكر ثم تغلب، وأسر كليب ومهلهل ابنا ربيعة، وجماعة من أشراف تغلب. فتأثرت قبائل ربيعة من هذه الهزيمة، وعينت "ربيعة بن مرة بن الحارث بن زهير التغلبي" رئيسا عليها، فحمل ربيعة ومن انقاد إليه على زهير، واسترجع الأسرى ولكن زهيرا لم يلبث إن عاد إلى ما كان عليه من جمع الإتاوة من معد.

(1/2323)


--------------------------------------------------------------------------------

و كليب وائل، كما يظهر من روايات الأخباريين، رجل صلب قوي، ارتفع نجمه بعد يوم "خزازى" "خزاز" الذي أظهر قوة معد لما اجتمعت، فانتخب رئيسا مطاعا على هذه القبائل، وأعطي الملك والتاج، وبقي على ذلك دهرا، حتى دخله زهو شديد، فأخذ يبغى على القبائل ويشتط في أخذ الإتاوة منها وفي اتخاذ خيرة الأرض المخصبة ذات المياه الغزيرة مناطق حمى لا يجوز لإبل غيره الرعي فيها، وفي الاستيلاء على مواضع الماء، حتى ضجرت الناس منه وسئمت حكمه وودت لو تمكنت من التخلص من جوره وتعسفه.
قال "ابن الكلبي": لم تجتمع معد كلها إلا على ثلاثة من رؤساء العرب، وهم: عامر بن الظرب بن عمرو بن بكر بن يشكر بن الحارث: والثاني ربيعة ابن الحارث بن مرة بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب، وهو قائد معد يوم السلان. وهو كما رأينا والد "كليب". والثالث: كليب بن ربيعة. ويظهر من ذلك انه ورث رئاسة قومه ورئاسة معد من والده، وانه زاد في قومه وفي مكانته يوم قاوم قبائل اليمن، وتغلب عليها في "يوم خزاز"، وكانت معد تهاب اليمن، و تخضع لملوكها، لذلك كان يوم السلان ويوم خزاز، نصرا معنويا كبيرا لها، جرأها على الوقوف أمام اليمن، وعلى تحديها. وجعلها تشعر بأنها قوة وأن في إمكانها صد اليمن لو اتحدت قبائل "معد" فيما بينها، ووحدت كلمتها تحت رئاسة رئيس قوي قدير.
ويذكر أهل الأخبار إن معدا اجتمعت كلها تحت رايته، وجعلت له قسم الملك وتاجه وتحيته وطاعته، فغبر بذلك حينا من الدهر ثم دخله زهو شديد وبغى على قومه حتى بلغ من بغيه انه كان يحمي مواقع السحاب فلا يرعى حماه، ويقول: وحش أرض كذا في جواري، فلا يهاج، ولا تورد إبل أحد مع إبله ولا توقد ناره. وكان إذا رأى أرضا فأعجبته حماها ومنع الناس عنها، وذلك بأن يطلق جروا يعوي، فيكون المكان الذي ينقطع فجيه صوت العواء فلا يسمع، هو حد تلك الأرض. قيل ولذلك عرف ب "كليب".

(1/2324)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان "كليب" قد تزوج "جليلة بنت مرة بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة"، وهي أخت "جساس بن مرة بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة".وهي أيضا من أشراف قومها، و "ذهل بن شيبان" من الأسر المعروفة التي نجد لها اسما بين الجاهلين.
وقد أدت عنجهية "كليب" وغطرسته إلى مقتله، وسبب ذلك على ما يقوله أهل الأخبار إن ناقة كانت للبسوس خالة "جساس"، أو إلى "جليلة أخت جساس" على رواية، أو إلى رجل إسمه "سعد الجرهمي" واسم الناقة "السراب" كانت قد اختلطت بإبل "كليب" وأخذت ترعى معها، فلما رآها كليب، أنكرها واستعظم أمر دخولها المرعى مع إبله، فرمى ضرعها بسهم فنفرت وهي ترغو. فلما رأت "البسوس"، أو "جليلة" أو رأى "سعد الجرمي" الناقة وقد أصيبت بهم كليب، عز على صاحبها ذلك، أو على صاحبتها حسب اختلاف الروايات، وذهب أو ذهبت كل واحدة منهما إلى "جساس"، صارخا أو صارخة، وكل منها في جواره وعند فناء بيته، فثار الدم في رأسه، وأخذته العزة، وذهب غاضبا إلى "كليب" ومعه "عمرو بن الحارث" فكنماه، وأظهر جساس ما حل به من ذل وإهانة برمي "السراب" بالسهم، فلم يبال بهما، فطعنه "جساس" وضربه "عمرو بن الحارث"، فقتل كليب.
وقد أثار مقتل "كليب وائل" هذا حربا استمرت أربعين سنة على ما بذكره أهل الأخبار عرفت ب "حرب البسوس". وهي في الواقع معارك وغزوات وقعت في أوقات متقطعة وقعت بن "تغلب" و من حالفها وبين "بكر".
أثارها وأشعل نارها "مهلهل" أخو "كليب" أخذا بثأر أخيه من "بني بكر" قوم "جساس". وأعلنها دون اهتمام لتوسط عقلاء "بكر" بحل القضية حلا سليما حقنا لدماء الطرفين. بتأدية دية الملوك، وهي ألف ناقة سود المقل، أو إن يأخذوا أحد أبناء "مرة بن ذهل" والد جساس، فيقتلوه بدم "كليب".

(1/2325)


--------------------------------------------------------------------------------

وأبت بعض قبائل بكر الدخول في حرب مع "تغلب"، واعتزلت عن "بني شيبان" قوم جساس، ومن هؤلاء "بنو لجيم" و "بنو يشكر". وانسحبت "الحارث بن عباد". وعشائر أخرى. وتولى "مرة بن ذهل" قيادة قومه من "بني شيبان" من بكر فكانت معارك وملاحم ذكر أسماء هي أهل الأخبار. منها "يوم النهى"، وهو أول بوم من أيام حرب البسوس على رواية، ويوم عنيزة، و هو أول يوم من هذه الأيام على رواية أخرى.
ثم وقعت أيام أخرى منها يوم الذنائب، وهو يوم قتل فيه: "شراحبيل بن مرة بن همام" والحارث بن مرة، وهمام بن مرة أخو جساس من أمه وأبيه. وعمرو بن سدوس بن شيبان. وهو من بني ذهل بن ثعلبة، وسد بن ضبيعة، وهو من بني قيس بن ثعلبة وآخرون. وقد قيل إن منهم من قتل في أيام أخرى.
ومن بقية الأيام: يوم واردات، ويوم عويرضات، ويوم الحنو ويوم أنيق، ويوم ضرية، ويوم القصيبات، ويوم العصيات، ويوم قضة، وهو يوم التحالق، وفيه حلق رجال بكر لمتهم، وذلك ليميز البكريون عن غيرهم، إلى غير ذلك من أيام تجد أسماءها في كتب الأخبار والتأريخ والأدب.
وقد توسط رؤساء بكر عند "مهلهل" بأن يوقف القتال، بعد إن سقط القاتل وهو "جساس" قتيلا في معركة من هذه المعارك، يقال إنها معركة "يوم واردات" لكنه لم يقبل وأبى إلا الاستمرار في القتال حتى يشفي نفسه من "بني بكر"، فتدخل "الحارث بن عياد" عندئذ واشترك مع البكريين، وتولى أمر "بني بكر"، ووقعت أيام أخرى أثرت في "بني تغلب". وقد وقع "مهلهل" في يوم "قضة" وهو يوم "تحلاق اللمم" أسيرا في أيدي "الحارث ابن عباد" ولم يكن يعرفه. فسأله الحارث عن مكان "مهلهل" قائلا له: دلني على عدي بن ربيعة "وهو اسم مهلهل" وأخلي عنك. فقال له عدي: عليك العهود بذلك إن دللتك عليه? قال: نعم. قال: فأنا عدي. فجز ناصيته وتركه. وقال فيه: لهف نفسي على عدي ولم أعرف عديا إذ امكنتني اليدان

(1/2326)


--------------------------------------------------------------------------------

وورد في بعض الأخبار. إن الذي قتل "جساسا" هو "الهجرس"، وهو ابن كليب، وابن أخت جساس، إذ إن أمه هي "جليلة". وكان جساس قد سباه، ثم زوجه ابنته ولكنه أبى إلا إن يقتل خاله، أخذا منه بدم والده. ويقال، إن جساسا لم يقتل و إنما مات حتف أمه.
وفي هذا الأسر وجز الناصية كانت نهاية زعامة "مهلهل" على قومه، فقد ترك أهله، وفر إلى "مذحج"، حيث نزل ب "بني جنب"، فخطبوا إليه ابنته وقبل أخته فمنعهم، فأجروه على تزويجها، وساقوا إليه جلودا من أدم. وكان قد كبر وتقدم في السن وضعف حاله فجاءه أجله بعد مدة غير طويلة، ويقال إن عبدين من ****ه اشتراهما "مهلهل" ليغزوان معه، سبأ منه، فلما كانا معه بموضع قفر أجمعا على قتله، فقتلاه، وبذلك انتهت حياته، وحياة حرب البسوس.
ويذكر أهل الأخبار إن العرب صارت تضرب المثل في شؤم "البسوس" وفي شؤم "سراب"، فقالت "أشأم من البسوس" و "اشأم من سراب".
وقد أقحم الرواة شعرا في قصصهم عن هذه الحرب، وذلك على عادتهم في رواية أخبار الأيام، وهو لا يخلو من أثر الإثارة والعواطف القبلية. ونجد في الشعر المنسوب إلى البسوس تحريضا أثار جساسا حتى دفعه على قتل " كليب" دون أن يفكر في سوء عاقبة ذلك القتل. ويعرف هذا النوع من الشعر ب "الموثبات". وهو من شعر التحريض. ومن هذا النوع الشعر الذي تقوله النساء في ندب الموتى لإثارة شجون الحاضرين.
ويعد "مهلهل" في جملة فرسان العرب الشجعان المعروفين. كما يعد في جملة الشعراء المتقدمين. لقب ب "مهلهل"، لأنه أول من رقق الشعر، أو لقوله: لما توغل في الكراع هجينهم هلهلت أثأر مالكا أو صنبلا فتدبر
وقد كان لتغلب جملة رؤساء، منهم رئيس يقال له الجرار أدرك النبي، وأبى الإسلام فبعث رسول الله. زيد الخيل الشاعر المشهور و أحد الشجعان المشهورين، ليطلب منه الدخول في الإسلام كما تقول إحدى الروايات أو القتال، فأبى الإسلام وقاتل حتى قتل.

(1/2327)


--------------------------------------------------------------------------------

ولاعتزاز تغلب بنفسها، ولشعورها بعزتها، امتنعت عن دفع الجزية المفروض أداؤها على أهل الكتاب، وذهبت إلى عمر بن الخطاب قائلة له: "نحن عرب لا نؤدي ما يؤدي العجم، ولكن خذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض". ورضيت بدفع ضعف ما يدفعه المسلمون صدقة أنفة من كلمة "جزية". واقتدت قبائل أخرى مثل تنوخ وبهراء بتغلب، فرضيت بدفع الصدقة التي يدفعها المسلمون مضاعفة مفضلين إياها على دفع الجزية، لكي لا تكون في مصاف النبط، ومن لف لفهم من غير العرب، والمساواة فيها تعد إهانة لهم في نظرهم، وان كان دافعوها نصارى مثلهم، وهم إخوانهم في الدين.
وذكر إن "عمر بن الخطاب" لما "هم بفرض الجزية عليهم، قطعوا الفرات وأرادوا اللحاق بأرض الروم، فانطلق "النعمان بن زرعة" أو "زرعة بن للنعمان" إلى "عمر"، فقال له: أنشدك الله في بني تغلب، فانهم قوم من العرب نائفون من الجزية، وهم قوم شديدة نكايتهم، فلا يغن عدوك بهم فأرسل عمر في طلبهم وأضعف عليهم الصدقة.
ومن مواضعها التي كانت تتبرك بها قبر القديس مارسرجيوس "مارسرجس" بالرصافة.
وكانت تغلب أيضا في جملة القبائل العدنانية التي خضعت لآل كندة، حكم منهم عليها معديكرب المعروف بغلفاء، وخضعت أيضا لحكم ملوك الحيرة الذين حاولوا إصلاح البين ببن تغلب وبين بكر بن وائل، فأخذوا رهائن من الطرفين، ليمنعوهم بذلك من القتال. وقد وقعت بين الحيين حروب طويلة ترد أخبارها في الأيام، كما وقعت بينها وبن يربوع وقبائل أخرى حروب سأتحدث عنها في الفصل الخاص بأيام العرب قبل الإسلام.
وقد ثار التغلبيون مرارا على ملوك الحيرة وحاربوهم، والواقع إن خضوع تغلب والقبائل الكبيرة الأخرى لملوك الحيرة لم يكن إلا خضوعا اسميا، يتمثل في حمل الإتاوات إلى الملوك ما داموا أقوياء، ولذلك كان ملوك الحيرة كما كان الأكاسرة والقياصرة يسترضون الرؤساء بالهبات والمال، ومن جملة هؤلاء، سادات "مشايخ" هذه القبيلة.

(1/2328)


--------------------------------------------------------------------------------

و أما بكر بن وائل، فكان من نسله علي، ويشكر، وبدن. وقد دخل بنو بدن في بني يشكر، ومن بني يشكر الشاعر الحارث بن حلزة، والريان اليشكري، سيد بني بكر في حربهم مع بني تغلب. وكان من صل علي بن بكر، صعب بن علي، وهو والد مالك ولجيم وعكابة. ومن مالك بن صعب سهل بن شيبان بن زمان المعروف بالنفد. ومن بطون يشكر، بنو غبر بن غنم بن حبيب بن كعب بن يثسكر، وبنو كنانة، وبنو حرب بن يشكر، وبنو ذبيان بن كنانة بن يشكر.
وبكر بن وائل من القبائل الكبيرة التي كان لها شأن معروف عند ظهور الإسلام. وهي مثل القبائل العدنانية الأخرى من القبائل المهاجرة التي تركت ديارها القديمة على حد قول الاخباريين، وهي تهامة، على اثر الحروب الكثيرة المملة التي وقعت بين العدنانيين، فهاجرت إلى اليمامة ثم إلى البحرين والعراق. ويذكر إنها أخذت تغزو مع تميم وعبد القيس حدود الفرس، حتى اضطر "سابور" الثاني المعروف ب "سابور ذي الأكتاف حوالي سنة "350 للميلاد" على مهاجمة هذه القبائل ومحاربتها، وتخريب المنازل التي كانت تنزل بها. فلما انتهى من حروبه، أمر بنقل كثير من الأسرى إلى الأهواز وكرمان لإسكانهم هناك.

(1/2329)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي القرن الخامس للميلاد، كان الحكم على بكر وأكثر قبائل معد على حد رواية الإخباريين في أيدي التبابعة، ثم في أيدي ملوك كندة، نصبهم التبابعة أنفسهم ملوكا على تلك القبائل. وكان أولهم حجر آكل المرار الذي انتزع من اللخميين ما كان في أيديهم من ملك بكر بن وائل، ووسع ملكه. فلما توفي حجر تولى الملك ابنه عمرو المعروف بالمقصور من بعده، وبقيت بكر تابعة له، وكذلك لابنه الحارث مغتصب عرش الحيرة على نحو ما ذكرت. وكان الحارث قد وزع أبناءه على القبائل، ليتولوا إدارة شؤونها فعين ابنه شراحيل أو شرحبيل أو سلمة حاكما على بكر. فلما أعاد انو شروان عرش الحيرة إلى أصحابه اللخميين، وانتكس الأمر مع الحارث، حتى اضطر إلى الهرب إلى ديار كلب أو غيرها، حيث لاقى مصيره بكيفية لم يتفق على وصفها الأخباريون، وقعت النفرة بين أولاده، ودب الخلاف بين ابنائه، فاقتتلوا، وتحزبت القبائل واقتتلت. ثم وجد رؤساؤها إنها فرصة سانحة، فاستقلوا عن كندة، و عادت إلى ما كانت عليه من الفرقة والاستقلال. وترأس كليب وائل تغلب وبكرا وقبائل معد، وقاتل جموع اليمن، وهزمهم، وعظم شأنه، وصار ملكا زمانا من السمر، ثم داخله الزهو والغرور، فبغى على اتباعه، وحمى اكثر الارضين، فلم يسمح لأحد بالرعي فيها إلا باذنه، فقتله رجل من بكر اسمه "جساس" في قصة يروها الاخباريون، فثارت تغلب، وطالب أخو كليب وهو "مهلهل" بالأخذ بالثأر من بكر، فجرت بين القبيلتين حروب طويلة استمرت على ما يذكر الأخباريون أربعين عاما، ترك فيها خلق كثير وانتهت بمقتل جساس، وهلاك مهلهل في قصص منمق من هذا القصص الذي يرويه أهل الأخبار.

(1/2330)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد أضعفت هذه الحروب القبيلتين ولا شك، وقد تدخل ملوك الحيرة في الأمر، فأصلحوا بينهم: أصلح بينهم المنذر بن ماء السماء على رواية، أو عمرو ابن هند في رواية أخرى، و قد كانوا مع المنذر الثالث في غزوته التي غزا بها الغساسنة، كما كانوا مع النعمان بن المنذر. وقد حاربوا الفرس مع بني شيبان، فانتصروا عليهم في معركة ذي قار. وكان يؤيد الفرس من العرب تغلب وطيء واياد وبهراء وقضاعة وانعباد والنمر بن قاسط. وقد اتفقت اياد سرا مع بكر بن وائل، فانهزمت حين اشتباك المعركة، فانهزمت الفرس ومن ساعد الفرس من القبائل التي اشتركت معها تأييدا لإياس بن قبيصة، أو بغضا لبكر كما هو شأن تغلب، أو طمعا في ربح من الفرس أو رغبة في التقرب إليهم. وقد كان هذه المعركة اثر كبير في نفوس القبائل، ومركزها مع الفرس.
ويظهر إن بكرا لم تخضع للفرس، ولا لحكم الحيرة بعد معركة ذي قار. وفي السنة التاسعة من الهجرة دخل قسم منها في الإسلام، فعين الرسول المنذر بن ساوى عليها وعلى بني عبد القيس. غير إنها ارتدت عنها بعد وفاة الرسول، فهاجمت مع قيس بن ثعلبة برئاسة الحطيم بن ضبيعة البحرين، وعينت "الغرور" ملكا على هذه الديار. عندئذ أرسل أبو بكر عليهم جيشا يقيادة العلاء الحضرمي ومن بقي على الإسلام من بكر وشيبان، تمكن منهم ورجمهم إلى حظيرة الإسلام.
ومن لجيم بن صعب، بنو حنيفة، وبنو عجل، ابنا لجيم بن صعب بن علي، وبنو حنيفة هم أهل اليمامة، ومن حنيفة الدئل، وتقع مواطنهم في اليمامة كذلك. ومن ولد الدئل بن حنيفة بنو مرة وعبد الله وذهل وثعلبة. ومن بني مرة هودة بن علي بن يمامة الذي توجه إلى كسرى، وعمرو بن عبد الله ابن عمرو بن عبد العزى، وهو قاتل المنذر بن ماء السماء يوم عين أباغ، ومن عدي بن حنيفة مسيلمة الكذاب.

(1/2331)

admin
12-31-2010, 07:50 PM
و أما ولد عكابة بن صعب. فهم: ثعلبة وهو الحضن، وقيس وقد دخل بنوه في بني ذهل بن ثعلبة. فولد ثعلبة بن عكابة شيبان، وذهل، وقيسا، والحارث. وقد دخل بنوه في بني أنمار بن دب بن مرة بن ذهل بن شيبان. وأمهم رقاش، وهي البرشاء بنت الحارث بن العتيك بن غنم بن تغلب. وولد ثعلبة أيضا تيم الله بن ثعلبة. وأمه الجدماء بنت جل بن عدي بن عبد مناة بن أد بن طابخة بن الياس بن مضر، وأتيد، وضنة. ودخل بنو ضنة في بني عذرة. ودخل بنو أتيد في بني هند من بني شيبان.
ومن ولد ثعلبة بن عكابة، تيم الله. ومن ولد تيم الله بن ثعلبة بن عكابة، شيبان، ومنهم أوس بن محصن، وهو الذي أطلق له السبي يوم اوارة، و صعير بن عامر وكان من فرسان بكر.
ومن بني ذهل بن ثعلبة بن عكابة، بنو سدوس بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة، وتقع مواطنهم في اليمامة، وكانوا أرداف ملوك كندة. وبنو رقاش وهم الرقاشيون أبناء مالك "ملكان" وزيد "زيد مناة" ابني شيبان بن ذهل ابن ثعلبة بن عكابة من زوجه رقاش بنت ضبيعة بن قيس بن ثعلبة. وكان بنو شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة من البطون الضخمة، ورئيسهم في الجاهلية مرة بن ذهل بن شيبان، ومن نسله جساس قائل كليب.
ومن نسل قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب، ضبيعة، وتيم، وثعلبة، وسعد. ومن نسل ضبيعة الأعشى ميمون بن قيس الشاعر المعروف، والمرقش الأكبر، والمرقش الأصغر، وطرفة بن العبد، وعمرو بن قميئة، وشعراء آخرون. وتعد هذه القبيلة في طليعة القبائل بكثرة من ظهر فيها من الشعراء. وتقع منازل قيس في اليمامة. وكانت صلاتهم وثيقة بالمناذرة. ومنهم كتيبة الصنائع إحدى كتائب النعمان بن المنذر.

(1/2332)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن بني أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان، عمرو بن أبي ربيعة بالمزدلف، وابنه حارثة ذو التاج، وكان على بني بكر يوم أوارة، وهانىء بن مسعود الشيباني الذي هاج القتال بين بني بكر وبني تميم وضبة والرباب يوم ذي قار، ومفروق واسمه النعمان بن عمرو الأصم، وهو من فرسان بكر و ساداتهم، وأعشى بني ربيعة، وهو عبد الله بن خارجة بن حبيب بن قيس بن عمرو ابن أبي ربيعة الشاعر.
ومن بني مرة بن ذهل بن شيبان، همام، و جساس قاتل كليب التغلبي، والمثنى بن حارثة بن سلمة بن ضمضم بن سعد بن مرة بن ذهل الشيباني القائد الإسلامي الشهير قاتل مهران.
و أما عك، فهم من القبائل العربية القديمة، وهم "أكيتة" "Akkitai" عند "بطلميوس"، ولا نعرف من أخبارها في نصوص المسند شيئا. ويظهر من اختلاف النسابين في نسبها، ومن جعلها من قحطان تارة ومن عدنان تارة أخرى، إنها كانت على اتصال بالجماعتين، واختلطت بهما بالفعل، ولهذا الاختلاط أثره في تكوين الأنساب، كما إن لمحالفاتها لقبائل عدنان و قحطان أثره في النسب.
وهذا نجد بعض النسابين يجعلون عكا ابنا لعدنان، فهو على حد قولهم شقيق معد، ونجد بعضا آخر يسميه الحارث، ويجعل عكا لقبا له، ثم يصيره ابنا للديث بن عدنان فيقول: هو عك بن الديث بن عدنان، أي انه حفيد عدنان. ثم نجد قسما آخر يصيره من الأزد، أي من قحطان، فيجعله عك ابن عدنان بن جمد الله بن الأزد، بن للغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان وأرى إن "عدثان" و "عدنان" كلمة واحدة. وقع فيها تحريف، فصارت الكلفة الواحدة كلمتين، وليس من المستغرب وقوع ذلك. فالكلمتان واحدة في الحروف، ما عدا حرفي الثاء والنون اللذين يتشابهان في الرسم أيضا. فيما عدا عدد النقط.

(1/2333)


--------------------------------------------------------------------------------

و قد رجح نشوان بن سعيد الحميري، وهو من اليمن من حمير، رأي القائلين من النسابين برجوع نسب عك في الأزد، فقال: "عك قبيلة من العرب يقال لهم ولد عك بن عدنان أخي، معد، ويقال لهم ولد عك بن عدثان بن عبد الله بن الأزد، وهو أصح القولين. و إنما سبب انتسابهم في معد إن غسان وقت خروج الأزد من مأرب نزلوا تهامة وبها عك، فخيرتهم عك بين شرقي تهامة وغربيها، فاختارت غسان الشرقي، ومكثت به زمانا، حتى قيل لهم إن عكا أثخن منكم لبنا، وأدسم منكم سمنا، لأن أموالكم إذا سرحت استقبلت الشمس، وإذا راحت استقبلت الشمس، فاحرت الشمس رؤوسها، وأموال عك تستدبر الشمس عند الطلوع والغروب، فاستقالت غسان عكا. فلم تقلها، فاقتتلوا، فقتلت غسان عكا قتلا ذريعا وأجلتها عن كثير من أوطانها، فمن ثم انتفت عك من اليمن، وانتسبت إلى معد".
وقد ذكر نشوان شعرا جاء فيه: ألم تر عكا هامة الأزد أصبحت مذبذبة الأنساب بين القبائل
وعقت أباها الأزد واستبدلت به أبا لم يلدها في القرون الأوائل?

(1/2334)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن ولد عك علقمة، ومن ولد علقمة الشاهد، ومن ولد الشاهد غافق، من نسل هؤلاء تفرعت سائر عك. ونجد بعض ع النسابين يغفلون علقمة، ويجعلون الشاهد ولدا من أولاد عدنان، ومنهم من جعل لعك ولدين، هما: الشاهد، وعبد الله، وجعل للشاهد ولدين كذلك، هما غافق، وساعبة، ولعبد الله بطنين كذلك، هما: عبس و بولان. ومن بطون غافق، القيانة، والمقاصرة، ودهنة. ومن بطون ساعدة: لام، وصخر، ودعج، ونعج، وزحل، وقين، وقاضية، وعلاقة، و هامل، ووالبة، وقحر. ومن بطون عبس: زهير، ومالك، وطريف، وزيد، والعسالق، والحجببية، وغنم، وتاج، ومنسك، ومن بطون بولان: الهليلي، والحربي. ويلاحظ إن معظم قبائل عك وبطونها، هي في اليمن، بينما هي قبائل عدنانية على رأي أكثرية النسابين. وقد علل يعض النسابين ذلك بقوله: "وإنما كثرت قبائل عك بن عدنان باليمن، لأن عكا تزوج بنت أشعر، فأولد فيهم، فكانت الدار واحدة لذلك السبب".
وسمى النسابون ابن مضر عيلانا كذلك، وقال بعضهم "إن عيلانا لم يكن بأب لقيس ولا ابن لمضر، و إنما هو قيس بن مضر. و عيلان اسم فرس لقيس مشهور في خيل العرب مفضل، وكان قيس بن مضر يسابق عليه. وكان رجل من بجيلة يقال له قيس كبة الفرس له مشهورة أيضا، وكانا متجاورين في دار واحدة قبل إن تلحق بجيلة بأرض اليمن. وهذا على مذهب من جعل بجيلة ابنا لأنمار بن نزار. وكان فرساهما مشهورين مذكورين، فكان الرجل إذا سأل عن قيس، أو ذكر قيسا، قيل له: أقيس عيلان تريد، أم قيس كبة? فصار قيس لا يعرف إلا بقيس عيلان، وهو قيس بن مضر بن نزار..وقد قيل إن قيسا سمي عيلان بغلام كان له، وقيل سمي عيلان بكلب كان له يقال له عيلان" إلى غير ذلك من تفاسير وتعليلات تشير إلى اضطراب النسابين والإخباريين في الناس وفي قيس عيلان.

(1/2335)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عرف المنتسبون إلى قيس عيلان ب "قيس" و "بقيس عيلان" و ب "عيلان" و ب "القيسيين" و ب "القيسية" كذلك، وهي من الكتل القبائلية الضخمة. ومع ذلك لا نعرف من تأريخها قبل القرن السادس للميلاد شيئا يذكر. ولم يرد اسمها في كتب "الكلاسيكيين،". وقد ذكر لها الأخباريون أياما عديدة، تشمل حروبا وقعت بين القبائل القيسية نفسها، وحروبا وقعت بين قيس وقبائل أخرى من غير قيس. وقد خضعت قبائل قيس مثل أكثر القبائل العدنانية الأخرى لحكم مملكة كندة القصير.
وقد ولد الناس أو عيلان قيسا ودهمان. وقد جعل بعض النسابين. قيسا ابنا لمضر، وقالوا: انه عيلان، و إن عيلان عبد حضنه، فنسب قيس إليه. وقد ولد قيس عدة أولاد، هم: خصفة، وسعد، وعمرو. ومن ولد عمرو فهم، والحارث وهو عدوان، وأمهما جديلة بنت مر بن أد، فنسبوا إليها. وقيل: هي جديلة بنت مدركة بن الياس.
وكان لفهم عدة أولاد، منهم: قين، وسد، وعامر، وعائد، ومن بني سعد تأبط شرا الشاعر. وكانت الطائف من مواطن فهم، وعدوان، ثم غلبتهم عليها ثقيف، فخرجوا إلى تهامة ونجد. ومن بني طرود، وهم بطن من فهم، كان بأرض نجد، الأعشى.
أما أبناء عدوان بن عمرو، فهم زيد، ويشكر، ودوس. ويقال انهم دوس التي في الأزد، وكانت ديارهم بالطائف، ثم تركوها بعد نزول ثقيف فيها وارتحلوا، إلى تهامة. ومن ولد زيد بن عدوان، أبو سيارة الذي كان يدفع بالناس في المواسم. ومن بني يشكر بن عدران، عامر بن الظرب بن عمرو بن عياذ بن يشكر بن عدوان، وقد عرف عامر بن الظرب هذا ب "حاكم العرب" في الجاهلية. وهو شقيق سعد، وعمر، وصعصعة، وثعلبة. ومن بني ثعلبة بن الظرب، ذو الأصبع العدواني من الشعراء المعروفين. ومن بطون عدوان الأخرى، بنو خارجة، وبنو وابش، وبنو رهم بن ناج.

(1/2336)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن نسل سعد بن قيس عيلان، غطفان ومنبه وهو أعصر. أما غطفان، فقبيلة كبيرة معروفة، وهناك قبيلة أخرى تسمى ب "غطفان" كذلك، وهي يمانية، تنسب إلى غطفان بن سعد بن مالك بن حرام بن جذام أما هذه، فعدنانية في عرف النسابين، وتقع منازل هذه القبيلة شرقي خبير وحدود الحجاز إلى جبلي طيء.
وقد وقعت بين غطفان وبني عامر بن صعصعة عدة أيام، منها: يوم الرقم، ويوم القرنتين، ويوم طوالة، ويوم قرن. وقد كانوا مع الأحزاب في محاربة الرسول. وكانوا يعبدون العزى. شجرة بنخلة عندها وثن تعبدها غطفان، سدنتها من بني صرمة. بن مرة، وكانت قريش تنظمها، وكانت غنى و باهلة تعبدها معهم. هدمها خالد بن الوليد، وهدم البيت وكسر الوثن. وكانوا يطوفون حول البيت، بيت بساء تشبها بطواف القبائل الأخرى حول الكعبة بمكة، و لهم صنم آخر موضعه في مشارف الشام يسمى الأقيصر.
ومن رؤساء غطفان الذين سادوا فيها، زهير بن جذبمة العبسي، وقد قاد غطفان كلها، وعمرو بن جؤية بن لوذان الفزاري، وقد قاد غطفان كلها إلى يوم الخنان إلى بكر بن وائل، وبدر بن عمرو، وقد قاد غطفان لبني أسد، وعيينة بن حصن بن حذيفة، قاد غطفان إلى بني تغلب يوم الساجسي.
ويبدأ تأريخ غطفان باستقلال قبائل معد، وخروجها من حكم اليمن على ما يرويه الاخباريون. وكان رئيس قبائل غطفان في هذا العهد زهير بن جذيمة العبسي سيد عبس، وعبس من غطفان. وقد تلقب بلقب ملك وجبى. الإتاوة من هوازن، ثم قتله خالد بن جعفر بن كلاب، فترأس عبس ابنه قيس، وترأس ذبيان - وهي من قبائل غطفان كذلك - حذيفة بن الفزاري. وتمكن الحارث بن ظالم أحد الفتاك في الجاهلية من قتل خالد بن جعفر، وهو في جوار ملك الحيرة، وقد أدت هذه الحوادث إلى تشتيت قبائل غطفان، والى نشوب حروب بينها خاصة بين عبس وذبيان.

(1/2337)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد كانت قبائل غطفان في جملة القبائل التي قاومت الإسلام، واشتركت مع القبائل الأخرى في محاربة الرسول ومهاجمة المدينة، ثم أسلمت في السنة الثامنة للهجرة. وبعد وفاة الرسول عادت أكثرية غطفان، فارتدت عن الإسلام، وهاجمت المدينة. ولكن أبا بكر تمكن من صدها، ثم عادت كما عاد غيرها إن حظيرة الإسلام.
وولد غطفان ثلاثة أولاد، هم: ريث، وبغيض وأشجع على رواية، وولد ريثا وعبد العزى على رواية أخرى. وقد بدل رسول الله اسم عبد العزى فجعله عبد الله، فعرف نسله بالاسم الجديد. وقد ولد ريث من الولد أهون، ومازنا و أشجع وبغيضا، وذلك على رواية من جعل لغطفان ولدين، هما: ريث وعبد العزى.
ومن بطون اشجع بكر وسبع، ومن سبيع حلاوة "خلاوة"، وهفان وفتيان، وقنفذ، وذبيان.
وتقع مواطن أشجع في الحجاز بضواحي يثرب، وكانوا حلفاء للخزرج من الأزد. وقد ساعدوهم في يوم بعاث. وقد كان بين هم وبين سليم بن منصور يوم كان في موضع الجر.
ومن ولد بغيض: عبس، و ذبيان ويضاف إليهما أنمار في بعض الروايات.
ومن نسل عبس قطيعة، ووردة، والحارث، وورقة. ومن نسل قطيعة زهير بن جذيمة سيد بني عبس، وجميع غطفان، وقيس بن زهير بن جذيمة صاحب حرب داحس والغبراء، والربيع بن زياد وزير النعمان، والحارث بن زهير، قتله كليب يوم عراعر، وشأس بن زهير قتله فزارة، ومن عبس عنترة بن شداد البطل الجاهلي الشهير.
وهناك جملة قبائل وبطون عرفت بعبس، ففي أسد وحذيفة وهوازن وعمرو ابن قيس عيلان وعك بطون عرفت بعبس، وهي تسمية معروفة وردت في الكتابات الصفوية والتدمرية والنبطية، فهي من الأسماء القديمة المعروفة عند العرب الشماليين.

(1/2338)


--------------------------------------------------------------------------------

وتعد عبس جمرة من جمرات العرب، وجمرات العرب هي: ضبة بن أد، وعبس بن بغيض، والحارث بن كعب، ويربوع بن حنظلة، وبنو نمير بن عامر أو أقل من ذلك على حسب تعدد الروايات. ويقصدون بالجمرة القبيلة التي لا تنضم إلى أحد، ولا تحالف غيرها، وتصبر في قتال من يقاتلها من إلقبائل، أو القبيلة التي يكون فيها ثلاث مئة فارس أو ألف فارس. وهو تعريف لا يمكن إن ينطبق على قبيلة ما من القبائل، حتى على هذه القبائل التي قالوا عنها إنها الجمرات، فلا بد في القتال بين القبائل من حلف، ومن طلب مساعدة القبائل الأخرى. ولذلك نجد الأخباريين يذكرون إن بعض هذه القبائل طفئت لأنها حالفت القبيلة الفلانية. فذكروا إن ضبة طفئت لأنها حالفت الرباب، وان الحارث طفئت لأنها حالفت مذحجا، وان عبسا طفئت أيضا لانتقالها إلى بني عامر بن صعصعة يوم جبلة. وهكذا إذا استقيصت كلام. الإخباريين الوارد في مناسبات أخرى عن هذه القبائل، تجد انه يصادم ما قالوه من عدم تحالف القبائل المذكورة وانضمامها إلى القبائل الأخرى. وظني إن شهرة عبس في الشجاعة خاصة من دون القبائل الأخرى إنما وردت إليها من هذا القصص المروي عن عنترة ابن شداد.
ومن ولد ذبيان فزارة وسعد، وفي روايات أخرى إن والد سعد هو ثعلبة ابن ذبيان. وولد سعد عوفا، وهو والد مرة وثعلبة، ومن بني مرة بن عوف خزيمة، وغطفان، وسنان. ومن بني سنان هرم بن سنان، وبنو يربوع بن غيط بن مرة بن عوف، ومنهم النابغة الذبياني، و الحارث بن ظالم ابن جذيمة بن يربوع بن غيظ من الفتاك، ومن بني مرة بنو سهم بن مرة، ومن بني ثعلبة بن سعد، بنو بجالة بن ثعلبة بن سعد، وبنو عجب بن ثعلبة بن سعد، وبنو رزام بن ثعلبة بن سعد.
وقد وقعت بين بني عبس وذبيان حروب عديدة، سأتحدث عنها في الأيام، والظاهر انه كانت بين القبيلتين منافسة شديدة.

(1/2339)


--------------------------------------------------------------------------------

أما فزارة، فولد عديا، وظالما، ومازنا، وشمخا "سمخا" "شمجا بم،ومرة. ومن بني عدي: بغيض بن مالك بن سعد الذي اجتمعت عليه قيس في الجاهلية، وبنو بدر بن عمرو بان حوية بن لوذان بن ثعلبة بن عدي بن فزارة، وهم بيت فزارة وعددهم، وبنوه حذيفة الذي يقال له رب معد، وحمل، المقتولان يوم الهبأة، ومالك، وعوف، المقتولان في حرب داحس والغراء، والحارث، وربيعة، وقد سادوا كلهم. ومن بني ظالم، نعامة التي يتمثل به في إدراك الثأر، وكان فيه هوج، ورويت له أمثال كثيرة. ومن بني شمخ، ظويلم المعروف بمانع الحريم، "سمي بذلك لأنه خرج في الجاهلية يريد الحج، فنزل على المغيرة بن عبد الله المختومي، فأراد إن يأخذ منه ما كانت قريش تأخذ ممن نزل عليها في الجاهلية، ولذلك سمي الحريم. وكانوا يأخذون بعض ثيابه أو بعض بدنته التي ينحر، فامتنع عليه ظويلم، وقال: يا رب، هل عندك من غفيره إن منى مانعه المغيره
ومانع بعد منى ثبيره ومانعي ربي أن أزوره
وظويلم الذي منع عمرو بن صرمة الإتاوة التي كان يأخذها من غطفان".
وتقع مواطن فزارة بنجد وبوادي القرى، وانتشروا بعد ذلك - وخاصة في الفتوحات الإسلامية - في مواطن أخرى، وذهبت بطون منهم إلى شمال إفريقية. وكان لحذيفة بن بدر رئيس فزارة اثر خطير في حرب داحس التي وقعت بين عبس وذبيان، و لهم حروب و أيام مع القبائل الأخرى مثل حربها مع عمرو بن تميم ومع التيم ومع هوازن ومع بني جشم بن بكر ومع بني عامر. يذكرها أهل الأخبار في حديثهم عن الأيام. وقد قاد حذيفة بن بدر فزارة، ومرة يوم النسار، ويوم الجفار، وفي حرب داحس حتى قتل فيها يوم الهبأة. وقد عرف "حذيفة" هذا ب "رب معد". وكان ابنه "حصن" من سادات فزارة.

(1/2340)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن بني مازن بن فزارة: بنو العشراء، "وبنو سيار بن عمرو الذي رهن قومه بألف بعير، وضمنها لملك من ملوك اليمن، وذلك إن بني حارث بن مرة، قتلوا ابنا لعمرو بن هند، فرهن سيار قوسه. ومن ولد سيار، زبان، و قطبة. ومن ولد قطبة هرم بن قطبة، وهو من حكماء العرب، واليه تحاكم عامر بن طفبل وعلقمة بن علاثة، وكان ممن أدركوا الإسلام.
و أما ولد أعصر بن سعد بن قيس عيلان، فهم: مالك، ومن نسله باهلة، وعمرو وهو غني، وأمهما من همدان، وثعلبة وعامر ومعاوية، وأمهم الطفاوة بنت جرم بن "زبان".
ومن ولد مالك، سعد مناة، وأمه باهلة بنت صعب بن سعد العشيرة من مذحج، وبها عرف سعد مناة ونسله. ومعن بن مالك وهو الذي خلف أباه على باهلة، ومن نسله عمارة بن عبد العزى، قاتل عبد الدار بن قصي. ومن بطون باهلة بنو قتيبة، ومنهم بنو سهم، وبنو أصمع، و وائل بن معن. وتقع منازل هذه القبيلة في اليمامة في الأصل، ويظن بعض المستشرقين إنها قبيلة "Bahilitae" "Pachylitae" التي ذكرها "بلينيوس". وقبيلة "Bliulaei" الوارد اسمها في جغرافية "بطلميوس".
و أما غني، فقيلة كانت ديارها في جوار طيء و عند حمى ضرية. ومنها رباج بن الأشل، وابن أخيه ثعلبة قاتل شأس بن زهرة بن خزيمة العبسي. وقيل: إن رباحا هو قاتل شأس. وكانت لهم ظاعنة ضخمة بالشام. ومن بطون غني عبد، وزبان، وصريم، وضبينة، وبنو عتريف. وكانت لهم حروب مع عبس ومع زيد الخيل. ومن أصنامهم التي عبدوها: اللآت، ومناة، والعزى. ومن شعرائهم طفيل بن عمرو الغنوي، وكعب بن سعد الغنوي.

(1/2341)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن ولد خصفة بن قيس عيلان: عكرمة، وأمه اخت كلب بن وبرة لأبيه، ومحارب. ومن محارب: عامر بن وهب بن مجاشع المعروف بذي الرمحين، وكان سيد قومه، وقد غزا باهلة وأوقع فيها، وأسر منها، وسبع الوارث، وهو مالك بن عمرو بن حارثة بن عبد بن سلول الكيدبان، و اسمه عبد الله. القائل لرسول الله: "جملي احب إلي من ربك"، والعقب من محارب لصلبه في فخذين: طريف، وجسر.
والفرع الثاني من فرعي خصفة، فرع ضخم كبير بالقياس إلى فرع محارب، فهو يشمل على ولد منصور بن عكرمة، وهم: مازن، وهوازن، وسليم، وسلامان، وأبو مالك. ومن بني هوازن: بكر بن هوازن، ومن ولد بكر: معاوية، ومنبه، وسعد، ويزيد. وقد قتل معاوية، فجعل عامر بن الظرب العدواني ديته مئة من الإبل. ويقول الأخباريون إن هذه أول دية قضى فيها بذلك، وان لقمان كان قد جعلها قبل ذلك مئة جدي. وفي بني سعد بن بكر ابن هوازن استرضع الرسول. ومن بطون بكر الأخرى: جشم بن معاوية بن بكر، ومنهم بنو جداعة، رهط دريد بن الصمة، وبنو سلول وهم بنو مرة ابن صعصعة بن معاوية بن بكر، وعامر بن صعصعة.
وهوازن من القبائل العربية الضخمة، وقد تفرعت منها قبائل كبيرة معروفة كانت لها شهرة بين القبائل. سكنت في مواضع متعددة من نجد على حدود اليمن وفي الحجاز. ويظهر من انتساب هذه القبائل المعروفة الكبيرة إليها، ثم من اقتصار اسم هوازن على قبيلة واحدة فيما بعد، واختصاصها به، إنها كانت في الأصل حلفا في جملة قبائل، ثم انفصل لعوامل سياسية واقتصادية مختلفة، فلم يبق من ذلك الحلف إلا الرابطة التأريخية التي بقيت في. ذاكرة نسابي القبائل، وهي رابطة النسب. وقد وقعت بين القبائل التي ترجع نسبها إلى هوازن وبين قبيلة هوازن حروب عديدة.

(1/2342)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد كانت هوازن في جملة القبائل الخاضعة للتبابعة، فلما استقلت قبائل معد عن اليمن، كانت هوازن في جملة من استقل من تلك القبائل. ولكنها أخذت تدفع الإتاوة لزهير بن جذيمة سيد عبس من غطفان. فلما قتل زهير، استقلت من غطفان، ولم تدفع الإتاوة إليها. ولما انتهت حرب عبس و ذبيان، وعقد الصلح بين القبيلتين المتنافستين، وقعت حروب وأيام بين بطون غطفان وهوازن، منها: يوم الرقم، ويوم النباع، ويوم اللوى، دارت الدائرة فيها على هوازن، كما وقعت بينها وبين قبائل كنانة وقريش و ثقيف أيام عديدة. وكانت هوازن في جملة القبائل التي قاومت الإسلام. و قد غزاها الرسول، بعد فتح مكة، فتمكن منها، ودخلت في الإسلام ثم ارتدت بعد وفاته، ثم عادت مع التوابين بعد إن غلبهم الخليفة أبو بكر الصديق.
وكان لهوازن صنم يعظمونه في عكاظ اسمه جهار، سدنته من آل عوف النصرين، تشاركهم في عبادته محارب، وكان في سفح أطحل.
ومن ولد منبه بن بكر بن هوازن بن منصور، قسي و هو ثقيف. وولد قسي جشما و عوفا ودارسا. وقد دخل ولده في الأزد. ومن بني عوف بن ثقيف، الحجاج بن يوسف الثقفي. ومن بني غيرة بن عوف بن ثقيف، الشاعر أمية بن أبي الصلت. والأخنس بن شريق، والحارث بن كلدة و أبو **** بن مسعود، والد المختار. ومن بطون ثقيف الأخرى بنو عقدة بن غيرة، وبنو معتب، وبنو حبيب، وبنو اليسار بن مالك بن حطيط. ومن بني معتب، غيلان بن مسلمة بن معتب، وكانت له وفادة على كسرى.
ولثقيف حروب يظهر إنها كانت في الغالب دفاعا عن النفس، إذ نجد ثقيفا تهاجم فيها في الطائف، فتضطر عندئذ إلى الدفاع عنها. وقد كان من أصنامها اللآت، وله بيت بالطائف على صخرة يضاهون به الكعبة بمكة. وكانوا يهدون إليه الثياب لستره به، ويطوفون حوله. وسدنته من آل أبي العاص بن أبي يسار بن مالك من ثقيف.

(1/2343)


--------------------------------------------------------------------------------

وولد سليم بن منصور، بهثة "بهتة". ومن ولد بهثة الحارث، وثعلبة، وامرؤ القيس، وعوف، ومعاوية. ومن بطون امرئ القيس، بنو عصية. ومن بني عصية، مالك ذو التاج، وكرز، وعمرو، وهند، وبنو خالد بن صخر بن الشريدة وقد توجت بنو سليم مالكا ملكا عليها، وقتل مالكا وكرزا عبد الله بن جذل الطعان الكناني. وقد اشتهرت بلاد بني سليم بالمعدن الذي فيها، ولذلك قيل لها معدن بني سليم. ومن بني الحارث بن بهثة بنو ذكوان. ومن بني عبس بن رفاعة بن الحارث، للعباس بن مرداس، وهم من القبائل التي لعنها الرسول، لقتلها أهل بئر معونة. وقد لعن الرسول بني عصية بن خفاف بن امرئ القيس بن بهثة كذلك للسبب نفسه. ومن بني ثعلبة بن بهثة بن سليم حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص، وكان بمكة في الجاهلية محتسبا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
وتعد قبيلة بني سليم من القبائل المهمة الساكنة في الحجاز في ارض اشتهرت بمعادنها و بخصبها، وبها حرارد منها: حرة بني سليم، وحرة ليلى، و بها مياه استفادت منها القبيلة في الزرع. و تجاورها من القبائل. غطفان و هوازن وهلال. وكانوا على صلات حسنة باليهود، كما كانوا على صلات وثيقة بقريش. وقد تحالف معهم أشراف مكة و كبارها لما لهم من علاقات اقتصادية بهذه القبيلة.
ويروى إن النعمان بن المنذر كان قد نقم على بني سليم لأمر أحدثوه، فأرسل عليهم جيشا، ولكنه لم يتمكن منهم، وهزم الجيش. و لبني سليم ككل القبائل الأخرى أيام. منها: يوم ذات الرمرم وهو لبني مازن على بني سليم، ويوم تثليت وهو بين مراد وبني سليم.
وكان لهم صنم يقال له "ضمار" كان عند مرداس والد العباس بن مرداس. فلما توفي مرداس، وضعه العباس في بيت يتعبد له. فلما ظهر الإسلام، أسلم، وأحرق ذلك الصنم.

(1/2344)


--------------------------------------------------------------------------------

وولد معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور أولادا، هم: نصر، وجشم، وصعصعة، وعوف. ويسمون بنيه الوقعة. و قد دخلوا في بني عمرو بن كلاب بن الحارث. ومن بني نصر معاوية ربيعة بن عمان، وهو أول عربي قتل عجميا في يوم القادسية. ومن بني جشم بن معاوية، دريد بن الصمة من الفرسان المعروفين. ولهم حروب مع أسد و غطفان وعبس، وكانت موطنهم بالسروات.
أما ولد صعصة بن معاوية، فهم: عامر، ومرة ويعرف أبناؤه ببني سلول نسبوا إلى أمهم، وغالب و أمه تماضر، وقد نسب ولده إلى أمهم. وربيعة وأمة عويصرة، و إليها نسب. وعبد الله، والحارث: وأمهما عادية، واليها نسبا، وكبير، وعمرو، وزبير وأمهم وائلة، و إليها نسبوا. وقيس، وعوف، ومساور، وسيار، و مشجور أمهم عدبة، فنسبوا إليها. ويلاحظ إن النسابين قد جعلوا لصصعة عدة نساء، ونسبوا إلى هؤلاء النسوة أولادهن، فعلوا ذلك للتمييز بين هؤلاء الأولاد ولا شك.
وذهب بعض المستشرقين إلى احتمال كون بني عامر هم: "Hamirei"، "Hamirou"، "Hamirinoi" المذكورين في تأريخ "بلينيوس". و تقع منازلهم بين منازل قبائل هوازن وسلم وثقيف، ولهم مع القبائل الأخرى مثل بني حنيفة وعبس وذبيان وفزارة وتميم و بني نهد وسعد الرباب حروب -عديدة-، ترد أخبارها في الأيام.

(1/2345)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن نسل عامر بن صعصة.: ربيعة، وهلال، ونمير، و سواءة. ومن بني ربيعة بن عامر بن صعصعة كلاب، وعامر، وكليب. ومن بني عامر ابن ربيعة بن عامر بن صعصعة، معاوية ذو السهمين، لأنه كان يأخذ سهمه من غزوات بني عامر، أقام أو غزا. وبنو عمرو بن عامر المعروف ب "فارس الضحياء". ومن بني كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. وهم خالد الأصبغ وربيعة الأحوص، ومالك الطيان، أمهم بنت رياح بن الأشل الغنوي، وعتبة، وعوف، أمهما فاطمة بنت عبد مناف بن قصي بن كلاب. فولد الأحوص عوفا، وعمرا، و شريحا، قاتل لقيط بن زرارة يوم جبلة، وقد سادوا جميعا. ومن عوف بن الأخوص علقمة بن علاثة الذي نافر عامر ابن الطفيل.
ومن نسل خالد بن جعفر بن كلاب أربد بن قيس بن جزء بن خالد، وهو الذي أراد مع عامر بن الطفيل قتل رسول الله. ومن نسل مالك بن جعفر ابن كلاب، عامر، وهو أبو براء ربيعة ملاعب الأسنة، والطفيل، وهو والد عامر بن الطفيل، ولبيد الشاعر. ومن نسل عتبة بن جعفر بن كلاب عروة الرحال بن عتبة بن جعفر الذي أجار لطيمة الحيرة، فقتله البراض الكناني، و من أجله كانت حرب الفجار. وابنته كبشة هي أم عامر بن الطفيل، ولدته يوم جبلة.
ومن نسل عمرو بن كلاب الصعق، وهو عمرو بن خويلد بن نفيل بن عمرو ابن كلاب. وكان سيدا لم يطعم بعكاظ، ومن ولده الشاعر يزيد بن عمرو الصعق. ومن بني الباب بن كلاب بن ربيعة شمر بن ذي الجوشن قاتل الحسن بن علي. ومن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة جعدة، والحريش، وعقيل، وقشير، وعبد الله، وحبيب. ومن ولد عبد الله نهم والعجلان، وهم قبيلة. ومن جعدة الشاعر النابغة الجعدي. ومن بني قشير مالك ذو الرقيبة بن سلمة الخير الذي أسر حاجب بن زرارة يوم جبلة. ومن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، المننفق بن عامر بن عقيل، وهم بطن وربيعة بن عامر، ومنهم الحارث الأبرص قاتل زيد بن عمرو بن عدس يوم جبلة، وبنو خفاجة بن عمرو بن عقيل.

(1/2346)

admin
12-31-2010, 07:51 PM
وتقع منازل الضباب في أرض كلاب، ومن بطونهم ضب و ضبيب و حسل وحسيل، وقد وقعت بينهم وبين جعفر بن كلاب يوم عرف بيوم حرابيب، ويوم آخر عرف بيوم هراميت.
و أما منازل جعدة، فهب في الفلج من اليمامة. و أما الحريش، فكانت منازلهم باليمامة، واشتركت في يوم الرحرحان. وكانت مساكن عقيل بالبحرين، وهاجروا إلى العراق، وكان لهم أثر ملحوظ في تأريخ العراق في الإسلام.
والفرع الثاني من فروع مضر، هو من نسل الياس، ويتكون هذا الفرع من ثلاث كتل: طابخة، وقمعة، ومدركة. ولكل كتلة من هذه الكتل قبائل وبطون.
أما طابخة، واسمه عمرو "عامر"، فهو والد ولد يسميه النسابون أدا، وأد والد عدة أولاد هم: مر، وضبة، وعمرو وهو مزينة، وعبد مناة، وحميس "خميس". وذكروا إن بني حميس شهدوا يوم الفيل مع الحبشة، فقتلوا، فقل نسبهم.
أما ضبة بن أد، فولد سعد بن ضبة، وسعيد ولا عقب له، قتله الحارث ابن كعب، ثم قتل ضبة الحارث بن كعب، وفي ذلك سارت الأمثال الثلاثة: "أسعد أم سعيد" و "الحديث ذو شجون" و "سبق السيف العذل" قالها كلها ضبة، و باسل بن ضبة. ويذكر الأخباريون إن الديلم من نسله. وولد سعد ابن ضبة بكر بن سعد، وثعلية، وصريم. ومن بكر بن سعد ضرار بن عمرو ابن مالك، سيد بني ضبة. وقد شهد يوم القرنتين، والمفضل بن يعلم" صاحب المفضليات، وحبيش بن دلف بن العون، وكان ينازع ضرار بن عمرو الرياسة وحضر يوم القرنتين، و بني تيم بن ذهل.

(1/2347)

وتعد ضبة جمرة من جمرات العرب التي أشرت إليها، وتقع منازلها في اليمامة، وفي خلال الحرب التي وقعت بين عبس وذبيان دخلت عبس أرض ضبة، ولكنها اضطرت إلى مغادرتها بعد النزاع الذي حدث بين عبس و ضبة. وجاورت بني عامر بن صعصعة. وفي يوم "جبلة"، وهو من الأيام المشهورة التي وقعت بعد يوم رحرحان بعام، ويصادف ذلك عام مولد النبي على رواية. أو قبل مولده بسبع عشرة سنة على رواية أخرى. كانت ضبة مع ذبيان وتميم وأسد والرباب وفزارة في مهاجمة بني عامر بن صعصعة. وبالرغم من كثرة هذه القبائل، تمكنت بنو عامر من الظفر به ومن إلحاق الهزيمة بتميم وبمن ضامها. والى مشورة قيس بن زهير العبسي يعود الفضل في انتصار بني عامر. وفي رواية إن لقيطا استنجد أيضا بالنعمان بن المنذر، فأنجده بأخيه لأمه حسان ابن وبرة الكلبي، وبصاحب هجر وهو الجون الكندي، فأنجده بابنيه معاوية وعمرو وغزا بني عامر. وقد أصيب تميم ومن كان معها من القبائل بخسائر، وبوقوع عدد من الزعماء أسرى في أيدي بني عامر، فقتل في هذا اليوم لقيط بن زرارة، وأسر حاجب بن زرارة، أسره فو الرقيبة، وأسر سنان بن أبي حارثة المري وجزت ناصيته، وأطلق إمعانا في امتهانه، وأسر عمرو بن عدس وجزت ناصيته كذلك ثم أخلي سبيله. وقتل معاوية بن الجون، ومنقذ بن طريف الأسدي، ومالك بن ربعي بن جندل. وبعد حز الناصية بعد الأسر خاصة مع اشد درجات الامتهان، و لا سيما جز نواصي السادة والرؤساء.
وفي يوم النسار، لحقت ضبة وعدي بأسد وطيء و غطفان في غزوهم لي بني عامر، وقد ألحقوا خسائر فادحة ببني عامر، وهذا مما غاظ تميما، فجعلها تلحق طيئا وغطفان وحلفائهم من ضبة وعدي يوم الفجار، حتى قتلت من طيء أكثر مما قتلت طيء يوم النسار.

(1/2348)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن ذرية عبد مناة بن أد: تيم، وعدي، وعوف، وثور، وأشيب. وهؤلاء هم الرياب، لأنهم تحالفوا مع بني عمهم ضبة على بني عمهم تميم بن مر، فغمسوا أيديهم في رب. ومن بني عوف بن عبد مناة بنو عكل. و من بني عمرو بن أد: مزينة، نسبوا إلى أمهم مزينة بنت كلب بن وبرة. وتقع ديار الرباب بالدهناء في جوار بني تميم.
ومن ولد أد بن طابخة مر بن أد فولد مر تميما وثعلبة، وهو ظاعنة، وبكر بن مر، وهو الشعراء، ومحارب بن مر، وهو صوفة. ومن النساء برة أم "النضر، وملك وملكان بني كنانة. وهي أيضا أم أسد بن خزيمة، وهند ابنة مر وقد ولدت بكرا وتغلب وعنز بني وائل بن قاسط، وتكمة بنت مر وقد ولدت غطفان بن سعد، وسليما و سلامان بن منصور، وجديلة نجت مر وفد ولدت فهما وعدوان، واليها ينسبون، وعاتكة بنت مر. وهي والدة عذرة ابن سعد و إخوته.
و أما صوفة، فانهم كانوا يجيزون بالحاج. وقد انقرضوا عن آخرهم في الجاهلية، فورث ذلك آل صفوان بن شجنة "سجنة" "شحمة"، من بني سعد بن زيد مناة بن تميم. ومن هؤلاء على رواية كان عامر بن احيمر السعدي الذي حصل على بردي محوق من النعمان بن المنشر في مجلس مفاخر حضرته وفود العرب عقد بحضره النعمان بن المنذر في الحيرة. وقد بز عامر هذا الحاضرين في الفخر وفي الانتساب على الطريقة المألوفة. ولما سأله النعمان: بم أنت أعز العرب? قال: العز والعدد من العرب في معد، ثم في نزار، ثم في تميم، ثم في سعد، ثم في كعب، ثم في عوف، ثم في بهدلة، فمن أنكر هذا من العرب فلينافرني? فلما لم ينافره أحد، ذهب بالبردين.

(1/2349)


--------------------------------------------------------------------------------

وتميم من القبائل العربية الكبيرة المعروفة، وقد نعتهم ابن حزم بقوله:"وهم قاعدة من أكبر قواعد العرب". وتعد في مقابل قيس وربيعة، وهي الممثلة لمجموعة مضر في بعض الأحيان. وهي أقرب جغرافيا وتاريخيا إلى قيس وربيعة منها إلى كنانة. ومعارفنا عن تأريخها مستمدة مثل معارفنا عن القبائل الأخرى المماثلة من الروايات المدونة في كتب الأخباريين.
ويزعم الأخباريون إن جد هذه القبيلة مدفون في موضع "مران"، وهم يروون قصصا عنه وعن ميلاد أولاده من هذا النوع الذي ألفنا وروده عن الأخباريين.
ولا نستطيع في الوقت الحاضر إن نرتقي بتأريخ تميم عن القرن السادس للميلاد، فليست لدينا موارد تأريخية يعتمد عليها ترفع تأريخ هذه القبيلة إلى ما قبل ذلك، ولا يعني هذا إننا ننكر إن يكون لها تأريخ قديم، إذ يجوز إن يكون لها عهد اقدم من هذا العهد الذي نتحدث عنه. ولكننا لا تملك الان نصوصا جاهلية أو موارد إسلامية يطمأن إليها، ترجع تأريخ تميم إلى ما قبل هذا القرن.
أما في القرن السادس، فقد كانت تيم قبيلة بارزة ظاهرة، بطونها منتشرة في العربية الشرقية، وفي نجد وفي العراق، وفي أنحاء مختلفة من جزيرة العرب، مجاورة لقبائل معروفة مثل أسد وغطفان و بني عبد القيس وتغلب، متصلة بها. ومن بني دارم من تميم كان المنذر بن ساوى حاكم البحرين والذي أسلم في أيام الرسول.
و كانت لتميم صلات متينة بملوك الحيرة، وكان من عادتهم جعل الردافة في بطن من بطونهم، وهو بطن بني يربوع. وقد ثار هذا البطن وهاج، لما حولت الردافة إلى بطن آخر من بطون تميم، هو بطن بني دارم، ولم يقبلوا إلا برجوعها إليهم، لما كان للردافة من مكانة ومنزلة في ذلك الوقت.

(1/2350)


--------------------------------------------------------------------------------

ونجد في كتاب الأخباريين أسماء أيام عديدة وقعت بين تميم وغيرها من القبائل، خاصة قبائل بكر بن وائل، كما نجد إشارات إلى حروب وقعت بينهم وبين بعض ملوك الحيرة. وقد أشرت إلى القصص الذي يرويه أهل الأخبار عن غزو "سابور ذي الأكتاف" لجزيرة العرب والى ما زعموه من تنكيله بالقبائل وانتزاعه أكتافهم، ومن هذه القبائل قبيلة تميم. ويذكر الأخباريون أيضا إن "كسرى برويز" . "كسرى أبرويز" "Khusrawparwez"، كتب إلى عامله على هجر، وهو "المكعبر"، إن ينتقم من تميم، لتعرضها لقافلة كانت محملة بالتجارات وبالهدايا مرسله إليه، فقتل المكعبر بالمشقر عددا كبيرا منهم.
ولتميم صلات متينة برجال مكة، وقد كان لرجالهم ذكر وخبر في سوق "عكاظ". فنهم كان حكام الموسم. كما تولوا القيام ببعض مناسك الحج. وقد صاهرهم بعض رجاك مكة.
ويظهر من بعض روايات الأخباريين إن تميما وبقية القبائل المنتمية إلى "أد" كانت تتعبد ل "شمس". وكان لشمس بيت "تعبده بنو أد كلها: ضبة، وتميم، وعدي، و عكل،. وثور. وكان سدنته من بني أوس بن مخاشن بن معاوية بن شريف بن جروة بن أسيد بن عمرو بن تميم، فكسره هند بن أبي هالة بن أسيد بن الحلاحل بن أوس بن مخاشن". وعبدت طائفة من تميم "الدبران" من النجوم، ولهم قصة عن هذه النجوم.
وكاد بعض تميم على النصرانية، ومنهم عدي بن زيد العبادي، كما كان بعض منهم من دان بالمجوسية، وبن هؤلاء زرارة بن عدس التميمي و ابنه حاجب ابن زرارة والأقرع بن حابس.
وفي شواهد كتب النحو والصرف أمثلة عديدة من لهجة تميم، وهي تشير إلى وجود فوارق ومميزات في تلك اللهجة تميزها عن اللهجة التي نزل بها القرآن الكريم. وقد أخرجت هذه القبيلة عددا من الشعراء في الجاهلية والإسلام. وللاستشهاد بلهجة تميم، ولوجود عدد من الشعراء الذين يبدون من كبار الشعراء عند علماء الشعر، أهمية كبيرة ولا شك في دراسة اللهجات العربية، وعلاقاتها بلهجة القرآن الكريم.

(1/2351)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد أدى تعدد بطون تميم وانتشارها إلى نشوب حروب بينها، والى تكتلها كتلا وتكوين أحلاف بينها، كالحلف الذي كان بين بني يربوع و بني نهشل. وقد نسب لأبي اليقظان النسابة كتاب في أحلاف تميم اسمه: "كتاب حلف تميم بعضها بعضا".
وبطون تميم عديدة، تفرعت على رأي النسابين من الحارث، وعمرو، وزيد مناة أولاد تميم. ومن ولد عمرو: العنبر، والهجيم، وأسيد، ومالك، والحارث و قليب. والحرماز، وكعب على رواية أخرى. ومن بطون بني كعب بنو فهد. وقد عرف نسل الحارث بالحبطات. ومن بطون بني مالك إبن عمرو بن تميم: مازن، والحرماز، وغيلان، وغسان. ومن بني أسيد ابن عمرو بن تميم بنو كاهل، ومنهم أوس بن حجر الشاعر الجاهلي المعروف، وكان شاعر مضر حتى أسقطه زهير، وبنو شريف ومنهم أكثم بن صيفي من حكماء العرب في الجاهلية، وحنظلة بن رجعة، ابن أخي اكثم. و قد كتب للنبي الوحي. ومن بني مالك بن زيد مناة بن تميم البراجم،. وبنو دارم، ومن بني حنظلة بنو يربوع، ومن بني يربوع بنو ثعلبة، ومن بني الحارث بن يربوع بنو سليط، ومن نسل مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم: بنو فقيم، وبنو نهشل، و بنو مجاشع، وفي بني رياح بن يربوع كانت ردافة قبل الإسلام، ومن بني العنبر بن يربوع كانت سجاح.
وذكر "البلاذري" أن "بكر بن وائل" أغارت على "بني عمرو بن تميم" يوم "الصليب"، ومعها ناس من الاساورة، فهزمتهم بنو عمرو وقتلت "طريفا" رأس الأساورة ا، وذكر إن "بكرا" كانت تحت يد كسرى وفارس، فكانوا يقوونهم ويجهزونهم. وكان يشرف عليهم عامل "عين التمر". ويظهر إن "بني عمرو"، كانوا قد اعتدوا على "عير كسرى"، فجهز "بكر بن وائل" عليهم.

(1/2352)


--------------------------------------------------------------------------------

أما بنو قمعة بن الياس، فهم من نسل عامر بن قمعة، واسم قمعة عمير. وقد ولد عامر أفصى وربيعة وهي لحي فولد لحي عامر بن لحي، وولد عامر ابن لحي عمرا وهو عمرو بن لحي، نسب إلى جده، فعرف بعمرو بن لحي. وهو على قول الأخباريين أول من غير دين إسماعيل ودعا العرب إلى عبادة الأوثان.
و أشهر بطون قمعة أسلم، و خزاعة في رأي بعض النسابين. ولم يشر إلى عقب يذكر لقمعة بعض آخر من علماء الأنساب أما اسلم، فهم بنو أفصى ابن عامر بن قمعة، و أما خزاعة، فهم بنو عمرو بن عامر بن لحي وهو ربيعة. وقد كانت مواطن خزاعة في أنحاء مكة في مر الظهران وما يليه. وكانوا حلفاء لقريش. ودخلوا في عام الخديبية في عهد رسول الله، وقد ذهب بعض النسابين كما أشرت سابقا إلى ذلك إن خزاعة من غسان، و إنها من نسل حارثة بن عمرو "عامر" مزيقياء، و إنها أقامت بمر الظهران حين سارت غسان إلى الشام، وتخزعوا عنهم، فسموا خزاعة. والى نسبة خزاعة إلى غسان ذهب نسابوا خزاعة.
ومن صلب عمرو بن لحي، أي خزاعة، بنو سلول بن كعب بن عمرو بن عامر بن لحي، ومنهم قيمر "قمر"، ومطرود ومازن وسعد و حليل، وحبشية وهم بطن، وهو حاجب الكعبة. ووالد حبي التي تزوجها قصي بن كلاب. ومن نسل حليل أبو غبشان. واسمه المحترش، باع الكعبة بزق خمر من قصي ابن كلاب. ومن ولد حبشية بن كعب بن عمرو بن عامر بن لحي: حرام، و غاضرة. ومن نسل بني عوف بن عمرو بن عامر بن لحي: جفنة "بنو جهينة"، وهم عباد بالحرة. ومن نسل سعد بن عمرو بن لحي بنو المصطلق، ومن بني افصى بن عامر بن قمعة بن عامر بن قمعة: بنو اسلم، و سلامان و هوازن، وبنو ملكان بن افصى بن عامر بن قمعة وبنو مالك بن افصى.
وقد تحدثت سابقا عن رأي نسابي اليمن في خزاعة، وعدها من جماعة قحطان. ونظرا لعد بعض النسابين إياها من عدنان تحدثت عنها في هذا الباب.

(1/2353)


--------------------------------------------------------------------------------

أما فرع مدركة، فيتكون من اصلين: خزبمة، وهذيل. وأمهما سلمى بنت أسد بن ربيعة بن نزار. و أضاف بعض النسابين ولدا آخر أليهما اسمه غالب بن مدركة، دخل نسله في بني الهون بن خزيمة بن مدركة.
أما ولد خزيمة، فهم كنانة وأمه عوانة بنت قيس بن عيلان، وأسد، و أسدة، و الهون، وأمهم برة بنت مر بن أد بن طابخة. اخت تميم بن مر، ويرى بعض النسابين إن جذاما ولخما وعاملة هم نسل أسدة، ولكنهم انتسبوا في اليمن، فقالوا جذام بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن يشجب بن يشجب بن مالك بن زيد بن كهلان، وأن هذا الانتساب كان لعوامل سياسة كما حدث لقبائل أخرى، خاصة في أيام الأمويين.
وكانت منازل كنانة عند ظهور الإسلام في أطراف مكة بين هذيل وأسد بن خزيمة، وكان لها أثر مهم في تأريخ مكة على ما يفهم من روايات الأخباريين. وقد ساعدت قريشا، وقريش من كنانة في نزاعها على رئاسة مكة مع خزاعة، ولها مع خزاعة جملة وقائع، كما كان لها أثر خطير في حروب الفجار.
وتتألف كنانة من بطون عديدة، هي: النضر، والنضير، ومالك، وملكان، وعامر، وعمرو، والحارث، وعروان "عزوان"، وسعد، و عوف، وغنم، و مخرمة، و جرول. وفي رواية لابن الكلبي إن جميع هؤلاء الأبناء هم من أم واحدة هي برة بنت مر، أخت تميم بن مر، وهي أم أسد و أسدة والهون أبناء خزيمة في رواية أخرى. أما أم عبد مناة بن كنانة، وذلك في رواية من جعله ابنا لكنانة، فهي بنت هنئ بن بلي بن قضاعة. وهذا السبب نسبت إلى قضاعة عند بعض النسابين.

(1/2354)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن بطون عبد مناة بن كنانة: بكر، وعامر، ومرة، وغفار. وهي بطون. ومن بكر: ليث، والدئل وأمهما أم خارجة البجلية، وضمرة، وعريج. ومق ليث بن بكر: عامر و جندع، وسعد. ومن الدؤل أبو الأسود الدؤلي. ومن بني مرة بن عبد مناة: بنو مدلج، وقد اشتهروا بالقيافة. ومن بطون مالك بن كنانة،: ربيعة بن مكدم، فارس بني كنانة، و بنو، فراس بن تميم، وبنو فقيم، وهم الذين كانوا ينسأون الشهور في الجاهلية، ثم ابطل ذلك في الإسلام.
ومن نسل الهون: عضل، وديش، والقارة. وبنو يينع "يتتع". "يثيع"، بن مليح بن الهون. وهم، وبطنان من خزاعة هما: الحيا والمصطلق، حلفاء لبني الحارث بن عبد مناة بن كنانة. ويقال لهم جميعا الأحابيش، أحابيش قريش، لأن قريشا حالفت بني الحارث بن عبد مناة على بكر بن عبد مناة، فهم وأحلافهم حلفاء قريش.
أما نسل أسد بن خزيمة، فهم: دودان، وكاهل، وعمرو، وصعب، وحملة. ويقال لبني عمرو بنو نعامة. وجعل بعض النسابين بني النعامة، من نسل عبد الله بن صعب بن أسد، وهم: بنو جعدة، وبنو البحر بن عبد الله ابن مرة بن عبد الله بن صعب بن أسد. وحصر بعض النسابين بطون أسد ابن خزيمة في كاهل، وفقعس، والقعين، و دودان.
ومن نسل عمرو بن أسد بن خزيمة: القليب، ومعرض واسمه سعد، والهالك، ومن نسل كاهل بن أسد بن خزيمة مازن بن كاهل، ومنهم علياء ابن حارثة بن هلال الشاعر قاتل حجر بن عمرو الكندي والد الشاعر امرئ القيس.

(1/2355)


--------------------------------------------------------------------------------

وولد دودان بن أسد: ثعلبة، وغنما. فولد غنم بن دودان كبيرا، وعامرا، ومالكا. ومن بني غنم بنو جحش. ومن بني ثعلبة بن دودان الشاعر **** بن الأبرص، والكميت الشاعر. ومن بني سعد بن مالك بن ثعلبة ابن دودان عمرو بن مسعود الذي يقال إن النعمان بنى عليه الغري. ومن بني الحارث بن ثعلبة بن دودان: قعين، ووالبة، وسعد، و من بني قعين عامر ابن عبد الله بن طريف بن مالك بن نصر بن قعن، صاحب لواء بني أسد في الجاهلين. ومن بني عمرو بن قعين بن الحارث بن ثعلبة بن دودان، طليعة ابن خويلد بن نوفل الذي ادعى النبوة. وأشهر بطون بني ثعلبة: بنو غاضرة، وبنو مالك، وبنو والبة، وبنو نصر بن قعين، وبنو الصيداء، وبنو فقعس، وبنو دبير.
أما ولد هذيل بن مدركة، فهم: سعد، ولحيان. وولد لحيان طابخة، ودابغة. ومن طانحة أبو قلابة الحارث بن صعصعة الشاعر. ومن سعد بن هذيل: الشاعر أبو كبير الهذلي، وحوية. وقيل إن الحطيأة منهم. ومنهم خناعة وهم بطن، ورهم، وتميم، والحارث، ومعاوية، و عوف. ومن سعد هذيل: عبد الله بن مسعود، والمؤرخ المسعودي. وقد اشتهرت هذيل بكثرة من نبغ فيها من الشعراء، حيث بلغ عددهم نيفا وسبعين شاعرا. ومن بطون هذيل الأخرى: بنو دهمان، وبنو عادية، وبنو صاهلة، وبنو ظاعنة، وبنو مخزوم، وبنو قريم، وبنو قرد بن معاوية.

(1/2356)


--------------------------------------------------------------------------------

وتعد هذيل من القبائل العربية الكبيرة التي كانت في القرن السادس للميلاد، أما منازلهم في هذا الوقت، ففي سراة هذيل بين مكة والمدينة وفي جوار بني سليم وكنانة، وهي مثل أكبر القبائل الأخرى لا نعرف من تأريخها قبل الإسلام شيئا يذكر. ويذكر الأخباريون إنها كانت في جملة القبائل التي أرادت الدفاع عن مكة حينما عزم أيرهة على احتلالها. وكانت تتعبد للصنم سواع بنغمان، وسدنته بنو صاهلة من هذيل، وتعبدت له بنو كنانة وبنو مزينة وبنو عمرو بن قيس عيلان كذلك. وله معبد آخر بموضع "رهاط"، كما تعبدت للصنم "متاة" ومعبده بقديد.
إن ما ذكرته في هذين الفصلين، هو خلاصة آراء علماء الأنساب في أنساب القبائل. وهي آراء لا نستطيع إن نذهب مذهبهم في إنها جاهلية قديمة، وإنها على هذه الصيغة كانت معروفة قبل الإسلام، وإن قالوا إنهم توارثوها عن الجاهلين، ونقلوها عن المشتغلين بالنسب في الإسلام والجاهلية كابرا عن كابر، ولا نستطيع أيضا إن نزعم إنها تمثل أنساب القبائل على نحو ما دونت وصنفت في الديوان بأمر الخليفة عمر بن الخطاب. فلم نجد في أقدم ما انتهى إلينا من كتب النسب إشارة تفيد إن ما قصوه علينا وما ذكروه في النسب، منتزع من سجلات ديوان الخليفة. ثم إننا رأينا أمثلة عديدة، لتنقل نسب القبائل في أيام الأمويين بين قحطان وعدنان لأسباب سياسية وعوامل ترجع إلى هذا التعصب المزري الذي انتشر في ذلك العصر، حتى جزأ العرب إلى قيس ويمن.

(1/2357)


--------------------------------------------------------------------------------

وهذه الخصومة السياسية العنيفة التي جزأت العرب ويا للأسف إلى جزءين، و أسالت السماء بين الفريقين، صارت سببا لتثبيت أنساب القبائل وضمها في مجموعتين: إما إلى قحطان، و أما إلى عدنان، ولا وسط بين الكتلتين. وقد صادف هذا التحزب عصر بدء التدوين، فكان النسب "لأهميته عند القبائل والناس وفي الحياة السياسية في ذلك العهد" في طليعة الأمور التي شملتها حركة التدوين، فبدلا من إن يعتمد النسابون على الذاكرة والرواية سطروا تلك الروايات في الأوراق، وضبطوا أنساب القبائل التي عاشت قبيل الإسلام وفي صدر الإسلام بهذا التدوين.
وقد أحدث عدم ضبط قواعد الخط في صدر الإسلام، وعدم استعمال النقط في أول العهد بالتدوين بعض المشكلات للمتأخرين في ضبط الأعلام. فاختلاف النقط يحدث كما هو معروف اختلافا في ضبط الأسماء، وهذا ما حدث فعلا. و إنك لتجد في كتب الأنساب المطبوعة والمحفوظة أمثلة عديدة من هذا القبيل. كذلك أدى إهمال في النسابين ذكر الآباء أو الأجداد إلى حدوث شيء من الارتباك في ضبط الأنساب. يضاف إلى هذا تشابه أسماء بعض القبائل والبطون في قحطان وعدنان.

(1/2358)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد أشار الهمداني إلى العصبية التي كان لها أثر خطير في وضع الأنساب في عهد معاوية وغيره في الشام وفي العراق، ثم إلى تقصير نسابي العراق والشام في عدة آباء كهلان وحمير، ليضاهوا بذلك على حد تعبير الهمداني عدة الآباء من ولد إسماعيل، وذكر انه كانت عند أهل اليمن مثل حمير وهمدان والمرانيين وغيرهم زبر مدونة فيها أنسابهم، يتناقلها الناس، وهي تختلف عن الأنساب التي يتداولها أهل النسب في العراق والحجاز والشام بعض الاختلاف، وان بعضا من أنساب عرب الحجاز دخل في أنساب الناس من أهل اليمن، وذلك على رأيه لأسباب، منها: فتك "بخت نصر" بأقيال اليمن في عهد أسعد تبع، وفي أيام حسان بن أسعد وتخريبه حصونهم، وقتل حسان لجديس التي أفنت طسما. وفي هذا الحديث على علاته ما فيه من اعتراف صريح باضطراب النسابين في ضبط الأنساب.
ولا يخلو بعض هذه الأنساب من تحامل العصبية التي كانت في نفوس القبائل والبطون، إذ خلقت هذه مثالب لصقتها بآباء القبائل المتباغضة وأجدادها حفظت على مرور الأيام، ولازمت من قيلت فيهم، ليس من الصعب الوقوف عليها ومعرفتها كما هو الحال في نسب ثقيف مثلا. وتجد أوجدت قسوة الحجاج بن يوسف، وهو من ثقيف، ذلك القصص الذي قيل في جد ثقيف ولا شك.
وقد أشرت فيما سبق إلى أثر التوراة وأثر نفر من أهل الكتاب ممن ادعوا العلم بكتب الأولين في النسابين والإخباريين ووضعهم أسس النسب، وإرجاعها إلى قحطان و عدنان، وبناء نسب القبائل على هذين الأساسين. وقد وجدنا "يقطان" في التوراة أبا لشبا وحضرموت وبقية إخوتهما، وهم من العرب الساكنين في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية. ويقطان هو قحطان. ثم وجدنا الإشماعيليين في التوراة كذلك، والإشماعيليون هم الاسماعيليون أبناء إسماعيل جد العرب العدنانيين. ووجدنا نابت وقدار في التوراة كذلك وعند النسابين أيضا، ونابت هو "نبابوت".

(1/2359)


--------------------------------------------------------------------------------

أما الذي يتجلى لنا من استعراض كل هذه الأنساب ودراستها، سواء أكانت قحطانية أم عدنانية، فهو إن الحياة السياسية للقبائل كانت حياة كتل، وهي حياة اقتضتها ضرورات الحياة للدفاع عن النفس والمصالح، كما هو شأن الدول في كل زمان، حيث تعقد بينها المحالفات. فالحلف بين القبائل، هو كالحلف بين الدول يكل ما للحلف من معنى. وقد رأينا. نماذج من تلك الكبل الضخمة أشرت إليها في أثناء كلامي على القبائل. ويخيل إلي إن فكرة رجوع العرب إلى قحطان و عدنان، فكرة تثبتت في الإسلام، ساعد في ترسيخها وتثبيتها تلك العصبية التي أشرت إليها، وتلك النظرية التي انتزعها ابن الكلبي وأضرابه من التوراة ومن أهل الكتاب بخصوص يقطان وقيدار.

(1/2360)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي الذي يذهب إليه أهل الأخبار والأنساب من ادعاء وجود خلاف بن القحطانيين والعدنانيين، شيء من الصحة، لا سبيل إلى نكرانه، غير انه ليس على النحو الذي ذهبوا إليه. والكتابات الجاهلية التي تحدثت عنها سابقا، وأسماء الأشخاص والأصنام، شواهد على وجود هذا الاختلاف. ولكنه ليس اختلافا بالمعنى الذي ذهب إليه الأخباريون فبين العرب الذين يطلق الأخباريون عليهم "القحطانيين" اختلاف في اللهجة وفي الأسماء لا يقل عن الاختلاف بين القحطانيين و العدنانيين. كذلك نجد مثل هذا الاختلاف بين العدنانيين أنفسهم. وقد وجدنا نص النمارة لامرئ القيس، وهو أصل قحطاني على حد تعبير الأخباريين وأهل الأنساب، بلهجة قريبة من لهجة القرآن الكريم بعيدة عن لهجات أهل اليمن. بلهجة نستطيع إن نقول إنها من الأم التي ولدت عربية القرآن الكريم. كذلك نجد النصوص الأخرى قريبة من هذه العربية، مع إنها لأناس يجب عدهم من قحطان إن سرنا مع النسابين في مذهبهم في تقسيم العرب إلى قحطانيين وعدنانيين. ثم إن الأخباريين لم يشيروا إلى وجوب فروق في اللسان بين القحطانيين والعدنانيين، وإنما جعلوهم يتكلمون بعربية واحدة هي عربية القرآن الكريم، ونسبوا إليهم أصناما مشتركة. وشعراء الجاهلية هم في عرفهم من قحطان و عدنان. ولهذا قالوا عن اللهجات العربية الجنوبية التي ظلت حية في اليمن وفي حضرموت إنها نمير فصيحة و إنها ليست بعربية، وان لسان حمير ليس بلساننا، إلى غير ذلك مما أشرت إليه في أجزاء الكتاب السابقة مأخوذة من أقوال العلماء.

(1/2361)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذكرت في كتابي: تأريخ العرب قبل الإسلام، في أثناء كلامي على النبط ما كان من وجود أداة "ال" المستعملة في عربية القرآن الكريم، في كتاباتهم، وأشرت إلى استعمالهم أسماء استعملتها قريش وغيرهم من العرب العدنانيين. وهي أسماء لم نعثر عليها في الكتابات العربية الجنوبية حتى ألان، كما أشرت إلى مشاركتهم العرب الشماليين في أسماء الآلهة التي تعبدوا لها، وأوردت آراء بعض المستشرقين في أصلهم، وفي انهم عرب مثل العرب الآخرين.
وهذه الملاحظات أهمية كبيرة في اصل الحديث عن العرب الشماليين، وفي النواحي التي يختلفون فيها عن العرب القحطانيين. كما أن لنص النمارة ولتأريخ "بروكوبيوس" أهمية خطيرة كذلك في هذا الموضوع لإشارتهما لأول مرة إلى "معد". فقد وردت كلمة "معدو" أي معد في السطر الثالث من النص، ووردت كلمة "نزرو" أي "نزار" في السطر الثاني منه. يضاف إلى ذلك ورود أسماء قبائل أخرى هي "الأسدين"، أي قبيلة أسد، ومذحج.
أما تأريخ "بروكوبيوس"، فقد وضع "Maddeni" أي معدا في الأقسام الشمالية من الحجاز، وقد ذكر هذا المؤرخ إن القيصر "يوسطنيان" طلب من "السميفع أشوع" "Esimiphaius" أن يوافق على تعيين سيد قبيلة اسمه "قيس Kaisua" "Gaisus" رئيسا على "معد". وقد ذكرت إن هذا يدل ضمنا على خضوع معد لحمير، ولو كان خضوعا بالاسم. ولوجود معد في هذا الزمن، أي في القرن السادس للميلاد، في أرض كانت مأهولة بالنبط أهمية كبيرة ولا شك.
كما أشرت إلى ورود كلمة "مضر" في نص يماني: والى اشتراكها في حرب خاضتها سبأ وحمير ورحبة وكست و مضر وثعلبة. وهي حرب يظهر إنها كانت واسعة من الحروب التي وقعت قبيل الإسلام. ومضر في هذا النص قبيلة من هذه القبائل التي اشتركت في الحرب، وليس اسما عاما لقبائل كثيرة، أي على نحو ما يذهب إليه الأخباريون.

(1/2362)

admin
12-31-2010, 07:52 PM
فيتبين من هذه النصوص إن معدا و نزارا ومضر كانت قبائل تقيم في الأقسام الشمالية من جزيرة العرب وفي العربية الغربية. وقد لاحظنا إن نص النمارة قد فرق بين معد ونزار، ولم يشر إلى وجود رابطة بين القبيلتين، بمعنى إن كلا من نزار ومعد كلن قبيلة مستقلة، في حين يضع النسابون نسبا بينهما ويربطون بين القبيلتين. والظاهر إن هذا الارتباط الذي ذهب إليه الأخباريون وأهل الأنساب إنما حدث في صدر الإسلام، بعد تثبيت القبائل في الديوان.
وفي أثناء كلام الأخباريين على تأريخ الحيرة، ذكروا إن معدا كانت خاضعة لها، وأن ملوكها كانوا يحكمون معدا. ذكروهم في جملة من كان قد خضع لحكم أولئك الملوك. والذي يستنتج من كلامهم أن معدا كانوا بادين، أي أعرابا، وأنهم كانوا يقطنون مناطق كانت في نفوذ ملوك الحيرة. فهل قصد الأخباريون معدا الذين كانوا يسكنون في أعالي الحجاز كما ذكر ذلك "بروكوبيوس" أم قصدوا جماعات منهم هاجرت إلى بادية الشام، وخضعوا لحكم أهل الحيرة? و يلاحظ إن الإخباريين يتوسعون أحيانا في ملك ملوك الحيرة فيبلغون به البحرين والحجاز.
أما كيف تطورت هذه الأنساب، وكيف توزعت، وكيف حصرت في جدين ومن قام بذلك، وأمثال هذا? فليس من السهل إيجاد جواب لأمثال هذه الأسئلة ما دمنا لا تملك الأسباب التي تهيء لنا العلم الكافي للإجابة عنها.
الفصل السابع و الأربعون
الناس منازل و درجات
وأهل الجاهلية مثل غيرهم من شعوب ذلك الزمن: أحرار و ****، يستوي في ذلك الأعرابي وأهل المدر. والحر نقيض العبد، والحرة نقيض الأمة. والحر هو الذي يتصرف بأموره كما يشاء. و أما العبد فلا، فأمره بيد مالكه، فلا يجوز له إن يفعل شيئا من غير رضا سيده ومالك رقبته. و يعبر عن الحر بلفظة "حرم" في المسند، فيقال: "حرم"، أي "حر". والجمع "أحرر"، أي "أحرار".

(1/2363)


--------------------------------------------------------------------------------

والجاهليون وان بدوا "دمقراطيين" شعبيين، لا فرق عندهم بين حر وعبد، كبير أو صغير. يخاطب الفقير ملكه أو سيد قبيلته بلهجة بسيطة تنم عن "دمقراطية" عميقة أصيلة. إلا انهم في الواقع طبقيون يعاملون الناس حسب منازلهم و درجاتهم، ويعملون بمبدأ عدم التكافؤ بين الناس. وآية ذلك عرف جلوس الناس في مجالس الملوك والمجتمعات، وعرفي تقديم الطعام أو الشراب مبتدئين بالملك ثم بمن يجلس على جانبه الأيمن باعتبار انه أشرف القوم ثم بالجالس على الجانب الأيسر من الملك، على ترتيب الناس في درجات جلوسهم أو حسب إشارة الملك إلى السافي أو مقدم الطعام. ثم في نظرتهم إلى "الحق" و إلى الأعراف الاجتماعية كالأخذ بالثأر والزواج. فلهم في الأخذ بالثأر مبدأ مقرر معروف. هو إن القتيل إذا كان شريفا في قومه، وكان قاتله وضيعا صعلوكا، أو عبدا فلا يقبل أهل القتيل ب "القود"، بل بعرف تكافؤ الدم. فعندهم إن دم القتيل الشريف، لا يغسل إلا بدم شريف مثله ومن أهل مكانته، ومعنى هذا إن قتل القاتل لا يكفي، بل لا بد لأهل القتيل في هذه الحالة من البحث عن شريف من قوم القاتل يكون مكافئا للقتيل في المنزلة والمكانة حتى يقتل به، فيغسل عندئذ بقتله دمه. وينام الثأر. وقد يكون المقتول وهو ما يحدث في الغالب بريئا ولا علاقة له بالقتيل ولا القاتل. ولكن العرف القائم على نظرية التكافؤ بين الطبقات، لا يفهم براءة بريء، وحق قتل القاتل وحده، بل يدين بعقيدة إن الدم لا يغسل إلا بدم مواز له، فلا بد من قتل شريف بشريف إذن حتى ينام أهل القتيل.

(1/2364)


--------------------------------------------------------------------------------

والى ما تقدم من الإسراف في القتل وقتل البريء بدم مقتول، أشير في القرآن الكريم: )ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق. ومن قتل مظلوما، فقد جعلنا لوليه سلطانا، فلا يسرف في القتل(. "وذلك إن أهل الجاهلية، كانوا يفعلون ذلك، إذا قتل رجل رجلا عمد ولي القتيل إلى الشريف من قبيلة القاتل فقتله بوليه، وترك القاتل، فنهى الله عز وجل عن ذلك عباده، وقال لرسوله، عليه السلام، قتل غير القائل بالمقتول معصية وسرف، فلا تقتل به غير قاتله. وان قتلت القاتل بالمقتول، فلا تمثل به".
وعلى هذه النظرية الطبيعية بنوا تقييم أثمان الديات، أي ثمن الدم. فدية الملوك في الجاهلية أعلى ما دفع ثمنا عن دم. إذ جعلت دية الملك ألفا من الإبل، شرفت لذلك بدية الملك. تليها في الثمن ديات الأشراف وسادات القوم حسب الشرف والمنزلة حتى تصل إلى ديات المغمورين المطمورين فتكون أقلها ثمنا. إذ تبلغ خمسا من الإبل، وقد تنقص في ذلك. وعلى هذه النظرية القائمة على "الفوقية" و "التحتية"، قدرت فدية الأسرى أيضا. ففدية الملوك الذين يقعون في أسر آسر ألف من الإبل، وعرفت ب "فدية الملوك" وفدية من هم دونهم أقل حتى تصل إلى أبخس ثمن، وهي فدية سواد الناس. ولهذا حرص الأسير الشريف الذي لا يعرفه آسره على اخفاء شخصيته وعلى التظاهر بالإملاق وبأنه من المغمورين ليجنب نفسه دفع فدية عالية قد يفرضها آسره عليه، فتوجعه ولؤلمه.

(1/2365)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن هذه النظرة أيضا ولد اعتقاد أهل الجاهلية إن دم الرئيس يشفي من عضة الكلب الكلب. فإذا كلب إنسان أتوا رجلا شريفا فيقطر لهم من دم إصبعه فيسقون المكلوب فيبرأ. أو يسقونه من دم ملك فيشفى. جاء في المثل: دماء الملوك شفاء الكلب. ودماء الملوك أشفى من الكلب. قال أهل الأخبار عن الكلب: "وأجمعت العرب إن دواءه قطرة من دم ملك يخلط بماء فيسقاه"، فيشفى بذلك من الكلب. ولو لم يكن للجاهليين رأي خاص في الملوك والأشراف، وفي وجود تفوق لهم على سواد الناس، لما اعتقدوا هذا الاعتقاد في اشفاء دماء الملوك والأشراف لمن يصاب بالكلب. وبعدم شفاء دم غيرهم لهؤلاء المرضى.

(1/2366)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن هذه النظرة أيضا، تولد امتناعهم من تزويج بنات الأشراف والأسر من رجال هم دون البنت في المنزلة. وهو عرف يراعونه ويحافظون عليه إلى يومنا هذا. ويزدرون من شأن الخارج على "التكافؤ" بين البنت والولد في الزواج. وقد يرفضون تزويج رجل ثري مكتنز للمال، من امرأة فقيرة شريفة الأصل، إذا كان الرجل من أصل ذابل، كأن يكون أبوه أوجده "صانعا" أو "خضارا"، لأن الأصل في نظر العرب فوق المال. والشريفة يجب ألا تزوج إلا من شريف مثلها، مراعاة منهم لمبدأ نقاوة الأصل وانجاب الأولاد النجباء. و من هذه النظرة امتنع العرب من تزويج بناتهم من الأعاجم حتى لو كان ذلك الأعجمي ملكا. وقد رأينا كيف إن "النعمان بن المنذر"، رد طلب "كسرى" لما طلب منه تزويجه إحدى بناته من أحد أبنائه. وشق ذلك عليه حتى انه لم يمالك من ضبط نفسه، ففال للرسول: أما في عين السواد وفارس ما تبغون حاجتكم. ومراده من لفظة "عين" البقر. ومن اغتنام "زيد بن عدي بن زيد العبادي" هذه الفرصة، وكان هو الذي اقترح على "كسرى" إن يزوج أحد ولده من بنات النعمان، فقال لكسرى: "قد كنت أخبرتك بضنهم بنسائهم على غيرهم، وان ذلك من شقائهم واختيارهم الجوع والعري على الشبع والرياشر، واختيارهم السموم والرياح على طيب أرنجك هذه حتى انهم ليسمونها السجن". ومن قوله له: "أيها الملك: إن شر شيء في العرب وفي النعمان انهم يتكرمون عن العجم". فكان ما كان من غضب "كسرى" على النعمان ومن القضاء عليه على النحو الذي تحدثت عنه.
وقد جعل بعض العلماء تخوف العرب من القهر. عليهم و من طمع غير الأكفاء في بناتهم، في جملة العوامل التي حملتهم على وأد البنات. "قال قتادة: كان مضر وخزاعة يدفنون البنات أحياء، وأشدهم في هذا تميم. زعموا خوف القهر عليهم، وطمع غير الأكفاء فيهن". ومن شروط الكفاءة في الزواج عند الجاهليين، التكافؤ في النسب والحسب والمكانة وفي الأصل.

(1/2367)


--------------------------------------------------------------------------------

وسبب امتناع العربي من تزويج ابنته إلى أعجمي، هو تكرم العرب عن الأعاجم واستعلاؤهم جمليهم. ونظرتهم إلى الأعاجم على انهم دونهم في المنزلة والكرامة. لذلك رأوا إن تزويج بنت عربية إلى علج أعجمي، خسة ما بعدها خسة ودناءة ما وراءها دناءة. حتى وان كان العربي فقيرا لا يملك شيئا. بل اعابوا العربي الذي يتزوج اعجمية بسبب النسل، واستصغروا شأن المولود من أب عربي ومن أم أعجمية. فهو وان كان عربيا في عرف العرب من اجل إن النسب إلى الأب، ولكنه أعجمي من ناحية الأم، فهو دون الأصيل في المرتبة.
وفي غنى العربية بالمصطلحات الكثيرة التي تطلق على السادة والأشراف وعلى الفقراء. و المعدمين التربين وعلى الطبقات الأخرى، دلالة ليس فوقها دلالة على وجود هذه النظرة الطبقية عندهم، وعلى نظرتهم إلى أنفسهم على انهم منازل ودرجات، وانهم غير متكافئين. وان القيادة في المجتمع يجب إن تكون للبيوت.
ثم إن الأحرار على منازل ودرجات. وهم متفاوتون من حيث الشرف والمال. ويظهر التفاوت بين أهل المدر أكثر مما يظهر بين أهل الوبر، ذلك لأن الأعرابي فخور بنفسه، يرى انه "شريف" مثل غيره نبيل وان قل ماله وشح. ثم إن التفاوت بين الطبقات لا يمكن إن يظهر في البادية ظهوره بين الضواحي والقرى، لأن طبيعة البادية لا تساعد على ظهور ذلك التباين، حتى إن **** الأعراب لم يكونوا يكونون طبقة خاصة مضطهدة، ينطر إليها نظرة أهل القرى بازدراء، بل كانوا يعدون في البادية كأعضاء من أعضاء الأسرة.

(1/2368)


--------------------------------------------------------------------------------

والتباين الطبقي هو على ما أوضح ما يكون في اليمن، لأن الطبيعة قد حبت أرض اليمن خيرات وجوا لم تحب المناطق الأخرى من جزيرة العلاب مثلها، فكانت نتيجة ذلك ظهور الاقطاع فيها، واشتدت الحاجة إلى شراء الرقيق واستجلابه لإستغلال التربة واستثمار خيرات الأرض وتشغيله في المهن الوضيعة، وظهر في اليمن أغنياء ومتوسطو حال وفقراء معدمون، أي طبقات اجتماعية كونت ذلك المجتمع بشكل واضح لا نراه في المجتمعات العربية الأخرى، أشير اليهم في الكتابات.
رجال الدين
ورجال الدين طبقة في رأس طبقات المجتمع مكانة ومنزلة، ولها امتيازات خاصة، لأنها ألسنة الآلهة الناطقة على هذه الأرض، والآمرة والناهية باسمها، وهي تقرب الناس إلى الالهة، وتحرم وتحلل. وقد رأينا إن أوائل حكام العربية الجنوبية هم "مكربون"، أي رجال دين. ولرجال الدين أملاك وأموال، ولهم على الناس حقوق، يأخذونها منهم، كما تأخذ الحكومة حقها من الشعب. وهم طبقة كبيرة ذات قوة وسلطان مصالحها مع مصالح الحكام بالرغم من الانفصام الذي وقع فيما بين الدولة والمعبد، وإبعاد "المكرب" عن الحكم، وحصر حق الحكم في الملك وحده، وحصر حق ادارة المعبد، في رجال الدين وحدهم وذلك لأن مصالح الملك ومصالح رجال الدين متشابهة، وكل جهة من الجهتين بها حاجة إلى مساعدة الجهه الأخرى.
وكثيرا ما نقرأ في كتابات معين: إن ال "شوع" أو ال "رشو" الفلاني قدم قربانا إلى آلهة معين، أو بنى معبدا، أو أقام بناء، أو عمل عملا تقدمة لآلهة معين. ولفظتا "شوع" و "رشو" تعنيان الكاهن والسادن، أي منزلهة دينية ذات مركز سام، وهي أعلى درجات الكهنوت في العربية الجنوبية.
السادة والأشراف
ويعبر عن السادة و الأشراف بتعابر التعظيم والتفخيم، ومنها لفظة " أبعل" "ابعل"، أي سيد ورئيس. وهي لفظة استعملت للالهة كذلك. استعملت بمعنى رب وإله. فورد "ود بعل... " و " عشتر بعل..." وهكذا. وقد استعملت في النصوص القديمة خاصة.

(1/2369)


--------------------------------------------------------------------------------

ويقال للسادة "أسود " "اسواد" في العربية الجنوبية، وهم السادة الأشراف. وتقابل اللفظة لفظة "سادات، في عربيتنا. وهم سادة القوم وأشرافهم وأصحاب المنزلة والمكانة في المجتمع.
ويعد أعضاء الأسرة المالكة في طليعة السادات، وهم في السيادة على حسب قربهم أو بعدهم من الملك، ويقدمون على هذا الأساس عند حضورهم إلى الملك وفي المواسم الرسمية. ولهم أرضون يستغلونها، ورقيق يخدمهم.
ويعبر عن وجيه القوم وذي المنزلة والمكانة بلفظة "كهثم" "كهث" وعكسها الوضيع والخامل و الصغير والحقير، فقد ورد: "كل انسم كهثم وقطم"، ومعناها: "كل إنسان: كبير وصغير" أو "كل إنسان وجيه ووضيع". وتطلق لفظة "القطين" وهي " قطنم" و "قطن" في لغة المسند، على الخدم والأتباع والإماء في لغة القرآن الكريم. فهي إذن في نفس المعنى المراد من اللفظة في لغة المسند. وقد ذكر علماء اللغة إن القطين أتباع الملك ومماليكه.
ويقابل أهل الوجاهة والمنزلة في المجتمع، من يطلق عليهم " ص غ رم" "صغرم"، أي صغير ويراد بها سواد الناس، ممن لا وجاهة لهم ولا مركز لدى الحكومة والمجتمع، كما في هذه الجملة: "كبرم فاوصغرم"، ومعناها: "كبير أو صغير".
وفي الدرجات العليا من درجات المجتمع، الأقيال وهم إقطاعيون كبار، لهم أرضون واسعة وسلطان، وقد يجد "القول" القيل قوة في نفسه ومنعة، فينازع الملوك على الملك، ويأخذ الحكم بيده.
وترد في الموارد الإسلامية درجة أخرى تذكر عادة مع الأقيال، هي درجة "ذو" وتجمع أذواء. ويظهر إنها من الدرجات الإقطاعية التي صار لها شأن في العهود المتأخرة القريبة من الإسلام. ويراد بها أصحاب الأرضيين ورؤساء الإقطاعيات، كما تطلق على رؤساء القبائل. وقد أخذت من "ذ" التي ترد في المسند، ومعناها "ذو" في عربيتنا وهي بمعنى "صاحب" في العربيات الجنوبية.
الوجوه

(1/2370)


--------------------------------------------------------------------------------

وسادة القوم هم وجوه المجتمع وسادات القبائل وقادة الجيوش. من "مقتوين" ومن أمراء حرب، ومن المقربين إلى الملوك وكبار موظفي الدولة. وهم أنفسهم من الطبقات العالية في الغالب.وقد ورثوا منازلهم إرثا ؛ ولهم أرضون وثراء وقصور يقيمون فيها، وبيوت مشيدة، وخدم يخدمونهم، وقد حصلنا على أسماء عدد منهم من الكتابات.
والتجارة من أشرف ما يشتغل به إنسان عند قريش وعند غيرهم من العرب. وقد اشتغل بها أكثر أشراف مكة، إذ كانوا تجارا يتاجرون مع اليمن ومع بلاد الشام والعراق. وقد كانت الحرفة الوحيدة المربحة في جزيرة العرب. فالزراعة لا تدر عليهم ربحا كبيرا، لعدم توفر الماء الكافي لزراعة أرضين واسعة تأتي لأصحابها بغلات واسعة وبأموال طائلة، والصناعة غير متيسرة، لذلك عافوها وعابوها، ولم تكن لديهم وسيلة مربحة أخرى غير التجارة.
ومن الألفاظ الدالة على الوجاهة والمكانة عند العرب الجنوبيين، لفظة "قرمن"، أي " القرم". وهي في هذا المعنى في عربيتنا كذلك، فيقال للسيد قرم. والقرم من الرجال السيد المعظم و "المقرم"، هو أيضا السيد المعظم.
المحاربون
ويكون المحاربون طبقة خاصة بهم، وهم أناس احترفوا، الخدمة العسكرية وعاشوا عليها، وقد أشير إليهم في الكتابات وعرفوا ب " قسم" "قسد" "ق س د". وقد ذكروا بعد أصحاب الأرض في إحدى الكتابات، وقبل "التجار" "مكر" و " الكيالين " " سلا " في كتابة أخرى. وقد أشار، إليهم "سترابو " إذ جعلهم في الطبقة الأولى من طبقات المجتمع في "العربية السعيدة". وكان قد قسم هذا المجتمع ثلاث طبقات: المحاربين، والمزارعين، وأصحاب الحرف اليدوية.

(1/2371)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من دراسة بعض النصوص التي وردت فيها كلمة "قسون"، إن "القسود"، كونوا طبقة كبيرة خاصة في دولة سبأ، كانت منزلتها دون منزلة الأشراف و أصحاب الإقطاع وفوق رقيق الارض، المسمون ب "ادومت"، التابعين للأرض و الذين يباعون معها عند بيع الأرض. وكانوا يستغلون الأرض التي تعلم لهم لاستغلالها في مقابل أداء الخدمة العسكرية والاشتراك في القتال عند وقوعه، فهم عساكر وفلاحون في آن واحد. ويشبه حالهم حال العساكر الذين منحهم الخلفاء الراشدون ارضين زراعية لاستغلالها في مقابل هرعهم إلى القتال مع المحاربين عند توجيه الدعوة لهم. وهو نظام كان عند الساسانيين والبيزنطيين.
وقد كان الأشراف وأصحاب الإقطاع يستأجرون من لا ارض له، بإعطائه أرضا لاستغلالها في مقابل الدفاع عنهم والقتال دونهم. ولذلك كان لكل إقطاعي "قسود" أستطيع تسميتهم بالفلاحين المحاربين. يحاربون معه ويدافعون عنه. و إذا مات سيدهم، صارت السيادة إلى من ينتقل الإرث إليه.
ويعرف المحارب ب "اسدم" "اسد" في العربيات الجنوبية، أي جندي وعسكري في اصطلاحنا اليوم. وهم أحرار و****. ووردت في بعض الكتابات جملة "اسد املكن" "اسد املكان"، أي "جنود الملك" و "جنود الملوك" وذلك تعبيرا عن جماعة اختصت بالخدمة في جيش الملك. وقد أشير إليهم في كتابة بمناسبة إنشاء طريق.
ويلحق هذه الطبقة طبقة ال "اتمت" ويراد بها الجنود المرتزقة: أو ما يعبر عنه ب "العساكر" في الزمن الحاضر، وقد كون "العساكر" أو "عساكر السلطان" كما عرفوا في بعض البلاد الإسلامية في أيام الخلافة طبقة خاصة، اعتمدت على سلطانها وقوتها، فلم تحفل بأحد وأخذت تعتدي على الآهلين. وقد كانوا خليطا من الأحرار ومن الرقيق. اعتمد عليهم الحكام في الدفاع عنهم وفي القضاء على خصومهم، فعاشوا على خدمة سادتهم، وقد صارت حرفتهم وراثية، فابن ال "اتمت"، ينتسب إلى الخدمة في المعسكر أيضا حين بلوغه سن الخدمة ويعيش، في خدمة سيده.

(1/2372)


--------------------------------------------------------------------------------

التجار وتوابعهم
ويكون "التجار" طبقة خاصة من طبقات المجتمع العربي الجنوبي. ويقال لهم "مكر" في لغة المسند. وقد كانوا يتاجرون في البر والبحر، ولهم قوافل وطبقات دنيا من رقيق وخدم تؤدي الواجبات التي يريدها سادكم منهم. وكان لهذه الطبقة شأن خطر في تأريخ العربية الجنوبية في القديم، وأثر بليغ في اقتصاد للبلاد، وتزويد الحكومة بمصدر كبير من مصادر دخلها وهو الضرائب التي كانت تدفعها إليها.
وقد تعرض علماء العربية للفظة "المكر"، فقالوا: إن من معانيها السوق، وفيها يقع المكر والخداع. وان "الماكر" العير تحمل الزبيب، والتمكر احتكار الحبوب في البيوت. ولهذه المعاني صلة مباشرة بالتجارة وبالاتجار في البر والبحر.
وفي العربية طبقة عرفت ب "سلا"، تعاطت تجارة الملح، كانت تبيعه وتستورده وتصدره وتقوم بنقله من مواضعه إلى الأسواق. وقد شبه "رودوكناكس" هذه الطبقة ب "الكواليان " في الوقت الحاضر.
الطبقات الدنيا
ومن الطبقات الدنيا عند العرب الجنوبيين: ال "ادم". وال "صغرم" "الصغر" "الصغار"، و الأجراء "اجرم"، و المتربون "غبر"، و ال "ومي" "امي".
الادم
وترد في كتابات المسند كلمة هي "ادم" و "ادومت". وتقابل لفظتي "ادم" و "ادومت" و "آدمي" و "أوادم" في العراق، بمعنى خادم وخدم. ووردت في صورة: " اديمت" "ا دي م ت" و "ادوم" في الكتابات القتبانية المتأخرة. وتؤدي معنى التبعية. وأعني بالتبعية الاعتراف بسيادة رئيس على مرؤوس. فقد كان أصحاب الأرض يؤجرون الأرض لمن لا ارض لهم، ومن لا مال لهم، فيقيمون فيها يشتغلون لأصحابها، ويكونون تبعا لهم. ويعبرون عن هذه التبعية بتلك اللفظة المعبرة عنها. فهم في هذه الحالة إذن مزارعون يعيشون من كراء الأرض.

(1/2373)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد وردت هذه اللفظة بهذا المعنى، خاصة في النصوص المتعلقة بقبيلة "سخيم". وهي ذات أملاك واسعة وأرضين خصبة، وأجرتها لمن لا ارض له من المتوافدين عليها من الأماكن الأخرى، لتستغل هذه الأرضين وتعيش عليها، معترفة بذلك إنها في حماية هذه القبيلة وفي خدمتها.
وهي فضلا عن ذلك تعبر عن التبعية بكل أشكالها، فتعبر عن الانتماء إلى شخص أو قبيلة كذلك، بمعنى إن "الادم" تابع لذلك الشخص أو القبيلة، منتم إليه. ولذلك يذكر ال "ادم" اسم سيده الذي ينتمي إليه ومحتمي به، كأن يذكر اسمه أو اسم القبيلة التي ينتمي إليها. وقد يعبر باللفظة عن معنى "تابع" و "خادم" بالمعنى المجازي أيضا، في مثل مصطلح "ادم ملكن" أي "خادم الملك" و "عبد الملك" و " آدم الملك". وذلك تعبيرا عن الاحترام للملك وعن الإقرار بتبعية الشخص المذكور له، وبإخلاصه له إخلاص العبد لسيده، وان كنا نجد إن للملك حاشية كبيرة هي حاشية "ادم" حقيقية، أي طبقة لا تملك أرضا ولا ملكا، ومعاشها من خدمة الملك، حيث يتولى القصر الإنفاق عليها، كما كانت للأسرة الكبيرة جماعات من ال "ادم" تخدمها وتؤدي لها مختلف الأعمال.
فال "ادم" إذن وفي الغالب، تعبير عن جماعة من الناس كانوا أحرارا، إلا انهم لم يكونوا من المتمكنين في حياتهم من حيازة أرض أو ملك، لذلك جعلوا أنفسهم في خدمة غيرهم، بأن كروا الأرضين من أصحابها، لاستغلالها في مقابل حق معلوم، أو اتفقوا مع ثري على أداء عمل له في مقابل أجر يقدمونه إليه. وهم طبقة واسعة العدد. وهي لذلك أرقى منزلة وأحسن حالا من حال ال**** المملوكين، والرقيق المشترى من الأسواق.

(1/2374)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد فسر بعض الباحثين كلمة "ادوم" "ادوام" و "اديمت"، و " ادومت"، بمعنى عمال الأرض، أو طبقة واطئة من المزارعين الذين لا يملكون أرضا، أحوالهم ضعيفة، لأن ما ينتجونه لا يكفي لإعاشتهم. وذكروا إن كلمة "ضعيف" المستعملة في العربية الجنوبية تعبر عن ذلك المعنى المراد من تلك الكلمات.
وقد ورد في بعض النصوص لفظ "ا ج ر م" بمعنى "أجير" و "أجراء"، وهم الأشخاص الذين يشتغلون بأجور يدفعها لهم أصحاب الأرضين أو أصحاب المال أو أصحاب العمل. وقد كانوا طبقة من الطبقات الدنيا، بدليل ذكرهم في هذه الجملة: "كل معنم حرم واجرم"، "كل معينى حر وأجير"، أي كل فرد من أبناء معين حر وأجير، بتعبير أوضح. والأجراء هم أكثر حرية من ال****، لأنهم يشتغلون بأجر وبعقود يتفقون عليها. فإذا انتهى العقد، أو حصل خلاف، جاز للأجير الانتقال إلى موضع آخر، أو إلى صاحب محل آخر للعمل لديه، على حين لا يجوز للعبد فعل ذلك، لأنه ملك يمين. والأجراء أناس أحرار، يستطيعون التنقل والتصرف بحرية، ولكنهم فقراء معدمون لا بملكون شيئا، وعيشتهم من العمل الذي يقومون به لغيرهم مقابل الأجر الذي يقدمه رب العمل لهم.
وقد يكون الأجر الذي يدفع عن عمل مقطوع، وقد يكون عن أمد يحدد كأن يكون أجر يوم واحد أو أيام، فإذا تم النهار دفع الآجر للأجير. وقد يكون الأجر لموسم كامل، كموسم زرع. وقد كان الأجراء يشتغلون في الزراعة خاصة كحرث الأرض وزرعها أو حصاد الزرع أو قطف الثمر. ولضعف هذه الطبقة، وعدم تمكنها من أخذ حقها بالقوة، كان بعض من يؤجرهم يأكل حقوقهم، ولا يدفع أجورهم، أو يأكل قسما منها. و نجد هذه الطبقة في العراق حيث أشير إليها في شريعة "حمورابي"، كما نجدها في أماكن أخرى من العالم، وما زال العامل يستخدم في مقابل أجور يومية للقيام بمختلف الأعمال.

(1/2375)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ورد في الكتابات القتبانية ذكر جماعتين: جماعة عرفت ب "غبر"، وجماعة عبر عنها ب "ومي"، أو "امي". و "الغبر" في عربية القرآن الكريم هم الفقراء والصعاليك، وفي العربية كلمة أخرى تؤدي هذا المعنى هي لفظة "غبراء الناس"، أي فقرائهم، ومنه قيل للمحاويج بنو غبراء، كأنهم نسبوا إلى الأرض والتراب. وبنو غبراء الفقراء. و أما "الغرباء"، فهم الصعاليك. فالغبر، إذن هم "طبقة من الطبقات البائسة الدنيا التي كانت في قتبان وفي غير قتبان، طبقة من الفقراء والصعاليك، لا تملك شيئا، ليس لها في حياتها غير البؤس والتعاسة لأنها ولدت بائسة تاعسة فعاشت في تعاستها هذه في هذا العالم على صدقات الناس وعلى ما يحصلون عليه بالسرقة أو بالاستجداء و بالقيام بالخدمات والأعمال المتعبة في سبيل الحصول على ما يقوتهم إلى يوم خلاصهم من هذا العالم بالوفاة.
وبمعنى المحاويج والصعاليك فسر بيت "طرفة بن العبد"، بقوله: رأيت بني غبراء لا ينكرونني ولا أهل هذاك الطراف الممدد
وعرفت "بنو غبراء" ب "المدقعين" للصوقهم بالدقعاء، وهي الأرض. كأنهم لا حائل بينهم وبينها، و "الدوقعة الفقر والذل" و "جوع أدقع وديقوع شديد".
و أما "الومي" "امي?" فطبقة من الطبقات الدنيا كذلك، من هذه الطبقات العاملة البائسة التاعسة التي لا تحصل على عيشها إلا بشق الأنفس. ولعلها الطبقة التي يقال لها "شفلوت" في العربية الجنوبية في هذه الأيام. ويجوز إن تكون للكلمة صلة بلفظة "امي" في عربيتنا التي تعني الجاهل والشخص الذي لا يقرأ ولا يكتب.
وفي العربية لفظة "الحشم"، قبل إنها تعني المماليك والأتباع، مماليك كانوا أو أحرارا. وورد إن الحشم الأحرار، والقطين: المماليك.
رؤوس وأذناب

(1/2376)


--------------------------------------------------------------------------------

ونجد التفاوت الاجتماعي في ذروته عند العرب الجنوبيين كما بينت ذلك من إيرادي للمصطلحات الاجتماعية المتقدمة. ويقع هذا التفاوت في الدولة وفي المجتمع عند الحضر وعند "اعربن" الأعراب. ويقع بين القبائل كما يقع في القبيلة الواحدة. فالقبائل أيضا منازل ودرجات. وعلى رأس القبائل القبيلة التي ينتسب لها المكربون أو الملوك. مثل "معين" و "سبأ" و "قتبان" و "حضرموت" و "أوسان". ولهذا ذكرت مع الآلهة والحكام ونسبت إليها الحكومات. ثم ذكر بعدها القبائل الأخرى التي هي أقل أهمية منها. أما في القبيلة الواحدة، فنجد تفاوتا بين أبنائها، وقد رتبوا وصنفوا في درجات ومنازل. أعلاها عند السبئيين مثلا أعضاء ال "مزود" و "حسود?"، أصحاب المشورة والرأي والذين يستشيرهم الملوك، وهم طبقة ممتازة كانت فوق القانون، ذات امتيازات خاصة. يليها أصحاب الأملاك والأرض والمال المسمون ب "مسحنين" في السبئية، و ب "طبنن" في القتبانية. ثم تليها طبقات أخرى تتدنى حتى تصل إلى أشفل، وهي طبقة "الادومت" "ادم": طبقة "الاوادم" أي الخدم.
ويعد المقربون إلى الملوك من أشراف الناس ومن أصحاب الحظوة والجاه. وهذا شيء طبيعي، بالنسبة لكل مكان وزمان، فالذي يصل إلى الملك أو الحاكم لا بد وان يكون من ذوي الجاه والمنزلة والمكانة. وقد عرف من اختص بالملوك ب "أصفياء الملوك" وب "أحباء الملك" وب "ندماء الملوك"، وهم من الخاصة بالطبع. و يعبر عنهم ب "مودد ملكن" في العربيات الجنوبية.

(1/2377)

admin
12-31-2010, 07:53 PM
وأدنى الطبقات منزلة في المجتمع ؛ هي طبقة ال****، هي طبقة تقوم بالخدمة وبسائر الأعمال التي يأنف الإنسان الحر من ممارستها. وقد يكون معظم أفرادها من الزنوج المستوردين من إفريقية. و أما الباقون فمن الرقيق الأبيض المستورد من أسواق العراق ومن أسواق بلاد الشام.، قد كان ال**** ملكا يباع ويشترى بيع الأموال المتقولة، ويتصرف صاحب العبد به تصرفه بملكه الخاص، ولم يخول القانون العبد حق إبداء رأيه في مستقبله في أي حال من الأحوال، لأنه ملك، وبضاعة مملوكة، وكالماشية، وان كان إنسانا حيا له ما لكل إنسان من روح و إدراك وشعور.
ويعرف العبد بلفظة "عبدم" في الكتابات العربية الجنوبية، أي "عبد". وبلفظة "عبدن"، أي "العبد". وتشمل كل ال****، مهما اختلفت ألوان بشرتهم. وترد هذه اللفظة في عربية القرآن الكريم كذلك، وفي سائر اللهجات العربية الأخرى مثل اللهجة "اللحيانية"؛ كما ترد في لغة بني إدم "عبدو" وفي اللغة العبرانية. وتستعمل اللفظة للتعبير أيضا عن العبودية المعنوية، مثل نسبة. عبودية الإنسان إلى الآلهة أو للملوك أو الكبار وللأشراف والسادات.
وتؤدي لفظة "قن" معنى عبد ؛ أما "قنت" "قنيت" "قنية"، فتؤدي معنى عبدة. وردت بهذا المعنى في الكتابات الصفوية. وتعبر عن طبقة ال**** التي كانت منتشرة في كل أنحاء جزيرة العرب، وفي كل، أنحاء العالم إذ ذاك. إذ كانت القوانين الحكومية والقوانين الدولية تعد الاتجار ببيع الرقيق تجارة مشروعة وتعد العبد ملك يمين لصاحبه، متى ابق جاز لصاحبه ومالكه قتله. وهو ملك مثل أي ملك، وحق الملكية حق مقدس مصون.

(1/2378)


--------------------------------------------------------------------------------

و "القن" في عربية القرآن: العبد الذي ملك هو وأبواه. وعرف انه العبد الذي ولد عندك، ولا يستطع إن يخرج عنك. وورد "لم نكن **** قن، انما كنا **** مملكة". وقيل: عبد قن الذي كان أبوه مملوكا لمواليه، فإذا لم يكن كذلك فهو عبد مملكة. فالقن إذن هو عبد بالولادة، وقد ورثه سيده ؛ فهو عبد عبد، أو عبد ****.
و "القي المملوك، فهو في ملك سيده.وقد اقتني وصار في مقتنيات مالكه، فهو من طبقة المملوكين. ومن هذه الطبقة المملوكة جماعة عرفت ب "رب ملكن" "ربب ملكن" "ربيب الملوك" "ربيب الملك"، بمعنى "عبد الملك" و "**** الملك".
أبناء الحبش والأبناء
وقد تولد من استيلاء الحبش على اليمن جيل جديد تعرب وكون، طبقة خاصة من طبقات مجتمع الين. وقد تكون هذا الجيل من عنصرين: حبش ولدوا في اليمن من أبوين حبشيين، ثم بقوا في اليمن وعاش أبناؤهم فيها، وحبش تزوجوا من اليمن، فنشأ لهم نسل فيه دماء الحبش ودماء أهل اليمن. وقد عاش الجيلان في اليمن وتعربا و نسيا أصلهما وصارا يتكلمان العربية و اعتداها لغتهما، ولكن ملامحهما الافريقية، أو الملامح المختلطة دساسة، لم تتمكن من الاختفاء عن الجيلين، بل بقيت تنطق بأصلهما وبصلتهما القديمة بالأرض السوداء.

(1/2379)


--------------------------------------------------------------------------------

وعرف الجيل الذي ظهر في اليمن من تزوج الفرس في العرب ب "الأبناء"، وغلب عليهم الاسم لأن أمهاتهم من غير جنس آبائهم. وقد كتب إليهم النبي يدعوهم إلى الإسلام. وقد ساعدوا المسلمين ودافعوا عن الإسلام وقاوموا الردة، ومنهم وهب بات منبه بن سيج بن ذكبار، و طاووس، وذادويه، وفيروز الديلمي. وقد قيل عنهم: الأبناء قوم من العجم سكنوا اليمن، وهم الذين أرسلهم كسرى مع سيف بن ذي يزن لما جاء يستنجده على الحبشة فنصرره وملكوا اليمن وتديروها وتزوجوا في العرب ؛ فقيل لأولادهم الأبناء، وغلب عليهم هذا الاسم لأن أمهاتهم من غير جنس آبائهم. وذكر أنهم عرفوا ب "أبناوي" في لغة "بني سعد" و "بنوي" في لغة بعض العرب.
ويظهر من بعض الأخبار إن العرب توسعت في مفهوم الأبناء فأطلقتها على كل الفرس الذين اجتذبتهم الحروب إلى جزيرة العرب.
وءإف "الأبناء " بتسمية أخرى أيضا هي "بنو الأحرار". أما الذين ولدوا من آباء فرس وأمهات عربيات فقد عرفوا في الكوفة بالأحامرة، و في البصرة بالأساورة، و في جزيرة العرب بالخضارمة، وفي الشام بالجراجمة.
وقد ذهبت بعض كتب التواريخ التي ألفها أهل اليمن، "إن أبناء اليمن يتسبون إلى "هرمز" الفارسي الذي أرسله كسرى مع سيف بن ذي يزن. فاستوطن اليمن. وأولد ثلاثة، بهلوان و دادوان وبانيان؛ فأعقب بهلوان بهلول. و الدادويون يسعوان، ومنهم بنو المتمير بصنعاء وصعدة وجراف الطاهر ونحر البون. والدادويون خوارج. ومنهم غزا كراذمار وهم خلق كثير".
وعرف العربي المولود من أمة ب "الهجين". وهو معيب. وقيل هو ابن الأمة الراعية ما لم تحصن، فإذا حصنت فليس الولد بهجين. أو "من أبوة في من أمه". "قال المبرد: قيل لولد العربي من غير العربية هجين، لأن الغالب على أولاد العرب الأدمة. وكانت تسمى العجم الحمراء ورقاب المزاود، لغلبة البياض على ألوانهم".

(1/2380)


--------------------------------------------------------------------------------

أما طبقات المجتمع الحضري بالنسبة إلى العرب الآخرين وأسماؤها، فلا ذكر لها في النصوص الجاهلية، و إنما ذكرت في الموارد الإسلامية، وأكثره مما يخص عرب الحجاز؛ لأن اكثر ما ورد عن الجاهلية القريبة من الإسلام هو مما يخص موطن الإسلام. فكل اعتمادنا فيه على هذه الموارد الإسلامية.
وفي العربية ألفاظ عديدة تعبر عن منازل الناس في الشرف والسيادة. هي في الواقع من النعوت التي أطلقها الناس على الأشراف مبالغة في مدحهم وتفخيمهم وأشراف القوم هم سادتهم من أرباب البيوت. ونجد في الموارد الإسلامية ذكر "أشراف قريش". وهم كبار قريش وسادتها وأصحاب البيوت فيها. كما نجد تعبيرا يدل على الرئاسة والزعامة هو "رحى القوم"، يقال لسيد القوم الذي يصدرون عن رأيه وينتهون إلى أمره.
وقد عير السودان في الجاهلية وفي الإسلام. عيروا بسوادهم وبملامح أجسامهم وبطريقة تكلمهم. هذا حسان يهجو أحدهم بقوله: وأمك سوداء نوبية كأن أناملها الحنظب
و "الخلاس" الولد بين أبوين أبيض وأسود، ابيض وسوداء أو اسود وبيضاء. فهو المضرب. وقال بعض علماء اللغة: تقول العرب للغلام إذا كانت أمه سوداء وأبوه عربيا آدم فجاءت بولد بن لونيهما غلام خلاسية والأنثى خلاسية قال الجاحظ: "ورأينا الخلاسي من الناس، وهو الذي يتخلق بين الحبشي والبيضاء، والعادة من هذا التركيب انه يخرج اعظم من أبويه وأقوى من أصليه ومثمريه. ورأينا البيسري من الناس، وهو الذي يخلق من منن البيض والهند، لا يخرج ذلك النتاج على مقدار ضخم الأبوين قوتهما، ولكنه يجيء أحسن وأملح"..
وقد شابت السنة هؤلاء "طمطمانية"، أي عجمة. قال عنترة: تأوي له قلص النعام كما أوت خرق يمانية لأعجم طمطم
السادات
وسادة القوم إشرافهم ورؤساؤهم، وذكر إن السيد الذي فاق غيره بالعقل والمال والدفع والنفع، المعطي ماله في حقوقه المعين بنفسه. وذكر إن السيد: الحليم لا يغلبه غضبه.

(1/2381)


--------------------------------------------------------------------------------

والسيادة منزلة ودرجة، ولا تأتي أحدا إلا باعتراف قومه له بسيادته عليهم وبتنصيبهم له سيدا عليهم. وكانوا إذا سودوا شخصا عصبوه، والتعصيب التسويد، وهذا كانوا يسمون السيد المطاع معصبا. وذكر إن العصابة العمامة. وكانت عمائم سادة العرب هي العمائم الحمر.
وتعد الأسر الحاكمة التي ينشأ فيها عدد كبير من الملوك والحكام أسرا عريقة في الشرف، وينظر إليها نظرة تقدير واحترام، لأنهم ورثوا المجد عن آبائهم أبا بعد أب. وينطبق ذلك على سادات القبائل الذين يرثون سيادتهم قبائلهم أبا عن جد، فانهم يفتخرون بذلك على غيرهم، لأنهم ليسوا من أولئك الذين انتزعوا السيادة فصاروا سادة، على حين كان آباؤهم أو أجدادهم من الخاملين.
وقصد سادات القبائل وبعض الشعراء الكبار الملوك، ورحلوا إليهم من منازلهم، وتقربوا إليهم، وتوسطوا لديهم لبعض الناس. وقد عرف هؤلاء ب "الرحال". ولهذا نجد في الكتب، إنها إذا تعرضت لمثل هؤلاء قالت عنهم انهم من "الرحال". فقد عرف "عروة بن عتبة بن جعفر بن كلاب" ب "عروة الرحال"، "و إنما سمي الرحال لنحلته إلى الملوك". كما عرفوا ب "زوار الملوك"، ومنهم "أبو زيد الطائي".

(1/2382)


--------------------------------------------------------------------------------

وأشراف الناس، هم الذين نالوا الشرف والسؤدد بين قومهم، فسادوهم. والسيد هو الرئيس، ويطلق على الرب والمالك والشريف والفاضل والكريم وعلى من ساد قومه، مثل سادات القبائل. وقد نعت رسول الله "سعد بن معاذ" ب "سيد الأنصار". وتقول العرب "هذا سيدنا" و "فلان سيدنا"، أي رئيسنا والذي نعظمه. وتقول "ساد قومه"، أي صار سيدهم ورئيسهم. ونعت "قيس بن عدي" ب "سيد قريش". وكان يوم وفاة "سعد بن معاذ" بالمدينة يوما مشهودا. حتى حضر الرسول جنازته وكبر عليه تسعا، كما كبر على حمزة، تعظيما لشأنه. وشهد دفنه. وكان من عادة أهل مكة في الجاهلية انه إذا مات لهم سيد كبير أغلقوا أسواقهم أعظاما لموته، وتعبيرا عن تقديرهم له. فغلق الأسواق عند الجاهلين عند وفاة رجل خطير من إمارات التقدير والتعظيم.
ومن إمارات تكريم الميت الشريف، تجمع الناس عند بيته، احتفالا به لنقله
إلى موضع دفنه. و إذا كان الميت خطر الشأن كان الجمع اكبر. وهو يتناسب في كثرته مع مكانة ودرجة الميت في المجتمع. وقد ذكر انهم كانوا يقولون للرجل الشريف يقتل: "العقيرة".
والسادات هم الرؤوس، رؤوس الناس. أما من دونهم فأذناب. وعرفوا ب "أذناب الناس و ذنباتهم"، أي اتباعهم وسفلتهم، والاتباع دون الرؤساء. يقال: جاء فلان بذنبه، أي اتباعه. قال الحطيئة يمدح قوما: قوم هم الرأس والأذناب غيرهم ومن يسوي بأنف الناقة الذنيا
والسادات "مصابيح الظلام" ومشاعله، بنورهم يهتدي الفقراء و أصحاب الحاجة والفاقة، فينالون منهم ما يخفف عن كربهم وفقرهم. يطعمون الناس في الحضر والسفر، فهم سادة الناس وملاذهم حين تغلق كل الأبواب. بأوجه الأذناب التاعسين البائسين.

(1/2383)


--------------------------------------------------------------------------------

ويقال لأشراف قوم و للبارزبن منهم وجوه القوم ووجهاء القوم، فورد "وكان من وجوه القرشين"، و "كان من وجوه قريش". و أما "سروات" مثل "سروات الانصار" و "سروات قريش"، ففي هذا المعنى أيضا، وجوه الأنصار وأشرافهم ووجوه قريش وأشرافهم. و "السري"، هو الرئيس. وتعني كلمة "النواصي" خيار العرب وأشرافهم. فيقال هو ناصية قومه، وهو من ناصيتهم ونواصيهم. و "النصية" من القوم الخيار الأشراف.
ويعرف الأشراف المعرقون ب "النجوم"، و واحدهم "نجم". وقد أشار إليهم "حسان" في شعره، فذكر إن الذين يحملون "اللواء" أي "لواء الحرب"، هم النجوم. ويقال لسادة الناس "الجحاجح" كذلك،. ويقال لهم: "العرى"، وهم سادات الناس الذين يعتصم بهم الضعفاء، ويعيشون بعرفهم. شبهوا بعرى الشجر العاصمة الماشية في الجدب.
و أما لفظة "رب" التي تعني بعلا أيضا، وإلها، والتي تعبر عن معنى "إله" في الزمن الحاضر؛ فقد أطلقت في لغة المسند على السيد والشريف، لتعبر عن معاني التفخيم والاحترام، وأطلقت في معنى "إله" أيضا في النصوص المتأخرة في الغالب، وهي من الألفاظ السامية القديمة.التي وردت في معظم لغات السامين.
وقد وردت في عربيتنا بمعنى المالك والسيد والمدبر، وأطلقت بمعنى الملك كذلك. وقد كان أهل الجاهلية يطلقونها على الملك، قال الحارث بن حلزة: وهو الرب والشهيد على يو م الحيارين والبلاء بلاء
هنا وللسن أهمية. كبيرة عند العرب، لأن الإنسان إذا ما تقدم في السن ازدادت حكمته و تجاربه في الحياة ورجح عقله. لذلك يكون مرجعا لمن هو دونه في للعمر، وملاذا في المشورات، ويعبر عنهم ب "ذوي الأسنان". وهم الطبقة الذكية الفطنة المجربة من ذوي المكانة في الناس بالطبع. ولهذا نجد القبائل تتمسك بأخذ الرأي والمشورة من ساداتها المسنين ومن حكمائها المعمرين، لأنهم عركوا الحياة وخبروها وعرفوا ما فيها من مر وحلو. لذلك جعلوهم في الطبقات العليا من الناس.

(1/2384)


--------------------------------------------------------------------------------

و "الرب" الرئيس والمرجع ومن تكون إليه الطاعة. والأرباب، هم السادات "قال المنذر يوما لخالد، وهم على الشراب، يا خالد، من ربك? فقال خالد: عمرو بن مسعود ربي وربك. فأمسك عليهما". و "المنذر" هو المنذر الأكبر اللخمي، وخالد، هو خالد بن نضلة. ولهذا كان يقول العبد لسيده: ربي. وتقول حاشية السيد والملك لسيدها وملكها: ربنا.
قال الحارث بن حلزة: ربنا وابننا وأفضل من يم شي ومن دون ما لديه الثناء
وقال لبيد حين ذكر حذيفة بن بدر: وأهلكن يوما رب كندة وابنه ورب معد بين خبت و عرعر
و "الخطر" الأشراف من الرجال العظيمو القدر والمنزلة. والخطير الواحد. ويقال للرجل الشريف، هو عظيم الخطر. وقوم خطرون: قوم أشراف، ويقال "العبقري" للكامل والسيد من الرجال. وهو سيد القوم وكبيرهم والذي ليس فوقه شيء والشديد القوي.
وقد عرف سادة قريش ووجوهها ب "خضراء قريش". ولما صعد الرسول "الصفا"، عام الفتح، وجاءت الأنصار فأطافوا بالصفا وجاء "أبو سفيان"، فقال: "يا رسول الله أبيدت خضراء قريش! لا قريش بعد اليوم". يقصد نخبة قريش وخاصتها، في مقابل "أوباش قريش"، الذين قال عنهم الرسول للأنصار: يا معشر الأنصار! هل ترون أوباش قريش.
والأخضر عند العرب الأسود. و قد افتخر "الفضل بن عباس بن عتبة اللهبي" بلونه، إذ قال:
وأنا الأخضر من يعرفني أخضر الجلدة في بيت العرب
يقول: أنا خالص لأن ألوان العرب السمرة، وأنه عربي محض لأن العرب تصف ألوانها بالسواد، وتصف ألوان العجم بالحمرة، والخضرة عند العرب السواد. وورد "خضر غسان"، و "خضر محارب". قال الشاعر: إن الخضارمة الخضر الذين غدوا أهل البريص ثمان منهم الحكم
والخضارمة جمع خضرم، وهو السيد الحمول.
ويقال لمن هم دون الأشراف وفوق الطبقات الدنيا، "أوساط الناس"، و "الأوساط"، و "اللهازم". يقال هو من لهازم القبيلة، أي من أوساطها لا اشرافها.
المستضعفون من الناس

(1/2385)


--------------------------------------------------------------------------------

والمستضعفون من الناس، كثيرون، وقد نظر إليهم مجتمعهم نظرة ازدراء واستهجان، و اعتدهم من الطبقات الدنيا. إما لفقرهم وضيق ذات يدهم، ومنهم الفقراء والصعاليك والمحتاجون وأبناء السبيل، و أما لطيشهم وخروجهم من مجتمعهم، ومنهم الطريد والضال والخليع، و أما لانشغالهم بحرف يدوية، وهي حرف لا تليق بالرجل الكريم، ولا سيما الحرف الدنيا مثل الحلاقة والحجامة والحمالة وأمثالها، و أما من ناحية أصلهم، مثل إن يكونوا ****ا أو ****ا مملوكين.
ولاستصغارهم شأن الحرف اليدوية، لم يقبل عليها الأحرار و أبناء البيوت، إلا من اضطرته الفاقة و وجد إلا سبيل له إلى العيش إلا بالاشتغال بها، فانصرف إليها صاغرا. وهذا كان اكبر أصحاب الأعمال اليدوية من الرقيق والأعاجم واليهود. و إذا أخذنا بروايات أهل الأخبار نجد إن عدد أصحاب الحرف اليدوية كان قليلا جدا، فلم يكن في مكة مثلا أحد من النجارين البارعين على ما يفهم من رواياتهم كروايتهم عن إعادة بناء الكعبة قبل النبوة بخمس سنين، أو كانوا قلة يعدون عدا. وكذلك يقال عن بقية الحرف، و يقال مثل ذلك عن يثرب. ولا استبعد إن تكون في روايات أهل الأخبار مبالغات، ولكننا لا نستطيع نكران ازدراء العرب للحرف والصناعات.
وكانوا يعيرون من يتزوج من ابنة صائغ أو حداد أو نجار، ويعرون نسله، ولا سيما إذا كان من بيت رفيع. وقد وجد أعداء "النعمان بن المنذر" آخر ملوك الحيرة وحساده في أمه "سلمى" التي قيل إنها ابنة قين أو صائغ يهودي، سببا قويا من أسباب استهزائهم به والاستصغار لشأنه. أما الحرفي، أي الذي يشتغل بالحرف اليدوية، فلم يكن من السهل عليه التزوج من بنات الأحرار، لما قد تتعرض له أسر البنات من تعيير وسبة وإهانة بين الناس، بتزويجهم ابنة حرة لشخص وضيع مستصغر.

(1/2386)


--------------------------------------------------------------------------------

وأدنى المتعيشين بالحرف منزلة، الحلاقون والحجامون والحمالون، ثم أولئك الذين يعيشون على تلهية الناس، مثل سائس قرد، وهو الشخص الذي يربي القردة ويعلمها القيام ببعض الألعاب لتسلية المتفرجين وإضحاكهم في مقابل صدقة يقدمونها لقردته وله، ومثل أناس آخرون يربون حيوانات أخرى للغرض نفسه، أو يتخذون لهم مهنة إضحاك الناس عليهم لدر عطفهم والجود عليهم، ومثل المخنثون والمغنون المطربون.
وقد عرف المعدمون المتربون، وهم الدين لا يملكون شيئا ب "بني غبراء"، للزقهم بغبراء الأرض، ويقال لهم " الصعاليك" أيضا، وقد ذكرت قبل قليل ورود لفظة "غبر" في الكتابات القتبانية، وان لها صلة ب "غبراء الناس" وب "بني غبراء" في عربيتنا. وقد تكون لهذا المصطلح صلة بمصطلح اختلف علماء التوراة في المراد منه، هو مصطلح "عم ه - ارز"، أي "ناس الأرض" "أهل الأرض"، فقد ذهب بعض العلماء إلى إنها تعني طبقة وضيعة من سواد الناس، أو "الفلاحين" الذين يعيشون على استغلال الأرض.
ونعت الخادم الذي يخدم بطعام بطنه "بالعضروط"، وهو الصعلوك، والعضاريط الصعاليك. وتعهد إلى العضروط مختلف الخدمات، مثل العناية بالراحلة وأداء أي عمل آخر يقوم به في قابل طعام بطنه. و يقال للعضروط: اللعموظ، وهو الذي يخدم بطنه. و "العضارط" الأجراء.
و "الخول" ال**** والخدم، ويقال: القوم خول فلان، أي أتباعه؛ وهم حشم الرجل وأتباعه. ويقع على العبد والأمة فهم إذن الأتباع المغلوبون على أمرهم الخاضعون لحكم المتحكمين في رقابهم من السادة.

(1/2387)


--------------------------------------------------------------------------------

والمملوك خلاف الحر، والرقيق: المملوك واحد وجمع. والرقيق العبد. ورق صار في عبودية. والعبد: المملوك خلاف الحر. ونجد لعلماء اللغة تفاسير كثيرة لمعنى "العبد"، والرقيق، وفي مدى حرية كل واحد منها. وقد استعملت لفظة "العبد" للدلالة على معان مجازية، ومعان حقيقية. فقد قصد بها الخضوع والتذلل، ولهذا نهي عن استعمالها بهذا المعنى في الإسلام، فورد: "لا يقل أحدكم لمملوكه عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي". وقصد بها أيضا العبودية الحقيقية.
ولفظة "عبد" و "العبد" لفظة عامة في الأصل، وقد وردت بهذا المعنى في أكثر اللغات السامية، فاستعملت في معان مجازية وفي معان حقيقية، ولم تكن تعني شخصا مملوكا بالمعنى الحقيقي من لفظة "مملوك" بالضرورة. وطالما نقرأ في كتب أهل الأخبار جملا، مثل: "ومن هو?إنما هو عبد من ****ي"، و "أنت عبد من ****ي"، وذلك تعبيرا عن ازدراء شخص لشخص آخر، واستصغارا لشأنه، لأنه جعله في منزلة خدمه و****ه.
واستعملوا لفظة: "عبد" و "العبد" بالمعنى الحقيقي الخاص بالعبودية، وقصدوا بها "مملوكا"، فقالوا: "كان عبدا روميا"، وقالوا: "كان عبدا حبشيا"، فقصدوا بها "مملوكا" كائنا ما كان لونه، أو جنسه والظاهر إن المتأخرين قد غلبوا استعمالها على ال**** والسود، فأطلقوها عليهم من غير ذكر صفتهم، وعنوا بها الرقيق الأسود حسب.
وقد ذكر بعض علماء اللغة إن "العبد" إذا ملك ولم يملك أبواه، أو الذي سبي، ولم يملك أبواه. وقالوا: هم **** مملكة، وهو إن يغلب عليهم ويستعبدوا وهم أحرار. وفي الحديث: "إن الأشعث بن قيس خادم أهل نجران إلى عمر في رقابهم، وكان قد استعبدهم في الجاهلية، فلما أسلموا، أبوا عليه، فقالوا: يا أمر المؤمنين إنا إنما كنا **** مملكة ولم نكن **** قن. أي إن يغلب عليهم فيستعبدهم وهم في الأصل أحرار.

(1/2388)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر علماء للعربية إن القن: العبد الذي ملك هو و أبواه، ران العبد القن الذي ولد عندك ولا يستطيع إن يخرج عنك. وعبد قن خالص العبودة. فالقن إذن، هو العبد المملوك، الذي تنقل إليه العبودية عن أبيه. وقد أسلفت إن هذه اللفظة وردت في لغة المسند، و إنها كانت تعني هذا المعنى عندهم أيضا. ويشبه العبد القن، العبد الذي يقال له "cerf" عند الرومان. و لا القين": العبد والجمع قيان.
ويعبر عن العبد بلفظة "مولى" أيضا، ويراد نجها المعتق كذلك. وتؤدي معاني اجتماعية أخرى ذكرها علماء اللغة منها: الحليف، والعقيد، والرب والمالك، والسيد. ويتبن معناها من الاستعمال. وقد كان بمكة وسائر الأمكنة الأخرى من جزيرة العرب عدد كبير من الموالي.
وال**** هم حاصل الحروب. فإذا وقع إنسان أسيرا في غزو أو حرب صار ملكا لآسره، إن شاء من عليه ففك رقبته، وان شاء ملكه فصار عبدا له. يحتفظ به لنفسه إن أراد، أو أن يهديه لغيره فيصير في ملك من أهدي له، أو إن يبيعه، فيقبض ثمنه، فتنتقل ملكية العبد إلى شاريه. فالسباء هو مصدر مهم من مصادر الرقيق.
ومورد آخر أمد الجاهليين بال****، هو التجارة: تجارة ال****. وقد اختص بها قوم عرفوا بالنخاسين. يأتون بالرقيق من مختلف الأماكن ويبيعونه. وكانت تجارة رابحة.
ومن ال****، قوم كانوا مدينون فلم يتمكنوا من سداد ديونهم فبيعوا رقيقا. ومنهم من صار رقيقا لعدم تمكنه من دفع مال يجب عليه تأديته. كالذي روي من تقامر أبي لهب و العاص بن هشام، على إن من قمر صار عبدا لصاحبه، فقمره أبو لهب فاسترقه واسترعاه ابله.

(1/2389)


--------------------------------------------------------------------------------

ويكون عدد ما بملكه الإنسان من الرقيق إمارة علي الغنى والمنزلة والجاه والقوة. هم قوة لأنهم عدة لسيدهم في القتال وفي الدفاع عنه حتى وان كرهوه. وهم خدم له يؤدون له كل ما يطليه منهم من أعمال، ولا يخلو منهم بيت. وذكر إن بعض السادات كان يملك المئات من ال**** فلما وفد "ذو الكلاع ملك حمير" على أبي بكر "ومعه ألف عبد دون من كان معه من عشيرته وعليه التاج، وما وصفنا من البرود و الحلل".
وكان كثير من ملاك الرقيق ذوو قلوب غلاط، لا يرحمون ****هم ولا يرفقون بهم. و إذا شهد العبد غزوا أو حربا وغنم فلا يعطى حقه له. ويؤخذ سهمه ويعطى إلى سيده. ولم يكونوا يثقون بأمانة رقيقهم لذلك حقد ال**** على سادتهم، وانضموا إلى أعدائهم إن وجدوا فرصة مؤاتية لهم أملا منهم بإصلاح الحال. ولما حاصر الرسول الطائف نادى مناديه: "أيما عبد نزل فهو حر وولاؤه لله ورسوله" فنزل جمع منهم وأسلموا وصاروا أحرارا.
ويذكر علماء اللغة طبقة سموها "القطن"، وهم في عرفهم تباع الملك ومماليكه، والخدم والأتباع. وقالوا أيضا: إن القطين تبع الرجل، ومماليكه، وخدمه.
ويقال للرعية من الناس "السوقة" سموا بذلك لأن الملوك يسوقونهم فينساقون لهم. و أما "سواد الناس"، فعامتهم.
وكل من ذكرت من الطبقات الدنيا هم " سوقة" أو "عوام"، و "سواد".
ويقال للأخلاط والسفلة من الناس: الأوباش. وهم مثل الأوشاب. و أما الأشابة فأخلاط الناس تجتمع من كل أوب و التأشب التجمع. ويقال: أوباش من الناس و أوشاب. وهم الضروب المتفرقون.
ويذكر علماء اللغة إن أهل اليمن يطلقون على المستضعفين من الناس "مستخمرون". و "المستخمرون" هم الجيران الضعفاء. من "اخمره الشيء"، بمعنى أعطاه إياه أو ملكه بلغة اليمن.
ويقال لأوغاد الناس و أرذالهم "الطغام" و "الطغامة". وذكر إن "طغامة" و "دغامة" الأحمق. وورد "باطاسة الأحلام"، بمعنى من لا عقل له ولا معرفة، وقبل: هم أوغاد الناس و أسافلهم.

(1/2390)


--------------------------------------------------------------------------------

وعرف أوغاد الناس ب "أولاد درزة". وذكر إن أولاد درزة: السفلة والسقاط والغوغاء من الناس، كذلك أولاد ترنى. و "أولاد درزة" أيضا الخياطون. ويقال: أولاد درزة هم الحاكة، وهم من أسافل الناس، كما صرح به المفسرون في قوله تعالى: واتبعك الأرذلون. وابن درزة الدعي، أو ابن أمة تساعي، فجاءت به من المساعاة ولا يعرف له أب.
أهل الوبر

ما ذكرته عن المجتمع يتناول الحضر، أما المجتمع البدوي، أي مجتمع الأعراب، مجتمع ساذج ليس في تكوينه تعقيد ولا تعدد طبقات. صقلت البادية أهلها، وبسطت لهم أسلوب الحياة، وقلصت من الفروق الطبقية، فلا تجد فيها ما نجده عند الحضر من اختلاف كبير في منازل الناس.
وكل ما هنالك من طبقات: سادات القبائل، وهم رؤساء القبيلة وأشرافها، وأحدهم "سيد القبيلة" أو رئيسا القبيلة. ثم أشراف العشائر و متفرعاتها. ولهم اموال، ورقيق يخدمونهم. أما سواد القبيلة، فهم منتشرون في أرض القبيلة على هيأة مجتمعات صغيرة متفرقة مبعثرة، لضيق العيش الذي لا يساعد على تجمع أفراد القبيلة تجمعا كبيرا في محل واحد، تظهر فيه الحرف وتتنوع الأعمال التي تكون ضرورية لمجتمع مع الحضر.
ولسادات القبائل المال، وهي: الإبل. يشربون من ألبانها، ويأكلون لحومها، وهم الذين في استطاعتهم الذهاب إلى القرى والمدن ومواطن الحضارة للعيش فيها زمنا، ولشراء ما يجدون في أسواقها مما يحتاجون إليه من سلع.
وللتمتع بمناظر الحضارة. ولزيارة الملوك والحكام. والساكن منهم على مقربة من الحضر، يخالطهم وقد يشتري له ملكا يعيش فيه بينهم. فإذا جاء الربيع، وحمد وقت البادية عاد إلى وطنه، ليرعى ماله، ولينظر في شؤون قبيلته.

(1/2391)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد استخدم الأعراب "ال****" أيضا، ولكنهم لم يكثروا من استخدامه استخدام أهل الحضر له، لعدم وجود حاجة كبيرة عندهم إليه. وقد كان **** الأعراب اكثر حرية وأحسن حالا من **** أهل الحضر، ذلك لأن البادية لا تعرف الأعمال المرهقة، ولا الحرف الكثيرة التي فرضتها الحضارة على أهل الحضارة، لذلك صارت الأعمال التي يقوم بها **** الأعراب اقل بكثير من الأعمال التي يقوم بها **** أهل القرى، وصار العبد في البادية الصق بصاحبه من مثيله في القرية، حتى صار وكأنه جزء من أهل البيت التي اشتراه أو ورثه.
بيوت العرب
لقد تبين لنا مما تقدم إن العرب وان بدوا وكأنهم سواسية كأسنان المشط، الكل متساوون في المعاملة لا فرق عندهم بين غني وفقير، كل معتز بنفسه فخور بفعاله، إلا انهم مع ذلك وفي الواقع طبقيون، لكل طبقة عرف وتقاليد، فبيوتهم تتفاوت عندهم في الشرف والمكانة، هناك بيوت اشتهرت في القبيلة وحافظت على فعالها ومكانتها، وكانت تتفاخر وتتباهى على غيرها فلا تزوج أحدا من أبنائها أو بناتها إلا لمن كلن كفؤا لها.
وقد تحدث أهل الأخبار والأنساب عن بيوت برزت في القبائل وتفوقت على غيرها في ناحية من نواحي الفضل والفخر. فذكر ابن الكلبي: مثلا إن العدد من تميم في بني سعد، والبيت في بني دارم، والفرسان في بني يربوع، والبيت من قيس في غطفان، ثم في بني فزارة، والعدد في بني عامر، والفرسان في بني سليم، والعدد من ربيعة في بكر، والبيت والفرسان في شيبان.
وكان يقال: إذا كنت من تميم ففاخر بحنظلة، وكاثر بسعد، وحارب بعمرو، وإذا كنت من قيس ففاخر بغطفان، وكاثر بهوازن، وحارب بسليم، وإذا كنت من بكر ففاخر بشيبان، وكاثر بشيبان، وحارب بشيبان.

(1/2392)

admin
12-31-2010, 07:54 PM
وقد اشتهرت ثلاثة بيوت شهرة خاصة في الجاهلية القريبة من الإسلام، وهي: بيت بني زرارة، وهم من "بني عبد الله بن دارم" في تميم، وبيت "بني بندر"، وهم من "بني فزارة" من "بني قيس"، وبيت "ذي الجدين"، وهم من "بني شيبان" من "بكر بن وائل".
وجعل "أبو ****ة" بيوت العرب ثلاثة: فبيت قيس في الجاهلية بنو فزارة، ومركزه بنو بدر، وبيت ربيعة بنو شيبان، ومركزه ذو الجدين، وبيت تميم بنو عبد الله ابن دارم، ومركزه بنو زرارة. وذكر انه قال: ليس في العرب أربعة اخوة انجب ولا أعد ولا اكثر فرسانا من بني ثعلبة بن عكابة. وكان يقال له الأغر والحصن. وبنوه: شيبان و قيس وذهل و تيم الله. وفارس غطفان الربيع بن زياد العبسي، و فاتكها الحارث بن ظالم، وحكمها هرم بن قطبة، و جوادها هرم بن سنان المري ؛ وشاعرها النابغة الذبياني. وفارس بني تميم عتيب بن الحرث بن شهاب أحد بني يربوع. وفارس عمرو بن تميم طريف بن تميم العنبري. وفارس دارم عمرو بن عدس، وفارس سعد فدكي بن المنقري، وفارس الرباب زيد الفوارس ابن حصين الضبي، وفارس قيس، عامر بن الطفيل، وفارس ربيعة بسطام ابن قيس.
وقال أبو عمرو بن العلاء: بيت بني سعد إلى الزبرقان بن بدر من بني بهذلة بن عوف بن كعب بن سعد، وبيت بني ضبة بنو ضرار بن عمرو الرديم، وبيت بني عدي بن عبد مناة آل شهاب من بني ملكان، وبيت التيم آل النعمان ابن جساس.
وزعم "ابن الكلبي" إن آل حصن الفزاريين، وآل الجد بن الشيبانيين، وآل عبد المدان الحارثيين. هم أعلى بيوت العرب. ويقال: بيت تميم في بني حنظلة، أي شرفها. فهذه البيوت هي البيوت البارزة المسلم لها بالسيادة والشرف عند الجاهليين على رأي "ابن الكلبي".

(1/2393)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر "الجمحي": إن الفروسية في اليمن في بني زبيد بن عمرو بن معديكرب. وان شاعر اليمن امرؤ القيس، وأن بيتها في كندة: في الأشعث ابن قيس. لا يختلف في هذا و إنما اختلف في نزار. وقال اخباري: كان بيت قيس في آل عمرو بن الظوب العدواني، ثم في غني. في آل عمرو بن يربوع، ثم تحول إلى بني بدر. فجاء الإسلام وهو فيهم. وقال الاخفش: فرعا قريش هاشم وعبد شمس. وفرط غطفان بدر بن عمرو بن لوذان وسيار بن عمرو بن جابر. وفرعا حنظلة رياح و ثعلبة ابنا يربوع. وفرعا ربيعة بن عامر بن صعصعة جعفر وأبو يكو ابنا كلاب. وفرعا قضاعة عذرة والحرث بن سعد.
وقد ذكر "الجاحظ" إن هناك قبائل في شطرها خير كثير، وفي الشطر الآخر شرف وضعة. "فمن القبائل المتقادمة التي في شطرها خير كثير، وفي الشطر الآخر شرف وضعة، مثل قبائل غطفان وقيس عيلان، ومثل فزارة ومرة، وئعلبة، ومثل عبس، وعبد الله بن غطفان، ثم غني و باهلة، واليعسوب و الطفاوة . فالشرف والخطر في عبس وذبيان، والمبتلى والمللقى والمحروم والمظلوم، مثل باهلة وغني. ومن هذا الضرب تميم بن مر، وثور وعكل، وتميم ومزينة. ففي عكل وتجم ومزينة من الشرف والفضل ما ليس في ثور".
وذكر "الجاحظ" إن بعض الناس تكبروا على غيرهم، لما وجدوا لأنفسهم من الجاه والثراء والمكانة، ومنهم: بنو مخزوم، وبنو أمية، وبنو جعفر بن كلاب، وبنو زرارة بن عدس. فلم يكونوا كبني هاشم في تواضعهم، وفي إنصافهم لمن دونهم.
الشرف

(1/2394)


--------------------------------------------------------------------------------

و للشرف مقام كبير عند العرب. وإذا دخل شريف قوم في مجتمع جلس في المقام اللائق به. ويلعب هذا المقام دورا كبيرا في مجالس الملوك وفي مجالس سادات القبائل وفي أندية الحضر. وإذا لم يأخذ الشريف مكانه، كأن يجلس في مجلس هو دون مجلسه اللائق بمقامه بالنسبة إلى الحاضرين، عد ذلك إهانة له، ومعاملة سيئة متعمدة. قد تأتي بأوخم النتائج إذا كان الشريف من أصحاب الحول والطول. ولهذا كان الملوك خاصة وسادات القبائل يراعون حرمة المكان، و يعينون للقادم مكانه، بأسلوب لطيف لا يثير مشاعر الجالسين ولا يشعرهم بأنهم قصدوا إهانتهم إن طلبوا من القادم التقدم على الحاضرين، والجلوس على مقربة منهم. وذلك على حسب مكانته ومنزلته، و الغالب أن ينص على المكان الذي سيجلس به.
والشرف في العرف الجاهلي، هو الحسب بالآباء. والشرف والمجد عندهم لا يكونان إلا بالآباء. أما الحسب والكرم فيكونان، وان لم يكن له آباء لهم شرف. ولهذا حرصوا على استمرار الشرف في الأسر الشريفة، وعلى إمدادها بالحيوية والنشاط حتى يبقى الشرف متألقا لامعا فيها. ومن ذلك الزواج المكافئ والفعال الحميدة والمحافظة على سجايا الأسرة الطية، والأعراف المثالية، والتمسك بالنسب. وعدم تلويثه بدم من هو دونهم في الشرف، ورعاية ذلك النسب وحفطه، فيكون نسب كل شريف بيتنا واضحا ظاهرا للناس.
ومن الشرف: التخلق بالأخلاق الحميدة، وعمل الأمور المحببة المفيدة التي تخلد الذكر لصاحبها وتجعل الناس يلهجون باسمه من ذلك.
العرض

(1/2395)


--------------------------------------------------------------------------------

والعرض في معنى الشرف، ويتجلى في مظاهر متنوعة يراد بها صيانة السمعة وطرد سوء الظن وما يخدش شرف الإنسان من سوء أو مكروه. وهو لا يكتفي بالدفاع عن عرضه، بل يلزم نفسه ايضا بالدفاع عن عرض قبيلته وعن عرض من يدخل في جواره أو في حلفه، لأن أعراضهم عرضه. فهو يلزم نفسه بلوازم كثيرة ثقيلة، يحاول مهما كلفه الأمر الوفاء بها خشية العار. وهو في لمجل الوفاء بالتزامات العرض يفعل ما يشاء، ويدخل في ذلك القتل والعنف في سبيل الدفاع عن الالتزامات التي ألزم نفسه بها في سبيل حماية العرض.
وإذا ممس عرض امرئ بأذى هاج وأهاج من هو من ذوي دمه ولحمه، للاقتصاص ممن دنس عرضه. وهو لا يهدأ حتى يأخذ بثأره ممن داس على عرضه. فثأر العرض مثل ثأر القتل، لا يهدأ صاحبه ولا يهجع إلا إذا اخذ بثأره ممن تجاوز على عرضه. والغالب في عقوبة هذا الثار الذبح. أي بقطع الرأس. عن الجسد يذبح حتى في حالة إذا كان قد توفي من طعنة بخنجر يقضي عليه، فانه يذبحه عندئذ. ويكون هذا غسلا للعار الذي ألحقه ذلك المتجاسر بعرض القائل.
المروءة
وتتمثل المثل الجاهلية العليا في "المروءة"، وقد فسرت المروءة بأنها كمال الرجولية. ومن المروءة: الحلم، والصبر، والعفو عند المقدرة، وقرى الضيف، واغاثة الملهوف، ونصرة الجار، وحماية الضعيف. فإذا تمثلت أمثال هذه السجابا في رجل، كان كاملا، عظيم الشأن في قومه. والمروءة عند الجاهلين كالدين عند المسلم.
وقد ورد إن المروءة إلا تفعل في السر أمرا وأنت تستحي إن تفعله جهرا فهي أقصى ما تكون من أخلاق في الرجل الكامل الشجاع. وقد اقرها الإسلام في جملة ما اقره من فضائل الجاهلية، ورد: الدين، المروءة، ولا دين إلا بالمروءة.
والشهامة هي من صفات السيد الشريف النبيل. و الشهم، هو السيد النجد، الذي إذا دعي أتجد، وإذا طلب أجاب.
الكملة

(1/2396)


--------------------------------------------------------------------------------

وتحدث أهل الأخبار عن جماعة من الجاهليين قالوا انهم عرفوا بين قومهم بالكملة. منهم "بنو زباد العبسيون"، وهم أنس الحفاظ، ويقال له أيضا أنس، الفوارس، وعمارة الوهاب، و ربيع الكامل، وقيس الجواد وقيل: ربيع الحفاظ، وعمارة الوهاب، وأنس الفوارس، أمهم فاطمة بنت الخرشب الأنمارية.
وكان "للربيع بن زياد العبسي" المعروف بالكامل، ممن ينادم الملك النعمان، ويكثر عنده، ويتقدم على من سواه. وينزله في قبة يضربها له. حتى أفسد "لبيد" الشاعر، وكان إذ ذاك غلاما ما كان بينهما من ود في خبر ترويه كتب الأدب والأخبار.
وعرف قوم ب "الأكابر"، قيل هم: شيبان، وعامر، وجليحة، والحارث بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل.
والإنسان الكامل عند الجاهلين وفي أول الإسلام، هو الذي يكتب بالعربية، ومحسن الغوم والرمي. وقد لقب رجال عديدون بهذا اللقب، منهم: "أوس ابن خولي"، وهو من المخضرمين. قال "ابن سعد" عنه: "وكان أوس ابن خولي من الكملة،. وكان الكامل عندهم في الجاهلية وأول الإسلام الذي يكتب بالعربية ويحسن العوم والرمي".
من الخصال الحميدة
ومن الخصال الحميدة عند العرب: النخوة. والنخوة في اللغة الافتخار والتعظم، والنخوة الكبر والعظمة. ومن صفات العرب إنها كانت تتنحى من الدنايا أي تستنكف
الكرم

(1/2397)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن الأعراف عرف إكرام الضيف، وتقديم حق الضيافة له مهما كانت درجة تلك الضيافة ومنزلة المضيف. يقدم له ما يقدر عليه وما يتسع حاله له. والضيافة درس من الدروس التي لقنتها الطبيعة للإنسان أيضا. لقنته إن الإنسان مهما كان فقيرا، عليه إن يقدم ما عنده لمن يأتيه من ضيف قريب أو غريب ليضيفه، إنقاذا لحياته من قحط البادية ومن شحها. فليس في البادية ملجأ يلجأ الفرد إليه غير الخيام المضروبة هنا وهناك، ملاجئ مهما قبل فيها، لكنها قوارب النجاة أو جزر صغيرة في محيط واسع شاسع. لا يطمع الإنسان منها إلا في الاستراحة وإمضاء أمور سفره إلى الموضع الذي يريده، و إذا امتنع صاحب الخيمة عن أداء حق الضيافة، عرض حياة ضيفه للخطر، وعرض حياته نفسه إلى ذلك الخطر، فلا بد إن تنزل به في يوم ما حاجة ما، ولا بد إن يقطع البادية مرارا في حياته بحثا عن رزق، فإذا بخل ولم يضيف غيره، لم يستضيفه الآخرون فيقع في ضنك قد يكون به هلاكه وهلاك من معه.
والعرف إن الضيافة ثلاثة أيام و ثلاث ليال، فاذا انتهت المدة، سقط حق الضيافة من رقبة "المضيف" إلا إذا جددها، وزاد عليها. ويعبر عن منزلة. الضيف عند المضيف بجمل و تعابير تعبر عن ترحيب المضيف بضيفه، مثل جملة: "بيتي بيتك"، وعلى الضيف بالطبع إن يتأدب بأدب الضيافة، فيصون حرمة بيت مضيفه، فلا يسرق منه، ولا ينظر إلى العائلة بسوء وألا يقوم بأي عمل يخل بعرف الضيافة.
ونظرا إلى ما للمعابد من حرمات، اعتبر الوافدون عليها لزيارتها والتقرب. لأصنامها ضيوفا لها، وعدوا الذين يعتدون عليهم خارجين عن العرف مارقين، بالنسبة لمجتمعهم. فمن كان يفد إلى مكة يقال له "ضيف الله"، وقيل للحجاج "ضيوف الكعبة"، فلا يجوز الاعتداء عليهم، ومن وقع اعتداء عليه، يجد حتما من ببن أهل مكة من يدافع عنه.

(1/2398)


--------------------------------------------------------------------------------

والجود، وهو السخاء صفحة أخرى من صفحات الكرم. وهو إن يمطر الرجل غيره بمعروفه، وان يجود على غيره بما هو عنده. وقد بالغ بعضهم بجوده حتى ضرب به المثل. ومن هؤلاء حاتم الطائي. وهو "حاتم بن عبد الله ابن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس بن عدي بن أحزم" من قبيلة طيء.
وقد ضرب به المثل في الجود والسخاء، فقيل "أجود من حاتم"، ورووا عنه قصصا كثيرا في الجود والسخاء، يرينا إن الجود فيه سجية، نبت فيه،مذ كان صغيرا، فقد روي انه اختلف مع والده، وهو صغير، لأنه فرق إبله وغنمه وكان يرعى بها على قوم مروا به، فيهم: **** بن الأبرص، وبشر ابن أبي خازم، والنابغة الذبياني، فطرده أبوه، وقال له: إذن لا أساكنك بعدها أبدا ولا آويك، فقال حاتم: إذن لا أبالي.

ويذكر: انه كان إذا أبل شهر رجب نحر في كل يوم عشرة من الإبل، وأطعم الناس ؛ وانه كان يقول لغلامه يسار، إذا اشتد، البرد وكلب الشتاء: أوقد نارا في بقاع من الأرض: لينظر إليها من أضل الطريق ليلا فيقصد نحوه. وكان يوقد نار القرى، ليقصدها من يريد الضيافة من الناس. وذكروا انه كانت لحاتم قدور عظام بفنائه لا تنزل عن الأثافي، إلى غير ذلك من أخبار في كرمه وسخائه.
يذكر عنه انه قسم ماله بضع عشرة مرة؛ وانه مر في سفر له على بني عنزة ولهم أسير في القد، فاستغاث به، ولم يحضره فكاكه، ففاداه وخلاه، وأقام مقامه في القد حتى أدي فداؤه. ورووا انه ذبح فرسه، ووزع لحمها على جيرانه، لأن امرأة كانت جارة له جاءت إليه مستغيثة به، تقول له: أتيتك من صبية يتعاوون من الجوع ولم يكن لديه ما يعطيها، فذبح فرسه، مع انه و عائلته كانوا جياعا مثل صبيتها، فلما مانعت زوجته في ذبح فرسه، قال لها: إن هذا للؤم إن تأكلوا وأهل الحي جياع.
وينسب أهل الأخبار إليه شعرا، في جملته قصيدة تتعلق بالكرم وبمكارم الأخلاق وبالحكم، وقد جمعوا من شعره ديوانا، وذكروا انه من الشعر البليغ الجيد.

(1/2399)


--------------------------------------------------------------------------------

وضرب المثل بجود " كعب بن مامة الإيادي". ويذكر أهل الأخبار انه هلك بسبب جوده، فقد مات عطشا، لأنه أعطى الماء غيره، فمات هو من العطش. وقد فضله "الجاحظ" ورجحه على "حاتم للطائي" في الجود. ذلك لأن حاتما كان يجود على غيره بماله، أما "كعب"، فقد بذل النفس حتى أعطبه الكرم، وبذل المجهود في المال، فساوى حاتما من هذا الوجه و باينه ببذل المهجة. فهو على رأيه فوقه في الكرم بمنازل و درجات. وذكر إن من عادة "كعب بن مامة" انه إذا جاوره رجل قام له بكل ما يصلحه وعياله، وحماه ممن يريد وان هلك له بعبر أو شاة أو عبد أخلف عليه، وان مات وداه، فجاوره "أبو دواد الإيادي"، الشاعر، فكان يفعل به ذلك ويزيد في بره، فصارت العرب إذا حمدت جارا بحسن جواره، قالوا: كجار أبي دواد. وقد افتخرت به إياد. وعد من مفاخرها. وذكر "عبد الملك بن مروان" إيادا، فقال: هم أخطب الناس لمكان قس، و أسخى الناس لمكان كعب، ولشعر الناس لمكان أبي دواد، و أنكح الناس لمكان ابن الغز.

و "أوس بن حارثة بن لأم الطائي". يذكرون إن "النعمان بن المنذر" حباه حلة نفيسة بحضور وفود العرب من كل حي، وكانوا قد اجتمعوا عنده، فقال لهم: "إني ملبس هذه الحلة أكرمكم" فألبسه النعمان الحلة. ويذكرون انه تمكن من الشاعر "بشر بن أبي خازم"، وكان "أوس" قد نذر لئن ظفر به ليحرقنه، لأنه أسرف في هجائه، حتى تجاسر فهجا أمه "سعدى". فلما ظفر به، أشارت "سعدى" على "أوس" بأن يمن على بشر، فخلى سبيله وأكرمه وأحسن كسوته وحمله على نجيبه وحباه، فصار "بشر" يمدحه، ويذكر أهل الأخبار، إن أوسا وحاتما وفدا على "عمرو بن هند"، فأراد امتحانهما، والوقوف على رأي أحدهما في الآخر، فما انتقص واحد منهما الآخر. فقال عمرو: والله ما أدري أيكما أفضل! وما منكما إلا سيد كريم.

(1/2400)


--------------------------------------------------------------------------------

و "هرم بن سنان المري"، من أجواد الجاهلية أيضا. وهو سيد غطفان. وكان والده سيد غطفان كذلك. وقد مدحه الشاعر زهير بن أبي سلمى في أبيات لا يزال الناس يحفظونها ويذكرونها عن هرم وقد كان هرم أعطاه مالا كثيرا. من خيل وإبل وثياب وغير ذلك مما أغناه، وفيه ورد المثل: "أجود من هرم". وقد أدركت بنت له أيام عمر فسألها عن أبيها وعن صلته بزهير.
قال "أبو ****ة": "أجواد العرب ثلاثة: كعب بن مامة، وحاتم الطائي، وكلاهما ضرب به المثل، وهرم بن سنان صاحب زهير".
وقد ضرب المثل بجود "عبد الله بن حبيب العنبري" فقيل: "أقرى من آكل الخبز". ذكر انه سمي آكل الخبز، لأنه كان لا يأكل التمر ولا يرغب في اللبن. وأكل الخبز ممدوح عند العرب. وهو عندهم من علامات الغنى والمال. وعرف "ثور بن شحمة العنبري" بالجود كذلك، وقد كان قومه "بنو العنبر" إذا افتخروا، قالوا: "منا آكل الخبز، ومنا مجير الطير". وقد عرف "ثور بن شحمة" ب "مجير الطير" لأنه كان يشفق على الطيور فيطعمها و يشبعها لجوده وكرمه.
واشتهر "عبد الله بن جدعان" برده كذلك، وقد كان يسمى ب "حاسي الذهب"، لأنه كان يشرب في إناء من الذهب، وقيل: "أقرى من حاسي الذهب". وكان يجود على "أمية برت أبي الصلت"، ويقري أهل مكة ومن يأتي إليها، وله جفنة كبيرة يأكل منها الناس، ويصنع لهم "الفالوذج"، ولم يكن معروفا قبله بمكة، فما كان بالعراق، أكله و استذوقه، وجاء منه بطباخ ليطبخ له "الفالوذج". وهو من "بني تيم". وكان ممن حرم الخمر على نفسه بعد إن كان بها مغرى، لما رأى فيها من ضرر و إسفاف يلحق بشاربها. وذكر انه لما كبر وهرم، أراد قومه إن يمنعوه من تبذير ماله، ولاموه في العطاء، فكان يدعو الرجل، فإذا دنا منه، لطمه لطمة خفيفة، ثم يقول له: قم فانشد لطمتك واطلب ديتها، فإذا فعل، أعطته بنو تيم من مال أبن جدعان. وقد ضرب المثل بفالوذج ابن جدعان في أطايب الأطعمة.

(1/2401)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عد في "مطعمي قريش"، وهم سادات قريش وأشرافها ممن كان يطعم الناس ويفتح بيته للضيوف، ولا يمنع جائعا من دخول داره. كهاشم بن عبد مناف. وكانت له جفان يأكل منها القائم والراكب، إذا وقع في إحداها صبي غرق. فجرى بها المثل في العظم.
وللتعبير عن إسراف الأجواد في جودهم، وفي قراهم الضيوف، نعت أحدهم ب "مطعم الطير" كناية عن كرمهم، وعن كثرة طعامهم المهيأ، حتى كانت الطيور تشارك الضيوف في أكل الزاد، وهو كثير. وقد نعت "حسان ابن ثابت" عمه "خالد بن زيد" المعروف ب "ابن هند"، وهو من "بني النجار"، ب "مطعم الطير"، كناية عن انه كان ينحر الإبل للأضياف، فيأكل منها الناس والطير. ونعتت "ليلى بنت الخطيم بن عدي بن عمرو"، وهي أخت الشاعر "قيس بن الخطيم" أباها بأنه "مطعم الطير ومباري الريح"، و ذلك أمام الرسول.
ومن الأجواد من كان يجود في أوقات الشدة والحاجة بصورة خاصة، في مثل حلول الجدب. وقد عرف نفر من العرب ب "مطاعيم الريح"، وذلك لأنهم كانوا يطعمون إذا هبت ريح الصبا، لأنها لا تهب إلا في جدب، فمدحوا. ومن هؤلاء: "كنانة بن عبد يا ليل الثقفي". عم أبي محجن. وزعم "ابن الأعرابي" إن "مطاعم الريح"، هم أربعة. منهم: كنانة ابن عبد يا ليل الثقفي المذكور و "لبيد بن ربيعة".
ويقال للرجل الذي بهتز للمعروف والعطية "الأريحي"، وهو السحي. و "الأريحية" السخاء.

(1/2402)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ضرب المضل بجماعة من الجاهليين عرفوا بجودهم وكرمهم، حفظ العرب ذكرهم لجودهم، وما زالوا يحتفظونه حتى اليوم، يتذاكرونه ويروونه في كتاباتهم وفي أنديتهم وفي كلامهم. من هؤلاء ثلاثة سموا "زاد الراكب" و "أزواد الركب"، لأنهم كانوا إذا سافروا مع قوم لم يتزودوا معهم. كانوا من أهل مكة هم: أبو عمرو بن امية. "مسافر بن أبي عمرو بن أمية"، وأبو أمية بن المغيرة المخزومي، و الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى "زمعة بن الأسود بن المطلب". وقد ضرب بهم المثل، فقيل: أقرى من زاد الراكب.
وقد كان "عبد الله بن أبي أمية"، المعروف ب "زاد الركب" شديد الحلاف على المسلمين، ثم خرج مهاجرا من مكة يريد النبي، فلقيه ب "الصلوب" فوق العرج، فأعرض عنه رسول الله، ثم عفى عنه.
وفي معنى "زاد الركب" معنى "جفنة الركب"، و الجفنة: الرجل الكريم. قيل له: "جفنة الركب"، لأنه كان مطعاما يضع جفنته ويطعم الناس فيها، ومن يكون معه في ترحاله. فسمي باسمها.
وكانت العرب تقول: السفر ميزان القوم، كأنه يزنهم بأوزانهم ويفصح عن مقاديرهم في الكرم واللؤم. إذ يتبين الكريم من اللئيم في سفره. فاللئام إذا ما سافروا ضجروا، لخوفهم من تقديم ما عندهم إلى من هم دونهم من فقير ومحتاج، أما الكريم، فإنه لا يبالي في سفره فيعطي وينفق ويساعد من يسافر معه بما يجود به عليهم. فهو على عكس اللئيم فرح بسفره هذا مستبشر.

(1/2403)


--------------------------------------------------------------------------------

وزعم الأخباريون إن "سويد بن هرمي بن عامر الجمحي"، كان أول من وضع الأرائك وسقى اللبن والعسل بمكة. ومعنى هذا انه أول من وضع الأرائك لراحة الناس في الجاهلية، ولعلهم قصدوا أرائك وضعت، في الحرم لجلوس الناس عليها. كما ذكروا إن "أبا أمية بن المغيرة المخزومي" و "أبا وادعة بن ضبيرة بن سعيد بن سعد بن سهم" وكانا يسقيان العسل بمكة، بعد سويد بن هرمي. وقد كان "عدي بن نوفل" يسقي الحجيج اللبن والعسل على ما ذكره أهل الأخبار. وقد عدت السقاية من مفاخر قريش.
وقد كان من عادة الأجواد إيقاد النار في الظلام ليراها الغريب والمحتاج، الجائع من مسافة بعيدة فيفد إليها، فيجد له من يقريه ويقدم له ما يحتاج إليه من طعام. ويقال لها "نار القرى" و "نار الضيافة". وهي نار توقد لاستدلال الأضياف بها على المنزل. وكانوا يوقدونها على الأماكن المرتفعة، لتكون أشهر. حتى زعم إن منهم من كان يوقدها بالمندلي الرطب، ليهتدي إليها العميان، بشم رائحة الطيب التي تفوح منها عند الاحتراق. وهي من أجل الأعمال عند العرب. وقد ذكرت في الشعر الجاهلي.
ويعد الشتاء محكا للأجواد ولكرام الأنفس. فالشتاء عدو الفقير، يؤلمه ببرده ويوجه بفقره ويضيف آلاما على آلامه. فخيمته الممزقة البالية، لا تقيه من رياح ولا من مطر ولا من برد. والصيد يختفي ويقل، و الأعشاب تزول، فلا بحد الفقير أمامه سوى ما ادخره من قوت فيعيش عليه. فإذا أكله أو كان قليلا، فليس أمامه من ملجأ سوى الاستجارة بأهل الجود والسخاء. ممن كان إذا جاء الشتاء ادنوا إليهم الناس و أطعموهم، فيقتلون بذلك جوع الشتاء. ولهذا عرف الواحد منهم ب "قاتل الشتاء".
وغاية الجود إن يجود الإنسان بأعز ماله لغبره، يقال: "انه لمنحار بوائكها، أي ينحر سمان الإبل"، وهو للمبالغة، يوصف للجود. فهو ليس من أولئك الذين يبخلون بمالهم العزيز، فينحرون الهزيل من الإبل، حرصا على العزيز، بل يقدم أقصى ما عنده لضيوفه.

(1/2404)


--------------------------------------------------------------------------------

ويعد العرب "إقراء الضيف" و "الرفادة": "رفادة الحج" في جملة "ارث إبراهيم و إسماعيل. ويدخل أهل الأخبار في جملة هذا الإرث: تعظيم الحرم ومنعه من البغي فيه وقمع الظالم ومنع المظلوم. فالكرم إذن من للسنن القديمة الموروثة عن سنة إبراهيم على أهل الأخبار.
ولا يعد الكريم كريما إذا وهب ماله في سبيل غرض. فمن وهب المال لجلب نفع أو دفع ضرر أو خلاص من ذم فليس بكريم.
وبقال للعطية الجزيلة "الدسيعة". ويقال للجواد، هو ضخم الدسيعة، أي كثير العطية. وقيل هي المائدة الكريمة والجفنة على سببل المجاز، لما عرف به الأجواد من تقدم الطعام للأضياف. ويقال للجواد المعطاء السيد الحمول: "الخضرم"، تشبيها بالبحر الخضرم وهو الكثير الماء.
وقد يعبر عن غاية الجود بقولهم: "هو جبان الكلب"، أي نهاية في الكرم وكثرته، لأنه لكثرة تردد الضيفان إليه يأنس كلبه فلا يهر أبدا. قال حسان ابن ثابت: يغشون حتى ما تهر كلابهم لا يسألون من السواد المقبل
ومن الجود والكرم: الرفادة. والرفد: العطاء و إعانة المحتاج. ومن ذلك ما فعلته قريش من "الرفادة"، حيث اتفقت إن بخرج كل إنسان مالا بقدر طاقته، يشترون به للحاج الجزر والطعام والزبيب للنبيذ، فيجمعون من ذلك مالا عظيما، فلا يزالون يطعمون الناس حتى تنقضي أيام موسم الحج. وذكر إن "هاشم بن عبد مناف"، كان أول من قام بالرفادة، و أول من هشم الثريد، وقد سمي هاشما لهشمه الثريد.
وذكر علماء اللغة إن السخاء مراتب ثلاث: سحاء وجود و إيثار. فالسخاء إعطاء الأقل و إمساك الأكثر. والجود إعطاء الأكثر و إمساك الأقل، و الإيثار إعطاء الكل من غير إمساك. وهو اشرف درجات الكرم.
ويعبر عن السخاء ب "الندى". ويقال "هو الذي الكف"، إذا كان سخيا. و "طلحة الندى"، أي السخي الكريم.
من شيم السادة

(1/2405)


--------------------------------------------------------------------------------

ويعد حمل أثقال الديات من شيم السادة، إذ لم يكن من الممكن للأسر الفقيرة دفع دية القتلى حين توزع في العشرة أو القبيلة؛ لذلك يحملها السادة عن الضعفاء. وقد فدح "حسان بن ثابت" "حكيم بن حزام بن خويلد"، فكان مما مدحه به انه "انه حمال أثقال الديات".
وممن حمل الدماء ودفع اثمان دياتها: "عمرو بن عصم"، الذي حمل الدماء التي كانت بين "بني سدوس" و "بني عنزة" في الجاهلية، وهرم بن سنان، والحارث بن عوف، إذ تحمل ديات قتلى الحرب التي وقعت بين عبس وذبيان.
كما يعد حمل ثقل المولودة التي يراد و أدها من الشيم ومن الأعمال الحميدة التي يحمد القائم بها عليها. وقد ذكر أهل الأخبار أسماء جماعة دفعوا مالا لآباء كانوا قد هموا بوأد بناتهم لإملاقهم ولضعف حالهم، أبقوا بذلك على حياتهن. وهو عمل بقدر حقا، لأنه عن حس إنساني ودافع خيري نبيل.
فك الأسر
ومن شيم الرجال المن على الأسرى بفك رقابهم و إعطائهم حريتهم. وقد أبت مروؤة بعض السادات إلا إن يقوموا بفك أسر الأسرى وإعتاق رقبتهم، ولو بشراء أسرهم بثمن. وقد ذكر العلماء أسماء رجال منهم عاشوا في الجاهلية عرفوا بعدم رضاهم عن الأسر، فكانوا يدفعون مالا في مقابل فك رقبتهم. من هؤلاء "سعد بن مشمت بن المخيل"، وهو من رجال "بني المخيل" في الجاهلية. وكمان إلى إن لا يرى أسيرا إلا أفتكه.

(1/2406)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن شيم الرجال العفو عند المقدرة والحلم والصفح عن المسيء، وكان من عاداتهم في غفران الذنب، حفر بئر، ثم ينادي من يريد غفران الذنب والعفو عن المذنب: اشهدوا أني جعلت ذنبه في هذه البئر ثم يرد فيها ترابها، وبذلك يغفر الذنب. وقد ضرب العرب المثل بحلم "قيس بن عاصم"، و ب "الأحنف ابن قيس" و "قيس بن عاصم"، هو من بني منقر من تميم. وكان ممن حرم الخمر في الجاهلية، وذكر انه كان أول من واد، لأنه خشني إن يخلف على بناته من هو غير كف لهن. وكان قد وأد ثماني بنات، ووفد في وفد "بني تميم" على الرسول فأسلم. وقد قال له للرسول لما دنا منه: "هذا سيد أهل الوبر".
و أما "الأحنف بن قيس"، فهو تميمي كذلك. أدرك النبي ولم يجتمع به. وكان يضرب بحلمه المثل وله قصص مع الخلفاء. وسكن البصرة، وبها مات سنة سبع وستين.
وقد رجح الجاحظ "الاحنف" على كل من عرف عند العرب واشتهر بينهم بالحلم، حتى رجحه على لقمان ولقيم وقيس بن عاصم ومعاوية بن أبي سفيان. وله قصص مع معاوية. ونسبوا له حكما وشعرا. وذكر انه هو القائل: "لا تزال العرب بخير ما لبست. العمائم، و تقلدت السيوف، وركبت الخيل، ولم تأخذها حمية الأوغاد. قيل: وما حمية الأوغاد? قال: إن يروا الحلم ذلا، والتواهب ضيما"". وقيل للأحنف بن قيس: بماذا سدت? فقال: بثلاث، بذل الندى، وكف الأذى، ونصر المولى. وقال: إنما تعلمت. الحلم من قيس بن عاصم: أتي بقاتل.ابنه فقال: رعبتم الفتى. وأقبل جمليه فقال: يا بني لقد نقصت عددك، و أوهنت ركنك، وفتت، في عضدك، وأشمت عدوك، وأسأت بقوملك، خلوا سبيله، وما حل حبوته، ولا تغير وجهه.
وللعرب كلمة تقولها عند طلب العفو والحلم وفي مواطن الغضب والتشاجر هي: "إذا ملكت فاسجح"، يقصد بها طلب العفو و الحلم عند ثوران الغضب. ولهم كلمات أخرى كثيرة في الحث على التحلي بالحلم و الصبر.

(1/2407)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن خصال السادة: النخوة. وقد عرف بها العرب حتى ضرب بها المثل، فقيل: نخوة العرب، وورد: "لؤم النبيط و نخوة العرب". وهم ينتخون لمن ينتخيهم مع ترفع وتعزز، فإذا نخى شخص، فعلى من انتخى إجابة داعي النخوة و إلا عد جبانا وصار سبة للناس.
ولا يعني إن ما ذكرته كان بحب إن يتوفر حتما في رجل ليستحق إن يكون سيدا. فقد رمي بعض الرؤساء بالبخل وبشدة الحرص و بإمساك يدهم، و وصف بعض السادات بالظلم وبالقسوة، ومع ذلك، فقد حكموا قبيلتهم وساد بعضهم وهم شبان، والعادة عند العرب إن الرئاسة للمسن، و إنما الذي ذكرته يمثل رأي ذوي الرأي في الرئيس المثالي الذي يعرف كيف يحكم قومه وكيف يوجه قبيلته. وهي ليست بالضرورة مؤهلات وصفات يجب إن تكون لازمة في الرجل الذي سيسود قومه، لقد ذكرت إن السيادة بالوراثة، وأن هذه الخلال إذا تحلى بها إنسان آخر من رجال القبيلة عد أيضا سيدا من ساداتها، بمعنى انه صار شريفا مقدما فيها ووجها من وجوهها. تماما كما يكون لمدينة ما رئيس مدينة، يحكها بصفة رسمية، ويكون لها في الوقت نفسه وجهاء وأشراف قد يكون من بينهم من هو اكثر ذكرا وأعلى مكانة وأشرف منزلة من رئيس المدينة، ولكنه مع ذلك لا يمثل المدينة في الحفلات والمجتمعات، لأنه ليس برئيسها العامل المعين. وهكذا هو شأن تلك الخصال، خصال مثالية قد تتوفر في رئيس القبيلة، وقد لا تتوفر فيه، بل تتوفر في غيره من أبناء القبيلة ومن رؤساء فروعها، ليكون لهم السيادة و الشرف فيها ويشار إليهم على انهم سادة القبيلة، ولكنهم لا يعنون بذلك رئاسة فعلية، و إنما رئاسة شرف ومكانة وتقدير في مجتمع. ومن هنا نجد أهل الأخبار يذكرون أسماء جملة سادات، على انهم سادات قبيلة واحدة وفي وقت واحد، فهم في الواقع سادات مجتمع وفروع قبيلة.
المدح والهجاء

(1/2408)

admin
12-31-2010, 07:56 PM
وللمدح وللهجاء شأن كبير عند الجاهليين إذ كان الجاهليون يقيمون وزنا كبيرا للقيم المعنوية. فرب مدح يخلد الممدوح ويبقي ذكره، ورب هجاء يغض من شأن المهجو ويحط من اسمه ونحن هذا اليوم نقرأ ما ورد عنهم من المدح، ونسمع أسماء الممسوحين وما حصلوا عليه من جاه وفخر بين الناس، ونقرأ ما ورد في ذم أناس وما قيل فيهم من ذم و قذع. ولولا الأهمية التي أعطاها الماضون للمدح وللهجاء لما بقي الذم والمديح حتى اليوم.
ومن أسباب المدح سخاء الممدوح أو شهامته ونجدته وشجاعته وعفته وحلمه وصبره وتضحيته وما إلى ذلك من صفات وخلال حميدة. فكان إذا جاءه ضيف يعرفه أو لا يعرفه قدم إليه واجب الضيافة، وبالغ في إكرامه وان كان فقيرا لا يملك شيئا. ويقسمه على نفسه وعلى أهله، لأن الضيافة حق وواجب، و على من يقصد الضيافة أداء هذا الواجب.
وقد كان الملوك يهبون على المدح ويثيبون المادح على قدر ما جاء في مدحهم لهم من تفن في المدح ومن إطراء زائد ومبالغة في المدح. ولما دخل "النابغة الذبياني" على "النعمان بن المنذر"، وحياه بتحية الملوك، ثم مضى مسترسلا في مدحه، تهلل وجه النعمان سرورا، وأمر إن يقدم له الدر، و "كسي أثواب الرضى. وكانت جبات أطواقها الذهب بقصب الزمرد. ثم قال النعمان: هكذا فليمدح الملوك". وفي كتب الأدب والأخبار أشعار قيل عن كل شعر منها "إنها أمدح بيت قالته العرب". وفيها مبالغات وغلو في المدح، تجعل الممدوح شمس والملوك كواكب، إذا طلعت لم يبد منهن كوكب. وأمثال ذلك.

(1/2409)


--------------------------------------------------------------------------------

و هذا الشعر وشعر الفخر وأمثالهما، يجب إن يكونا موضوعين لدراسات نفسية، لأنهما يمثلان أعمق الأحاسيس النفسية للعرب، ويتحدثان عن المواطن الرقيقة عند العرب، التي تهتز أوتارها بسرعة عند سماعها هذا النوع من المدح. والنواحي العاطفية التي يمكن منها التأثير في العرب. ونحن لا نستطيع بالطبع، إن نأخذ هذا الفخر أو ذاك المدح على انهما يمثلان الواقع و يمثلان الممدوح تمام التمثيل. أو انهما تعبير عن نفس صادقة مخلصة في كل ما قالته أو نظمته. فنحن نعلم إن من الشعراء من يمدح للعطاء ويهجو إذا حرم منه وان الممدوح إذا قطع عطاءه عن الشاعر، كف الشاعر عن مدحه، وربما انقلب عليه فيغسل كل ما قاله في مدحه له، بشعر يشتمه فيه بأبشع أنواع الشتم وأمضه. فشعر مثل هذا، وان كنا نرويه ونتحدث عنه ونحفظه، ولكنا نرويه ونستلذ بروايته، لأنه لذيذ من ناحية الأدب، ولأنه شعر قديم يمثل ضربا من ضروب الحياة في ذلك الوقت.
وقد يمدح الشخص بنعته بنعوت مشرفة، مثل "فلان أبيض أ و "قوم بيض"، و "البيض المناجيد" وهم لا يريدون من اللفظة بياض البشرة، و إنما يريدون المدح بالكرم ونقاء العرض من الدنس والعيوب. وقد ينعت قوم بالخضرة، ويريدون بذلك إن المنعوتين قوم عرب خلص. والأخضر بمعنى الأسود، والعرب تسمى. الأسود أخضر، يريدون بذلك سواد الجلد، والمراد بسواد الجلد انهم عرب خلص.
و يمدح المحافظون على الوفاء بالعهد والمتمسكون بالود، والمحامون على عوراتهم الذابون عنها. ويعبر عنهم ب "أهل الحفاظ".
التفاخر

(1/2410)


--------------------------------------------------------------------------------

والتفاخر، وهو التعاظم، من أهم مظاهر الحياة الاجتماعية عند أهل الجاهلية وفي الكتب العربية أمثلة كثيرة من تفاخر الجاهليين بعضهم على بعض، وتباهيهم بالأشياء الخارجة عن الإنسان و التمدح بالخصال. وتكون المفاخر بالآباء والأجساد، وبالسيادة والشرت، وبالكثرة، و بالحسب والنسب، حتى انهم انطلقوا في بعض الأوقات إلى القبور فكانوا يشيرون إلى القبر بعد القبر، و يقولون: فيكم مثل فلان ومثل فلان? وفي ذلك نزلت الآية: )ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر، كلا سوف تعلمون، ثم كلا سوف تعلمون(. فذكر إن حيين من قريش، بني عدنان و بني سهم، تكاثروا بالسيادة والأشراف، فقال كل، حي بهم: )ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر(. وقيل: إن قبيلتين من قبائل الأنصار، تفاخروا وتكاثروا، فقالت إحداهما: فيكم مثل فلان وفلان? وقال الآخرون مثل ذلك. تفاخروا بالأحياء، ثم قالوا: انطلقوا بنا إلى القبور، فجعلت إحدى الطائفتين تقول: فيكم مثل فلان يشيرون إلى القبر، وقال الآخرون مثل ذلك. فأنزلت: "ألهاكم التكاثر".
وتقع المفاخرات بحضور محكمين في الغالب، أو طرف ثالث محزم، وعلى الطرفين قبول الحكم و إطاعته، وسماع رأي الطرف الثالث في حجج وأقوال المتخاصمين المتفاخرين. وتكون المفاخرة بإظهار كل طرف ما عنده من خصال يفاخر بها، ومن مناقب يستأثر بها، ومن مجد يرى انه انفرد به دون خصمه، ثم يذكر ما امتاز به على خصمه، بكلام منثور ومنظوم، منسق منمق، وما قام به من أعمال فريدة، وما حصل عليه في حروبه مع الناس. وبعد إن يفرغ المتفاخرون من إلقاء ما عندهم من حجج وبيان، ينظر المحكمون في الحجج التي استمعوا إليها، ليبدوا حكمهم بموجبها ويكون حكمهم أصعب شيء يواجهونه، لما يتركه من أثر في نفوس المتخاصمين، ولما سيكون له من تأثير في مكانة من سيخسر المفاخرة.

(1/2411)


--------------------------------------------------------------------------------

ويقال للمفاخرة "المنافرة" و "المنافرة" المحاكمة في الحسب، وان يفتخر الرجلان كل واحد منهما على صاحبه، ثم يحكما بينهما رجلا، كفعل "علقمة بن علاثة" مع "عامر بن طفيل" حين تنافرا إلى "هرم بن قطبة الفزاري"، و فيهما يقول الأعشى بمدح "عامر بن الطفيل" و يحمل على "علقمة ابن علاثة": قد قلت شعري فمضى فيكما واعترف المنفور للنافر
وقد نافر "أنيس" أخو "أبي ذر الغفاري" شاعرا على شعره، إذ كان يرى انه أجود منه شعرا. وتكون المنافرة في كل شيء، يرى إنسان انه يفوق به غيره، كالمنعة والعز والجاه والكرم وما شاكل ذلك من خصال. قال "ابن سيده": "وكأنما جاءت المنافرة في أول ما استعملت انهم كانوا يسألون الحاكم: أبنا أعز نفرا?".
و "النفار" إن يتنافروا إلى حاكم يحكم بينهم. و "النفورة" الحكومة.
وورد "يوم نفورة": أي يوم حكومة، حكم فيه بالنفار.
ومن ا لمفاخرات، مفاخرة وفود ربيعة ومضر ابني نزار عند النعمان بن المنذر. فكان فيمن قدم عليه من وفود ربيعة "بسطام بن قيس" و "الحوفزان بن شريك". و فيمن قدم عليه من وفد مضر من قيس بن عيلان "عامر بن مالك" وعامر بن الطفيل. ومن تميم قيس بن عاصم، والأقرع بن حابس. ومفاخرة "آل حذيفة بن بدر" و "آل الأشعث بن قيس الكندي" عند كسرى. وهم من أعرق الأسر في أيامهم، وأشرفها. وقد عجب "كسرى" بذكائهم وبحدة أذهانهم. ومفاخرات أخرى مدونة في الكتب.
ومن مفاخرات أهل الجاهلية، منافرة "عامر بن الطفيل" مع "علقمة بن، علاثة" المذكورة، ومنافرة "بني فزارة". و "بني هلال"، ومنافرة "الفقعسي" و "ضمرة"، و منافرة "جربر البجلي" و "خالد بن أرطاة الكلبي" ، ومنافرة "القعقاع بن زرارة بن عدس" و "خالد بن مالك ابن ربعي بن سلم بن جندل بن نهشل" ومنافرة "هاشم بن عبد مناف" و "أمية بن عبد شمس".

(1/2412)


--------------------------------------------------------------------------------

"ومن المنافرات، منافرة "عامر بن أحيمر" عند "المنذر بن امرئ القيس ابن ماء السماء". فقد ذكر إن "المنذر" أخرج بردين يوما يبلو الوفود، وقال: ليقم أعز العرب قبيلة، فليأخذهما. فقام "عامر بن أحيمر" فأخذهما وائتزر بأحدهما وارتدى بالآخر، فقال له المنذر: أ أنت أعز العرب قبيلة? فقال: العز والعدد في معد، ثم في نزار، ثم في مضر، ثم في خنذف، ثم في تميم، ثم في سعد، ثم في كعب، ثم في عوف، ثم في بهدلة، فمن أنكر هذا فلينافرني، قسكت الناس، فقال المنذر: هذه عشيرتك كما تزعم، فكيف أنت في أهل بيتك وفي نفسك? فقال: أنا أبو عشرة، وأخو عشرة و خال عشرة، وعم عشرة، و أما أنا في نفسي، فشاهد العز شاهدي، ثم وضع قدمه على الأرض، فقال: من أزالها عن مكانها، فله مئة من الإبل. فلم يقم إليه أحد من الحاضرين، ففاز بالبردين، وعرف ب "ذي البردين".
وطالما كانت تؤدي هذه المفاخرات إلى وقوع حروب وسفك دماء، ولذلك أبطلها الإسلام، ونهى عنها? وعدها من شعار الجاهلية.
والمساجلة في معنى المفاخرة، بأن يصنع مثل صنيعه في جري أو سقي. وتساجلوا بمعنى تفاخروا. ذكروا إن أصل المساجلة: إن يستقي ساقيان، فيخرج كل منهما في سجله ع مثل ما يخرج الآخر ج فأيهما نكل فقد غلب، فضربته العرب مثلا للمفاخرة، فإذا قيل فلان يساجل فلانا فمعناه انه يخرج من الشرف مثل.ما يخرجه الآخر، فأيهما نكل فقد غلب.
وتعرف "المفاخرة" ب "المباهاة" أيضا. فيقال: تباهوا إذا تفاخروا. ، و أما إذا صايحه، فيقال هاباه. وذلك بأن يذكر كل متباه مناقبه ومناقب قومه، يتفاخر بها على خصمه. وطالما أدت المباهاة إلى وقوع خصومات ومعارك.

(1/2413)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن مفاخر العرب التفاخر بمن برز عندهم في عمل فذ وفي عمل خصال كريمة، أو قام بفعل استحق الإعجاب. فكانت القبائل تتفاخر بذكر أسماء هؤلآء، وتحفظ أسماءهم للتباهي بهم، كما تفعل الدول في التباهي برجالها. ومن مفاخرهم: الفروسية، فعد "الحوفزان" مثلا وهو "الحوفزان بن شريك" فارس بكر بن وائل.
وافتخروا ب "الأصم عمرو بن قيس"، ولقب عند المتفاخرين به ب "صاحب رؤوس بني تميم"، وافتخروا ب "مفروق بن عمرو" "حاضن الأيتام" والظاهر انه كان يحن على الأيتام ويعطف عليهم، لذلك لقب بهذا اللقب، وافتخر ب "سنان بن مفروق"، الذي عرف ب "ضامن الدمن". كما افتخر ب "عمران بن مرة" لأنه أسر "يزيد بن الصعق" مرتين.
الخيلاء
وقد عرف بعض الجاهليين بالخيلاء والزهو والتغطرس. وقد اعتبرها الإسلام من سمات أهل الجاهلية. وقد اشتهر "سماك بن خرشة الأنصاري" بمشية خاصة به، فيها تبختر و خيلاء؛ حتى عرفت ب "مشية أبي دجانة". والتبختر هي مشية العجب والخيلاء. و كانت من مشية بعض المغرورين المترفين من أصحاب الجاه والمال.
الهجاء
والهجاء عكس المدح، وهو ذم الشخص والانتقاص منه و شتمه. و قد نبغ فيه بعض الشعراء، وتخصص به، ويجب إن نقف منه موقف الحذر الشديد، لما للعواطف والهوى من أثر فيه. وقد يهجو شخص شخصا أو قوما لسبب تافه، أو بسبب حادث وقع له لا يستوجب صدور ذلك الهجاء منه. وهناك أشخاص جبلوا على ازدراء الناس وشتمهم والانتقاص منهم، فهجوا أكثرهم، بل بلغ بهم الهجاء حدا حملهم على هجو أقاربهم وأهلهم، بل أنفسهم في بعضن الأحيان.
ويستحق الهجاء من اتصف بسوء الخصال، واتسم بأخلاق الأرذال، والأنذال، وجعل اللؤم جلبايه وشعاره، والبخل وطامر ودثاره. وقد حفظ الرواة بعض الأشعار التي قيل إنها كانت من أهجى أشعار العرب في الجاهلية وفي الإسلام. وذكر إن من شعر الهجاء المر القاسي قول الأعشى: تبيتون في المشتى ملاء بطونكم وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا

(1/2414)

وقوله في الزبرقان بن بدر: دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
وقول الطرماح:
تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا و لو سلكت طرق المكارم ضلت
إلى غير ذلك من شعر، يجب إن نأخذه بحذر. وان نعالجه دائما على انه يمثل العواطف الشخصية والانفعالات النفسية، والتهيج الآني. وان شعرا من هذا القبيل لا يمكن إن يحمل محمل الصدق، وان نقول عنه انه يعبر عن الواقع. بل نأخذه كما سبق إن فكرت عن شعر المديح على انه تعبير عن نوع من أنواع الأدب في ذلك الوقت. وعلى انه باب بحب إن يدرس من الوجهة النفسية، لأنه يفيد في الوقوف على النفسية العربية و العقلية الجاهلية في ذلك الوقت.
ولم يكن الهجاؤون يراعون الصدق في كلامهم، وكيف يراعونه وهم يريدون هجو خصومهم والإساءة إليهم والى سمعتهم بأية طريقة ووسيلة كانت، حتى وان علموا إن سامعي الهجاء لا يصدقونه. ومن هذا القبيل رمي بعض القبائل أو الأسر بأنها من أصل أعجمي، وفي كتب الأخبار أمثلة عديدة على ذلك، وقد يكون ذلك بسبب وجود دم أعجمي من أم أو من أب بعيد أو قريب، وقد لا يكون أي أثر من ذلك. شتم "عمرو بن الأشم" "قيس بن عاصم"، فقال له ولقومه: إن تبغضونا، فإن الروم أصلكم والروم لا تملك البغضاء للعرب
وقد عير "حسان بن ثابت" "بني المغيرة" وسبهم بأنهم **** قيون، أبوهم قين لدى كيره" جاثم. يأخذون "الاهالة"، وهو الدهن الذي يستخرج من اللحم، ويبيعونه من الدباغين. فما ذكره فيهم هو من أعمال العجم والصعاليك، لا العرب الأصلاء و الأقحاح.

(1/2415)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر إن "الوليد" المعروف ب "الوليد بن المغيرة" لم يكن عربيا، و إنما كان عبدا روميا، وكان اسمه "ديم"، واسم أبيه. "صقعب"، فرغب فيه "المغيرة"، فادعاه، والحق صقعبا بالشام، فاشتاق إليه، فصوره في الحائط. وقد هجاه "حسان بن ثابت"، فقال له إن والدك "صقعبا" كان قينا، و أما أمك فهي "حباشة"، وهي عبدة سوداء. وقد تباهيت إذ صرت غنيا، و إنما صرت ثريا بكلبتك هذه، وهي آلة من آلات الحدادين، يشير بذلك إلى انه كان حدادا، يعرف ضرب النصال، وحسن الرقع للبرم. وهي القدور. ويظهر من شعر حسان ومن شرح الشراح إن "الوليد" كان مصهورا ماهرا متمكنا من فنه، حتى صور اباه، إن صح هذا الادعاء من " حسان".
ولحسان بن ثابت هجاء شديد لثقيف، قال في بعضه خلوا "معدا" ولا تنتسبوا إليها، واتركوا "خندفا"، فما لكم من ولادة فيها، وذلك على عاداته وعادة الشعراء والناس عند هجاء قوم، حيث يرمونهم بكل قبيح، ويجردونهم من كل مكرمة، إلا انه لم يصرح في شعره بأنهم من ثمود، إذ كانوا وقت هجاء "حسان" إياهم من "قيس". وقد نسبهم بعضهم إلى "الفهود بن بني جائر بن إرم، اخوة ثمود"، ونسبهم آخرون إلى "وحاظة" بن حمير ؛ وقال آخرون إن "ثقيفا"، هو عبد كل ذلك نكاية بثقيف.
وذكر أهل الأخبار إن "الازرق"، وهو غلام رومي في الأصل كان للحارث ابن كلدة الثقفي. وقد ادعى نسله إن "الأزرق" هو ابن "عمرو بن الحارث ابن ابي شمر الضاني"، فهم من غسان. وذكر انهم ادعوا في أول آمرهم انهم من تغلب، ثم من بني عكب؛ ثم أفسدتهم خزاعة، ودعوهم إلى اليمن، وزينوا لهم ذلك، وقالوا: انتم لا يغسل عنكم ذكر الروم إلا إن تدعوا إنكم من غسان. فانتموا إلى غسان بعد.

(1/2416)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عيرت العرب وسبت من كان ذا أصل خامل، كأن يكون قينا، والقين العبد والحداد. ولعلها جمعت هذا المعنى من الرابط بين الحرفة والمنزلة، فقد كلبن القيون من ال****. وقد عير "حسان بن ثابت" "بني عوف بن عوف" بأنهم منتسبون إلى قريش، ولكن نسبهم ليس منهم، بل من جذع قين لئيم العروق عرقوب والده اصهب. فرماهم بأنهم ليسوا من قريش، ولا من العرب، بل من الروم، ووالدهم اصهب به حمرة، وليست الصهبة من لون العرب. وقال لهم: ولذا أردتم الانتساب إلى العرب، فانتسبوا إلى "تغلب"، انهم شر جيل، وليس لكم غيرهم مذهب. ويبعث قول "حسان" هذا في "تغلب" على الظن بان أقواما من الغرباء دخلوا في تغلب، وصاروا منهم. ولعله قصد إن من تنصر، دخل في تغلب، حتى دخل فيهم من ليس من العرب بسبب نصرانيته، حتى دخل فيهم قوم أصلهم من الروم.
و عير ب "أولاد درزة م، ويراد بهم الغوغاء. وبنو درز: الخياطون و الحاكة، والعرب تقول للدعي: هو ابن درزة وابن ترني. وذلك إذا كان ابن أمة تساعي، فجامت به من المساعاة، ولا يعرف له أب، وقال: هؤلاء أولاد درزة وأولاد فرتني. للسفلة و السقاط.
والسب: الشتم، والسباب: الشتائم والمشاتمة. و أما "السبة" فالعار. و كانوا يتشاتمون جماعات و فرادى، و يعير بعضهم بعضا وقد يقذعون في السب، ولا سيما في الأمور إلى تتغلب فيها العواطف، على العقل.
ومن شتائم الجاهليين وسبابهم "عضضت بأير ابيك"، ويا ابن الزانية، ويا ابن الفاعلة، و "يا عاض اير أبيه، و "يا مصفر أسته"، و "يا ابن ملقى ارحل الركبان".

(1/2417)


--------------------------------------------------------------------------------

و عيرت العرب بالبخل. و البخل هو على نقيض الكرم. وقد ذم بعض الجاهلين لبخلهم ولحرصهم الشديد على مالهم وعدم مساعدتهم للفقراء. و المحتاجين. وقد انتخبوا من بينهم رجلا زعم انه ابخل الناس في الجاهلية اسمه "مادر"، "بخل مادر" و "ابخل من مادر". وهو رجل من "بني هلال بن عامر". ذكر انه كان إذا أتى ماء روي وأروى، ملأه مدرا ضنا على غيره بوروده. وانه بلغ من بخله انه سقى ابيه، فبقي في الحوض ماء قليل، فسلح فيه ومدر الحوض بالسلح، أي لطخه. وورد في الأمثال: "ألأم من مادر".
وعيرت بالغدر. قال بشر: رضيعة صفح بالجباه ملمة لها بلق فوق الرؤوس مشهر
وصفح رجل من "بني كلب برت وبرة"، جاور قوما من "بني عامر"، فقتلوه غدرا. يقول غدرتكم ب "زيد بن ضباء الاسدي"، اخت غدرتكم بصفح الكلبي.
و عيرت من ينكر الصنيع الجميل و الفعل الحميد، فينسى احسان من احسن له. وعيرت من لا يفي، ولا سيما من أكل الخبز والملح، وهما من موجبات الوفاء، فقالوا: "ملحه على ركبتيه"، في عدم الوفاء.
وإذا سبت العرب أحد الموالي، قالت: يا ابن حمراء العجان، أي يا ابن الأمة. كلمة تقولها في السب والذم. والعرب تسمي الموالي: الحمراء. وكانوا يعيرون "الأتاوي"، و هو الغريب في غير موطنه، ولا يعدلون أحدا من الأتاويين باصحاب المحلات. قال الشاعر: لا تعدلن اتاويين قد نزلوا وسط الفلاة باصحاب المحلات
وقالت امرأة من الكفار، وهي تحرض الأوس والخزرج، حين نزل فيهم النبي: أطعتم أتاوي من غيركم ظلا من مراد ولا مذحج
أرادت إن تؤلب وتذكي العصبية.
وكانوا إذا أرادوا الاستهزاء برجل جاهل سفيه، قالوا له: هذا من اشد سباب العرب، أي إن يقول الرجل لصاحبه إذا استجهله يا حليم! أي أنت عند نفسك حليم وعند الناس سفيه.

(1/2418)


--------------------------------------------------------------------------------

ويعير الإنسان بأبويه، أو بأحدهما، إذا كان بهما أو بأحدهما مثلبة ومنقصة يؤاخذ عليها، كان يكون ابن أمة أو ابن سبي بيع في السوق. وقد رأينا انهم كانوا يزدرون الهجين، ولا ينظرون إليه نظرتهم إلى إنسان صريح، كما كانوا يزدرون من أمه أو أبوه من أصحاب الحرف. و قد عير "النعمان بن المنذر" لأن أمه "سلمى" كانت ابنة قين، على زعم بعض الرواة. وكانوا إذا شتموا ابن امة، قالوا له: يا ابن آستها.
وقد كان للجاهليين أعراف في إهانات الناس، من مثل سب الشخص على ما ذكرت، وتحريض الأطفال على العبث بمن يريدون اهانته، ورميه بالحجارة والركض خلفه، وبأمثال ذلك، أو بتحريض السفهاء على التحرش بالشخص، أو تحريض النسوة بسبه، وبالإقذاع في كلامهم معه، وبما شاكل ذلك من وسائل دنيئة لا تنم على قدرة المحرض ولا على جرأة عنده، فيعمد إلى أمثال هذه الأمور.
و أما المقتدرون المتمكنون، فكانوا إذا أرادوا إهانة إنسان أهانوه بأسلوب يدل على قدرة المهين وتمكنه من مهانه وازدرائه، فكان أحدهم إذا تمكن من عدوه، عد إلى إهانته بنتف لحيته. و نتف اللحية من الإهانات الشديدة عند العرب، لأن اللحية من سيماء الرجولة، فإذا نتفت عد نتفها انتقاصا من شأن ذلك الرجل، وازدراء شديدا به.
وما يقال عن الإهانة التي توجه إلى الرجل بنتف لحيته، ينطبق كذلك على
"جز الناصية". فجز الناصية من وسائل التحقير والازدراء، و فيه دلالة على ازدراء من جز الناصية بمن جزت ناصيته، بعد إن تمكن منه. وقد كان في إمكانه استرقاقه، أو المن عليه بفك أسره، أو بفك رقبته بفدية، ولكنه لم يفعل كل ذلك، ولم يطمح في الفدية إمعانا في ازدراء خصمه بإفهام الناس إن ذلك الشخصر لا يساوي شيئا، وان المتمكن ارفع من إن يقبل فدية عن رجل وضيع خامل.

(1/2419)


--------------------------------------------------------------------------------

وكانوا إذا ذكروا خصومهم، تمنوا لهم الشر والأذى، واستعملوا جملا فيها هذه المعاني. مثل: أخس الله حظه، وأبعده الله وقبحه، أو رضيع اللؤم، أو ابعد الله دار فلان، وأوقد نارا في أثره، وقد يذكرونهم بهزء وسخرية. ويكثر ذلك عند أهل القرار.
ومن معاني الشتم لفظة "لحى"، الي تعتي "شتم". يقال "لحى الله فلانا"، أي قبحه ولعنه. و "الملاحاة" المنازعة وفي المثل من لاحاك، فقد عاداك.
وكان من دعاء بعضهم على بعض قولهم: "حبنا و قدادا". والحبن الاستسقاء، والقداد، وجع في البطن.
وكان إذا دعا الرجل على صاحبه، يقول: قطع الله مطاك. فيقول الآخر: بسلا بسلا، أي آمين آمين. وكان يحلف الرجل ثم يقول بسل، أي: آمين. وكان "عمر" يقول في دعائه: آمين وبسلا، أي إيجابا و تحقيقا. وهي في معنى الويل، يقال: بسلا له أي ويلا له.
وكانوا إذا ما أرادوا التكنية عن الكذاب، قالوا: "أبو بنات عبر". و "بنات عبر" الكذب والباطل.
الخسة و الدناءة
والخسة والدنامة، والخسيس الدنيء والحقير. والدنيئة النقيصة. والسنية الخصلة المذمومة. وهي من المثالب التي تكون في الإنسان. فيزدرى من شأنه ومحتقر بين قومه. ومنها الحسد واللؤم وعدم احترام العرض. والعرب، تتنخى من الدنايا و تستنكف منها.
والحسد من الصفات السيئة التي كرهها العرب. وقد كان الحسد إذ ذاك كثيرا، بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية وانتشار الفقر. فكان الفقير يحسد غيره على ما عنده، مهما كان ما عنده قليلا، لأنه لا يملك حتى هذا القليل. وقد بحث "الجاحظ" في الحشد، ووضع رسالة فيه دعاها: كتاب فصل ما بين العداوة والحسد. والحسد عنه شيء مألوف يقع لكل طبقة ولكل إنسان. ومن أسبابه: حب الرياسة، ووجود النعمة، و أمور أخرى ذكرها و تحدث عنها. كما تكلم عن مظهر الحسد و أشكاله عند الجاهلين والإسلاميين، وقد جعله فوق العداوة، لأن العداوة تزول بزوال أسبابها، أما الحسد، فإنه دائم باق.

(1/2420)


--------------------------------------------------------------------------------

و "الج بن"، من الصفات التي يعير "الجبان" بها. وهو الذي لا يحب القتال ولا يستعمل سيفه. ولما كانت الحياة عند للعرب حياة قتال صارت الشجاعة في الإنسان صفة من صفات التكريم والتعظيم والتقدير، عكس "الجبن"، وينظر الناس إلى "الجبان" نظرتهم إلى النساء، بل هو عندهم دونهن شأنا. لأن المرأة ولدت وفي طبعها اللين والاستسلام، أما الرجل فقد خلق للعراك والقتال، وقد حفظ أهل الأخبار قصصا عن الجبناء وعن، تحايلهم في سبيل تخليص أنفسهم من القتال ومن استعمال السيف. وقد اتهموا بتهم منها: انهم كانوا ينتابهم "الضراط" عند شعوبى هم بخوف و بأصوات السيوف. حتى، استخفت النساء بهم من أجل ذلك. قيل في المثل: أجبن من المنزوف ضرطا. ومن ذلك إن نسوة من العرب لم يكن لهن رجل، فتزوجت إحداهن رجلا كان ينام الصبحة، فإذا أتينه بصبوح، قلن قم فاصطبح، فيقول: لو نبهتني لعادية، فلما رأين ذلك. قال بعضهن لبعض: إن صاحبنا لشجاع، فتعالين حتى نجربه، فأتينه كما يأتينه، فأيقظنه. فقال: لو لعادية نبهتني. فقلن هذه نواصي الخيل. فجعل يقول: الخيل الخيل و يضرط ، حتى مات. إلى غير ذلك من قصص يروج الأخباريون.
الشرف و الخمول في قبائل العرب

(1/2421)


--------------------------------------------------------------------------------

و القبائل كالأفراد والأسر، فيها النابه المذكور المهاب، وفيها الخامل الهزيل الضعيف الذي لا ينظر إليه نظرة تقدير وتبجيل. والقبيل الكثير الذرء والفرسان والحكماء و الأجواد والشعراء، و كثير السادات في العشائر، وكثير الرؤساء في الأرحاء، هو القبيل المقدر المعظم، ذو الشأن بين القبائل. وقد تقع أحداث وعوامل، تؤدي إلى خمول القبيل والى انفصام وحدته، و إلى طمع غيره فيه، فيهزل عندئذ ويخمل، ويأخذ مكانه من هو أقوى منه. وقد ذكر "الجاحظ"، إن القبيل الذرء و العدد، والذي لا يكون فيه خير كثير ولا شر كثير، يخمل و يدخل في غمار المرب، ويغرق في معظم الناس، وصار من المغمورين ومن المنسيين، وسلم من ضروب الهجاء ومن أكثر ذلك؛ و سلم من إن يضرب به المثل في قلة ونذالة إذا لم يكن شر، وكان محلهم من القلوب محل من لا يغيظ الشعراء، ولا يحسدهم الأكفاء... و إذا تقادم الميلاد ولم يكن الذرء وكان فيهم خير كثير وشر كثير، ومثالب ومناقب، لم يسلموا من إن يهجوا ويضرب بهم المثل... وقد يكون القوم حلولا مع بني أعمامهم، فإذا رأوا فضلهم عليهم حسدوهم، وان تركوا شيئا من أنصافهم اشتد ذلك عليهم، وتعاظموا بأكثر من قدره، فدعاهم ذلك إلى الخروج منهم إلى أعدائهم. فإذا صاروا إلى آخرين نهكوهم وحملوا عليهم، فوق الذي كانوا فيبه من بني أعمامهم، حتى يدعوهم ذلك إلى الندم على مفارقتهم، فلا يستطيعون الرجوع، حمية واتقاء، ومخافة إن يعودوا لهم إلى شيء مما كانوا عليه، و إلى المقام في حلفائهم الذين يرون من احتقارهم، ومن شدة الصولة عليهم".

(1/2422)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذكر "الجاحظ"، إن مما تبتلى به القبائل فيصيبها الخمول: الشعر و نبوغ الأقارب أو المنافسين. فالشعر عند العرب يرفع من قدر الناس ويحط من درجاتهم. فقد يقال بيت واحد يربطه الشاعر في قوم ليس لهم جاه، فيرفع من شأنهم، وفد يقال بيت واحد في قوم لهم النباهة والعدد والفعال، فيغض من مكانتهم، ويكون سبة لهم. ولأمر ما بكت العرب بالدموع الغزار من وقع الهجاء، كما بكى مخارق بن شهاب، وكما بكى علقمة بن علاثة، وكما بكى عبد الله بن جدعان، والبلية الأخرى: إن يكون القبيل متقادم الميلاد، قليل الذرء قليل السيادة، وتهيأ إن يصير في ولد أخوتهم الشرف الكامل والعدد التام، فيستبين لمكانهم منهم من قلتهم وضعفهم لكل من رآهم أو سمع بهم، أضعاف الذي هم عليه لو لم يكونوا ابتلوا بشرف أخوتهم.
و من شؤم الأخوة إن شرفهم ضعة إخوتهم، ومن يمن الأولاد إن شرفهم شرف من قبلهم من آبائهم ومن بعدهم من أولادهم. ولذلك كانت القبائل تفخر بنبوغ الشعراء بها، لأنهم لسانها الذاب عنها، وسيفها المصلت على رقاب الأعداء. وتتباهى بما يقوم به ساداتها من فعال حميدة وأعمال مجيدة ترفع رأس أبناء القبيلة بين الناس.
ولأهمية الشعراء عند الجاهليين، قال بعض العلماء: كلاب الحي شعراؤهم، وهم الذين ينبحون دونهم، ويحمون أعراضهم. وفي هذا المعنى جاء قول عمرو بن كلثوم: وقد هرت كلاب الحي منا و شذبنا قتادة من يلينا
الإسلام والجاهلية

(1/2423)

admin
12-31-2010, 07:58 PM
وقد أبطل الإسلام كل سمة من سمات الجاهلية وعلامة من العلامات التي كانت تعد من صميم حياة الجاهليين. وفي جملتها المثل الأعرابية والحياة البدوية، فاعتبر الأعرابية بعد الإسلام ردة ر ونهى عن الهجرة من المدن إلى البوادي، فكان الأعرابي إذا دخل في الإسلام، لزم الحضارة، وكلف بواجب الجهاد في سبيل نشر الإسلام، لما في التبدي والأعرابية من ابتعاد عن الجماعة وترك للواجب الملقى على المواطن في الدفاع عن الإسلام وفي العمل على إنهاض المجتمع والإنتاج. في سبيل الخير العام. لذلك لام الناس "أبا ذر الغفاري"، حين لجأ إلى "الربذة" فأقام، بها وتعزب بذلك عن الجماعة.
وفي جملة ما حاربه الإسلام من أمور الجاهلية الأصنام والأوثان، فطمست وأزيلت معالمها، بل غير أمورا أقل منها شأنا وخطبا، مثل: خضرمة النوق. وكان أهل الجاهلية يخضرمون نعمهم، فل جاء الإسلام أمروا إن يخضرموا من غير الموضع الذي تخضرم منه أهل الجاهلية. وذلك منعا من التشبه بالجاهليين، و إبعادا للمسلمين عن تذكر أيام ما قبل الإسلام. ونهى عن تسنيم القبور وعن لبس بعض الملابس، وعن أمور أخرى، لأنها كانت من صميم أعمال الجاهليين.
وحارب الإسلام، للعصبية التي كانت من أهم سمات الجاهلية، و التي بقيت مع ذلك كامنة في نفوس الناس. عصبية القبائل وعصبية القرى والمواضع. من ذلك ما كان بين يمن و أهل مكة من نزاع، تحول إلى نزاع قحطان وعدنان. فعير أهل مكة اليمن بأنهم قيون، و أجابهم أهل اليمن بكلام غليظ شديد. هذا "أمية بن خلف" يهجو حسان بن ثابت بقوله: أليس أبوك فينا كان قينا لدى القينات، فسلا في الحفاظ
يمانيا يظل يشد كيرا وينفخ دائبا لهب الشواظ
وهذا "حسان" يجيبه ويرد عليه في شعر مطلعه: أتاني عن أمية زور قول وما هو في المغيب بذي حفاظ

(1/2424)


--------------------------------------------------------------------------------

وطالما ظهرت هذه العصبية في أيام الرسول، بتنازع الأنصار وقريش وتفاخرهم بعضهم على بعض. وذكر إن في جملة أسباب تحريم الخمر، إن رجلا من الأنصار صنع طعاما، فدعا جمعا من الأنصار وقريش، وشربوا الخمر حتى انتشوا، فتفاخرت الأنصار وقريش، فقالت الأنصار: نحن أفضل منكم. وقالت قريش نحن أفضل منكم، و تخاصموا، فبلغ ذلك الرسول، فنزل الأمر بتحريم الخمر.
وفي جملة ما نهى الإسلام عنه "دعوى الجاهلية" من التفاخر بالأحساب والأنساب والتباهي بالمال والبنين والأموات، و تحريم بعض الطعام والشراب والعادات الاجتماعية والأوضاع الاقتصادية على نحو ما رأينا فيما تقدم، وما سنراه فيما بعد.
قد ترك المسلمون أمورا كثيرة أخرى مما كان مستعملا في الجاهلية، فمن ذلك تسميتهم للخراج إتاوة، و كقولهم للرشوة ولما يأخذه السلطان: الحملان والمكس. و كما تركوا: أنعم صباحا، وأنعم ظلاما، وصاروا، يقولون: كيف أصبحتم? وكيف أمسيتم? كما تركوا إن يقولوا للملك أو السيد المطاع: أبيت اللعن، وتركوا إن يقول العبد لسيده: ربي وان تقول حاشية الملك و السيد للملك وللسيد: ربنا. وكما تركوا إن يقولوا لقوام الملوك السدنة، وقالوا: الحجبة. كما تركوا أشياء أخرى مثل المرباع والنشيطة و الصفايا، إلى غير ذلك، مما كان مستعملا في الجاهلية. فكره لذلك استعماله في الإسلام.
الفصل الثامن و الأربعون
الحياة اليومية

(1/2425)


--------------------------------------------------------------------------------

لا نستطيع إن نتصور وجود حياة يومية صاخبة أو متغيرة عند أهل الوبر، فحياة البادية في غاية البساطة ساذجة إلى أقصى حد من السذاجة. تذهب وتأتي على وتيرة واحدة ونمط واحد. فليس للرجل في البادية من عمل سوى رعي الإبل والإشراف عليها. وهو عمل لا يستوجب مجهودا ولا يتطلب بذل طاقة، لذلك يعهد به إلى الأحداث في الغالب، أما الرجال، فليس لهم عمل مهم يذكر. لذلك يقضون معظم وقتهم جلوسا بغير عمل، أو في التحدث بعضهم إلى بعض. وحياة على هذا النحو تجعل الإنسان على الكسل والخمول. فصار الأعرابي خاملا كسولا على صحة جسمه وتوقد ذهنه وذكائه. يحسن الكلام و يجيد تنميق الحديث ويتلاعب في كلامه وفي أيجاد معان وحيل ومخارج له، ويسترسل في الخيال وفي التصور وفي شعوره الذي سبكه وصاغه في كلام موزون منظوم مقفى، وفي كلام مسترسل غير مقفى، وفي كل حرفة لسانية، أو تعبير عن شعور ذاتي صاحب والبطولة وما شاكل ذلك مما لا يحتاج إلى مجهود و عمل. أما النواحي العملية من الحياة، من نواحي التي تحتاج إلى جهد وعمل، فقد ترك أمرها لغيره، بل ازدراها وازدرى شأن من يعمل بها، واحتقر الحرف والصناعات، لأنها من عمل الأعاجم وال****. ورأى إن من العار إن يصاهر أهل الصناعات والحرف والزراعة، لأنهم دونه في المنزلة بكثير. وهو غير ملوم على نظرته هذه إلى العمل البدوي المجهد، فالإنسان عدو ما جهل معظم لما يكون عنده؛ كاره لما لا يملكه ويكون عند غيره. فقد حرمته الطبيعة من كل ما يحمله على بذل الجهد للاشتغال في صناعة أو حرفة أو زراعة، ولم تهيئ له البذور والمواد اللازمة لاقامتها، لذلك جهلها فحاربها وازدراها وازدرى شأن من يشتغل بها. كما سأتحدث عن ذلك في المواضع المناسبة لهذا البحث.

(1/2426)


--------------------------------------------------------------------------------

والبادية ارضون واسعة شاسعة جرداء في اغلب أيام السنة، خلا مواسم نزول الغيث وهي قليلة، وقد تنحبس. إذا أمطرت السماء ظهر "الربيع"، فتفرح الأرض وتكسى بخضرة تتخلها أوراد وأزهار وشقائق، ويضحك عندئذ وجهها، بعد يبوس و عبوس، ضحكا يفهم الإنسان الحضري عندئذ سر تعلق الأعرابي بباديته. ففي البادية على ما فيها من شقاء وجفاف و يبوسة؛ سحر ينسي الإنسان صعوبة الحياة، وحلاوة تنسيه مرارة الأيام القاسية التي يعيشها البدوي في باديته. بعيدا عن الحضر وعن المجتمع المتكثف في مستوطنة أو قرية أو مدينة، بل بعيدا حتى عن أبناء عشيرته فمن طبيعة الصحراء إن قلبها لا يتقبل المجتمعات الكبيرة، بل يفضل المجتمعات الصغيرة المتناثرة. فصارت البيوت فيها متباعدة منتشرة هنا وهناك انتشار النجوم في السماء. كل بيت مسؤول عن حماية نفسه وعن وقاية أفراده من أذى الإنسان والحيوان، وعن حماية جاره وذوي رحمه وأبناء عشيرته. لأنه إن لم يفعل ذلك، لم بجد من يدافع عنه أيام الشدة والعناء، حتى صار الجار عنده بمنزلة الأهل والدار.
وحياة من هذا النوع هي حياة لا بد وأن تصير بسيطة جدا ساذجة إلى أقصى حدود السذاجة. أحاديثها اليومية تكرار واعادة، و أحاسيسها نسخة لأحاسيس اليوم الماضي و الأيام السابقة. وافق التفكير فيها محدود ضيق إذ لا مجال فيها للفكر إن يتفتق وأن يتفتح ويتوسع. ومن هنا طبعت الحياة العقلية والاجتماعية بطابع الفطرة والبساطة. وهي لا يمكن إلا إن تكون كذلك. وكيف تريد منها إن تكون غير ذلك، ومحيطها وظروفها هي على هذا النحو من الحدود والقيود!

(1/2427)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي وسع الرجل بفضل ما أوتي من قوة ومن يسطة في الجسم، قطع المسافات لزيارة الأقارب والجيران، لقتل الوقت بالكلام معهم، أو للتحدث عن غزو سابق أو عن شؤون سيد القبيلة أو عن أشراف العشيرة أو للخروج إلى صيد لاصطياد ما قد بحده من حيوان مسكين، حتم عليه سوء طالعه إن يولد في هذه الأرض الفقرة، فهو مثل الإنسان تائه بهذه الحياة في هذه البادية الواسعة المكشوفة الشحيحة، يشكو إلى خالقه من ظلم طبيعة أنبتته في هذه الأرض الفقيرة، على حين زرعت غيره في غابات كثيفة ذات ظروف حياتية غنية، فيها من المأكول أشكال و ألون. يينما هو لا يكاد يجد أمامه شيئا، حتى إذا اشتد عوده. واستوى، وقع في قبضة أناس جائعين، لا يقل جوعهم عن جوعه، فلا يخرج من قبضتهم أبدا. يتلذذون في أكله شواء، ويتحدثون عن صيدهم ويفتخرون به. وقد يكون الصيد ظبيا أو ضبا أو يربوعا. ويفخرون بصيدهم لأنهم محرومون من اللحم، وكل ما تقع عليه عين المحروم من الأكل، هو أكل لذيذ دسم في نطر المحروم.

(1/2428)


--------------------------------------------------------------------------------

أما الأطفال فهم أطفال أينما وجدوا. لا يعرفون من أسرار الحياة وعنائها وشقائها شيئا. همهم اللعب، يلعب الذكور مع الإناث، الأخوة مع الأخوات، فهم أطفال البيوت. وقد يلعب معهم أطفال جيرانهم، إذا كانت البيوت متقاربة. يلعبون ألعابا، هي من نتاج طبيعة أرضهم و محيطهم. لا يعبأون بحر ولا برد، ولا بريح أو بأشعة شمس محرقة وما الذي يفعلونه تجاه طبيعة قوية قهارة لم. تعطهم إمكانيات بناء بيوت من مدر يأوون إليها لحماية أنفسهم من أشعة الشمس لهم على الأقل. و إنما مكنت آباءهم من صنع بيوت من وبر أو صوف أو شعر معز قد تقيهم من الأشعة بعض الوقاية، بأن تمنحهم شيئا من ظل. ولكنها عاجزة عن حمايتهم من البرد ومن الحر ومن الغيث إذا نزل عليهم مدرارا. لا سيما إذا طال عهد هذه البيوت ولعب بها العمر، وصارت مهلهة بالية، ذات جيوب وشقوق كالغراببل، تعبث بها الرياح ساخرة من جهل هذا الإنسان القانع الراضي بحياته هذه على ما فيها من شظف وعسر و فقر، بينما هناك مجال واسع له لتحسين حاله، لو حرك نفسه واستخدم عقله وذراعه لتسخير الطبيعة في خدمته، لتحسين وضعه والترفيه عن نفسه ولو إلى حد.
الرجل

(1/2429)


--------------------------------------------------------------------------------

والرجل بحكم تفوق بنيته على بنية المرأة، وبفضل قوة عضلاته ومقاومته للطبيعة و للأخطار سيد الأسرة و "رب العائلة" و "بعل المراة"، أي سيدها. منح نفسه حقوقا لم يعطها للنساء. وبنى مفاهيم العدل والحق على أساس إن العدل هو القوة، فاغتصب حق المرأة و البنت والولد والرجل العاجز لقوته ولأنه مقاتل، أما غيره من المذكورين فعاجز عن القتال، فحرمهم من الحقوق. ومنها حقوق الإرث، وأباح لنفسه حق الاستمتاع بملاذ الحياة، وفي جملتها الاستمتاع بالنساء وبالخمور وببقية الأطايب. فله إن يتزوج ما يتمكن من النساء، وجعل بيده حق الطلاق، وجوز لنفسه الاتصال بأية امرأة شاء وان كان متزوجا، وله إن يتسرى ما يشاء، وله غير ذلك من امتيازات وحقوق، بسبب قوته وتفوقه على الجنس الآخر وعلى المستضعفين من المخلوقات، لأن الحق للمخلوق القوي، ولا حق عند القوي لإنسان ضعيف.
اللحية

(1/2430)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن الرجولة الشجاعة والأقدام وعدم المبالاة والمحافظة على مقومات الرجل وما منحته الطبيعة إياه من ملامح ميزته عن المرأة، وأهمها: اللحى. فاللحية عند العرب رمز الرجولة وزينتها وسيماء تكريم الرجل وتقديره. وإهانة اللحية عند العرب وعند الساميين هي من اعظم الإهانات التي لا تغتفر، وتقبيلها عندهم من علامات التقدير والاحترام والاجلال. ويعد نتف اللحية أو جزها أو حلقها إهانة كبيرة تنزل بصاحبها. يفعلها من يريد الازدراء بشأن الملتحي، ويعد عدم الاكتراث بتسوية اللحية من سيماء الحزن أو الغيظ أو المرض أو الارتباك وتضعضع الحال. وفي في التوراة إن في جملة الإهانات التي تلحق بالناس حلق أنصاف لحاهم. ويقسم باللحية، ويعد القسم بها من الإيمان المغلظة. يمسك بها الحالف بيده اليمنى فيحلف في انه لا يكذب أو انه سيفعل، أو-ما شابه ذلك. ولكن العادة إن الحلف بها يكون بإمساكها باليد، وإذا مد غريب يده على لحية رجل اكبر منه في المنزلة وللدرجة وأقسم بها أو استجار بها، وجب على صاحبها الأخذ بقسمه والاهتمام بأمره ومساعدته. وقد يمسك غريب محتاج أو مطارد بلحية سيد قبيلة أو شريف قوم، ويبين له انه في حماه ومنعته، وعلى الرجل بذل الحماية والمنعة له.
والعربي يكرم لحيته، ولا يحلقها، وتكون لحيته مدببة في الغالب على نمط اللحى الفرنسية. ويصرف بعض الوقت لإصلاحها حتى لا تكون متناثرة بشعة، وقد يعير الإنسان بلحيته، فيقال: له لحية تيس. وتنسب عادة إكرام اللحى إلى سنن إبراهيم. وقد تكون اللحية كثة كبيرة منتظمة. ويقال للرجل ذي اللحية الطويلة: "اللحياني" و "رجل لحيان".

(1/2431)


--------------------------------------------------------------------------------

ويحلف العربي بشاربه، فإذا أراد إعطاء عهد أو جوار أو أي عهد آخر واقسم بشاربه، وجب عليه الوفاء بعهده. ومن عادة العرب تخيف الشارب، وقد تحف وتنسب هذه العادة إلى سنن إبراهيم، ومن السنن الأخرى تقليم الأظافر وحلق العانة. وذكر إن الرسول كان يقصى شاربه وأنه قال: قصوا الشوارب وأرخوا اللحى وخالفوا المجوس. وورد انه قال: "خالفوا المشركين ووفرو اللحى وأحفوا الشوارب".
ويعد قص الشارب من "الفطرة". وهي عشرة أو خمسة أمور. يذكرون إنها من سنن "إبراهيم ومن "تبعه من العرب. وفي جملتها الختان.
ويذكر العلماء إن الله ابتلى "إبراهيم" بسنن الفطرة، وهي التي ذكرت في للقرآن في قوله تعالى: )وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن"، وهي الكلمات العشر: خمس في الرأس، وخمس في الجسد. فأما التي في الرأس فالمضمضة والاستنشاق وقص الشارب والفرق والسواك. وأما التي في الجسد فالاستنجاء وتقليم الأظافر ونتف الإبظ وحلق العانة والختان. فلما جاء. الإسلام، قررها سنة من السنن.

(1/2432)


--------------------------------------------------------------------------------

والعرب من أصحاب الشعور السوداء. وهم مثل غيرهم يفاخرون بشعر رئسهم، ويتركونه ينمو ولا يحلقونه على نهو ما كان يفعل اليهود والمصريون. وكانوا يدهنونه؛ ويمشطونه بالمشط، ويتركونه يتدلى على المنكبين. وقد يضفرونه ضفائر. ومنهم من يضفره ضفيرتين يجعلهما تتدليان على جانبي الوجه. وذكر إن العرب تسمي الخصلة من الشعر أو الضفيرة قرنا. ولهذا عرف "المنذر ابن ماء السماء" جد "النعمان بق المنذر" ب "ذي القرنين" لضفيرتين كانتا في قرني رأسه. والعرب تكني عن العربي بالجعد وعن العجمي بالسبط. والجعد من الشعر خلاف السبط، أو هو القصير منه. وهم يعن بذلك إن سبوطه الشعر هي الغالبة على شعور العجم من الروم والفرس، وجعودة الشعر هي الغالبة. علي شعور العرب. وكانوا إذا. قالوا رجلا جدا عنوا رجلا كريما، كناية عن كونه عربيا سخيا، لأن العرب موصوفون بالجعودة. وقد يقصدون بذلك رجلا بخيلا لئيما، فهو من الأضداد. وذكر إن العرب تقول: رجلا جعدا، إذا كان قصيرا متردد الخلق. وإذا قالت جعد السبوطة، فإنها تريد بذلك المدح، إلا لن يكون مفلفلا كشعر الزنج والنوبة، فهو حينئذ ذم
وكان الرسول يسدل شعره، ثم فرقه. والفرق إن بجعل شعره فرقتين كل فرقة ذؤابة. والسدل إن يسدله من ورائه ولا يجعله فرقتين. وذكر انه كان يضفره غدائر، والغدائر الضفائر،. وكان إذا طال شعره جعله غدائر أربعا. وكان يكثر دهن رأسه ولحيته ويكثر القناع كأن ثوبه ثوب زيات. وكان يحب لترجل، وكان يرجل نفسه تارة وترجله عائشة تارة. وترجيل الشعر تسريحه. وقد تقوم به المرأة. ويكون دلك بالمشط. قال امرىء القيس: كأن دماء الهاديات بنحره عصارة حناء بشيب مرجل

(1/2433)


--------------------------------------------------------------------------------

والعرب عادات بالنسبة إلى شعرهم. فهم إذا غضبوا وأرادوا الأخذ بالثأر، لم يغسلوا شعورهم وتركوا تدهينها حتى يأخذوا بثأرهم. كالذي رووه من قصة امرىء القيس، حينما جاءه خبر مقتل والده. وهم إذا أرادوا إذلال رجل وأهانته كإذلال سيد قبيلة أو شريف قوم سقط أسيرا، وأرادوا الإمعان في إذلاله جزوا ناصيته وتركوه يذهب فذلك عندهم شر إذلال. والناصية مقدم الرأس.
ويستوي الرجل والمرأة في دهن شعر الرأس. ولا زال الأعراب يدهنون شعورهم على الطريقة القديمة. ويستعمل أغنياؤهم الدهون الجيدة المستوردة من الخارج. مثل "الزيت" المطيب بالعطور وبأنواع الطيب، يدهنون به شعورهم ولحاهم في أيام الأفراح بصورة خاصة وفي الأعياد. وكان الرومان واليونان يدهنون الجسم كله بالزيت. ويعد دهن شعر الرأس من علامات الفرح والسرور، وتركه من علامات الغم والحزن. وقد كان الصحابة يطلون شعر رأسهم ولحيتهم بالدهن ليزيلوا شعث رؤوسهم ولحاهم به.
ويضفر شعر الأولاد والبنات ضفائر، تتدلى على جاني الوجه ومؤخرة الرأس. وأما الرجال، فكان منهم من يضفر شعر رأسه ضفيرتين يتركهما تتدليان على جاني وجهه، ومنهم من يضفره جملة ضفائر، قد تبلغ سبعا. وعادة ضفر شعر الرأس سبع ضفائر عابرة معروفة عند غير العرب أيضا. وكان شعر "شمشون" المشهور مضفورا في سبع خصل. ولا زال الأعراب يضفرون شعورهم. ويقال للضفيرة "الذؤابة". والذؤابتان اللتان تسقطان على الصدر. ويقال لهما "غديرتان". وكل عقيصة غديرة: قال امرؤ القيس: غدائره مستشزرات إلى العلى تضل العقاصي في مثنى ومرسل
ولما قدم "ضام بن ثعلبة" من "بني سعد" على الرسول، كان رجلا جلدا أشعر ذا غديرتين. فلما ولى قال رسول الله: إن صدق ذو العقيصتين. ويقال لهما "القرنين" كذلك. والعرب تسمي الخصلة من الشعر القرن. والقرن الذؤابة عامة. ومنه: الروم ذات القرون، لطول ذوائبهم.

(1/2434)


--------------------------------------------------------------------------------

وهم مثل غيرهم من الناس يعتبرون.الشعر الأشيب إكليل مجد الشيخ، والشعر الأبيض رمزا الحكمة والجلالة. وذلك بسبب إن تقدم العمر بالإنسان يكسبه خبرة وحكمة، لما يراه في حياته من تجارب وعظات. لذلك أقاموا للسن وزنا كبيرا في أخذ الرأي وفي التقدم في الدخول وفي الجلوس في المجالس.
ولم يكن شيوخ الجاهلية وشيبها أقل عناية بمظهرهم وبمرآهم من شيوخ هذا اليوم وشيبه، فحاولوا ما قدروا إخفاء شيبهم واطفاء لعب الزمان بشعرهم وبأوجههم بمختلف الوسائل والسبل، ومنها إخفاء الشيب بصبغه وباستعمال الخضاب، وبعضه أسود، كما خضبوا بالعظلم وبالحناء. وصبغوا لحاهم. ولم يهملوا العيون، فاكتحلوا لتظهر براقة مؤثرة. ولا تزال "الوسمة"، وهي خضاب أسود معروف، ويستعملها بعضن الناس اليوم.
وذكر بعض علماء اللغة إن الخضاب، اخفاء الشيب بالحناء.، وإذا كان بغير الحناء قيل: صبغ شعره، ولا يقال. خضبه. وذكر آخر إن أول من خضب بالسواد من العرب "عبد المطلب". وقد تعلمه من أهل اليمن. إذ كان قد زارهم فوجد شيبهم يخضبون شعورهم بالسواد، فأعطوه خضاب، فجاء إلى مكة، وعنه شاع الخضاب بين أهلها.
وقد استعملوا الزعفران في صبغ لحاهم وشعورهم. واستعملوا لون الزعفران في صبغ ثيابهم أيضا. وذلك لغلاء ثمن "الزعفران" الطبيعي. كما استعمل "العصفر" في الصبغ، وهو من نبات ينبت في جزيرة العرب، إذا صبغ الثوب به قيل: عصفر الثوب به. كما استعملوا "الكتم" في تخصيب الشعر. وهو نبت يخلط بالحناء ويخضب بالشعر فيبقى لونه. وقد أشار إليه "أمية بن أبي الصلت" بقوله: وسودت شمسهم إذا طلعت بالجلب هفا كأنه كتم
والمكتومة: دهن من أدهان العرب أحمر، يجعل فيه الزعفران أو الكتم. وطبخوا الكم بالماء واستخرجوا منه مدادا الكتابة.

(1/2435)


--------------------------------------------------------------------------------

ويكون الخضاب بالحناء، كما يكون بالحناء والكتم، كما ذكرت، وقد يكون بالحناء والوسمة. وتجعل الوسمة الشعر أسود فاحما. وكل هذه من النباتات التي تنبت في الحجاز وفي اليمن وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب. وقد استعملوا "السواد" ويكون بالوسمة في الغالب لتسويد شعر الجارية والمرأة الكبيرة والشيخ للغش والتدليس، حتى إذا جاء سيد لشراء جارية ظن أن شعرها على هذه الصورة من السواد، أو جاء رجل يطلب المرأة الكبيرة ظن أنها أصغر من عمرها، أو عرض الرجل الشيخ نفسه الزواج، ظهر أصغر من عمره. ونظرا إلى ما في هذا العمل من غش نهي عنه في الإسلام.
وخوفا من أن يقملوا لبدوا شعر رؤوسهم بالخطمي والصبغ. وقد عرف من يفعل ذلك ب "الملبد". وقيل: إن "الملبد " المحرم، الذي لبد شعره حتى لا يقمل، إذا دخله الغبار بعد العرق. وقد كان القمل قد عشش في آباط كثير من الناس، لا سيما الفقراء والأعراب منهم. وفي شعر رؤوسهم وفي المواضع المشعرة من أجسامهم، نظرا لسوء وضعهم من الناحية الاقتصادية وفقرهم: وعدم تمكنهم من غسل أجسامهم. وقد أشير إلى القمل والتلبيد في الشعر. ذكر أن القمل كان يتهافت من رأس "كعب بن عجوة بن عدي" على وجهه، وكان محرما، فرآه الرسول، فأمره أن يحلق رأسه وأن يطعم فرقا بين ستة مساكين.
وذكر أن التلبيد، أن يأخذ شيئا من خطمى وآس وسدر، وشيئا من صمغ، فيجعله في أصول شعره وعلى رأسه، كي يتلبد شعره ولا يعرق ويدخله الغبار، فيخم ويقمل.
وتطيب الرجال بالطيب، ودهنوا شعورهم بالدهن المطيب. وكانوا يتطيبون إذا ذهبوا إلى زيارة بيت، وفي المجتمعات العامة كالمواسم والأفراح. وللرجال طيب يختلف عن طيب النساء.
وقد يرقن الرجل كما ترقن المرأة بالحناء وبالزعفران. يقال: أرقن الرجل لحيته ورقنها، أي خضبها بالحناء وبالزعفران. قال الشاعر: ومسمعة إذا ما شئت غنت مضمخة الترائب بالرقان
والرقان والرقون الحناء والزعفران.

(1/2436)


--------------------------------------------------------------------------------

ويكثر العرب من حمل "العصا" معهم. إذ هي ضرورة بالنسبة لحياتهم. يستعينون بها في طرد الكلاب عنهم، ورد الحيوانات المتوحشة التي قد تصادفهم، كما يستعملونها في ضرب إبلهم حتى تطيع أوامرهم. حتى أنهم جعلوا العصا رمزا لأمور عديدة. منها الطاعة والجماعة. ومنها "شق العصا" بمعنى مخالفة الجماعة. والعصا الجماعة. ومنها "القى المسافر عصاه"، أي بلغ موضعه وأقام. وضرب مثلا لكل من وافقه شيء فأقام عليه. ومنها "هو لين العصا"، أي رقيق لين حسن السياسة، و "هو ضعيف العصا"، أي قليل ضرب الإبل. و "إن العصا من العصية"، يقال ذلك إذا شبه بأبيه، أي: إن بعض الأمر من بعض.
كما حملوا القضب، وهي من علائم السلطة والقوة والحكم والنفوذ عندهم. وقد ورد في خبر أرسال رسول الله "عباس بن أبي ربيعة المخزومي" إلى "الحارث" و "مسروح" و "نعيم" بني عبد كلال من حمير، انهم كانوا يحملون قضبا معهم. وهي من الأثل:. قضيب ملمع ببياض وصفرة وقضيب ذو غجر وكأنه خيزران، وقضيب أسود بهم كأنه من ساسم. وكان أحدهم إذا جلس وفكر في أمره، أو أراد الإجابة على سؤال يحتاج إلى عمل روية نكسث الأرض بالقضيب الذي يحمله بيده.
المرأة
والمرأة في المحيط البدوي أنشط وأكثر عملا من الرجل؛ فعليها تهيأة الطعام وحلب النياق وغسل الملابس وغزال الصوف والوبر، والعناية بالأطفال وتحضر مادة الوقود، إلى غير ذلك من أعمال لا يقوم بها الرجل، لأنها من عمل المرأة، ولا يليق بالرجل القيام بها.

(1/2437)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم نقرأ في كتب أهل الأخبار ما يفيد سيادة النساء على القبائل، في الجاهلية القريبة من الإسلام. ولم نقرأ في المسند ما يفيد بوجود ملكات حكمن اليمن. بينما قرأنا في الكتابات الآشورية وجود ملكات عربيات حكمن قبائل. عربية، كانت تنزل البوادي من بادية الشام. ووقفنا أيضا على حكم الملكة "الزباء". لتدمر وذلك بعد الميلاد. ولكننا نقرأ في أخبار أهل الأخبار أخبار كاهنات، كانت لهن مراكز خطيرة عند القبائل. وكذلك أخبار حاكمات. حكمن فيما بين الناس في الخصومات. وقد كان منهن من يقرأ ويكتب كما سترى فيما بعد.
وللمرأة الشريفة ذات السؤدد حط في المجتمع لا يدانيه حظ المرأة الحرة الفقيرة. فسؤددها حماية لها ودرع يصونها من الغض من منزلتها ومكانتها. وأسرتها قوة لها، تمنع زوجها من إذلالها أو إلحاق أي أذى بها، وهي نفسها فخورة على غيرها لأنها من الأسر الكريمة. والعادة بالطبع أن الأسر الكريمة لا تزوج بناتها الا من أسر كريمة موازية لها في المنزلة والشرف. من ذلك قولهم: "استنكح العقائل، إذا نكح النجيبات".
حال المرأة في الجاهلية
وقد اختلف حال المرأة في الجاهلية عن حالها في الإسلام، بسبب تغير الأحوال وتبدل الظروف. "فلم يكن بين رجال العرب ونسائها حجاب، ولا كانوا يرضون مع سقوط الحجاب بنظرة الفلتة ولا لحظة الخلسة، دون أن يجتمعوا على الحديث والمسامرة، ويزدوجوا في المناسمة والمثافنة، ويسمى المولع بذلك من الرجال الزير، المشتق من الزيارة. وكل ذلك، بأعين الأولياء وحضور الأزواج، لا ينكرون ما ليس بمنكر إذا أمنوا المكر". "فلم يزل الرجال يتحدثون مع النساء، في الجاهلية والإسلام، حتى ضرب الحجاب على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة". "ثم كانت الشرائف من النساء يقعدن الرجال للحديث، ولم يكن النظر من بعضهم إلى بعض عارا في الجاهلية، ولا حراما في الإسلام".

(1/2438)


--------------------------------------------------------------------------------

وما نراه اليوم من، اعتكاف النساء في بيوتهن ومن عدم اختلاطهن بالرجال ومن التشدد في الحجاب وأمثال ذلك، هو بين أهل الحضر خاصة. وقد كان هذا التحفظ معروفا نوعا ما عند أهل الحواضر والقرى في الجاهلية، إلا أن التزمت والنشدد في وجوب ابتعاد الرجل عن المرأة وانفصالهما بعضهما عن بعض إنما نشأ في الإسلام، بسبب تغير الظروف واختلاط العرب بالأعاجم، وظهور حالات جعلت العوائل الكبيرة تحرص على حصر المرأة في بيتها. أما في البادية فإن المرأة لا تزال تشارك الرجل في أعماله وتجالسه وتكلمه ولو كان غريبا عنا، لأن محيط البادية محيط بعيد عن مواطن الريبة والشبهات، وينشأ البنات والأولاد فيه سوية، ويلعبون سوية ويشبون سوية، ولذلك لم تنشأ عندهم القيود والحدود التي تفصل بين المرأة والرجل. وقد كان حال المرأة الأعرابية على هذه. الحال في الجاهلية.
وقد عرفت المرأة بالكيد بين الجاهليين. ونظروا إليها نظرتهم إلى للشيطان، وليست هذه النظرة العربية إلى المرأة هي نظرة خاصة بالجاهلين، بل هي نظرة عامة نجدها عند غيرهم أيضا. بل هي وجهة نظر الرجل بالنسبة للمرأة في كل العالم في ذلك الوقت. وهي نظرة نجدها عند الحضر بدرجة خاصة، لما لمحيط الحضر من خصائص التجمع والتكتل، والتصاق البيوت بعضها ببعض، ولما لهم من حياة اجتماعية واقتصادية وسياسية، وقد تجر المرأة على دس انقها، والاتصال بالغرباء، فنشأ من ثم هذا الرأي بين أهل الحضر أكثر من الأعراب.
وعرفت المرأة عندهم بالمكر والخديعة. إذ كان في وسعها استدراج الرجل والمكر به. وهم يتمثلون بمكر "الزباء".. واستدراجها "جذيمة الأبرش" إليها، ثم فتكها به. على نحو ما ورد من قصص عنها في كتب أهل الأخبار. غير انهم يروون في الوقت نفسه قصة "قصير" معها، وكيف تمكن من الأخذ بثأره منها، في حيلة ومكر ومكيدة، حتى فتك بها في قصة من قصص المكر والخديعة، ضرب بها المثل. و عدت المرأة كالحية في المكر.

(1/2439)

admin
12-31-2010, 07:59 PM
ونظر الرجل إلى رأي المرأة على إن فيه وهنا وضعفا وانه دون رأيه بكثير، وتصور إن مقاييس الحكم عندها، دون مقاييسه في الدقة والضبط، وهذا رأى العرب إن من الحمق الأخذ. برأي المرأة. فكانوا إذا أرادوا ضرب المثل بضعف رأي وخطله قالوا عنه: "رأي النساء" و "رأي نساء" وقالوا: شاوروهن وخالفوهن، لما عرف عن المرأة من تأثر بأحكام العاطفة عندها. حتى ذهب البعض إلى عدم وجود رأي للمرأة، وهذا قالوا: يقال الرجل "الفند" إذا خرف وخف عقله لهرم أو مرض، وقد يستعمل في غير الكبر وأصله في الكبر. ولا يقال "عجوز مفندة، لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأي أبدا فتفند في كبرها. وفي الكشاف: ولذا لم يقل للمرأة مفندة لأنها لا رأي لها حتى يضعف قال شيخنا: ولا وجه لقول السمن انه غريب، فإنه منقول عن أهل اللغة. ثم قال: ولعل وجهه إن لها عقلا وإن كان ناقصا يشتد نقصه بكبر السن".
ويكني العرب عن المرأة ه ب "الدمية". والدمية الصنم. وقيل: الصورة المنقشة: العاج ونحوه وقيل هي الصورة. وقول الشاعر: والبيض يرفلن في الدمى والريط والمذهب المصون
يعني ثيابا فيها تصاوير.
ويقال المرأة البذيئة القليلة الحياء "العنفص". وقال بعض علماء اللغة إنها المرأة القليلة الجسم الكثيرة الحركة. أو، الداعرة الخبيثة. وقبل هي القصيرة المختالة المعجبة. أو المرأة الكثيرة الكلام، وهي المنتنة الريح. وقد ذمت المرأة "النمامة"، والبذيئة التي تشتم الناس وتنطق بالبذاء. والسليطة اللسان التي تتطاول على الناس، ولا تبالي أحدا. وقد كان بعض الناس محرضون أمثال هؤلاء النسوة لإهانة كرام الناس والتحرش بهم، لما يعرفونه من إن في طبع الرجل الكريم عدم الرد على المرأة ردا قبيحا والتعرض لها بسوء.

(1/2440)


--------------------------------------------------------------------------------

وتشائموا من بعض النسوة. وقالوا: "مرأة مشؤومة"، و "عقرى حلقى"، أي عقرها الله وحلقها، بمعنى حلق شعرها أو أصابها بوجع في حلقها، أو أنها تعقر قومها وتحلقهم بشؤمها وتستأصلهم. وقد كانوا يطلقونها إذا تشاءم الزوج أو أهله منها، لاعتقادهم الشديد بالشؤم. وتشاءموا من الفرس الأشقر ومن عتبة الباب، ومن أشياء أخرى سأتحدث عنا في موضوع التفاؤل والتشاؤم عند العرب.
وجمال المرأة في حلاوة العينين، وفي جمال الأنف، والملاحة في الفم. قال الشاعر: خزاعية الأطراف مرية الحشا فزارية العينين طائية الفم
المرأة القبيحة
وذكر بعض علماء اللغة إن العرب تصف ب "السعلاة" العجائز والخيل. وقبل السعالى: النساء الصخابات البذيئات، والمرأة القبيحة الوجه السيئة الخلق. ومن ذلك قول الأعشى: ونساء كأنهن السعالى.
والعرب تكني عن المرأة بالعتبة والنعل والقارورة والبيت والدمية والغل والقيد والريحانة والقوصرة والشاة والنعجة.
وما قلته يمثل الفكرة العامة عن المرأة بين سواد الناس. غير إن هناك نسوة اشتهرن بالعقل والحكمة عند الجاهليين. وكن مرجعا الرجال في أخذ الرأي. حتى إن منهن من تولين أمر الحكومات، وقد سبق إن ذكرت فيما مضى إن قبائل بادية الشام كانت تحت حكم ملكات في أيام الآشوريين. ومنهن الملكات "شمس" و "زبيبة". كما أشرت إلى الملكة "الزباء". ولم يجد العرب قبل الميلاد ولا بعده غضاضة من تعين النساء ملكات عليهم. وقد كن يصاحبن الرجال إلى القتال لإثارة هممهم عند اشتداد المعارك ولمداواة الجرحى، وحمل الماء إلى العطشى من المقاتلين. وقد كانت "رفيدة" تداوي جرحى المسلمين في مسجد الرسول بيثرب. وكانت "زينب" طبيبة "بني أود" تعالج المرضى وحازت على شهرة بين العرب.

(1/2441)


--------------------------------------------------------------------------------

حتى الشعر، برزت به شاعرات. مثل الخنساء، وخرنق، وجليلة، وكبشة أخت عمرو بن معد يكرب، وغيرهن. ومنهن من حكمن بين الشعراء المتنافسين في تفضيل شعر شاعر على شعر شاعر آخر. وكان من بينهن كاتبات ومتاجرات إلى غير ذلك من حقول الأعمال التي تحتاج إلى عقل وذكاء.
زينة المرأة
والمرأة الحضرية أكثر تفننا واعتناء بنفسها من الأعرابية، بسبب اختلاف المحيط والوضع الاقتصادي. ولها من أمور الزينة ما لا تعرفه الأعرابيات، من وسائل تجميل وتحلية جسم وملبس. ولا سيما النساء الغنيات القريبات من مواطن الأعاجم. فقد تأثرن بالأعجميات وأخذن منهن ما راق لهن من ملبس وزينة وطيب وحلية.
والعادة إن المرأة تضفر شعر رأسها ضفائر وغدائر، أما الرجال فيتخذون لهم ضفيرتين، تتدليان على طرفي الوجه إلى المنكبين. ويقال الضفيرة: العقيصة. وذكر ن "العقيصة" الدؤابة. وذكر بعض علماء اللغة إن كل عقيصة غديرة. والغديرتان الذؤابتان تسقطان على الصدر. وقيل الغدائر النساء،وهي المضفورة. والضفائر الرجال. وقبل العقص الفتل، أي فتل الشعر، وهو إن يلوى الشعر حتى يبقى ليه، ثم يرسل. وذكر بعض علماء اللغة إن العقص إن تأخذ المرأة كل خصلة من شعر فتلويها ثم تعقدها حتى يبقى فيها التواء ثم ترسلها، فكل خصله عقيصة. وقد عرف "ضمام بن ثعلبة" أحد بني سعد بن بكر ب "ذي العقيصتين"، وكان أشعر ذا غديرتين. وكان خصل شعره عقيصتين وارخاهما من جانبيه. وهو من الصحابة.

(1/2442)


--------------------------------------------------------------------------------

ويعد شعر المرأة من أثمن الأشياء عندها لذلك تستعز به وتحافظ عليه، وتسعى لإثارته وتنشيطه، وهي لا تحلقه إلا إذا نزلت بها نازلة، مثل موت زوجها أو عزيز آخر عليها، ويعد ذلك غاية في التضحية وفي إظهار حزنها على رجلها الراحل العزيز. فإذا مات عزيز حلقت المرأة شعرها وذرت التراب أو الرماد على رأسها، إظهارا لشدة ألمها وحزنها على ميتها. ويقال لها "الحالقة". وقد لعن الرسول من النساء الحالقة والصالقة والخارقة. والحالقة التي تحلق شعرها في المصيبة. وقد ضرب بها المثل في الشؤم. لأن من عادة الناس في الجاهلية انهم إذا أصيبوا بمصيبة حلقت النساء شعورهن. والى ذاك أشير في شعر الخنساء: ولكني رأيت الصبر مخيرا من النعلين والرأس الحليق
وأصل ذلك إن المرأة كانت إذا أصيب لها كريم حلقت رأسها وأخذت نعلين تضرب بهما رأسها وتعفره. وفي هذا المعنى جاء في الشعر: ألا قومي أولو عقرى وحلقى لما لاقت سلامان بن غنم
ولهذا السبب اعتبرت الحالقة علامة من علامات الشؤم ونذيرا من نذر الفرقة يضرب بها المثل. وفي الحديث: "دب الكم داء الأمم: البغضاء والحالمة". "هي قطيعة الرحم والتظالم والقول السيء".
ويسرح الشعر ب "المشط". وقد عرفه الجاهليون، وهو من آلات التجميل القديمة.. وقد أشير إليه في الحديث. كما أشير إليه في الشعر. ورد قول عبد الرحمن بن حسان: قد كنت أغنى ذي غنى عنكم كما أغنى الرجال عن المشاط الأقرع
وتمشط شعر العرائس "الماشطه"، فتقوم بترجيله وتجميله لخبرتها فيه. ويكون المشط من خشب في الغالب، وقد يعمل من ذهب أو فضة أو من معدن آخر، وقد يتخذ من "العاج".

(1/2443)


--------------------------------------------------------------------------------

وتغسل المرأة رأسها بطين وأشنان وخطمى وتحوه لتنظيفه. وقد تغتسل بالطيب، وذلك بالنسبة للغنيات. وإذا انتهت من غسله استعملت "الغسلة"، وهو ما تجله المرأة في شعرها عند الامتشاط من طيب وورق الآس يطرى بأفاويه من الطيب ويمتشط به. والطين أنواع، يختلف باختلاف طبقات الأرض. واجوده الحر النقي الخالص بعد رسوب الماء، ويستعمل في تنظيف الشعر.
وقد كانت القبائل إذا أرادت الصبر في القتال، والوقوف في الحرب إلى النهابة وحتى النصر، حلقت نساؤها شعورهن، لبث الشجاعة في نفوس المقاتلين وإذكاء نار الشجاعة فيهم. وذكر إن "يوم تحلاق اللمم"، إثما سمي بذلك، لأن شعارهم كان الحلق. وكان لتغلب على بكر بن وائل.
وتجملت المرأة الجاهلية وتزينت على قدر حالا وإمكانها، لتظهر بذلك جمالها وأنوثتها على سنة الطبيعة، وعلى عادة المرأة بل والإنسان: رجلا كان أو امرأة في كل وقت وزمان، من حبه في إظهار الزينة وحسن المظهر. جملت نفسها بالاعتناء بالنظافة وبالثياب وبالحلية، كالخلخال والسوارين والخاتم والقلبين والقلب والفتخة والمسكة والقرطين والقلائد الأخرى، وبالتجميل بالكحل وبالمساحيق التي توضع على الوجه والسمن الذي يدهن به الشعر وخضاب الكف والقدم، وبالوشم وما شاكل ذلك من أمور تجميل وتحلية كانت معروفة في ذلك العهد.
ومن وسائل الزينة: الوشم غرز إبرة ونحوها في عضو حتى يسيل الدم ثم يحشى بنؤور أو بالكحل أو بالنيلج أو نهوها فيزرق أثره أو يخضر. وكانوا يقصدون بذلك التزين فينقشون به غالب أبدانهم، أنواعا من النقوش من صور حيوانات أو نبات أو صور إنسان وكذلك الشفاه، فترى غالب شفاه نسائهم زرقا. والأطفال منهم يوشمون في بعض المحال من وجوههم لقصد الزينة. وكذلك الرجال. وذكر إن الرسول قد نهى عن ذلك في حديث: لعن الله الواشمة. أو لعن الله الواشمة والمستوشمة.

(1/2444)


--------------------------------------------------------------------------------

وكانوا يعتنون بتجميل حواجبهم وإزالة الشعر من وجوههم ب "النماص" وهو "المنقاش". وعرفت مزينة النساء ب "النامصة". وهي مزينة بالنمص. وذكر إن النمص نتف الشعر. وان المشط ينمص الشعر وكذلك المحسة لأن لها أسنانا كأسنان المشط. ويقال إن النماص مختص بإزالة الشعر من الحاجبين ليرققهما أو ليسويهما. وفي الحديث: لعنت النامضة والمتنمصة.
وعنوا بالأسنان فاستعملوا المبرد لبرد ما بين الثنايا والرباعيات، لتجميلها. وقد لعنت المتفلجات في الحديث. والمتفلجات جمع متفلجة التي تفلج ببن الأسنان. وعنوا بتبيض الأسنان باستخدام "المسواك"، وهو ما يدلك الفم. ويكون من عيدان بعض الأشجار ذات الرائحة الطيبة. وقد أشير إليه في الحديث.
ويقص الشعر والظفر بالمقص، أي المقراض وهما مقصان. يقص به الرجل شعره، كما تقص به المرأة. وتتخذ المرأة "القصة" في مقدم رأسها تقص ناصيتها ما عدا جبينها.
وذكر إن من نساء الجاهلية من كن يقمحن لثتهن ب "النوور"، حصاة كإثمد تدق فتسفها اللثة. وكن يتسمن ب "النؤر". وهو دخان الشحم أو دخان الفتيلة، يتخذ كحلا أو وشما، وخصصه بعضهم بالوشم.
ولم تنس المرأة الجاهلية زينتها، فزينت نفسها ب "الحلي" من ذهب وفضة ومعادن أخرى ومن أحجار كريمة وأحجار تلفت النظر وبالعظام أيضا وبالخرز. ومن الحلي "الأساور" المصنوعة من الذهب، بالنسبة إلى المرأة الموسرة، والحلي المطعمة باللؤلؤ. ومن الحلي؛ ما يزين به الرأس والعنق، ومنه ما يزين به الأيدي أو الأرجل. وسأتحدث عنها في القسم الخاص بالحرف، بشيء من التفصيل.
و "الكرم": القلادة. وقيل هي القلادة من الذهب والفضة، وقيل تكون من لؤلؤ أيضا.

(1/2445)


--------------------------------------------------------------------------------

ويضفر شعر رأس الأطفال ذوائب، أي ضفائر تتدلى على رأسه وعلى ناصيته. ومنى كبر الطفل وبلغ سن الرشد، أو شعر برجولته، ضفرت له ذؤابتان، وهي علامة الشباب والرجولة عندهم. وقد كان الساميون يحتفلون بحلق الذوإئب، لأن هذا الحلق معناه إنتهاء مرحلة من الحياة ودخول الطفل مرحلة الرجولة، وهي مرحلة الحياة الصحيحة. وكانوا يرمون الذوائب أمام الأصنام. والعادة انهم يضفرون الأطفال سبع ضفائر. وهي عادة معروفة عند الجاهليين أيضا،، ولا تزال متبعة عند الأعراب وأشباه الحضر. وقد يعلقون حليا على كل ضفيرة، وذلك إمعانا منهم في تدليل الطفل وفي إراءة جماله. فالزينة وتعليق الحلي من مظاهر التدليل والتجميل.
نساء شهيرات
وقد ذكر أهل الأخبار أسماء نساء ذكروا أنهن عشن في الجاهلية. منهن: صحر بنت لقمان بن عاد. وكان أبوها لقمان وأخوها لقيم خرجا مغرين، فأصابا إبلا كثيرة فسبق لقم إلى منزله، وعمدت صحر إلى بعض ما جاء به لقيم، فصنعت منه طعاما يكون معدا لأبيها لقمان إذا قدم، وقد كان لقمان حسد لقيما في تبريزه عليه، فما قسمت صحر إليه الطعام وعلم انه من غنيمة لقيم، لطمها لطمة قضت عليها، فصارت عقوبتها مثلا لكل من لا ذنب له ويعاقب "فقيل: مالي ذنب إلا ذنب صحر"، ولم يكن لي ذنب.

وقد حصلت "الزباء" على شهرة بين العرب، ووضعوا حولها القصص. ذكروا إنها امرأة من العماليق، وأمها من الروم. وكانت تغزو بالجيوش، وهي التي غزت ماردا والأبلق فاستعصيا عليها، فقالت: تمرد مارد وعز الأبلق، فذهبت مثلا. ويروي أهل الأخبار لها أمثلة أخرى. ورموها بالغدر، فقالوا: "قال عدي بن زيد يذكر قصة جذيمة الأبرش لخطبة الزباء: لخطيبي التي غدرت وخانت وهن ذوات غائلة لحينا
أي لخطبة زباء. وهي امرأة غدرت بجذيمة الأبرش حين خطبها فأجابته وخاست بالعهد فقتلته.

(1/2446)


--------------------------------------------------------------------------------

واشتهرت "البسوس" بالبؤس والشؤم حتى قالوا "شؤم البسوس". وهي بنت منقذ التميمية، زارت أختها أم جساس بن مرة ومع البسوس جار لها من جرم، يقال له سعد بن شمس، ومعه ناقة له، فرماها كليب وائل لما رآها في مرعى قد حماه، فأقبلت الناقة إلى صاحبها وهي ترعو وضرعها يشخب لبنا ودما، فلما رأى ما بها انطلق إلى البسوس فأخبرها بالقصة، فقالت: وأذلاه! واغربتاه! وأنشأت تقول أبياتا تسميها العرب أبيات الفناء. فسمعها ابن أختها جساس فثار الدم في رأسه، وخرج معقبا كليبا حتى وجده فطعنه طعنة قضت عليه. ووقعت الحرب بين. بكر وتغلب ودامت أربعون سنة. وسار شؤم البسوس مثلا، ونسبت الحرب إليها لكونها سببها، فقيل: حرب البسوس. وهكذا فسر أهل الأخبار سبب وقوع حرب البسوس.
وقص أهل الأخبار قصة امرأة أخرى، قالوا إن. رغيف خبز لها صار سببا في وقوع شر بين حيين، وأدى إلى وقوع قتلى. حتى قيل: أشأم من رغيف الخولاء. والخولاء خبازة في "بي سعد بن زيد مناة"، فمرت وعلى رأسها كارة خبز، فتناول رجل عن رأسها رغيفا، فاشتكت إلى رجل كان جارا لها، فثار وثار معه قومه إلى الرجل الذي أخذ الرغيف وقومه فقتل بينهم ألف نفس، وسار رغيف الخولاء مثلا في الشيء اليسير يجلب الخطب الكبير.
وذكر أهل الأخبار اسم امرأة أخرى اشتهرت بعطرها، حتى ضرب به المثل، فقيل: "عطر منشم". ولهم أقوال في سبب ضرب هذا المثل. وخلاصتها إن "منشم" امرأة عطارة تبيع الطيب، فكانوا إذا قصدوا حربا غمدوا أيديهم في طيبها، وتحالفوا عليه بأن يستميتوا في الحرب ولا يولوا أو يقتلوا، فكانوا إذا دخلوا الحرب بطيب تلك المرأة يقول الناس: قد دقوا بينهم عطر منشم، فلما كثر هذا القول صار مثلا. فممن تمثل به زهير حيث قال: تداركما عبسا وذبيان بعدما تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم

(1/2447)


--------------------------------------------------------------------------------

واختار أهل الأخبار من بين النساء امرأة جعلوها مثالا للحمق، حتى قالوا: "حمق دغه". وهي دغة بنت منعج. روي لها حماقات كثيرة. وجعلوها مثلا سائرا بين الناس في الحمق.
وضرب المثل ب "أم خارجة" في السرعة، فقال أسرع من نكاح أم خارجة. وهي "عمرة بنت سعد بن عبد الله بن بجيلة". كان يأتيها الخاطب فيقول: خطب، فتقول: نكح. ولدت أم خارجة في نيف وعشرين حيا من آباء. متفرقين، وكانت إذا تزوج منها الرجل فأصبحت عنده كان أمرها إليها، إن شاهت أقامت، وإن شاءت ذهبت، كانت علامة ارتضائها الزوج إن تصنع له طعاما كلما تصبح.
وضربوا المثل ب "عز أم قرفة"، فمن أمثالهم إذا أرادوا العز والمنعة قالوا: انه لأمنع من أم قرفة. وهي بنت "مالك بن حذيفة بن بدر": وكان يحرس بيتها خمسون سيفا بخمسين فارسا، كلهم لها محرم.
كما ضربوا المثل ب "برد العجوز". ولهم قصص في سبب ضربه. وهم متفقون على أن المثل جاهلي، وليس بإسلامي. ذكر بعضهم إن عجوزا دهرية كاهنة من العرب كانت تخبر قومها ببرد يقع في أواخر الشتاء وأوائل الربيع، فيسوء أثره على المواشي، فقالوا: هذا برد العجوز، يعني العجوز الذي أنذرت به. وذكر بعض آخر؛ أن عجوزا كانت بالجاهلية ولها ثمانية بنين فسألتهم إن يزوجوها، وألحت عليهم، فتآمروا بينهم، وقالوا لها: إن كنت تزعمين أنك شابة فابرزي للهواء ثمان ليال، فإننا نزوجك بعدها، فوعدت بذلك، وتعرضت تلك الليلة والزمان شتاء كلب، وبرزت الهواء، وبقيت تفعل ذلك سبع ليال، ثم ماتت في الليلة السابعة. فضرب بها المثل: وقيل برد العجوز.
أهل الحضر

(1/2448)


--------------------------------------------------------------------------------

وما ذكرته يتناول حياة الأعراب، وحياتهم الاجتماعية هي حياة أخرى تختلف عن حياة أهل الحاضرة. ففي حياة الحضر تجمع وتكتل. وإذا تجمع الإنسان وتكتل في موضع وكون جماعة، ظهرت عنده خلال، لا يمكن ظهورها عند الأعراب. تتسع وتكبر كلما بعدت الشقة بين البداوة والحضارة. لذا فان بين حياة أهل الحيرة أو يثرب أو مكة أو المستوطنات الحضرية الأخرى المنتشرة في جزيرة العرب وبين حياة أهل البادية فروقا كبيرة، تختلف في الدرجة والشدة، بدرجة تكاثف السكان في المستوطنة الحضرية، وبدرجة قربها أو بعدها من الاعاجم، وبدرجة. اتصالها بالعالم الخارجي. فالمستوطنات التي تقع على سواحل البحر يكون لها اتصال خاص بالعالم الخارجي، لا يمكن أن يتوفر لأهل البواطن، ويؤدي هذا الاتصال إلى الملاحم في الأفكار والى الاختلاط والامتزاج والى توسع أفق أهل الساحل بالنسبة إلى من وراءهم في الباطن، بسبب هذا الاختلاط في الموقع.
لقد تأثر أهل الحواضر من عرب العراق بأخلاق أهل النبط وغيرهم من أهل العراق، حتى بان ذلك على لسانهم وعلى طراز معاشهم كما بان ذلك على عرب بلاد الشام لاختلاطهم بالروم وبأهل بلاد الشام. فعرفوا عنهم أكل الأعاجم واحبوا غناء الفرس وغناء الروم. ودخل من دخل منهم في النصرانية. وقلد ملوك الحيرة ملوك الفرس في بعض شؤون حياتهم، وتشبه ملوك عرب الشام بملوك الروم، حتى في أمور دينهم حيث اعتنقوا. النصرانية، وجاؤوا إلى قصورهم بقيان يغنين بغناء الروم وبقيان يغنين بغناء الفرس. وزار سادات عرب العراق "المدائن"، ووقفوا على حياتها؛ وعاش سادات عرب الشام بدمشق وبمدن بلاد الشام الأخرى، وجليوا إلى قصورهم وبيوتهم شيئا مما أعجبهم ونال حبهم. فصارت حياتهم من ثم حياة تختلف عن حياة الأعراب من هذه النواحي.

(1/2449)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان لأهل قرى العربية الشرقية اتصال دائم بالعراق وبسواحل الهند الغربية، وبإيران وبالتجار الروم، فأخذوا منهم وتأثروا بهم، كالذي يني من الآثار التي عثر عليها ويعثر عليها المنقبون في مواضع العاديات. وتأثر أهل العربية الغربية بأهل بلاد الشام والعراق لما كان لهم من اتصال تجاري دائم بهم. ولما كانوا يجلبونه من هذه البلاد من رقيق. كما كان لهم ولأهل العربية. الجنوبية اتصال بأهل إفريقية، سكان السواحل المقابلة لبلاد العرب، فأثروا فيهم وتأثروا بهم. ومن آيات هذا التأثير الملامح الإفريقية التي ظهرت في العربية الجنوبية بصورة خاصة، لا سيما باستيلاء الأحباش مرارا على السواحل العربية المقابلة لإفريقية، وظهور جيل أخذ من ملامح الجنسين، نتيجة للازدواج الذي صار بين العرب والإفريقيين.
ونجد أثر هذا الاختلاط في اللغة كما نجده في الغناء وفي آلات الطرب. اذ يختلف غناء أهل سواحل جزيرة العرب عن غناء القبائل الساكنة في الباطن، بعيدة بعض البعد عن السواحل وعن التأثر بمؤثرات الأعاجم الذين يقصدون المواني الساحلية الاتجار.
الزواج
والزواج هو من أهم الأفراح في حياة الإنسان؛ وهو ما زال وسيبقى من أهم الأفراح في حياته، لما له من علاقة سعيدة به. ولهذا يحتفل الناس به عادة؛ بإقامة المآدب فيه وبدعوة ذوي القرابة والأصدقاء إليها لمشاركة الزوجين أفراحهما. وقد صنف "روبرتسن سمث" زواج العرب ثلاثة أصناف: زواج يكون في حدود القبيلة فلا يتعداه، ولا يسمح لرجال القبيلة ألا بالزواج من بنات القبيلة نفسها، وهو ما يسمى ب "Endogamous"، وزواج يفرض فيه على الرجل أن يتزوج امرأته من قبيلة أخرى، وهو ما يعرف ب "Exogamous" أي "زواج خارجي". وزواج يجمع الطريقتين المذكورتين، أي الزواج في داخل القبيلة والزواج من خارجهاا.

(1/2450)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من دراسة كل ما ورد في كتب أهل الأخبار وفي كتب التفسير والحديث عن الزواج والطلاق عند الجاهليين أن أهل الجاهلية لم يكونوا يسيرون على سنة واحدة في عرف الزواج والطلاق، ولكن كانوا يسيرون على أعراف مختلفة اختلفت باختلاف الأماكن وباختلاف الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية واتصالها بالخارج. وقد وردت إلينا مسميات بعض تلك الأنواع، مثال، "الخدن" و "المتعة" و "البدل" و "الشغار" و "البعولة" وزواج ذوات الرايات وغير ذلك مما ورد وصفه وشرحه، ولكنه لم ينعت باسم معين.
وأنواع الزواج هذه، ليست خاصة بالجاهليين، وإنما هي معروفة عند غيرهم أيضأ، ولا سيما عند الشعوب السامية، وهي مراحل مر بها جميع البشر، ولا يزال الكثير منها قائما في أنحاء متعددة من العالم. وهي في الغالب مرآة صافية الظروف التي يعيش فيها الناس. وبعض هذه الأنواع زناء معيب في عرفنا، غير أننا يجب أن نفكر دائما إن أولئك القوم كانت لهم مقاييس دينية وخلقية خاصة بهم، وهي سليمة صحيحة بالقياس إليهم، وأنهم عاشوا قبل الإسلام وفي ظروف تختلف عن ظروفنا، وأن ما نسميه عيبا لم يكن عيبا بالقياس إلى المراحل التي كانوا فيها والى عرف ذلك العهد.
ويقال الرجل العزب الذي لا زوج له "الخالي"، قال امرؤ القيس: ألم ترني أصبي، على المرء عرسه وامنع عرسي إن يزن بها الخالي
وللرجولة عند العرب أثر بارز، لما، في طبيعة بلادهم من الحر وعدم وجود أمور مسلية لديهم تصرف ذهنهم عن التفكر فيه وتلهيهم بعض الشيء عن العريزة الجنسية. ونجد في الأدب العربي شيئا. كثيرا مما يتعلق بهذا الموضوع. وللغلمة المفرطة صار العربي مزواجا، يتشبب بالنساء ويتغزل، والتشبيب من أمارات الرجولة عند الجاهليين.

(1/2451)


--------------------------------------------------------------------------------

ونجد في القصص المنسوب إلى الجاهليين وفي شعرهم في شيئا كثيرا يتعلق بالحب: حب الرجل المرأة، وليس العكس، ذلك لأن في طبع الرجل التباهي والتفاخر بحبه النساء. أما المرأة فإن في طبعها الخجل الذي بمنعها من إظهار حبها وتعلقها برجل ما، ثم إن المجتمع لا يسمح لها بذلك، وهو يردعها عن أن تبوح بحبها لرجل ما، ويعد ذلك نوعا من الخروج على الآداب العامة وجلب العار إلى البنت والى الأسرة. ويعبر عن النسيب بالنساء، أي يذكرهن في ابتداء القصائد، ب "التشبيب". ويعد ابتداء القصيدة بالتشبيب من العرف الجاهلي، ويقولون إن في ذلك ترقيقا الشعر.
والنسيب في الشعر، التشبب بالمرأة والتغزل بها، وذلك في أول القصيدة، إذا ذكرها في شعره ووصفها بالجمال والصبا، ووصف أعضاء جسمها وغير ذلك. ثم يخرج الشاعر بعد ذلك إلى المديح. ويدخل في النسيب، ووصف مرابع الأحباب ومنازلهم واشتياق المحب إلى لقائهم ووصالهم وغير ذلك.
والغزل في نظر بعض العلماء كالتشبيب والنسيب، كلها بمعنى واحد. وهو وصف الأعضاء الظاهرة من المحبوب، أو ذكر أيام الوصل والهجر أو نحو ذلك. وفرق بعض آخر بينها، بأن جعل التشبيب ذكر صفات المرأة وهو القسم الأول من النسيب، فلا يطلق التشييب على ذكر صفات الناسب ولا على غيره. والتغزل بمعنى النسيب ذكر الغزل. فالغزل غير التغزل، والنسيب والغزل في رأي بعض آخر هو الأفعال والأقوال والأحوال الجارية بين المحب والمحبوب. نفسها. وأما التشبيب فهو الإشادة بذكر المحبوب وصفاته وإشهار ذلك والتصريح به. وأما النسيب فذكر حال الناسب والمنسوب به والأمور الجارية بينهما. وقال بعض: الغزل إنما هو التصابي والاستهتار بمودات النساء. والى غير ذلك من آراء لا صلة لها بهذا الموضوع.

(1/2452)


--------------------------------------------------------------------------------

والعادة أن يتغزل الرجل بامرأة فيجعلها بطلة غزله. يلف ويدور في غزله حولها ويلج ويلهج بذكرها. وقد يذكر اسمها وقد لا يذكره. وهي قد تكون امرأة حقا، رآها الشاعر فأعجب بها، وقد لا تكون امرأة معينة خاصة، وإنما امرأة تخيلها ذهن الشاعر، فصار يتغزل. بها ويلهج بذكرها ويلج في إظهار وصفها وفصاتها وما قالت له وما قال لها إلى غير ذلك. وسبب ذلك هو أذواق أهل ذلك العهد، وعادتهم في وجوب الابتداء بالقصيدة بهذا النوع من المقدمات، حتى يكون شعرا رقيقا مرموقا، وقد أدى تغزل بعض الشعراء بنساء رجال معروفين. أو ببناتهم إلى وقوعهم في مهالك. ومن أمثلة ذلك ما زعم من تغزل "النابغة الذبياني" بالمتجردة زوج الملك. "النعمان بن المنذر"، وما كان من غضب الملك عليه وتهديده له بالقبل، مما اضطر النابغة إلى الهرب إلى الغساسنة أعداء النعمان، ليسلم بريشه من سيد الحيرة وما ورد في قصة الشاعر "طرفة بن العبد".
والطابع العام في هذا الغزل البراءة والعفة ونقاء الألفاظ المؤدبة، لا يتطرق فيه الشاعر إلى ما وراء إظهار الوجد والحب والتلهف إلى زيارة معشوقته له، أو زيارته لها، وذكر الأيام الجميلة وأحلام الحب الصافية الخالصة النقية، وقلما نجد في الشعر الجاهلي إقذاعا وفحشا. فالشاعر متأدب في شعره، يعرف حدوده في الغزل فلا يتجاوزها، لأنه يعلم حقا انه إذا ذكر الفحش في شعره وتعرض بامرأة معينة، فأصابها بسوء قول، فأنها لن تسكت عنه، واذا سكتت هي، فلن يفلت من عقاب أسرتها وآلها له. وقد يكون ذلك العقاب القتل.

(1/2453)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ضرب العرب المثل ببعض الرجال في شدة النكاح وكثرته. ومن هؤلاء "حوثرة" رجل من بني عبد القيس، ضربت به العرب المثل في ذلك فقالت "أنكح من حوثرة"، و "خوات بن جبير الأنصاري"، وكان. يأتي أحياء العرب يتطلب النساء، فإذا سئل عن حاجته قال: قد شرد لي بعير فخرجت في طلبه. وأدرك لم الإسلام، ورأى الرسول، فقال له: ما فعل بعيرك الشرود? فقال: أما منذ قيده الإسلام فلا. وكان يحسن الغناء. وكان إذا رأى النساء لبس حلته وجلس اليهن. وذكر انه "صاحب ذات النحيين".
ويقال: "اغتلم الرجل" إذا هاج من الشهوة، وكذلك الجارية وفي الحديث: " خير النساء الغلمة على زوجها". والغلمة: شهوة الضراب، "وفسره جماعة بالشبق واشتهاء الغلمان". و "الشبق" شدة الغلمة وطلب النكاح، يقال: رجل شبق، وامرأة شبقة. وقد ذكر أهل الأخبار أسماء رجال عرفوا بالشبق والغلمة، ومن هؤلاء "ابن الغز". فذكر إن عبد الملك ابن مروان ذكر إيادا، فقال:" هم أخطب الناس لمكان قس، وأسخى الناس لمكان كعب، وأشعر الناس لمكان أبي دؤاد، وأنكح الناس لمكان ابن الغز".
وفي المثل: "أنكح من ابن الغز"، وهو من بني إياد، واسمه سعد أو عروة أو الحارث بن أشيم. وذكروا أنه كان نكاحا عظيم الأير، زعموا إن عروسه زفت إليه، فأصاب رأس أيره جنبها، فقالت: أتهددني بالركبة.
وقد عرف من يحب محادثة، النساء ومجالستهن ومخالطتهن ب، "الزير"، ومن هنا قيل: "زير نساء". وقد ذكر أهل الأخبار أسماء نفر من المشهورين بذلك.
ويقال لمن لا يأتي النساء عجزا أو لا يريدهن "العنين". كما يقال المرأة التي لا تريد الرجال. ولا تشتهيهم "العنينة" على بعض الآراء. ويقال امرأة مساحقة. وامرأة سحاقة، لمن تشتهي النساء. ويقال إنها لفظة مولدة.

(1/2454)

admin
12-31-2010, 07:59 PM
وقد عرف "التبتل" عند بعض الجاهليين، ممن تأثر بآراء الرهبان. ويراد به ترك النكاح والزهد فيه، ويكون ذلك الرجال كما يكون النساء. وتعرف المرأة المنقطعة عن الرجال ب "البتول". وقد نهى الرسول "عثمان بن مظعون" عن التبتل. وورد في الحديث: "لا رهبانية ولا تبتل في الإسلام". ويقال لمن لم يأت النساء ولم يتزوج "الصارور". و "الصارورة"، المتبتلة، فلم تتزوج ولم تتصل برجل. ومن ذلك: "لا صرورة في الإسلام". و "الصرورة" عند الجاهليين أرفع الناس في مراتب العبادة، وقد أطلقت على الراهب المتعبد، كما جاء ذلك في شعر "ربيعة بن مقروم" الضبي، من مخضرمي الجاهلية والإسلام: لو أنها عرضت لاشمط راهب عبد الإله صرورة متبتل
لدنا لبهجتها وحسن حديثها ولهم من تاموره بتنزل
وقد عيب العازف عن اللهو والنساء، والذي لا يطرب للهو ويبعد عنه. ولا يقرب النساء، ولا يحدثهن ولا يريدهن ولا يلهو. فإن مثل هذا الرجل هو كالحجر الصلد الجلمد، وفيه غفلة. ويقال له "العزهاة".
عدد الزوجات
ومن حق الرجل في الجاهلية إن يتزوج ما يشاء من النساء من غير تحديد ولا حصر. إذ. لم تحدد شرائعهم للرجال عدد ما يتزوجونه من نسائهم. فلما جاء الإسلام، حدد العدد وجوز الرجل إن تكون له أربع زوجات في وقت واحد، ومنعه من تجاوز العدد في حالة الجمع، بمعنى انه لا يسمح له إن يجمع بين خمس زوجات أو أكثر من ذلك في وقت واحد بشرط العدالة بينهن، فإن خاف الزوج ألا يعدل بينهن فواحدة.
ويذكر أهل الأخبار إن أهل الحرم أول من اتخذ الضرائر، والضرائر زوجات الرجل الواحد، وكل منها ضره للأخرى.

(1/2455)


--------------------------------------------------------------------------------

والغاية الأولى من الزواج هي النسل، لذلك قالت العرب: من لا يلد لا ولد.كرهت العاقر وعدتها شؤما. واتخذ العقر من الأسباب الشرعية الطلاق، إذ كان الرجل يأبى البقاء مع امرأة لا تلد. لذلك كان يطلقها في الغالب، لانتفاء الفائدة منها مع أنفاقه عليها، أو يتزوج عليها ليكون له عقب، وعندهم إن المرأة القبيحة الولود، خير من الحسناء العاقر، وان "سوداء ولودا خير من حسناء عاقر". وليست هذه العادة من عادات العرب وحدهم، ولكن.، يشاركهم فيها أكثر الشعوب. الأخرى، ومنها الشعوب السامية.
ولسادات القبائل والأشراف والملوك غرض آخر من الزواج، هو غرض كسب الألفة واجتذاب البعداء، والنصرة، حتى يرجم المنافر مواليا، ويصير العدو مؤالفا، فهو زواج "سياسي". يتزوج الملك أو سيد قبيلة ابنة سيد قبيلة أخرى، فيشد بزواجه هذا من أزر ملكه أو من قوة قبيلته. لا سيما إذا كانت البنت من قبيلة كبيرة. وقد عمل بهذا الزواج كثيرا في الجاهلية، كما عمل به في الإسلام. فقد استفاد معاوية كثيرا من زواجه من قبيلة "كلب"، إذ ساعدته وأيدته. وروعي هذا الزواج في المواضع التي تغلبت عليها الحياة القبلية بصورة، خاصة التغلب على طباع البداوة، القائمة على النفرة من الخضوع لحكم حاكم غريب عنها. وبهذا الزواج تخف هذه النفرة، فتشعر القبيلة إنها من أصهار هذا الحاكم، وعليها واجب مساعدته بحكم عصبية المصاهرة.
وكثرة الاخوة عزة، فمن كثرت اخوته استظهر بهم. فلا يتمكن أحد من النيل منه بسوء، ولا من ابتزاز حق من حقوقه، ولا من الاعتداء عليه.
وحظ الرجل العقيم خير من حظ المرأة العاقر. فهو يتزوج عدة زوجات فإن لم يلدن منه، آمن عندئذ بعقمه. أما المرأة، فنبقى قانعة راضية في بيت الزوجية، إن أراد زوجها ذلك، لأن من الصعب عليها الحصول على زوج آخر إذ طلقت، إذ كان الرجال يفضلون الأبكار على المطلقات، واذا طلقت المرأة العاقر، بقيت بين أهلها من غير زواج في الغالب.

(1/2456)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرغب العرب في التزوج بالأبكار، ويفضلون الأبكار الصغار على الأبكار الكبار، والبكارة من الشروط التي يجب توافرها في الزواج، وإذا تبين إن البنت ليست بكرا، عد ذلك نكبة وعير أهلها بها، ولذلك يكون مصيرها القتل تخلصا من عارها. أما الزواج يالثيب، فلا يشترط فيه البكارة لأن المرأة كانت قد تزوجت من قبل، ثم طلقها زوجها أو مات عنها، فهي مما لا يتوافر فيها شروط البكارة، وهو زواج يعزف عنه الشباب ويعير به من يقدم عليه، إذ يتهم بالوهن الجنسي وبالطمع في مال الزوجة، فليس يجمل بالشاب إن يتزوج امرأة أعطت بكارتها غيره. ومن صارت ثيبا من النساء، صار نصيبها الثيب من الرجال في الغالب، وان كانت لا تزال شابة صغيرة السن.
ويكره العرب الجمال البارع، لما محدث عنه من شدة الإدلال، ومن الخوف من محنة الرغبة وبلوى المنازعة وشدة الصبوة وسوء عواقب الفتنة، لكنهم كانوا يراعون حسن الصورة وجمال الجسم وتناسق أعضائه. ولهم صفات ونعوت ذكروا إنها تمثل جمال المرأة، تختلف باختلاف الأذواق، كما إن لهم رأيا في محاسن أخلاق المرأة وفي الخصال التي يجب إن تتحلى بها في معاشرة زوجها وفي العناية ببيتها وفي تربية أولادها. من ذلك إن تكون حريصة على إرضاء زوجها وخدمة أولادها والعناية ببيتها.
وللعرب نعوت رأوا إنها إن وجدت في المرأة عابتها، منها إن تكون بذيئة اللسان، نمامة كذوبا، عابسة قطوبا، كثيرة الانتباه والتدخل، طويلة مهزولة، ظاهرة العيوب، سبابة وثوبة إن ائتمنها زوجها خانته، وان لان لها أهانته، وان أرضاها أغضبته، وان أطاعها عصته، إلى غير ذلك من نعوت رووها عن الجاهليين في ذم المرأة المتخلقة بها. وقد نعتت المرأة التي تلبس درعها مقلوبا، وتكحل إحدى عينيها وتدع الأخرى ب "القرثع"، وهي المرأة الجريئة القليلة الحياء البذيئة الفاحشة.

(1/2457)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرغب العرب في الزواج بالنساء الشقراوات البيض البشرة، ورد إن بعض العرب قالوا لبعض الملوك: هل لكم في النساء الزهر، والخيل الشقر، والنوق الحمر.
والعادة إن أمر الزواج بيد الأبوين، وليس البنت معارضة وليها الشرعي في الزواج، غير إن بعض بنات الأسر الشريفة لم يكن يقبلن بالزواج بأحد إلا بموافقتهن، فإلى البنت يكون حق قبول الزوج أو رفضه. كما اشترطت بعض النسوة أنهن إن أصبحن عند زوجهن، كان أمرهن اليهن، إن شئن أقمن معهم، وان شئن تركنهم، أي إن حق الطلاق بيدهن. وذلك لشرفهن وقدرهن. ومن ج هؤلاء "سلى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش"، وهي أم عبد المطلب ابن هاشم بن عبد مناف، و "فاطمة بنت الخرشب الأنمارية"، وهي أم الكملة من بني عبس، وهم: الربيع الكامل، وعمارة الوهاب، وقيس الحفاظ، وأنس القوارس، بنو زياد.
ومنهن "عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان بن ثعلبة بن بهثة"، وهي أم هاشم، وعبد شمس، والمطلب بني عبد مناف. و "السوا بنت الأعيس" من عنزة، وكانت تحت خالد بن جعفر بن كلاب. و "مارية بنت الجعيد بن صنبرة بن الديل بن شن بن أفصى" من لكيز.
وقد اشتهرت "أم خارجة" وهي -"عمرة بنت سعد بن عبد الله بن قداد ابن ثعلبة بن معاوية بن زيد بن الغوث بن أنمار" من بحيلة بأنها كانت قد اشترطت إن يكون طلافها بيدها، فكانت كما يقول أهل الأخبار تتزوج ونطلق. وقد أكثرت من الولد في العرب، وبها ضرب المثل فقيل: "أسرع من نكاح أم خارجة". كان يقال لها: خطب، فتقول: نكح وخارجة ابنها، ولا يعلم ممن هو. وولدت ل "بكر بن عبد مناة": الليث والدول، وعريجا، وهي أم العنبر، والهجيم، وأسيد. وولدت أيضا في "بني القين" من اليمن، قوم يقال لهم: بنو الحرة، وولدت في بهراء. وللعداوات بين القبائل أثر بليغ في اختلاق أمثال هذا القصص، كما لا يخفى.

(1/2458)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر أهل الأخبار أسماء نساء تزوجن ثلاثة أزواج فصاعدا. منهن "مارية بنت الجعيد"، ذكر "ابن حبيب" إنها تزوجت من عشرة رجال. ونسوة أخر ذكر أسماءهن "محمد بن حبيب".
تخفيف غلمة النساء:
وقد أمر بعض الجاهليين بختان النساء الحد من طغيان الشهوة، فإن البظراء تجد من اللذة ما لا تجده المختونة، وفي حديث: يا ابن مقطعة البظور. دعاه بذلك، لأن أمه كانت تختن النساء. والعرب تطلق هذا اللفظ في معرض الذم، وان لم تكن أم من يقال له هذا خاتنة. وذكر إن الرسول قال لأم عطية الخاتنة: "أشميه ولا تنهكبه، فإنه أسرى للوجه، وأحظى عند البعل". كأنه أراد انه ينقص من شهوتها بقدر ما يردها إلى الاعتدال، فإن شهوتها إذا قلت ذهب التمتع، ونقص حب الأزواج، وحب الزوج قيد دون الفجور.
وذكر إن العرب اتخذت بعض الطرق لتضييق فرج المرأة، من ذلك استعمال عجم الزبيب. وذكروا إن نساء ثقيف فعلن ذلك، ويظهر إن أعداء ثقيف في أيام الحجاج قد أشاعوا قصصا من هذا النوع نكاية به. ويقال لذلك التقريب والتفريم.
حق المقدم في الزواج
ويقدم ابن العم على غيره في الزواج، فإذا جاء رجل يريد خطبة ابنة رحل، سئل ابن عمها إن كان لها ابن عم عن رأيه في ابنة عمه، فإن أظهر رغبته في الاقتران بها قدم على غيره، وزوجت منه، وان أظهر انه. غير راغب فيها زوجت من غيره. ذلك لأن ابن العم مقدم على كل أحد في الزواج من ابنة العم، وقد يأبى ابن العم من تزويج ابنة عمه من غيره ويصر على إن تكون له، ولكنه يأبى إن يحده موعدا الزواج منها، ويتركها أمدا طويلا تنتظر حتى يرى رأيه، وقد تأبى ابنة العم الزواج من ابن عمها، ويأبى ابن عمها إلا الزواج منها، فتنشأ من ذلك منازعات وخصومات قد تصل إلى إراقة الدم.

(1/2459)


--------------------------------------------------------------------------------

ومع وجود عرف إن القريب أولى بالبنت من البعيد، فإن العرب تراعي في الغالب إنكاح البعداء والأجانب. يرون إن ذلك أنجب للولد وأبهى للخلقة، وأحفظ لقوة النسل ؛ لأن إنكاح الأهل والأقارب يضر بالمولود ويسمه بالضعف والهزال، ويزعمون إن نقارب الأنساب مدح في الإبل، لأنه إنما يكون في الكرائم يحمل بعضها على بعض حفظا لنوعها، وذم الناس. لأنه فيهم سبب الضعف. وبهذا المعنى ورد الحديث: "اغتربوا ولا تضووا" أي إن تزوج القرائب يوقع الضوى في الولد، والضوى: الضعف والهزال. وقد أوصى "حصن بن حذيفة بن بدر" قومه إن "ينكحوا الكفء الدريب، فإنه عز حادث ". وقال "عمر" مخاطبا آل السائب: "يا بني السائب، أنكم قد أضويتم، فانكحوا في النزائع". أي تزوجوا في البعاد الأنساب، لا في الأقارب، لئلا تضوى أولادكم. والنزائع جمع نزيعة، وهي المرأة التي تزوج في غير عشيرتها. وأضوى: ولد له ولد ضاو أي ضعيف.
وروي إن رجلا قال: بنات العم أصبر والغرائب أنجب، وما ضرب رؤوس الأبطال كابن أعجمية. وقد أدركوا أثر العرق في الولد. قال رجل: لا أتزوج امرأة حتى أنظر إلى ولدي منها، قيل له: كيف ذلك? قال: أنظر إلى أبيها وأمها، فإنها تجر بأحدهما. وقال بعض الشعراء: إذا كنت تبغي أيما بجهالة من الناس فانظر من أبوها وخالها.
فإنهما منها كما هي منهما كقدك نعلا إن أريد مثالها
فإن الذي ترجو من المال عندها سيأتي عليه شؤمها وخبالها

(1/2460)


--------------------------------------------------------------------------------

ويراعى التكافىء في الزواج، فالأشراف لا يتزوجون إلا من طبقة مكافئة لهم، والسواد لا يتجاسرون على خطبة ابنة سيد قبيلة أو ابنة أحد الوجهاء، ويعير السيد الشريف إن تزوج بنتا من سواد الناس، ولا سيما إذا كانت ابنة صائغ أو نجار أو ابنة رجل يشتغل بحرفة من الحرف اليدوية لأنها من حرف ال****. وقد عير "النعمان بن المنذر" بأمه، لأنها كانت ابنة يهودي صائغ، على ما يزعمه أهل الأخبار. ولم يكن من المستساغ عرفا تزويج ابنة رجل حر من عبد مملوك أو مفكوك الرقبة، ولم يكن من الممكن تزويج البنت الأصيلة الحرة من ابن عبد أو من حفيد عبد، أو من حفيد حفيد عبد، وهكذا لأن سمة العبودية والضعة تلازم الأسر، وان تحررت وحسن حالها وصارت غنية، وما زال هذا المحرف قائما في جزيرة العرب.
ويقدم العرب البيت على الجمال. فللبيات أثر في أخلاق المرأة وفي نجابة الأولاد، وهو أثر دائم. والجمال صورة زائلة. فكانوا يهتمون بالبيت الطيب المنجب، ليكون النسل نجيبا صحيح البنية والعقل لقد علمتهم الطبيعة، وتبين من تجارب الحياة إن لبيت البنت أثرا كبيرا في مستقبل الأسرة وفي نجابة الأولاد وصحة أجسامهم وسلامتهم من المرض. لشاك فضلوا أصالة البيت على جمال المرأة. لما للأصالة من أثر في الوراثة التي تنتقل من الأبوين إلى الأولاد. ونجد هذا المسلك عند غير العرب من الساميين أيضا، ورد في التلمود: "لا تحفل بجمال المرأة. وانظر إلى أسرتها". وروي إن رجلا شاور حكيما في التزوج، فقال له: افعل، وإياك والجمال الفائق، فإنه مرعى أنيق. فقال: ما نهيتني إلا عما أطلب، فقال: أما سمعت قول القائل: ولن تصادف مرعى ممرعا أبدا إلا وجدت به آثار منتجع
وورد في الحديث: "إياكم وخضراء الدمن، قيل: يا رسول الله، وما خضراء الدمن? قال: المرأة الحسناء في منبت السوء". فللمنبت شأن كبير في الزواج وفي أخلاق الولد، فلا قيمة المرأة الحسناء إذا كانت من بيت سوء.

(1/2461)


--------------------------------------------------------------------------------

المناكح الكريمة
وقد روي عن "أكثم بن صيفي" قوله: "المناكح الكريمة مدارج الشرف". ولهذا حرصوا على تطبيق قاعدة التكافؤ في الزواج، واختيار كرائم البنات لكرائم الرجال. وروي إن جملة ما أوصى به "الحارث بن كعب" سيد مذحج قومه إن "تزوجوا الأكفاء، وليستعملن في طيبهن الماء، وتجنبوا الحمقاء. فان ولدها إلى أفن ما يكون، إلا انه لا راحة لقاطع القرابة" وقد عرفت هذه القاعدة قي "الكفاءة في النكاح". وهي إن يكون الزوج مساويا المرأة في حسبها ودينها ونسبها وبيتها وغير ذلك.
والمرأة في نظر العرب وعاء للولد. هذه نظرتهم إليها في الجاهلية وفي الإسلام. قال "عروة بن الزبير": " لعن الله فلانة، ألفت بني فلان بيضا طوالا، فقلبت هم سودا قصارا". وفي هذا المعنى جاء في الشعر: وأول خبث الماء خبث ترابه وأول خبث القوم خبث المناكح
وللأم أثر خطير في الولد. وقد ذكر "الجاحظ" إن العرب تقول: "عرق الخال لا ينام". وان كثيرا من العلماء يزعمون إن عرق الخال أنزع من عرق العم. ومن دلائل ذلك تباهي الناس بأخوالهم، واعتبار الخال بمنزلة الوالد. وقول العرب: "لئيم الخال"، واحتماء الأولاد بأخوالهم ولجوؤهم إليهم أكثر بن لجوئهم إلى أعمامهم. ودعوتهم لهم عند العصبية. وقول العرب "العرق دساس" و " عرق الخال".

(1/2462)


--------------------------------------------------------------------------------

ولكننا لا نستطيع القطع برأي العرب في موضوع "دس العرق". وفي إن أيا هو أكثر أثرا ووضوحا في الولد: عرق الخال، أم عرق العم? فهناك أمثلة في التأريخ الجاهلي تظهر إن من الجاهلين من كان يقدم العم على الخال، ويرى إن العم مقام الوالد. ولما كان الوالد هو الأصل في النسب عند الجاهليين، وهو الولي وصاحب الحق الشرعي الأول في ولده، يكون هذا الحق في إخوته بعد وفاته. كما أننا في إن بعض الأولاد كانوا ينزعون إلى أعمامهم أكثر من نزوعهم إلى أخوالهم. وموضوع نزع العرق عند العرب، اعتباري اصطلاحي بالطبع، يمثل وجهة نظرهم في النسب، ولا يقوم على أسس "بيولوجية" أي من ناحية اثر الدم وانتقال الخصائص الدموية من الوالد، أو من الأم إلى الولد. وهو موضوع علمي، يختلف عن هذه النظرة الاعتبارية، من حيث انه يقوم على الدراسات العلمية، ولا يأخذ بالاعتبارات والآراء المبينة على اعتبارات أهل النسب في خصائص الولد.
والظاهر إن الوئام لم يكن واقعا دائما بين أبناء العم، إذ نجد إن الخصومات طالما كانت تحدث بينهم. ولعل ذلك بسبب ما ألقاه المجتمع على عاتق العم من تبعات أولاد إخوته حين وفاة الأخ، فانه يكون بحسب العرف القبلي الوصي الشرعي على أولاد المتوفى، وله حق في إرثه بحسب قانون "العصبة" عند وفاة الأخ عن بنات ومن غير أبناء، أو لطمع الأعمام في أموال اليتامى، إلى غير ذلك من أمور سببت حدوث خصومات أحيانا بين الأعمام وبن أبناء الاخوة، أو بين أبناء الأعمام. ولعل هذه الخصومات هي الني جعلت "الجاحظ" يتصور إن أبناء العم محسودون.
ونجد العرب يقولون: "عرق فيه أعمامه وأخواله"، فقدموا الأعمام على الأخوال، واعترفوا بأثر عرق الاثنين في الولد، من كرم أو لؤم، إذ يكون دس العرق في اللؤم والكرم.

(1/2463)


--------------------------------------------------------------------------------

ولاحظ العرب إن الأبوين قد يلدان ولدا يكون لونه مغايرا للونهما، فيحدث نزاعا بين الرجل وزوجته في هذه الولادة الغريبة، وتتهم المرأة أحيانا باتصالها برجل غريب جاء منه هذا المولود، إلا إن منهم من أدرك "دس العرق" في هذه الولادة، واحتمال انتقال هذا اللون من آباء أحد الوالدين. وقد اختصم رجل مع زوجته في مولود ولد له، فجاء إلى رسول الله وقال له: إن امرأتي قد ولدت غلاما أسود، فقال له الرسول: "لعل عرقا نزعه". فاعتقاد العرب إن الولد قد ينزعه عرق من الأب. وفي هذا المعنى أيضا قول "ابن الزبير": "لا يمنعكم من تزوج امرأة قصرها، فإن الطويلة تلد القصير، والقصيرة تلد الطويل، وإياكم والمذكرة فإنها لا تنجب". والمذكرة المتشبهة بالذكور.
وقد حرص العرب لما تقدم على التزوج في الأسر الصحيحة السالمة من الأمراض والعيوب، ليكون النسل صحيحا نجيبا. قال أعرابي لصاحب له: "إذا تزوجت امرأة من العرب فأنظر إلى أخوالها، وأعمامها، واخوتها، فإنها لا تخطئ الشبه بواحد منهم".
لبن الأم
وللبن الأم شأن كبير عند العرب، لما يتركه من اثر في طبيعة الولد، ولشلك كانوا يرون إن تكون الأم مرضعة الولد، إلا إذا تعذر ذلك لسبب، فترضه مرضعة قريبة من أهل المولود أو من المرضعات السليمات من المرض، ومن ذوات العرق الطيب. لأن اللين دساس يؤثر في شاربه.
واهم العرب باختيار المرضعات. لما يكون للبان الرضاع من أثر في الرضيع، ولما يكون المرضعة ولبيتها من أثر فيه، كما اهتموا باختيار من يتأبط المولود ويحمله، لتسليته وتلهيته، لما يتركه ذلك من أثر في تربيته وخلقه. وفي حديث عمرو بن العاص: "ما تأبطتني الإماء ولا حملتني البغايا في غبرات المآلي" أراد انه لم تتول الإماء تربيته. وغبرات المآلي: بقايا خرق الحيض.

(1/2464)


--------------------------------------------------------------------------------

وإذا أراد مدح إنسان والثناء عليه، ذكروا مرضعته وصفاء لبنه الذي رضعه، فقالوا: "نعمت المرضعة"، و " نعمت المرضعة مرضعته". وإذا أرادوا ذم إنسان قالوا: "بئست المرضعة مرضعته"، كناية عن إنها هي التي أرضعته، فخرج رضيعها على شاكلتها. وفي الحديث حين ذكر الأمارة، فقال: "نعمت المرضعة وبئست الفاطمة"، ضرب المرضعة مثلا للأمارة وما يوصله إلى صاحبها من الأحلاب، يعني المنافع، والفاطمة مثلا. للموت الذي يهدم عليه لذاته ويقطع منافعها.
وتعد الرضاعة بمنزلة الأخوة بين المتراضعين، ويفتخر ويتعزز الواحد منهم بالآخر، خاصة إذا كان من السادات والأشراف. والعرب تقول: "هذا رضيعك" أي أخوك من، الرضاع ، وتقول: "استرضع في بني فلان". ويصير كأنه واحد من القوم الذين استرضع فيهم. وتكون المراضع بمنزلة الأم للرضيع.
ويبدأ الزواج برغبة يبديها الرجل لوالديه، أو برغبة من والديه، أو من أحدهما تقدم إلى الولد تطلب إليه إن يتزوج، فإن حصلت الموافقة اختيرت له زوجة، وقد يكون الرجل قد اختار خطيبته وعينها، فإذا وافق أهله خطبوها إلى ولي أمرها، وإذا أبوا فعليه إن يختار أخرى زوجا له، وإذا أبى أقل البنت عليه ذلك تركها، وقد يصر على الزواج بها، ويصر أهله أو أهلها على رفضهم ذلك، وقد يزداد الرجل أو البنت إصرارا على الاقتران معا حتى يتحول ذلك إلى هرب من مكانهما إلى مكان آخر. وقد تقع بغضاء بين أهلي الرجل والبنت من وقوع هذا الزواج.
الخطبة

(1/2465)


--------------------------------------------------------------------------------

وغذا استقر الرأي على البنت، يذهب ولي أمر الرجل أو أقرب الناس إليه إلى ولي أمر البنت، كالأب أو الأخ أو العم أو بني عمها أو غيرهم ممن هم أقرب الناس اليها، يخطب البنت بعد إن يكونوا قد مهدوا لذلك وحددوا الصداق. وكان الخاطب إذا. دخل بيت أهل البنت حياهم ومن كان حاضرا بتحية أهل الجاهلية، مثل: انعموا صباحا، أو عموا صباحا، أو أمثال ذلك، فإذا استقر به المقام، تكلم فيما جاء فيه، كأن يقول: نحن اكفاؤكم ونظراؤكم، فإن زوجتمونا فقد أصبنا رغبة واصبتمونا وكنا لصهركم حامدين، وان رددتمونا لعلة نعرفها رجعنا عاذرين. ثم يجيب ولي أمر البنت جواب مناسبا يضمنه الرضى والقبول، وبذلك تكون البنت قد خطبت لذلك الرجل.
ووصف بعض أهل الأخبار طريقة من طرق الخطبة عند بعض الجاهليين، فقال: كان الرجل في الجاهلية يأتي الحي خاطبا، فيقوم في ناديهم، فيقول: خطب، أي جئت خاطبا. فيقال له: بعد الموافقة نكح، أي قد انكحناك إياها، ومن ذلك ما قدمت من خبر أم خارجة إن صح. وذكر إن "نكحا" هي كلمة كانت العرب تتزوج بها.
ويرتدي أهل الخاطب وأهل المخطوبة خير ما عندهم من ملابسهم ويزينون أنفسهم عند مجيء أهل الرجل إلى بيت البنت لخطبتها. وإذا تمت الخطبة ضمخ والد الخطيبة بالعبير وخلق بالطيب ونحير بعير أو أكثر على حسب منزلة أهل البنت. والعادة عند العرب إن ينحروا بعيرا أو شاة في المناسبات المفرحة المبهجة، فلا بد لمثل هذه المناسبات من "ذبيحة" وإسالة دم. ولما خطب النبي "خديجة" واجابته، استأذنت أباها في إن تتزوجه وهو ثمل، فأذن لها في. ذلك، وقال: هو الفحل لا يقرع أنفه. فنحرت بعيرا، وخلقت أباها بالبعير، وكسته بردا أحمرا.
وكان الجاهليون يقولون الإبل تساق في الصداق: النوافج. وكانوا يقولون عند تقديمها: تهنئك النافجة. على إن بعضهم من كان يكره ذلك. وقد بطل هذا القول في الإسلام.

(1/2466)


--------------------------------------------------------------------------------

وتلبس العروس ثوبا يجعل له ذيل تسحبه حنن تمشي. لأنه يكون طويلا، وقد أشير إليه في شعر لامرىء القيس. إذ. قال: لها قلب مثل ذيل العروس تسد به فرجها من دبر
كما أشر إليه في شعر لخداش بن زهر. إذ قال: لها ذنب مثل ذيل الهدي إلى جؤجؤ أيد الزافر
والهدي: العروس التي تهدى إلى زوجها.
واستعملت المرأة الغنية المسك والطيب في تطبيب جسمها وثيابها. حتى كان المسك يفوح من أردانها. قال قيس بن الخطيم: وعمرة من سروات النسا ء تنفح بالمسك أردانها
و "الصداق" هو مهر المرأة، أي ما يدفعه الرجل إلى أهل البنت عند عقد الزواج، ويقال له الصدقة والصدقة والصدقة والصداق. وترادف هذه الكلمة كلمة أخرى هي "مهر"، وهي من المصطلحات الجاهلية كذلك.
وطريقة العرب من جاهليين وإسلاميين في دفع الرجل "المهر" للزوجة، تناقض المألوف عند اليونان والرومان، حيث جرت عادتهم إن تقدم المرأة صداقها إلى زوجها نقودا أو عينا. وهي الطريقة المألوفة عند الغربيين حتى الآن. وكان الرومان يستغربون طريقة الجاهليين هذه في دفع المهر.
ويروي "روبرتسن سمث" إن ترادف معنى "الصداق" و "المهر" إنما حدث في الإسلام. أما في الجاهلية، فقد كان هناك فرق بن مدلول الكلمتين. فان المراد من كلمة الصداق عند الجاهليين هو ما يقدم إلى العروس. أما المهر، فهو ما يقدم إلى الوالدين.
والرجل إما إن يكون من ذوي قرابة البنت وإما إن يكون من الأباعد، أي غريبا عنها. فان كان من ذوي قرابتها، قال لها ولي أمرها إذا حملت إليه: أيسرت وأذكرت ولا انثت، جعل الله منك عددا وعزا وخلدا. أحسني خلقك، وأكرمي زوجك، وليكن طيبك الماء... ومثل ذلك من كلام. وإذا زوجت في غربة قال لها: لا أيسرت، ولا ذكرت، فانك تدنين البعداء، أو تلدين الأعداء. أحسنى خلقك، وتحببي إلى أحمائك، فان لهم عينا ناظرة إليك، وأذنا سامعة اليك، وليكن طيبك الماء.

(1/2467)


--------------------------------------------------------------------------------

وإذا كان العرس أولموا وليمة، ودعوا إليها ذوي قرابة الزوجين وأصدقاءهم. وتتناسب الولائم مع مكانة العريس وأهله، للهو، فإن كان غنيتم كانت وليمته ضخمة، وربما دعوا إليها أهل الطرب، وقدموا فيها المأكولات الشهية والخمور. ويقال الوليمة التي تقام "الملاك" ويقال "الإملاك"، ويقال الطعام الذي يقدم في "الإملاك" "الشندخ " لأنه يقدم الدخول. وإما ما يصنع الدخول بالمرأة، فيقال له: "وليمة " و "وليمة العرس". وكانوا يعدون ولائم العرس من الأمور اللازمة، ويفعل ذلك حتى القفير الضعيف الحال. وقد حث الإسلام عليها، فورد في الحديث إن الرسول قال لعبد الرحمن بن عوف: "أولم ولو بشاة".
وتزف العروس إلى زوجها، ومعها أصدقاؤها وأهلها: وقد يقتن ذلك بضرب الدفوف والغناء. وقد كان الأنصار يعجبهم اللهو، وهذا كانوا يهتبلون هذه المناسبات للهو فيها. ومما كان يقال في زف العروس: أتيناكم أتيناكم فحيانا وحياكم
ولولا الذهب الأحمر ما حلت بوادبكم
ولولا الحنطة السمرا ما سمنت عذاريكم
ويقال لليلة التي تزف فيها العروس إلى زوجها ليلة الزفاف. ويعرف موكب الزفاف ب "الزفة" ويزف "العروس" إلى بيته أيضا، فقد كان من عادة ذوي القرابة والأصدقاء إقامة وليمة له، إذا انتهت رافق المدعوون العريس إلى بيته في موكب يغنى فيه ويضرب بالدفوف. وقد يبقى المدعوون إلى الصباح؛ حيث يحيون ليلتهم، وهي ليلة العرس، بالشرب والغناء واللعب.
وتخلق العروس بالعبير وبأنواع الطيب بحسب سعة حالها وأحوال أهلها المعاشية. وذكر إن "العبير" الزعفران وحده عند أهل الجاهلية. وذكر انه أخلاط من الطيب يجمع بالزعفران،، وورد إن العبير غير الزعفران. وقد اشتهر رداء العروس بطيب رائحته، لما فيه من العبير. قال الأعشى: وتبرد برد رداء العرو س في الصيف رقرفت فيه العبيرا

(1/2468)


--------------------------------------------------------------------------------

وتزفت العروس إلى زوجها ليلا: تزف على قدر حال العروسين، وقد تزف في النهار، ويرافق العروس "موكب" موكب من نساء ورجال على الإبل المزينة يسير والنيران بين يدي العروس. وقد توضع الأنماط على هودج العروس وفي بيتها. وقد منع استعمال النيران في الإسلام؛ لما في ذلك من التشبه بالمشركين، كما نهي عن استعمال أنماط الحرير.
وقد تزف العروس في محفة يقال لها "المزفة"، ومعها، أصحاب "الزفة". وذكر إن "الزفة"، الزمرة. "ومنه الحديث: انه صل الله عليه وسلم، قال لبلال حين صنع طعاما في تزويج فاطمة، رضي الله عنها: "أدخل الناس علي زفة زفة" أي: فوجا بعد فوج ؛ وطائفة بعد طائفة.
وفي المثل: "لا عطر بعد عروس" أول من قال ذلك امرأة اسمها: أسماء بنت عبد الله العذرية، واسم زوجها-وكان من بني عمها-"عروس". ثم مات عنها، فتزوجها رجل من قومها أعسر أبخر نحيل دميم، يقال له "نوفل". فما أراد إن يظعن بها، قالت: لو أذنت لي، رثيت ابن عمي، وبكيت عند رمسه? فقال: إفعلي. فقالت: أبكيك يا عرس الأعراس، يا ثعلبا في أهله، وأسدا عند الباس، مع أشياء ليس يعلمها الناس! فقال: وما تلك الأشياء? فقالت: كان من الهمة غير نعاس ويعمل السيف صبيحات الباس. ثم قالت: يا عروس الأغر الأزهر، الطيب الخيم، الكريم المحضر، مع أشياء لا تذكر فقال: وما تلك الأشياء? قالت: كان عيوفا للخنا والمنكر، طيب النهكة غير أبحنر، أيسر غير أعسر. فعرف الرحل إنها تعرض به. فلما رحل بها، قال: ضمي عطرك. وقد نظر إلى قشوة عطرها مطروحة. فقالت: "لا عطر بعد عروس" فذهبت مثلا. أو "لا مخبأ لعطر بعه عروس".
وتحمل العروس معها أدوات زينتها وموادها الأخرى تضعها في قشوة: قفة من خوص يجعل فيها مواضعها للقوارير بحواجز بينها لعطر المرأة وقطنها، قال الشاعر: لها قشوة فيها ملاب وزنبق إذا عزب. أسرى إليها تطيبا

(1/2469)


--------------------------------------------------------------------------------

ويقال البنت العذراء التي لم تقتض "البكر". ويقال ذلك للرجل الذي، لم يقرب امرأة بعد. وزوجها الأول هو الذي يفتض بكارتها. وإذ كانت لسلامة بكارة البنت مكانة عند العرب، كانوا يعرضون دم البكارة على الأقارب، ليكون شهادة على سلامة بكارتها. ويكنى عن البكارة والبنت البكر ب "بنت سعد".
والزواج حادث مهم في حياة الإنسان، ولذلك يعلن عنه بفرح وسرور، ويقال لذلك "بشاشة العرس". يعلن عنه بدعوة "وليمة" تولم لذوي القربى والأحباء والجيران والأصدقاء، تقترن بالغناء وبالضرب على الدفوف أحيانا، وبارتداء ملابس نظيفة مناسبة، أو ملابس مصبوغة بصفرة، والصفرة عند أهل الحجاز في. ذلك العهد علامة العرس والفرح والسرور، كما كانوا يصبغون أيديهم ولحاهم بالزعفران، ويكحلون عيونهم، والكحل عندهم من الزينة أيضا. ويقال الطعام يصنع لعرس: "الوليمة"، وقد ذهب بعض علماء اللغة إلى إن اسم الوليمة مختص بطعام العرس. وقد حث الإسلام عليها. ورد في الحديث قوله لعبد الرحمن بن عوف: أولم ولو بشاة.
ويقابل الزوج على تفضله بالدعوة إلى الوليمة بكلمات فيها خير وشكر وتمنيات الحياة الزوجية الجديدة، ويقال له عند الانتهاء والانصراف: على الطائر الميمون، وبالرفاه والبنين. وقد كره في الإسلام القول: بالرفاه والبنين لأنه من أقوال الجاهلية، ولما فيه من الإشارة إلى بغض البنات، لتخصيص البنين بالذكور، وإحياء سنن الجاهلية.
المال والبنون

(1/2470)

admin
12-31-2010, 08:00 PM
وإذا ولد مولود ذكر، سر أهله بميلاده. والعرب مثل غيرهم من الشعوب القديمة كانوا يفرحون بميلاد ولد ذكر، ويغتمون إذا ولدت لهم أنثى، ويقيمون وليمة لميلاده، وكثرة البنين من المفاخر التي يفتخر بها أهل الجاهلية. إن كثرتهم نعمة وعزة. والبنون والمال زينة الحياة الدنيا. بالبنين يدافع، الرجل عن نفسه وعن بيته، وبهم ينال المال والحق والأخذ بالثأر، فهم الحماية ورأس المال. ونقرأ في أخبار أهل الأخبار افتخار الأباء والأمهات بكثرة ما أنجبوا من أولاد، ولا سيما إذا كان الأولاد حازوا شهرة بالجود بالشجاعة أو بأمثال ذلك، أو سادوا قومهم ورأسوهم. ورد في القرآن: )المال والبنون زينة الحياة الدنيا(. صحيح إن أعالتهم مسألة صعبة عسيرة، ولا سيما إعالة الفقراء أولادهم، غير إن الحياة الاجتماعية في ذلك العهد لم تكن على مستوى عال من المعيشة تطلب مالا يضمن الوالد به عيش أولاده، إنما كانت المعيشة سهلة لا تتطلب حاجات كثيرة، ولم تكن بالناس حاجة شديدة إلى النقود، فما بقوم به المرء من مجهود بدني هو أصيلة كل إنسان، وبه يعيش، وبه يحصل على ما يحتاج إليه من وسائل المعيشة محدودة. فإذا كثر الأولاد، ازدادت وسائل المعيشة، وعاش الوالد عيشة ناعمة طيبة، وحصل بفضلهم على قوة ومنعة.
وقد ذكر أهل الأخبار عددا من الرجال عرفوا ببنين حصلوا على شهرة وذكر، فكانوا يفتخرون بهم بين الناس. من هؤلاء "سعد العشيرة"، قيل له "سعد العشيرة" لأنه كان يركب في عشرة من أولاده الذكور، فكأنه منهم في عشيرة، فصار مثلا للرجل يستكثر بأبنائه وعشيرته ويتعزز بهم. و "الحارث بن سدوس". وكان له واحد وعشرون ولدا ذكرا.

(1/2471)


--------------------------------------------------------------------------------

ويكون الذكور فخرا الأمهات وقوة لهن، ويقال المرأة التي تلد الأولاد الكرماء الأشراف منجبة ومنجاب. "ولم تكن العرب تعد منجبة من لها أقل من ثلاثة بنين أشراف". وتعرف ب "أم البنين" كذلك. ومنهن "أم البنين بنت عمرو بن عامر بن ربيعة بن عامر بن ضعصعة"، و "عمرو بن عامر، هو "فارس". ولدت "أبا براء" ملاعب الأسنة، و "طفيلا" فارس قرزل و "ربيعة" ربيع المقترين، و "معاوية" معوذ الحكماء، "سلمى" نزال المضيق، بني مالك بن جعفر بن كلاب.
وقد أشار القرآن الكريم إلى نفرة العرب من البنات، وما كان يصاب به الرجل من ضيق صدر ومن هم إذا بلغ إن مولوده أنثى، قال تعالى: )وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم(. ويزداد كربه إذا زاد عدد بناته، وقد يعمدون إلى "الوأد"، أي دفنهن أحياء للتخلص منهن. قيل: " إنهم كانوا يقتلونهن خوف العار". والى ذلك أشار القرآن الكريم: )ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق. نحن نرزقهم وإياكم(، )ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقهم وإياكم(.
وقد افتخرت "بنو عبس" ب "زهير بن جذيمة بن رواحة" العبسي، لأنه كان أبا عشرة، وعم عشرة، وأخا عشرة، وخال عشرة، ورأس غطفان كلها في الجاهلية ولم يجمع على أحد قبله. فكثرة البنين من موجبات الفخر والاعتزاز والتباهي عند الجاهليين.
العقيقة

(1/2472)


--------------------------------------------------------------------------------

وإذا كانت نهاية الإنسان ضد الجاهلين مقترنة بالدم، فإن مبدأ حياته مقترن عندهم بالدم كذلك. لقد كان من عادتهم ذبح شاة عند ميلاد مولود وتلطيخ شيء من دمها برأس المولود، ويقال لهذه الذبيحة "العقيقة"، وهي كلمة جاهلية وردت في الشعر الجاهلي. وتذبح عادة في اليوم السابع من ميلاد المولود. وقد أقر الإسلام ذلك، فوردت الكلمة في الحديث. ويذكر علماء اللغة ان معنى العقيقة هو شعر كل مولود يخرج على رأسه في بطن أمه، وانه قيل الشاة المذبوحة. لذبحها عند الاحتفال بحلق هذا الشعر. وقد كانوا يعيرون من لم تحلق عقيقته، إذ يرون في ذلك منقصة لا تليق بالرجل الكامل.
ويستقبل المولود بدلك جنكه بالتمر المضوغ، أو الحلو مثل عسل النحل، وكل ما لم تمسه نار من الحلو. وكان العبرانيون يفركون المولود بالملح. واستقبال المواليد بمثل هذه الأمور من العادات الشائعة عند كثير من الأمم القديمة، وهي عادات وشعائر دينية أيضا. فإن الشعوب القديمة لم تكن تفرق كثيرا بين العادات والشعائر بخلاف الحال في الزمن الحاضر. ولاستقبال المولود بدلك جسمه بالحلو أو بالملح أو بما شابه ذلك، معنى التفاؤل. فالحلو رمز السعادة والفرح. وإما الملح، فانه عنصر مهم من عناصر الحياة عند الأمم القديمة. والخبز والملح هما رمز الصداقة والمودة حتى اليوم.
ويسلى الأطفال باعطائهم العرائس والتماثيل الصغيرة يلعبون بها ويقضون وقتهم بالتسلي بها وبمكالمتها على نحو ما يفعل أطفال اليوم. كما يتسلون باللعب معا بألعاب خاصة بالصبيان.
الختان

(1/2473)


--------------------------------------------------------------------------------

ويعد الختان من العادات الجاهلية القديمة، والعرب في ذلك كالعبرانيين. وهو أمر لم يرد ذكره في القرآن الكريم، إنما ورد ذكره في الحديث. وترجع الكلمة إلى أصل سامي شمالي قديم. والختان في الأصل نوع من أنواع العبادة الدموية التي كان يقدمها الإنسان إلى أربابه، وتعد أهم جزء من. العبادات في الديانات القديمة. فقطع جزء من البدن وإسالة الدم منه، تضحية ذات شأن خطير في عرف أناس ذلك العهد، كما كان حلق الشعر كله أو جزء منه نوعا من أنواع التقرب إلى الآلهة. والختان في الإسلام معدود من سن الفطرة التي ابتلى الله إبراهيم بها ؛ وهي الكلمات العشر. وفي جملتها الختان.
وقد كان الجاهليون يسمون من لم يختتن: أقلف وأغلف وأغرل، ويعيبونه، ويعدونه ناقصا. وذكر انتشار هذه العادة عند العرب بعض الكتبة "الكلاسيكيين" مثل: "يوسفوس" المؤرخ اليهودي و " أويسبيوس" و "سوزومينوس" "Sozomenius" ويظهر انه كان معروفا عند العرب الجنوبيين وعند الحبشة كذلك. وقد طبق على النوعين الذكور والإناث. وكانت العرب. تزعم إن الغلام إذا ولد في القمراء قسحت قلفته فصار كالمختون؛ قال امرؤ القيس وقد كان دخل مع قيصر الحمام فراه أقلف، على ما يزعمه أهل الأخيار: إني حلفت يمينا غير كاذبة لأنت أقلف إلا ما جنى القمر
وذكر "يوسفوس " إن العرب يختنون أولادهم عند بلوغهم عشرة من سنهم. ومن الضعف قبول خبره، ويظهر من موارد أخرى إن الجاهليين لم يعينوا عمرا معينا الاختتان وأحسب إن هذا الكاتب اعتمد على ما جاء في التوراة عن اختتان إسماعيل وهو في الثالثة عشرة من عمره، أو انه اعتمد على ما سمعه من بعض القبائل الإسماعيلية الساكنة في المناطق الشمالية الغربية من جزيرة العرب، فظن إن الاختتان عند جميع العرب هو في هذه السن.

(1/2474)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ورد في بعض الأخبار إن الروم حاولوا منع العرب من الاختتان. والاختتان من المناسبات المفرحة المبهجة في حياة الأسرة، لهذا كان من عادة العرب يدعون ذوي القرابة والأصدقاء إلى الولائم ويلبسون الأطفال أحسن ما عندهم من لباس ابتهاجا وفرحا بذلك.
الرجولة
واذا بلغ الطفل، صار رجلا، وجاز له حينئذ إن يفعل فعل الرجال. واحتفل أهله بذلك عند الصنم "Oratai"، الذي يقابل الإله "باخوس" "Bacchus" عند اليونان، ويبلغ الاحتفال غايته عند قص الضفائر ورميها أمامه. لأن ذلك معناه عندهم دخول الشاب في مرحلة الرجولة، ودخوله في عبادة هذا الإله.
والبلوغ أدراك الغلام والجارية. وقد كان أهل مكة إذا بلغت عندهم الجارية أخذوها إلى "دار الندوة" فدرعوها بها، علامة على بلوغها.
ومن أمثال العرب: "ولدك من دمى عقبيك"، أي من نفست به، وصير عقبيك ملطخين بالدم، فهو ابنك حقيقة، لا من أخذته وتبنيته وهو من غيرك. والابن الشرعي، من ينسب إلى أبيه بنسب صحيح، وعزي إلى والده. ويقال: انه لحسن العزوة، أي صحيح النسب حسنه.
والعادة. عند اكثر الساميين نسبة الأولاد إلى الآباء. ونجد اكثر أسماء الجاهليين على هذا النحو. وهناك أشخاص عرفوا بأسماء امهاتهم، والاخباريين في تفسيرها آراء، الغالب انهم اشتهروا بأمهاتهم لما كان لأمهاتهم من كفايات وصفات خاصة جعلت لهن صيتا بعيدا طغى على اسم الرجال، فنسب أبناؤهم اليهن لهذا السبب تمييزا عن بقية الأبناء الذين قد يكونون للرجل من زوجة أخرى. ومن هذا القبيل اشتهار "عمرو" ملك الحيرة ب "عمرو بن هند". واشتهار "المنذر"، وهو أحد الملوك ب "المنذر بن ماء السماء" على رأي من جعل "ماء السماء" اسم والدة الملك.

(1/2475)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم يكن الجاهليين قواعد ثابتة معينة في تسمية المواليد، ففي بعض الروايات إن الأجداد أو الآباء هم الذين كانوا يقومون بتسمية المولود، وفي روايات أخرى ما يفيد قيام المرأة بهذه المهمة. والذي يتبين من غربلة الروايات إن الرجال هم يسمون الأولاد، فيضعون لهم الأسماء. إما تسمية البنات فكانت في الغالب من اختصاص النساء. وقد يثبت اسم المولود ويحدد في اليوم السابع من مولده، أي في يوم "العقيقة". وتذكر كتب السير إن "عبد المطلب" هو الذي سمى الرسول محمدا، في يوم سابعه، أخذه فدخل به الكعبة، ثم خرج به إلى أمه فدفعه إليها، وفي هذا اليوم عق له على عادة العرب في ذلك العهد. وتذكر أيضا إن قريشا "قالوا لعبد المطلب ما سميت أبنك هذا? قال سميته محمدا".
وتختلف التسميات في جزيرة العرب، كما تختلف معانيها، فالأسماء المشهورة عند العرب الجنوبيين والواردة في نصوص المسند لا ترد في قوائم أسماء الجاهليين الذين كانوا يعيشون قبيل الإسلام في نجد والحجاز. وأسماء اكثر ملوك العرب الجنوبيين ولا سيما الذين عاشوا منهم قبل الإسلام هي أسماء مركبة، ولها صلة بالآلة. إما أسماء الملوك الشماليين فأكثرها مفردة مثل المنذر والنعمان والحارث وعمرو وأمثال ذلك. والأسماء الشمالية المركبة لها صلة بالأصنام، ولكن بأصنام العرب الشماليين، مثل عبد مناة، وعبد العزى، وامرئ القيس، وعبد ود وأه وما أسماء سواد الناس، فتختلف كذلك في العربية الجنوبية عنا في الشمال، وفي المواضع الأخرى من جزيرة العرب. وقد احدث الإسلام تغييرا كبيرا في الإنهاء، فاجتث منها كل ما له صلة بالوثنية وبالأوثان، وجاء بتسميات لم تكن شائعة بين الجاهليين، مثل: محمد وعلي وأمثال ذلك من أسماء لها صلة بالرسول وبالصحابة وبتأريخ الإسلام.
ما كان العرب يسمون به أولادهم

(1/2476)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد بحث "الجاحط" في علل التسميات عند العرب وفي أسبابها، فقال: "والعرب إنما كانت تسمى بكلب، وحمار، وحجر، وجعل، وحنظلة، وقرد، على التفاؤل بذلك. وكان الرجل إذا ولد له ذكر خرج يتعرض لزجر الطير والفأل، فان سمع أنسانا يقول حجرا، أو رأى حجرا، سمى ابنه به وتفاءل فيه الشدة والصلابة والبقاء والصبر، وأنه يحطم ما بقي. وكذلك إن سمع أنسانا يقول ذئبا أو رأى ذئبا، تأول فيه الفطنة والخب والمكر والكسب. وان كان حمارا تأول فيه طول العمر والوقاحة والقوة والجلد. وان كان كلبا تأول فيه الحراسة واليقظة وبعد الصوت والكسب وغير ذلك". وجاء بآراء آخرين على هذه التسميات وعلى آرائهم فيه.
وتعرض "الجاحظ" إلى أسماء الحيوان التي تسمى بها الناس. فذكر منها: غراب، وصرد، وفاختة، وحمامة، ويمام، ويمامة، وعقاب، وقطامي، وحجل، و صقر، وصقير، وطاووس، وطويس، وحيقطان، والغرانيق، والغرنوق.
المعمرون
وقد عمر بعض أهل الجاهلية عمرا طويلا، فعدوا من المعمرين في الجاهلية. وروى أهل الأخبار أخبارهم وألف بعضهم كتبا فيهم. فلأبي حاتم السجستاني مؤلف في المعمرين. والعادة عند العرب إن المرء إذا شاخ وكبر بالغوا في تقدير عمره، وزادوا في سني حياته. حتى جعلوا المعمر من عاش فوق المئة عام. ولا يعد المعمر معمرا عندهم إلا إذا عاش مائة وعشرين سنة وصاعدا، وهذا، فلا نستغرب ما يرويه أهل الأخبار عن بعضهم من انهم عاشوا فوق المئة بكثير.

(1/2477)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن المعمرين: الحارث بن كعب بن عمرو بن وعلة بن خالد المذحجي. يزعمون انه عاش مائة وستين سنة. ورووا له وصية في الأخلاق والآداب والمواعظ والحكم. بين فيها انه على دين شعيب النبي، وما عليه أحد من العرب غيره، وغير أسد بن خزيمة، وتميم بن مرة. وأنه لم يصافح غادرا، ولم يتعلق بأخلاق فاجر، ولا صبى بابنة عم له ولا كنة. ولا جاءته مومسة. وأوصى أولاده بالتجمع، وبالموت في سبيل العز، وبالحذر من الناس، وبتزوج الأكفاء وبتجنب الزواج من المرأة الحمقاء، لانتقال المقق منهن، إلى من يلدن. وأوصى بوصل الرحم، وبلزوم إطاعة الوالدين، ونبذ الحقد والضغينة.
ومنهم: المستوغر: وهو عمرو بن ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة. ذكروا انه عاش ثلاثمائة وعشرين، وأدرك الإسلام أو كاد يدرك أوله. ونسبوا له شعرا وحكما.
وحشروا في المعمرين: "دويد بن زيد" من قضاعة. ذكروا انه عاشر أربعمائة سنة وستا وخمسين سنة ونسبوا له وصية فيها: "أوصيكم بالناس شرا، لا ترحموا لهم عبرة، ولا تقيلوا لهم عثرة" إلى آخر ذلك من وصية فيها شدة على الناس وحث لأهله على عدم الرحمة بهم، وألا يرحموا أحدا، والا يهنوا. وهي تمثل وضعا خاصا ورأيا لواضع هذه الوصية ولراويها من أناس زمانه، فيها سوء طن، ووجوب الحذر والاعتماد على النفس: حيث لا ينفع الإنسان في حياته إلا نفسه.

(1/2478)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن المعمرين: زهير بن جناب. عاش مائتي سنة وعشرين سنة. وأوقع مائتي وقعة، وكان سيدا مطاعا شريفا في قومه. فيه عشر خصال لم يجتمعن في غيره من أهل زمانه، كان سيد قومه، وشريفهم، وخطيبهم، وشاعرهم، ووافدهم إلى الملوك، وطبيبهم، وحازي قومه، وكان فارس قومه وله البيت فيهم. وقد نسبوا له وصية، على عادتهم في نسبت هم الوصايا إلى المعمرين. ذكروا انه أوصى بنيه فيها بوجوب التجمع ومقاومة النوائب وترك التخاذل والاتكال، وبعدم الغرور في هذه ا الدنيا، فإنما الإنسان في هذه الدنيا غرض، تعاوره الرماة فمقصر دونه، ومجاوز موضعه، وواقع عن يمينه وشماله، ثم لا بد انه مصيبه. ورووا له شعرا وحكما.
وذكر انه كان على عهد "كليب وائل"، ولم يكن في العرب انطق من زهير ولا أوجه منه عند الملوك، وكان لسداد رأيه يسمى كاهنا، ولم تجمع قضاعة لا علية وعلى رزاح بن ربيعة.
واختلف في عمر "ذو الأصبع العدواني" يوم مات. فذكر بعضهم انه عاش مائة وسبعن سنة. واستقل "أبو حاتم السجستاني" هذا المقدار، فجعله ثلاثمائة سنة. وهو من "عدوان". وأحد حكام العرب في الجاهلية. ونسبوا له على عادتهم بالنسبة للمعمرين حكما وشعرا.
ومن المعمرين الذين ذكرهم أهل الأخبار "معد يكرب الحميرني"، من آل ذي رعين، و "الربيع بن ضيع الفزاري". ذكر انه عاش أكثر من مائتي سنة. وانه لما بلغ مائتين وأربعين سنة قال شعرا في ذلك. وقد عاش في الإسلام أيضا وأدرك ألام معاوية.

(1/2479)


--------------------------------------------------------------------------------

وجعلوا عمر "أبو الطحان القبني" مائتي سنة ونسبوا له حكما وشعرا. وأبى "الكلبي" إن يجعل عمر "عبد المسيح بن بقيلة الغساني"، وهو عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حيان بن بقيلة، أقل من ثلاثمائة وخمسين سنة. وجاراه في ذلك "أبو مخنف" وآخرون. وذكروا انه عاش في الجاهلية وأدرك الإسلام فلم يسلم، ومات نصرانيا. وذكروا إن "خالد بن الوليد" لما نزل على الحيرة، وتحصن منه أهلها أرسلوا إليه "عبد المسيح بن بقيلة" ليكلمه فسأله خالد أسئلة عديدة. منها: أعرب أنتم أم نبط? قال عبد المسيح: عرب استنبطنا ونبيط استعربنا. ثم سأله: كم أتى لك? قال: ستون وثلاثمائة سنة. ثم عاد إلى قومه فنصحهم بمصالحة خالد. ورووا له شعرا في دخول المسلمين الحيرة، وكيف صار أمر "آل المنذر"، وقد تحسر فيه على الأيام الماضية، التي ولت حتى آل الأمر بهم إن يؤدوا الخراج. إلى "معد" التي اقتسمتهم علانية كأقسام الجزور، يؤدون لهم الخراج، بعد خراج كسرى وخراج من قريظة والنضير. ثم خلص إلى إن الدهر هو كذلك لا يدوم على حال. فيوم من مساءة ويوم من سرور.
وذكر إن بعض سادات أهل الحيرة خرج إلى ظاهرها يختط دارا، فلما احتفر موضع الأساس، وأمعن في الاحتفار أصاب كهيئة البيت، فدخله فإذا رجل على سرير من رخام، وعند رأسه كتابة: أنا عبد المسيح بن بقيلة.
حلبت السهر أشطره حياتي ونلت من المنى بلغ المزيد.
وكافحت الأمور وكافحتني فلم أحفل بمعضلة كئود
وكدت أنال في الشرف الثريا ولكن لا سبيل إلى الخلود

(1/2480)


--------------------------------------------------------------------------------

وأدخلوا "النابغة الجعدي"، وأسمه "قيس بن عبد الله بن عدس" في المعمرين. ولكنه لم ينل من أهل الأخبار عمرا يستحق الذكر. إذ منحوه أقصر ما يمكن من العمر بالنسبة للمعمرين. وهو عشرون ومائة سنة. وتفضل "أبو حاتم السجستاني" عليه فمنحه مائتي سنة. وأبو حاتم من. الكرماء جدا بالنسبة لمنح الأعمار إلى المعمرين. وقد أدرك الإسلام فأسلم. ومدح الإسلام بشعر. ويذكر انه جاء الرسول وأنشده من شعره.
وذكر "الجاحظ" نقلا عن المتقدمين عليه، انهم "ذكروا انهم وجدوا أطول أعمار الناس في ثلاثة مواضع: أولها سرو حمير، ثم فرغانة، ثم اليمامة، وان في الأعراب لأعمارا أطول، على إن لهم في ذلك كذبا كثيرا".
أصحاب العاهات
والعمى من العاهات المعروفة بين الجاهليين. منهم من ولد أعمى، أو أصيب بالعمى في طفولته، ومنهم من أصابه وهو على كبر. وذكروا إن من أشراف العميان "زهرة بن كلاب" و "عبد المطلب بن هاشم" و "العباس بن عبد المطلب"، وغيرهم.
و "العور" من العاهات التي كان الجاهليون يعيبون من أصيب به. وكانوا يرمون العوران باللؤم والخبث. وقد أصيب به بعضهم في الحروب. "كأبو سفيان" فقد أصيب يوم الطائف بالعور، وأصيب غيره في معارك أخرى.
وأصيب بعض الناس بالبرص. وقد ذكر "السكري" أسماء جماعة من "البرص الأشراف"، ومن هؤلاء: "جذيمة الأبرش"، الملقب ب "الوضاح"، وذكر إن "الوضح" كناية عن "البرص"، وكانت قريش تخاف البرص خشية العدوى. فأخرجت "أبا عزة عمرو بن عبد الله بن عمير بن وهب" عنها، مخافة العدوى، فكان يكون بالليل في شعف الجبال، وبالنهار يستظل في الشجر، وسقي بطنه، فأخذ مدية فوجأ بها في معدته. فسال ذلك الماء، فبرأ يرصه، ورجع إلى مكة.

(1/2481)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن العاهات "الفقم"، وهو تقدم الثنايا العليا، فلا تقع على السفلى، إذا ضم الرجل فاه. ثم كثر حتى صار كل معوج أفقم و "العرج"، ومن أشهر "العرجان الأشراف" "الحارث بن أبي شمر الغساني"، و "عبد الله ابن جدعان"، و "الحوفزان بن شريك الشيباني"، و "النابغة الذبياني"، وغيرهم.
ومن المعييات في الإنسان، ألا يكون للرحل شعر في وجهه. ويقال لمن عرى وجهه من الشعر "الكوسج". وذكر انه الذي عرى وجهه من الشعر إلا طاقات في أسفل حنكه، كالأثط والثط. والثط هو القليل شعر اللحية والحاجبين. ويقال: رجل ثط ، وامرأة ثطة الحاجبين. ومن الثط "الحارث بن أبي شمر الغساني"، و "المنذر بن النعمان بن ماء السماء اللخمي"، و "عبد الله ابن جدعان" و "قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري".
حياة الشبان
ومن الشبان من كان يقضي وقته بالشراب، وبمصاحبه القيان، وهم أولاد اليسار والمجان. وكان منهم من يأوي إلى منزل أحدهم فيعكفون على اللهو وافي شرب، لا يعبأون ولا يكترثون ومنهم شباب مكة قبل الإسلام. وكان منهم قوم مستهترون لم يبالوا بحرمة ولا بأحد، حتى إن شبابا من شباب مكة سرق من خزانة الكعبة لينفق مما سرقه على شربه وقيانه. وقد عرف هؤلاء ب "الفتيان". وكانوا يقضون أوقاتهم بالشرب وبلبس الملابس النظيفة، وبالسماع إلى القيان كما عرفوا بالسناء على من حولهم وعلى من يجتمع معهم من الفتيان. وكانوا شجعانا، يخرجون إلى القنص والصيد. وقد أشار أهل الأخبار إلى أسماء بعض هؤلاء الفتنيان.

(1/2482)


--------------------------------------------------------------------------------

وشباب الجاهلية مثل شباب أهل كل زمان، لا يختلفون عنهم بشيء، في تأنق بعض منهم وفي محاولته إظهار شبابه تجاه البنات. فكان شباب القرى والمدن ولا سيما الوضيئون منهم وأهل الجمال يتسكعون في الأسواق وفي مواضع التجمع، بل وحتى في المعابد ليعبثوا في كلامهم مع البنات وليتحدثوا إليهن، شأن أي شاب في هذه الدنيا بالنسبة إلى الشابات. وقد اضطر آباء وأقرباء بعض هؤلاء الشباب على تقريع أبنائهم لتجاسرهم على بنات الحي. حتى منع البعض من الشباب الجميل من التأنق في الملبس حتى لا يلفتوا إليهم أنظار البنات، فيثن فيهم عاطفة الجموح نحو التشبب والحب.
وذكر "محمد بن حبيب" أسماء رجال من مكة كانوا يتعممون مخافة النساء على أنفسهم من جمالهم. ويظهر انهم كانوا يرخون العمائم حتى تنزل على الوجه فتخفي معالمه، ولا يبدو عندئذ شيء من معالم جمال ذلك الشخص. ولم يذكر فيما إذا كانوا قد فعلوا ذلك من أنفسهم ضبطا للنفس من الوقوع في غوى الشيطان، وتحت تأثير سعر العيون، أم انهم أجبروا على ذلك إجبارا، على نحو ما كان يفعله أهل مكة بالنسبة إلى المستهترين من شبابهم، ليكون التعميم أحد الحواجز التي تحول دون سقوط عين المرأة. على الشاب الجميل أو الرجل الجميل. أو انهم فعلوه هم، على انه "موضة" وذي من أزياء الشباب. ومن الرجال الذين ذكر "ابن حبيب" انهم تعمموا مخافة النساء ولم يكونوا من أهل مكة، "امرؤ القيس بن حجر الكندي"، و"قيس بن الخطيم" الأوسي، و "ذو الكلاع الحميري"، و "زيد الخيل بن مهلهل الطائي". ولم يذكر السبب لم في إقحام مثل هذه الأسماء في موضوع التعمم بمكة. هل ذكرهم بمعنى انهم كانوا إذا قدموا مكة تعمموا، خشية الوقوع في هوى النساء، فيجلب عليهم صداعا وصداما مع أهل أولئك النسوة، أو انه ذكرهم بمعنى انهم كانوا يتعممون مثل أهل مكة حذر الوقوع في الحب، فدرج أسماءهم في هذا الموضع لهذه المناسبة.

(1/2483)

admin
12-31-2010, 08:01 PM
وقد ذكر "ابن حبيب" إن "الحضر"، وهو أحد من كان يتعمم مخافة الوقوع في حب النساء، لم يكتف بالتعم، بل تبرقع أيضا. ولعله فعل ذلك بتأثر ديني، أخذ ذلك عن الرهبان والمتزمتين بدينهم من أهل الجاهلية الذين حجبوا أنفسهم عن الناس وآووا إلى الغار أو قمم الجبال للتبصر والتأمل والابتعاد عن الملأ، ولا سيما عن النساء.
الفتيان
واعرف شباب أبناء الأغنياء والجاه ب "الفتيان". وأحدهم "فتى". ويراد به الشاب. وقد تطلق على السخي الكرم، وهو من "الفتوة". وكثيرا ما نقرأ في كتب أهل الأخبار جملا" تشير إلى "الفتوة" في الجاهلية، مثل "وهو من فتيان قريش أيضا". يريدون بذلك جماعة من أبناء الأسر عاشت عيشة شباب وعبث، تلهو وتشرب، وتنفق وتعطي، وتغيث، وتتسابق، وتقتل وقتها في اللذة والاستمتاع وفي الأنفاق على الجسد، على نحو ما يفعله أبناء الطبقة المترفة في كل وقت. وقد كانت لها نجدة وشهامة، إذا استنجد بأحدها هب لنجدة المستنجد ودافع عنه.
الأحامرة
والحياة عند بعض الناس: خمر ولحم وخلوق. فهي متع الحياة عندهم. قال الأعشى: إن الأحامرة الثلاثة أهلكت مالي وكنت بها قديما مولعا
الخمر واللحم السمين وأطلي بالزعفران فلن أزال مبقعا
والحياة عند البعض خمر ونساء. واتهمت المرأة بحبها الحلي والطيب. ورد: "أهلك النساء الأحمران. يعنون الذهب والزعفران، أي أهلكهن حب الحلي والطيب". وورد "الأحمران: اللحم والخمر". ويقال للذهب والزعفران: الأصفران، وللماء واللبن الأبيضان، والتمر والماء الأسودان. وفي الحديث: أعطيت الكنزين الأحمر والأبيض. والأحمر الذهب والأبيض الفضة. والذهب كنوز الروم، لأنها الغالب على نقودهم. وقيل أراد العرب والعجم. وقيل: الأحامرة: اللحم والخمر والخلوق. وورد الأحمران: الخمور والبرود.
الخمور

(1/2484)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي مجتمع الحياة فيه على وتيرة واحدة، والفراغ فيه أكثر من العمل، ومرافق اللهو والتسلية فيه قليلة أو معدومة، والفقر فيه أكثر من الغنى، وتشغيل الفكر. فيه محدود ضيق-في مجتمع كهذا المجتمع لا بد وان يقبل الناس فيه على قتل فراغهم بالبحث عن شيء ينسيهم فراغهم وفقرهم وشدة حاجتهم، ويلهيهم عن قساوة الطبيعة عليهم، ويبعث فيهم الأمل والطرب والنشوة، والشعور بأنهم سادة ملكوا الدنيا، وان كل واحد منهم هو "رب الخورنق والسدير"، فكان إقبالهم على الخمر شديدا، حتى أفرطوا في شربه وآذى بعضهم نفسه من شدة لا إقباله عليه، فصار آفة من الآفات، حتى ضحى شاربه بمركزه وماله في سبيله، فكان ذلك من عوامل تحريمه في الإسلام.
وقد كان الخمر من متع الحياة الثلاث بالنسبة للشباب. والمتع الثلاث: الخمر والقمار والنساء. فإذا أضيفت الشجاعة إليها صار الفتى من خيرة الفتيان، لذلك كان الشباب يفتخرون إذا جمعوا بين هذه المتع ويتباهون على غيرهم بها. وربما ارتكبوا المعاصي والمخالفات في سيبل الحصول على المال للأنفاق على متعهم هذه وعلى ملذاتهم وملاهيهم في هذه الحيان.
ومن أسماء الخمر: العقار، سميت لمعاقرتها أي لملازمتها السن. والمعاقرة الإدمان ومعاقرة الخمر إدمان شربها. وقيل سميت عقارا لأن أصحابها يعاقرونها أي يلازمونها أو لعقرها شاربها عن المشي، وقيل هي التي لا تلبث إن تسكر.
والسكران نقيض الصاحي. والسكر حالة تعترض بين المرء وعقله. وأكثر ما يستعمل ذلك في الشراب المسكر. و "السكير" الكثير السكر. و "المدمن" هو الملازم للشراب وغيره، لم يقلع عنه، فهو يلازمه ولا يقلع عن شربه أو شرب الخمر.

(1/2485)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد أدمن كثير من أهل الجاهلية على شرب الخمر، وهلك قسم منهم بسببها. وقد حذر من ذلك الإسلام فورد: "مدمن الخمر كعابد الوثن"، و "لا يدخل الجنة مدن خمر" وعرف علماء اللغة "الخمر" بما أسكر من عصير العنب ومن عصير كل شيء يسكر. ولما نزل الأمر بتحريم الخمر، كان شرابهم بالمدينة يومئذ الفضيخ، البسر والتمر في الغالب. غير إن الجاهلين كانوا يصنعون الخمر من أي شيء يقع في أيديهم مما يمكن تخميره للحصول على مادة مسكرة منه مثل الحبوب الأعشاب وغير ذلك، بل كان منهم من يخمر اللبن، ولا سيما للبان الإبل، الانتشاء بها. و "النشوة" السكر.
وكان أهل المدينة يسقون ضيوفهم شرابا من الفضيخ. فإذا جاءهم ضيف سقوه منه. كانوا يضعونه في قلال وجرار وهو خليط من بسر وتمر، ومن تمر وزهو. والزهو هو البسر الملون الذي ظهرت فيه الحمرة والصفرة، كما كانوا يصنعونها من خلط الزبيب والتمر أيضا. وكانوا يجلسون مجلسهم، ويسقيهم أحد أبناء صاحب الدار أو خادم من خدمه، من قلال أو كؤوس يدرر بها عليهم قليلا قليلا.
واستخرج أهل اليمن من الشعر شرابا عرف عندهم باسم "المزر". وذكر إن "المزر" نبيذ الذرة والشعير والحنطة والحبوب، وقيل: نبيذ الذرة خاصة. وذكر أبو **** إن ابن عمر فسر الأنبذة، فقال: البتع نبيذ العسل، والجعة نبيذ الشعير، والمزر من الذرة، والسكر من التمر، والخمر من العنب. وورد إن أهل اليمن كانوا يتخذون شرابا مسكرا من القمح يستعينون به على برد بلادهم ويتقوون به على عملهم. وقد منعوا عن ذلك في الإسلام حين. نزل الأمر بتحريم الخمور.
ومن الخمور نوع اشتهر في العراق باسم "الخمور الصريفية" نسبت إلى قرية "صريفون" عند "عكبراء" في العراق، وإياها عنى الأعشى بقوله: وتجبى إليه السيلحون ودونها صريفون في أنهارها والخورنق
ووصف الأعشى في شعر آخر الخمر الصريفية فقال: تعاطي الضجيع إذا أقبلت بعيد الرقاد وعند الوسن

(1/2486)


--------------------------------------------------------------------------------

صريفية طيب طعمها لها زبد بين كوب ودن
وذكر بعض العلماء إنها إنما عرفت بصريفية.، لأنها.أخذت من الدن ساعتئذ كاللبن الصريف.
وكانوا يضعون خمرهم في زق يحملونه معهم، فأينما يكون الإنسان يكون خمره معه. وقد كانوا يكثرون من استعماله كما يظهر ذلك من روايات أهل الأخبار مع فقر شاربها وعدم وجود طعام عنده. أما في المدن والقرى والحواضر، فهناك خمارات، جمعت إلى الخمر وسائل المتع الأخرى، يقصدها أهل المكان والغرباء الاستمتاع بها، والترفيه عن خاطرهم. وقد هيأت بعض الخمارات المغنين فيها وجلبوا إلى حاناتهم أنواع الخمور.
وكانت الخمارات منتشرة في كل مكان، ولا سيما على الطرق. حيث ينزل بها المسافرون الاستراحة واستعادة النشاط بعد تعب ونصب. وكان بمكة وبسائر القرى خمارات كذلك. أصحابها نصارى ويهود في الغالب. ومعظمهم من غير العرب، وفدوا من الخارج للتكسب والعيش فامتهنوا مهنة بيع الخمر وإسقائها للناس. وقد عرفت "الخمارة" بالحانوت. يذكر علماء اللغة إن "الحانوت دكان الخمير". وقد أشير إلى بالحانوت في الشعر الجاهلي. وكانت العرب تسمي بيوت الخمارين الحوانيت. وأهل العراق يسمونها المواخير. وورد إن الخليفة "عمر" أحرق بيت "رويشد الثقفي"، وكان حانوتا يعاقر فيه الخمر ويباع. وعرفت "الخمارة" بالدكة أيضا.
وقد يجتمع فتيان من مواضع شتى للشرب، فيقال لهم "الأندرون". يتنادرون فيما بينهم بما شذ وخرج من الجمهور. وذكر إن قول عمرو بن كلثوم: ألا هبي بصحنك فاصبحينا ولا تبقي خمور الأندرينا
هو في هذا المعنى.

(1/2487)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد تاجر اليهود بالخمر، وفتحوا لهم الخمارات في الأماكن التي أقاموا بهام من جزيرة العرب، فقصدها الناس للشرب. ومن جملتهم الشاعر الأعشى الذي كان كلفا بشرب الخمر حريصا على تعاطيها، قيل انه عزم على الدخول في الإسلام وأراد الذهاب إلى الرسول لينشده ويعلن أمامه دخوله في الإسلام، ونظم شعرا في مدحه، فأدرك "أبو سفيان" ما في شعر،"الأعشى". في مدح الرسول والإسلام من أثر في تصرفه وفي إضعاف قريش، فلقيه وحادثه وكلمه وجاءه من ناحية نقطة الضعف التي كانت فيه. وهي حبه للخمرة. فهيج أشجانه فيها، وأظهر له كيف. إن الإسلام حرمها على المسلمين، وجعل في شربها الحد، فهو سيحرم من متعته الوحيدة التي بقيت له في حياته إن دخل في الإسلام. وأثار فيه الحنين إليها، ورغبه في الذهاب. إلى قومه والمكوث هناك سنة يشربها، ثم في يرى رأيه بعد ذلك، فإما إن يستمر على شربها، وإما إن يعافها ويدخل في الإسلام، على إن يأخذ مقابل ذلك مائة من الإبل. فأثر كلام "أبو سفيان" فيه، وأخذ الإبل وذهب بها إلى قومه وأقام ب "منفوحة" حتى مات بها قبل الحول.
وذكر "بلينيوس" إن العرب كانوا يصنعون الخمر من النخيل، وذلك كما يفعل سكان الهند. ويقصد بذلك التمور بالطبع. وقد ذكر ذلك من باب التنويه بالأمور الغريبة. فليس استخراج الخمر من التمور مألوفا عند اليونان والرومان ولهذا السبب أشار إليه، ليقف عليه قومه. غير إن العرب كانوا يستخرجون النبيذ من الكروم أيضا، وذلك في الأماكن التي توفرت فيها الكروم، مثل الطائف واليمن. وقد أشار "سترابون" إلى صنع الخمر من التمر.
أما خمور العرب فمن البتع، وهو نبيذ العسل، وهو خمر أهل اليمن. ومن التمر ومن البر والشعير والزبيب. ولأهل اليمن شراب من الشعير، يقال له المزر، أشرت قبل قليل إليه.

(1/2488)


--------------------------------------------------------------------------------

وشرب الجاهليون أشربة استخرجوها من الذرة ومن مواد أخرى. فقد.صنع أهل اليمن "المزر" من الذرة أيضا. فلما أسلم قوم منهم سألوا الرسول عنه. فقال لهم: أله نشوة? فلما قالوا له: نعم، قال: فلا تشربوه.
وانتبذوا في "النقير": أصل النخلة ينقر فينبذ فيه، فيشتد نبيذه. وذكر إن أهل اليمامة كانوا ينقرون. أصل النخلة ثم يشدخون فيها الرطب والبسر ثم يدعونه حتى يهدر ثم يموت، وانتبذوا. في "الختم": الجرار الخضر، وفي "الدباء"، اليقطين، وفي "المزفت" أي ما طلي بالزفت.
ومن الخمور "المقدى". يتخذ من العسل على بعض الروايات. يقال انه من قرية تسمى "المقدة" بالأردن، وقيل هي في طرف حوران قرب أذرعات.
وللخمر أسماء عديدة، ذكرها علماء اللغة. منها ما هي معربة. عربت عن اليونانية، أو الفارسية، أو السريانية، لأنها استوردت من بلاد الشام، أو العراق.
ومن الخمور خمر يقال له: "الاسفنط". وهو المطيب من عصير العنب. وقيل هي خمر فيها أفاويه، أو أعلى الخمر وصفوتها. وذكر إن اللفظة "رومية". قال الأعشى: وكان الخمر العتيق من الا سفنط ممزوجة بماء زلال
باكرتها الأغراب في سنة النو م فتجرى خلال شوك السيال

(1/2489)


--------------------------------------------------------------------------------

واستعمل الجاهليون أواني الشرب المصنوعة من الزجاج والبلور ومن الذهب والفضة، واستعملوا أواني أخرى تتناسب مع منزلة الشارب ومكانته. وقد كان ملوك الحيرة وملوك الغساسنة يشربون بالآنية الغالية، وبعضها منقوش. وكذلك تفنن أغنياء مكة في الشرب، فاستعمل عبد الله بن جدعان الأواني المصنوعة من الذهب في شربه، حتى ضرب به المثل، فقيل: "أقرى من حاسي الذهب"، وعرف ب "حاسي الذهب". وشرب غيره من أصحاب الثراء بأواني غالية استوردوها من الخارج، على حين كان أكثر سكان مكة فقراء لا يملكون شيئا. ولهذا ورد في الحديث النهي عن الشرب بآنية الذهب والفضة. وقد ذكر إن النابغة الذبياني، وهو من شعراء الجاهلية الكبار، كان لا يأكل ويشرب إلا في آنية الذهب والفضة، من عطايا النعمان وأبيه وجده، ولا يستعمل غير ذلك.
وحرم قوم من الجاهلين الخمر على أنفسهم، وأكثرهم ممن يسمون الأحناف، ومنهم من كان يشربها ويقبل عليها، ولكنه وجد نفسه وقد قام بأعمال لم يرتضيها، جعلته يشعر بالخجل منها، فتركها وحرمها على نفسه. ويذكر أهل الأخبار إن أول من حرمها على نفسه وامتنع منها في الجاهلية، هو "الوليد بن المغيرة". وهو رجل ينسب إليه أهل الأخبار جملة أمور، منها انه أول من خلع نعليه لدخول الكعبة في الجاهلية، فخلع الناس نعالهم في الإسلام " وأول من قضى بالقسامة في الجاهلية فأقرها الإسلام، وأول من قطع في السرقة في الجاهلية، فأقرها الإسلام. ويذكرون إن الجاهليين كانوا يقولون: " لاوثوبي الوليد، الخلق منهما والجديد".

(1/2490)


--------------------------------------------------------------------------------

وممن ترك الخمر في الجاهلية "عبد الله بن جدعان"، وسبب تركه لها انه شرب مع أمية بن أبي الصلت الثقفي، فلطم وجه "أمية" بعد إن ثمل، فأصبحت عينه مخضرة فخاف عليها الذهاب، فسأله عبد الله: ما بال عينك? فقال: أنت أصبتها البارحة. قال: وبلغ مني الشراب ما ابلغ معه من جليسي هذا المبلغ، فأعطاه عشرة آلاف درهم، وقال: الخمر علي حرام، لا أذوقها أبدا. وذكر أيضا انه سكر فجعل يساور القمر. فلما اصبح أخبر بذلك، فحرمها. إلى غير ذلك من قصص.
وممن حرمها في الجاهلية، قيس بن عاصم المنقري، وعامر بن الظرب العدواني، وصفوان بن أمية بن محرث الكناني، وعفيف بن معد يكرب الكندي، والاسلوم ابن اليامي من همدان، ومقيس بن عدي السهمي، والعباس بن مرداس السلمي، وسعيد بن ربيعة بن عبد شمس، وورقة بن نوفل، والوليد بن المغيرة، وأبوه أمية بن المغيرة، والحارث بن **** المخزومى، وزيد بن عمر. بن نفيل، وعامر ابن جذيم الجمحي، وأبو ذر الغفاري، ويزيد بن جعونة الليثي، وأبو واقد الحارث بن عوف الكناني، وعمرو بن عبسة، وقس بن ساعدة الإيادي، و**** ابن الابرص، وزهير بن أبي سلمى المزني، والنابغتان الذبياني والجعدي، وحنظلة الراهب بن أبي عامر، وقبيصة بن اياس الطائي، واياس بن قبيصة بن أبي غفر، وحاتم الطائي، و "سويد بن عدي بن عمرو بن سلسلة الطائي".
وذكر إن ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية: "بشير الثقفي". وكان نذر في الجاهلية إلا يأكل الجزور ولا يشرب الخمر.

(1/2491)


--------------------------------------------------------------------------------

وروي إن "عفيف بن معد يكرب الكندي"، عم الأشعث بن قيس، كان قد طلق الخمر وحرمها على نفسه وحرم معها القمار والزنى، والثلاثة من أهم وسائل التلهي والتمتع بالحياة عند الجاهليين. وكان قيس بن عاصم يأتيه في الجاهلية تاجر خمر فيبتاع منه ولا يزال الخمار في جواره حتى ينفد ما عنده. فشرب قيس ذات يوم فسكر سكرا قبيحا، فجذب ابنته وتناول ثوبها، ورأى القمر فتكلم بشيء ثم نهب ماله ومال الخمار. فلما صحا أخبرته ابنته بما صنع وما قال فآلى لا يذوق الخمر.
وبعض هؤلاء هم من الحنفاء، وبعضهم من السادة الأشراف الذين لم يتذوقوها، أو انهم تعاطوها ثم رأوا ضررها فتركوها وحرموها على أنفسهم. ويظهر إن بعضهم قد حرمها على نفسه وعلى آله أيضا، فذكر مثلا إن الوليد بن المغيرة ضرب فيها ابنه هشاما على شربها، ولعل منهم من كان يستعمل، الحد، وهو الجزاء الذي قرره الإسلام على شاربي الخمر.
وقد أشار أهل الأخبار إلى وقوع حوادث لأكثر من ذكرتهم دفعت بهم إلى تحريم الخمر على أنفسهم، كالذي ذكرته من أمر عبد الله بن جدعان، وكالذي أشار إليه أهل الأخبار من تحرش بعضهم بمحارمهم تحرشا لا يفعله إنسان سوي، أو تخليطهم أثناء سكرهم وقيامهم بأعمال مضحكة صيرتهم سخرية الحاضرين، فلما صحوا وسمعوا بما فعلوا ندموا على ما بدا منهم، وقرروا اجتنابها وتحريمها على أنفسهم منذ ذلك اليوم.
وكان الجاهليون يشتدون على النساء في شرب الخمر حتى لم يحفظ إن امرأة سكرت.
المخدرات
لم اعثر على نص جاهلي جاء فيه ذكر لاستعمال أهل الجاهلية المخدرات، ولم اعثر في أخبار أهل الأخبار على خبر يفيد تعاطي الجاهليين لها. ولكن هذا لا يعني. نفي معرفة عرب الجاهلية بالمخدرات، ويظهر إن إفراطهم في تناول الخمور ووجود الخمور الرخيصة لديهم، وتحضيرهم لها بطرق بدائية رخيصة، ونخدرهم بها، كانت من الأمور التي صرفتهم عن استعمال المخدرات الأخرى التي ربما زاد ثمنها على ثمن الخمر.

(1/2492)


--------------------------------------------------------------------------------

الانتحار بشرب الخمر
وقد قتل بعض الجاهلين أنفسهم بشرب الخمر. صرفا، ذكر "السكري" منهم "عمرو بن كلثوم الثعلبي". وكانت الملوك تبعث إليه بحياته وهو في منزله من غير إن يفد إليها. فلما ساد ابنه الأسود بن عمرو، بعث إليه بعض الملوك بحبائه كما بعث إلى أبيه، فغضت "عمرو" وقال: "ساواني بولدي"، وحلف لا يذوق دسما حتى يموت، وجعل يشرب الخمر على غير صرفا على غير طعام، فلم يزل يشرب حتى مات.
وأهلك "البرح بن مسهر الطائي،" نفسه بشرب الخمر الصرف كذلك، في قصة ذكرها "السكري".
و "زهير بن جناب بن هبل"، هو ممن أتلف نفسه بشرب. الخمر أيضا، لما خالفه ابن أخيه عبد الله بن عليم بن جناب، فانزعج من ذلك وغضب، وأمات نفسه بشرب الخمر. ذكر انه قال في ابن أخيه: "عدو الرجل ابن اخيه، غير انه لا يدع قاتل عمه".
وذكر إن "ابا براء بن مالك بن جعفر"، قتل نفسه بشرب الخمر أيضا، انتحر لمخالفة قومه أمره. فدعا قينتين له، فشرب، وغنتاه، ثم دعا بالشاعر "لبيد"، وطلب منه إن يقول ما يقول فيه من المراثي، فلما أثقله الشراب، اتكأ على سيفه حتى مات.
الاغتيال
الغيلة: هي الخديعة وإيصال الشر أو القتل إلى إنسان من حيث لا يعلم ولا يشعر. وقد كان معروفا بين الجاهليين، شجع على ظهوره وانتشاره بينهم، عرف الأخذ بالثأر، والتنافس الذي كان بينهم على الرئاسة والوجاهة، وقواعد مجتمع ذلك الوقت التي كانت تقيم وزنا كبيرا الكلمة، والمدح والهجاء، ولتقديم شخص على شخص في الجلوس في الجلوس من المجالس، فكانت هذه الأمور وأمثالها تدفع من يتعرض لها على الانتقام ممن أهانه والتربص به وتتبع آثاره حتى يتمكن من قتله أو اغتياله.
وقد اتبع المغتالون أساليب شتى في الاغتيال. منها الطعن بالرمح أو بالخنجر أو بالسكن، ومنها الذبح، والخنق، ومنها اللجوء إلى الحيلة بدس السم في الشراب أو الطعام، إلى غير ذلك من أسباب الغيلة.

(1/2493)


--------------------------------------------------------------------------------

والغيلة غير الفتك. ذكر إن الفتك إن يقتل الرجل الرجل مجاهرة. وهو إن يأتي الرجل صاحبه وهو غار غافل حتى يشد عليه فيقتله، وان لم يكن أعطاه أمانا قبل ذلك، ولكن ينبغي له إن يعلمه ذلك.
قال المخبل السعدي: وإذ فتك النعمان بالناس محرما فمن لي من عوف بن كعب سلاسله
وكان النعمان بعث إلى "بني عوف بن كعب" جيشا في الشهر الحرام، وهم آمنون غارون فقتل فيهم وسبا.
ولمحمد بن حبيب السكري، كتاب ذكر فيه أسماء المغتالين من الأشراف في الجاهلية والإسلام، وأسماء من قتل من الشعراء. بدأ فيه ب "جذيمة الأبرش" الذي غدرت به "الزباء" ملكة "تدمر"، فأجلسته على نطع، وسقته الخمر، ثم أمرت بقطع رواهشه، حتى مات. ثم ثنى ب "حسان بن تبع"، فزعم إن أخاه قتله غيلة وهو نائم على فراشه، طمعا في ملكه، ثم تكلم في "عمليق" ملك طسم، وكانت منازلهم "عذرة" في موضع اليمامة. وذكر في جملة من ذكرهم اسم "عمرو بن مسعود" و "خالد بن نضلة" من بني "أسد". وكانت أسد وغطفان حلفاء لا يدينون ويغرون عليهم، فوفدا سنة من السنين رمعهما "سبرة بن عمير الفقعسي" الشاعر، على "المنذر" الأكبر اللخمي، فكلمهما في أمر دخولهما في طاعته والذب عنه كما ذبت "تميم" و "ربيعة"، فعلم انهم لا يدينون له. فقرر الكيد بهما، فأومأ إلى الساقي فسقاهما سما، فماتا، ثم ندم على ما فعل، فأمر فحفر لهما قبران ودفنا فيهما، وبنى عليهما منارتين، وهما "الغريان" وعقر على كل قبر خمسين فرسا وخمسين بعيرا، وغراهما بدمائهما، وجعل يوم نادمهما يوم نعيم، ويوم دفنهما يوم بؤس.
وقد كان خنق الأشخاص في جملة وسائل الاغتيال والتخلص من الأعداء، وقد ذكر إن الملك "النعمان بن المنذر"، أمر بخنق "عدي بن زيد العبادي"، فمات منه. ويكون الخنق بالضغط الشديد على الرقبة باليد، وباستعمال الحبل أو قطع القماش. ويقال الحبل الذي يخنق به "الخناق".

(1/2494)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر إن "الحكم بن الطفيل"، لما انهزم في نفر من أصحابه يوم "الرقم" "حتى انتهوا إلى ماء يقال له المرورات، فقطع العطش أعناقهم فماتوا، وخنق ابن الطفيل نفسه مخافة المثلة، فقال في ذلك عروة بن الورد: عجبت لهم اذ يخنقون نفوسهم ومقتلهم تحت الوغى كان أعذرا
الصيد
والصيد في جزيرة العرب رغبة وحاجة. رغبة الملوك والرؤساء والأثرياء للأنس والترويح عن النفس، وحاجة عند السواد وهم ققراء في الغالب لا يملكون شيئا، فلحم الصيد نعمة كبرى لهم وغذاء طيب لا يصل إليهم دائما.
إما اصطياد الرؤساء والأثرياء فبالاستعانة بالصقور في الغالب، حتى إذا قبل كنا نتصقر، انصرف الذهن في الحال إلى الصيد، لاستعمال الطيور في الصيد، حيث تدرب تدريبا خاصا وتعلم تعليما متقنا، فإذا رأت الحيوان انقضت عليه، فلا تتركه يستطيع الحركة والهرب إلى إن يصل الصياد إلى الفريسة المسكينة. ويدعى قيم الصقور ومعلمها "الصقار". وتستعل كلاب الصيد كذلك، وهي كلاب سريعة مدربه تدريبا خاصا، فإذا رأت الصقر فوق الفريسة عدت خلفها لتساعد الصقر في القبض على الحيوان فلا يهرب ويولي. ومنها ما تفتش عن مواضع اختفاء الحيوانات، فإذا شعرت بوجود حيوان في كهف أو مغارة تدخل إليها أو تقوم بحركات تضطره إلى الخروج فيصطاده الصياد. وقد تستعمل الخيل كذلك. وهي لم تكن كثيرة في الجاهلية، ولا يملكها إلا المتمكنون.
وقد ذكر الصيد في آيات من القرآن الكريم، مما يدل على أهميته ومكانته في حياة العرب يومئذ. ويقال للصياد القانص كذلك. وأما استثارة الصيد وأخراجه، فيعبر عن ذلك بلفظة "النجش"، والمنجاش والنجاش هو المثير للصيد. ويقال: هبض الكلب إذا حرص على الصيد وقلق نحوه، ويقال أيضا: غربت الكلاب، إذا أمعنت في طلب الصيد.

(1/2495)


--------------------------------------------------------------------------------

وكانت العرب تعيش في الغالب بلحوم الصيد، وكانت خيلهم تسهل عليهم نيل صيدهم، وتعينهم على الوصول إلى غايتهم. فكانت عندهم من اعز الأموال وايمن الأشياء يعتنى بها اعتناء الرجل بنفسه، ولولاها حرم من لذة أكل اللحوم. وكانت إذا إغارتها على صيد، خضبوا تحر السابق بدم ما يمسكونه من الصيد، علامة على كونه السباق الذي لا يدرك في الغارات.
ولأهل الجاهلية عناية خاصة ب "الصقور". يربونا تربية خاصة. وذكر علماء اللغة إن كل شيء يصيد من البزاة والشواهين، صقر. وقد أشير إلى صيد "الصقور" في الحديث.
وقد استعانوا بالكلاب السريعة الجري في الصيد كذلك. وقد عنوا بتربية أنواع ذكية سريعة الجري منها لمطاردة الفريسة، إذا أدركتها نهشتها أو قبضت عليها، فيأتي الصياد، فيأخذها منها.
ويتحايل الصيادون في الاصطياد، فيحفرون حفيرة تلجف من جوانبها، أي يجعل لها نواحي، وتعرف عندهم بالقرموص، وذلك للتمويه على الحيوان. وقد يتخذ الصياد أو أي شخص آخر موضعا فوق أطراف الشجر والنخل خوفا من الأسد، فيقال لذلك "العرزال". وأما " الزبية" فحفرة تحتفر الأسد، وكذلك "الزونة"، و "القترة" حفرة يحتفرها الصائد يكمن فيها حتى لا يشعر به الصيد. وقد يدخن الصائد في قترته لكيلا تجد الوحش ريحه، ويقال لذلك "المدمر". و " الروق" موضع الصائد، و " الدجية" قترة الصائد. وهناك ألفاظ أخرى من هذا القبيل يراد بها الحفر التي يستتر بها الصيادون في الصيد.

(1/2496)


--------------------------------------------------------------------------------

ويستخدم الصيادون جملة أدوات في الاصطياد، منها آلة تسمى "الجرة "، وهي خشبة نحو الذراع يجعل في رأسها كفة وفي وسطها حبل، فإذا نشب فيها. الظبي ناوصها واضطرب، فإذا غلبته استقر فيها. و "الحبالة" الحبل الذي يصاد به. و "الأحبول" حبالة الصائد. وأما " الشرك" فحبائل الصائد والواحدة " شركة" و " المصلاة" شرك ينصب الصيد، و "الكصيصة" حبالة الظبي التي يصاد بها. وهناك آلة تشبه المنجل تشد بحبالة الصائد ليختطف به الظبي يقال لها "الخاطوف". وأما "الرداعة" فمثل البيت تجعل فيه لحمة يصيد الصياد به الضبع والذئب. ويتخذ الصيادون بيتا يبنونه من حجارة، ثم يجعلون على بابه حجرا يقال له السهم. والملسن. يكون على الباب، ويجعلون لحمة السبع في مؤخر البيت فإذا دخل السبع لتناول اللحمة، سقط الحجر على الباب فسدها، وبذلك يحيس، فلا يستطيع الخروج. ويقال لذلك البيت "الرواحة". وأما "الجريئة"، فإنها بمعنى "الرداعة". ولعرقبة الحمير الوحشية تستعل آلة خاصة تشبه الهلال يقال لها "هلال الصيد".
وتستعمل الشباك في الصيد كذلك. تستعمل قي صيد البحر والبر. ويغدف الصياد بالشبكة على الصيد ليأخذه. وأما القصبة التي تصاد بها العصافير، فيقال لها الغاية. والغاية الراية كذلك. وأما "الرأمق" و الرامج " فبمعنى الملواح الذي يصاد به البزاة والصقور، وهو أن يؤتى ببومة فيشد في رجلها شيء أسود، ويخاط عيناها. ويشد في ساقيها خيط طويل، فإذا وقع عليها البازي صاده الصياد من قترته. ويقال إنها لفظة عجمية. وقد تعشى الطيور بالليل بالمنار ليصيدوها، ويعبرون عن ذلك بجملة: قمر القوم الطير.

(1/2497)


--------------------------------------------------------------------------------

و "المفقاس" عودان يشد طرفاهما بخيط، كالذي في وسط الفخ، ثم يلوى أحدهما، ثم يجعل بينهما شيء يشدهما، ثم يوضع فوقهما الشركة، فإذا أصابها شيء، وثبت، ثم أغلقت الشركة في الصيد. والعطوف والعاظوف مصيدة فيها خشبة منعطفة الرأس، والمقلة والقلة عود يجعل في وسطه حبل، ثم يدفن، ويجعل للحبل كفة فيها عيدان، فإذا وطئ الظبي عليها.عضت على أطراف اكارعه. وأما الدواحيل فخشبات على رؤوسها خرق، كأنها طرادات قصار، تركز في الأرض لصيد حمر الوحش. وأما البجة، فإنها "الرداحة". وأما "اللبجة"، فإنها حديدة ذات شعب كأنها كف بأصابعه تنفرج، فيوضع في وسطها لحم ثم يشد إلى وتد، فإذا قبض عليها الذئب، التبجت في خطمه، فقبضت عليه، وصرعته. و "النامرة" مصيدة تربط فيها شاة للذئب.
وقد يستتر. الصياد بحيوان أو غيره ليخفي نفسه عن الصيد، وبقال لذلك "الدريئة"، وبهذا المعنى "الذريعة" و "الرقيبة" و "السيفة"، وإذا استتر الإنسان بالبعير من الصيد فيقال لذلك "المسوق".
وفي جزيرة العرب حيوانات وحشية، وقد قل فيها الأسد الآن. أما في الجاهلية، فقد كان معروفا في مواضع عديدة عرفت عندهم بالمآسد، جمع مأسدة، وقد كانوا يصطادونه بطريقة إسقاطه في حفر تغطى، فإذا سار عليها الأسد سقط فيها، وبطرق أخرى. وهناك الفهود والنسور والضباع والذئاب، وتكثر القردة في المناطق الجبلية وفي النجود، وهي لا تزال موجودة في نجود الحجاز واليمن والعربية الجنوبية.

(1/2498)


--------------------------------------------------------------------------------

ويقال لمأوى الأسد في خيسه: "العريس" "والعريسة". ويصعب صيده وهو في مكمنه، وضرب المثل بذالك فقيل: "كمبتغي الصيد=في عريسة الأسد" وقال طرفة: كليوث وسط عريس الأجم ومن الحيوانات الوحشية المعروفة في جزيرة العرب الحمار الوحشي. ويظهر إن بعض الناس كانوا يأكلونه، بدليل ما ورد في كتب الفقه من النهي عن أكل لحوم الحمر الوحشية. ويذكر علماء اللغة إن الحميريين كانوا يطلقون على الحمار لفظة "العكسوم" و " الكسعوم".
ويكثر الظبي في جزيرة العرب، ويطمع فيه الصيادون. وقد كان الجاهليون يلجأون إلى جحوره فيسدون أبوابها ويحفرون من موضع آخر الوصول إليه، كما كانوا يضربون بحجر على الحجر ليفزع الظبي، فإذا فزع تهيأ القتال، وتهيأ الصياد القبض عليه، ويتحايل عليه فيقبض عليه من ذيله.وهو ما زال كثيرا في مواضع عديدة من جزيرة العرب، وقد استعملت السيارة في الزمن الحاضر في صيده وذلك في باب التجديد في الصيد.
والنعام من الحيوانات المعروفة في جزيرة العرب. وقد ذكر علماء اللغة ألفاظا كثيرة قالوا إن العرب أطلقوها على النعام، على ذكر النعامة وعلى أنثاها وعلى صغار النعام. ومنها "الجعول" ويراد بها ولد النعام، وهي يمانية. وكذلك لأصوات النعام وجماعاتها. وورود هذه الألفاط دليل على كثرة النعام في جزيرة العرب ووقوف العرب عليها.

(1/2499)

admin
12-31-2010, 08:02 PM
وأما أهل السواحل، فقد اضطرتهم طبيعة بلادهم على الاصطياد في البحر، على اصطياد سمكه، للاعتياش عليه ولبيع الفائض منه. أو لتجفيف الزائد منه لأكله وقت الحاجة أو لتقديمه علفا لحيواناتهم. وقد اشتهر سكان الخليج في الجاهلية أيضا بالغوص لاستخراج اللؤلؤ من الصدف الكامن على قاع البحر. وقد كان يؤتيهم ذلك أرباحا طائلة. إما أهل باطن جزيرة العرب والأماكن البعيدة عن السواحل فقد قل علمهم بالسمك، لعدم وجود أنواع منه في البوادي. وعدم إمكان إيصاله طريا إليهم. فقلت أسماء أنواعه في لهجاتهم. بينما نبد له أسماء عديدة في لغات أهل السواحل لوجود أنواع عديدة منه في البحار كانوا يصطادونها. فتكون القسم الغالب، من اللحم عندهم.
وذكر علماء اللغة إن "السمك" الحوت من خلق الماء. وذكر إن الحوت ما عظم من السمك. ومن أنواع سمك البحر: "القرش". وهو من الأسماك العظام.
ومن وسائل صيد السمك "العروك"، خشب يلقى في البحر، يركبون عليه، ويلقون شباكهم، يصيدون السمك. و "العركي" صياد السمك. ولهذا قيل الملاحين عرك، لأنهم يصيدون السمك. "وفي الحديث في كتابه إلى قوم من اليهود: إن عليكم ربع ما أخرجت نخلكم ؛ وربع ما صادت عروككم، وربع المغزل". والعروك هم الذين يصيدون السمك.

(1/2500)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن عادة ملوك الحيرة والغساسنة انهم كانوا يتبدون في المواسم الطيبة من السنة، بعد هطول الأمطار واكتساء البادية بسط الربيع، وتعييد الطيور والماشية بالمناسبة السعيدة. كانوا يخرجون إلى البوادي للاستمتاع بالمناظر الجميلة والصيد والقنص، ومن الأماكن التي كان ملوك الحرة يقصدونها منزل "ماوية"، وهو منزل بين مكة والبصرة. ذكر إن الملك "النعمان" كان إذا أراد الاستئناس برؤية حال الربيع والماء، خرج إلى "النجف" والى البادية، فتنصب له ولأصحابه القباب ويمضي أياما هناك يتصيد ويستمتع بمنظر الشقائق ذوات الألوان الأخاذة الجاذبة القلوب، حتى زعم إن "شقائق النعمان" إنما سميت بذلك نسبة إليه. جاء إلى موضع وقد اعتم نبته من أصفر وأحمر وإذا فيه، من هذه الشقائق ما راقه ولم ير مثله، فقال: ما أحسن هذه الشقائق! إحموها! وكان أول من حماها، فسميت شقائق النعمان بذلك.
ويظهر من حديث جرى بين يدي "النعمان" إن من العرب من كان يذم الصياد، ويفضل صاحب الإبل عليه. فقد روي إن "معاوية بن شكل" ذم "حجل بن نضلة" بين يدي النعمان، إذ قال فيه: "انه مقبل النعلين، منتفخ الساقين، قعو الأليتين مشاء بأقراء، قتال ظباء، بياع إماء". فقال له النعمان: "أردت إن تذيمه، فمدحته"، وصفه بأنه صاحب صيد لا صاحب إبل. ولعله قصد بذلك انه كان صيادا محترفا، اتخذ الصيد حرفة له. فقد كان بين الصيادين قوم اتخذوا الصيد لهم حرفة. فإذا اصطادوا باعوا صيدهم، ولم يستفد منه، فهو مثل الجزار، الذي يبيع اللحم ولا يطعم أهله منه، ولذلك نظروا إليه نظرة استصغار.
سباق الخيل

(1/2501)


--------------------------------------------------------------------------------

والتسابق على ظهور الخيل رياضة الأثرياء والفرسان القديمة. وهي لا تزال معروفة، وان كانت قد أخذت تلفظ أنفاسها بسبب أقيال الأثرياء على ركوب السيارات الفخمة التي لفتت أنظارهم وجرتهم إليها، فلم يبق من يمارس تلك الرياضة القديمة إلا أولئك الذين لم تصل السيارات إليهم بكثرة، لوعورة الطرق وامعانهم في البوادي وابتعادهم عن المواطن التي أخذت تغزوها منتجات العرب.
ويذكر أهل الأخبار إن أول من ركب الخيل "إسماعيل"، ولذلك سميت ب "العراب"، وكانت قبل ذلك وحشية كسائر الوحوش. خرج إلى موضع "أجياد"، فنادى بالخيل، فلم يبق علي وجه الأرض فرس بأرض العرب إلا أجابته فأمكنته من نواصيها وتذللت له. ولذلك قال النبي: "اركبوا الخيل فانها ميراث أبيكم إسماعيل".
وراهن أهل الجاهلية على الخيل، فكانوا يخرجون إلى السباق ويقال: مجتمع الناس الرهان، ثم يتراهنون هنالك على الخيل المتجمعة و "السابق" من الخيل، وهو الأول، هو الذي يأخذ الجائزة الأولى، ويتلوه "المصلي" وهو الفائز الثاني. و "الحلبة" الدفعة من الخيل في الرهان خاصة، وقيل: خيل تتجمع للسباق من كل أوب. ومجمع الخيل.

(1/2502)


--------------------------------------------------------------------------------

ويقال للخيل الذي يمد في صدر الخيل عند الإرسال الحلب. والمنصبة الخيل حين تنصب الإرسال. ويقال السابق من الخيل: الأول، والمصلي الثاني الذي يتلوه. وما سوى ذينك يقال له الثالث والرابع وكذلك إلى التاسع ثم السكيت. فما جاء بعد ذلك لا يعتد به. والغسكل الذي يجيء آخر الخيل. وذكر: إن: أسماء خيل الحلبة عشرة لأنهم كانوا يرسلونها عشرة عشرة، وسمي كل واحد منها باسم. فالأول منها السابق. وهو المجلي. لأنه. كان يجلي عن صاحبه، والثاني المصلي لأنه يضع جحفلته على صلا السابق، والثالث المسلي، والرابع والخامس المرتاح، والسادس العاطف، والسابع والمؤمل، والثامن الحظي، والتاسع اللطيم، والعاشر السكيت، والغسكل الذي يجيء آخر الخيل في الحلبة. ويقال للحبل الذي بجعل في صدور الخيل يوم الرهان المقبض والمقوس. وقيل في أسماء خيل الحلبة إن أولها المجلي ثم المصلي ثم المسلي ثم العاطف ثم المرتاح ثم الحظي ثم المؤمل. هذه السبعة لها حظوظ، ثم التي لا حظوظ لها. اللطيم، ثم الوغد، ثم السكيت.
وكانوا يضعون عند نهاية الحد الذي يقررونه السباق قصبة فمن يصل إليها قبل غيره من المتسابقين، يعد السابق لقصبة السبق، ويكون قد أحرز القصب لأن الغاية التي يسبق إليها تذرع بالقصب. وتركز تلك القصبة عند منتهى الغاية، فمن سبق إليها حازها واستحق الخطر.
و "الخطر" الذي يوضع بين أهل السباق، وقيل الذي يوضع في النضال والرهان في الخيل ع فمن سبق أخذه. والسابق إذا تناول القصبة، علم انه قد أحرز الخطر. وكانوا يقلدون السابق من الخيل؛ ولا يقلد من الخيل إلا سابق كريم. ويقولون للسابق من الخبل: المقلد.

(1/2503)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد سابق الرسول بين الخيل التي قد ضمرت من موضع "الحفياء" إلى "ثنية الوداع" والمسافة بين الموضعين خمسة أميال أو ستة، وقيل ستة أميال أو سبعة. وسابق بين الخبل التي لم تضمر من "الثنية" إلى مسجد "زريق،" والمسافة ميل أو نحوه. وسابق بين الخيل على حال أتته من اليمن، فأعطى السابق ثلاث حال والمصلي حلتين، والثالث حلة، والرابع دينارا، والخامس درهما، والسادس قصبة. وقد ساهمت خيله في السباق.
وراهن رسول الله على الخيل، وذكر إن أول مسابقة كانت في الإسلام سنة ست من الهجرة. سابق رسول الله بين الخيل، فسبق فرس لأبي بكر فأخذ السبق. والمسابقة مما كان في الجاهلية، فأقرها الإسلام.
وفي الحديث: أحاديث عن الرسول في السبق، منها: لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر، فالخف للإبل، والحافر للخيل، والنصال للرمي وبقية الأحاديث في كتب الحديث والفقه.
ولم يقتصر السباق عند الجاهليين على السباق بين الخيل، بل سابقوا بين الإبل، وجعلوا للسابق خطرا، كما سابقوا بين الكلاب والحمير والحيوانات الأخرى.
ومن سباق أهل الجاهلية والإسلام، السبق بالنصل، أي المراماة بالسهم. وذلك بأن يوضع خطر، ويذكر عدد الرمي والهدف، فمن أصاب الهدف أكثر من غيره نال السبق. وقد عرف نفر من الجاهليين بإصابتهم الهدف، وبقوة رميهم، وجعلوا لقوة الرمي وشدته أو لرخاوته وللمكان من إصابته الهدف درجات هي: الخاضل، والخازق، والخاسق، والحابي، والمارق، والخارم، والمزدلف. والخاضل الذي يقرع الشن ولا يخدشه، والخازق الذي يخدشه ولا يثقبه، والخاسق الذي يثقبه ويثبت فيه، والحابي إن يدني الرامي يده من الأرض فيرميه فيمر على وجه الأرض فيصيب الهدف، والمارق الذي يمرق الشن أي يثقبه وينفذ فيه، والخارم الذي يخرم طرف الشن أي يقطعه، والمزدلف الذي يسقط بقرب الغرض ثم يشتن فيصيب الهدف.

(1/2504)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن السباق: المناضلة، وهي المباراة في الرمي: والنضيل هو الذي يرامي ويسابق. والمناضلة المفاخرة والتسابق بالأشعار. وتكون المباراة في الرمي بثلاثة أنواع: مبادرة، ومحاطة، ومناضلة. فالمبادرة إن يشترطا إصابة عشرة من عشرين، فيبتدر أحدهما إلى العشرة فينضل صاحبه، والمحاطة إن يقولا نرمي عشرين رشقا على إن من فضل صاحبه بخمس إصابات فقد نضله، فإذا اشترطا ذلك، ورمى كل واحد منهما عشرين رشقا وأصابا إصابات نظر إن استويا في الإصابة لم يحصل النضل، وان تفاوتا في الإصابة حط الأقل أو الأكثر، فإن بقي لصاحب الأكبر الخمس المشروطة فقد نضل صاحبه، وان بقي له أقل من الخمس المشروطة لم يحصل النضل. والمناضلة إن يشترطا عشرة من عشرين على إن يستوفيا جميعا، فيرميان معا جميع ذلك، فإن أصاب كل واحد منهما عشرة أو فوقها أو دونها لم يحصل النضل، وان أصاب واحد منهما دون العشرة والأخر عشرة فما فوقها، فقد نضل صاحبه.
وللعرب عناية خاصة بالخيل، وما زالوا يعتنون بها إلى اليوم، حتى لقد حفظوا أنسابها حفظهم لأنساب الناس، وألفوا الكتب فيها. ونجد في كتب الأدب واللغة أسماء خيل اشتهرت في الجاهلية. وذكر "ابن النديم" في كتابه "الفهرست" أسماء كتب ألفت في الخيل، ذهب أكثرها، وبقي بعض منها. ونجد في "تاج العروس" أسماء خيل اشتهر أمرها في الجاهلية ذكرت في مواضع متناثرة من أجزاء الكتاب. وذكر معها أسماء أصحابها، كما أشار إلى مؤلفات رجع إليها في هذا الموضوع مثل كتاب الخيل لابن الكلبي، وقد طبع، وكتاب الخيل لأبي ****ة وقد طبع كذلك، ومؤلفات أخرى لم تطبع حتى الآن.
ولائم العرب

(1/2505)


--------------------------------------------------------------------------------

الوليمة كل طعام يصنع لعرس وغيره ويدعى إليه. وأما الدعوة: فهي أعم من الوليمة،. وأما المأدبة، فكل طعام صنع لدعوة أو عرس. والآدب الداعي إلى الطعام. وولائم العرب ست عشرة وليمة. هي: وليمة العرس، وهي ما يصنع للدخول بالزوجية، و "الملاك" "الأملاك" وهي ما يصنع الخطبة، و "الخرس" وهي طعام يصنع للنفساء لسلامة المرأة من الطلق، وقيل: هي طعام الولادة. و "العقيقة" وهي ما يصنع للطفل بعد ولادته وتختص باليوم السابع، و "الأعذار" وهي،ما يصنع لختان، و "الشندخ" وهي أيضا طعام الأملاك، و "الوكيرة" وهي ما يصنع للبناء يعني السكن المجدد، و "التحفة" وهي ما يصنع للزائر، و "الشندخ" وهي طعام الأملاك كما ذكرت، وما يصنع عند وجود الضالة، و "النقيعة" وهي ما يصنع للقدوم من السفر، وقيل: النقيعة التي يصنعها القادم والتي تصنع له تسمى "التحفة"، و "القرى" وهي ما يصنع للضيف، و "الوضيمة" وهي ما يصنع للميت، أي لأهل المصيبة.
ويقال للدعوة التي تعم دعوتها "الجفلى"، وأما "النقرى" فهي التي تخص دعوتها. قال طرفة: نحن في المشتاة ندعو الجفلى لا ترى الآدب فينا ينتقر
يفتخر بقومه وانهم إذا صنعوا مأدبة دعوا إليها عموما لا خصوصا، وخص أيام الشتاء لأنها أيام الشدة والضيق.
ويقال الطعام المستعجل، وهو الذي يقم للراكب: "العجل" و "العجيل"، وهو من السويق والتمر في الغالب. وإذا أكرم رجل رجلا آخر بتقديم "اللبن" إليه، قيل لذلك الكرم "القمي". ويقال لما يرفع للإنسان من المرق "العفارة". وهنالك أسماء تجدها في كتب اللغة لأنواع المأكول والأطعمة.
الفصل الخمسون
البيوت
ومساكن العرب متباينة مختلفة. منها: البيوت المتنقلة، ومنها.المباني المبنية بالمدر أو الحجر، وهي أبنية أهل الحضر. وهي مختلفة أيضا في طرازها المعماري وفي سعتها ومادتها ويكون اختلافها باختلاف مكانها وباختلاف مكانة صاحبها، ومنزلته من حيث الغنى والفقر.

(1/2506)


--------------------------------------------------------------------------------

والبيت لفظة تطلق على الصغير من البيوت وعلى الكبير منها. وقد جعل "ابن الكلبي" بيوت العرب ستة: قبة من أدم، ومظلة من شعر، وخباء من صوف، وبجاد من وبر، وخيمة من شجر، وقنة من حجر، وسوط من شعر، وهو أصغرها. وذكر بعض علماء اللغة أن الخباء بيت صغير من صوف أو شعر، فإذا كان اكبر من الخباء فهو بيت، ثم مظلة إذا كبرت عن البيت. وهي تسمى ببيتا أيضا إذا كان ضخما مزوقا. وذكر بعض آخر ان الخباء بيت يعمل من وبر أو صوف أو شعر. ويكون على عمودين أو ثلاثة. والبيت يكون على ستة أعمدة إلى تسعه. وذكر ان الخباء هوالبيت كيفما كان.
وذكر علماء اللغة ان البناء المبني، ويراد به أيضا البيت الذي يسكنه الأعراب فى الصحراء. ومنه الطراف والخياء والبناء والقبة والمضرب. والطراف بيت من أدم ليس له كفاء، وهو من بيوت الأعراب ذكر في شعر طرفة بن العبد: رأيت بني غبراء لا ينكرونني ولا أهل هذاك الطراف الممدد
وقد اشتهر "بنو قيدار" بخيمهم المصنوعة من شعر الماعز. وقد أشير اليها في التوراة. وهم رعاة في الغالب يعيشون على الرعي، ولذا اتخذوا ييوتهم من شعر الماعز، فصارت ذات لون أسود. وقد اشتهروا ببراعتهم في الرمي بالقوس. وأصحاب الخيام المصنوعة من شعر الماعز أو من الصوف،هم من الأعراب أصحاب الماشية، الذين يعيشون في مواضع تكثر فيها الأمطار وتكون غير بعيدة عن المدن والقرى ومواضع الماء، ولذلك يعيشون في الغالب على الرعي.
وفي سعة الخيمة دلالة على منزلة صاحبها ومكانته وثراثه. ولذلك يفتخر العزيز منهم بسعة بيته، أي خيمته. وقد تقطع الخيمة بقاطع، يقسمها إلى قسمين: قسم للحريم،أي للنساء والسكن،لا يدخله غريب. وقسم يكون للرجل وللضيوف، يجلسون ويأكلون فيه. ويكون ناديا ومضيفا يخصص للقادمين ولضيوف صاحب ذلك البيت.

(1/2507)


--------------------------------------------------------------------------------

ولسيد القبيلة خيمة كبيرة تكون "مضرب القبيلة"، ومقر السيد الرئيس ونادي القوم. يسمر فيها "رب القبيلة"، ويأوي اليها الضيوف. واليها يلتجيء المحتاج ومن به حاجة إلى الاقراء أو أية حاجة أخرى. ويفتخر سيد القبيلة بمضربه هذا، ويتباهى به على أقرانه، وتفتخر قبيلته به أيضا، لأنه يرفع رأسها بين القبائل. وورد المضرب: الفسطاط العظيم، وهو فسطاط الملك.
وتضرب للسادات الأشراف والأغنياء قبب خاصة تكون من الأدم. فكان لرؤساء القبائل أصحاب العز قباب من أدم، كما كان من عادة ملوك الحيرة ضرب قباب من الأدم لأصحاب الجاه وسادات القبائل الكبار الذين يفدون عليهم. وتعتبر هذه القباب من امارات التعظيم والتفخيم والامتياز والجاه عند الملوك. ولذلك يعامل من تضرب له القبة معاملة خاصة. وتعرف قبة الأدم ب "قبة المبناة" أيضا. وذكر بعض علماء اللغة أن القبة هي البناء من الأدم خاصة. وذكر بعض آخر أن القبة من الخباء بيت صغير مستدير، وهو من بيوت العرب.
وذكر "الطبري" في كلامه عن غزوة الخندق، أن الرسول أدار المعركة "وهو ضارب عليه قبة تركية". ولم يشر إلى -شكل هذه القبة ولا إلى سبب تسميتها بذلك.
وقد اشتهرت "القباب الحمر" المصنوعة من أدم، ياوي اليها أصحاب الجاه واليسار والمشهورون. وقد ذكر أن النابغة الذبياني كان يضرب له بسوق عكاظ قبة حمراء من أدم، فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها. وكان ممن أنشده "حسان بن ثابت". وقد انتقده النابغة بأدب ولطف. وقيل إن بيت الأدم، قبة الملك، يجتمع فيها كل ضرب، ياكلون الطعام.

(1/2508)


--------------------------------------------------------------------------------

ويذكر أهل الأخبار ان العرب تضرب الأخبية لأنفسها، والمضارب لملوكها، والمضارب انما ترتبط بالأوتاد. وذكر ان الخباء هو ما كان من وبر أو صوف ولا يكون من شعر، وهو على عمودين أو ثلاثة، وما فوق ذلك فهو بيت. وقيل: الخباء من شعر أو صوف، وهو دون المظلة. وهو من بيوت الأعراب. وذكر ان "المظلة" الكبير من الأخبية ذات رواق، وربما كانت شقة وشقتين وثلاثا، وربما كان لها كفاء وهو مؤخرها. قال بعض علماء اللغة انها تكون من الشعر، وقال بعض آخر لا تكون إلا من الثياب.
. و "المضرب" الفسطاط العظيم، وهو فسطاط الملك. وقد استعمل للملوك خاصة، ولأصحاب الجاه والعز والمكانة. ولهذا كانوا إذا مدحوا إنسانا وأرادوا 1لإشادة بمكانته وبمنصبه قالوا: "إنه لكرم المضرب شريف المنصب"، وإذا أرادوا ذم إنسان، قالوا: "ما يعرف له مضرب عسلة"، و "لا منبض عسلة"، أي من النسب والمال، يقال ذلك إذا لم يكن له نسب معروف ولا يعرف اعراقه في نسبه. ولما كانت المضارب من بيوت الملوك، وأهل الجاه وهم خيار "الناس ونخبتهم، صارت المضارب كناية عن الجاه والشرف والمال.
و "السرادق"، كل ما أحاط بشيء من حائط أو مضرب أو خباء.وقيل: كل بيت من "كرسف" فهو سرادق. وترد اللفظة في الفارسية بمعنى حائط أو حاجز من نسج غليظ حول خيمة.
وذكر أن "الفسطاط" ضرب من بيوت الشعر. والظاهر أنه البيت الكبير. وورد "الفسطاط العظيم"، وهو "فسطاط الملك". وذكر أن الفسطاط هو مجتمع الناس. وذكر أن الفسطاط ضرب من الأبنية في السفر دون السرادق وبه سميت المدينة: مدينة الفسطاط. ويظهر أن الكلمة من الألفاظ المعربة عن الفارسية، وهي في هذه اللغة بمعنى "خيمة".
و "الطراف" خباء من أدم يتخذه الأغنياء. و "الطوارف" من الخباء ما رفعت من جوانبه ونواحيه للنظر الى خارج. قال عروة بن الورد: رأيت برني غبراء لا ينكرونني ولا أهل هذاك الطراف الممدد

(1/2509)


--------------------------------------------------------------------------------

يعني ان الفقراء يعرفونني بإعطائي، والأغنياء يعرفونني بفضلي وجلالة قدري.
وتكون بيوت الأعراب المتناثرة، وهي خيامها، منازل القبيلة ومضاربها.
وتحيط خيامها بخيم الرئيس. فتكون من ذلك مستوطنة بدوية. ومنها يتألف مجتمع البوادي. ويرتبط حجم هذه المستوطنات، بسعة ماء المكان وبعدد بيوت القبيلة النازلة به، فإن كان الماء قليلا، قل عدد خيامها، وإن كان غزيرا، كثر عددها. واتسعت رقعة المضارب اتساعا يتناسب مع كفاءة ذلك الماء وما على الأرض من رزق تعيش إبلهم عليه.
بيوت أهل المدر
أما أهل القرى والمدن، اي أهل المدر، وهم المستقرون وشبه المستقرين،
فإنهم يقيمون في بيوت ثابتة أو شبه ثابتة. وهي تتفاوت بالطبع بتفاوت. منازل ودرجات أصحابها. فرب بيت يكون من خيمة أو من أغصان شجر وعيدان وجربد، ويقال له "العنة". وقد قيل إن العنة الخيمة تتخذ من أغصان الشجر. وقيل البيت يعمل من الخشب.ورب بيت يكون من طين، ويسقف بجريد أو باغصان أو بحصير يطين أيضا. ويختلف حجم مثل هذا البيت باختلاف حجم العائلة. وقد يبنى البيت باللبن وهو الغالب، وتكون حالة. أصحابها أحسن من حالة أصحاب بيوت الطين. وكنتيجة لتيسر مواد البناء في العربية الجنوبية، ظهرت مدن لا نجد لها مثيلافي أنحاء أخرى من جزيرة العرب. مدن كبيرة بيوتها ثابتة وبعضها ذو جملة طوابق، تحاط بأسوار عالية وأبراج وحصون يأوي فيها المدافعون.. وقد تمكن المنقبون من التنقيب في بعض خرائبها ومن وضع مخططات لبعض:شعابها أو مخططات عامة مبدئية للمدينة كلها وللسور الذي كان قي يحتضنها.

(1/2510)


--------------------------------------------------------------------------------

والقرية في نظر علماء العربية لفظة يمانية الأصل. يقولون إنها المصر الجامع، وكل مكان اتصلت به الأبنية واتخذ قرارا. وتقع على المدن وغيرها. ولكن الأغلب أنها أصغر حجما من المدن. وأنها تكون غير مسورة. فإذا أحاط بها "سور" صارت مدبنة. وذلك على نحو ما نفهم من نصوص الجاهليين ومن المتعارف عليه بن الساميين من أن القرية أصغر حجما من المدينة. وأن المدن هي القرى الكبيرة المسورة. وقد فهم علماء العربية هذا المعنى بالنسبة للمدينة أيضا.
إذ قالوا مدينة: الحصن يبنى في اصطمة الأرض. وتقابل "مدنتو" Medinto في لغة بني إرم. وتقابل لفظة "هكر" "هجر" "هجرن" "هكرن" في لغة أهل اليمن. وهي لا تزال مستعملة في العربية الجنوبية لهذا اليوم. وذكر علماء اللغة أن "هجر" هي القرية بلغة حمير.
وورد أن العرب تسمي "القرى" مصانع، واحدتها مصنعة، يقال هو من أهل المصانع، أي القرى. و "المصانع" أيضا المباني من القصور والحصون.
ويطلق العرب على الرجل من أهل القرى مصطلح: "أخضر النواجذ"، يريدون أنه ممن يأكل الكرات والبصل والبقول والخضر. ولا يتناول الأعراب هذه الخضر.
وفي العربية لفظة "الحير" بمعنى شبه الحظيرة والحمى، و "الحيرة" بمعنى المعسكر والمقام، و "الحائر" وهي من مواطن الحضر، أي - من المستوطنات.
قد كانت مستعملة بن الجاهليين. ومثلها "الحاضرة" و "الحضرة" و "الحضر"، وهي المدن والقرى والريف. وهي من مساكن الحضر وأهل القرار.
وتسمى المدن بأسماء. أما القرى والمستوطنات الصغيرة، فقد تسمى بأسماء، وقد تنسب إلى أصحابها المالكين لها أو إلى العشائر أو الأفخاذ أو الأسر النازلة بها. ولا تزال هذه العادة متبعة في مواضع من جزيرة العرب. أما بيوت كبار الناس وأغنيائهم، فتستعمل فيها الحجارة والخشب وغير ذلك من مواد تجعل البناء يدوم أمدا ويعيش مدة طويلة، وبفضل ذلك بقيت اثار بعض منها حتى الان.

(1/2511)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا يزال الناس في مواضع من جزيرة العرب، ولا سيما الأماكن المعزولة القصية، يتخذون بيوتا تشبه بيوت العرب قبل الإسلام، وخاصة بيوت سادات القبائل والرؤساء. وبعض ذلك قصور وحصون ذوات جدر وأسوار مرتفعة وتقوم في طرف من الأرض أبراج لها مزارق ومرابيع للدفاع، وأبراج مربعة. وقد تقع البيوت في عدة طبقات تحمى بمختلف وسائل الدفاع. وتستعمل الزينة من أصباغ محلية ومن حجارة طبيعية ذوات ألوان مختلفة. وأعتقد ان هذه الأبنية يجب أن يعنى بدراستها المهندسون المعماريون والآثاريون، فإن دراستها تحل لنا مشكلات كثيرة للفن العربي الجاهلي، وتوصلنا إلى وضع مخططات عن بقايا الأبنية الجاهلية القديمة التي تهدمت غالبيتها،أو اعتدى عليها الإنسان ويا للاسف فاستخدم حجارتها في أبنيته الحديثة، وقضى بذلك على معالمها في الغالب، وتجاوز على حجارتها المكتوبة فحطمها وأبادها، وبذلك ألحق بتأريخ العرب قبل الإسلام ضررا بليغا.
وأعظم شئ في المدن هو هياكلها، أي معابدها المسماة بأسماء الالهة التي بنيت لها، وقصور الملوك وسادات القوم وأشرافهم. فلهؤلاء مال مكنهم من بناء قصور ضخمة ذات جملة طوابق، بنوها بحجارة طبيعية اقتلعت من الصخور، وزخرفوا الوجوه البارزة منها،وأفتن فيها الفنانون على وفق أذواقهم وذوق طبيعة بلادهم، ونشروا الرخام الأبيض والملون وشرحوه ألوانا رقيقة جعلوها في النوافذ بدلا عن الزجاج. فهذه الأماكن اذن هي التي تتحدث لنا عن العمارة عند الجاهليين.

(1/2512)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد استعين في بناء بعض المدن بحجارة اقتلعت من مواضع بعيدة بعض البعد عنها في بعض الأحيان. فقد ينيت "قرنو" "معين"، بحجارة جلبت من موضع يبعد عشرين كيلومترا تقريبا من شمال "معين"، من "جبل اللوذ" أو من جنوب "جبل يام". ويرى بعض الباحثين احتمال جلب بعض الصخور اليها من مواضع تبعد ثمانين كيلومترا من المدينة. وبعض هذه الأحجار ثقيل يبلغ طول الواحدة منها خمسة أمتار. وجاءوا ب "المرمر" إلى "شبوة" من موضع "مداث" و "كلوة" على مسافة خمسين كيلومترا من المدينة.
وقد تبين من الدراسات. العامة الأولية التي قام بها الباحثون لخرائب المدن الجاهلية أن بعضها قد بني على شكل مستطيل، ويحيط به سور مستطيل الشكل أيضا ذو أبراج، وبعضها بني على شكل إهليلجي أو قريب منه، وبعضها على شكل دائري. وقد أحيطت بأسوار لحمايتها من غزو الغزاة وللدفاع عن نفسها وللثبات بوجه الأعداء. ولها أبواب تغلق ليلا وتحرس حراسة شديدة حتى لا تفاجأ المدينة بعدو يأخذ على حين غرة، كما تغلق وتسد سدا محكما أيام الحروب.
ويظن أن تخطيط المدن على شكل مستطيل كان هو الشكل الغالب، إذ وجد المنقبون أكثر خرائب المدن قد بني في الأصل على هذا النحو. ف"مأرب" بنيت على شكل مستطيل على رأي بعض من درس آثارها.وكذلك خربة "غربون" في جنوب "المشهد" بوادي ! حجرين" بحضرموت. وذهب بعض من زارها إلى انها كانت مربعة الشكل. وعلى هذا النحو كانت "شبوة" و "حريب" و "يلط" "يليط"، و "قرنو" الني هي معين في الجوف.
ومن المدن الني بنيت على شكل إهليلجي تقريبا مدينه "حاز" "حيزم ". وهي محاطة بسور يتراوح ارتفاعه من ستة أمتار إلى ثمانية أمتار، تخترقه خمسة أبواب. وبنيت مدينة "بيحان النقب" التي تقع على مسافة عشرة أميال الى الشمال من "بيجان" على شكل إهليلجي كذلك.

(1/2513)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد تبين أن أكثر المدن اليمانية القديمة قد بني في بطون الأودية على مرتفعات طبيعية، أو صناعية،أي من عمل الإنسان. وقد يكون ذلك بسبب خصب الأودية وتوافر الماء فيها بسهولة، بحفر الابار أو من العيون أو بواسطة بناء السدود.
غير أن هناك مدنأ أقيمت على الهضاب والنجاد وعلى سفوح الجبال، وذلك لتتمتع بحماية طبيعية وليكون من الصعب على الأعداء التغلب عليها. ومن المدن القديمة التي أقيمت في بطون الأودية مدينة "قرنو" "القرن" "معين"، فقد بنيت على تل أقامه المعينيون أنفسهم ارتفاعه خمسة عشر مترا عن سطح أرض الوادي، وذلك لحماية المدينة من طغيان ماء السيول في الوادي في موسم الأمطار.
وتحمي المدن حصون وقلاع، وقد تقام الأسوار وعلى مسافة من المدينة لتشغل العدو وتمنعه من الدنو منها، لتحمي مزارع المدينة وأموالها، وتكون أبنيتها حصينة ذات جدر سميكة فيها منافذ ترمى منها السهام، وفي أعلاها أبراج يرمي منها الرماة الحجارة والسهام على المهاجمين.كما تبنى في المدن نفسها خلف الأسوار، لحماية داخل المدينة من العدو عند تغلبه على الحصون والقلاع الخارجية، وأسوار المدن. وبيوت الملوك والأشراف وسادات المدينة، قلاع وحصون في حد ذاتها، فيها كل وسائل المقاومة والدفاع ومخازن لحفظ مواد الإعاشة، وآبار.
ويكاد يكون لكل مدينة من المدن حصن يقيها ويحميها،وقد اشتهرت وعرفت به. فاحتمت "ظفار" مثلا بحصنها "ذو ريدان"، وأقيمت "شبام سخيم" عند حصن "عر ذو مرمر"، و "شبام اقيان" عند "الوة" "كوكبان"، و "بيحان" عند "ذي ريدان"، و "برج اتوت" على "ميفع ظبيان"، وأنشئت "غيمان" على تل مرتفع يحمي المدينة من المهاجمين. وأقيم "ذو معاهر" ليحمي مدينة "وعلان" ب "ردمان".

(1/2514)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من كتابات المسند ومن الاثار ان بعض مدن اليمن كانت مسورة، محيط بها سور للدفاع عنها. ويقال لمثل هذه المدن "هجرن" في العربيات الجنوبية، أي "المدن". مثل "هجرن قرنو"، بمعنى المدينه "قرنو" وهي عاصمة معين. و "هجرن مرب"، أي المدينة مأرب، و "هجرن نجرن" أي المدينة نجران، المدينة الشهيرة عاصمة مخلاف نجران والتي لا يزال اسمها حيا.، معروفا في العربية السعودية في هذا اليوم.
و تختلف أطوال -أسوار المدن وارتفاعاتها بحسب حجم المدن وبحسب مواقعها.
فالمدن الكبيرة تكون أسوارها طويلة يتناسب طولها مع سعتها. والمدن الني تبنى فوق الجبال والهضاب والمحلات الحصينة تكون أسوارها أقل ارتفاعا من أسوار المدن المبنية في السهول. وقد وجد سور مدينة "قرنو" مستطيلا، وطوله زهاء أربع مئة متر، وعرضه زهاء خمسين ومئتي متر، وعلى كل زاوية من زوايا هذا المستطيل الأربع برج لمراقبة الأعداء ولرميهم بالحجارة والسهام وبوسائل الدفاع الأخرى التي كانت ميسورة لهم.
وقد وجدت اسس سور مدينة "حيزم" "حزم"، وهي "حاز"، مبنية بحجر بركاني، أخذ من لابة قريبة من المكان. على حين بنيت أسس أسوار ألمدن الأخرى وجدرها من أحجار تقع مقالعها على مقربة من المدن المسورة، ليكون في الإمكان نقلها بسهولة إلى مواضع البناء.

(1/2515)


--------------------------------------------------------------------------------

وغالب مدن العربية الجنوبية، لها بابان متقابلان، فإذا كان أحدهما في الجدار الشرفي للمدينة كان الثاني في الجدار الغربي. وقد وجد في بعض المدن أربعة أبواب أو خمسة. ف "شبوة" عاصمة حضرموت كان لها خمسة أبواب، يقع الباب الرئيسي في الجهة الشمالية من المدينة. وتؤدي الأبواب إلى أفنية تكون متجمع الناس، تعلن على جدرانها الأوامر الحكومية ليقف عليها الغادي والرائح، ويعلن المعلنون فيها أوامر الحكومة، كما ينادي الدلالون بما عندهم من خبر أو بضاعة. وتكون هذه الساحات أسواقا كذلك، ومواضع لتنفيذ أحكام القتل أو العقوبات الأخرى ليعتبر بها الناس. وهكذا تجد أن أبواب المدن كانت من أهم الأماكن العامة للمدينة في تلك الأيام.
وقد وجد بعض الأبواب، وهي الأبواب الرئيسية، محصنا من الجهتين ببناءين قويين، للدفاع عن الباب، فيهما منافذ ومواضع يرمي منها" المدافعون من يريد اقتحام المدينة. وبين البناءين أو الحصنين باب قوي يغلق في الليل وعند وقوع خطر ما. ويؤدي هذا الباب إلى ساحة تحيط بها غرف ومواضع لإيواء الجنود، ثم تنتهي هذه الساحة بحائط قوي أو سور يخترقه باب آخر يغلق ويفتح ليؤدي إلى المدينة. والغاية من وجود هذا الباب الثاني سد الطريق على الأعداء عند اقتحامهم الباب الاول وتغلبهم على الجواسيس ووصولهم إلى الساحة التي يقيم فيها الجنود، فيقابلهم عندئذ باب ثان يسد عليهم الطريق ولا يمكنهم من دخول المدينة إلا إذا تغلبوا على هذا الباب.

(1/2516)

admin
12-31-2010, 08:03 PM
وقد عني العرب الجنوبيون بزخرفة الابواب وبزخرفة الإطار الذي ترتكز عليه، والجدار الذي يضم الإطار، والأعمدة التي تبنى على جانبي الباب أحيانا وللبناءين المحكمين اللذين يبنيان عند طرفي ابواب المدن والقصور والمعابد لحراستها. وتتصل شوارع المدن والقرى بهذه الساحات. والشوارع الرئيسية مبلطة في الغالب، ولا سيما الشوارع المؤدية إلى قصور الملوك ودور الكبار والحكومة والمعابد،وتؤدي إلى ساحات أمام هذه المواضع المهمة. ويكون تبليط الشوارع عندهم بتغطيتها بصخور عريضة مستطيلة أو مربعة نحتت بأطرافها بحيث يوضع طرف حجر فوق طرف الحجر الذي يليه، فيظهران كأنهما حجر واحد، أو بصقل أطراف الحجر صقلا جيدا ووضعه بجانب حجر مصقول آخر ولصقهما لصقا تاما، حنى يبدو ا كأنهما قطعة واحدة. ويظهر أنهم كانوا يعتنون عناية شديدة تامة بالتبليط. وقد تبين من دراسة بعض قطع شوارع مدينة "غيمان" الياقية من أيام الجاهلية حتى اليوم أن أهل هذه المدينة لم يعتنوا بتبليط شوارعهم عناية أهل المدن الأخرى، كما يتبين من طريقة رصف الحجر ومن وضعه بعضه إلى بعضه ومن دراسة المواد. الني توضع تحت الأحجار وبينها.

(1/2517)


--------------------------------------------------------------------------------

وللمدن حدود، ما كان بعدها عد تابعا للمدينة، وما كان خارجها عد منقطع الصلة بتلك المدينة. وقد ذهب "رودوكناكس" إلى أن لفظة "اود" التي ترد في بعض الكتابات تعني "الحد" كما في هذه الجملة "اود هجرن"، أي "حد المدينة". وعندي ان المراد بها "السدود" وكل شيء يقي شيئا. فإن الأياد في العربية ما أيد به من شئ، واياد كل شيء ما يقوى به من جانبيه، والتراب يجعل حول الحوض وافيء يقوى به أو يمنع ماء المطر. وعلى هذا فإن تفسير "اود" بسداد تحيط بمدينة أوفق في نظري من تفسيرها ب "حد" وحدود. والواقع أن من الصعب علينا في الزمن الحاضر أن نتحدث عن هندسة المدن وتخطيطها وعن طراز أبنيتها وارتفاعها، وعن ساحاتها وأسواقها، لقلة ألتنقيبات الأثرية العلمية واقتصارها على وجه الأرض وفي بقاع قليلة جدا من جزيرة العرب، وانعدامها من أكثر الأنحاء مع وجود آثار كثيرة فيها لا تزال مطمورة تحت الرمال.
ولو تهيأت للجزيرة بعثات أثرية على شاكلة البعثات التي تقصد العراق أو بلاد. الشام أو فلسطين. أو مصر أو غيرها من أماكن، لكان علمنا. بأحوال المدن العربية الجاهلية وبأحوال الجاهليين غزيرا جديدا يختلف عن هذا النزر اليسر الذي نتحدث به عن أحوال العرب قبل الإسلام.

(1/2518)


--------------------------------------------------------------------------------

اما الحجاز، فالظاهر أن الطائف منه، كانت القرية أو المدينة الوحيدة المحاطة بجدار أو حائط، يمكن أن نسميه سورا. وكان يحيط بالمدينة وبه مواضع يتحصن فيها، وفيها تحصمت ثقيف يوم قاومت الرسول في أثناء حصاره لها. وكانت له أبواب أغلقوها عليهم، وامتنع على المسلمين عندئذ الدخول منها، والاقتراب من الجدار. ولما اختفى المسلمون تحت دبابة، ثم زحفوا بها إلى جدار للطائف، أرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار، فخرجوا من تحتها، فرمتهم ثقيف يالنبل،، وقتلوا رجالا من المسلمين. وأما مكة، فيظهر من وصف أهل الأخبار لها أنها لم تكن مسورة. وإنما كانت ذات منافذ وطرق تؤدي إلى داخل المدينة وتمر بالشعاب. وعلى كل شعب حماية حد شعبه من الأطراف عند دنو عدو من مكة. وأما المدينة، فلم يكن لها سور كذلك. ويمكن أن يقال مثل ذلك عن بقية قرى الحجاز.
ولا نجد في وصف أهل الأخبار لقرى أهل الحجاز وبيوتها، ما يفيد بوجود أبنية ضخمة فيها على طراز أبنية اليمن. فلم يتحدث أهل الأخبار- عن وجود قصور فيها تشبه "قصرغمدان" أو "قصر ذو ريدان" أو غير ذلك من القصور. حتى مكة وهي أم القرى لا يشير أهل الأخبار إلى وجود بناء ضخم فيها على طراز أبنية اليمن، ولا وجود بيت كبير فيها على طراز بيوت سراة اليمن.
و "دار الندوة"، وهي دار قصي،مؤسس ملك قريش، لم تكن دارا ضخمة ولا كبيرة على ما يظهر من روايات أهل الأخبار ويظهر أن أهل الأخبار لم يحفلوا كثيرا بالنواحي العمرانية من الجاهلية، لذلك صارت معلوماتنا بسيطة جدا عنها من هذه الناحية. فلا نكاد نعرف شيئا عن بيوت مكة أو غيرها قبل الإسلام. وقد كانت بيوت المتمكنين من الناس وأصحاب اليسر والمال، مشيدة يالحجارة وباللبن. ويذكر علماء اللغة أن كل بيت مربع مسطح، فهو "أجم". ويظهر من شعر ينسب إلى امرىء القيس وتيماء لم يترك بها جذع نخلة ولا أجما إلا مشيدا بجندل

(1/2519)


--------------------------------------------------------------------------------

أن آجام "تيماء"، كانت مشيدة بالجندل. والجندل الحجر، وقيل الصخور، وذكر أنها الصخرة كرأس الإنسان. وقد استعين بتشييد السقوف بجذوع النخل. ويقال للاجام: القصور بلغة أهل الحجاز، وعرفت بالآكام كذلك، وهي بمثابة الحصون، يتحصن بها أوقات الخطر. والقصر عند العرب كل بناء من حجر، وذكر أن اللفظة "قرشية". ووردت لفظة "قصر" و "قصور" في القرآن الكريم. وقد ذهب المفسرون إلى أن معنى "مشيد" في.الاية: )فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة، فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد(، المجصص. والجص بالمدينة يسمى: المشيد. فالقصر، البناء الضخم المبني بالجص والحجارة،، وقد يكون منفردا محصنا، وقد يكون في قرية، مع قصور أخرى، ولكل قصر بئر، يؤخذ منها الماء. وهي ضرورية جدا بالنسبة لبيوت ذلك الوقت.
ويظهر من روايات أهل الأخبار عن البيوت أن في بيوت يثرب بيوت تكونت من طابقين. طابق أرضي وطابق علوي. وكانوا يسكنون الطابقين. ولعلهم كانوا يودعون ماشيتهم ودوابهم الطابق الأرضي، أو مواضع خاصة بها ملحقة بهذا الطابق. وكانت دار "أبو أيوب الأنصاري" التي نزل بها الرسول ذات طابقين نزل الرسول بطابق، وسكن "أبو أيوب" بالطابق الثاني.
وكان سادات القرى قد حلوا مشكلة الدفاع عن أنفسهم وعن مواليهم ببناء أبنية حصينة ذات جدران سميكة قالوا لها الحصون والآطام والواحد هو الأطم. فكان أهل المدينة من الأوس والخزرج يلجأون إلى آطامهم وقت الخطر فيتحصنون بها ويمتنعون، وكذلك كانت ليهود وادي القرى حصون وآطام. بها آبار ومواضع لخزن ذخيرتهم وما عندهم من غال وثمين ودخلوا حصونهم وآطامهم وأغلقوا عليهم الأبواب. وبذلك صارت القرية مجموعة حصون وآطام.

(1/2520)


--------------------------------------------------------------------------------

والأطم القصر وكل حصن بني بالحجارة. وقيل هو كل بيت مربع مسطح. وقد ورد أن "بلالا الحبشي" كان يؤذن على أطم المدينة. وقد اشتهرت بها المدينة. وذكر أن الأطمة الحصن. وأن "الأضبظ بن قربع بن عوف بن كعب ابن سعد بن زيد مناة بن تميم"، بنى أطما باليمن، عرف باسمه: "أطم الأضبط". وكان قد أغار على أهل صنعاء. وأشر في شعر "أوس" إلى "آطام نجران". حيث ذكر أن احد الملوك بث الجنود في الأرض، فأخذوا بقتل أعدائه ما بين بصرى وآطام نجران.
ويظهر من روايات أهل الأخبار أن قرى الحجاز ومدنها كانت شعابا، أي أحياء. تكونت على الطريقة البدوية. وذلك بإقامة كل عشيرة في حي معين من أحياء القرية أو المدينة. وتكون بين الحي عصبية مثل عصبية أفراد القبيلة للقبيلة. وينتمي الحي إلى القبيلة أو العشيرة التي يرجع اليها، ويتعصب لها. ويشعر أن بين أفراد الحي قرابة ورابطة دم. ويعبر عن سكان الحي ب "آل.....". ويكون وجيه الشعب، هو نقيبه وممثله وسيده.
وقد يقال للمنزل أو المحلة "الربع" والجمع "الرباع". وذكر أن "الرباع" المنازل وجماعة الناس. فتتألف كل قرية أو مدينة من رباع.
وقد كانت "الحيرة" على هذه الشاكلة أيضا. فقد كانت مؤلفة من مواضع حصينة بناها سادات المدينة وأشراف الأحياء، عرفت عندهم ب "القصور" والمفرد "قصر". فإذا داهم المدينة خطر دخل أهل الحي قصر سيدهم وشريفهم وتحصنوا به.
الأبراج

(1/2521)


--------------------------------------------------------------------------------

وتؤلف الأبراج والحصون ص فحة من صفحات كتاب الفن المعماري والحربي في التأريخ الجاهلي. فقد بنيت لتؤدي واجب الدفاع والحماية والوقوف بجبروت وتعنت في وجه من يريد الكيد بمن يحتمي وراء تلك الحصون. وطبيعي أن تراعي في تصميمها وبنائها الأغراض التي من أجلها شيدت وبنيت والمكان الذي تقام عليه. ويراعى في جدران الحصون أن تكون سميكة وأن تبنى بمواد متماسكة تماسكا شديدا حنى لا تنهار عند ضرب المهاجمين لها ومحاولتهم تهديمها لايجاد ثغر فيها يهجمون منها، وتنشأ فيها مخازن لخزن الأسلحة، وييسر فيها الماء ومواد المعيشة التي يحتاج اليها المدافعون، وتحدث منافذ في أعالي الأبراج لرمي المهاجمين منها. ويكون سمك الحائط عند القاعدة أكبر من سمكه في أعلاه. وأما الأبواب المؤدية إلى الحصن، فإن الطريق اليها لا يكون مستقيما ممتدا، بل بأخذ اتجاهات مختلفة، ويمر بممرات وقاعات،ليكون في امكان المدافعين الاحتماء بها حين يتمكن المهاجمون من اقتحام الباب الخارجي.
وتقام الأبراج فوق الأسوار والأبواب لحمايتها من المهاجمين. وتكون هندسة بنائها عندئذ متناسبة مع هندسة بناء السور أو أعلى الباب. وقد تنتهي بما يشبه الأسنان والأفاريز، ليتمكن المدافع من إصابة المهاجمين بما عنده من مواد مؤذية فيمنعهم بذلك من اقتحام السور ومن إلحاق أي أذى به. وذكر علماء العربية أن "البرج" بيت بنى على السور والحصن. وقد يسمى بيتا. وذكروا أن برج الحصن ركنه. ولم يذكر أولئك العلماء أصل الكلمة. وهو من الألفاظ المعربة عن اليونانية، إذ هو Pirghos فيها. بمعنى "بناء" وبرج فوق بناء يدافع به المدافعون ولصد المهاجمين من التقدم نحوه.
الطرق

(1/2522)


--------------------------------------------------------------------------------

وتوجد آثار طرق جاهلية في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية مبلطة تبليطا حسنا، وأخرى ممهدة تمهيدا فنيا. وقد انشىء بعضها في أرض جبلية وفي أرضين وعرة، وذلك باستعمال آلات بمهارة في قطع الصخور لانشاء هذه الممرات. وأنشىء بعض إخر في الأودية وفي السهول برفق وعناية وقد كسيت ورصفت بالأحجار رصفا متينا قويأ كالذي يظهر من بقايا هذه الطرق التي لا تزال متماسكة شديدة، تقاوم الأيام بالرغم من طول عمرها ومن عدم اهتمام الناس بها.
ومن الطرق الجاهلية الني وجدها السياح والباحثون، طريق "مبلقة" "مبلقت" في وادي بيحان. الذي يتراوح طوله من ثلاثة أميال إلى أربعة أميال، ويرجع عهده الى حوالي السنة "325" قبل الميلاد في تقدير بعض الباحثين. وهو يؤدي إلى "حريب". وقد رصف وجهه وكسي بصفاح ضخم عريض. ونحت قسم منه طوله زهاء مئة قدم في الصخر نحتا إلى عمق ثلاثين قدما، وذلك اختصارا للمسافة. وهو عمل يقدر بالنسبة ذلك الزمن.
ومن هذه الطرق طريق مدرج عمله الجاهليون في المرتفعات المؤدية إلى "وادي ذنه" على مقربة من مأرب. "مدرج نقيل" "نقيل مدرج". وقد نحت في الصخر وطريق آخر عرضه زهاء أربعة أمتار يقع شمال "معبر"، وطريق اخر يؤدي من هضبة "عقبة" إلى وادى عرمة ثم الى "شبوة". وطريق في جنوب حافة جبل اللوذ، نحت نحتا في الصخر حتى يؤدي بسالكيه من "خربة السود" إلى "كعاب اللوذ". ونجد طرقا نحتت في صخور المرتفعات والهضاب والجبال لتؤدي إلى الحصون "العر" والمحافد والقصور والمدن مثل "عر ذو مرمر" و "عراتوت" "حصن أتوت" في أرحب، و "قصر ريدان" "ذو ريدان" "جبل ريدان في بيحان". واشير في النص Glaser 824 إلى طريق جبلي، عمل على جبل "جحاف" في هضبة "الضالع".

(1/2523)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن الطرق الجبلية المسماة "منقل" في المسند، طريق في جبل "عمان" يؤدي إلى "مأرب". وقد ذكر علماء اللغة أن "المنقل الطريق في الجبل". وقد وصفه "هاملتون"، الطريق القديم الذي ربط عدن بالداخل. وهناك طريق معروف مشهور اشتهر باسم "درب الفيل"، ينسب الى "التبع أسعد كامل" في حوالي السنة "400" للميلاد، ومنه بقايا بين "تربة" ومواضع أخرى من أعالي اليمن.
وقد وجدت شوارع المدن وطرقها مبلطة مرصوفة رصفا حسنا في بعض الأحيان بحجارة وضع بعضها فوق بعض، وربطت بينها مادة بناء مثل الجبس، ذات قوة وتماسك كقوة "السمنت" وتماسكه حين يجف. وقد رصف بعضر آخر بحجارة مربعة أو مستطيلة قدت من صخر، وضع بعضها إلى جانب بعض وضعا محكما بحيث بدت وكأنها حجر واحد،ورصف بعض آخر بحجارة هذبت اوجهها وصقلت وجعلت لها حوشي منخفضة، وحواشي بارزة يكون سمكها سمك القسم المنخفض من الحواشي المنخفضة حتى توضع فوقها فتغطيها، فتكون الأحجار متماسكة بذلك كقطعة واحدة. وقد وجد بعض الطرق مكسوا ب "الاسفلت".
وقد ذكر علماء اللغة أن "البلق" الرخام، وحجارة باليمن تضيء ما وراءها كالزجاج. ولم يذكروا أن "مبلقة" بمعنى الطريق الممهد، وقد تبين من فحص البقية الباقية من الطريق القريب من "غيمان"، وعهده أيام ما قبل الإسلام، أن تبليطه ورصفه لم يكونا على جانب كبير من الدقة والعناية. وهو بعرض أربعة أمتار تقريبا، ويؤدي إلى "قصر غيمان". وقد أقيم في موضع منه على سد ارتفاعه خمسة أمتار،وقد حفظ من الجانبين بحدارين.

(1/2524)


--------------------------------------------------------------------------------

ويقال للطرق الضيقة الني يسلكها الإنسان للوصول إلى أعلى البرج أو القلعة "محول" في اللهجة المعينية. وقد تكون مسقوفة، وقد تكون بغير سقف، كما تكون مدرجة أي ذات سلالم،وربما لا تكون كذلك، وقد تؤدي الى ارتفاع، وقد تكون ممرا مستويا يخترقه الإنسان كالدهليز، واتخذ الجاهليون القناطر، والقنطرة لغة في ألجسر، ويراد بها القنطرة المعقودة المعروفة عند الناس. والعرب تسمي كل أزج قنطرة. وقد ورد ذكرها في شعر لطرفة بن العبد. هي تعقد بالحجارة وتشاد بالجص أو بجياد وهو الكلس. ويعبر عليها الناس ووسائط النقل وقد عثر على آثار قناطر في مواضع متعددة من جزيرة العرب،ولا سيما في اليمن وبقية العرببة الجنوبية حيث تكثر الأودية والسيول. وجاء في شعر لطرفة بن العبد"، هذا البيت: كقنطرة الرومي اقسم ربها لتكتفنن حتى تشاد بقرمد
وقد ذكر "الزوزني"، أن صاحب القنطرة وهو رومي، حلف ليحاطن
بها حتى ترفع أو تجصص يالصاروج أو بالاجر. وأن القرمد: الآجر، وقيل هو الصاروج، والشيد الرفع والطلي بالشيد وهو الجص. ولم يذكر الشارح موضع القنطرة المذكورة التي بناها صاحبها وهو رومي فنسبت اليه.
أثاث البيوت

(1/2525)


--------------------------------------------------------------------------------

وليست لدينا صور واضحة دقيقة عن بيوت أغنياء المدن، وعن محتوياتها وعما فيها من أثاث وأدوات. غير أن بعضا منها يجب أن يكون واسعأ كبيرا حوى كل وسائل الراحة المتوفرة بالقياس إلى ذلك العهد. فرجل مثل "عبد الله بن جدعان" كان ثريا ثقيل الثراء، يملك انية من الذهب والفضة، ويشرب يكؤوس غالية، ويأكل أكلات غريبة، ويتفنن في مأكله، وقد استحضر لذلك طباخين من الخارج من العراق مثلا، ليطبخوا له طعاما غريبا عجميا، أقول إن رجلا مثل هذا لا بد أن يكون بيته بيتا كبيرا يتناسب مع ثراء صاحبه وماله وقد بني بناء محكما، وأحصنت جدرانه وارتفعت حتى يكون في مستطاعه التحصن فيه وقت الخطر والمحافظة على نفسه من السراق والطامعين في ماله في الليل والنهار. ولا بد أن يكون بيت عبدالله بن جدعان هذا قد بني من أجنحة متعددة، جناح لسكناه مع نسائه، وجناح لقيانه وخادماته وجناح لخدامه و****ه، وجناح لاستقبال أصحابه وندمائه وأصحاب الحاجات والأشغال، فقد كان يجلس للاصدقاء يتسامر معهم ويسمع معهم غناء قيانه، وعلى رأسهن "الجرادتان"، وهما قينتاه المختارتان، وكان لهما صوتان شجيان، وقد اشتهرتا بمكة، وخلد ذكرهما حتى الآن، فلا يعقل أن يكون بيته صغيرا أو حقيرا أو بدائيا، إذ لا يتناسب ذلك مع ما يذكره اهل الأخبار وبروونه عن ثرائه وبذخه وعن شربه بآنية من ذهب وفضة، إلى غير ذلك مما يحملنا - لو صدقنا روايات الأخباريين - على أن ببته يجب أن يتناسب مع ثرائه.

(1/2526)


--------------------------------------------------------------------------------

وعاصر ابن جدعان نفر آخر كانوا من أغنياء مكة ومن أصحاب المال والثراء، لهم ذوق في الجمال وحب للشراب، وكان لهم خدم وحشم، ورجال من هذا الطراز لا بد أن تكون بيوتهم حسنة ومن حجارة، وفيها وسائل الراحة، ولها مواضع خاصة بإقامة النساء، وأماكن خاصة باستقبال الضيوف، ومواضع لإقامة الخدم والصيد. والحيوانات التي يرتبطها للركوب، وحجر لحفظ الأطعمة والأشربة بمقادير كافية احتمالا لحالات الطوارئ.
وعرفت الزرابي، وهي "الطنافس"، في بيوت أثرياء الجاهليين وقصور الأمراء. وقد ذكرت "الزرابي" و "النمارق" في القرآن الكريم. وورد أن الزرابي ضرب من الثياب محبر، منسوب إلى موضع، وذكرت "الزرابي" في شعر"حسان".
وعرف عند الجاهيين نوع خاص من الطنافس قيل له "الرحال"، ذكر أنه من طنافس الحيرة. واليه أشار الأعشى بقوله: ومصاب غادية كأن تجارها نشرت عليه برودها ورحالها
وقد استعملت الكراسي والأسرة في بيوت الأغنياء. والكرسي السرير. واما السرير، فهو ما يجلس عليه وينام فوقه أيضا. وقد عبر به عن الملك والنعمة.
والظاهر أن ذلك بسبب كونه من مظاهر الغنى والجاه. و"الخلب" الكرسى قوائمه من حديد.
ويقال للمجلس "الموثب" في لغة "حمير". ويراد بها أسفل الشيء وما يستقر على الأرض. وهي قريبة في المعنى من لفظة "شت" و "اشدو".

(1/2527)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد استورد أهل مكة الأواني الغالية والأثاث الراقي من بلاد الشام، لما عرفت به هذه البلاد من التقدم في الصنعة وحسن الذوق، ولقربها من الحجاز، كما استوردوها من العراق " ويمكن معرفة أصولها والأماكن التي وردت منها بدراسة أسماءها. فأكثر أسماء الأشياء المستوردة، هي أسماء معربة. عربت من اصول أعجمية، ويمكن الوقوف على أصلها بدراسة أصولها اللغوية التي جاءت منها. وقد تبنى "دكك" عند باب البيت، يحلس عليها الدرابنة، أي "البوابون"، لمنع الغرباء من الدخول داخل البيت، ولحراسة الدار. وقد أشير اليها في شعر ينسب للمثقب العبدي: فابقي باطلي والجد منها كدكان الدرابنة المطين
أما بيوت الفقراء، فهي كما يظهر من روايات أهل الاخبار، بيوت حقيرة
إن جاز اطلاق لفظة "بيت" و "بيوت" عليها. وهي من طين ومن بيوت شعر، لا تقي من برد ولا من حر.، لذلك فإن الطبقة الفقيرة عاشت عيشة بؤس وشقاء. وليس في مثل هذه البيوت مرافق صحية ولا مغاسل ولا حمامات، فكان اصحابها يقضون حاجاتهم في خارج البيوت. وإذا كان من السهل على الذكور أداء هذا الواجب، فإن ذلك كان من ت أصعب الأشياء بالنسبة للاناث.
وسائل الركوب
وكان السير على الأقدام للوصول إلى المواضع المقصودة هو المألوف عند أكثر الناس، بسبب فقرهم وعدم تمكنهم من امتلاك دابة ركوب. لقد كان أكثرهم يقطع مسافات طويلة مشيا على قدميه في ذهابه الى قبيلته أو للتنقل من مكان إلى مكان. أما المتمكنون منهم، فقد ركبوا الجمال في قطع المسافات البعيدة والأرضين الصحراوية، وركبوا الخيل والبغال والحمر في القرى وفي الأرضين التي لا تغلب عليها الطبيعة الصحراوية.

(1/2528)


--------------------------------------------------------------------------------

ولحماية النفسى أثناء النوم من "البعوض" والحشرات الأخرى استعملوا "الكلل". و "الكلة" ستر رقيق يخاط كالبيت يتوقى به من الحشرات. ومن هذه الحشرات والهوام: البعوض، واكثر ما يكون في بيوت الحضر، حيث تتوفر له وسائل النمو والمعيشة، من أوساخ ورطوبة وماء. وفي المواضع التي يكثر وجود الماء بها مثل خيبر، حيث عرفت بكثرة بعوضها الحامل للبرداء "الملاريا.". و "الناموس"، و "البرغوث" الذي يزعج الإنسان ويقلقه، فلا يجعله يستريح في نومه، ثم الذباب.
آداب المجالس
وللقوم آداب في مجالسهم على الإنسان اتباعها ومراعاتها، من ذلك أن لكل بيت مهما كان حجمه أو مكانته حرمة. وأن على كل إنسان صيانة حرمة بيته وبيت غيره سواء بسواء. لأن بيوت الناس هي في الحرمة سواء. ومن ينتهك حرمة بيت غيره يكون قد قام بإثم كبير وعرض نفسه لانتقام أهل البيت المنتهك منه. وقد يؤدي ذلك إلى وقوع قتال بنداء العصبية وبتجمع أهل البيت للاخذ بثأرهم ممن ثلب حرمة بيتهم وتطاول عليه، ودنس شرفه، بالاساءة اليه. ولن تغفر الاساءة ولا يغسل عارها إلا بالانتقام وبالانتقاص من شأن ذلك الإنسان الذي انتهك حرمة بيت غيره.
ومن حرمة البيت عدم جواز دخوله إلا بإذن من صاحبه. فإن دخل اليه دون إذن، عنف الداخل وأنب، وان ثبت أنه دخله عن غاية وتصميم عد معتديا عليه منتهكا لحرمته. ويكون جزاءه الانتقام منه. وعلى من يريد دخول بيت الاستئذان من أصحابه حتى وإن كان البيت خيمة مهلهلة تذروها الرياح. لأن تلك الخيمة هي بيت ومأوى. ولا ينظر الناس إلى نوع البيت والى جنسه بل إلى أهله، فالبيت بأهله لا يكيفيته،وحرمته من حرمة أصحابه.

(1/2529)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد كان بعض الجاهليين يدخلون البيوت كل. غير استئذان، ولا سيما الأعراب. ومنهم من كان يقف عند الباب فين ادي: يا فلان اخرج، أو يا فلان أدخل. ونجد في كتب السير والأخبار أن من الأعراب من كان يقف امام حجر النبي وينادي: أخرج يا محمد ? ولهذا شدد على "الاستئذان" وعلى السلام في الإسلام. ولا يخاطب الرجل الرجل الأكبر منه سنا أو منزلة باسمه، وإنما يخاطبه بكنيته. كأن يقول يا أبا فلان، وتكون الكنية باسم الابن الأكبر، إلا إذا حدث ما يستوجب عدم ذكر اسمه. فيكنى بغيره ممن يختارهم ذلك الرجل. وقد لا يكون ولدا، ولكنه يكنى مع ذلك بكنية يختارها هو، أو تكون متعارفة عن الاسم بين الناس. ولا تزال عادة التكنية مستعملة عند الحضر وعند الأعراب. وقد عرف بعضهم الكنية بي )اسم يطلق على الشخص للتعظيم نحو أبي حفص وأبي حسن، أو علامة عليه(. وتقوم الكنية مقام الاسم فيعرف صاحبها بها كما يعرف باسمه كأبي لهب عرف بكنيته. وأبو فلان كنيته.
التحية
والعادة عند الجاهليين أن يحيى الصديق صديقه إذا رآه. والتحية: السلام.
ومن تحياتهم: حياك الله أو حياك.... ثم يذكر الصنم. وإذا كان اللقاء صباحا قالوا: أنعم صباحا وعم صباحا، أما إذا كانوا جماعة فيقول عندئذ: أنعموا صباحا، وعموا صباحا، وإذا كان الوقت مساء، قال أنعم مساء وعم مساء وأنعموا مساء إذا كانوا جماعة.
والمصافحة معروفة عند الجاهليين. وتكون باليد اليمنى. وقد يتصافحون باليدين. وقد يتعانقون، إذا كانوا قد جاؤوا من سفر أو من فراق. وقد أشير في الحديث إلى المصافحة باليدين عند اللقاء.

(1/2530)


--------------------------------------------------------------------------------

وتكون إجابة الصغير للكبير بتلبية مؤدبة،. فإذا سأل إنسان ذو منزلة إنسانا آخر أقل منزلة منه أجابه بجمل فيها أدب وتقدير مثل لبيك وسعديك. أي لزوما لطاعتك، وأنا مقيم على طاعتك، واجابة لك، وأنا مقيم عندك، واتجاهي اليك وقصدي لك وما شاكل ذلك من معان ذكرها علماء اللغة. ومن هنا قيل لقول الحجاج في الحح: لبيك اللهم لبيك، التلبية، ويجاب ب "نعم" وب "نعم وكرامة". وقد يكون الجواب لطلب عمل عمل. كأن يطلب رجل من رجل آخر عمل عمل، فيقول له: "نعم"، و "نعم وكرامة"، و "نعم عين ونعمة عين"، و "نعام عين"، و "نعيم عين"، و "نعام عين". وتعد لفظة " بلى" من ألفاظ الإجابة كذلك.
ومن آداب البيت الامتناع عن قول الفحش بحضور النساء. وعدم النظر بسوء إلى البنات والنساء، وعدم تركيز النظر عليهن. لأن معنى ذلك توجيه إهانة إلى رب البيت، واظهار أنه إنما قصد من دخول البيت التمتع برؤية النساء. وعليه السيطرة على نفسه وضبطها فلا يسمح لنفسه بإخراج الريح من جوفه، لأن ذلك عند العرب عيب كبير. فالضراط و الفساء إذا وقعا من إنسان بحضرة غرباء عدا من المغامز التي قد يؤاخذونها على الرجل. لا سيما إذا كان الرجل معروفا مشهورا وله حساد.
ومن عاداتهم: تشميت العاطس، لا سيما إذا كان كبيرا ذا جاه. كان يدعى له بطول العمر. وقد أكده الإسلام. فإذا عطس إنسان قال: الحمد لله فيجيبه الحضار ب "يرحمك الله". ويحمد العطاس عند العرب، ما لم يكن من زكام ويذم التثاؤب. وذكر أن كل دعاء بخير فهو تشميت.
ويقال للشاب إذا سعل: عمرا وشبابا. أما إذا كان الساعل شيخا أو رجلا بغيظا، فيقال لهما: وريا وقحابا. وللحبيب إذا سعل: عمرا وشبابا.
وكانت تحيتهم للملك أن يقولوا: أبيت اللعن. وإذا قال أحدهم للآخر: أنعم صباحا، أو أنعم مساء، أو أنعم ظلاما، أجابه صاحبه: نعمت.
ثقال الناس

(1/2531)

admin
12-31-2010, 08:04 PM
ومن الناس من يستثقل ظلهم ويرجى انصرافهم بسرعة. لثقل طبعهم ووجود جفاوة فيهم، أو تلبد في طبعهم يجعلهم لا يدركون طباع الناس. ويقال لأمثال هؤلاء: الثقلاء. وثقال الناس وثقلاؤهم من تكره صحبته ويستثقله الناس. يقال: مجالسة الثقيل تضني الروح. ويقال: هو ثقيل على جلسائه، وما أنت إلا ثقيل الظل بارد النسيم.
ومن الثقلاء من يطيل الجلوس في المجالس: أو يدخلها دون دعوة، أو يتدخل فيما لا يعنيه أو فيما يجهله ليظهر علمه وفهمه. أو يزور صديقا في وقت لاتستحب زيارة أحد فيه، أو يعود مريضا ثم يطيل الجلوس عنده. وكانوا إذا وجدوا من الثقيل بلادة، فلربما أسمعوه كلاما يشعر بتثاقلهم منه، فإذا لم ينتبه أشعروه بصور أخرى تفهمه أنه ثقيل الظل حتى يرحل عن المجلس و "الظريف" على عكس "الثقيل"، يستظرفه الناس ويستملحون كلامه ويحبون مجالسته. وهو البليغ الجيد الكلام، أو هو حسن الوجه والهيئة، كما يكون في اللسان. وقيل الظرف: البزاعه وذكاء القلب. والبزاعة هي الظرافة والملاحة والكياسة.
وقد يدعون بالشر على الأعداء والحساد والثقلاء، فيقولون: رماه الله في الدوقعة، أي في الفقر والذل، و "أخس الله حظه"، و "أبعد الله دار فلان، وأوقد نارا إثره". والمعنى لا رجعه الله ولا رد ه. و "أبعده الله وأسحقه وأوقد نارا إثره".
للصلف
وأما "الصلف"، فالتمدح بما ليس عندك. وقيل مجاوزة قدر الظرف والبراعة فوق ذلك تكبرا. وفي الحديث:آفة الظرف الصلف. وهو الغلو في الظرف والزيادة على المقدار مع تكبر. وهو مكروه ويستثقل صاحبه ويقل أصحابه.
المجالس

(1/2532)


--------------------------------------------------------------------------------

والعادة عندهم أنهم إذا زاروا ملكا أو سيد قبيلة أو عظيما، لبسوا أحسن ما عندهم من لباس، وتزينوا بأجمل زينة يعرفونها ومنها الكحل والترجيل ولبس جبب الحيرة المكففة بالحرير،كالذي فعله سادات نجران يوم وفدوا على الرسول. والتكحل عادة منتشرة عند جميع الجاهليين رجالا ونساء وفي كل جزيرة العرب. كما كانوا يتطيبون بالطيب والعطر.
ومن آدابهم في مجالسهم قيام القاعد للقادم عند قدومه وتوجيهه التحية لهم.
ولا سيما إذا كان القادم شريفا وله منزلة عند قومه ومكانة. فيقف القوم على أرجلهم ويحيون المحيي على تحيته بتحية هي خير منها، هذه سنة كانت معروفة عندهم، ولا تزال. وقد تطرق "الجاحظ" الى هذه القاعدة، ثم قال: "قالوا: ومن الأعاجيب أن الحارث بن كعب لا يقوم لحزم، وحزم لا تقوم لكندة، وكندة لا تقوم للحارث بن كعب". ثم قال: "قالوا: ومثل ذلك من الأعاجيب في الحارث: أن العرب لا تقوم للترك، والترك لا تقوم للروم، والروم لا تقوم للعرب".
وتفرش أرض سيد القبيلة وذوي اليسار من الناس، وكذلك غرف بيوتهم بالفرش، كالبسط، وتوضع الوسد في صدر المجلس ليتكئ عليها الجالسون. وليتوسدوها عند النوم. ويعد تقديم الوسادة إلى الضيف من اماراة التكريم والتقديس بالنسبة لمن قدمت له. ولا تزال هذه العادة متبعة عند الأعراب. ويجلس العرب على الأرض وعلى الحصير والبساط. وقد يجلسون على وسادة وقد يستلقون ويضعون إحدى رجليهم على الأخرى، وقد يتكئون على الوسادة، وربما اتكأوا على اليمين وربما اتكأوا على اليسار. والحصير سقيفة تصنع من بردى وأسل ثم يفترش. سمي بذلك لأنه يلي وجه الأرض. وتصنع الحصر من خوص السعف أبضأ، وتفرش على الأرض. يستعملها أهل القرى والمدن والأرياف، وفي بيوت الفقراء. وذلك لعدم تمكن الفقير من شراء بساط منسوج، ولا سرير يجلس عليه. قال شاعر: فأضحى كالأمير على سرير وأمسى كالأسر على حصير

(1/2533)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عد "السرير من امارات الغنى والرفاه والنعمة، حتى عبروا عنه بالملك. فقالوا: "سرير الملك".
ويقال للحصير المنسوج من القصب "البارية" و "البوري". وقد عرف أهل الحجاز "البارية". وأشير اليها في الحديث.
ويتناول الإنسان عند نهوضه من نومه "الصبوح". ويحي أهله ومن هو حوله بتحية الصباح: عم صباحا وعموا صباحا إذا كانوا جماعة. وهي تحية الجاهلية. و "الصبوح" كل ما أكل أو شرب من اكل أو لبن. وهم يستحبون الجلوس من النوم صباحا، لأن ذلك عندهم أنشط للجسم وأدعى للصحة، ثم إن الغارات تقع في الصباح، وإذا أغاروا صاحوا: يا صباحاه ينذرون الحي أجمع بالنداء العالي، ويسمون الغارة يوم الصباح. ولكن أكثرهم كانوا ينامون الصباح أي نوم الغداة، ويسمون ذلك النوم "الضبحة" ولا ينهضون إلا متأخرين أو بعد حيل وازعاج لهم، لاكراههم على النهوض. وقد كره الإسلام هذه النومة، فجاء النهي عنها في حديث الرسول.
تنظيف الأجسام
ولتنظيف الجسم من الأوساخ والأدران استعملت الحمامات. وذلك عند الحضر بالطبع. أما حمامات البدو، فهي بيوتهم والعراء، يسكبون الماء على أجسامهم ويغتسلون. وقد عرف أهل القرى والمدن الحمامات ولها مساخن تسخن لهم الماء ليغتسلوا بها. وكانوا يستعملون النورة في الحمامات لإزالة الشعر. وإذا خرج أحدهم من الحمام قيل له: طابت حمتك. وذكر أن من أسماء الحمام "الديماس". وزعم بعضهم أن الديماس من الألفاظ المعربة. عربت من لغة الحبشة.

(1/2534)


--------------------------------------------------------------------------------

وكانت الحمامات العامة قليلة العدد وربما لم تكن معروفة، إذ لم تكن شائعة بين الناس في الشرق الأدنى، لأنهم كانوا يستحمون في بيوتهم في الغالب، فجزيرة العرب حارة ومن الممكن الاغتسال في البيوت بكل سهولة. ولم يعرف اليهود الحمامات ألعامة، وإنما تعلموها من الروم والرومان. وكانوا يستحمون في المياه الجارية وفي البيوت. وقد ورد أن الرسول لم يدخل حماما قط، ولم يصح في الحمام حديث. مما يدل على أن الحمام العام لم يكن شائعا في أيامه. فكان الرسول يغسل جسمه في بيته. وإذا وجد الحمام العام فلم يكن الأغنياء وذوو اليسار وأهل البيوت يقصدونه، إذ كانوا يرون أن في تعري الرجل من ملابسه أمام الغرباء زراية ومنقصة، وأن في مخالطة الناس والاغتسال معهم في حمام، مثلبة ودلالة على نقص في البيت. فاستحموا في بيوتهم.
وقد قام السدر في الحجاز مقام الصابون في الاغتسال، فكانوا إذا أرادوا تنظيف أجسامهم استعملوا ورق السدر مع الماء، فيخرج له رغاء ابيض، وذلك بعد طحن الورق أو دقه. وقد جرت العادة بغسل الميت به. وذكر ان الرسول امر قيس بن عاصم بأن يغتسل بالماء والسدر.
وعندما تغتسل المرأة، تغسل رأسها بالخطمي والطين الحر والأشنان ونحوه.
ثم تمشط شعرها. وقد تستعمل المرأة المتمكنة ورق الاس يطرى بأفاويه من الطيب لتمشيط شعرها به.

(1/2535)


--------------------------------------------------------------------------------

ونظرا لقلة وجود الماء في البادية، اقتصدوا في استعماله كثيرا، حتى أنهم لم يكونوا يشربون منه إلا قليلا وعند الضرورة، وذلك خوفا من إلإسراف فيه، فينفذ ويهلكون عطشا، لذلك كان من الطبيعي بالنسبة لهم عدم غسل اجسامهم حتى صار عدم الاستحمام بالماء شبه عادة لهم. وقد ادى ذلك إلى توسخ اجسامهم وظهور رائحة الوسخ منهم. ورد في حديث "عاثشة": "كان الناس يسكنون العالية فيحضرون الجمعة وبهم وسخ، فإذا اصابهم الروح سطعت ارواحهم، فيتأذى به الناس. فأثروا بالغسل". وكان منهم الفقراء من اهل الحضر كذلك، ممن لا يملكون بيتا ولا يجدون لهم مكانا يغسلون اجسادهم فيه. وكان من بينهم عدد من الصحابة الفقراء.
وكانوا إذا ارادوا قضاء الحاجة دخلوا الخلاء". وهو موضع قضاء الحاجة. وتكون في بيوت الحضر. وقد تكون غرفة وقد تكون سترا. ويستنجي بالماء إن وجد وبالحجارة، والنجو ما يخرج من البطن من ريح أو غائظ. وقيل العذرة نفسها. واستنجى مسح النجو أو غسله. وكانوا إذا ذهبوا في سفرهم للحاجة انطلقوا الى موضع يتوارون فيه عن أصحابهم. ليقضوا حاجتهم به. وربما تستروا بالهدف وفي حشائش النخل وبشجر الوادي. ويقال للكنيف المشرف في أعلى السطح المتصل بقناة إلى الأرض "الكرياس". أما إذا كان أسفل فليس بكرياس. وقد تكون للغرف "مراحيض". والكنيف المرحاض كأنه كنف في أستر النواحي.
وكانوا إذا أرادوا أن يبولوا ابتعدوا عن أصحابهم بعض الشيء ثم بالوا.
وأكثر ماس يبولون قعودا. ولكنهم كانوا يبولون وقوفا أيضا، وهو في الأقل. وإذا أرادوا قضاء حاجتهم أو التبول لم يرفعوا ثوبهم بل جعلوه يتدلى حتى يدنو من الأرض، إلا من الأمام حيث يرتفع بعض الشيء، ويبعد من الخلف أو يرفع قليلا حتى لا يتأذى بالعذرة.
ويرى العرب أن ما بين السرة والركبة من الرجل عورة، لذلك يجب ستره.

(1/2536)


--------------------------------------------------------------------------------

والعورة السوأة من الرجل والمرأة. وكانوا يرون ظهورها عارا أي مذمة. لذا حرصوا على انزال ثيابهم إلى الأرض لسترها قدر الامكان، وذلك عند قضاء الحاجة.
الخدم والخصيان
وتحتاج البيوت الكبيرة إلى خدم، لتحضير ما يحتاج البيت اليه من طعام وماء ولتنظيفه وللعناية بدوابه وبما يربط في مرابطه من حيوان. كما يوكل اليهم خدمة الضيوف وتقديم الشراب إلى المتنادمين. وكانوا يستخدمون "الخصي" لخدمة أهل البيت من النساء، لأنهن محرم، ولا تصح خدمة الرجال لمحارم البيت. ونظرا إلى ضرورة استخدام الرجال في بعض أمور البيت، استعاضوا عنهم باستخدام "الخصي" في هذه الأمور. وقد كان "مأبور" القبطي الخصي، الذي قدم مع "مارية القبطية" أم ولد الرسول من مصر يدخل عليها ويجلس في بيتها، وكان خصيا.
الحياة الليلية

(1/2537)


--------------------------------------------------------------------------------

والحياة الليلية حياة هادئة على وتيرة واحدة، ياوي الناس الى بيوتهم. مع غروب الشمس في الغالب، أما وجهاء القوم، فقد كانوا يتسامرون في بيوتهم وفي مضاربهم، وذلك بأن يأتي أصدقاؤهم اليهم فيتحدثون معهم ويتذاكرون الأيام الماضية وما يقع من أحداث إلى ساعات من الليل ثم يعودون إلى بيوتهم. ويكون السمر في الليل خاصة، والسمر الظلمة. ولهذا كانوا يقسمون بالسمر والقمر. أي بالظلمة والقمر. ثم أطلق السمر على السمر عامة في الليل أو في النهار. وقد صار هذا "السمر" أساسا للقصص العربي وللادب العربي والتاريخ الجاهلي. وعلى الرغم من أن طابع السمر، أي القص والتحدث والانصات إلى المسامر، لا يتفق مع الطابع التأريخي، إلا أنه مون المؤرخين مع ذلك بشيء من أخبار أيامها ورجالها في صورة مم ألصور المعروفة عن القص. والعادة أن الذين يبرزون ويظهرون في رواية القصص هم أصحاب الالسنة، اللبقون الذين أوتوا مواهب خاصة، والذين يجيدون معرفة نفسيات من يحيط بهم للاستماع إلى قصصهم. فيحدثون السامعين اليهم بما سمعوه ممن تقدم عليهم أو من يعاصرهم من أخبار وحوادث مسلية طريفة كان الجاهليون إذ ذاك يتشوقون إلى الاستماع اليها. ومن ذلك قصص إلأيام والأبطال الشجعان الذين سأهموا فيها، وقد يكون المتكلم نفسه ممن شهد الأيام وقائل فيها. وهذا النوع من السمر، لا يتقيد بالصدق وبالتعقل، كما أن المستمعين لا يهمهم فيه إذا كان معقولا أو غير معقول.

(1/2538)


--------------------------------------------------------------------------------

وكل ما يهمه منه هو التلذذ بسماع القصص أو الأشعار أو الأخبار وأمور الشجعان أو غير ذلك.ولما كان السمر يكون في كل بيت وفي كل مكان. وهو يتناسب مع عقلية القاص أو المتكلم وعقلية السامع وحالاته النفسية التي يكون عليها عند الإستماع الى السمر، لهذا كان السمر ألوانا وأشكالا، منه ما يتناول أخبار العالم، كما وصلت إلى البادية، ومنه ما يتناول أخبار الملوك وأخبار سادات القبائل،ومنه ما يتناول الشعر والمناسبات التي قيل الشعر فيها، ومنها ما يتناول الجن والأساطير والخرافات وأمثال ذلك من غريب، قد يبهر لب أذكى الناس، ويلهب في السامعين نيران العواطف، فيجعلهم يقبلون على الاستماع اليه بكل قلوبهم. على الاستماع إلى هذا العنصر: عنصر التصنع في القص والإغراب، لأن من طبع الإنسان البحث والتفتيش عن كل شيء غريب عجيب.
ويتخذ الملوك والأشراف وذوو اليسر لهم ندماء، يشربون معهم ويقضون وقتهم بالمنادمة. وهم من المقربين إلى الملوك ومن ضيوفهم الذين تكون لهم عندهم مكانة خاصة، وكان من عادة أهل القرى، اتخاذ الندماء، والغالب أن المنادمة تكون على الشراب. ونجد فى أخبار "مكة" التي يذكرها أهل الأخبار، أسماء جماعة من أشرافها، اختصوا بمنادمة بعضهم بعضا. يبقون في منادمتهم مدة طويلة وقد يقع سوء فهم بينهما، فيترك أحدهم منادمة صاحبه، لينادم غيره.
ويجلس الملك أو سيد القبيلة في صدر المجلس، ودونه بقية الجالسين على حسب المنازل والدرجات وقد عطر نفسه، وتطيب، وتضمخ بالعنبر وبالمسك. والظاهر أنهم كانوا يكثرون من وضع المسك على رؤوسهم حتى كان يبدوا واضحا جليا من مفارقهم. وقد أشير إلى هذه العادة في الشعر والأخبار.

(1/2539)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان من عادة سادة العرب استعمال الخلوق والطيب في الدعة وفي جلوسهم مجالس أنسهم، مثل مجالس السماع والغناء. وكان المتمكنون. منهم وعلى رأسهم الملوك يضمخون.أجسادهم ورؤوسهم بالطيب حتى كأنه يقطر منهم. فكانت تفوح منها رائحة الطيب. فضلا عن البخور الذي يتبخر به.
وقد كان الأغنياء والمتمكنون من الناس يشترون العطور ويكثرون من التطيب بها. وقد تباهى "كعب بن الأشرف" بأنه كان يملك أطيب العطور المعروفة عند العرب.
وتكون ملابسهم بالطبع من أحسن الملابس، من الديباج أو من الخز أو من الكتان، وتوشى بالشهب، وتقصب به. وقد تكون للملك دور خاصة بنسيجه، تنسج فيها حلله وما يجود به على ضيوفه وزائريه. ولديه ملابس كثيرة حاضرة، إذ طالما كان يخلع ملابسه التي يرتديها في المجلس ليعطيها إلى حاضر مدحه فأجاد في مدحه، أو لشخص قال كلاما ظريفا استحسنه، ومن يناله هذا ا التكريم يفتخر به بين أقرانه ويتباهى: فهي من المفاخر التي كان يتباهى بها في ذلك الزمان. وعادة الخلع، خلع الحلل والملابس التي يلبسها الملوك على السادة رؤساء القبائل والأشراف، أمارة على التكريم والتقدير، هي عادة معروفة في الجاهلية، وطالما أثارت حسد الرؤساء وتباغضهم، إذ عد خلع الملوك لملابسهم على السيد، تفضلا له وتقديما على غيره من السادة رؤساء القبائل. وكان لهذه الرسوم والعادات الني لا نعيرها اهتماما في زماننا ولا نقيم لها وزنا،أهمية كبيرة في عرف ذلك العهد، وقد عرفت هذه العادة في الإسلام أيضا. وقد كان المسلمون يتباهون بالحصول على خلع من الرسول، خلعها عليهم من ملابسه التي يلبسها، فإن فيها تكريما، وفيها بركة لمن خلعت عليه، لأنها من ملابس الرسول.

(1/2540)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عرفت هذه الحلل والخلع ب "أثواب الرضى"، لأنها لا تعطى إلا تعبيرا عن رضى الملك عن الشخص الذي أعطيت له. وكان جباب أطواقها الذهب بقصب الزمرد. وقد أغدق "النعمان" بها على مادحيه. وكان يقول: "هكذا فليمدح الملوك".
وقد ذكر أهل الأخبار أن أولئك الملوك اتخذوا ندماء من الفرس والروم أيضا، فذكروا مثلا أن الملك النعمان كان له نديمان، يعرف أحدهما ب "النطاسي" وسمه "سرجون"، ويعرف الآخر ب "توفيل"، وكلاهما من الروم. وورد في رواية أخرى: أن أحد النديمين هو "سرجون بن توفل" " "توفيل"، وكان رجلا من أهل الشام تاجرا حريفا للنعمان يبايعه، و كان أديبا حسن الحديث والمنادمة: فاستخفه النعمان. وكان إذا أراد أن يخلو عن شرابه بعث اليه والى "النطاسي"، وهو رومي كذلك متطبب، زهو النديم الآخر له، وكان طبيبا بارعا، ضرب به المثل عند عن العرب لبراعته بالطب.
وفي منادمة النعمان للنطاسي ولابن توفيل، أشير في بيت شعر للشاعر الربيع ابن زياد المعروف بالكامل، وهو: أبرق بأرضك يا نعمان متكئا مع النطاسي يوما وابن توفيلا

(1/2541)


--------------------------------------------------------------------------------

وممن ذكرهم أهل الأخبار من ندماء قريش عبد المطلب بن هاشم. كان نديما لحرب بن أمية حتى تنافرا إلى "نفيل بن عبد العزى". فلما نفر عبد المطلب افترقا. ونادم حرب عبد الله بن جدعان. ونادم حمزة عبد الله بن السائب المخزومي، وكان أبو أحيحة سعيد بن العاص نديما للوليد بن المغيرة المخزومي، - وكان معمر بن حبيب الجمحي نديما لأمية بن خلف بن وهب بن حذافة. وكان عقبة بن أبي معيط نديما لأبي بن خلف. وكان الأسود بن المطلب بن أسد نديما للأسود بن عبد يغوث الزهري. وكانا من أعز قريش في الجاهلية و كانا يطوفان بالبيت متقلديين بسيفين سيفين.وكان أبو طالب نديما لمسافر بن أبي عمرو ابن أمية. فمات مسافر. فنادم أبو طالب بعدر عمرو بن عبد ود بن نضر. وكان عتبة بن ربيعة بن عبد شمس نديما لمطعم بن في عدي بن نوفل بن عبد مناف. وكان أبو سفيان نديما للعباس بن عبد المطلب.وكان ألفاكه بن المغيرة بن عبد الله ابن عمر بن مخزوم نديما لعوف بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة. وكان زيد بن عمرو بن نفيل نديما لورقة بن نوفل بن أسد.وكان شيبة بن ربيعة ابن عبد شمس نديما لعثمان بن الحويرث. وكان العاص بن سعيد بن العاص نديما للعاص بن هشام بن المغيرة. وكان يدعيان أحمقي قريش و كان أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب نديما للحارث بن عامر بن نوفل. وكان الولبد بن عتبة ابن ربيعة نديما للعاص بن منبه السهمي. وكان ضرار بن الخطاب بن مرداس الفهري الشاعر نديما لهبيرة بن أبي وهب المخزومي.وكان أبو جهل بن هشام وهو عمرو بن هشام نديما للحكم بن أبي العاص بن أمية. وكان الحارث بن هشام بن المغيرة نديما لحكيم بن حزام بن خويلد بن أسد.وكان العاص بن وائل بن هشام ابن سعيد بن سهم، نديما لهشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، أبي جهل. وكان نبيه بن الحجاج بن عامر السهمي نديما للنضر بن الحارث. وكان عمارة بن الوليد بن المغيرة نديما

(1/2542)


--------------------------------------------------------------------------------

لحنظلة بن أبي سفيان بن حرب. وكان الزبير بن عبد المطلب، وهو من فتيان قريش، نديما لمالك بن عميلة بن السباق ابن عبد الدار.وكان الأرقم بن نضلة بن هاشم بن عبد مناف، وهو من فتيان قريش أيضا نديما لسويد بن هرمي بن عامر الجمحي. وكان سويد أول من وضع الأرائك وسقى اللبن والعسل بمكة. وكان الحارث بن حرب بن أمية نديما للحارث ابن عبد المطلب. فلما مات نادم العوام بن خويلد بن أسد. وكان الحارث بن أسد بن عبد العزى نديما لعبد العزى بن عثمان بن عبد الدار. وكان ابو البختري العاص بن هاشم بن الحارث بن أسد نديما لطلحة بن أبي طلحة بن عبد الدار. وكان منبه بن الحجاج السهمي نديما لطعيمة بن عدي بن نوفل بن عبد مناف. وكان ابو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب نديما لعمرو بن العاص بن وائل السهمي، وكان ابو امية بن المغيرة المخزومي نديما لأبي وداعة بن ضبيرة بن سعيد بن سعد بن سهم، وكانا يسقيان العسل بمكة بعد سويد بن هرمي.وكان ابو قيس بن عبد مناف نديما لسفيان بن أمية بن عبد شمس. وكان ابو العاص ابن امية نديما لقيس بن عدي بن سهم. وكان يأتي ألخمار وبيده مقرعة. فيعرض عليه خمر، فإن كانت جيدة، وإلا قال له: أجد خمرك، تم يقرع رأسه وينصرف.
وقد يستدعي الملوك في مجالس أنسهم الخاصة من يضحكهم ويسليهم ويجلب لهم البهجة والسرور. من امثال القصاصين الذين يقصون لهم القصص،والمسامرون الذين يسامرون الملوك بأنواع قصص السمر والحكايات المضحكة الغريبة والأمور المثيرة، والمضحكون الذين يأتون يالنكت وبالأفعال المضحكة لإضحاك الملك.

(1/2543)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد كان للملك "النعمان بن المنذر" مضحك اسمه "القرقرة"، كان يضحك منه "النعمان"، واسمه "سعد". والقرقرة: نوع من الضحك، اختص يالضحك العالي منه. وقد أدخلوه في المستأكلين والمتطفلين. قالوا سأله أحد الأشخاص يوما: ما رأيناك إلا" وأنت تزيد شحما وتقطر دما. فقال: لأني لا آخذ ولا أعطي، وأخطئ ولا ألام، فأنا طول الدهر مسرور ضاحك.
وقد جاء في شعر للشاعر "لبيد" وصف مجلس للنعمان، وقد وقف فيه "الهبانيق" أي الوصفاء بأيديهم الأباريق ينتظرون إشارة من أحد جلساء النعمان ليصبوا له خمرا طيبة من خمور تلك الأباريق. فإذا طلب منهم ملء كأس ساروا إلى الطالب سيرا فاترا وبتؤدة ليملاؤا له الكأس.

(1/2544)


--------------------------------------------------------------------------------

وكانت لهم عادات وتقاليد في مجالس الشرب وفي مجالس الطعام على نحو ما نفعل اليوم في المآدب الرسمية، فكان من عادة ملوك الغساسنة والمناذرة إجلاس السادة الرؤساء والمقربين اليهم على يمينهم وعلى مقربة منهم، تعظيما لشانهم، ودلالة على مكانة الشخص عندهم. فإذا قدم الشراب أو الطعام، قدم الى الملك اولا، فإذا شرب منه، أو ذاقه، أمر فقدم الشراب أو الطعام إلى من هو في يمينه. وقد اتبعت هذه العادة عند سائر الناس في الولائم والدعوات. فكان "النعمان بن المنذر" مثلا إذا همت الوفود التي تفد اليه يالانصراف، أمر باتخاذ مجلس لهم، يطعمون فيه معه، ويشربون. وكان إذا وضع الشراب سقي النعمان، فمن بدأ به على أثره فهو أفضل الوفد. ويذكر أنه أقام مجلسا ذات يوم ضم فيه من وفود "ربيعة" "بسطام بن قيس" و "الحوفزان بن شريك" البكربان. وفيمن قدم عليه من وفد "مضر" من قيس عيلان: "عامر بن مالك" و "عامر بن الطفيل"، ومن تميم "قيس بن عاصم" و "الاقرع بن حابس"، فلما انتهوا إلى النعمان أكرمهم وحياهم، وأمر "القينة" أن تسقي "بسطام بن قيس"، المعروف ب "ذي الجدين" أولا، ثم تسقي الآخربن. فا"نزعح بقية سادات الوفود من هذه المعاملة التي ااعتبروها إهانة متعمدة ألحقت بهم.
وإلى هذه العادة، عادة تقديم الأيمن، أشير فس شعر عمرو بن كلثوم في هذا البيت صبنت الكأس عنا أم عمرو وكان الكأس مجراها اليمينا
و "الردف"، هو الذي يجلس على يمين الملك في قصور الحيرة فإذا شرب الملك، شرب الردف قبل الناس. وإذا غزا الملك، جلس الردف في مجلسه، وخلفه على الناس حتى يرجع من غزاته. وله المرباع، فهي منزلة كبيرة، ولهذا شرف بالجلوس على يمين الملك، والشراب من بعده. وقد اتخذت هذه المنزلة لإرضاء سادات القبائل وإسكاتهم، ومنعهم بذلك من التحرش بعرب الحيرة. وقد خصصت في "بني يربوع"، وكانوا من القبائل القوية التي تكثر الغارات.

(1/2545)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد تأثر رؤساء الحيرة وأصحاب الحل والعقد والجاه منهم، والمتصلون بالحكومة الساسانية، بالعادات والرسوم المتبعة عند الفرس، فإذا هم يحاكونهم في مآكلهم وفي مجالس شربهم وأنسهم، وفي طريقة معيشتهم. جاء ذلك إليهم عن طريق اختلاطهم بهم بالطبع وشدة امتزاجهم بهم، فنرى عدي بن زيد العبادي يذكر "النستق" في شعره.
وقد دخلت على الحسناء كلتها بعد الهدوء تضيء البيت كالصنم
ينصفها نستق تكاد تكرمهم عن النصافة كالغزلان في السلم
و "النستق" الخدم، وهي من الألفاظ المعربية. و"الكلة"، هي الستر الرقيق، ولا تزال تعرف بهذه التسمية في العراق، توضع فوق الفراش وينام تحتها، فتكون كالقبة فةقها، لتمنع البعوض والذباب والحشرات الأخرى من الدخول إلى داخلها ومن ازعاج النائم. وهي "كلتو"Kelto في لغة بني إرم.
وكان المتمكنون من أهل الجاهلية يستعملون "الكلل" للتخلص من البعوض. ينصبونها على سرير المنام وينامون تحتها.
ولا بد في المجالس والأندية التي يقصدها الضيوف أو في البيوت من تكريم الرجل بتقديم طيب إليه أو تجميره. ويكون التجمير بمبخرة فيها نار، يرمى عليها شيء من بخور أو مواد أخرى عطرة لنبعث منها رائحة طيبة تتجه نحو الشخص المراد تكريمه، فيتبخر بها. والتجمير علامة بالطبع من علامات التقدير والتكريم. وهي ما زالت معروفة، وإن أخذت شأن كثير من العادات والتقاليد القديمة بالانقراض. وقد كانوا يجمرون الميت كذلك، إكراما له، وهو تبخيره بالطيب.، لتكون رائحته طيبة. ورد في الحديث: إذا أجمرتم الميت، فجمروه ثلاثا.

(1/2546)

admin
12-31-2010, 08:05 PM
ونظرا إلى شح البادية وفقر الحياة وصعوبتها في تلك الأيام، صار الملوك ملاذا لذوي العسر والحاجات، ولا سيما لأصحاب الألسنة من الشعراء الذين كان للسانهم خطر وأثر في نفوس المجتمع إذ ذاك، فللمديح قيمة وللهجاء أثر في الناس ينتقل بينهم من مكان إلى مكان. فكان هؤلاء يتحايلون ويبحثون عن مختلف المناسبات للوصول إلى الملوك لنيل عطائهم وألطافهم. وكانت مناسبات الشرب والأنس من خيرة المناسبات بالنسبة إليهم، لجو السرور والمرح الذي كان يخيم. فيه على الملوك، فيعطون ويجودون ولا يبالون بما يعطون إذا كان صاحب الحاجة لبقا لطيفا حلو المعشر، يسيطر بلسانه على الملك، وقد يجعله في عداد المقربين إليه.
ولما كانت الدنانير والداراهم، قليلة إذ ذاك، صارت أعطية الملوك لسادات القبائل مالا في الغالب، والمال عندهم: الإبل. ويعطون الأكسية والألبسة والطعام لهم ولسواد الناس من الفقراء المحتاجين الذين يقفون عند أبواب الملك يلتمسون منهم الرحمة والشفقة والانقاذ من الجوع.
والجائزة العطية. فكان الملوك يجيزون من يطلب منهم الجوائز ومنها:"القطوط"، جمع "قط"، وهي الصك بالجائزة والصحيفة للإنسان بصلة يوصل بها. قال اللأعشى: ولا الملك النعمان، يوم لقيته بغبطته، يعطي القطوط ويأفق

(1/2547)


--------------------------------------------------------------------------------

ولسادات القبائل أنديتهم أيضا، يقصدها أشراف القبيلة والناس. وكانوا إذا اجتمعوا تداولوا أمور قبيلتهم وما وقع بين القبائل ونظروا في أيامهم الماضية وقد يتناشدون الأشعار ويتفاخرون. ويذكر علماء اللغة أن "النادي المجلس يندون إليه من حوإليه ولا يسمى ناديا حتى يكون فيه أهله. وإذا تفرقوا لم يكن ناديا. وفي التنزيل العزيز: وتأتون في ناديكم المنكر. قيل كانوا يحذفون الناس في المجالس، فأعلم الله تعالى أن هذا من المنكر وأنه لا يتبغي أن يتعاشروا عليه ولا يجتمعوا على الهزء والتلهي وأن لا يجتمعوا إلا فيما قرب من الله وباعد من سخطه". وقد كان ملا مكة إذا اجتمعوا في نواديهم تذاكروا أمور ساداتها فغض قوم من قوم، وسخر بعض من بعض وروى بعض عن بعض قصصا للغض من شأنهم، شأن المجتمعات الفارغة التي لا لهو فيها يلهي ولا عمل فيها يشغل. فكان هذا شأنهم حتى نزل التنديد بفعلهم في القرآن. كما نزل يندد في أمور أخرى كانت من هذا القبيل، مثل "المشمعة"، العبث والاستهزاء والضحك بالناس والتفكه بهم. "وفي الحديث: من تتبع المشمعة يشمع الله به، أراد من كان شأنه العبث والاستهزاء والضحك بالناس والتفكه بهم جازاه الله جزاء ذلك. وقال الجوهري: أي من عبث بالناس أصاره الله إلى حالة يعبث به فيها".

(1/2548)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد لجأ العرب إلى اتخاذ وسائل للتخفيف من شدة وطأة اسر عليهم. إذ أن الجو حار في بلاد العرب بالصيف. وفي جملة ما استخدموه: "المراوح". ورد أن الناس كانوا يستعملونها للترويح عن أنفسهم. وللريح أهمية كبيرة في جزيرة العرب وفي البلاد الحارة. إذ أن وقوفه يزعج الناس ويؤذيهم، فلا غرابة إذا ما اعتبروا الرياح رحمة تغيث الناس وتفرج عن كربهم. وتغنوا بها وسروا بهبوبها سرورا كبيرا. بهبوب الرياح المنعشة المرطبة التي تحمل المزن لهم. فتصيب الأرض وترويها بما تحمله معها من مزن. ولريح الصبا، ذكريات طيبة عند العرب. ولها أثر خالد في الشعر، حتى أنهم كانوا يطعمون عند هبوبها. وهي ريح معروفة تقابل الدبور. سميت بذلك لأنها تستقبل البيت وكأنها تحن اليه، قال ابن الأعرابي مهبها من مطلع الثريا إلى بنات نعش.. وتزعم العرب أن الدبور تزعج السحاب وتشخصه في الهواء ثم تسوقه، فإذا علا كشفت عنه واستقبلته الصبا، فوزعته بعضه على بعض حتى يصير كسفا واحدا، والجنوب تلحق روادفه به وتمده من المدد، والشمال تمزق السحاب.
ومن وسائل التلطيف من حدة الحر، رش الأرض بالماء. أي نفح المكان بالماء. ورش الحصر المنسوجة من جريد النخل أو من الحلفاء أو من غيرها بالماء، حتى تبرد فينام الإنسان عليها، أو تعليقها ونضحها بالماء. فيبرد الهواء الذي يمر من مساماتها بعض الشيء. ورش ستر الكرباس والخيش بالماء، ليبرد الهواء الذي يخترق مساماتها، فينعش الجالس أمامها.
وكان الوجوه وأشراف البلد إذا أرادوا الإنشراح شربوا وسمعوا القيان، وكان لأكثرهم قيان امتلكوها للترفيه عنهم بالغناء. و "القينة" الأمة المغنية أو أعم. يذكر علماء اللغة، أن اللفظة من "التقين" التزين، لأنها كانت تزين. وذكر أن القينة الأمة والجارية تخدم حسب،. و "المغنية"هي التي تغني للناس، والتي اتخذت الغناء حرفة لها، تعيش عليها.

(1/2549)


--------------------------------------------------------------------------------

ومنهم من يستدعي اليه أصحاب المجون والنوادر والفكاهات والملح للترفيه عنهم. وقد اشتهر بالمزاح رجل اسمه "نعيمان" وكان من أصحاب رسول الله البدريين. والمجون ألا يبالي الإنسان بما صنع. والماجن عند العرب: الذي يرتكب المقابح المردية والفضائح المخزية، ولا يمضه عذل عاذله ولا تقريع من يقرعه، ولا يبالي قولا وفعلا" لقلة استحيائه.
والمزاح: الدعابة، والمزح نقيض الجد. وليس في طبع العربي ميل إلى المزاح، إذ يراه منقصة بحق الرجل واسفافا يعرضه إلى التهكم والازدراء به. وذكر بعض علماء اللغة أن الدعاية المزاح مع لعب. وقيل يتكلم بما يستملح.
الخصومات
ويقع النزاع بين للناس، يقع بين الأهل كما يقع بين الجيران أو بين الأباعد. وقد يتحول إلى "عراك" والى وقوع معارك. والمشاجرة الخلاف والاشتباك. وقد تكون المشاجرة بسيطة بأن يشاتم ويسابب طرف طرفا آخر. ويعبر عن ذلك باللحاء. ونظرا لجهل الناس في ذلك الوقت، فشا السباب والتشاتم بينهم. بين الرجال والرجال وبين النساء والنساء وبين الجنسين.وإذا طال واشتد تدخل الناس في الأمر لاصلاح ذات البين. وقد تتطور الخصومة البسيطة فتتحول إلى خصومة كبيرة يساهم فيها آل المتخاصمين وأحياؤهم، وقد يقع بسبب ذلك عدد من القتلى. وقد حفظت كتب الأخبار والأدب أسماء معارك وأيام، سقط فيها عدد من القتلى بسبب خصومات تافهة، كان بالامكان غض النظر عنها، لو استعمل أحد الجانبين الحكمة والعقل في معالجة الحادث.
قتل الوقت
وقد أشرت إلى أن "النعمان بن المنذر" كان يستخدم المضحكين،وعلى رأسهم "سعد القرقرة " لإضحاكه. وقد عد في المستأكلين والمتطفلين. وقد استعان السادة والأشراف بالمضحكين أيضا ليقصوا لهم القصص المضحك. والقرقرة الضحك إذا استغرب في. وقد لقب بها سعد هازل النعمان بن المنذر ملك الحيرة. كان يضحك منه. وكان من أهل هجر.

(1/2550)


--------------------------------------------------------------------------------

والمخنثون مادة من مواد التسلية والفكاهة والطرب. وقد خصي بعضهم،وعادة الخصاء عادة قديمة معروفة عند مختلف الشعوب، ذلك لأنهم كانوا يدخلون على النساء في البيوت، فخصوا اتقاء حدوث اتصال بين هؤلاء والنساء. وكان في المدينة على عهد الرسول ثلاثة من المخنثين: هيت، وهرم، وماتع، فسار المثل من بينهم بهيت، فقيل: أخنث من هيت. ومن المخنثين في الإسلام طويس، ويقال له: إنه أول من غنى بالمدينة في الإسلام، ونقر الدف المربع. وكان أخذ طرائف الغناء عن سبي فارس. وقد خصي مع غيره من المخنثين. وكان مألوفا خليعا يضحك كل ثكلى.
وقد عير العرب بالخنث، والخنث من فيه انخناث وتثن. وهو المسترخي. وهو جبان لا يطيق القتال. وتكون المرأة أشجع منه مع أنه رجل. ويقال للجمع "الخناث". قال الشاعر: لعمرك ما الخناث بنو قشير بنسوان يلدن ولا رجال
والمحمقون مادة من مواد التسلية والترويح عن النفس. ومنهم من اتخذ التحمق وسيلة للوصول إلى الملوك والسادات. ومنهم من كان محمقا بطبعه. مثل هؤلاء يكونون وسيلة من وسائل السمر، بما يظهر منهم طبعا أو تصنعا من حمق.وقد عرف "نعامة "، واسمه "بيهس"، بالتحمق، فقيل " أحمق من بيهس". وهو من "بني ظالم بن فزارة ". وذكر أنه أحد الأخوة السبعة الذين قتلوا وترك هو لحمقه. وهو القائل: ألبس لكل حالة لبوسها إما نعيمها واما بوسها

(1/2551)


--------------------------------------------------------------------------------

واشتهرت بمكة امرأة عرفت بالحمق. قيل لها "خرقاء مكة". ذكر أنها كانت إذا أبرمت غزلها نقضته. فاشتهر أمرها حتى ضرب بها المثل. واليها أشير في القرآن في قوله: "ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة". "وقيل المراد امرأة معينة من قريش: ريطة بنت سعد بن تيم. وكانت خرقاء. اتخذت مغزلا قدر ذراع و صنارة مثل اصبع. وهي الحديدة في رأس المغزل وفلكة عظيمة على قدرها. وكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر،ثم تأمرهن فينقضن ما غزلن". وذكر أن تلك المرأه هي: "ريطة بنت عمرو بن كعب بن سعد ابن تيم بن مرة"، وكانت امرأة حمقاء بمكة، وكانت تفعل ذلك. والظاهر أن أهل مكة كانوا يتندرون بذكر حمقها، فضرب القرآن بها المثل لتذكر قريش قومها بها، لئلا يكونوا مثلها في الحمق.
وعرف الجاهليون لونا آخر من ألوان الترويح عن النفس والترفيه عنها، هو التنزه في البساتين وفي مواطن الكلأ والأماكن الجميلة من البادية في أيام الربيع حيث تكتسي ببسط من الخضرة، وحيث تظهر الأزهار البرية، ذات الروائح الزكية. فكان ملوك وأهل الحرة يقضون أياما في المتنزهات القريبة منهم وفي مواطن في البادية يروحون عن أنفسهن ويتلهون بالصيد. وكان أهل يثرب يخرجون إلى "العقيق" متنزههم للتسلية. وهكذا فعل غيرهم من سكان بلاد الشام وجزيرة العرب.
ومن ملوك الحيرة الذين ارتبط اسمهم باسم الأزهار التي تجود بها البوادي أيام الربيع الملك "النعمان بن المنذر". فقد قيل للشقائق التي تنبتها البادية، مثل أرض النجف، "شقائق النعمان". قيل انها دعيت باسمه لأنه جاء إلى موضع وقد اعتم نبته من أصفر وأحمر، وإذا فيه من هذه الشقائق ما راقه ولم ير مثله، فحماها فسميت "شقائق النعمان" بذلك.

(1/2552)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان من عادة أهل مكة الذهاب إلى الطائف في أيام القيظ، للتخلص من حر مكة الشديد، لطيب هواء الطائف واعتداله، ولوجود الماء البارد بها الخارج من العيون و الآيار. ولوجود مختلف الأثمار والخضرة بها. وقد كان لأغنياء مكة أملاك بها وبساتين استغلوها. ومنهم من كان يذهب إلى بلاد الشام للاتجار ولتمضية الصيف هناك.
وكان فى جملة ما ابتكره الجاهليون لقطع الوقت " الاغلوطات "، وهي صعاب المسائل، فيطرح سائل ما سؤالا عويصا على المستمعين، ويطلب منهم أن يعملوا فكرهم لحله، وقد ورد في الأخبار أن الرسول نهى عن "الأغلوطات". وقيل "الغلوطات". وهي الكلام الذي يغلط فيه ويغالط به.
وكان تناشد الشعر والتساجل فيه من جملة الأمور التي أمضوا أوقاتهم بها. فكان أحدهم يطارح صاحبا له أو جملة أصحاب له الشعر،وقد يجتمع الأصدقاء حولهم ليروا الفائز من المتبارين. والفائز هو من يبز غيره في الحفظ، إذ يبقى يطارح أصحابه ما يحفظ حتى يعجزهم، فيغلبهم ويكسب الفوز. وقد يكون ذلك برهن يعطى للغالب، وقد يكون بغير رهن. والمساجلة المباراة والمفاخرة في الأصل، بأن يصنع كل من المتبارين صنعه في شيء فمن بقي وبز صاحبه غلبه. وهكذا تكون في الشعر، فمن يثبت يكسب المساجلة.
اللباس
جاء في بعض الأخبار: "كل ما شئت والبس ما شئت ". ولكن الشائع بين الناس "كل ما شئت والبس ما يشتهي الناس"، ذلك لأن اللباس مظهر، وعلى الإنسان أن يظهر في خير مظهر أمام الناس. وقد ورد أن العرب تلبس لكل حالة لبوسها. وينطبق ذلك على السراة وذوي اليسار والثراء بالطبع، أما سواد الناس، فلم يكن من السهل عليهم الحصول على اللباس. إذ كان غاليا مرتفع الثمن بالنسبة لأوضاعهم الاقتصادية. فكانوا يسترون أجسامهم بأسمال بالية وبكل ما يمكن أن يستر الجسم به.

(1/2553)

admin
12-31-2010, 08:06 PM
وكسوة العرب، تختلف وتتباين، باختلاف الشخص وباختلاف الجماعة التي ينتسب اليها والمكان الذي يعيش فيه. فللاعراب ألبسة وذوق، ولأهل المدر أذواق وأمزجة في اللباس، تتباين فيما بينها، بتباين المنزلة والمكانة والحرفة. ولذوي اليسار والثراء ألبسة فاخرة، يستوردونها من الخارج في بعض الأحيان، وفيها أناقة وفيها تصنع، وهي من المواد الغالية الثمينة في الغالب، لا يتاح لغير الموسرين الحصول عليها. ثم ان بعض الناس يفضلون لونا يعافه بعض آخر ويتجنبه.
فكان الكاهن لا يلبس المصبغ، والعراف لا يدع تذييل قميصه وسحب ردائه، والحكم لا يفارق الوبر، ولحرائر النساء زي، ولكل مملوك زي، يتساوى في في ذلك لباس الرأس ولباس اليدن.
وقد كان أثرياء مكة ويثرب والقرى والقبائل يلبسون الملابس الفاخرة المصنوعة من الحرير ودقيق الكتان والخز، وغير ذلك من الثياب الغالية الرقيقة، المستوردة من دور النسيج المعروفة في جزيرة العرب ومن خارجها، ويلبسون النعال الجيدة، مثل النعل الحضرمية المشهورة بمكة، ويتعطرون بعطور غالية ثمينة، ويركبون الدواب الحسنة المطهمة مبالغة في التباهي والتظاهر.
وتختلف كسوة الرأس عند العرب باختلاف منزلة الرجل ومكانته ووضعه وحاله. و "العمامة" هي فخرهم وعزهم وأفخر ملبس يضعونه على رؤوسهم. حتى قيل: "عمم الرجل: سود لأن تيجان العرب العمائم، فكما قيل في العجم توج من التاج، قيل في العرب عمم"، "والعرب تقول للرجل إذا سود: قد عمم، وكانوا إذا سودوا رجلا عمموه عمامة حمراء". وورد عن عمر قوله: "العمائم تيجان العرب ". وهي تعد عادة من عادات العرب. خاصة العرب أصحاب الجاه والمكانة والنفوذ من حضر وبادية، فانها تميزهم عن بقية الناس.

(1/2554)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد جاء في الخبر: " ان العمائم تيجان العرب". "وكان يقال: اختصت العرب من بين الأمم بأربع: العمائم تيجانها، والدروع حيطانها، والسيوف سيجانها، والشعر ديوانها " وتعد العمامة من لبس الطبقة العالية والمترفة، وذلك لأن الطبقة الفقيرة والعامة لم تتمكن من اقتنائها، وانما تضع على رأسها أغطية أخرى، أخف وزنا وثمنا من العمامة، ولذلك كانوا اذا أرادوا التعبير عن رخاء شخص، قالوا: " أرخى عمامته: أمن وترفه، لأن الرجل انما يرخي عمامته عند الرخاء ".
وجاء في الحديث: انه كان يتعوذ من الحور بعد الكور، أي من النقصان بعد الزيادة. وهو من تكوير العمامة، لأن الكور تكوير العمامة، والحور نقضها، وتكوير العمامة بعد الشد. ففي تكوير العمائم، دلالة على النعمة والرخاء. إذ لم يكن في وسع الفقير شراء قماش يعمم به رأسه على سنة الأغنياء. فكيف به يعمم رأسه بعمامة كبيرة.
ولم يكن تكوير العمامة العلامة الوحيدة الدالة على الغنى والجاه، بل كان الإسراف في اطالة الردن والذيل في الثوب من علائم الغنى والجاه أيضا. فقد كان السادات والأغنياء يطيلون الأردان وأذيال الثياب، حتى تصير تلامس الأرض، للتعبير عن غناهم وكثرة مالهم وانهم لا يبالون بالمال و لا بالثياب فيتركونها تجر الأرض وراءهم من سعة عيشهم. بينما لم يكن في وسع اكساء جسمه حتى بالأسملة.

(1/2555)


--------------------------------------------------------------------------------

وللعمامة منزلة كبيرة عند العرب. فهي تعبر عن شرف الرجل وعن مكانته، فإذا اعتدي عليها أو أهينت، لحق الذل بصاحبها، وطالب بإنصافه وبأخذ حقه. وإذا أهين شخص أو شعر بإهانة لحقت به، ألقى بعمامته على الأرض، ونادى بوجوب انصافه. ويعد اللوذ بعمامة رجل، وذكرها من موجبات الوفاء والانصاف لمن لاذ بها. "واذا قالوا سيد معمم، فإنما يريدون أن كل جناية يجتنيها الجاني في تلك العشيرة، فهي معصوبة برأسه". كما يريدون بذلك السيادة لأن تيجان العرب العمائم، فكما قيل في العجم توج من التاج قيل في العرب عمم. وكانوا إذا سودوا رجلا عمموه عمامة حمراء. وكانت الفرس تتوج ملوكها فيقال له المتوج.
ويدل سيماء العمامة على مكانة حاملها، فلقماش العمامة وللونها ولشكلها العام، أي كيفية تكويرها، دلالة على مكانة صاحبها ومنزلته في المجتمع. فعمامة المترفين المتمكنين هي من أقمشة فاخرة، نسجت بعناية، منها عمائم الديباج والخز، وذكر أن العمائم المهراة، وهي الصفرة، هي لباس سادة العرب. وأن بعض السادة مثل " الزبرقان بن بدر" كانوا يصبغون عمائمهم بصفرة، ويعصفرونها بالعصفر والى ذلك أشار الشاعر بقوله: وأشهد من عوف حلولا كثيرة يحجون سب الزبرقان المعصفرا
والسب: ا لعمامة.
وورد في الحديث " كانت عمائم العرب محنكة " أي طرف منها تحت الحنك. وقد جرت عادة العرب بإرخاء العذبات، وقد يزيدون في ذلك دلالة على الوجاهة و ا لغنى. ويذكر علماء اللغة أن "من أسماء العمامة: العصابة، والمقطعة، والمعجر، والمشوذ، والكوارة ". وقيل إن العصابة والعمامة سواء.

(1/2556)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد كان السادات يتفننون في لبس العمامة وفي اختيار ألوانها، فكانوا يختارون لكل مناسبة لونا، فكان بعضهم إذا قاتل لبس عمامة حمراء، ولبس بعضهم عمامة صفراء أو سوداء. يتبع ذلك مزاج لابسها وعمره، ونظر اليها على انها جمال الرجل، ومظهره الذي يضهر به. ورد ان علي بن أبي طالب كان يقول: جمال الرجل في عمته، وجمال المرأة في خفها.
وفي الأمثال: " أجمل من ذي عمامة"، وهو مثل من أمثال مكة، قيل: انهم قالوه لسعيد بن العاص بن أمية، المعروف عندهم ب "ذي العمامة"، وكان في الجاهلية إذا لبس عمامة، لا تلبس قريش عمامة على لونها. وقيل: انه كناية عن السيادة. وذلك لأن العرب تقول: فلان معمم، يريدون ان كل جناية يجنيها الجاني من تلك القبيلة والعشيرة، فهي معصوبة برأسه. والى مثل هذا ذهبوا في تسميتهم سعيد بن العاص، ذا العمامة، وذا العصابة.
وربما جعلوا العمامة لواء، فينزع سيد القوم عمامته، ويعقدها لواء، وفي ذلك معنى التقدير والاحترام، لأنها عمامة سيد القوم، وربما شدوا بها أوساطهم عند التعب والمجهدة.
وما يكون تحت الحنك من العمامة هو "الحنكة ". أما ما أرسل، منها على الظهر نهو الذؤابة. وأما " القفدة " فأعلى العمامة. والعمة العجراء، هي العمة الضخمة. وفي العمامة الكور، وهي الطرائق الني يعصب بها الرأس.
ولطريقة شد العمامة ووضعها على الرأس أسماء، وضعت لكل شدة أو طريقة من طرق وضعها فوق الرأس. ويختلف حجم العمامة وألوانها باختلاف العمر أيضا. فللشباب عمائم تميزهم عن الكهول والشيوخ. كما يختلفون عنهم في اختيار ألوان الألبسة. وذكر ان الرسول كانت له عمامة تسمى السحاب، وكان يلبسها ويلبس تحتها " قلنسوة ". وكان يلبس القلنسوة بغير عمامة ويلبس العمامة بغير قلنسوة. وكان إذا اعتم أرخى عمامته بين كتفيه. ولما دخل مكة، دخلها وعليه عمامة سوداء.

(1/2557)


--------------------------------------------------------------------------------

ووضعت القلنسوة على الرأس كذلك، فورد أن خالد بن الوليد كان يضع قلنسوة على رأسه. وقد لبسها الرسول. وكانت معروفة عند الجاهليين وأشير اليها في الشعر. ولفظة " قلنسوة " من الألفاظ المعربة عن "اللاتينية". عربت من Calantica. ويراد بها ضرب من ملابس الرأس.
وقد كان الجاهليون يوفقون أيضا بين نوع ملابسهم، فكانوا يلبسون مثلا عمامة خز مع جبة خز ومطرف خز. وذلك للتناسق في اللباس.
وجعلوا العمامة شعارا للعرب ورمزا لهم، إذا زال زالت عروبتهم. " قال غيلان بن خرشة للأحنف: يا أبا بحر. ما بقاء ما فيه العرب ? قال: إذا تقلدوا السيوف، وشدوا العمائم، واستجادوا النعال، ولم تأخذهم حمية الأوغاد". وورد "في الخبر، إن العمائم تيجان العرب، فإذا وضعوها وضع الله عزهم". وقيل اختصت العرب: بالعمائم تيجانها وبالدروع وبالسيوف وبالشعر.
وعرفت "المساتق" في الحجاز. وهي فراء طوال الأكمام، واحدتها "مستقة ". وذكر الجواليقي أنها من الألفاظ المعربة عن الفارسية، وأنها "مشته" في لغة الفرس. وروي أن الرسول كان يصلي وعليه مستقة، وأن مستقته من سندس مبطنة بالحرير، أهديت اليه. ذكر أن ملك الروم أهداها اليه.
وأما الجبة، فهي من البسة الموسرين كذلك، لأنها غالية، تكون من خز، وتكون من ديباج ومن أقمشة أخرى. وقد ذكر أن لم الأكيدر أهدى إلى الرسول جبة من ديباج منسوج فيها الذهب. وقد تكون واسعة الكمين، كما تكون ضيقتهما. وقد لبس الرسول في السفر جبة ضيقة الكمين. وذكر أنه قد كانت عند "اسماء بنت أبي يكر" جبة لرسول الله، "طيالسية خسروانية لها لينة ديباج وفرجاها مكفوفان بالديباج. فقالت هذه كانت عند عائشة حتى قبضت، فلما قبضت قبضتها، وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، يلبسها، فنحن نغسلها للمريض نستشفي بها ".

(1/2558)


--------------------------------------------------------------------------------

وتعد الجبب من مقطعات الثياب. فقد اصطلح علماء اللغة على تقسيم الثياب إلى مقطعات و غير مقطعات. والمقطع من الثياب كل ما يفصل ويخاط من قميص وجبات وسراويلات وغيرها، وما لا يقطع منها كالأردية والأزر والمطارف، والرياط التي لم تقطع، وإنما يتعطف بها مرة ويتلفع بها أخرى.
والجبب مثل سائر الثياب، لا تكون بلون واحد. فقد تكون بيضاء، وقد تكون سوداء، وقد تكون حمراء، وقد تكون خضراء، ويختار لابسها اللون الذي يلفت نظره. وقد تكون له جملة جبب بألوان مختلفة، يلبس صاحبها الجبة التي يلائم لونها المناسبة والمكان الذي يذهب اليه.
و "البرنس": قلنسوة طويلة، أو كل ثوب رأسه منه، ملتصق به، دراعة كان أو جبة، أو ممطرا. وكان النساك يلبسونها في صدر الإسلام. واللفظة من الألفاظ المعربة عن اليونانية، عربت من أصل " فيروس" Virros، بمعنى ثوب عريض الكمين، غطاء الرأس ملتصق به، أي هو جزء منه.ويلبس عندهم فوق الثياب.
و "القميص" من الثياب المقطعة. ذكر بعض علماء اللغة انه لا يكون إلا من قطن أو كتان، وأما من الصوف فلا. والظاهر انهم خصصوه بالقطن أو الكتان للغالب. وذكر ان الرسول لبس قميصا من قطن، وكان قصير الطول، قصير الكمين. والظاهر ان هذه الصفة كانت هي الصفة الغالبة على القمصان، ثم طولت فيما بعد ووسعت أكمامها.
و "الخميصة" من الألبسة القديمة. وهي ثياب من خز ثخان سود وحمر ولها أعلام ثخان أيضا. وذكر أن الخميصة كساء أسود مربع له علمان، فإن لم يكن، معلما، فليس بخميصة. وذكر أنها قد تكون من خز أو صوف. والظاهر أنهم كانوا لا يسمون الخميصة خميصة، إلا إذا كانت ذات أعلام. وهي من ألبسة الموسرين.

(1/2559)


--------------------------------------------------------------------------------

و "الرداء"، الوشاح، ويقع على المنكبين ومجتمع العنق. وهو ما يشمر على النصف الأعلى من الجسم لتغطيته، ويكون من قطعة واحدة من القماش، يلف على هذا النصف. قد يكون طويلا واسعا، وقد يكون قصيرا. وقد يلف على الجسم رأسا، وهو الغالب، وقد يلف فوق ألبسة أخرى.
و" الازار" الملحفة، وما يستر أسفل البدن، والرداء ما يستر به أعلاه.
و كلاهما غير مخيط . وقيل الازار ما تحت العاتق والظهر، ولا يكون مخيطا. فهو قطعة قماش، يلف به القسم الأسفل من البدن لستره. يختلف طوله وعرضه حسب رغبة لابسه. ويلبس الإزار مع الرداء في الغالب، وقد تلبس معه ألبسة أخرى.
و "النمرة" شمله فيها خطوط بيض وسود، وبردة مخططة من صوف تلبسها الأعراب. وذكر أن كل شملة مخططة من مآزر الأعراب، فهي نمرة. وجمعها أنمار ونمار. كأنها أخذت من لون النمر، لما فيها من السواد والبياض. وقد لبس النبي النمار. وورد: نبطي في حبوته، أعرابي في نمرته أسد في تامورته.
والمطرف: رداء من خز مربع، له أعلام. وهو من الأردية التي يلبسها الأغنياء وذوو اليسار. وذكر ان المطرف رداء في طرفيه علمان.
ولبس الجاهليون القباء. وقد كان كسرى قد أهدى " الأكيدر" قباء من ديباج منسوج يالذهب. وكان من عادة الأكاسرة أن يكسوا الرؤساء وسادات القبائل أقبية من الديباج للتلطف والإسترضاء.
واكتسبت البرد اليمانية شهرة كبيرة بين الجاهليين،وبقيت شهرتها في الإسلام،وهي ذات ألوان. وفي كتب الأخبار: ان وفد رؤساء مكة حينما ذهبوا الى سيف بن ذي يزن ، لتهنئته، ودخلوا عليه في قصر غمدان، وجدوه متضمخا بالعنبر، يلمع وبيص المسك فى مفرق رأسه، وعليه بردان أخضران قد ائتزر بأحدهما.
واشتهرت برود، " تزيد " عند العرب وضرب بها المثل، كما يضرب ببرود اليمن. وذكر ان العرب تنسب البرود الفاخرة إلى تزيد، ونزعم انها قبيلة للجن.

(1/2560)


--------------------------------------------------------------------------------

ولبس الجاهليون الألبسة الحمراء مثل: المياثر الحمر والألبسة الحمراء البحتة القانية. وذكر ان الرسول نهى عن لبس الألبسة الحمراء الخالصة التي لا يخالط لونها هذا لون آخر. ولم ينه عن لبس الألبسة المخططة بحمرة مع لون آخر، مثل الحلل اليمانية، وهي إزار ورداء، منسوجان بخطوط حمر مع الأسود. كما نهى الرجال من لبس الربط المضرجة بالعصفر، لأنها من لبس الكفار.
ولبس للعرب الثياب المصبغة، وذكر أن ساداتهم كانوا يصبغون ثيابهم بالزعفران.
وان من صبغ ثيابه به "ذو المجاسد". وهو من حكام الجاهلية وفقهائها. وذكر أن العرب كانت مصفقة على توريث البنين دون الأناث، فورث ماله لولده في الجاهلية للذكر مثل حظ الانثيين. فوافق حكم الإسلام. وورد أن ملحفة رسول الله التي يلبس في اهله مورسة حتى انها لتردع على جلده.
وقد كان الأغنياء والشباب يبالغون في ألبستهم، فكان منهم من يشمر ثوبه، ومنهم من يسبله ويتركه يجر الأرض، ومنهم من يبالغ في ردائه خيلاء وتيها وتكبرا. ونظرا إلى ما يتركه من أثر في نفوس الفقراء، والى ما فيه من اسراف وتبذير في استعمال الأقمشة، نهي عن فعل ذلك في الإسلام. وورد النهي عن ذلك في كتب الحديث. وورد النهي عن لبس القمصان ذات الأكمام الواسعة الطوال التي هي كالأخراح، لأنها من جنس الخيلاء.
ويلبس العرب النعال في أرجلهم، ويفضلونها على غيرها من البسة الرجل مثل الخف. وقد ورد ذكرها في شعر النابغة. وتصنع من الجلود المدبوغة، ولا سيما جلود البقر. ويذكر بعض اهل الأخبار أن أول من حذا النعال هو جذيمة الأبرش بن مالك.
وقد ضرب العرب المثل بموضع تجميع الأنعلة في الذلة والهوان. فقيل: هو في صف النعال، لا في صف الرجال. دلالة على أن الرجل من الطبقة الذليلة.

(1/2561)


--------------------------------------------------------------------------------

والخفاف، جمع الخف،هي في منزلة النعل عند العرب. لبسوها في أرجلهم، وشاع استعمالها بين أهل المدر في الحجاز وفي الأمكنة الأخرى. وذكرت في كتب الفقه، في باب الضوء والصلاة، حيث جوز الفقهاء المسح على الخفين.
وورد النهي باستعمال الخفين للمحرم إلا عند عدم النعلين، وذلك يدل على استعمال أهل الحجاز للخفاف قبيل الإسلام.
ومن الخفاف، نوع يقال له "الموزج"، ويذكر بعض علماء اللغة ان اللفظة من الألفاظ المعربة عن الفارسية، وان أصلها "موزه". وهناك نوع آخر يسمى "الموق" ويجمع على "أمواق"، وقد عرف بأنه خف غليظ يلبس فوق الخف. ويظهر من بيت للشاعر المخضرم النمر بن تولب، ان العباديين كانوا يلبسون الأمواق، إذ وصف مشية النعاج بمشي العباديين في الأمواق.
وورد في الأخبار: ان العرب تلهح بذكر النعال، والفرس تلهج بذكر الخفاف.
وورد ان النساء كن يلبسن الخفاف، وقد ورد أن أصحاب رسول الله كانوا ينهون نساءهم عن لبس الحمر والصفر. ويقولون: هو من زينه آل فرعون. ويعني هذا ان نساء الجاهلية كن يلبسن الخفاف الملونة، فوجد المسلمون ان في ذلك تقليدا للأعاجم فأمرهن بنبذ الملون منها.
وقد ضرب العرب المثل بخفي حنين عند اليأس من الحاجة والرجوع بالخيبة. فيقال: رجع بخفي حنين. وكان حنين إسكافا من أهل الحيرة، فساومه أعرابي بخفين، فاختلفا حتى أغضبه الأعرابي، وأراد حنين غيظ الأعرابي، فلما ارتحل أخذ أحد خفيه، فطرحه، ثم ألقى الآخر في مكان آخر، فلما مر الأعرابي بأحدهما قال: ما أشبه هذا الخف بحفي حنين ولو معه الآخر لاخذته، ومضى فلما انتهى إلى الآخر ندم على تركه الأول، فأناخ راحلته ورجع في طلب الأول، وقد كان حنين كمن له، فعمد الى راحلته وما عليها فذهب بها،وأقبل الأعرابي وليس معه إلآ خفان. فقال له قومه: ماذا جئت به من سفرك ? قال جئتكم بخفي حنين فذهبت كلمته مثلا.

(1/2562)


--------------------------------------------------------------------------------

وحيث أني سأتكلم عن ملابس الجاهليين بشئ من الأطناب في أثناء حديثي عن الحرف، لذلك اكتفي بما ذكرته في هذا الموضع عن الملابس، على امل التحدث عنها في ذلك المكان.
ومن عادة اهل "نجد" الاستصباح ب "الداذين". مناور من خشب الأرز ليستصبح بها. وهي بنجد من شجر المظ.
ومصابيح القوم من الفخار، أي الطين المشوي بالنار، يوضع في بطنه زيت الوقود تتصل به فتيلة تولع بالنار، ليستضاء بها، وذلك في الأماكن التي يندر فيها استعمال الحجر. أما في الأماكن الجبلية ذات الحجر،فيستعمل كذلك المصابيح المستعملة من الحجر، وخاصة في بيوت الكبار والموسرين. ويستعملون فها زيت الزيتون. ولا يزال بعض الناس يستعملون هذه "الضواية" في الإنارة،وتعرف ب "المسرجة" كذلك. و "السراج" هو المصباح والنبراس و "القراط" شعلة السراج، و "الذبال" ما يحمل "السراج". ويقال سغم المصباح، أي مده بالزيت. والنسيلة الفتيلة في بعض اللغات. والمشاعل القناديل والزهليق السراج في القنديل.

أما الأعراب، فلم يكونوا يعرفون المصابيح، ومصابيحهم نجوم السماء وضوء القمر يهتدون بها ويستلهمون منها معنى الحياة.
المأكل والمشرب
يختلف أكل العرب عن أكل الأعراب. كما يختلف أكل أهل كل مكان عن أكل أهل مكان آخر من جزيرة العرب. وأكل ألحضر، متنوع نوعا ما بالنسبة إلى مأكول أهل الوبر. لفقرهم ولشح باديتهم. ولذلك صار طعام الأعراب على العموم بسيطا. وقد أثر اختلاف نوع الطعام على هيئة الإنسان ووزن جسمه. فصار جسم الأعرابي نحيفا في الغالب، لبساطة أكله، وقلة المواد النشوية والدهنية فيه.

(1/2563)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن عادات العرب أنهم يقلون من الأكل. ويقولون: البطنة تذهب الفطنة، و "البطنه تأفن الفطنة". وكانوا يعيبون الرجل الأكول الجشع. ويرون أن "الأزم"، أي قلة الأكل أفضل دواء لصحة الأبدان. قيل للحارث بن كلدة، طبيب العرب في الجاهلية: ما أفضل الدواء ? قال: الأزم. ولهم في ذلك أمثلة كثيرة في الأزم، وضرر البطنة. رووا بعضا منها على لسان لقمان، ورووا بعضا آخر على ألسنة الحكماء العرب. وهم يعالجون البطنة بالحمية. لأن المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء. وهم يرون أن الشبع والامتلاء يضعف الفطنة. أي الشبعان لا يكون فطنا لبيبا. فللأكل علاقة كبيرة بالفطنة والعقل والذكاء.
وللعرب مصطلحات عديدة في درجات الأكل. أي من حيث كيفية تناول الطعام، ومن حيث الاقبال عليه إلى حد التخمة. ولما كان الاكثار من الأكل معيبا عندهم وضعوا ألفاظا في هؤلاء الذين كانوا يسرفون في الأكل، فإذا دعوا إلى وليمة أسرفوا في الأكل، وأقدموا عليه، وكانهم جاؤوا من سني قحط. وعابوهم، ومدحوا من اعتدل في أكله وتوسط فيه، وأظهر نظافة وأدبا في تعاطيه.
ومن عادات العرب، انهم كانوا يبكرون في الغداء، ويرون أن ذلك أقرب إلى راحة البدن وصحته، ويؤخرون العشاء.
وماكل الأعراب قليلة شحيحة مثل شح البادية، خاصة إذا انحبس المطر وهلك الزرع. فإن رزقه يقل وقد يذهب ما معه من زاد فيهلك خلق من الأعراب من شدة الجوع. قيل لأعرابي ما طعامكم ? قال: "الهبيد، والضباب واليرابيع، والقنافذ والحيات، وربما والله أكلنا القد، واشترينا الجلد، فلا نعلم والله أحدا أخصب منا عيشا ". و "الهبيد ": حب الحنظل، تنقعه الأعراب في الماء اياما، ثم يطبخ ويؤكل. وأما القد، فجلد السخلة. "وفي حديث عمر، رضي الله عنه، كانوا يأكلون القد. يريد جلد السخلة ".

(1/2564)


--------------------------------------------------------------------------------

وكانوا يفصدون عرق الناقة ليخرج الدم منه فيشرب، يفعلونه أيام الجوع. كما كانوا يأخذون ذلك الدم ويسخنونه إلى أن يجمد ويقوى فيطعم به الضيف في شدة الزمان، إذا نزل بهم ضيف فلا يكون عندهم ما يقويه، ويشح أن ينحر المضيف راحلته فيفصدها. و"الفصيد" دم كان يوضع في الجاهلية في معى من فصد عرق البعير ويشوى وكان أهل الجاهلية يأكلونه وتطعمه الضيف في الأزمة.
وأما " الفصيدة "، فتمر يعجن ويشاب بدم. وهو دواء يداوى به الصبيان. ويقال للفصيد "البجة" كذلك. و "البجة" دم الفصيد، يأكلونها في الأزمة. والبج الطعن غير النافذ، فقد كانوا يفصدون عرق البعير ويأخذون الدم يتبلغون به في السنة المجدبة. جاء في الحديث: "إن الله قد أراحكم من الشجة والبجة"، وورد "أراحكم الله من الجبة والسجة ".أي قد أنعم عليكم بالتخلص من مذلة الجاهلية وضيقتها ووسع لكم الرزق وأفاء عليكم الأموال.
وكان أحدهم إذا نال شربة من اللبن الممذوق بالماء، وخمس تميرات صغار، ظن نفسه ملكا، ودب اليه نشاطه. قال الشاعر: إذا ما أصبنا كل يوم مذيقة وخمس تميرات صغار كنائز
فنحن ملوك الأرض خصبا ونعمة ونحن أسود الغاب ضد الهزاهز
وكم متمن عيشنا لا يناله ولو ناله أضحى به حق فائز
وأكل الجراد معروف مشهور عند الأعراب. يأكلونه نيئا، وقد يطبخونه أو يحمصونه ويلقون عليه شيئا من الملح. وقد يأكلونه بالتمر. وبغيره، وهو عندهم طعام لذيذ. ويذكر بعضهم أن الإنسان قد يصاب بالشري من أكله، وقد يشكو من بطنة قد تصيبه.

(1/2565)


--------------------------------------------------------------------------------

وغالب أكل الأعراب لحوم الصيد والسويق والألبان. وكانوا لا يعافون شيئا من المآكل لقلتها عندهم. حتى أنهم كانوا يأكلون كل شيء تقع أيديهم عليه. ولا نجد من كتب أهل الأخبار ما يفيد تحريم العرب لأكل بعض الحيوان. بل نجد أن اغلبهم قد استباحوا أكلها جميعا. مهما كان ذلك الحيوان صغيرا او كبيرا حسن المنظرأو قبيحه، من ذات الأظلاف أو من غيرها. حيا كان أم ميتا. وذلك لفقرهم ولشدة الجوع عندهم. فلما جاء الإسلام حرم أكل الميتة والدم ولحم الخنزير والمختنقة وحدد الذبح وما يمكن أكله من الحيوان، بسبب ما كان يصيب الناس من أكل لحومها من أضرار.
وقد أكلوا لحوم الحمر الوحشية والحمر الأهلية، فنهى الإسلام عن أكلها لما في ذلك من ضرر. وتمنى أحد الرجاز لو اصطاد ضبا أوسحبلا سمينا، ليفوز بلحمه من شدة الفاقة والحاجة إلى اللحم.
نعم لقد ورد أن بعض القبائل عافت أكل لحوم بعض الحيوانات، أو عابت أكل بعض أجزائها، إلا ان هذا لا يعتبر عاما، كما انه من قبيل العرف والعادة أو مما له علاقة بالعقائد عندهم. فقد ذكر ان قبيلة "جعفى" كانت تحرم أكل "القلب"، إلا ان هذا التحريم هو تحريم خاص بهذه القبيلة. أما القبائل الأخرى فقد كانت تأكله ولا تبالي، لأنه غير حرام عندها.
وفي أيام الشدة وفي الأيام الأخرى أيضا يرسل الأعراب أولادهم لجمع الحنظل، فإذا جمع نقف، لإخراج هبيدة، أي حبه، لطبخه، أو تحميصه لأكله. وقد تفاخر "حسان بن ثابت" بالغساسنة، لأنهم كانوا في بحبوحة من العيش، وليسوا بصعاليك يرسلون ولائدهم لنقف الحنظل. والى ذلك أشار "امرؤ القيس" بقوله: كأني غداة البين حين تحملوا لدى سمرات الحي ناقف حنظل

(1/2566)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد كانوا يقاسون من شدة الجوع والفقر في بعض السنين حتى يموت من يموت منهم من الجوع. قيل: " كانوا إذا اشتد بهم الجوع وخافوا أن يموتوا أغلقوا عليهم بابا وجعلوا حظيرة من شجرة يدخلون فيها ليموتوا جوعا"، "ولقي رجل جارية تبكي فقال لها: ما لك ? فقالت نريد أن نعتفد"، "والأعتفاد أن يغلق الرجل بابه على نفسه، فلا يسأل احدا حتى يموت جوعا ". فالاعتفاد انتحار للتخلص من ألم الجوع.
قال بعض المدنيين لبعض الأعراب: أتأكلون الحيات والعقارب والجعلان والخنافس ? فقال: نأكل كل شيء إلا ام حبين. فقال المدني: لتهن أم الحبين العافية. فالفقر كافر، والجوع يدفع الإنسان إلى،اكل كل شيء. والعرب تكني عن الجوع ب "أبي مالك". وتسمي الخبز جابرا وعاصما وعامرا. وقد كنت عنه وعن الإفلاس ب "ابي عمرة".
وهو على فقر اكله وبساطته وجوعه يهزأ بأكل الحضر ويسخر منه، ويرى فيه طعاما صعبا لا يهضم. وأكلا لا يناسب مزاج العرب. إذا أكله آكل اصيب بمرض. وهو محق في ذلك، فرجل ذو معدة فارغة، لا يذوق إلا القليل من الأكل والماء، لا تتمكن معدته من هضم طعام مهما كان بسيطا، فإنه ئقيل بالنسبة إلى معدة الأعرابي، فإذا اقبل على أكل طعام أهل الحضر، وهو طعام غير مألوف عنده أصيب ببطنه تجعله يكره أكل الحضر، وطعام أهل القرى والمدن، ويعجب كيف يأكله أولئك ثم لا يصابون بمكروه. قال أعرابي قدم الحضر فشبع فاتخم: أقول للقوم لما ساءني شبعي ألا سبيل الى أرض بها الجوع
الا حيل إلى ارض يكون بها جوع يصدع منه الرأس ديقوع

(1/2567)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد كان الجاهليون يأكلون كل ما وقع تحت أيديهم من حيوان مقتول أو ميت، فنزلت الحرمة عن ذلك في الآية: )حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع. إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقيموا بالأزلام ذلكم فسق(. وذكر أن أهل الجاهلية كانوا بخنقون الشاة وغرها،فإذا ماتت أكلوها. وأنهم كانوا يضربون الأنعام بالخشب لآلهتهم حنى يشلوها فيأكلوها. وذكر أن الموقوذة: هي التي ترمى أو تضرب بحجر أو عصا حتى تموت من غير تذكية. والوقذة شدة الضرب.
وأما المتردية، فهي الي تتردى من العلو إلى الاسفل فتموت، كان ذلك من جبل أو في بئر ونحوه. وسواء تردت بنفسها أو رداها غيرها. وكانت الجاهلية تاكل المتردي، ولم تكن تعتقد ميتة إلا ما مات بالوجع ونحوه دون سبب يعرف. فأما هذه الأسباب، فكانت عندها كالذكاة. فحصر الشرع الذكاة في صفة مخصوصة. وبقيت هذه كلها ميتة. و لذا النطيحة وأكيلة السبع التي فات نفسها بالنطح والأكل. وكانت الجاهلية تأكل النطيحة الميتة كما تأكل الشاة التي يأخذها السبع فتخلص منه، وكذلك إن أكل بعضها.
وقد كان الجاهليون يستحلون أكل المحرمات المذكورة التي حرمت في الإسلام، ويأكلون ما يذكى من الحيوان على الأنصاب للاصنام، وما يذكى على غيرالأنصاب على نحو ما يفعل القصاب. والذكاة في كلام العرب الذبح. فلما جاء الإسلام حدد الذبح، على كل ما أدرك ذكاته من المذكورات وفيه حياة، ولو بعض حياة. فأبطل ذكاة ما خمد نفسه من حيوان. وهو بهذا خالف الجاهليين، إذ لم يشترطوا الشروط الني اشترطها الإسلام في الذبح..

(1/2568)

admin
12-31-2010, 08:07 PM
وللاغنياء والحضر آداب في مآكلهم، تبدأ بغسل الأيدي في الغالب، لازالة ما قد يكون قد علق بها من أتربة وأوساخ، فإذا انتهوا من غسل الأيدي، أكلوا بها. إذ قلما كانوا يستعملون السكاكين و "الملاعق" و "الشوكات" في أكلهم على نحو ما كان يفعله أغنياء العجم.وإذا انتهوا من طعامهم غسلوا.أيديهم كذلك لتنظيفها من الدسم ومن المواد الأخرى التي تكون قد علقت بها من بقايا الطعام. والأكل باليد عادة شائعة بين الشعوب السامية، يرون لها مزايا على الاستعانة بأدوات الأكل في الأكل، حتى صارت في حكم العرف والعادات،بل جعل الأكل باليد من السنن المحببة في الدين.
وتستعمل "الربطة" وهي المنديل و "الفوطة" لمسح اليد وتنشيفها من الماء. وقد استعمل الملوك والأغنياء المناديل المصنوعة من الحرير أو من الكتان، وهي غالية في ثمينة. وذكر بعض علماء اللغة ان الربطة لا تكون إلا بيضاء. والمنديل الذي يمسح به من أثر الماء وغيره. ويظهر أن "الفوطة" و "الفوط" من الألفاظ المعربة، ذكر انها من لغة سندية معربة "بوته". وهي في الأصل ثياب تجلب من السند، غلاظ قصار تكون مآزر، أو هي مآزر مخططة يشتريها الجمالون والأعراب والخدم وسفل الناس، فيأتزرون. ثم استعملت في معنى "منديل" و "مناديل"، يضعها الإنسان على ركبتيه ليقي بها ملابسه عند الطعام.
وقد استخدم الملوك والأغنياء الخدم في تقديم والأطعمة والأشربة، وكما كان يفعل ملوك الفرس والروم وسراتهما، في كسو خدمهم أكسية خاصة نظيفة وإلباسهم "سراببل"، معتملة، كذلك فعل ملوك العرب وسراتهم ولا سيما عرب العراق وبلاد الشام، بخدمهم، وقد قرطوا آذانهم بالنطف أي الأقراط احيانا مبالغة في تزيينهم، حتى يعطى جو المآدب والضيافة لونا شعريا خاصا. فإذا قدم شيئا، وضع المنديل أو الديباجة على كتفه، ووضع تحت صحن الطعام شيئا ثم يقسمه إلى الضيوف.

(1/2569)


--------------------------------------------------------------------------------

ويختلف الحضري عن الأعرابي في طريقة أكله. فإذا تناول الحضري لقمة صغرها وأكلها بأطراف الأسنان، وحاول جهده ألا يملا فمه بلقمة كبيرة، فيبدو الفم منتفخا منها. وهذا ما يخالف مألوف الأعرابي. "قدم أعرابي على ابن عم له بمكة، فقال له: إن هذه بلاد مفضم وليست ببلاد مخضم".والخضم أكل بجميع الفم. والقضم دون ذلك. وقيل الخضم: ملء بالمأكول.
ويعد أكل "اللحوم" من أطايب الحياة، ومن المفاخر التي يتباهى بها الناس على غيرهم، إذ لم يكن في ميسور كل إنسان الحصول على اللحم، ولا سيما "اللحم السمين". وإذا أضيفت اليها الخمور والطيب، والنساء، تمت بذلك مباهج الحياة. وقد عبر عن "الخمور واللحم والطيب"، بالأحامرة الثلاثة. وكانت هذه تستنزف المال، لما ينفق الإنسان في الحصول عليها من ماله. قال الأعشى: إن الأحامرة الثلاثة أهلكت مالي، وكنت بها قديما مولعا
وقال: الخمر واللحم السمين، واطلي بالزعفران، فلن أزال مولعا
وكان من تنصر من العرب يأكلون لحم الخنزبر. يأكلونه أشد الأكل، ويرغبون في لحمه أشد الرغبة. وذكر أن غيرهم كانوا يأكلونه أيضا. وزعم "أن العرب لم تكن تأكل القرود"، وروي انهم كانوا يأكلون كل شيء يقع بين أيديهم لشدة الفاقة والحاجة، ولا سيما الأعراب. فأكلوا دم "الفصيد"، وكانوا يحبونه، ويرون انه يورث القوة.
وورد في ألسنة الناس "أهلك الرجال الأحمران: اللحم والخمر". وورد أيضا "أهلك النساء: الأحمران، الذهب والزعفران". وذلك لما كان الرجال والنساء ينفقونه من مال، للحصول على هذه الأشياء: ورد أيضا: "الأحمران: الطيب والذهب".

(1/2570)


--------------------------------------------------------------------------------

وتسربت إلى أهل الحجاز وسائر جزيرة العرب مأكولات أعجمية أخرى، حافظت بعضها على أصالتها وعلى عجمتها. فذكر إن أهل المدينة، لما نزل فيهم ناس من الفرس في قديم الدهر، علقوا ببعض مأكولاتهم، فسموا السميط "الرزدق" والمصوص المزور، والبطيخ الخريز، ومأكولات أخرى، أدخلها هؤلاء الفرس وأمثالهم بحكم نزولهمء اعما اله س ب قبل الإسلام.
والثريد، هو طعام محبوب مشهور عند العرب. وهو طعام يتكون من فت الخبز وتهشيمه ثم بله بالمرق. والغالب أن يكون بالمرق واللحم. وقد اشتهر "هاشم بن عبد مناف"، بتقديمه الثريد لقومه.
ومن أكلات العرب المعروفة "الحريقة"، وهي أن يذر الدقيق على ماء أو لبن حليب فيحتسى، وهي أغلظ من السخينة يبقى بها صاحب العيال على عياله وقت الشدة. و "الحيسة" وهي تمر وسمن وأقط، وقد أهدت "أم سليم" حيسة إلى الرسول وضعتها في "برمة" في قدر من حجر، وأرسلتها إليه، لمناسبة دخوله "زينب".
وعند العرب أكلات تعير بها من يأكلها، منها "السخينة"، وهي تتخذ من الدقيق، دون العصيدة في الرقة وفوق الحساء، وإنما يأكلونها في شدة الدهر وغلاء السعر وعجف المال. والظاهر أنها كانت أكلة معروفة عند قريش خاصة، وعند العرب أكلات تعر بها من يأكلها، منها "السخينة " لذلك عيرت بها. وقد عيرها "حسان بن ثابت" بها، فدعاها "سخينة"، كما سماها بهذه التسمية كعب.
وقد مازح "معاوية" "الأحنف بن قيس"، فقال: ما الشىء الملفف في البجاد ? قال: هو السمينة يا أمير المؤمنين. وإنما أراد معاوية قول الشاعر: إذا ما مات ميت من تميم فسرك أن يعيش فجىء بزاد
بخبز أو بتمر أو بسمن أو الشيء الملفف في البجاد
تراه يطوف في الافاق حرصا ليأكل رأس لقمان بن عاد
وكان الاحنف من تميم، وإنما أراد الأحنف بالسخينة رمي قوم معاوية بالبخل، لأنهم كانوا يقتصرون عليها عند غلاء السعر حتى صار هذا اللفظ لقبا لقريش.

(1/2571)


--------------------------------------------------------------------------------

والشواء هو الطريقة الشائعة بين الأعراب وأهل الريف في طبخ اللحوم. فهو وطريقته سهلة: توقد نار، ثم يوضع اللحم عليها، ومتى نضج أكل. فكان أهل الوبر إذا اصطادوا أو ذبحوا لضيف، أوقدوا نارا، واشتووا اللحم وأكلوه.
ونجد في قصص أجواد العرب، مثل حاتم، انهم كانوا ينحرون الإبل أو يذبحون فرسا، ثم يوقدون نارا يشوون اللحم عليها. ويدعى الناس إلى الأكل، فإذا فرغوا منه، مشوا أيديهم بكل ما يكون أمامهم، حتى أعراف الجياد.
نجد ذلك في شعر لامرىء القيس: وللعرب أواني استخدموها لتقديم الطعام بها الى الضيوف. منها: الفيخة والصحفة، وهي تشبع الرجل، والمكتلة تشبع الرجلين والثلاثة والقصعة تشبع الأربعة والخمسة، والجفنة تشبع ما زاد على ذلك، والدعيسة وهي أكبر الأواني عندهم. وقيل أكبرها الجفنة التي ورد ذكرها في شعر الشعراء على سبيل الفخر والمدح.
الذبح
والغالب على الجاهلين ذبح الحيوان،لأخذ لحمه، وذلك بقطع الحلقوم بسكين. يفعلون ذلك في الشياه والكباش والتيوس والطيور والدجاج. أما بالنسبة الى السمك وما يستخرج من البحر، فإنهم يتركونه حتى يموت، أو يشقون بطونها وقد يذبحونها أيضا. ويأكلون الميت منه كذلك. واما الإبل، فإنهم ينحرونها، ونحر البعير طعنه في منحره. وكانوا إذا أرادوا نحر البعير عقروه، أي قطعوا أحد قوائمه ثم ينحر، يفعل ذلك به كيلا يشرد عند النحر.

(1/2572)


--------------------------------------------------------------------------------

هذا هو الأصل في الحصول على اللحم، ولكنهم كانوا كما جاء في القرآن الكريم لا يعافون أكل الميتة والمختنقة والمتناطحة، لفقرهم وجوعهم. مع ما كان يلحقهم من ضرر من أكلها بسبب فسادها. ولذلك حرم أكل لحومها في الإسلام. والعادة عند العرب أن من العيب بيع شيء من طعام لمن هو في حاجة اليه. وهم يشعرون بالخجل وبالإهانة إذا طلب معسر طعاما أو شرابا كلبن أو ماء ثم لا يجاب طلبه،أو يطلب عن ذلك ثمنا يقبضه مقابل ما قدم من طعام شراب. لأن القرى واجب على كل عربي،ولا يكون القرى بثمن. فكيف يقف إنسان موقف بخل وإمساك أمام مرمل محتاج.
ويقال لكل ما يؤكل "الطعام" ث فالطعام اسم جامع، وجمعه أطعمة. وأشهر وجبات الطعام عند العرب الغداء والعشاء. فالغداء وقت الغدي، والعشاء وقت العشى. أما الفطور، وهو ما يتناوله الإنسان صباحا، أي عند نهوضه من نومه، فليس له عند غالبية العرب مقام كبير ة كمقام الغداء أو العشاء ولا سيما عند أهل الوبر، وحظه مع ذلك عند أهل المدر أحسن حالا وأكثر مكانة. والطعمة: الدعوة إلى الطعام.
ويعبر عن الطعام ب "الزاد" كذلك. وورد أن الزاد: طعام السفر والحضر. وورد: التزود بمعنى اتخاذ الزاد. وأما "العيش"، فالزاد والطعام في لغة أهل اليمن.
الضيافة والأضياف
وعرف الجاهليون بالقرى، أي اطعام الأضياف. والجود خلة يتفاخر بها العرب ويتسامون، حتى إن بعضهم أوقد نارا ليراها الأضياف فيستدلون بها على المنزل، وتسمى هذه النار: "نار القرى"، أي نار الضيافة. وأفقر رجل عندهم يقوم قدر حاجته وامكانه إكرام من يفد عليه. والبخل سجيه مذمومة يعاب بها، وتكون سبة بين الناس. وهو لؤم، واللؤم قبيح بالعربي.

(1/2573)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا يقتصر واجب الضيف على تقديم الطعام لضيفه والترحيب به، بل عليه حمايته والدفاع عنه ما دام في بيته. فإذا اعتدى عليه، كان الاعتداء كأنه وقع على المضيف، وخزي وكسف اسمه بين الناس. بلحق العار به وبأسرته، فلا بد له من حماية ضيفه والدفاع عنه مهما كان شأنه وحاله من ضعف وفقر، فإن كان عاجزا استدعى قومه للدفاع عن اسمه من المعتدين.
وخفرة الجار ثلاث، فإذا انتهى الأجل ومضى اليوم الثالث، انتهت خفرة الجوار، وعلى الضيف الخروج. وفي أثناء الضيافة ونزول الضيف في خفرة مضيفه، يكون في مأمن وفي حمى جاره، فإن وقع عليه شيء، طالب مضيفه بالانتصاف ممن أهان ضيفه، لأنه في ضيافته،وتكون الإهانة كأنها قد لحقت به. وورد في الأخبار ان العرب أصحاب حياض. وانهم كانوا يقرون في الحياض وينفون إلأقذاء عن الماء، وذلك لما للماء من أهمية في جزيرة العرب،فعليه تتوقف حياة الإنسان. ولذلك عدت السقاية في مكة مفخرة من مفاخر قريش. وقد فسرت هذه السقاية بأنها وضع الماء في حياض داخل الحرم ليستقي منها الحاج، والاستقاء مجانا من ماء زمزم للفقراء والمعوزين. وقد يكون هذا هو الأصل من السقاية. غير إن أهل الأخبار يشيرون أيضا إلى نوع. أخر من السقاية كان يليها الهاشميون في مكة وذلك بإسقاء الحاج الزبيب المنبوذ في الماء مجانا لهم. وهو أغلى واثمن من الماء.
وذكر إن "بني أفصى بن نذير بن قسر بن عبقر". وهم من بجيلة، كانوا "لم ينزل بها نازل قط إلا عمدوا إلى ماله فحبسوه ودفعوه إلى رجل يرضون أمانته ومانوه بأموالهم ما أقام بين أظهرهم. فإذا ظعن أدوا إليه ماله ورحلوا معه. فإن مات ودوه، وإن قتل طلبوا بدمه، وإن سلم ألحقوه بمأمنه. وفي ذلك يقول عمرو بن الخثارم:.
ألا من كان مغتربا فإني لغربته على أفصى دليل
يعينون الغني على غناه ويثرو في جوارهم القليل

(1/2574)


--------------------------------------------------------------------------------

وطبيعي أن يكون بينهم من يشذ عن العرف ويخالف المألوف، فيمسك يديه ويبخل. فقد روي أن ناسا سافروا من الأنصار فأرملوا فمروا بحي من العرب فسألوهم القرى فلم يقروهم، وسألوهم الشراء فلم يبيعوهم، فأصابوا منهم وتضبطوا. أي أخذوه على حبس وقهر.
ولائم العرب
وللعرب في المناسبات ولائم يقيمونها يدعون إليها الأقرباء والجيران ومن لهم معرفة بهم، لمشاطرتهم الأنس والفرح في تلك المناسبة. كما كانوا يدعون الناس إلى الطعام في أوقات الأتراح أيضا، وذلك مثل وفاة عزيز، أو مرور أمد على ذكراه، ولهم ولائم أيضا في المناسبات الدينية. والغاية من كل ذلك هو مشاطرة من يدعون أصحاب الدعوة في مشاعرهم والاجتماع بهم. ويذكر علماء اللغة أن "الوليمة" طعام العرس، أو كل طعام صنع لدعوة وغيرها. وقد ع كانت العادة إيلام الولائم في الأعراس، لذلك غلب اسم الوليمة على وليمة الاعراس. وذكر أن الرسول قال لعبد الرحمن بن عوف: أولم ولو بشاة. أي اصنع وليمة. والدعوة اسم لكل طعام دعيت اليه الجماعة. فهي تشمل كل أنواع الطعام والدعوات. وبهذا المعنى ترد لفضة:المأدبة. حيث يدعى الناس الى الطعام لمختلف المناسبات. وهي أعم من الوليمة.

(1/2575)


--------------------------------------------------------------------------------

وتذبح الذبائح في الولائم ولمناسبات اكرام الضيوف. والمفرد "ذبيحة". وان كانت تدل على أنثى، غير أنها قد تكون حيوانا ذكرا. فلا يشترط فيها أن تكون شاة، بل يجوز أن تكون خروفا. وهي لا تختص بحيوان معين، فقد تكون جملا وقد تكون ناقة. ويقال لما يهل للالهة: "ذبائح" كذلك. وتكون الذبائح في مناسبات إكرام الضيف، تبعا لمنزلة الضيف. فإذا كان الضيف ملكا مثلا أو سيد قبيلته بولغ في عدد الذبائح التي تقدم له، إكراما لمنزلته ومكانته. والوليمة هي طعام الإملاك، وقد تطلق على الولائم عامة، ولكن الناس يخصصونها في الغالب بمثل، هذه الحالات. فيقولون وليمة العرس، ووليمة الختان، ونحو ذلك. والدعوة أعم من الوليمة. وأما "الخرس" فطعام الولادة، وقيل: الطعام الذي يصنع للنفساء سلامة المرأة من الطلق. و "العقيقة"، وهي طعام سابع الولادة، و "الاعذار" "العذيرة" الطعام يصنع للختان، و "النقيعة" طعام الإملاك، أي التزويج، وقبل: وما يصنع للقدوم من السفر، وقيل: النقيعة التي يصنعها القادم، والتي تصنع له تسمى التحفة، و "الملاك" ما يصنع للخطبة، ويقال: "الاملاك"، ودعي طعام "الاملاك" ب "الشندخ" كذلك.
وقيل إنما قبل لطعام الإملاك "الشندخ"، لأن الشندخ هو الفرس الذي يتقدم بقية الخيل. وحيث أن طعام الإملاك هو طعام يتقدم العرس،. أي هو طعام الزفاف، أو ما يصنع للخطبة، لذلك قيل له: الشندخ. وذكر بعض العلماء الشندخ: الطعام يجعله الرجل إذا ابتنى دارا أو عمل بيتا، أو قدم من سفر أو وجد ضالته.
وقد أشير الى "النقيعة" على أنها الطعام الذي يصنع للقادم، والناقة التي ينحرها القادم للطعام الذي يتخذه، في شعر ينسب إلى "مهلهل" هو-: إنا لنضرب بالسيوف رؤوسهم ضرب القدار نقيعة القدام
وذكر أن النقيعة كل جزور جزرت للضيافة. ومنه قولهم: الناسم، نقائع الموت.
وذهب بعضهم إلى أن النقيعة طعام الرجل ليلة يملك.

(1/2576)


--------------------------------------------------------------------------------

وورد أيضا أن "المنقع"، طعام المآتم، وأن النقيعة الذبيحة التي تذبح عند الوفاة، والنقع، رفع الصوت وشق الجيب. وهذا المعنى يخالف بالطبع المعنى المتقدم لذلك الطعام.
وإذا قام الإنسان بعمل مفيد جديد، فقد يصنع وليمة لهذه المناسبة. فإذا قام انسان ببناء بيت، أو أي بناء اخر جديد، أو استفاد الرجل شيئا جديدا، يتخذ طعاما يدعو اليه اخوانه وأصدقاءه، ويسمون ذلك: العذار. وذكر أيضأ ان العذار طعام البناء وطعام الختان، وأن تستفيد شيئا جديدا فتتخذ طعاما تدعو اليه اخوانك.
وأما "الوكيرة"، فهي طعام يصنع غد تمام البيت يبنيه الرجل لنفسه، مشتقة من "الوكر"، وهو المأوى والمستقر. وعادتهم عند الانتهاء من بناء بيت، دعوة الأقرباء والاصدقاء إلى وليمة لمشاركة صاحب البيت في أنسه وفرحه بتمام البيت.
و "العقيقة" من الولائم التي يدعى الناس، اليها، لمناسبة المساهمة بفرح أهل مولود، حيما يحلقون شعر رأسه لأول مرة، أي الشعر الذي ولد به. وقد تكون العقيقة في الأسبوع الأول من ولادة المولود. وعندئذ يعلن عن اسم المولود الذي سيعرف به.
والختان من المناسبات المبهجة في حياة الأسر. لذلك يولم الناس ولائم لهذه المناسبة يدعونها "العذيرة"، والجمع الإعذار. والمعذور هو المختن. وقد كان الاختتان معروفا بين الجاهلين. ويقال للعذيرة أيضا: العذار والإعذار والعذير. وكل ذلك في معنى طعام الختان. وفي الحديث: الوليمة في الاعذار حق.وورد في الحديث أيضا: كنا اعذار عام واحد، أي ختنا في عام واحد. وكانوا يختتنون لسن معلومة فيما بين عشر سنين وخمس عشرة.
و "القرى": ما يصنع للضيف، و "المأدبة": كل طعام يصنع لدعوة، و "الآدب" صاحب المأدبة.
وإذا كانت الدعوة عامة مفتوحة للجميع " قيل لها "الجفلى"، أما إذا كانت خاصة يقال لها: "النقرى". وفي هذا المعنى ورد في شعر طرفة: نحن في المشتاة ندعو الجفلى لا نرى الآدب منها ينتقر

(1/2577)


--------------------------------------------------------------------------------

ويقال انتقر الرجل إذا دعا بعضا دون بعض، فكأنه اختارهم واختصهم من بينهم.
ورد أن الجفلى، ويقال لطعامها الجفالة، الوليمة، التي ينادي الداعي فيها جميع القوم، أي كل من حضر إلى الطعام. ولا يستثني أحدا، فكل من حضر يحضر تلك الوليمة عكس النقرى، حيث ينتقر الداعي، أي صاحب الوليمة الأشخاص، بأن يذكر أعيانهم، ولا يدعى غير هؤلاء المنتقرين إلى تلك الوليمة، وهي لذلك مذمومة. يقال نقرت باسمه، أي أسميته بين جماعة.
وقد يقدم طعام يتعلل به قبل الطعام، يعرف عندهم بي "السلفة". وإذا أريد أن يكرم الرجل بطعامه عبر عن ذلك بلفظة "القفي". وأما ما يرفع من المرق للانسان، فيقال له "القفارة"، وذلك دلالة على التكريم والتقدير.
وإذا هل هلال شهر رجب، دعي بعض الناس إلى وليمة يسمونها "العتيرة". ولشهر رجب حرمة ومكانة ومنزلة خاصة في نفوس الجاهلين. وقد كان الجاهليون ينذرون، انهم إذا كثر مالهم، فانهم يذبحون منه، ما يذكرون عدده في هذا الشهر. وكان منهم من يذبح من الإبل حين يبلغ الحد الذي ذكر في النذر، ومنهم من يذبح الشاة. كما كانوا ينذرون بتقديم عتيرة في كل نذر آخر يريدون تحقيقه. فإذا أولموا لذلك وليمة أو وزعوا لحم العتيرة أو طعامها على الناس فعملهم هذا عتيرة. وهناك عتيرة أخرى، هي الذبيحة التي كانت لذبح للأصنام ويصب دمها على رأسها فهذه عتيرة أيضا.
المتطفلون
وقد عاب أهل الجاهلية أهل التطفل ومن يتحين طعام الناس، أو يكثر من السؤال. وقالوا للحريص من الرجال "الفلحس". وقالوا: أسأل من "فلحس"، و "تفلحس الرجل"، إذا تطفل. وذكر أهل الأخبار أن "الفلحس" رجل من بني شيبان، زعموا أنه كان إذا أعطي سهمه من الغنيمة، سأل سهما لامرأته ثم لناقته، وكان يسأل سهما في الجيش. وهو في بيته، فيعطى لعزه وسؤدده، فقالوا: "أسأل من فلحس". وذكر أنه كان حريصا رغيبا وملحفا ملحا، وكل طفيلي، فهو عندهم فلحس.

(1/2578)


--------------------------------------------------------------------------------

والطفيلي الذي يدخل الولائم والمآدب بلا دعوة. وقد نسب التطفل إلى رجل من أهل الكوفة، زعموا ان اسمه "الطفيل بن زلال "، وهو من "بني عبدالله ابن غطفان" " كان يأتي الولائم بلا دعوة، وكان يقول: وددت أن الكوفة مصهرجة، فلا يخفى علي منها شيء. فنسب الطفيليون اليه.
المعاقرة
العقر قطع قوائم الفرس أو الإبل أو الشاة بالسيف، وهو قائم. يقال جمل عقير. بمعنى مقطوع القوائم وكذلك ناقة عقيرة، أي قطعت إحدى قوائمها أو قوائمها. وكان الموسرون منهم يتعاقرون، يفاخر بعضهم بعضا ويتفاضلون في عقر الإبل، ويتبارون في ذلك ليرى أيهم أعقر لها، فيكون له الفضل والفخر على الغير. ومن ذلك معاقرة "غالب بن صعصعة" أبي الفرزدق و "سحيم ابن وثيل الرياحي"، لما تعاقرا ب "صوأر"، موضع من أرفى، "كلب" من طرف السماوق، مسافة يوم وليلة من ا إكوفة مما يلي الشام. نعقر "سحيم" خممسا ثم بدا له، وعقر غالب مائة. ذكر أنهم كانوا يفعلونه رياء وسمعة وتفاخرا، ولا يقصدون به غير ذلك، ولهذا نهي عنه في الإسلام، لأنه لم يقصد به وجه الله. جاء في حديث ابن عباس" لا تأكلوا من تعاقر الإعراب، فإني لا آمن من أن يكون مما أهل به لغير الله. قال ابن الأثير: هو عقرهم الإبل. كان الرجلان يتباريان في الجود والسخاء، فيعقر هذا وهذا حتى يعجز أحدهما الآخر، وكانوا يفعلونه رياء وسمعة وتفاخرا ولا يقصدون به وجه الله تعالى فشبهه.بما ذبح لغير الله. وفي الحديث لا عقر في الإسلام. قال ابن الأثير: كانوا يعقرون الإبل على قبور الموتى أي ينحرونها ويقولون: إن صاحب القبر كان يعقر للاضياف أيام حياته فنكافئه بمثل صنيعه بعد وفاته. وأصل العقر ضرب قوائم البعير أو الشاة بالسيف وهو قائم. وفي الحديث لا تعقرن شاة ولا بعيرا إلا لمأكلة، وإنما نهي عنه، لأنه مثلة وتعذيب للحيوان.
مبرات جاهلية

(1/2579)


--------------------------------------------------------------------------------

و كانت للجاهليين مناقب ومبرات ومكرمات،فعلوها في جاهليتهم وقبل إسلامهم. لا ندري إذا كانوا فعلوها عن دين وعقيدة في ثواب تثيبهم الآلهة عليها في هذه الدنيا أو في الدنيا الآخرة، وذلك بالنسبة لمن آمن بوجود عالم ثان، أم أنهم فعلوها عن مروءة وكرم نفس. فمنها "السقاية": سقاية مكة وهي ما كانت قريش تسقيه الحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء، وذلك في ايام الجاهلية. وكانت تعد- مأثرة من ماثرهم، أو اقامة البيوت في المواسم وعلى الطرق وفي المعابد تتخذ سقاية يستقي منها الناس بلا ثمن. وقد ورد في الحديث: انه كان يستعذب الماء من بيوت السقيا.
ومن مبراتهم قبة عوف بن أبي عمرو بن عوف بن محلم بن ذهل بن شيبان، لا يدخل جائع إلا أشبع، ولا خائف إلا أمن.
ومنها نخل ربيعة بن الأسود اليشكري، وكان جعلها لابن السبيل وكل مقطوع وقره فيها. فلما كانت حجة الوداع، ووضع رسول الله كل دم ومكرمة في الجاهلية إلا السدانة والسقايا، قام ابن ربيعة بن الأسود، فقال: يا رسول الله إن أبي كان وقف نخلا على أبناء السبيل أفهي مكرمة له ? فأمضها. فأمره النبي بإمضائها. وقد مدح أولاده ونسله فنعتهم أحد الشعراء ب "بني مورث الأضياف من آل اسود". وتذكرهم معاوية، فقال: "وددت أن صاحب نخل ربيعة بن أسود مكان الخلافة. لي".
مياه الشرب
ولما كان الجفاف هو الغالب على طبع جزيرة العرب. لذلك قل " الماء فيها، واضطر الناس إلى قطع المئات من الأميال للوصول إلى موضع ماء للتزود به. ولهذا صار عزيزا عندهم ثمينا، فقد تنقذ كمية قليلة منه حياة شخص. وتكثر الحاجة اليه بصورة خاصة في الصيف: حيث تكثر الحرارة، فيشتد العطش، ويظطر الإنسان إلى الاكثار من شرب الماء لكسر حدة ذلك العطش. ولذلك يقترب الناس في مواسم الصيف من مواضع الماء، حتى إذا نفد ما عندهم منه، ذهبوا إلى أقرب ماء اليهم، للتزود به.

(1/2580)


--------------------------------------------------------------------------------

وألذ المياه عند العرب ماء الغيث. أي ماء المطر، فإذا جادت السماء به، سال إلى المواضع المنخفضة وتجمع بها، فيأتي الأعراب اليها للاستقاء منها. ولهم أسماء ومصطلحات عديدة لأنواع المطر ولمواضع تساقطه، نظرا لما لذلك من علاقة بحياتهم، ولما لهم من حاجة شديدة الى الغيث.
والعيون والآبار والحسي، هي من المنابع الأخرى إلتي أمدت العرب بالماء والعين، هي ينبوع الماء الذي ينبع من الأرض. وقد تطلق على موضع تجمع مطر خمسة أو ستة ايام أو أكثر. والبئر، هي القليب. قد تكون بئرا عادية، وهي البئر القديمة التي لا يعلم لها حافر بلا مالك، وقد تكون بئرا يعرف صاحبها وحافرها ومالكها. وقد كان الجاهلون يحفرون الآبار لأنفسهم للاستسقاء منها وللزرع بمائها، كما كانوا يبيعون ماءها لغيرهم. وقد كانت لليهود آبار بالحجاز حصلوا منها على أموال بسبب بيع مائها للمحتاج اليه. وإما "الحسي" " فهي المواضع التي يظهر فيها الماء من جوف الأرض على وجه التربة. ومنها حسي الاحساء وأحساء خرشاف، واحساء "بني وهب" على خمسة اميال من المرتمى، فيه بركة وتسع آبار كبار وصغار بين القرعاء وواقصة على طريق الحاج، واحساء "غنى" وأحساء اليمامة، أحساء جديلة.
ويشرب الأعراب الماء بأيديهم،بأن يمدوا أيديهم في عين الماء أو في مستجمعه ثم يغرفوا منه، فيشربوه وهكذا حتى يرتووا. وقد ينبطح أحدهم على الأرض، ثم يمد فمه إلى الماء فيشرب منه. أما بالنسبة إلى الآبار والقرب ومخازن الماء، فإنهم قد يشربون من أفواه الدلاء أو القرب، وقد يستعملون أواني يشربون بها منها: الغمر، وهو قدح صغير " والقدح والتبن، والصحن والقعب، وغير ذلك من أسماء ذكرها علماء اللغة.

(1/2581)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد يتجمع الماء في حفر، فيكون بركا. وذكر ان البركة مثل الحوض يحفر في الأرض لا يجعل له أعضاد فوق صعيد الأرض. وذكر ان العرب يسمون الصهاريج التي سويت بالآجر وصرجت بالنورة في طريق مكة ومناهلها بركا. ورب بركة تكون ألف ذراع وأقل وأكثر. وأما الحياض التي تسوى لماء السماء ولا تطوى بالآجر، فهي الأصناع.
وذكر علماء اللغة ان "الصنع"، مصنعة الماء، وهي خشبة يحبس بها الماءوتمسكه حينا، والجمع "أصناع"، وذكر ان "المصنعة" -كالحوض أو شبه الصهريج يجمع فيها ماء المطر، يحتفرها الناس فيملاونها ماء السماء يشربونها. وورد ان "الحبس" مثل المصنعة.
ولهم في سقي إبلهم عادات. وكانوا يسمون كل سقية حسب يومها. فإذا سقوا الإبل كل يوم، قالوا سقيناها رفها، وإذا اوردوها يوما وتركوها في المرعى يوما، قالوا: سقيناها غبا. وإذا اقاموها في المرعى بعد يوم الشرب يومين ثم أوردوها في اليوم الثالث يقولون: سقيناها ربعا، وهكذا. وتمام ظمأ الإبل قي الغالب ثمانية إيام فإذا أوردوها في اليوم التاسع منه،وهو العاشر من الشرب الأول، قالوا: سقيناها في ربعا بالكسر، إلى غير ذلك مما تجده في كتب اللغة عن هذا الموضوع.
ومن أوعية الماء "المهراس". حجر منقور ضخم لا يقله الرجال ولا يحركونه لثقله، يسع ماء كثيرا. يؤخذ منه الماء للشرب، وللاستعمال، وقد استعمل في الإسلام للوضوء منه.
والحب، معروف عند الجاهلين، يختزن فيه الماء للشرب، يعمله الكواز والفخار. والكوز إناء يشرب به، ذكر أنه يكون بعروة، أما إذا لم تكن به عروة فهو "كوب". وهناك الأباريق واوان أخرى استعملت في الشرب. طرق معالجة الماء

(1/2582)


--------------------------------------------------------------------------------

وللعرب طرق في معالجة المياه المالحة، مثل ماء البحر، وفي معالجة المياه الكدرة. من ذلك أنهم كانوا إذا اضطروا إلى شرب ماء البحر، وضعوه في قدر، وجعلوا فوق القدر قصبات وعليها صوف جديد منفوش، ويوقد تحت القدر حتى يرتفع بخارها إلى الصوف، فإذ كثر عصروه، ولا يزالون على هذا الفعل حتى يجتمع لهم ما يريدون.فيكون ما استخرج من الماء من عصر الصوف ماء عذب، ويبقى في القدر الزعاق.
وربما حفروا على ساحل البحر أو شاطىء مجتمع الماء المالح حفرة، يرشح الماء من الماء المالح اليها، ويحفرون حفرة أخرى على مسافة منها، يرشح اليها الماء من الحفرة الأولى، ثم يحفرون ثالثة، وبذلك يتحايلون على ملوحة الماء، حتى. يعذب، فيكون صالحا للشرب.
ولهم في دفع كدرة الماء حيل. من ذلك أنهم كانوا إذا اضطروا إلى شرب الماء الكدر، ألقوا فيه قطعة من خشب الساج أو جمرا ملهبا يطفأ فيه، أو طينا أو سويق حنطة، فإن كدورته ترسب إلى أسفل. وقد يضعون إناء تحت حب. الماء، لتتجمع قطرات الماء الصافية فيه، يشربون منه ماء صافيا لا كدرة فيه. وربما عرفوا استعمال "الشب" في إزالة كدرة الماء. وهو أنواع، منه شب يماني.
الفصل الحادي والخمسون
فقر وغنى وأفراح ؤأتراح
وبين الجاهليين أناس عرفوا بالغنى وبالثراء وبكثرة المال، كالذي ذكرته عن بعض رجال مكة.. فقد كان بينهم رجال متخمون شبعون، سكنوا بيوتا حسنة، زينوها بأثاث جيد وثر، ولبسوا ملابس الحرير والألبسة الجيدة المستوردة من بلاد الشام واليمن، فأكلوا أكلات الأعاجم وتفننوا في الطبخ، وشربوا بآنية من ذهب وفضة وبلور. وساهموا في قوافل تجارة مكة الجماعية. كما كانت لهم قوافل خاصة بهم، تأتي إليهم بأرباح طيبة. ومنهم من استغل ماله بالربا وبامتلاك الأرض لاستغلالها، كما فعلوا بالطائف، إلى غير ذلك من وسائل اتبعوها في جمع المال.

(1/2583)

admin
12-31-2010, 08:09 PM
وكان منهم أناس ذوو حس وعاطفية، فعطفوا على المحتاج وأطعموا الناس، رقة بحالهم أو طلبا للشهرة والاسم. فهم جماعة محسنة على كل حال وكان بينهم من لم يكن له قلب ولا حس، فلم يعرف محتاجا أو فقيرا ولم يفهم معنى للإحسان على الفقير. فاشتط وأبى وقسى في رباه، ولم يتساهل فيه. ومنهم من أكل أموال اليتامى ومنع الماعون. وإذا باع أنقص في المكيال، ليزيد في ماله. وفي القرآن الكريم آيات في وصف حال هؤلاء الأغنياء، وتقريع لهم وتوبيخ على ما فعلوه: )فذلك الذي يدع اليتيم، ولا يحض على طعام المسكن(. أي يدفع اليتيم عن حقه، ويقهره ويظلمه. وانهم كانوا لا بورثون النساء ولا الصغار، ويقولون: "انما يحوز المال من يطعن بالسنان، ويضرب بالحسام".
وكان منهم من يبخل بماله فلا ينفق منه على المحتاجين والمساكين،كان منهم من يعتذر عن بخله وحرصه، فيقول: "أنطعم من لو شاء الله أطعمه " فنزلت هذه الآية: )ولا يحض على طعام ألمسكن( فيهم، "وتوجه الذم اليهم. فيكون معنى الكلام: لا يفعلونه إن قدروا،ولا يحثون عليه إن عسروا.
وكان بين الجاهليين فقراء معدمون مدقعون لم يملكوا من حطام هذه الدنيا شيئا. وكانت حالتهم مزرية مؤلمة. منهم من سأل الموسرين نوال إحسانهم، ومنهم من تحامل على نفسه تكرما وتعففا، فلم يسأل غبا ولم يطلب من الموسرين حاجة، محافظة على كرامته وعلى ماء وجهه،مفضلا الجوع على الشبع بالاستجداء.
حتى ذكر ان منهم من كان يختار الموت على الدنية. والدنية، أن يذهب إلى رجل فيتوسل اليه بأن يجود عليه بمعروف. ومنهم من اعتقد. والاتحفاد أن يغلق الرجل بابه على نفسه، فلا يسأل أحدا حتى يموت جوعا. وكانوا يفعلون ذلك في الجدب. قيل كانوا إذا اشتد بهم الجوع وخافوا أن يموتوا أغلقوا عليهم بابا وجعلوا حظيرة من شجرة يدخلون فيها ليموتوا جوعا.

(1/2584)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان بعض تجار مكة إذا أفلسوا أو ساءت حالتهم، خرجوا إلى اليبدية سرا، وأقاموا هناك حتى يهلكوا جوعا. خشية معرة وقوف رجال مكة على حالهم، واشفاقا على أنفسهم من التوسل بالاغنياء لمساعدتهم. فالموت على هذه السورة أسهل عندهم من الإستجداء. روي "عن ابن عباس" في تفسير "لإيلاف قريش"، قوله: "وذلك أن قريشا كانوا إذا أصابت واحدا منهم مخمصة، جرى هو وعياله إلى موضع معروف فضربوا على أنفسهم خباء فماتوا".
وكان منهم من رضي وقنع بالدون من المعيشة، فعاش في فقر مدقع. والدقع الرضا بالدون من المعيشة وسوء احتمال الفقر واللصوق بالأرض من الفقر والجوع، فهم ينامون على التراب ويلتحفون السماء. والدوقعة الفقر والذل، وجوع أدقع وديقوع شديد. وهم مثل "بنو غبراء" في الفقر والحاجة، أولئك الذين توسدوا الغبراء واتخذوا التربة فراشا لهم، لعدم وجود ملجأ لهم يأوون اليه، و لا مكان يحتمون به.
ولم يكن في وسع كثير من الجاهليين الحصول على اللحم لفقرهم فكانوا يأتدمون "الصليب" وهو الودك. زدك العظام. يجمعون العظام ويكسرونها ويطبخونها، ثم يجمعون الودك الذي يخرج منها ليأتدموا به. وقد عرفوا ب "أصحاب الصلب". ولما قدم الرسول مكة "أتاه أصحاب الصلب الذين يجمعون العظام إذا لحب عنها لحمانها فيطبخونها بالماء ويستخرجون ودكها ويأتدومن به "

(1/2585)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم يكن في استطاعة الفقراء أكل الخبز لغلائه بالنسبة لهم. لذلك عد أكله من علائم الغنى والمال. وكان الذي يطعم الخبز والتمر يعد من السادة الكرام. وكان أحدهم يفتخر بقوله "خبزت القوم وتمرتهم "، بمعنى أطعمتهم الخبز والتمر. وقد افتخر "بنو العنبر " بسيدهم "عبد الله بن حبيب العنبري "، لأنه كان لا يأكل التمر و لا يرغب في اللبن، بل كان يأكل الخبز. فكانوا إذا افتخروا قالوا: منا آكل الخبز. وكانوا يقولون "أقرى من آكل الخبز " لأنه كان جوادا. وذكر أن "كسرى" حين سأل "هوذة بن علي الحنفي " عن غذائه ببلده، قال له هوذة: الخبز. " فقال كسرى: هذا عقل الخبز لا عقل اللبن والتمر ".
وكان منهم من لا يستطيع شراء الملابس ليلبسها، فيستر جسمه بالأسمال البالية وبالجلود، ويعيش متضورا جوعا. وقد ذكر أن الفقراء من الصحابة كانوا لا يملكون شيئا، ويتضورون جوعا، وينامون في صفة المسجد، يرزقهم الرسول من رزقه، تنبعث منهم روائح كريهة، من عدم الغسيل. ويلعب القمل في شعرهم، ويتنقل على أجسامهم حيث يشاء.
ويظهر أن بعض زعماء مكة قد شعر نخطر ظاهرة انتشار الفقر بمكة، وبما سيتركه الاعتقاد من أثر في مجتمعها، فعمل على معالجة مشكلة الفقر والجوع والتسول، حفظا لمصالح الأغنياء على الأقل. فهم إن تركوا الفقر ينتشرويتفشى، ولم يعملوا على معالجته، تطاول الفقراء منهم على أموال الأغنياء، وقاموا عليهم وأرغموهم على أخذ أموالهم أو على أن يساهموهم فيه. أضف إلى ذلك ما سيحدثه اعتداء الفقراء على أموال الأغنياء من خوف، ومن فزع في نفوس أهل هذه المدينة المتاجرة، لذلك سعوا لاقناع تجار المدينة على إنصاف الفقراء والمحتاجين ومساعدتهم للتخفيف من شدة الجوع والفقر.

(1/2586)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر ان المخمصة، كانت شديدة، شدة حملت البعض على السطو على أموال الناس وعلى سرقة ما يجدونه أمامهم. ففزع من ذلك أهل مكة، وعمل زعماؤها على التفكير في اتخاذ أقسى العقوبات في حق السارق، فكان أن حكم "الوليد بن المغيرة" بقطع يد السارق، ذكر انه كان أول من حكم بقطع يد السارق فى الجاهلية فصار القطع سنة عندهم.
وكان أن نادى "هاشم"، وهو "عمرو بن عبد مناف" إنصاف الفقراء والمحتاجين وتقديم المعونة لهم، حتى يصير فقيرهم كالكافي، فما ربح الغني أخرج منه نصيبا ليكون للفقراء. وبذلك يخفف من حدة وطأة الفقر في هذه المدينة المتاجرة.
وذكر في تعليل دعوة "هاشم" إلى إنصاف الفقراء ومساعدتهم، انه "كان سيدا في زمانه، وله ابن يقال له: أسد، وكان له ترب من بني مخزوم، يحبه ويلعب معه. فقال له: نحن غدا نعتفد. فدخل أسد على أمه يبكي، وذكر ما قاله تربه.. فأرسلت أم أسد إلى أولئك بشحم ودقيق، فعاشوا به أياما. ثم إن تربه أتاه أيضا، فقال: نحن غدا نعتفد، فدخل أسد على أبيه يبكي، وخبره خبر تربه، فاشتد ذلك على عمرو بن عبد مناف، فقام خطيبا في قريش وكانوا يطيعون أمره، فقال: انكم أحدثتم حدثا تقلون فيه وتكثر العرب، وتذلون وتعز العرب، وأنتم أهل حرم الله جل وعز، وأشرف ولد آدم، والناس لكم تبع، ويكاد هذا الاعتفاد يأتي عليكم. فقالوا: نحن لك تبع. قال: ابتدئوا بهذا الرجل - يعني أبا ترب أسد - فأغنوه عن الاعتفاد، ففعلوا. ثم انه نحر البدن، وذبح الكباش والمعز، ثم هشم الثريد، وأطعم الناس، فسمي هاشما. وفيه قال الشاعر: عمرو الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف

(1/2587)


--------------------------------------------------------------------------------

تم جمع كل بني أب على رحلتين: في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشام للتجارات، فما ربح الغني قسمه بينه وبين الفقير، حتى صار فقيرهم كغنيهم، فجاء الإسلام وهم على هذا، فلم يكن في العرب بنو اب أكثر مالا ولا أعز من قريش، وهو قول شاعرهم: والخالطون فقيرهم بغنيهم حتى يصير فقيرهم كالكافي
فلم يزالوا كذلك حتى بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، فقال: "فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع" بصنيع هاشم "وآمنهم من خوف" أن تكثر العرب ويقلوا.
وورد أن "حكيم بن حزام" كان يقاسم ربحه من تجارته الفقراء وأهل الحاجة والمحاويج. وذكر أن قريشأ كانت تتراحم فيما بينها وتتواصل. وأن تفسير " لإيلاف قريش"، هو " لتراحم قريش وتواصلهم". فالإيلاف التراحم والتواصل. وذكر أن قريشا كانوا "يتفحصون عن حال الفقراء ويسدون خلة المحاويج". ويظهر أن هذا إنما حدث بفعل "هاشم" وبتنظيمه وجمعه وبدعوته تلك. فصار أصحاب القلوب الرقيقة يخرجون منذ يومئذ من دخلهم نصيبا يجمعونه ويوحدونه، لينفقوا منه على من به حاجة من أهل مكة ومن الغرباء.
والإيلاف هو التطبيق العملي لدعوة "هاشم" إلى إنصاف الفقراء والمساكين والمحاويج. فبعقد "الإيلاف" وإجماع قريش على تلبية دعوة هاشم بإخراج نصيب من أموالهم يخصص لمساعدة المحتاج، تمكن "هاشم" من تطبيق دعوته تطبيقا عمليا، ومن مساعدة المحتاجين. حتى صار عمله سنة لمن جاء بعده. فحسن حال المحتاجين، ونعش فقراء مكة. يؤيد ذلك ما نجده من قول "ابن حبيب": "أصحاب الإيلاف من قريش الذين رفع الله بهم قريشا ونعش فقراءها".
والرفادة والسقاية، هما من ثمرات دعوة "هاشم"، فالرفادة، هي إقراء ضيوف مكة وإطعام المحتاجين من أهلها. والسقاية إسقاءهم الماء، والنبيذ واللبن.

(1/2588)


--------------------------------------------------------------------------------

فلم تقتصر السقاية على تقديم الماء بلا ثمن إلى العطشان والمحتاج إلى الماء. بل اشتملت على تقديم اللبن والنبيذ بل والعسل كذلك إلى المحتاج بلا ثمن. وقد ذكر أن "سويد بن هرمي بن عامر الجمحي"، كان " أول من وضع الأرائك وسقى اللبن والعسل بمكة". وأن "أبا أمية بن المغيرة المخزومي": المعروف ب "زاد الركب"، و " أبا وادعة بن ضبيرة بن سعيد بن سعد بن سهم"، "كانا يسقيان العسل بمكة بعد سويد بن هرمي". وكل هذه الأعمال، هي من الأعمال الخيرية النافعة، التي تدل على نفس طيبة، تسعى للتخفيف عن مصاعب الناس، وعن رغبة في مساعدة الفقراء والمحتاجين. فصار في وسع من يقصد البيت الجلوس على أرائك ليرتاح عليها، كما صار في وسعه الحصول على ماء أوسقاء لبن أو ماء معسل، أي محلى، مجانا إن لم بتمكن من دفع الثمن.
وفي حلف "الفضول" دعوة ل "مواساة أهل الفاقة ممن ورد مكة بفضول أموالهم"، وذلك لمنع الظالمين من أهل مكة من اغتصاب أموال أهل الفاقة والغرياء ممن يرد إلى المدينة وليس لهم من جار ومعين، ومن أهل مكة كذلك.فهو توثيق وتتمة لعمل "هاشم".
ونجد هذه الدعوة الانسانية في مساعدة الجار والفقير في الشعر: في مثل قول الشاعر: يبيتون في المشتى ملاء بطونهم وجاراتهم غرثى يبتن خمائصا
وهو بيت يمثل المثل الجاهلية العليا التي تجسمت في الجوار وفي المروءة والاحسان والحمية وأمثال ذلك.
ونجد مئل هذه النزعة في قول الشاعر: هنالك إن يستحبلوا المأل يخبلوا وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا
على مكثريهم رزق من يعتريهم وعند المقلين السماحة والبذل
وفي قول "الخرنق بنت هفان" ترثي زوجها "عمرو بن مرثد" وابنها "علقمة بن عمرو" وأخويه حسان وشرحبيل، حيث قالت في جمله ما قالته: والخالطين نحيتهم بنضارهم وذوي الغنى منهم بذي الفقر

(1/2589)


--------------------------------------------------------------------------------

والنحيت الدخيل في القوم، والنضار الخالص النسب. فهم قوم كرام، لم يفرقوا بين الدخيل والأصيل، ولا بين الغني والفقير، فنال الدخيل ما عند الأصيل، وشارك ذو الفقر والمدقعة الغني في ماله، وهو أعز شيءعند الإنسان، لأنه أبى أن يستأثر به، وجاره فقير ليس عنده ما يسد حاجته. فمجتمعهم مجتمع "خليط"، و "الخليط: القوم الذين أمرهم واحد"، والمشارك الحقوق. وفي الحديث: الشريك أولى من الخليط. والخليط أولى من الجار. وأراد بالشريك: المشارك في الشيوع.
ونجد فكرة مساعدة الفقير، والاستهانة بالمال بانفاقه على المعوزين، والإنعام به على الفقراء، في أبيات أخرى في مثل: والخالطين غنيهم بفقيرهم والمنعمين على الفقير المرمل
وفي مثل قول الأعشى: وأهان صالح ماله لفقيرها وآسى وأصلح بينها وسعى لها
وقول الشاعر عمرو بن الاطنابة: والخالطين حليفهم بصريحهم والباذلين عطاءهم للسائل
وأرى أن في ورود لفظة "الخالطين" في هذه الأبيات، بمعنى خلط المال، وتخصيص الأغنياء نصيبا من أموالهم للفقراء، دلالة على أن من الجاهليين الأغنياء من كان قد وضع في ماله حقوقا للمحتاجين، بحيث صاروا كالمخالطين لهم في مالهم، وفي منزلة الشركاء لهم في المال. من دون إرغام لهم ولا إكراه، أو طمع في ثواب دنيوي أو في عالم ما بعد الموت. وذلك غاية الجود والكرم.
وفي شعر للنعمان بن عجلان الأنصاري، إشادة بعمل قومه الأنصار، إذ قسموا أموالهم وديارهم بينهم وبين المهاجرين. فيقول: وقلنا لقوم هاجروا: مرحبا لكم وأهلا وسهلا ، قد أمنتم من الفقر
نقاسمكم أموالنا وديارنا كقسمة أيسار الجزور على الشطر

(1/2590)


--------------------------------------------------------------------------------

ويذكرنا شعره هذا الذي افتخر فيه بقومه الأنصار بالمؤاخاة، إذ آخى رسول الله بين المهاجرين والأنصار. بعد مقدمه بخمسة أشهر، وقيل ثمانية أشهر. فكانوا يتوارثون بهذا الإخاء في ابتداء الإسلام إرثا مقدما على القرابة. ثم نسخ التوارث بالمؤاخاة بعد بدر. والمؤاخاة هي "المخالطة" الجاهلية في صورة أخرى.

وقد كان بين الجاهليين من حبس الحبوس،لتكون وقفا على الفقراء والمحتاجين وأبناء السببل. ومنهم من ساعد الفقراء والصعاليك بتقديم الخيل لهم للإغارة بها واكتساب الرزق عن طريق الغارات.كالذي روي عن "الريان بن حويص العبدي" من أنه كان قد جعل فرسه "هراوة" موقوفة على الأعزاب من قومه. فكانوا يغزون عليها ويستفيدون المال ليتزوجوا، فإذا استفاد واحد منهم مالا وأهلا دفعها إلى آخر منهم، فكانوا يتداولونها كذلك، فضربت مثلا، فقيل: أعز من هراوة الأعزاب. وذكر أنها جاءت سابقة طول أربع عشرة سنة، فتصدق بها على العز اب، يتكسبون عليها في السباق الغارات.
ومن تقاليد العرب مساعدة الضال والمنقطع والمعزب، وهو الذي عزب عن أهله في إبله وانقطع عنهم. ومن ذلك ما ورد في الحديث: أنهم كانوا في سفر مع النبي، فسمع مناديا، فقال: انظروا ستجدوه معزيا أو م مكلئا. والتعزب: الابتعاد عن الجماعات بسكنى البادية، وقد نهي عن ذلك في الإسلام. كما أشير إلى ذلك في حديث "ابن الأكوع" لما أقام بالزبذة "أبو ذر الغفاري" قال له الحجاح ارتددت على عقبيك تعزبت.
ومنهم من جعل في ماله صدقة يؤديها إلى الفقراء على وجه القربة الآلهة أو عن دافع انساني أوعن حب للظهور والفخر. ويقال لمن يتصدق على غيره "المتصدق". وهو عمل تطوعي، يقوم به الإنسان اختيارا وتطوعا، لمساعددة المعوز والمحتاج.

(1/2591)


--------------------------------------------------------------------------------

و "ابن السبيل " هو "ابن الطريق"، الذي قطع عليه الطريق، ولا يجد ما يتبلغ به. والضيف المنقطع به، فيجب أن يعطى ما يتبلغ به إلى وطنه. وقد تتعرض السابلة إلى لصوص الطرق، يسلبونهم ما معهم، وقد يأخذون حتى ملابسهم، فيتعرض مثل هؤلاء للهلاك والأخطار، حتى يتهيأ لهم من له شفقة ورحمة فيغيثهم بما يمكن منه، وقد يحملهم معه.
وكان لفقر الكثير منهم، يصعب عليهم دفع ديونهم، ويماطلون في الأداء حتى انهم كانوا إذا رأوا الهلال، قالوا: لا مرحبا بمحل الدين ومقرب الآجال. وذلك لأنهم كانوا يتواعدون في دقع الديون على مطالع القمر.
ومما زاد في فقر بعضهم، شرب الخمر والمقامرة. فكان بعضهم يفني ماله في شرب الخمر، "وكان الرجل في الجاهلية يقامر على أهله وماله فيقعد حزينا سليبا، ينظر إلى ماله في يدي غيره، فكانت تورث بينهم عداوة وبغضا". فعلوا ذلك أملا في التخلص من ألم الفقر والحرمان باللجوء إلى الخمور لطمس ألم الفقر والذل، والى القمار، أملا في الكسب والربح، فزادوا بذلك فقرهم، وعرضوا أنفسهم الى الخسارة.
الوأد
والوأد من ذيول الفقر. وقد جاء ذكره في الاية: "وإذا الموؤودة سئلت: بأي ذنب قتلت". والوأد على ما يذكر علماء التفسير وأهل الأخبار هو دفن الينات وهن أحياء، وذلك خوفا من العار أو لوجود نقص فيها أو مرض، أو قبح كأن تكون زرقاء أو شيماء أو برشاء أو كسحاء وأمثال ذلك، وهي من الصفات التي كان يتشاءم منها العرب، أو خوفا من الفقر والجوع، أو مخافة العار والحاجة.

(1/2592)


--------------------------------------------------------------------------------

ورجع "القرطبي" أسباب الوأد لخصلتين: "إحداهما، كانوا يقولون إن الملائكة بنات الله، فألحقوا البنات به. الثانية، إما مخافة الحاجة والإملاق وإما خوفا من السبي والإسترقاق". وذكر غيره أن سنين شديدة كانت تنزل بالناس تكون قاسية على أكثرهم، ولا سيما على الفقراء، فيأكلون "العلهز" وهو الوبر بالدم، وذلك من شدة الجوع. فهذا الفقر وهذه الفاقة وذلك الإملاق، كل ذلك حملهم على وأد البنات حذر الوقوع في الغواية، فتلحق السبة بأهل البنت وبعشيرتها وقبيلتها. وذكر أيضا أن من جملة أسباب الوأد وجود نقص في الموؤودة أو مرض أو قبح، كأن تكون زرقاء أو شيماء أو برشاء أو كسحاء وامثال ذلك، وهي من الصفات التي كان يتشاءم منها العرب.
وذكر بعض أهل الأخبار، ان بعض العرب كانوا يتشاءمون من البنت الزرقاء أو الشيماء، أو الكسحاء، فكانوا يئدون من البنات من كانت على هذه الصفة، ويمسكون من لم يكن على هذه الصفة. وذكروا ان والد "سودة بنت زهرة" الكاهنة وهي عمة "وهب"، والد "آمنة" أم الرسول، أرسل بها إلى "الحجون" لوأدها، للصفة المذكورة، ثم تركها في قصة يروونها، وصارت كاهنة شهيرة. فسبب الوأد عند هؤلاء، هو هذه العقيدة القائمة على التشاؤم من البنت الزرقاء والشيماء.
ويذكرون انهم كانوا يحفرون حفرة، فإذا ولدت الحامل بنتا ولم يشأ أهلها الاحتفاظ بها رموا بها في الحفرة، أو انهم كانوا يقولون للأم بأن تهيىء ابنتها للوأد وذلك بتطييبها وتزيينها. فإذا زينت وطيبت، أخذها أبوها إلى حفرة يكون قد احتفرها، فيدفعها فيها، ويهيل عليها التراب حتى تستوي الحفرة بالأرض. وذكر أيضا، ان بعضهم كان يغرقها، أو يقوم بذبحها، ليتخلص بهذه الطرق منها.

(1/2593)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر ان الرجل منهم كان إذا ولدت له بنت، فأراد أن يستحييها ألبسها جبة من صوف أو شعر ترعى له الإبل والغنم في البادية، وإن اراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية فيقول لأمها: طيبيها وزينيها حتى أذهب بها احماتها، وقد حفر لها بئرا في الصحراء فيبلغ بها اليئر، فيقول لها انظري فيها ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب، حتى تستوي البئر بالأرض. وروي عن ابن عباس انه قال: كانت الحامل إذا قربت ولادتها حفرت حفرة فمخضت على رأس تلك الحفرة، فإذا ولدت بنتا رمت بها في الحفرة وردت التراب عليها، وإذا ولدت ولدا حبسته. ومنه قول الراجز: سميتها إذ ولدت: تموت والقبر صهر ضامن زميت
الزميت الوقور.
وفاعل العمل هو "الوائد" والبنت المدفونة وهي حية "الموؤودة"، والعادة "الوأد".
ويرجع بعض أهل الأخبار تأريخ الوأد إلى ايام "النعمان بن المنذر" ملك الحيرة، فيقولون إن "بني تميم" منعوا الملك ضريبة الاتاوة الني كانت عليهم فجرد الملك حملة عليهم كان اكثر رجالها من بني بكر بن وائل، أوقعت بهم وسبت ذراريهم. فلما ارضوا الملك وكلموه في الذراري، " حكم النعمان بأن يجعل الخيار في ذلك إلى النساء، فأية امرأة اختارت زوجها،رد ت عليه، فاختلفن في الخيار. وكانت فيهن بنت لقيس بن عاصم المنقري،فاختارت سابيها على زوجها، فنذر قيس بن عاصم أن يدس كل بنت تولد في التراب، فوأد بضع عشرة بنتا. وبصنيع قيس بن عاصم وايجاده هذه السنة نزل القرآن في ذم، وأد البنات. ورجع بعض الأخباريين الوأد إلى قبيلة ربيعة. زعموا أن بنتا لرئيسها وسيدها وقعت أسيرة في أيدي قبيلة أغارت عليها: فلما عقد الصلح، لم تشأ البنت العودة إلى بيتها، فاختارت بيت آسرها، فغضب رئيس ربيعة لذلك، واستن هذه السنة، وقلدته بقية العرب حتى فشت بين القبائل، وهي رواية قريبة في مضمونها وفي فكرتها من الرواية الأولى. والفرق بين الروايتين هو في تسمية القبيلة والأشخاص.

(1/2594)


--------------------------------------------------------------------------------

وورد أن "قيس بن عاصم" التميمي، جاء إلى النبي، فقال: إني وأدت ثماني بنات في الجاهلية. قال فأعتق عن كل واحدة منهن بدنة. أو: فأعتق عن كل واحدة منهن رقبة.
ويذكر الأخباريون أن "الوأد كان مستعملا في قبائل العرب قاطبة، فكان يستعمله واحد ويتركه عشرة فجاء الإسلام، وقد قل ذلك فيها إلا من بني تميم، فإنهم تزايد فيهم ذلك قبيل الإسلام". وقبيلة كندة وقيس وهذيل وأسد وبكر ابن وائل من القبائل التي عرف فيها الوأد، وخزاعة، وكنانة، ومضر، واشدهم في هذا تميم زعموا خوف القهر عليهم، وطمع غير الاكفاء فيهن. وذكربعض أهل الأخبار ان الوأد كان في تميم، منهم انتقل الى غيرهم. وقيل: إنه كان في تميم، وقيس، وأسد، وهذيل، وبكر بن وائل، وهم من مضر. فهي عادة تفشت في قبائل مضر خاصة. وقيل إنها كانت في غير مضر كذلك. وذكر انها كانت في ربيعة ومضر، اي في العرب الذين تغلبت الأعرابية على حياتهم.
وذكر "عكرمة" في تفسير الآية: "قد خسر الذين قتلوا اولادهم سفها بغير علم"، انها نزلت فيمن يئد البنات من ربيعة ومضر. كان الرجل يشترط على امرأته، ان تستحي جارية وتئد اخرى. فإذا كانت الجارية التي توأد غدا الرجل أو راح من عند امرأته، وقال لها: انت علي كظهر امي إن رجعت اليك ولم تئديها، فتخد لها في الأرض خد ا وترسل إلى نسائها فيجتمعن عندها، ثم يتداولنها حتى إذا ابصرته راجعا دستها في حفرتها ثم سوت عليها التراب".

(1/2595)


--------------------------------------------------------------------------------

اما ان اول من سن الوأد في العرب، هو "قيس بن عاصم المنقري"، للسبب المذكور، فدعوى من الدعاوى المألوفة عن اهل الأخبار، وقصة من القصص الذي كانوا يضعونه احيانا حين يقفون عند امر غريب عليهم، ليس لهم علم به، فكانوا يوجدون قصصا في تفسيره وتعليله، وقفنا على كثير منه. والظاهر ان وأد "قيس" لبنات من بناته، ووجوده في تميم خاصة بعد ان خف عند بقية العرب، حمل اصحاب الأخبار على ارجاع اصله واساسه إلى "قيس"، مع انهم يذ كرون حوادث عن الوأد، مثل ما ذكروه عن "سودة بنت زهرة " الكاهنة، تتقدم في الزمن على "قيس". والوأد عند العرب اقدم منه، وربما يعود الى ما قبل الميلاد. وفي القرآن الكريم: "وإذا بشر احدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم، يتوارى من القوم من سوء ما بشر به. أيمسكه على هون ام يدسه في التراب ? ألا ساء ما يحكمون". وفي هذه الآية وصف للحالة النفسية التي كانت تعتور الأب عند إخباره بميلاد بنت له، وشرح لبعض الأسباب التي كانت تحمل الآباء على وأد البنات. ويروى إن بعض الجاهلية يتوارى في حالة الطلق، فإن أخبر بذكر ابتهج أو بأنثى حزن، وبقي متواريا ايامأ يدبر ما يصنع أيتركه ويربيه على ذل، ام يدسه في التراب، بأن يئده ويدفنه حيا حتى يموت، ام يهلكه بأمر آخر، بأن يلقيه من شاهق. روي ان رجلا قال: يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما اجد حلاوة الإسلام منذ اسلمت. وقد كانت لي في الجاهلية بنت وأمرت امرأتي ان تزينها وأخرجتها فلما انتهيت إلى واد بجد القعر ألقيتها، فقالت: يا ابت قتلتني ! فكلما ذكرت قولها لم ينفعني شيء. فقال الرسول: ما في الجاهلية فقد هدمه الإسلام، وما في الإسلام يهدمه الأستغفار. وكان بعضهم يغرقها وبعضهم يذبحها.

(1/2596)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذكر العلماء في تفسيرهم: " وقالوا: ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا. وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء، سيجزيهم وصفهم، إنه حكيم عليم. قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم، وحرموا ما رزقهم الله إفتراء على الله. قد ضلوا وماكانوا مهتدين". أن الله " أخبر بخسرانهم لوأدهم البنات وتحريمهم البحيرة وغيرها بعقولهم، فقتلوا أولادهم سفها خوف الإملاق، وحجروا على أنفسهم في أموالهم ولم يخشوا الإملاق، فأبان ذلك عن تناقض رأيهم".

(1/2597)


--------------------------------------------------------------------------------

قال "القرطبي": "إنه كان من العرب من يقتل ولده خشية الإملاق، كما ذكر الله عز وجل في غير هذا الموضع. وكان منهم من يقتله سفها بغيرحجة منهم في قتلهم، وهم ربيعة ومضر، كانوا يقتلون بناتهم لأجل الحمية. ومنهم من يقول: الملائكة بنات الله، فألحقوا البنات بالبنات. وروي أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لا يزال مغتما بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: مالك تكون محزونا ? فقال: يا رسول الله، إني أذنبت ذنبا في الجاهلية فأخاف ألا يغفره الله لي وإن أسلمت. فقال له: أخبرني عن ذنبك: فقال: يا رسول الله، إني كنت من الذين يقتلون بناتهم، فولدت لي بنت فتشفعت إلي امرأتي ان اتركها فتركتها حتى كبرت وادركت، وصارت من اجمل النساء فخطبوها، فدخلتني الحمية ولم يحتمل قلبي ان ازوجها أو اتركها في الييت بغير زواج.، فقلت للمرأة: إني اريد ان اذهب إلى قبيلة كذا وكذا في زيارة اقربائي فابعثيها معي، فسرت بذلك وزينتها بالثياب والحلي، واخذت علي المواثيق بألا اخونها، فذهبت إلى رأس بئر فنظرت في البئر ففطنت الجارية إني اريد ان ألقيها في البئر فالتزمتني، وجعلت تبكي، وتقول: يا ابت ايش تريد ان تفعل بي ? فرحمتها، ثم نظرت في البئر فدخلت علي الحمية، ثم التزمتني وجعلت تقول: يا ابت لا تضيع امانة أمي ! فجعلت مرة انظر في البئر ومرة انظر اليها فأرحمها حتى غلبنى الشيطان فأخذتها وألقيتها في البئر منكوسة، وهي تنادي في البئر: يا ابت، قتلتني. فمكثت هناك حتى انقطع صوتها فرجعت. فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم واصحابه، وقال: لو امرت ان اعاقب احدا بما فعل في الجاهلية لعاقبتك ".

(1/2598)

admin
12-31-2010, 08:09 PM
فالفاقة والحمية واعتقاد بعض منهم ان الملائكة بنات ال له، فيجب إلحاق البنات بالبنات، هي عوامل دفعت بالعرب إلى الوأد. فهي بين عامل اقتصادي نص عليه في القران الكريم، وعامل اجتماعي، هو الحمية، وخشية لحوق العار بالانسان من السبي والغارات وعامل ديني، يرجع إلى رأي في دين. لقد تعرض "قتادة" إلى قوله تعالى: "قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم" فقال: "هذا صنيع أهل الجاهلية كان أحدهم يقتل ابنته مخافة السباء. والفاقة ويغذو كلبه. وقوله: وحرموا ما رزقهم الله... الآية وهم أهل الجاهلية جعلوا بحيرة وسائبة ووصيلة وحاميا تحكما من الشياطين في أموالهم". ولكن أغلب الوأد هو عن العامل الأول، وهو الخشية من العيلة والفقر والإملاق. وهو ما نص عليه في الآيات المتعلقة بالوأد وبقتل الأولاد. وورد أن الجاهلية كانوا يدفنون البنات وهن أحياء. خصوصا كندة، خوف العار، أو خوف الفقر والإملاق.
ومن النساء من تكون خصبة في ولادة البنات، فيجلب لها هذا الخصب هجر زوجها لها وفراره منها ومن رؤية بناته. يحدثنا الأصمعي أن امرأة ولدت لرجل بنتا سمتها الذلفاء، فكانت هذه البنت سببا في هرب الرجل من البيت، فقالت: ما لأبي الذلفاء لا يأتينا يظل في البيت الذي يلينا?
يحرد أن لانلد البنينا وإنما نأخذ ما يعطينا
ومثل تلك المرأة المسكينة كثير من النساء هجرهن أزواجهن لكثرة ماكن يلدن لهم من البنات، ولسان حالهن يكرر كلمات أم الذلفاء.
وبمكة جبل يقال له " أبو دلامة " كانت قريش تئد فيه البنات. وذكرأن هذا الجبل يطل على "الحجون". وقيل كان الحجون هو الذي يقال له: أبو دلامة.

(1/2599)


--------------------------------------------------------------------------------

وورد في القرآن الكريم ما يشير إلى قتل بعض الجاهليين أولادهم خشية الإملاق وخوف الفقر. وهم الفقراء من بعض قبائل العرب وفيهم نزلت الآيات: "ولا تقتلوا اولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم، إن قتلهم كان خطئا كبيرا". و "كذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم. ولو شاء الله، ما فعلوه، فذرهم وما يفترون". و "قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم، وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله، قد ضلوا، وما كانوا مهتدين". و " قل: تعالوا اتل ما حرم ربكم عليكم، ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا، ولا تقتلوا اولادكم من إملاق، نحن نرزقكم وإياهم". وظاهر لفظ الآيات النهي عن جميع أنواع قتل الأولاد ذكورا كانوا أو اناثا مخافة الفقر والفاقة.
وذكر ان المراد من كلمة "اولادكم" البنات، وان المقصود بذلك الوأد.
أي وأد البنات، لا قتل الأبناء. وذهب بعض العلماء إلى ان المراد بها الأولاد ذكورا كانوا أو اناثا. "فقد كان الرجل في الجاهلية يحلف بالله لئن ولد له كذا وكذا غلاما لينحرن احدهم، كما فعله عبد المطلب حين نذر ذبح ولده عبدالله". فنحن أمام هذه الآيات تجاه موضوعين: وأد البنات وقتل الأولاد الذكور عند الجاهليين. وأد البنات للاسباب المذكورة الواردة في كتب التفسير والحديث، وقتل الأولاد للاسباب المذكورة في تلك الكتب أيضا، وفي كلتا الحالتين نتيجة واحدة، هي القضاء على حياة انسان.
وقتل الأولاد الذكور عند الجاهليين هو أقل استعمالا من وأد البنات بكثير. ويظهر انه كان عن عامل ديني في الأغلب، كما يتبين ذلك من قصة إقدام عبد المطلب على قتل ابنه عبدالله بسبب النذر الذي أخذه على نفسه على ما جاء في روايات اهل الأخبار.

(1/2600)


--------------------------------------------------------------------------------

وهذا العامل هو الذي يفسر ما جاء في التوراة عن اقدام ابراهيم على ذبح ابنه، ويشير الى وجود هذه العادة عند الإسرائيليين. وسبب قلة قتل الأولاد بالقياس إلى وأد البنات أن الولد عنصر مهم في الحياة الاقتصادية وفي الحياة الاجتماعية حيث يكون عدة لوالده ولأهله وعشيرته في الحروب، ثم أن أسره في الحروب لا يعد شائنا مثل أسر البنات. والمرأة بالأسر تكون فريسة للآسرين. والمرأة ليست قادرة كالرجل على اعاشة نفسها وغيرها ولا على الغزو، ولذلك صارت البنت هدفأ للوأد أكثر من الذكر.
وقد تأثر بعض ذوي القلوب الرقيقة من عادة "وأد البنات"، وسعوا لإبطالها. وكان بعض الموسرين منهم يفتدي البنات من القتل بدفع تعويض إلى أهلهن، وأخذهن لتربيتهن. فكان "صعصعة بن ناجية" جد الفرزدق الشاعر المعروف، ومن أشراف تميم، يشتري البنات ويفديهن من القتل كل بنت بناقتين عشراوين وجمل. فجاء الإسلام وعنده ثلاثون موؤودة. وذكر أنه فدى اربعمائة جارية، وقيل ثلاثمائة جارية من الجاهلية حتى مجيء الإسلام. وذكر على لسان الفرزدق أنه قال: "أحيا جدي اثنتين وتسعين موؤودة". وأنه منع الوئيد في الجاهلية فلم يدع تميما تئد وهو يقدر على ذلك. وذكر أنه قال للرسول إنه اشترى "280" موؤودة، دفع عن كل واحدة منهن ناقتين عشراوين وجملا. وأنه كان لا يسمع بموؤودة يراد وأدها، وهو يتمكن من احيائها، الا جاء والدها ففداها، وأنه سأل قومه في ترك الواد، فخفف بذلك منه. وعد ذلك مكرمة ما سبقه اليها أحد من العرب.
والى "صعصعة بن ناجية"، أشار الشاعر "الفرزدق"، مفتخرا به في شعره، إذ قال: وجدي الذي منع الوائدات وأحيا الوئيد فلم يوأد
وله أشعار اخرى في هذا المعنى.
وكان "عمرو بن نفيل" يحيي الموؤودة لأجل الإملاق. يقول للرجل إذا أراد ان يفعل ذلك: لا تفعل ! أنا أكفيك مؤونتها، فيأخذها، فإذا ترعرعت قال لأبيها: إن شئت دفعتها اليك، وإن شئت كفيتك مؤونتها.

(1/2601)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر "القرطبي" في تفسير الاية: "ويجعلون لله البنات، سبحانه ولهم ما يشتهون. وإذا بشر احدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم" انها "نزلت في خزاعة وكنانة، فإنهم زعموا أن الملائكة بنات الله، فكانوا يقولون ألحقوا البنات بالبنات". فنسب فعلهم الوأد الى هذه العقيدة.
ولست استبعد ما ذكره اهل الأخبار من وجود دافع ديني حمل الجاهيين على قتل الأولاد وعلى الوأد، بأن يكون ذلك من بقايا الشعائر الدينية التي كانت في القديم، وتقديم الضحايا البشرية إلى الآلهة لخير المجتمع وسلامته، وإرضاء الآلهة هي شعيرة من الشعائر الدينية المعروفة. فليس بمستبعد ان الوأد والقتل من بقايا تلك الشعائر، والغريب في الوأد انه يكون بالدفن، بينما العادة في الضحايا التي تقدم إلى الآلهة ان تكون بالذبح أو بالطعن وبأمثال ذلك، كي يسيل الدم من الضحية، والدم هو الغاية من كل ضحية،لأنه الجزء المهم من الضحايا المخصص بالآلهة. وعلى الجملة إن الوأد هو نوع ايضا من القتل، وذبح الأولاد وتقديمهم قرابين إلى الآلهة Infantcide، عبادة معروفة عند امم اخرى كانت تمارسها لترضي بذلك الآلهة وتجيب مطالبها.
وعد من ا الوأد "العز ل"، وهو ان يعتزل الرجل امرأته لئلا تنجب له أولادا. وقد عرف في الإسلام ب "الوأد الخفي" وب "الوأد الأصغر ".

(1/2602)


--------------------------------------------------------------------------------

سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل فقال: ذلك "الوأد الخفي"، وفي حديث آخر "تلك الموؤودة الصغرى". وقد بحث عنه في كتب الفقه والتفسير. وروي ان رسول الله قال في ناس: " لقد هممت ان أنهى عن الغيلة، فنظرت في الروم وفارس فإذا هم في يغيلون اولادهم، ولا يضر اولادهم ذلك في شيئا، ثم سألوه عن العزل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك إلوأد الخفي وهو الموؤودة سئلت. والغيلة إذا اتيت إمرأة وهي ترضع ولدها، وكذلك إذا حملت امه وهي ترضعه. وقد جعل الحديث "العزل" عن المرأة بمنزلة الوأد إلا انه خفي، لأن من يعزل عن امرأته انما يعزل هربا من الولد. ولذلك سماها الموؤودة الصغرى، لأن وأد البنات الأحياء الموؤودة الكبرى.
ولم ينفرد العرب بقتل الأولاد وبوأد البنات، بل تجد ذلك عند غيرهم من الشعوب كذلك، مثل المصريين واليونان والرومان وشعوب استرالية، أما العوامل التي حملت اؤلمك الشعوب عليها فهي عديدة،.منها عوامل دينية مثل الإعتقاد بحلول الأرواح، ومنها اقتصادية كالخشية من الفقر، ومنها ما يتعلق بالصحة كأن يكون المولود ضعيفا فيقضي عليه الوالدان.
ومن ذيول الفقر وسوء الأوضاع الاقتصادية، انتشار اللصويية والاعتداء على أموال الناس، وابتزازها وقطع الطرق وسلب الناس. وما الذي يفعله الفقير والمحتاج ومن له منعة في الجسم وضعف فى شديد في الجيب لاعاشة نفسه وأهله غير اللجوء الى هذه الطرق في الحصول على لقمة العيش، إن لم يجد له وسيلة كسب أخرى ? واللص، هو السارق. وذكر إن اللفظة من لغة طيء وبعض الأنصار. وتقابل Listis في اليونانية، بمعنى السارق. لذالك ذهب البعض الى أنها من هذا الأصل.
ونظرا لتستر اللص في حرفته، وممارسته لها بتكتم وحذر خوفا من الفضيحة والقبض عليه مارس عمله بالليل في الغالب، حيث يرقد الناس. مارسه بخفة ومهارة، فكنى عنه بكنى منها: "ابن الليل"، و "ابن إلطريق"، لأنه يمارس اللصوصية بالليل وعلى الطرق.

(1/2603)


--------------------------------------------------------------------------------

ويقال لمن يسرق الدراهم بين أصابعه "القفاف". يقال: "قف الصيرفي قفوفا"، بمعنى سرق الدراهم بين أصابعه. وأظن أن هذا الاستعمال استعمال مولد، ولد في الإسلام.
ويعبر عن السطو والاستيلاء عنوة وعن سرقة أموال الناس، بتعابير أخرى في اللغات العربيه الجنوبية، منها "خرط"، بمعنى سرق، و "حلص"، بمعنى سرق ونهب وسلب، وكل ما يؤخذ حيلة وسرقة.
وتعد السرقة عيبا عند العرب،لأنها تكون دون علم صاحب المسروق وبمغافلته. والمغافلة والاستيلاء على شيء من دون علم صاحبه عيب عندهم، وفيه جبن ونذالة. أما الاستيلاء على شيء عنوة وباستخدام القوة، فلا يعد نقصا عندهم ولا شينا ولا يعد سرقة، لأن السالب قد استعمل حق القوة، فأخذه بيده من صاحب المال المسلوب. فليس في عمله جبن ولا غدر ولا خيانة.لذلك فرقوا بين لفظة "سرق" وبين الألفاط الأخرى التي تعني أخذ مال الغير، ولكن من غير تستر ولا تحايل. فقالوا: " السارق عند العرب من جاء مستترا إلى حرز، فأخذ مالا لغيره. فإن أخذه من ظاهر، فهو مختلس ومستلب ومنتهب ومحترس فإن منع ما في يده، فهو غاصب.
ولم تعد "الغارة" سرقة ولا عملا مشينا يلحق الشين والسبة بمن يقوم به. بل افتخر بالغارات وعد المكثر منها "مغوارا". لما فيها من جرأة وشجاعة وإقدام وتكون الغارة بالخيل في الغالب، ولذلك قال علم اللغة: " أغار على القوم غارة وإغارة دفع عليهم الخيل " . وقد عاش قوم على الغارات، كانوا يغيرون على أحياء العرب، ويأخذون ما تقع أيديهم عليه، ومن هؤلاء "عروة بن الورد "، إذ كان يغير بمن معه على أحياء العرب، فيأخذ ما يجده أمامه، ليرزق به نفسه وأصحابه. بعد أن انقطعت بهم سبل المعيشة، وضاقت بهم الدنيا. فاختاروا الغارات والتعرض للقوافل سببا من أسباب المعيشة والرزق. وذكر أهل الأخبار أسماء رجال عاشوا على الغارات وعلى التربص للمسافرين لسلب ما يحملونه معهم من مال ومتاع.
الأفراح

(1/2604)


--------------------------------------------------------------------------------

الأفراح، عامة أو خاصة. فمن الأفراح العامة، الأعياد والمناسبات المماثلة، مثل انتصار في حرب وغزو أو تولي ملك عرشا أو سيد رئاسة قبيلة. ومن الخاصة، الزواج والبرء من مرض، والعود من سفر، وأمثال ذلك.
ولما كان العرب في جاهليتهم قبائل وشيعا وكان الاتصال بينهم صعبا، صارت أعيادهم كثيرة غير متفقة في زمان أو مكان، ذات صفة محلية، لا يشترك فيها كل عرب جزيرة العرب. وهي مرتبطة بالأصنام في الغالب وبالمواسم التجارية التي تتجلى في انعقاد الأسواق.
ولذلك، فأنا حين أتحدث عن اعياد اهل الجاهلية فلن أستطيع أن آتي باسم عيد واحد، أقول إن جميع العرب كانوا يعيدون ويفرحون جميعهم به، لما ذكرته من انقسام الجاهليين الى قبائل وشيع وعدم وجود دين واحد لهم، يجمع شملهم. والدين من اهم العوامل المساعدة لظهور الأعياد وجكمع شمل المؤمنين به للاحتفال بها. ولذلك فأعياد الجاهليين هي اعياد موضعية تعيد قبيلة أو مدينة أو مملكة بعيد، ولا يعرف عنه بقية العرب اي شيء. أما اعياد اليهود والنصارى والعرب فأمرها أمر آخر، لأن اليهودية والنصرانية قد حددتا تأريخا ثابتا للاعياد فيها، فصارت معروفة عند أتباع الديانتين يحتفلون بها في الأجل الموقوت.
وكان الحج إلى مكة من أهم مواسم العرب في الحجاز، وهو عيد، يجتمع فيه الناس من مختلف القبائل ومختلف الأماكن للتقرب إلى الأصنام وللتلاقي في ظروف أمن وسلام لا يحل فيها قتال ولا اعتداء ولا لغو ولا فحش. ويقوم اهل مكة بخدمة الوافدين الضيوف، ضيوف "البيت"، وتمر ايام خالية من غدر واعتدأء وقتل وأخذ بثأر يلبس فيها الناس خير ما عندهم من لباس ويتجلون بأحسن صورة. فإذا انتهت إلأيام عادوا إلى ديارهم.

(1/2605)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر انه كان لأهل "يثرب" يومان يعيدون فيهما، يلعبون فيهما ويستأنسون، هما: النيروز، والمهرجان. فلما قدم الرسول المدينة أبدلهما بيوم الفطر والأضحى. والظاهر ان اليثربيين أخذوا عيديهما المذكورين من الفرس، "النيروز" عيد شهير من اعياد الفرس من اصل "نو" بعنى جديد و "روز" بمعنى يوم، أي أول يوم من السنة الإيرانية الشمسية. وأما "المهرجان"، فإنه عيد من أعياد الفرس كذلك، يعيد به في الشهر السابع من شهورهم الشمسية. وهو شهر "مهر" "مهرمأه"، ويدعى العيد "مهركان". وقد بقي الفرس يحتفلون به في الإسلام، حتى زماننا هذا، وورد ذكره في الأشعأر.
ولم يذكر أهل الأخبار كيف عيد أهل "يثرب" بهذين العيدين اللذين هما من أعياد الفرس. ولا ما هي صلتهم بهما.
وذكر أهل الأخبار عيدا سموه "يوم السبع"، قالوا إنه عيد كان لهم في الجاهلية، يشتغلون فيه بلهوهم وعيدهم من حكل شيء ولم يتحدثوا بشيء مفصل عنه، ولم يذكروا أنه عيد من.
وورد في بيت شعر للنابغة اسم عيد دعاه "السباسب"، وقد ذكر أهل الأخبار أنه كان عيدا لقوم من العرب في الجاهلية وكانوا يحيون فيه بالريحان.
رقاق النعال، طيب حجزاتهم يحيون بالريحان يوم السباسب
وهو في الواقع عيد من أعياد النصارى، كما أشار إلى ذلك أهل، الأخبار. إذ ذكروا أنه "عيد للنصارى ويسمونه يوم " الشعانين" وقد كان هذا ألعيد معروفا في الحجار أيضا، ورد في الحديث " إن الله تعالى أبدلكم بيوم السباسب يوم العيد ". وإذا صح ورود هذا الحديث عن الرسول، كان ذاك دليلا على أن أهل مكة كانوا قد عرفوا هذا العيد وعيدوه وربما كانوا أخذوه عن النصرانية.

(1/2606)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم ترد في نصوص المسند إشارات الى أعياد العرب الجنوبيين ولم ترد اشارات إلى الأعياد في النصوص الثمودية أو اللحيانية أو الصفوية. لذلك لا أستطيع أن أتحدث عن العيد عند العرب الجنوبيين أو اللحيانيين أو الصفويين أو قوم ثمود. وقد اشار بعض الكتبة "الكلاسيكيين" إلى تعييد النبط وعرب اعالي الحجاز واحتفائهم فيها بأصنامهم وحجهم إلى معابدهم، إلا انهم لم يسموا تلك الأعياد بأسمائها.
وقد عيد يهود جزيرة العرب بأعيادهم ايضا. وكانوا يحافظون عليها، لأنها في عقيدتهم عمل من الأعمال الدينية. ولم يكونوا يشتغلون فيها، إذ يرون في الخروج عليها خروجا على الدين الذي منعهم من الاشتغال في ايام السبت والأعياد وحتم عليهم وجوب مراعاة حرمة تلك الأيام مراعاة تامة.
ومن اعياد اليهود الني عرفها الجاهليون عيد رأس السنة، وعيد الصوم الكبير"الكبور"، و "عيد المظال" واعياد اخرى.
أما العرب النصارى، فقد عيدوا بأعيادهم الدينية، واحتفلوا بها، وفي المواضع التي كانت فيها جماعة كبيرة منهم كانت احتفالاتهم بها اوضح وأفرح. وفي الحيرة، جيث تفشت النصرانية وانتشرت، كان الناس يتزينون ويتجملون ويلبسون أحسن ما عندهم من حلل في ايام أعيادهم، مثل "عيد السعانين" "عيد الشعانين"، ويحتفلون في البيع والكنائس، والأديرة فرحأ بذكرى العيد، ويخرجون بصلبانهم.
وذكر ان "يوم السعانين" "يوم الشعانين"، هو "يوم السباسب"، العيد الذي مر ذكره، وقد كان من أعياد النصارى. وقد اشتقت كلمة "السعانن" "الشعانين" من العبرانية، أخذت من لفظة "هوشعنا"، التي كان يتهلل بها اليهود أمام المسيح. و "السباسب": الأغصان، يريدون منها سعف النخيل الذي قطعه اليهود يوم استقبلوا المسيح في دخوله أورشليم.
وذكر أن "الهنزمر"، و "الهنزمن" " و "الهيزمن"، -كلها: عيد من أعياد النصارى أو سائر العجم، وهي أعجمية. قال الأعشى: إذا كان هنزمن وروحت مخشما

(1/2607)


--------------------------------------------------------------------------------

واشتهر "عيد الفصح"، وهو عيد فطر النصارى، إذا أفطروا وأكلوا اللحم. وقد أشار اليه الأعشى بقوله: بهم تقرب يوم الفصح ضاحية يرجو الإله بما سدى وما صنعا
وذكر العلماء اسم عيد آخر من أعياد النصارى دعوه "السلاق"، ذكروا أنه مشتق من تسلق المسيح الى السماء. والكلمة من أصل إرمي، هو Souloqoبمعنى صعود. وقصد به عيد صعود المسيح اك ألى السماء.
وللنصارى عيد آخر اسمه "خميس الفصح"، وعرف أيضا ب "خميس العهد".
وقد احتفل به نصارى الحيرة. وذكر علماء اللغة أن للنصارى عيدا من أعيادهم اسمه "دنح"، وتكلمت به العرب. وهو من أصل إرمي هو "دنحو"، بمعنى اشراق وظهور. ويراد به "عيد الغطاس".
وتضاف اليها الأعياد المحلية، التي كان يحتفل فيها بأيام القديسن. فقد كان الغساسنة يحتفلون مثلا في الرصافة بعيد "القديس سرجيوس". وكان لنصارى العراق أعيادهم الخاصة بهم جسب مذاهبهم. يكرسونها تخليدا لذكرى قديسيهم.
وقد اشتهر النصارى بين الجإهليين وفي الإسلام بمحافظتهم على أعيادهم حتى ضربوا المثل بأعياد النصارى. فقال العجاج: واعتاد أرباضا لها آري كما يعود العيد نصراني
والعادة - كما هو شأن كل الأمم - أن يتزين في أيام الأعياد بأحسن اثياب والملابس المفتخرة والحلل المثمنة والبرود المعجبة، وأن يظهر الشبان مقدراتهم وبراعتهم في التسابق على الخيل وفي الألعاب وفي الظهور أمام النساء، ويلعب الصبيان أنواعا من الملاعب، وان يتغنى ويزمر بالدفوف والمزاهر وأمثال ذلك، لتكسب الأيام بهجتها وروعتها. وكان من عادة أشراف الحيرة اللعب على الخيل بالصوالجة، وذللك على طريقة العجم.
وقد يخضب الرجال والنساء أيديههم بالخضاب، ولا سيما "الحناء". ولكن هذا النوع من إظهار القرح والسرور، غالب في الأعراس وفي الختان، حيث تولم الولائم وتقام الأفراح، ويخضب بالحناء.
اللعب في العيد

(1/2608)


--------------------------------------------------------------------------------

ومما كان يتلهى به المعيدون ويتسلون به، الغناء، واللعب بمختلف أنواعه. وفي جملته استخدام السودان للعب بلعبتهم الشهيرة لعبة الدرق والحراب. وقد برع في الغناء نساء ورجال. وذكر ان أهل "يثرب" كانوا اهل طرب وكانوا يحبون الغناء، وانهم استخدموا "الحبش" للضرب على الدف والغناء في ايام آلأعياد. وقد كانوا يلعبون في المسجد بالدرق والحراب ولم بنههم الرسول عن ذلك، لأن اللعب كان في ايام العيد. وقد غنت جاريتان ل "عائشة" بإنشاد العرب بغناء بعاث،كما أذن الرسول للسودان باللعب في مسجده في الحراب والدرق، ونشطهم بقوله: "يا بني أرفدة".
الغناء
وطرب الأعراب، طرب ساذج يتناسب مع طبيعة بيئانهم، وكذلك كان غناؤهم غير معقد ولا متنوع. أما طرب أهل الحضر، فكان أكثر تعقيداوتفننا ولا سيما طرب أهل، الحضر الساكنين في ريف العراق وفي بلاد الشام، وعند أهل اليمن، فاستعملوا آلات طرب متعددة، أخذوا بعضها من ألاعاجم الذين اتصلوا بهم، كما أخذوا من أولئك الأقوام ألوانا من ألوان الغناء وفنونه. هذا الاختلاف لا بد أن يقع،لاختلاف أهل الوبر وأهل المدر في البيئات، وفي الطباع والعادات.
- وللشعر علاقة كبيرة بالغناء. فالغناء هو التغني بالشعر. ولذلك قالوا: تغنى بالشعر، وفلان يتغنى بفلانة إذا صنع فيها شعرا، وله علاقة بالحداء أيضا. قالوا: حدا به، إذا عمل فيه شعرا. فالغناء نغم ووزن ويكون لذلك بكلام موزون. وهو الشعر الذي يناسب نغم الغناء. أما النثر، فلا يناسب طبعه طبع الغناء. ويكون بينهما جفاء. إذ لا يستقيم النثر العربي مع الوزن دائما. لذلك فلا يمكن للمغني أن يغني به. قال "الجاحظ": العرب تقطع الألحان الموزونة وألعجم تمطط الألفاظ فتقبض وتبسط حتى تدخل في الوزن اللحن، نتضع موزونا على غير موزون. وذكر أن الغناء من الصوت ما طرب به.

(1/2609)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر أهل الأخبار أن الجاهليين كانوا يستمعون إلى القيان. وأن فارس كانت تعد الغناء أدبا والروم فلسفة. وأن الملوك العرب كانوا يملكون القيان أيضا. ومنهم أشراف مكة وعلى رأسهم "عبدالله بن جدعان".
وقد عرف غناء أهل البادية ب "غناء الأعراب"، وذلك لاختلافه عن غناء الحضر.
فكان لأهل الحيرة مزاج في الغناء نختلف عن مزاج أهل البادية، بل حتى عن مزاج غيرهم من الحضر، وذلك للظروف الخاصة الني تحيط بهم، مثل اختلاطهم يالفرس، ووجود النصرانية والمؤئرات اليونانية فيما بينهم. وقد كان في كنائس العباديين نصارى الحيرة، تراتيل وترانيم، وهي بالطبع نوع من الغذاء الروحي وقد كان عندهم خمرتبعث على الانشراح واللأنبساط، وأديرة مزدانة بالخضرة والرياحين والأزهار، وفيها ماء طيب وغناء ران وراهبات، فلا عجب إن طرب سكافها وتفننوا في غنائهم وتميزوا به عن بقية الغناء ائعربي، حتى قيل له: غناء أهل الحيرة، وقد ذكر: انه بين الهزج والنصب، وهو إلى النصب أقرب، كما كانت لهم لغة امتازت عن لغات العرب الاخرين غنوا بها، فأكتسب غناؤهم طابعا حيريا خاصا.
ومن مرادفات الغناء "السمود " بلغة حمير. وقيل السمود اللهو وبصورة خاصة الغناء.

وللفقهاء في الإسلام آراء في قراءة القرآن. منهم من جو ز قراءته بالألحان ومنهم من جوز قراءته بالرجيع، وغير ذلك. والترجيع ترديد الصوت في الحلق في قراءة أو غناء أو زمر أو غير ذلك مما يترنم به. وقيل الترجيم هو تقارب ضروب الحركات في الصوت.
وأما "العزف" فالملاهي، واللعب بالمعازف، وهي الدفوف وغيرها مما يضرب. والعازف اللاعب بها والمغني، وعزف الدف صوته. والمعزف، ضرب من الطنابير يتخذه أهل اليمن وغيرهم، ويجعل العود معزوفا.

(1/2610)


--------------------------------------------------------------------------------

ويعبر عن الاستماع إلى الغناء والإنصات لصوت المغني ب "السماع". ويحدث السماع طربا في النفس. وقد صار للكلمة معنى خاص في الإسلام، إذ حولت الى سماع الترانيم الدينية في الغالب، لذللك لم ينظر اليه نظرة الناس إلى الغناء.
وتغنى أهل الجاهلية في كل المناسبات المبهجة، وضربوا على آلات الطرب.ومن هذه المناسبات الزواج والعودة من الأسفار، كما كانوا ينذرون أنه إن تحقق مطلب لهم فإفهم يقيمون مجلس طرب يتغنى فيه: كمناسبة شفاء من مرض أوعودة من حرب.وكان شبان مكة يذهبون الى السمر ويلهون بسماع الغناء وبالضرب على الدفوف والاستماع إلى تزمير المزمار. كما اسعمل الغناء في الغزو، وذلك لتنشيط الغازين وتحريضهم على القتال. ومن هذا القبيل ما يرتجز به الشجعان عند اللقاء في الحرب. واستعمل في الختان وفي العقيقة والولائم.
آلات الطرب
والات الطرب عند العرب ثلاثة: الات ذات أوتار كالعود وآلات نفخ، وآلات ضرب كالصنوج والطبل الدف.
والطرب: الفرح والحزن وهو ضد، أو هو خفة تلحقك سواء تسرك أو تحزنك. فهي تعتري عند شدة الفرح أو الحزن أو الغم. والتطريب التغني. ويقال طرب فلان في غنائه تطريبا إذا رجع صوته وزينه.
والدف من آلات الطرب القديمة المشهورة ويستعمل. للتعبر عن العواطف في الفرح والسرور. وهو معروف عند الساميين ويسمى "توف" "تف" toph عند العبرانيين. وقد ورد ذكره في التوراة. وتنقر به النساء أيضا. وقد كان شائعا عند العرب، ينقرون به في أفراحهم. ولما وصل الرسول إلى يثرب، استقبل بفرح عظيم وبالغناء وبنقر الدفوف. وأكثر ما استعمله العرب في المناسبات المفرحة، كالنكاح. ورافقوا الضرب به أصوات الغناء.

وقدا وردت في الشعر الجاهلي أسماء آلات طرب عرفت في ذلك العهد، فورد في شعر للاعشى: الناي، والبربط، والصنح، وهي آلات عرفت عند الفرس. وقد دعي "الناي" ب "ناي نرم".
والناي نرم وبربط ذي بحة والصنج يبكي شجوه أن يوضعا

(1/2611)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذكر الجواليقي ان الربط معرب، وهو من ملاهي العجم، شبه بصدر البط. والصدر بالفارسية "بر"، فقيل بربط. وقد ورد في العقد الفريد: "العود الكران. والمز هر أيضا هو العود، وهو البربط". والبربط من آلات الملاهي المشهورة عند الروم.
وعرف الجواليقي "الصنج" فقال: "والصنج الذي تعرفه العرب هو الذي يتخذ من صفر، يضرب أحدهما بالاخر... فأما الصنج ذو الأوتار، فتختص به العجم، وهما معربان. وسموا الأعشى "صناجة العرب" لجودة شعره. وذكر أن اللاعب بالصنج هو "الصناج أ و "الصناجة".
وجاء الأعشى باسم ألة طرب أخرى من ألات الملاهي عند العجم، دعاها "الون": بالجلسان وطيب أردانه بالون يضرب لي يكرالإصبعا
ويظهر من هذا البيت أن الون آلة طرب ذات أوتار،يضرب عليها بالأصابع. وقد ذكر بعض العلماء أن الون: "الصنج الذي يضرب بالأصابع وهو الونج، كلاهما دخيل مشتق من كلام العجم". وعرف بعضهم "الونج" بأنه "المعزف أو العود، فارسي معرب. وأصله بالفارسية و نه. وقد تكلمت به العرب. ومنهم من جعل "الون "" و "الونج" شيئا واحدا.
ويذكر علماء اللغة أن "العرطبة" هي اسم للعود، وقيل: الطبل، وقيل: الطنبور: وقد ورد ذكوها في الحديث مع اسم آلة أخرى من آلات الملاهي، هي "كوبة". ويرى العلماء أن "الكوبة"، الطبل الصغير،وهي "النرد" بلغة اليمن. وذكر أن "المرطبة" طبل الحبشة خاصة.، وان "الكوبة" لبربط وللشطرنج والطبل الصغير.
وذكر أهل الأخبار أن "النضر بن الحارث بن كلدة" كان يغني بالعود. والعود من جملة آلات الطرب القديمة. وهو "عوديت" عند العبرانيين. وقد أشير اليه في جملة آلات الموسيقى المستعملة في أيام داوود، وذلك في المزامير. وذكر أن من أسماء العود "الكران"، وأن "الكرينة" المغنية الضاربة يالعود أو الصنج.
ويعرف الوتر ب "البم"، ويقال هو الوتر الغليظ من أوتار المزهر.

(1/2612)


--------------------------------------------------------------------------------

و "الناي" من ا لات الطرب، ينفخ فيه،يصنع من الخشب ومن القصب. وذكر ان الناي من أسماء "المزمار"، وهو من الات النفخ كذلك. و "القصاب"، وهو الذي ينفخ في القصب الزمار.
وأما "الهيرعة"، فالقصبة، التي يزمر فيها الراعي.
وذكر أن "القنين" طنبور الحبشة. "وفي الحديث: إن الله حرم الخمر والكوبة والقنين". والقنين الضرب بالقنين. وذكر أن الكوبة: الطبل. وأما "الكر"، فهو الطبل، وقيل طبل له وجه واحد. وقيل هو الطبل ذو الرأسين ويقال للطنبور "طبن" كذلك.
المزمار" و "الزمارة": ما يزمر فيه. ويقال للقصبة التي يزمر بها،زمارة.واما "الرباب" فمن الات اللهو كذلك. وقد اشتهر الغناء بالمزمار عند العرب، وأجادوا فيه.
وقد كان الجاهليون مثل غيرهم من الساميين يستخدمون الغناء في عباداتهم، ربما استخدموا معه بعض آلات الطرب. وذلك تعبيرا عن بهجتهم وسرورهم بتعبدهم للالهة وتقربا اليها بهذا الغناء الذي يدخل السرور إلى نفوسها. وقد ذكر المفسرون أن أهل الجاهلية كانوا يطوفون بالبيت يصفرون ويصفقون. وإذا صح قولهم هذا، فإنه يعني استعمال نوع من الطرب في حجهم وطوافهم بالبيت.
وقد تعرض "الجاحظ" لموضوع الغناء العربي وما يختلف به ويمتاز عن غناء الأعاجم، فقال: "العرب تقطع الألحان الموزونة على الأشعار الموزونة، والعجم تمطط الألفاظ قتبضى وتبسط حتى تدخل في وزن اللحن فتضع موزونا على غير موزون ".
واللحن: الغناء. "وفي الحديث: اقرأوا القرآن. بلحون العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل العشق ". ويراد به التطريب وترجيع الصوت وتحسين القراءة والشعر والغناء. وقد كان اليهود والنصارى يقرأون كتبهم نحوا من ذللك.
أصول الغناء الجاهلي

(1/2613)

admin
12-31-2010, 08:11 PM
ويرجع الأخبار غناء الجاهلين إلى ثلاثة أوجه: النصب،والسناد،والهزج. فأما النصب، فغناء الركبان وغناء االفتيان والقينات، ويغني به في المراثي كذلك. وقد دعى اسحاق بن ابراهيم الموصلى، الغناء الجنابي نسبة إلى رجل من كلب يقال له: جناب بن عبد الله بن هبل. وهو الذي يقال له "المراثي"، ومنه كان أصل الحداء، وكله يخرج من الطويل في العروض. وأما السناد، فالثقيل ذو الترجيع الكثير النغمات والنبرات. وأما الهزج، فالخفيف الذي يرقص عليه ويمشي بالدف والمزمار فيطرب ويستخف إلحليم.
ويذكر أهل الأخبار ان الأنواع المذكورة كانت غناء العرب، حتى جاء الإسلام وفتحت العراق، وجلب الغناء والرقيق من فارس والروم، فغنوا الغناء المجزأ المؤلف بالفارسية والرومية، وغنوا جميعا بالعيدان وألطنابر والمعازف والمزامير. وذكر أيضا ان الغناء قديم في الفرس والروم، ولم يكن "للعرب قبل ذللك إلا الحداء والنشيد، وكانوا يسمونه "الركباني" "الركبانية". والنشيد رفع الصوت، ومن المجاز الشعر المتناشد بين القوم ينشده بعضهم بعضا.
وذكر "المسعودي" أن غناء العرب النصب، ثلاثة أنجاس: الركباني، والسناد الثقيل، والهزج الخفيف.

(1/2614)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرى بعض أهل الأخبار أن أصل الغناء ومعدنه إنما كان في أمهات القرى من بلاد العرب، حيث فشا بها، وانتشر. ومن هذه مكة والمدينة والطائف وخير ووادي القرى ودومة الجندل واليمامة، وهذه القرى مجامع أسواق العرب. ورووا أن أول من غنى في العرب قينتان لعاد، يقال لهما الجرادتان. وههما قينتا "معاوية بن بكر الجرهمي" "معاوية بن بكر العملقي" غنتا لوفد "عاد"بمكة، فشغلوا عن الطواف بالبيت وسؤال الله فما قصدوا، فهلكت عاد وهم سامدون. فلما رأى الجرهمي، وهو معاوية بن بكر، أحد العماليق، ذلك قال: هلك أخوالي "عاد"، ولو قلت لضيوفي شيئا، ظنوا بي البخل، فألقى إلى الجرادتين شعرا يذكر بمحنة "عاد"، فانشدتاه الضيوف. وكان الجرهمي سيد مكة حين وفدت عاد تستقي في قحطها. وكان "قيل ابن عتر" أحد الرؤوس الثلاثة لوفد عاد، حين ذهبوا في القحط إلى مكة يستسقون لقومهم.
وورد أيضا أن الجرادتين كانتا مغنيتين للنعمان. كما ورد ذكر الجرادتين وغناءهما لأبي رغال. وورد أنه كان بمكة في الجاهلية قينتان يقال لهما الجرادتان مشهورتان بحسن الصوت. وقبل إن الجرأدتين كانتا أمتين تتغنيان في الجاهلية وكانتا لعبدالله ابن جدعان.
وقد ذكر "أبو العلاء المعري"، أن العرب تسمي كل قينة جرادة، حملا على أن قينة في الدهر إلأول كانت تدعى الجرادة. واستشهد بهذا البيت: تغنينا احبراد ونحن نشرب=نعل الراح خالطها المشور وذكر بعض العلماء أن "جذيمة الخزاعي بن سعد بن عمرو بن ربيعة بن حارثة ابن عمرو بن عامر"، المعروف ب "المصطلق"، كان من أحسن إلناس صوتا، وقد غنى بعد "الجرادتين" " غنى غناء النصب. وذكر انه أول من غنى في خزاعة. ثم غنى بعده "ربيعة"، وهو "ضبيس بن حزام بن حيشة بن سلول ابن كعب بن عمرو بن عامر" الخزاعي، ثم غنى بعده "زمام بن خطام الكلبي"، وقد ذكره ". الصمة القشيري"، بقوله: دعوت زماما للهوى فأجابني وأي فتى للهو بعد زمام

(1/2615)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر "المسعودي"، أن غناء أهل اليمن بالمعازف وإيقاعها جنس واحد، وغناؤهم جنسان: حنفي، وحميري. والحنفي أحسنهما، فهذا هو غناء أهل اليمن. ورجع بعض أهل الأخبار غناء أهل اليمن إلى "علس بن زيد ذي جدن"، زعموا انه أول من تغنى باليمن. وزعموا أنه كان من ملوك اليمن، لقب بذي جدن، لجمال صوته. فالجدن الصوت عند أهل اليمن.
وذكر ان قريشا لم تكن تعرف من الغناء، إلا النصب، حتى قدم "النضر ابن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي"العراق، فتعلم ضرب العود وغناء العباديين، فقدم مكة، فعلم أهلها، فاتخذوا القيان. ويظهر من غربلة ما ورد في الأخبار عن الغناء، أن المراد به، تلحين ما يراد التغني به وتطريبه، حتى يثير الطرب في نفوس السامعين، لا سيما إذا اقترن بآلة من آلات الطرب. ونادرا ما يكون غناء دون "موسيقى". فالموسيقى تصاحب الغناء. والغناء: تلحين ما يراد التغني به بتقطيعه قطعا موزونة تكون نغمة،يوقع على كل صوت منها بإيقاع يناسبه، فيزيده لذة في السماع.
وذهب "المسعودي" إلى أن أول من اتحذ القيان من العرب، أهل يثرب. أخذوا ذلك من بقايا عاد. بينما يذكر الأخباريون، أن أول من غنى من العرب العاربة الجرادتان، وكانتا قينتين على عهد عاد، لمعاوية بن بكر العمليقي. وفي جملة من قال ذلك "ابن خرداذبه"، الذي اعتمد "المسعودي" عليه في موضوع الغناء، ونقل من كتابه "اللهو والملاهي" بالنص.
والقينة عند علماء اللغة: الأمة المغنية، وذكروا أنها كلمة هذلية. وقال بعض آخر: مغنية كانت أو غير مغنية. وإنما قيل للمغنية قينة، إذا كان الغناء صناعة لها، وذلك من عمل الإماء دون الحرائر. والظاهر أنها من الألفاط المعربة، فالغناء في لغة "بني إرم" هو "قنتو" Qintoوالمغنية "قينة" من الغناء "قنتو".
وذكر أن من أسماء "القينة" "الزمارة" و "الزامرة"، وقيل للمغنى "الزمار"، وذلك من التزمير بالمزمار.

(1/2616)


--------------------------------------------------------------------------------

ويقال للمغنية "الكرينة" أيضا. وقد وردت اللفظة في شعر لبيد: بصبوح صافية وجذب كرينة بموتر تأتاله ايهامها
وذكر أن "الكرينة" المغنية الضارية بالعود أو الصنج، والضاربة ب "الكران".
و "الكران" هو العود.
وذهب أهل الأخبار إلى أن الغناء محدث في العرب، أخذ من "الحداء".
وكان الحداء في العرب قبل الغناء. وكان أول السماع والترجيع في العرب، ثم اشتق الغناء من الحداء. اشتقه "حباب بن عبدالله الكلبي"، فغنى النصب.
وقد أشير الى الغناء النصب في كلام ينسب إلى عبدالله بن عمر بن الخطاب، فذكر أنه قال: مر بنا ابن الخطاب، وأنا وعاصم بن عمر نغني غناء النصب، فقال: أعيدا علي. وورد أن أنس بن مالك سمع أخاه البراء بن مالك يغني، فقال: ما هذا قال: أبيات عربية أنصبها نصبا. مما يدل على أن غناء النصب إنما ورد من هذا المعنى.كذلك أشير الى الحداء في خبر ينسب إلى ابن جريج، قال: سألت عطاء عن قراءة القرآن على ألحان إلغناء والحداء. وقد أخرج هذا الخبر الحداء من الغناء.
وعرف بعض العلماء النصب: أنه غناء الركبان. وعرف أنه "العقيرة"، يقال: رفع عقيرته إذا غنى النصب. وعرف أنه ضرب من أغاني آلعرب. "وفي حديث نائل،مولى عثمان: فقلنا لرباح بن المغترف: لو نصبت لنا نصب العرب أي لو تغنيت، وفي الصحاح: لو غنيت لنا غناء العرب. "وكان رباح بن المغترف يحسن غناء النصب، وهو ضرب من أغاني العرب، شبيه الحداء،وقيل: هو الذي أحكم من النشيد، وأقيم لحنه ووزنه". وعرف النصب: انه ضرب من مغاني العرب أرق من الحداء.

(1/2617)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد أشار أهل الأخبار إلى أن العرب كانت "تتغنى بالركياني، إذا ركبت الابل، وإذا جلست في الأفنية وعلى أكثر أحوالها، فلما نزل القرآن أحب النبي، صلى الله عليه وسلم " أن يكون هجيراهم بالقران مكان التغني يالركباني، وأول من فرأ بالألحان **** الله بن أبي بكرة، فورثه عند **** الله بن عمر، ولذلك يقال قرأت العمري، وأخذ ذلك عنه سعيد العلا ف الإباضي". وذكر أن "عمر" سمع "عبد الرحمن بن عوف" وهو يتغنى وينشد بالركبانية، وهو غناء يحدى به الركاب.
والحداء، هو من أقدم أنواع الغناء عند العرب،يغنى به في الأسفار خاصة، ولا زال على مكانته ومقامه في البادية حتى اليوم. ويتغنى به فى المناسيات المحزنة أيضا لملاءمة نغمته مع الحزن. وقد كان للرسول حادي هو " إلبراء بن مالك بن النضر الأنصاري" وكان حداء للرجال. وكان له حداء آخر، يقال له "أنجشة الحادي" وكان جميل الصوت أسود، وكان يحدو للنساء، نساء النبي، وكان غلاما للرسول. وذكر أن النبي "قال لقوم من بني غفار" سع حاديهم بطريق مكة ليلا، فقال لهم: إن أباكم مضر خرج إلى بعض رعاته فوجدها قد تفرقت، فأخذ عصا فضرب بها كف غلامه، فعدا الغلام في الوادي وهو يصيح: وايداه، وايداه، فسمعت الإبل ذلك فعطفت فقال مضر: لو اشتق مثل هذا لانتفعت به الإبل واجتمعت، فاشتق الحداء".
وذكر بعض أهل الأخبار " أن أول من أخذ في ترجيعه الحداء "مضر بن نزار".
فإنه سقط عن جمل فانكسرت يده، فحملوه وهو يقول: وايداه وايداه،و كان أحسن الله جرما وصوتا، فأصغت الإبل اليه وجدت في السر، فجعلت العرب مثالا لقوله هايدا هايدا سون به الإبل ". وللاخبارين كلام آخر من هذا النوع عن الحداء. يتفق كله في أن هذا النوع من الغناء كان من خصائص غناء مضر.

(1/2618)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان "عامر بن سنان الأكوع بن عبد الله بن قشير الأسليمي" المعروف ب "ابن الأكوع، رجلا شاعرا وراجزإ، وكان يحسن الحدإء، فطلب منه أصحاب الرسول أثناء سيرهم الى خيبر أن يحدو بهم. فسمع الرسول حداءه. وهناك أخبار أخرى يفهم منها أن العرب لم تدخل الحداء في الغناء، وإنما ذكرته معه، على أنه باب خاص. والعادة أن يجعل المسافرون معهم حاديا أو جملة حداة يحدون بهم في السفر. وكان أبو هريرة أحد الصحابة المحدثين عن رسول الله، يحدو لركب بسرة بنت غزوان.
والحداء إذن ضرب مخصوص من الغناء، ويكون بالرجز غالبا لأن طبيعة الرجز تلائم هذا النوع من الغناء. ويذكر "المسمعودي" أن الحداء كان في العرب قبل الغناء. وكان أول السماع والترجيع في العرب، ثم اشتق الغناء من الحداء. فالحداء متقدم على الغناء إذن، هو الباب الذي ولج ألعرب منه الى الغناء.
والحداء، هو في الواقع غناء أهل البادية، وفي إرجاع أهل إلأخبار أصله إلى "مضر" أو غيره من الرجال صحة، إذا اضبرنا ان "مضر" أو غيره كناية عن الأعراب. لأن هذا النوع من الغناء مما يتناسب مع لحن البوادي ونغمها الحزينة البسيطة التي تطرب بها طبيعة البداوة نفس الأعراب. ولا زال غناء اهل البادية متأثرا بهذه الضربات من العزف، التي تعزنها البادية للتخفيف عن كآبته.
الطبيعة وللتعبير عن الروح الحزينة التي تحملها هذه الطبيعة من نشوئها ونموها في هذه الفيافي الساحقة الشاسعة التي لا ترى،حدودها العين، والتي ترشق الأوجه برشقات من الرمال، تسد العين، حتى لا تتجاسر فتمد بصرها لتسترق سر هذه المحيطات ذات الأمواج المتفاوتة في الإرتفاع من تموجات الرمال.

(1/2619)

وقد تخصص أناس من رجال ونساء بالغناء، واتخذوه حرفة لهم يتكسبون بها. والمغنون المحترفون هم من سواد الناس، ومن الرقيق. لأن من طبع الشريف والحر الابتعاد عنه. وقد احترف هؤلاء الغناء وتعيشوا عليه. فكانوا يدعون إلى إحياء الحفلات في مقابل أجر يدفع لهم. وقد كان من بينهم من يغني بلغته كالرومية والحبشية، ولهذا فلم يكن من المستبعد سماع غناء أجنبي في موضع مثل مكة أو يثرب لوجود رقيق فيه.
وقد تغنى بشعر بعض الشعراء الجاهليين، ومن هؤلاء شعر الشاعر "مرة ابن الرواغ". ويذكر أهل الأخبار ان "امرىء القيس بن حجر"، كان يأمر قيانه أن يغنين بشعره. وان قيان الملوك كن يغنين به أيضا، وقد كان النخاسون في الجاهلية يعلمون المغنيات الشعر، للتغني به.
وقد كان أغنياء مكة والقرى الأخرى يملكون القيان، ومنهم من كان يملك عددا منهن. مثل "عبدالله بن جصدى ان". وكان "لمقيس بن عبد قيس بن قيس بن عدي"، قينتان تغنيان، وكان بيته مألفا لشباب قريش ينفقون عنده ويشربون ويتهاتكون يبقون على ذلك ليالي وأياما.
ومن القيان: " هريرة" اني شبب بها "الأعشى". وهي أمة سوداء،لحسان ابن عمرو بن مرثد. ولها أخت اسمها "خليدة": كانت قينة كذلك. وقد ورد في رواية أخرى، أنهما كانتا قينتين د "بشر بن عمرو بن مرثد"، وكانتا تغنيانه النصب. وقدم بهما اليمامة، لما هرب من "النعان".
وذكر انه كان ل "عائشة" جاريتان تغنيان بغناء بعاث، أي تنشدان ومن أهل الحداء حاد يقال له "أنجشة" أشرت اليه قبل قليل، وكان حسن الصوت. وهو من الصحابة. "وفي الحديث: أن النبي، صلى الله عليه وسلم قال لأنجشة وهو يحدو بالنساء، رفقا بالقوارير.،، وكان أنجشة يحدو بهن ركابهن ويرتجز بنسيب الشعر والرجز وراءهن". وهو من أصل حبشي،يكنى"أبا مارية". وكان يحدو بالنساء، وكان الر اء بن مالك يحدو يالرجال. وربما كان على النصرانية قبل دخوله في الإسلام.

(1/2620)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان "البراء بن مالك بن النضر الأنصاري"، حسن الصوت كذلك. وكان يرجز لرسول الله في بعض أسفاره، كما أشرت إلى ذلك قبل قليل. وذكر انه كان حادي الرجال. وكان يتغنى بالشعر.قد شهد المشاهد مع رسول الله إلى بدرا، وله يوم اليمامة أخبار. واستشهد في أيام عصر. وكان من الشجعان. ومما يلفت النظر ان الأخباريين حين يتحدثون عن مجلس طرب وشرب وغناء، يذكرون أن صاحب المجلس أمر قينتين له بأن تغنيا له. أولهم، وذلك في الغالب، ولم يذكروا قينة أو أكثر إلا في الأقل، حتى ليشعر القارىء أن العرف في ذلك الوقت أن تكون للسادة وللاشراف قينتين تغنيان تكونان في البيت بصورة دائمة. فلما اغتاط "أبو براء عامر بن مالك بن جعفر" مما قيل عنه، وأراد الترفيه عن نفسه قبل أن يقتل نفسه "دعا قينيتن له فشرب وغنتاه". وكان "عبدالله ابن جد عان" إذا أراد سماع الغناء "أمر قينتين له تسميان "الجرادتين" بالغناء.
ولا يستبعد استخدام الجاهليين آلات الطرب والغناء في معابدهم وفي أعيادهم. فقد كان الساميون كالعبرانيين يستعملون أنواع آلات الموسيقى في معابدهم وفي أعيادهم تقربا إلى آلهتهم. وقد وصلت الينا أسماء بعض آلات الطرب التي استعملها الجاهليون ولكن معارفنا لا تزال مع ذلك قليلة ضعيفة. وستزيد ولاشك. متى قام الآثاريون بالتنقيب تنقيبا علميا عميقا في مواضع الآثار في مختلف الأنحاء.

(1/2621)


--------------------------------------------------------------------------------

أما العرب في العراق وفي بلاد الشام، فقد تأثروا بالغناء الأعجمي، واستعملوا آلات الطرب المعروفة عند الفرس واليونان، وسمعوا الغناء بالفارسية والرومية واستحسنوه، بل استحسنه أناس من عرب الحجاز أيضا. سمع حسان بن ثابت غناء "رائقة". فلما عاد إلى بيته، تذكر ليلة قصاها في الجاهلية مع "جبلة ابن إلأيهم"، لم ينسها قط، قال: "لقد رأيت عشر قيان: خمس روميات يغنين بالرومية بالبرابط، وخمس يغنين غناء أهل الحيرة وأهداهن إليه اياس بن قبيصة. وكان يقد إليه من يغنيه من العرب من مكة وغيرها. وكان إذا جلس للشرب، فرش تحته الآس والياسمين وأصناف الرياحين، وضرب له العنبر والمسلك في صحاف الفضة والذهب، وأتى بالمسك الصحيح في صحاف الفضة، وأوقد له العود المندى إن كان شاتيا، وإن كان صائفا بطن بالثلج، واتى هو وأصحابه بكساء صيفية ينفصل هو وأصحابه بها في الصيف، وفي الشتاء بفراء الفنك وما أشبهه، ولا والله ما جلست معه يوما قط إلا وخلع علي ثيابه التي عليه في ذلك اليوم وعلى غيري من جلسائه، هذا مع حلم عمن جهل، وضحك وبذل من غير مسألة".
وإذا كان الغناء للطرب بوجه عام، فإن هنالك نوعا آخر من الغناء هو "الترنيم"، وهو تطريب الصوت، ويستخدم في الغالب في التلاوة، أي تلاوة الأدعية والتراتيل الدينية. فقد كان الجاهليون يرتلون أغانيهم الدينية أمام أصنامهم، كما فعل ذلك اليهود والنصارى ويترنمون بها. وتصحب هذه الترانيم آلات موسيقية لتعزف الألحان المناسبة الموافقة لها.
وذكر علماء العربية أن "الرنم" المغنيات المجيدات، والرنم الصوت. والرنيم والترنيم ترجيع الصوت وتطريبه. وعرف "الترجيع" ب "ترديد الصوت في الحلق في قراءة أو غناء أو زمر أو غير ذلك ما يترنم به". وقيل: "الترجيع. هو تقارب ضروب الحركات في الصوت". وقد كان الجاهليون يرجعون الشعر، بأن يقرأونه على الألحان والتطريب والإيقاع ليؤثر في السامعين.

(1/2622)


--------------------------------------------------------------------------------

أما المناسبات المخزنة كالموت والكأبة، فقد كانوا يستعملون فيها نغمات حزينة وهادئة للتخفيف من شدة الحزن والكآبة والألم. وقد كانت لهم في ذلك ألحان وأوزان ونغم.
وأما "الهزج"، فالخفيف الذي يرقص عليه، ويمشي بالدف " والمزمار، فيطرب ويستخف الحليم. وذكر أن الهزج من الأغاني ما فيه ترنم وصوت مطرب، وقيل: هو صوت فيه بحح، صوت دقيق مع ارتفاع. وكل كلام متدارك متقارب في خفة هزج. فهو الخفيف المطرب من الغناء.
وكانت المناسبات المفرحة مثل الزواج تقترن بالعزف والغناء. روي أن رسول الله لما كان غلاما يرعى غنما ومعه غلام من قريش يرعى معه كذاك قال له: "لو أنك أبصرت غنمي حتى أدخل مكة: فأسمر بها كما يسمر الشباب، قال: أفعل. فخرجت أريد ذلك حتى جئت أول دار من ديار مكة، سمعت عزفا بالدفوف والمزامير. فقلت ما هذا ? فقالوا: فلان تزوج فلانة بنت فلان. فجلست أنظر اليهم "، وذكر أن من عادة أهل مكة أن يفعلوا ذلك عند الزواج. وفعل أهل يثرب ذلك أيضا فى مثل هذه المناسبات وفي مناسبات الفرح الأخرى.
الر قص
والرقص وجه آخر من وجوه التسلية والتفريج عن النفس. يرقصون في المناسبات، مثل الأعراس والأفراح الأخرى. وهو في الغالب ارتفاع وانخفاض، وقد يكون ذلك هو الذي حمل علماء اللغة على تفسير الرقص أنه ارتفاع وانخفاض. والراقصون هم من الشباب في الغالب، أما الشيوخ، فكانوا لا يرقصون، لعدم ملاءمة الرقص مع جلال السن.

(1/2623)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر علماء اللغة أن من الرقص نوع يقال له "الدرقلة". وذ كر بعض آخر أن "الدرقلة" الرقص. "قال محمد بن إسحاق: قدم فتية من الحبشة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يدرقلون، أي يرقصون". وقيل: الدرقلة: لعبة للعجم معربة. وهي من الحبشة على بعض اراء علماء اللغة. ونطقت ب" الدركلة" كذلك. وذكروا أن الرسول "مر على أصحاب الدركلة فقال: جدوا يا بني أرفدة حتى يعلم اليهود والنصارى أن في ديننا فسحة". قيل إن الدركلة ضرب من الرقص ولعبة للعجم معربة.
وقد عرف الحبش بحبهم للرقص. وكان أهل مكة وغيرهم من أهل الحجاز إذا أرادوا الاحتفال بعرس أو ختان أو أية مناسبة مفرحة أخرى أحضروا الحبش للرقص والغناء على طريقتهم الخاصة. وورد في الحديث أنه قال للحبشة دونكم يا بني أرفدة. وقيل هم جنس من الحبشة يرقصون. وقيل "أرفده" لقب لهم.
هو اسم أبيهم الأقدم يعرفون به.
وقد كان الرقص عند الشعوب السامية نوعا من أنواع التعبير عن الفرح والشكر تجاه آلهتهم. ويدخل في جملة الشعائر الدينية. ولا يستبعد أن يكون الجاهليون مثل غيرهم قد رقصوا لآلهتهم في المناسبات الدينية، تعبيرا عن شكرهم للالهة. ولكن معارفنا عن ذلك قليلة جدا، فلا نجد في الكتابات الجاهلية أية إشارة اليه، أما أخبار أهل الأخبار عن الرقص عند الجاهليين، فهي قليلة. ولا استبعد أن يكون السعي بين الصفا والمروة كان رقصا في الأصل فكان الساعون يرقصون ويغنون أغاني دينية، في تمجيد رب البيت والتقرب اليه. كما كانوا يرقصون في المعابد الأخرى.

(1/2624)


--------------------------------------------------------------------------------

ويعد يوم وصول الملوك والأمراء والسادات إلى مكان ما، يوما مشهودا يجلب الفرح والسرور إلى قلوب الناس، ويعطي ذلك اليوم بهجة وسرورا، وكانوا يستقبلون كبار الوافدين عند قدومهم بأصناف اللهو. ويخرج "المقلسون" بالسيوف والريحان وبالدفوف والغناء. ولذلك قيل "القلس" و "التقليس": الضرب بالدف والغناء. و "المقلس": الذي يلعب بين يدي الأمير. ولما قدم "عمر" الشام لقيه المقلسون بالسيوف والريحان. والقلس: الرقص في غناء، وقيل هو الغناء الجيد.
العاب مسلية
وقطع الجاهليون وفتهم ببعض الألعاب المسلية، مثل "النرد" وقد أشير اليه في الحديث ب "النردشير" وب "النرد". وذكر بعض العلماء أن "النرد" هو "الكوبة"، بلغة أهل اليمن. وأشير اليه في حديث اهل الأخبار عن "امرىء القيس الكندي" وعن الناعي الذي أوصل الخبر اليه، فقالوا: "فوجده مع نديم له يشرب الخمر، ويلاعبه بالنرد، فقال له: قتل حجر، فلم يلتفت إلى قوله، وأمسك نديمه، فقال له امرؤ القيس: اضرب، فضرب،. حتى إذا فرغ، قال: ما كنت لأفسد عليك دستلك " والدست مصطلح فارسي، أي ما كنت لأفسد عليك لعبك.
وكان في الجاهلية إذا خاب قدح أحدهم ولم ينل مرامه قبل تم عليه الدست. وقيل الدست: هو دست القمار، كان في اصطلاح الجاهلية. وفلان حسن الدست: شطرنجي حاذق.
واللعب اللهو والتسلية، وهو أنواع. كما ان لكل عمر نوع من اللعب يليق به. و "التلعابة" و "التلعاب" الكثير اللعب، والكثير المزح والمداعبة. و "الشطرنج" لعبة، والنرد لعبة كذلك، وكل ملعوب به فهو لعبة. و "اللعبة" الأحمق الذي يسخر به ويلعا ويطرد عليه.
ويعبر عن اللهو واللعب بلفظة "الديدن"، و "الددن"، و "الدد"، و "الددا"، و "ديد"، و "ديدان"، و "الديدبون". وفي الحديث: "ما أنا من دد ولا الدد مني". أي ما أنا في شيء من اللهو واللعب.وورد لعدي بن زبد آلعبادي: أيها القلب تعلل بددن إن همي في سماع وأذن

(1/2625)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر أن الدد: هو الضرب بالأصابع في اللعب، وأن الديدبون: اللهو.وللاطفال ألعاب تتناسب مع سنهم، منها: "الجماح"، وهي سهيم يلعب به، يجعلون مكان زجه طينا، و "البقيري"، ولعبة "الغراب"، وقد ذكر أن صبيانا كانوا يلعبونها ليلا. و "الكعاب" و "الفيال".، وهي لعبة كانوا يلعبون بها، يجمعون ترابا ويخبئون فيها خبئا، ويقولون لصاحبه في أي الجانبين هو ?.
ومن ألعاب الصبيان لعبة يقال لها "الدخرجاء" و "الدحيريجاء"، وفيها قال الشاعر: عليك الدحيريجاء فاتبع صحابها سيكفيك زين الحرب أروع ماجد
ومن ألعاب الصبيان، لعبة "عظم وضاح." "عظيم وضاح"، أن يأخذ بالليل عظما أبيض، فيرمونه في ظلمة الليل، تم يتفرقون في طلبه، فمن وجده فله القمر. وذكر أن من وجده يركب الفريق الآخر من الموضع الذي وجدوه فيه إلى الموضع الذي رموا به منه. وورد في الحديث أن النبي لعب وهو صغير بعظم وضاح.
و "البقيري": أن يجمع يديه عامحما التراب في الأرض إلى أسفله، ثم يقول لصاحبه: اشته في نفسك، فيصيب ويخطىء. وذكر أنهم يأتون الى موضع قد خبيء لهم فيه شيء، فيضربون بأيديهم بلا حفر يطلبونه.
والخطرة، أن يعملوا مخرافا، ثم يرمى به واحد منهم من خلفه إلى الفريق الاخر، فإن عجزروا عن أخذه رموا به اليهم، فإن أخذوه ركبوهم. وأما " الدارة"، ويقال لها "الخراج"، أن يمسك أحدهم شيئا بيده ويقول لسائرهم. أخرجوا ما في يدي. و "الشحمة"، أنه يمضى واحد من أحد الفريقين بغلام فيتنحون ناحية ثم يقبلون، ويستقبلهم الآخرون، فإن منعوا الغلام حتى يصيروا إلى الموضع الآخر فقد غلبوهم عليه،ويدفع الغلام اليهم، وإن لم يمنعوه ركبوهم، وهذا كله يكون في ليالي الصيف، عن غب ربيع مخصب.

(1/2626)

admin
12-31-2010, 08:11 PM
وسابق الأطفال والشبان بعضهم بعضا. سابقوا على الخيل وسابقوا على الأقدام فكان السابق يفخر على المسبوقين، وربما خاطروا في السباق، فيأخذ السابق، "الخطر"، وهو ما جعلوه رهنا للسابق. وصارعوا. واعتبروا المصارعة رياضة وفخرا. فالقوي يصرع الضعيف. ولهذا كان المصارع الذي لا يصرع يتباهى ويفخر بنفسه على غيره.وقد سابق رسول الله بنفسه على الأقدام. ويقال للمصارعة "المراوغة"، لما فيها من مراوغة الواحد منهما للآخر، للتغلب عليه. وقد صارع النبي "ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب"، فصرعه مرتين.
"وكان شديدا. يحكى أنه كان يقف على جلد بعير لين جديد حين سلخه. فيجذبه من تحته عشرة فيتمزق الجلد ولا يتزحزح هو عن مكانه".
ومن ألعاب الصبيان "الطبن"، وهو خط مستدير يلعب به الصبيان. و "الشعارير" وهي من لعب الصبيان. واما البنات فالتماثيل الصغار التي يلعب وإلمتقامرين على الجزور: الأيسار. وذكر أن اشتقاق "الميسر" إما من اليسر لأنه أخذ مال الرجل بيسر وسهولة من غير كد ولا تعب، أو من اليسار لأنه سلب يساره.
وقد ألف بعض العلماء كتبا في الميسرة منها كتاب ألفه "ابن قتيبة الدينوري" وكتاب ألفه "الزبيدي" دعاه "نشوة الارتياح في بيان حقيقة الميسر والقداح".
وآراء العلماء متباينة في الميسر وفي المراد منه، وفي طريقته. ويظهر أن قسما ممن كان يلعب الميسر لم يكن يلعبه ابتغاء الكسب، وانما كان يلعبه للتسلية وللترفيه عن الآخرين، وذلك باعطائه ما يكسبه للمحتاجين وللفقراء، ولذلك افتخروا بعملهم هذا وعدوه مفخرة من مفاخر العرب، لأنم كانوا يفعلونه في أيام الشدة وعدم اللبن وايام للشتاء. فيعطون اللحم للمحتاج اليه، إذ عيب من كان يأخذه لنفسه وعد وه عارا، وقد افتخروا به في شعرهم، ومدحوا من يأخذ القداح وعابت من لا ييسر ودعته "البرم"، وذللك لبخله وظنه بماله من أن يذهب إلى غيره، مع أن الناس في حاجة شديدة اليه.

(1/2627)


--------------------------------------------------------------------------------

وإلى لعب الموسرين الأيسار في الشتاء لمساعدة ذوي الحاجة، أشار طرفة في شعره إذ قال: وهم أيسار لقمان إذا أغلت الشتوة أبداء الجزور
وأما القسم الآخر ممن كان ييسر، فكان يبغي الكسب والمال، لذلك كان يقامر بكل ما يملك في سبيل الحصول على المال للمياسرة. روي عن "ابن عباس" أنه "كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله" في سبيل المياسرة. وكان يلجأ إلى الغش والخداع والى السرقة واضاعة العيال، ولأضراره هذه حرمه الإسلام.
وقد ييسرون على الأسرى، فقد وقع "سحيم بن وثيل اليربوعي" في سباء، فضرب عليه بالسهام، فقال في ذلك: أقول لهم بالشعب إذ ييسروني ألم تعلموا أني ابن فارس زهدم
وصفة الميسر: أن القوم كانوا يجتمعون فيشترون الجزور بينهم، فيفصلونها على عشرة أجزاء يؤتى بالحرضة وهو رجل يتأله عندهم لم يأكل لحما" عندهم قط بثمن، ويؤتى بالقداح وهو أحد عشر قدحا، سبعة منها لها حظ إن فازت، وعلى أهلها غرم إن خابت، يقدر ما لها من الحظ إن فازت، وأربعة ينفل بها القداح، لا حظ لها إن فازت ولا غرم عليها ان خابت.
فأما التي لها الحظ: فأولها الفذ في صدره حز واحد، فإن خرج أخذ نصيبا، وإن خاب غرم صاحبه ثمن نصيب، ثم التوأم، له نصيبان ان فاز، وعليه ثمن نصيبين إن خاب، ثم الضريب، وله ثلاثة أنصباء، ثم الحلس وله أربعة، ثم النافس وله خمسة، ثم المسبل، وله ستة، ثم المعلى وله سبعة. والمسبل يسمى: المصفح، والضريب يقال له: الرقيب.
وأما الأربعة التي يفصل بها القداح، فهي: السفيح، والمنيح، والمضعف، وا لوغد.
وقيل: إن للمنيح موضعين: أحدهما لا حظ له، والثاني له حظ فكأنه الذي يمنح الحظ، واستدلوا عابر ذللك بقول عمرو بن قبيصة: بأيديهم مقرومة ومغالق يعود بأرزاق العيال منيحها
فيؤتى بالقداح كلها وقد عرف كل ما اختار من السبعة ولا يكون الأيسار إلا ان الناس كانوا ينظرون إلى "الحرضة" نظرة استصغار وازدراء ويعرف أيضا ب "الضريب".

(1/2628)


--------------------------------------------------------------------------------

ويسمى "الرقيب" ".رابىء الضرباء" يقعد خلف ضارب قداح الميسر يرتبى لهم فيما يخرج من القداح فيخبرهم به ويعتمدون على قوله فيه، ثم يجلس الأيسار حوله دائرين به. ثم يفيض الضريب بالقداح، فإذا نشز منها قدح استسله الحرضة من غير أن ينظر اليه، تم ناوله الرقيب فينظر الرقيب لمن هو فيدفعه إلى صاحبه، فيأخذ من أجزاء الجزور على قدر نصيب القدح منها وذلك هو الفوز.
فإن شاء بعد ذلك أمسك، وإن شاء أعاد السهم على "خطار" آخر، وهو السبق يراهن عليه، وهو ما يوضع بين أهل السباق. واعادة السهم تسمى التثنية. وقد وصفت "القداح" بأنها عيدان من نبع، قد نحتت وملست وجعلت سواء في الطول. وهي عشرة من رواية أخرى غير الرواية التقدمة. هي: الفذ والتوأم والرقيب والحلس والنافس والمسبل والمعلى والمنيح والسفيح والوغد. وللاول سهم إن فاز، وفوزه خروجه وعليه عزم سهم إن خاب، وكذلك باقيها على الترتيب فيما له وعليه إلى المعلى، وهو السابع، وله سبعة وعليه سبعة يفرض في كل سم منها بحسب ماله، وعليه حز وتكثر هذه السهام بثلاثة أخر أغفال ليس فيها حزوز ولا لها علامات ليكون ذلك أنفى للتهمة وأبعد من المحاباة. وهي: المنيح وألسفيح والوغد، وتسمى القداح مغالق، لأنها تغلق الرهن إذا ضربوا بها.
وإذا حضرت القداح وحضر الأيسار أخذ كل منهم من القداح على قدره وطافته ورياسته، فمهم من لا يبلغ حاله -أكثر من الفذ فأخذه له، فإن خاب غرم سهما، وإن فاز أخذ سهما " ومنهم من يأخذ المعلى ولا يبالي بالغرم إن خاب وينال النصيب الأوفر ان فاز. ومنهم من يأخذ المعلى وسهما إن لم يحضر من يتمم السهام، فيأخذ ما فضل من القداح، ويقول للايسار قد تممتكم.

(1/2629)


--------------------------------------------------------------------------------

ويقع الغرم أي ثمن الجزور على من لم في يخرج سهمه وهم أربعة: أصحاب الرقيب والحلس والنافس، والمسبل. ولجملة هذه القداح ثمانية عشر سهما، فيجزأ الثمن على ثمانية عشر جزءا. ويلزم كل صاحب قدح من هذه القداح مثل ماكان نصيبه من اللحم لو فاز قدحه، فإن لم يخرج الفذ ولا التوأم وخرج الرقيب أخذ صاحبه ثلاثة أجزاء، ثم ضربوا ثانيه فخرج المعلى، أخذ صاحبه السبعة الأجزاء الباقية، وهي تتمة الجزور، وكانت الغرامة على من لم يخرج قدحه، وهم أصحاب القداح الخمسة التي خابت. وقد ينحرون جزورا اخر لأن في القداح التي خابت نصيبا يزيد علىما بقي من اللحم.وإن فضل من أجزاء اللحم شيء وقد خرجت القداح كلها كانت تلك الفاصلة لأهل الوبد من العشرة، وهم أهل الضعف وسوء الحال.
الأسفار
ومن أيام الفرح والسرور عندهم يوم العودة من السفر ومن حقهم أن يفرحوا به. فقد كان السفر شاقا خطرا في تلك الأيام، ولا سيما إذا طال. فقد يتعرض المسافر فيه للهلاك والموت جوعا أو عطشا، عدا ما يتعرض له من السلب والنهب. لذلك كانوا يحاولون جهدهم أن يسافروا جماعة وقوافل يتعاونون ويشد بعضهم أزر بعض. وكانوا إذا عادوا فرح أهلهم بعودتهم سالمين، وتلقوهم بالبشر والتهنئة، وذبحوا الذبائح ووزعوا لحومها بين الأصدقاء والفقراء، وأولموا الولائم للمهنئين والجيران. وكان أول ما يفعله المسافر إلى مكة عند عودته إلى مدينته الذهاب إلى "البيت" للطواف به ولشكر رب البيت على حمايته له واغداقه نعمته عليه بالعودة سالما.
وقد عثر السياح والمنقبون عن الآثار في جزيرة المعرب على كتابات جاهلية توسل فها أصحابها إلى آلهتهم لترعاهم في سفرهم، وتحفظهم من لصوص الطريق ومن كل شر وسوء. وقد تعهدوا فيها بتقديم نذور لمعابدها بعد عودتهم سالمين غانمين. كما عثر على كتابات فيها حمد وشكر لتلك الالهة لأنها أجابت دعوة أصحاب الكتابات، فحمتهم ورحمتهم في سفرهم ويسرت لهم العودة سالمين.

(1/2630)


--------------------------------------------------------------------------------

وكانوا إذا أرادوا السفر عمدوا إلى فعل الجاهلية في زجر الطير والاستقسام بالأزلام لأختيار الطالع، فإذا خرج سهم "الأمر" فسروه بالأمر بالسفر، وإذا خرج "النهي" "الناهي"، انتهوا عنه.
وكانوا إذا خرجوا إلى الأسفار أوقدوا نارا بينهم وبين المنزل الذي يريدونه، ولم يوقدوا بينهم وبين المنزل الذي خرجوا منه تفاولا بالرجوع اليه. وللمهنئن بسلامة العودة، تعابير خاصة،يتولونا للمسافرين حين السفر وحين العودة. وفي جملة ما كانوا يقولونه للاياب من السفر: "سفر رجيع". وسفر رجيع: مرجوع فيه رارا.
ومن مناسبات الفرح والسرور، الإبلال من مرض والشفاء منه. فالشفاء من المرض عودة إلى الحياة وولادة من جديد، وعمر يضاف إلى عر المريض،. لذلك كان المرضى يتوسلون إلى آلهتهم أن تمن عليهم بالصحة والشفاء والعافية مما ابتلوا به، ويعدونها بتقدم نذر إن أعادت اليهم صحتهم وعافيتهم. وقد حصل المنقبون على ألواح كثيرة كتب فيها شكر وحمد وثناءعلى الآلهة لأنها أجابت دعوة صاحب الكتابة، فعافته من مرضه،ومنت عليه بالصحة والعافية، وأبرأته مما أصيب به من أمراض أو جروح في معارك، فهو يوفي بوعده لها ويقدم لها نذره ويحمدها على نعمتها عليه. وقد يولمون وليمة يقولون لها "البة"، و "البلة" العافية من المرض.
ويعود أهل الجاهلية مرضاهم، للإعراب لهم عن تمنياتهم لهم بالشفاء العاجل والابلال من المرض، كما يعودونهم بعد الشمفاء لتهنئتهم على عودة الصحة اليهم، وشفائهم مما ابتلوا به من مرض. ويقع "العود" من الرجال والنساء. ويقال لمن حسنت حاله بعد الهزال، ولمن شفي من مرض "بل الرجل"، من مرضه، و "بل " من مرضه"، و "أبل".
?مواسم الربيع

(1/2631)


--------------------------------------------------------------------------------

وللربيع مكانة خاصة في نفوس العرب، حتى صار في منزلة العيد عندهم. ففيه يطيب الجو، ويرق الهواء، وتكسى الأرض بأكسية خضراء وببسط منمقة مزركشة، تسحر مناظرها الألباب، تسير عليها الإبل بفخر و،عجاب، تقضم ما تجده فوقها من طعام. فتشبع وتسمن بعد فقر وجوع وضنك. وفيه يكثر مال العرب، ومال العرب إبلهم، وتكثر مواشي الحضر، من غنم ويقر.. وتكون سنة الربيع للعربي سنة يمن وبركة. وسنة انحباس الغيث وانقطاع المطره سنة بؤس وشقاء.
ولا يفرح العربي بشيء فرحه بالغيث وبظهور الربيع، أي موسم اخضرار الأرض واكتسائها ببساط سندسي يبهر العن ويؤثر في النفس فيجعلها فرحة مستبشرة، فيخرج السادات إلى المرابع، يتلذذون هناك بمنظر الربيع وبرؤية أموالهم وهي فرحة مستبشرة ترعى فيه، فيزيد بذلك مالهم ويكثر لبن نوقهم وتنشظ إبلهم في انجاب الولد. ويتوجه سادات القباثل إلى المرابع الجيدة، التي يجود فيها الربيع، وليس في بلاد العرب مربع كالدهناء. ويترك الملوك قصورهم على ما فيها من وسائل الراحة، للذهاب إلى البادية، للاستمتاع بما خلقته الطبيعة هناك، وبما أوجدته من صنعة متقنة وفن عجيب لا بضاهى. يبقون هناك أياما وأسابيع، يجددون فيها عهدهم بألبوادي وبما فيها من هواء صحيح سليم، يعطي الجسم نشاطا، ويبعث فيه "اكسير" الحياة.
البغاء
البغاء الفجور. و "البغي" الأمة فاجرة كانت أو غير فاجرة، والجمع البغايا. والزنا هو الفجور، وهو عيب كبير عند العرب، فلا تقربه الحرة. أما الرجال فلا يرونه عيبا، بل قد يتبجح بعضهم به، لأنه من أمارات الرجولة. وقد كانوا يذهبون اليهن ويتصلون بهن في مقابل أجر، وكن من الإماء، لأن المرء في الحياة لبطنه وفرجه. ومنه المثل: "المرء يسعى لغاريه" أي يكسب لبطنه وفرجه.

(1/2632)


--------------------------------------------------------------------------------

وعرفت "البغي" ب "القحبة". قيل لها قحبة لأنها كانت في الجاهلية تؤذن طلابها بقحابها، وهو سعالها. فقد كانت من عادة "قحبة" الجاهلية أن تسعل أو تتنحنح، تراود بذلك عن نفسها، وتشعر الرجل، انها حاضرة للفجور إن أراد ذلك، فيتفق معها.
و "المسافحة"، المزاناة لأن الماء يصب ضائعا. و "السفاح" أن تقيم امرأة مع رجل على الفجور من غير تزويج صحيح: وفي الحديث: "أوله سفاح واخره نكاح". وهي المرأة تسافح رجلا مدة فيكون بينهما اجتماع على الفجور، ثم يتزوجها بعد ذلك. وكان أهل الجاهلية إذا خطب الرجل المرأة قال: أنكحيني، فإذا أراد الزنا قال: سافحيني.
ويقال للزنا: الفاحشة. والفاحشة الزانية وكل ما يشتد قبحه من الذنوب والمعاصي وكل ما نهي عنه،وكل خصلة قبيحة فهي فاحشة من الأقوال والأفعال. فاللفظة عامة تتناول الفحش الذي هو إلزنا كما تتناول غيره من الأعمال والخصال القبيحة. ويقال للبغي وللامة " تزنى"، ويقال لابنها "ابن تزنى" و "ابن درزة".
ولما نزلت الآية: )يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لايشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفتريه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف، فبايعهن واستغفر لهن الله، إن الله غفور رحيم(، وفرغ رسول الله من بيعة الرجال بمكة واجتمع اليه نساء من قريش فيهن: "هند بنت عتبة" وأخذن يبايعن الرسول، فلما وصل إلى قوله تعالى: "ولا يزنين"، فقالت: يا رسول الله وهل تزني الحرة?

(1/2633)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي القرآن الكريم آيات ذكرت الزنا في الجاهلية، من ذلك آية سورة النور: )الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة،والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين(. قال المفسرون: قدم المهاجرون إلى المدينة وفيهم فقراء ليست لهم أموال، وبالمدينة نساء بغايا مسافحات يكرين أنفسهن، وهن يومئذ أخصب أهل المدينة، فرغب في كسبهن ناس من فقراء المهاجرين،فقالوا: لو إنا تزوجا منهن فعشنا معهن إلى أن يغنينا الله تعالى عنهن. فاستأذنوا النبي صلي الله عليه وسلم، في ذلك، فنزلت هذه الآية وحرم فيها نكاح الزانية صيانة للمؤمنين عن ذلك، وقال عكرمة: نزلت الآية في نساء بغايا متعالمات بمكة والمدينة، وكن كثيرات، ومنهن تسع صواحب رايات، لهن رايات كرايات البيطار يعرفوفها: أم مهدون "أم مهزول" جارية السائب بن أبي السائب المخزومي، و "أم غليظ" "أم غليظ" جاريه صفوان بن أمية، و "حبة القبطية" "حنة القبطية" جارية العاص بن وائل، و "مرية" جارية مالك بن عميلة. "عمثلة" بن السباق بن عبد الدار، و "حلالة" "جلالة" جارية سهيل بن عمرو، و "أم سويد" جارية عمرو بن عثمان المخزومي، و "شريفة" "سريفة" جارية زمعة بن الأسود، و "قرينة" "فرسة" جارية هشام بن ربيعة بن حبيب بن حذيفة بن جبل بن مالك بن عاصم بن لؤي، و "فرنتا" "قريبا" جارية هلال بن أنس بن جابر بن نمر بن غالب بن فهر. وكانت بريوتهن تسمى في الجاهلية "المواخير" لا يدخل عليهن ولا يأتيهن إلا زان من أهل القبلة أو مشرك من أهل الأوثان، فأراد ناس من المسلمين نكاحهن ليتخذوهن مأكلة، فأنزل الله تعالى، هذه الاية، ونهى المؤمنين عن ذلك، وحرمه عليهم".

(1/2634)


--------------------------------------------------------------------------------

وورد أن امرأة يقال لها أم مهدون "أم مهزول" كانت تسافح وكانت تشترط للذي يتزوجها أن تكفيه النفقة. وأن رجلا من المسلمين أراد أن يتزوجها، ع فذكر ذلك للنبي، صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية: )الزانية لا ينكحها الا زان(. وكان لمرثد صديقة في الجاهلية، يقال لها عناق، وكان مرثد رجلا شديدا، وكان يقال له: دلدل، وكان يأتي مكة فيحمل ضعفة المسلمين إلى رسول الله، صلى الله عليه رسلم فلقي صديقته، فدعته إلى نفسها، فقال: إن الله قد حرم الزنا، فقالت اني تبرز، فخشي أن تشيع عليه، فرجع إلى المدينة فأتى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله كانت لي صديقة في الجاهلية، فهل ترى لي نكاحها قال: فأنزل الله: )الزانية لا ينكحها إلا زان...). وذكر أنهن كن بغايا متعالمات كن في الجاهلية، بغي آل فلان وبغي آل فلان، فأنزل الله: لا الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك، وحرم ذلك على المؤمنين " فحكم الله بذلك من أمر الجاهلية على الإسلام. وورد: كان الرجل ينكح الزانية في الجاهلية التي قد علم ذلك منها، يتخذها مأكلة، فأراد ناس من المسلمين نكاحهن على تلك الجهة، فنهوا عن ذلك".

(1/2635)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي القرآن الكريم: )ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء، إن أردن تحصنا، لتبتغوا عرض الحياة الدنيا. ومن يكرههن فإن الله من بعد اكراههن غفور رحيم(. قال المفسرون: نزلت في معاذة ومسيكة جاريتي عبد الله بن أبي المنافق، كان يكرهها على الزنا لضريبة يأخذها منها. وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية يؤاجرون إماءهم. فلما جاء الإسلام، قالت معاذة لمسيكة إن هذا الامر الذي نحن فيه لا يخلو من وجهين، فإن يك خيرا فقد اسكثرنا منه، وإن يلك شرا فقد ان لنا أن ندعه. فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال مقاتل: ننرلت في ست جوار لعبد الله بن أبي كان يكرههن على الزنا ويأخذ أجورهن، وهن: معاذة، ومسيكة، وأميمة، وعمرة، وأروى، وقتيلة، فجاءت احداهن ذات يوم بدينار، وجاءت أخرى بدونه، فقال لهما: إرجعا فازنيا. فقالتا: والله لا نفعل، قد جاءنا الله بالإسلام وحرم الزنا. فأتيا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وشكتا اليه. فأنزل الله تعالى هذه الآية". وذكر أن رجلا من قريش أسر يوم بدر، وكان عبد الله بن أبي أسره، وكان لعبد الله جارية يقال لها معاذة، فكان القرشي الأسير يراودها عن نفسها، وكانت تمتنع منه لاسلامها. وكان ابن أبي يكرهها على ذلك ويضربها، لأجل أن تحمل من القرشي، فيطلب فداء ولده، فقال الله تعالى ولا تكرهوا فتياتكم...
ويرى بعض علماء اللغة أن "المساعاة" تكون في الحرة وفي الأمة. وذهب بعض آخر إلى أنها تكون في الإماء خاصة بخلاف الزنا والعهر، فإنهما يكونان في الحرة وفي الأمة، وفي الحديث إماء ساعين في الجاهلية. وأتي عمر برجل ساعى أمة، وقيل مساعاة المرأة أن يضرب عليها مالكها ضربية تأديها بالزنا. وفي الحديث،: لا مساعاة في الإسلام، ومن ساعى في الجاهلية فقد لحق بعصبته" والمساءاة الزنا. وذكر ابن فارس أن المساعاة الزنا بالإماء خاصة.

(1/2636)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم تكن للمسافحة أجور ثابتة، بل كانت تتوقف على المعاملة والتراضي، وقد تكون نقدا، دنانير أو دراهم، وقد كون عينا مثل برد أو أنسجة أو طعام أو ما شاكل ذلك، لقلة العملة في ذلك العهد.
ويلحق أءل الجاهلية نسب ولد المساعية بها إذا ولدت، ويكون الولد رقيقا لمن يملك رقبة الأم إن شاء جعلهم في ملكه وإن شاء باعهم لأن الأمة وما تملك ملك للمالك. وقد تاجر ملاك الرقيق بأولاد الإماء، وربحوا من هذه التجارة ربحا. فلما جاء الإسلام أبطل المساعاة، ولم يلحق النسب بالأمة، وعفا عما كأن منها في الجاهلية ممن ألحق بها. وفي حديث عمر: انه أتى في نساء أو إماء ساعين في الجاهلية، فأمر بأولادهن أن يقو موا على آبائهم ولايسرقوا. فصاروا أحرارا لاحقي الأنساب بآبائهم الزناة. وقد ورد في الحديث: "الولد للفراش وللعاهر الحجر " وبموجبه سكم الشرع على من ولد من الزنا في الجاهلية وأدرك الإسلام.
ولم يرد في نصوص المسند ذكر للزنا وعقوبة الزاني والزانية عند الجاهلين. وأقصد بالزنا هنا الزنا الذي يكون بين المحصن والمحصنة أو بين المحصن والبكر، أو بين البنت الحرة والرجل العزب أو الذي لم يتزوج، أي الزنا مع غير الإماء.

(1/2637)


--------------------------------------------------------------------------------

أما اتزنا مع الإماء، فلم يكن الجاهليون يعيبون الإنسان عليه كما بينت ذلك. ويظهر من بعض الأخبار الواردة عن الزنا أن من الجاهليين من كان يأخذ الفدية عنه. فقد روي أن رجلا من الأعراب قام فقال: يا رسول الله أنشدك الله إلا ما قضيت بينا بكتاب الله وائذن لي. فقال رسول الله: قل: قال: إن ابني كان عسيفا على هذا "وأشار إلى أعرابي..كان جاسا إلى جانبه" فزنى بامرأته فافتديت منه بمئة شاة وخادم ثم سألت رجالا" من أهل العلم، فأخروني،أن على ابني جلد مئة وتغريب عام. وعلى امرأته الرجم لإحصانها. فقال النبي: والذي نفسي في بيده لأقضين بينكما بكتاب الله جل ذكره: المئة شاة والخادم رد عليك، وعلى ابنك جلد مئة وتغريب عام. وأغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها. وقد كان هذا الحادث بعد نزول الأمر بالرجم. فيظهر منه أن من جملة عقوبات الزنا عند الجاهليين كان أخذ فدية،وتغريب.
واختلاف وجهة نظر الجاهليين الى الزنا، هو بسبب اختلاف عاداتهم وعرفهم وتعدد قبائلهم، وعدم وجود دين واحد لهم يخضعون جميعأ لحكمه. فلما جاء الإسلام وجعل الزنا من المحرمات، تغير حكمهم عليه، وصار شرعهم في ذلك هو شرع الإسلام.
و "المواخير"، بيوت أهل الفسق ومجالس الخمارين، ومواضع الريبة.

(1/2638)


--------------------------------------------------------------------------------

والماخور: بيت الريبة ومن يلي ذلك البيت ويقود اليه. واللفظة من الألفاظ المعربة. يرى بعض علماء اللغة أنها معربة عن أصل فارسى "ميخور" "مي خور"، أي شارب الخمر،وذهب بعض آخر إلى أنها من أصل عربي. ولكن الصحيح أنها فارسية معربة. وقد كانت المواخير في الجاهلية موجودة في القرى والمدن وعلى طرق التجارة. حيث يأوي التجار وأصحاب الأسفار للراحة، فيجدون أمامهم تلك المواخير. ذكر عن "ابن عباس" في تفسير قوله تعالى: الزاني لاينكح إلا زانية أو مشركة، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين" انه قال: كانت بيوت تسمى المواخر في الجاهلية، وكانوا يؤاجرون فيها فتياتهن، وكانت ييوتا معلومة للزنا لا يدخل عليهن. ولا ياتيهن إلا زان ".
وكان من الرجال من يتهم أزواجه بالزنا ويرميهن بالفاحشة، لأسباب عديدة، منها الرغبة في التخلص منهن أو انتقاما من أهلهن أو عضلا لهن، فلا يتزوجن ويحبسن في البيوت حتى يتوفاهن الموت، وقد حدثت مثل هذه الحوادث في الإسلام، فنزل الحكم فيها في القرآن الكريم.
صواحب الرايات
وهن البغايا كن ينصبن على ابوابهن رايات تكون علما، فمن أرادهن دخل عليهن، وتفاوض معهن على أجورهن في مقابل دخوله بهن. وذكر أن تلك الرايات كانت رايات حمرا. وروي انه. "كان لبعضهن راية منصوبة في أسواق العرب فيأتيها الناس فيفجرون بها. فأذهب الإسلام في ذلك، وأسقطه فيما أسقط". وقد وجد بعض الناس صعوبة في تقبل حكم الإسلام في تحريم الزنا والخمر.
"وفي حديث علي كرم الله وجهه، لما طلب اليه أهل الطائف أن يكتب لهم الأمان على تحليل الزنا والخمر، فامتنع، قاموا ولهم تغذمر وبربرة" من شدة غضبهم ونفورهم من هذا التحريم.

(1/2639)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما اليهود، فقد ساروا على وفق ما جاء في التوراة في أمر الزنا. وهو من الخطايا المنهي عنها في الوصية السابعة من ألوصايا العشر. ويقاص الرجل الذي يضاجع امراة غيره بالموت، وتعاقب المرأة بالعقوبة نفسها. وإذا ضاجع رجل ابنة مخطوبة ولم تصرخ الابنة رجم الاثنان، وإذا صرخت رجم هو فقط. وإذا ضاجع رجل ابنة حرة غير مخطوبة، فوجدا، لزم عليه اعطاء والدها خمسين شاقلا من الفضة، ويلتزم أن يأخذها له امرأة. وإذا كانت الابنة غير حرة، كان يقدم الرجل تقدمة حظيته. وقد نص في سفر "العدد" على طريقة إظهار زنا المرأة المتهمة ومعاقبتها.
ويظهر من كتب السير والحديث أن يهود المدينة في أيام الرسول، كانوا قد تساهلوا في تطبيق أحكام التوراة بشأن الزنا، وابتدعوا طرقا أخرى غير طرق العرف والعادة. فقد روي انه أتى رسول الله بيهودي ويهودية، وقد أحدثا جميعا، أي زنيا. فقال رسول الله لليهود: ما تجدون في كتابكم ? قالوا: إن أحبارنا أحدثوا تحميم الوجه والتجبية. أي الإركاب معكوسا، وقيل أن يحمل الزانيان على حمار مخالفا بين وجهيهما. قال عبد الله بن سلام: ادعهم يا رسول الله يالتوراة، فأتى بها، وقرأ موضع الرجم، فرجما.
وعرفت "القيادة" عند الجاهليين. قالت "عائشة رضي الله عنها: ليست الواصلة بالتي تعنون، وما بأس إذا كانت المرأة زعراء أن تصل شعرها، ولكن الواصلة أن تكون بغيا في شبيبتها، فإذا أسنت وصلته بالقيادة ". والقوادة هي الني تجلب البغايا للرجال، وأما القواد، فالذي يقوم بالقيادة. و "التدييث" القيادة. و "الديوث" القو اد على أهله والذي لا يغار على أهله. وقيل الديوث والديبوب الذي يدخل الرجال على حرمته بحيث يراهم، كأنه لين نفسه على ذلك. وقبل هو الذى تؤتى أهله وهو يعلم.

(1/2640)


--------------------------------------------------------------------------------

وضرب المثل بي "ظلمة" في القيادة. وكانت " صبية في الكتاب، فكانت تضرب دوي الصبيان وأقلامهم، فلما شبت زنت، فلما أسنت قادت، فلما قعست اشترت تيسا تنزيه على العنز". وذكر أنها كانت فاجرة هذلية. فضرب بها المثل فقيل "أقود من ظلمة" و "أفجر من ظلمة".
المخادنة
وهناك نوع آخر من العلاقات يكون بين الرجل والمرأة بغير عقد ولا نكاح يكون الرجل خدنا للمرأة أي صديقا لها، وتكون هي خدنة له، أي صديقة له، ولذلك عبر عن هؤلاء النسوة المتخادنات ب "ذوات اللأخدان" و "متخذات أخدان". جاء ذكر هذه المخادنة في الاية الكريمة:)فانكحوهن بإذن أهلهن، وأتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان.( أي أصدقاء على السفاح. وشد ذكر أن ذلك قيل كذلك، لأن الزواني كانت في الجاهلية المعلنات بالزنا والمتخذات الأخدان اللواتي قد حبسن أنفسهن على الخليل والصديق للفجور بها سرا دون إعلان بذلك. وقد ذكر أن متخذات الأخدان ذوات الخليل الواحد. قالوا: كان أهل الجاهلية يحرمون ما ظهر من الزنا ويستحلون ما خفي، يقولون: أما ما ظهرمنه فهو لؤم، وأما ما خفي فلا بأس بذلك فأنزل الله تبارك وتعالى: "ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن". فذات الخدن، المرأة ذات الخليل الواحد المستسرة به. وقد يقيم معها وتقيم معه وقد عد صداقة ومودة، لذلك اختلفت وجهة نطر أهل الجاهلية اليه عن وجهة نظرهم إلى الزنا، فلم يعدوه من الزنا الشائن.
المضامدة
والمضامدة قريبة من المخادنة. والضمد أن تخال المرأة ذات الزوج رجلا غير زوجها أو رجلين. والضماد أن تصادق المرأة اثنين أو ثلاثة في القحط لتأكل عند هذا وهذا لتشبع. و "الضمد" الخل.
الشذوذ الجنسي

(1/2641)

admin
12-31-2010, 08:12 PM
والشذوذ الجنسي معروف عند الجاهليين أيضا كما هو عند جميع الأمم منذ القدم، وليس من المعقول استثناء الجاهلينن من ذلك، بدليل ورود النهي عنه والتحذير منه في القرآن الكريم وفي الحديث. ومن الشذوذ الجنسي، الشذوذ المعروف، وهو ذهاب الرجل مع الرجل ومزاولته عمل الجنس معه، أو اتصال المرأة بالمرأة اتصالا جنسيا، أو اتيان الرجل المرأة من دبر، كما كان الحال عند أهل مكة. فقد ذكر أن منهم من كان يأتي النساء من أدبارهن، وقد منع ذلك في الإسلام. وقد عرف إتيان المرأة في دبرها ب "التحميض". ويقال للتفخيذ في الجماع "التحميض" أيضا. وذكروا في تفسير الآية: )نساؤكم حرث لكم(: "انما كان هذا الحي من الأنصار، وهم أهل وثن، مع هذا الحي من يهود، وهم أهل كتاب وكانوا يرون لهم فضلا عليهم في العلم، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم، وكان من أمر أهل الكتاب ألا يأتوا النساء إلا على حرف، وذلك أستر ما تكون المرأة، فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم، وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحا منكرا، ويتلذذون منهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات. فلما قدم المهاجرون المدينة، تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار، فذهب يصنع بها ذلك، فأنكرته عليه، وقالت: انما كا نؤتى على حرف ! فاصنع ذلك، وإلا فاجتنبني، حتى شرى -أمرهما فبلغ ذلك النبي، صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: فأتوا حرثكم أنى شئتم، أي مقبلات ومدبرات ومستلقيات، يعني بذلك موضع الولد وذكر أن أهل مكة كانوا يجبون النساء، وكانت الأنصار لا تجبي وتنكر فعل ذلك، وإنما يؤتين على جنوبهن. فوقع خلاف بن أهل مكة ممن تزوج من أهل المدينة وبين من تزوجوا في كيفية إتيانهن، فنزلت الاية في شرح ذلك، وانه يكون على أي شكل كان، ما دام في موضع الحرث. والإجباء: أن تكون المرأة منكبة على وجهها. كهيئة السجود، فيأتيها الرجل على هذه الهيئة. وذكر ان يهود يثرب، كانت تقول: إذا نكح الرجل امرأته

(1/2642)


--------------------------------------------------------------------------------

مجببة جاء الولد أحول،.
وتستعمل لفظة "اللواطة" للتعبير عن إتيان الذكران في أدبارهم وأرى أن هذا المعنى إنما وقع في الإسلام.. أخذ مما جاء في القرآن الكريم عن عمل قوم لوط: )إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين.أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر(، )ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون. أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء، بل أنتم قوم تجهلون(. و )لوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين، انكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء، بل أنتم قوم مسرفون(، فنسب فعل إتيان الرجال بعضهم بعضأ إلى قوم "لوط"، واشتق الفعل من اسمه. ونرى ان الآيات قد استعملت: "لتأتون الرجال"، للتعبر عن هذا الفعل. واستعمل المفسرون هذا التعبير وتعبير "المجامعة" للتعبير عنه. وقد استعمل الجاهليون "لاط" في معان أخرى لا صلة لها بالمعنى المذكور. وفي ذلك دلالة واضحة على أن استعمال "اللواط" إنما وقع في الإسلام. والمأبون الذي تفعل به الفاحشة، وهي الأبنة. ومن المجاز برقع لحيته، أي صار مأبونا، تزيا بزي من لبس البرقع، ومنه قول الشاعر: ألم تر قيسا قيس عيلان برقعت لحاها وباعت نبلها بالمغارل
وذكر "ابن قيم الجوزية" أن هذا الفعل لم يكن معروفا بين العرب ولم يرفع إلى الرسول في أيامه حادث به.
وتعبير "السحاق" و "المساحقة" و "امرأة سحاقة" من التعابير التي انتشرت في الإسلام وقال الأزهري: ومساحقة النساء لفظة مولدة. ومن علماء اللغة من يرجع عهدها إلى الجاهلية، ويجعلها من الألفاظ العربية الأصيلة. واللفظة عربية ولا شك، ولكن استعمالها في المعنى المذكور مجازي، وقول الأزهري إنها مولدة غير صحيح.

(1/2643)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان منهم من يضرب جاريته على ظهرها ثم يجامعها. كأنهم كانوا لايشعرون بشهوة الجنس على ما يظهر إلا بعد ضرب الجارية، ويعبرون عن ذلك بقولهم "صلق جاريته"، ويعرف هذا بين الغربيين في العصر الحاضر بالسادية Sadism نسبة إلى "الكونت دي ساد". كناية عن الابتهاج بالقسوة. وعن انحراف جنسي يتلذذ فيه المرء بإنزال أصناف، العذاب بمحبوبه.
ومن الشذوذ أيضا إتيان الحيوان. فقد ذكر أن "بني كليب" كانوا يرمون بإتيان الضأن، وكذلك بنو الأعرج وسليم. وأشجع ترمى بإتيان المعز. ونجد ذلك واضحأ مذكورا في شعر الشعراء كالنجاشي والفرزدق. ورميت "بنو دارم" بإتيان الأتن. وتعرض "الجاحظ" في أثناء حديثه عن زواج الانسى بالجن لهذا الموضوع فقال: ونحن نجد الأعرابي والشاب الشبق، ينيكان الناقة والبقرة والعنز والنعجة، وأجناسا كثيرة، فيفرغون نطفهم في أفواه أرحامها، ولم نر ولا سمعنا على طول الدهر، وكثرة هذا العمل الذي يكون من السفهاء، القح منها شيء من هذه الأجناس،والأجناس على حالهم من لحم ودم، ومن النطف خلقوا. ورميت "بنو فزارة" بإتيان الإبل. رماها بذلك "بنو هلال بن عامر بن صعصمعة بن معاوية بنت بكر بن هوازن" في ملاحاة كانت بين الحيين. والعادة أن القبائل إذا تخاصمت رمت بعضها بعضا بالتهم، وذالك في الجاهلية وفي الإسلام.
فلما رمى "بنو هلال" "بني فزارة" بأكل أير الحمار، وبإتيان الإبل، قالت بنو فزارة: أليس منكم يا بني هلال من قرا في حوضه فسقى إبله، فلما رويت سلح فيه ومدره بخلا أن يشرب من فضله.
الأتراح والأحزان

(1/2644)


--------------------------------------------------------------------------------

وإذ كنت قد تحدثت عن ألأفراح في جياة الإنسان، وما كان يفعله أهل الجاهلية فيها، فلا بد لي من الحديث هنا عن الأتراح والأحزان عندهم، وما كانوا يفعلونه عند نزول مصيبة بهم أو وقوع حادث محزن مفجع لهم، فأقول: يلعب الحزن دورا كبيرا في حياة الشرقيين، بل نستطيع أن نقول إن الحزن أظهر في حياتهم من الفرح وأن المبالغة في إظهاره عندهم هي من المظاهر البارزة في مجتمعاتهم. وطالما يلجأ الحزين إلى المبالغة في حزنه، ليظهر نفسه وكأنه كان أكثر الناس تحملا للمصائب والأهوأل والنكبات: وما قصة "أيوب" الواردة في التوراة إلا نوعا من هذا القصص: قصص الحزن وتحمل الصبر من شدة البلاء.
وفقدان المال بعد ثراء وغنى وجاه والعلل والأسقام التي تنزل بالانسان، والكوارث والموت وأمثال ذلك، هي مما يثير الحزن والأشجان في النفس، فتجعل الإنسان يحزن على ما أصابه ويظهر جزعه أو تحمله للالام أمام الناس، وذلك بمختلف أساليب التعبير عن الحزن الذي نزل بالحزين.
والحزن: الهم. وقيل: خلاف السرور. وقد فر ق بعضهم بين الهم الحزن. وقال بعض علماء اللغة: الحزن: الغم الحاصل لوقوع مكروه أو فوات محبوب في الماضي ويضاده الفرح. وقد سمى رسول الله العام الذي ماتت فيه "خديجة" وعمه "أبو طالب" "عام الحزن"، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين، لمآ أصابه فيه من هم وغم.
وللعرب كما لغيرهم من الشعوب مصطلحات وتعابير خاصة، يعبرون بها عن آلامهم وأحزانهم وما يجيش في صدورهم من أحزان. منها تعابير يستخدمها المحزون نفسه تعبيرا عن حزنه وآلامه الشديدة، ومنها تعابير بستعمل ألمحزون في الرد على من يتفضل عليه بمواساته للتخفيف عن آلامه،بأن يدعو لهم ويشكرهم على تكليف أنفسمهم مشقة المجيء اليه لمؤاساته أو مشاركتهم له في حزنه. ومنها تعابير يقولها المؤاسون للشخص المحزون للتخفيف عن مصابه وللترويح عنه ولاظهار حزنهم له ومشاركتهم له في أحزانه.

(1/2645)


--------------------------------------------------------------------------------

كما أن لهم كما لغيرهم علامات وشعارات يظهرونها للناس لإشعارهم بأنهم مصابون بالام وأحزان، وبحلول نكبات وكوارث بهم. وذلك مثل لبس ألبسة خاصة تكون شعارا خاصا بالحزن، وذر الرماد أو التراب على الرأس و الوجه بالطين، وترك الشعر ينمو دون حلق ولا إجراء تعديل فيه أوترك دهنه مدة معينة إظهارا للحزن على ميت، وما إلى ذلك من علامات، هي ضرورية ولازمة جدا، بالنسبة لمحزون أو للمحزونين والمفجوعين ولأصدقائهم، إذ أن اهمالها وتركها هو في نظرهم عيب ومنقصة على المفجوع وعلى أصدقائه وعلى آله على حد سواء. ثم هي تقاليد لا بد من مراعاتها والمحافظه عليها.
ومن ذلك أيضا: النداء. وذلك بإعلان شخص عن المصيبة بصوت عال يسمع حتى يشاركه الناس مصيبته أو ليحصل منهم على ما يرجوه من مساعدة.
مثل واسوء صباحاه: في المصيبة التي تقع في آخر الليل وأول النهار. أو أن يعلن عن وفاة كبير وذلك بأن ينادي بصوت عال في الأحياء وفي الاماكن العامة عن موت ذلك الكبير بعبارات مؤثرة وبصوت رخيم. ليكون ذلك معلوما لأهل المكان، فيتجمعون حول المفجوع ويشاطرونه حزنه ويشتركون في تشييع ألجنازة.
ويعبر عن الكوارث والآفات والمصائب بلفظة "لمت"، في بعض اللهجات العربية الجنوبية، كما في هذه الجملة: "كل لمت لمت "، ومعناها من كل ملمة ألمت، أو من كال نازلة نزلت. وفي هذا المعنى أيضا جملة: "بعد حدثت حدثت"2 أيما بعد حادثة حدثت، أو بعد الحادثة إلتي حدثت، أو بعد الفاجعة التي حدثت.
ويقال لما يصيب الناس من عظيم نوب الدهر: "دواهي الدهر". وإذا نزلت بشخص مصيبة قالوا: "دهته داهية"، وقد يقولون "داهلية دهياء" على سبيل التوكيد والمبالغة. ويقول الشخص: دهيت. وزتمول ما دهاك ? أي ما أصابك.وكل ما أصابك من منكر من وجه المأمن فقد دهاك دهيا.. والدهياء: الداهية من شدائد الأمر.
أخو محافظه، إذا نزلت به دهياء داهية من الأزم

(1/2646)


--------------------------------------------------------------------------------

والاصطلاح الشائع عن هلاك الإنسان وفقده الحياة هو "الموت". وقد وردت هذه اللفظة في لهجات عربية أخرى، مثل اللهجه الصفوية واللحيانية وهنأك ألفاظ أخرى تؤدي معنى الموت والهلاك. مثل الهلاك والمنايا والاحداث والحمام والأجل و الحتف والقدر والمنون وألزمان والسأم والنحب وغير ذلك. وهي مصطلحات جاهلية، بعضها من المصطلحات القديمة، لها معان أوسع من مصطلحات الموت. ولكن ربط بينها وبين هذا المصطلح لما لها من صلة بهلاك الإنسان وبمصيره،فجعلت تؤدي معنى الموت.
وهلك بمعنى مات. معروف عند أهل اللغة. وقد وردت اللفظة بهذا المعنى في نص النمارة الذي يعود تأريخه الى سنة 328 م. وأما المنية، فالموت كذلك في نظر علماء اللغة، لأن المنى القدر والموت قدر علينا. وأما الحتف، فهو الموت أيضا، وجمعه حتوف. وهو معنى مجازي جاهلي متأخر. ورد في المثل: "مات حتف أنفه" 0 اي على فراشه من غير ضرب ولا قتل ولا غرق ولا حرق، وخص الأنف لأنهم كانوا يتخيلون أن روح الرجل تخرج من أنفه، فإن جرح خرجت من جراحته. وهناك مثل آخر يشبهه وهو "مات حتم فيه" لأن الفم مجرى النفس كذلك.
وترادف لفظة "الميت" و "ميت" لنظة "جنز" في ألعربيات الجنوبية. وذكر علماء العربية ان الجنازة الميت، فهي في معنى لفظة "جنز" ا اوارسة في المسند.
وقريب من معنى "مات حتف نفسه"، ماورد في بعض النصوص الصفوية من تعبير "رغم مني"، فإنه يريد ان الشخص لم يمت قتلا، وانما مات رغما منه، مات بمنيته وبأجله.
و يعبر مصطلح "مات بحد السيف" أو "مات صبرا"، عن معنى ان الوفاة لم تكن طبيعية، وانما كانت قتلا، إما بضرب عنقه، وإمها بوسائل أخرى من وسائل، التعذيب، صبر عيها ذلك الشخص حتى مات.
وورد: " الموت الأبيض" و "الموت إلأحمر" 0 الأبيض الفجأة، أي ما يأتي فجأة، ولم يكن قبله مرض يغير لونه. والأحمر الموت بالقتل لأجل الدم.

(1/2647)


--------------------------------------------------------------------------------

والانتحار، أي قتل الإنسان نفسه، معروف عند الشعوب القديمة، ويكون إما بإزهاق الإنسان روحه باستعمال آلة حادة، مثل، سكين أو خنجر وما شابه ذلك، وإما برمي الشخص نفسه من محل مرتفع، أو بإغراق نفسه، أو بإحراق نفسه بنار، وما إلى ذلك. ويعد من الأعمال الشريرة في الأديان. ويعبر في العربية ب "قتل نفسه" عن "الانتحار".
ومن الألفاظ التي تعني الموت: القشم. يقال: قشم الرجل قشعا، أي مات. وأم قشعم، فإنها تعني المنية، كما تعتي الحرب والداهية. والحمام،لأنه قضاء الموت وقدره. و "أم اللهيم": يراد بها "الحمى"، ويكنى بها عن الموت، لانها تلتهم كل أحد. وقيل: هي "المنية"، وكنية الموت، لأنها تلتهم كل أحد.
ويعبر عن الحالات التي يكون فيما المرض قد اشتد بالمريض حتى صار يشرف على الموت بتعابير خاصة مثل: "سكرات الموت" و "الحشرجة" ويراد بها تردد النفس.
ويعبر عن القتل المعجل بالتصص، فيقال مات فلان قصصا، إذ أصابته ضربة أو رمية فمات مكانه. ويقال ضربه فأقصصه، أي قتله في مكانه.
وللدهر والحدثان والزمان والقدرصلات قوية بالموت، إذ تنسب اليها إماتة الإنسان. والدهر على الأخص مسؤول في نظر أهل الجاهلية عن قوارع الزمان وحوادثه التى تنزل بالانسان. انه هو المبيد، وهو المهلك، وهو المفقر، فهو اذن بالنسبة إلى الجاهليين رأس كل بلاء. ولكنهم بدلا من التقرب اليه والتودد له ليبتعد عنهم، وليرأف بحالهم كانوا لا يستطيعون ضبط أعصابهم عند نزول الشدائد بهم، فيسبونه، لذلك ورد ان الرسول نهى عن سب الدهر فقال: "لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر". وجعل الدهر في الإسلام من أسماء الله الحسنى، وذكر انه ورد في الحديث القدسي: " تؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وانما أنا الدهر ".

(1/2648)


--------------------------------------------------------------------------------

والموت في نظر الجاهليين مفارفة الروح للجسد لسبب من الأسباب التي تؤول إلى هلاكه. تخرج الروح من الأنف أو من الفم وذلك في الموت الطبيي وفي موت الفجأة. أما إذا كان الموت بسبب جرح، فإن الروح تخرج على ما ذكره الأخباريون من الجرح. والروح قد تتحول وتصير طائرا يرفرف فوق قبر الميت يسمى "الهامه" في حالة كون الميت قتيلا.
واعتقد بعض الجاهليين ان الموت أجل مثبت وأمر معين محتم، وهو لا يأتي إلا في حينه. فإذ! جاء الأجل كان حذر الإنسان وجبنه غير دافع عنه المنية إذا حلت به. وذكر ان أول من قال ذلك "عمرو بن مامة" في شعره. وفي حديث عامر بن فهيرة: والمرء يأتي حتفه من فوقه
ولحنش بن مالك بيت في الحتوف، إذ يقول: فنفسك احرز فإن الحتو ف ينبان يالمرء في كل واد
وكامة "الروح" من الكمات المعروفة عند الجاهليين. وقد صورتها بعض الأخبار الإسلامية حفظة على الملئثكة " وجعلت لها وجها كوجه الإنسان وجسدا كجسد الملائكة،ولا يمكن رؤيتها كما لا يمكن رؤية الملائكة. بها يعيش الإنسان وبها حياة الانفس. وقد سأل الجاهليون الرسول على ماهية الروح،فنزلت الآية: " يسألونك عن الروح قل: الروج من أمر ربي، وما أوتيتم من العلم الا قليلا". ويذكر المفسرون أن سائليه هم اليهود أو ان اليهود علموا المشركين أن يسألوه عن الروح محاولين بذلك إثارة مشكلة للرسول كانت مهمة في أعين الناس يومئذ، مما يدل على أهمية هذه القضية في ذلك العهد.

(1/2649)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من تمحيص الأخبار الواردة عن الموت والقبر وأشباه ذلك أن عقيدة الجاهليين ان الروح متصلة بالجسد ملازمة له في أثناء الحياة، فإذا وقع الموت انفصلت عن الجسد وفارقته. ثم اختلفو فيما بينهم في مصير الروح، فمنهم من تصورها وهي ملازمة "قبر صاحبها لا تفارقه، وكأنها لا تريد أن تفارق الجسد الذي كانت مستقرة فيه". فصارت المقابر موضع تجمع الأرواح، ومنهم من ذهب الى هلاكها بهلاك الجسد أو تحولها أرواحا تسبح في عالم الأرواح. ونجد في حديث "مجاهد" أن "الأرواح على أفنية القبور سبعة أيام من يوم دفن الميت لا تفارق ذلك". تفسيرا لرأي بعض الجاهلين في مدة بقاء الروح حول القبر. وهناك أحاديث أخرى يظهر منها ان الروح تلازم القبور فلا تفارقهم.
وهندك كلمة أخرى لها صلة وعلاقة متينة بهذه الكلمة. هي لفظة "النفس". وهي من الكلمات الجاهلية القديمة التي وردت في النصوص، معناها الروح والشخص والذات والجسد. وقد ذكر لها علماء اللغة جملة معان استعملت في الأكثر على سبيل المجاز. ولم يفرق بعض هؤلاء بين الروح والنفس. ويظهر من بعض التعابير والجمل التي كان يستعملها الجاهليون مثل "خرجت نفس فلان"و"فاظت نفسه" "فاضت نفسه" أن المراد بالنفس الروح. وقد تصور بعضهم أن النفس الدم، وإنما سمي الدم نفسا لأن النفس تخرج بخروجه. وفي الحديث: " ما ليس له نفس سائلة فإنه لا ينجس الماء إذا مات فيه " لا ولبعضهم آراء في التفريق بين الاثنين نشأت في العهد الإسلامي. ولا سيما من ورود استعمال الكلمتين في معان متعددة في القرآن الكريم وفي الحديث.

(1/2650)


--------------------------------------------------------------------------------

ويعد "المرض" من جملة الآثام التي تنزلها الآلهةبالإنسان، لخروجه على أوامرها ولعدم أداء ما عليه من واجبات وفروض تجاهها، ومنها الحقوق التي فرضتها عليه، وفي رأسها النذور والصدقات والزكاة التي امرت الآلهة بتقديمها إلى معابدها. ولهذا نجد المريض يتوسل بآلهته لكي تصفح عنه وتعفو عن تقصيره تجاهها، وأن تعيد اليه ما اخذته منه من صحة وعافية في مقابل تقدم نذر لها ووفائه يقيامه بكل ما أمرت به من واجبات تجاهها. وفي المتاحف الخاصة والعامة مئات من الكتابات الجاهلية في هذا المعنى، ومئات أخرى،كتبت شكرا وحمدا للالهة، إذ سمعت توسلات ****ها بأن تمن عليهم بالصحة والعافية، فمنت عليهم ولهذا فإنهم كتبوا كتاباتهم تلك للتعبير عن شكرهم لها، ولمناسبة تقديمهم النذر الذي نذروه لمعابد الالهة.
نعي الميت
وتكون الاعلان عن موت شخص بالبكاء وبالنعي، ويتوقف نعي الميت والبكاء عليه على قدر منزلة الميت ودرجة أهله ومكانتهم الاجتماعية. ويعد نعي الميت و شق الجيوب عليه من وسائل التقدير والإكرام وتبجيل الميت، ولذلك كانوا يوصون قبل موتهم بنعيهم للناس نعيا يليق بهم، ويقوم بذلك ناع أو جملة نعاة. يركب الناعي فرسا ويسير ينعى الميت بذكر اسمه وتمجيد ليسمع بذلك القوم، قائلا: "نعاء فلان..." وترد كلمة "الناعي" و "النعاة" كثيرا في الشعر وفي النثر. وقد كان الجاهليون يستغلون نعى القتلى للتحريض عاى القتال والأخذ بالثأر، ويقال لذلك: "التناعي".
وقد نهى الإسلام عن "نعي الجاهلية"، وذلك لما كانوا يبالغون من النداء بموت الشخص وذكر مآثره ومفاخره ورثاءه رثاء يتجاوز الحد.

(1/2651)


--------------------------------------------------------------------------------

والولولة والنياحه على الميت من النقاليد التي تشدد فيها أهل الجاهلية وكانت عندهم سمة من سمات التقديس. ولهذا كان أهل الجاه والشراف يستأجرون النائحات للنياحة على الميت في بيته وخلف نعشه إلى القبر وفي مأتمهه، ويبالغون في ذلك تبعا لمننرلة المتوفى. وتلك عادة متبعة عند غيرهم أيضا، فقد كان العبرانيون يستاجرون النادبات ليندبن الموتى. كما كان الرومان يتبعون هذه السنة.
وكلمة "الرثاء" من الكلمات الجاهلية وهي تعني بكاء الميت وتعديد محاسنه ونظم الشعر فيه، ويقال للمراة النواحة، والتي ترثي بعلها أو غيره من الأقارب والأعزاء ممن يكرم عندها "الرثاءة" و "الرثاية". وأما "المناحة" فهي إجتماع النساء في مناحة لاظهار حزنه على الميت. ويقال للاجتماع نياحة أيضا. والكلمة من الكلمات الجاهلية كذلك. ويفهم كثير من الناس من كلمة "مأتم" المصيبة واظهار الحزن والنوح والبكاء،وليس هو كذلك، وإنما "المأتم" في عرف أهل اللغة المجتمع يجتمع فيه النساء في حزن أو فرح في خير أو شر، ويطلق على اجتماعات الرجال والنساء.
وفي الشعر الجاهلي أبيات يحث فيها الشعراء أهلهم ويوصونهم بالبكاء وبالنوح عليهم إذا -ماتوا. قصد ذكروا أن طرفة بن ا لعبد خاطب ابنة أخيه بهذا البيت: ???فإن مت فانعيني بما أنا أهله=وشقي علي الجيب يا ابنة معبد وذكروا أن الشاعر حازم بن أبي طرفة الحارث بن قيس الشداخ الكناني، وهو شاعر جاهلي أوصى ابنته لما شعر بدنو أجله بأن تبكي والدها وأن تندبه وتذكر محامده وفعاله، وذلك في هذين البيتين: بنية إن الموت لا بد لاحق بشيخك ماضي الانام المودع
فإن قمت تبكيني فقولي أبوالندى ومأوى رجال بائسين وجوع
أما الشاعر لبيد فقد أوصى ابنته بهذه الوصية لما حضرته الوفاة: تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما وهل أنا إلا من ربيعة أومضر?
فقوما وقولا بالذي تعلمانه ولا تخمشا وجها ولا تحلقا شعر

(1/2652)


--------------------------------------------------------------------------------

وقولا: هو المرء الذي لا صديقه أضاع ولا خان الأمن ولاغدر
وهي وصية فيها تعقل واقتصاد بالنسبة إلى طلبات غيره ممن كان يرى البكاء والنياحة وخمش الوجوه وحلق الشعور وإظهار أكثر ما يمكن من مظاهر الحزن والتوجع والتألم وأمثال ذلك، هي سيماء من سيماء التقدير والتعظيم والاحترام للميت بل للاحياء من اله وأقربائه أيضأ، لأنها دلالة على شدة تألمهم لذهاب فقيدهم، وعلى انهم لا يبالون في الإنفاق في شيء حتى في إيلام أنفسهم وتوجيع أجسامهم وهلاكهم في سبيله، وانهم كرماء لا يبالون في البذل في سبيل من يفتقدونه. وما كان لبيد، ليقنع بهذا المأتم لو كان على رأي أهل ألجاهلية. فمأتمه هذا مأتم بارد لا يليق بمقام رجل جاهلي، ولكنه كان مسلما، دفعه إسلامه على القناعة في مأتمه وعلى الاكتفاء بهذا القليل. فقد ورد في الحديث " إن الميت ليعذب ببكاء أهله " وأن الرسول قال: " ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية "، وانه " بريء من الصالقة والحالقة والشاقة "، وانه قال: "اثنتان في الناس هما بهما كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت" إلى غير ذلك من أحاديث تنهى عن هذه المظاهر، التي هي في نظر الإسلام من سيماء أهل الجاهلية.
ويصحب البكاء شق الجيب وتعفر الرأس بالتراب واجتماع النسوة اياما لندب الميت وذكر مناقبه. تقوم بذلك نادبات ممتهنات أو غيرهن ممن رزقن موهبة القول في مثل هذه الأحوال من أفراد الأسرة أو القبيلة أو الحي أو القرية. وفي بيت ل "طرفة بن العبد" نجده يوصي بنعيه بما يستحقه وبشق الجيب عليه. وقد يمتد نعي الميت ورثاؤه حولا كاملا، وهي مدة عزاء أهل الجاهلية. فإذا انتهى الحول وقد بكوه البكاء الذي استحقه الميت عذر أقرباؤه عن الإستمرار في بكائه إلا في المناسبات. قال لبيد لابنتيه، لما حضرته الوفاة: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

(1/2653)


--------------------------------------------------------------------------------

وتعرف التي ترفع صوتها بالنياحة ب "الصالقة". وأما التي تحلق شعرها عند نزول المصيبة فيقال لها "الحالقة". وأما التي تشق جيبها، فيقال لها "الشاقة". ويقال لتعديد النادبة بأعلى صوتها محاسن الميت النادبة ولعملها الندب. والظاهر أن الندب كان خاصا بالنساء، وإن وردت كلمة "نادب" عند اللغوبين. وقد نهى الإسلام عن "الصلق"، ورد في الحديث: "ليس منا من صلق أو حلق أوخرق ". أي ليس منا من رفع صوته عند الصيبة وعندالموت. ويدخل فيه النوح أيضا. و "السالقة"، هي بمعنى "الصالقة"، وهي لهجة ولا شك من لهجات القبائل، وقد وردت قي رواية أخرى للحديث المذكور أيضا.. ولطم الخدود ونهشها وشق الجيوب وذر التراب أو الرماد أو وضع الطين على الرأس والخدود عادة لا ينفرد بها العرب وحدهم، بل هي موجودة عند غيرهم من الأمم أيضا. وفي التوراة آيات تشير اليها كلها وتعدها من دلائل الحزن والأسى الشديد والتوجع على الميت. وهي كلها مذكورة فيها من البكاء والنحيب على الميت إلى ذر الرماد والتراب أو وضع الطين على الرأس الى شق الجيوب ولطم الصدر والخدود.
وليست عادة استئجار النادبات بعادة خاصة بالعرب الجاهليين،فقد كان العبرانيون يستأجرون النادبات كذلك ليندبن الميت، وقد أشير إلى ذلك في التوراة،ولعلها من العادات السامية القديمة المعروفة عند بقية إلساميين.
ويقال لمد الصوت بالنحيب "النقع" " واما مد اللسان بالولولة ونحوها، فيقال له "اللقلقة".
ويحترم الجاهليون الموت والميت فكانوا يقومون إذا مرت بهم جنازة، ويقولون إذا رأوها: "كنت في أهلك مائتا مرتين". أما أهل الميت وأقرباؤه وأصدقاؤه فكانوا يسيرون أمام الجنازة وخلفها الى المقبرة.

(1/2654)


--------------------------------------------------------------------------------

وتعفر النساء رؤوسهن بالتراب وبالرماد وبالطين ويلطمن خدودهن بأيديهن، كما كن يلطخن رؤوسهن بالطين ويسرن مع الجنازة إظهارللحزن والجزع على الفقيد. وترافقهن النادبات والمولولات، يندبن الميت ويولولن عليه يسرن حافيات مبالغة في إظهار الحزن.
وكانت العرب لا تندب قتلاها ولا تبكي عليها حتى يثأر بها، فإذا قتل قاتل القتيل، بكت عليه وناحت.
ويتبين من حديث "عمرو بن العاص" ان من عادات الجاهليين حمل النار مع إلجنازة تصطحبها اصطحاب النائحة لها، وقد أباح "عمرو" لأهله نحر جزور عند قبره لتوزيع لحمها على المحتاجين، وأن يقيموا حول قبره حتى يستأنس بهم، وينظر ماذا يراجع به رسل ربه. ونجد مثل ذلك في خبر يذكر ان "أبا موسى الأشعري" لما حضره الموت دعا ابنه، فقال: " أنظروا إذا أنا مت فلا تؤذنن بي أحدا ولا يتبعني صوت ولا نار ". ويدل ذلك على ان عادة حمل النار مع الجنازة بقيت زمنا في الإسلام.
ويؤخذ من شعر للأفوه الأودي ان الجاهليين كانوا يغسلون موتاهم قبل دفنهم. وذكر "اليعقوبي"، انه لما مات عبد المطلب "أعظمت قريش موته وغسل بالماء والسدر. وكانت قريش أول من غسل الموتى بالسدر، ولف في حلتين من حلل اليمن قيمتها ألف مثقال ذهب وطرح عليه المسك حتى ستره، وحمل على الأعواد". وسبب ذلك على ما يقوله علماء اللغة أن البوادي لا جنائز لهم، فهم يضمون عودا إلى عود ويحملون الميت عليها الى القبر وذكر انه أراد بقوله: ولقد علمت سوى الذي نبأتني أن السبيل سبيل ذي الأعواد

(1/2655)


--------------------------------------------------------------------------------

لو أغفل الموت احدا لأغفل ذا الأعواد، وأنا ميت مثله. وذو الأعواد الذي قرعت له العصا، "غوي بن سلامة الأسيدي"، أو هو "ربيعة بن مخاشن الأسيدي"، أو هو "سلامة بن غوي" على اختلاف في ذلك. قيل كان له خرج على مضر يؤدونه اليه كل عام فشاخ حتى كان يحمل على سرير يطاف به في مياه العرب فيجبيها. وفي اللسان: قبل هو رجل أسن، فكان يحمل على محفة من عود، أو هو جد لأكثم بن صيفي المختلف في صحيته. وهومن بني أسيد بن عمرو بن تميم. وكان أعز أهل زمانه، فاتخذت له قبة على سرير، ولم يكن يأتي سريره خائف إلا أمن، ولا ذليل إلا عز ولا جائع إلا شبع وهو قول أبي ****ة. وبه فسر قول الأسود بن يعفر النهشلي.
ويحمل الموتى على "الحرج" أيضا. والحرج خشب يشد بعضه إلى بعض ثم يحمل فيه الموتى.
وللعلماء آراء في الجنازة. ذكر بعض منهم ان الجنازة من الجنز بمعنى الستر، وذكر بعض آخر ان اللفظة من ألفاظ النبط، وتعني جنز في لغتهم الإخفاء، ويقصدون بالنبطية لغة بني إرم. معنى جملة "جنز الميت" عندهم، وضع الميت على السرير وصلاة الكاهن عليه. وذكر بعض العلماء ان الجنازة بالكسر، الميت وبالفتح السرير، وذكر بعض آخر العكس. وذهب فريق آخر إلى ان الجنازة الميت نفسه، لذلك لا تكون جنازة حتى يكون ميت، وإلا، فهو سرير أو نعش. فالجنازة على هذا الرأي، الميت محمولا على سرير أو نعش، أو تابوت في الاصطلاح الحديث. وبهذا المعنى يعبر عن الجنازة في الوقت الحاضر.
وصلاة الجنائز، هي الصلاة التي تقام على جنازة الميت، أي الميت وهو في تابوته، ليرسل إلى القبر، وهي صلاة أقرها الإسلام، وقد أفرد لها باب في كتب الحديث والفقه يعرف ب "كتاب الجنائز".

(1/2656)

admin
12-31-2010, 08:13 PM
والعادة عند أكثر الساميين السير بسرعة في الجنازة. فيسرع المشيعون الذين يسيرون مع الجنازة إلى موضع القبر في مشيهم للوصول بالجنازة بسرعة اليه. وقد أشير إلى هذه العادة في كتب الحديث. والظاهر ان لطبيعة الجو دخل في ظهور هذه العادة.
ويقال لتهيئة الميت ودفنه في القبر "تجهيز الميت". ويقوم الأبناء والأقرباء بوضعه في لحده. وإذا كان الميت عزيزا كريما في قومه سيدا رئيسا اشترك الرؤساء في إدخاله القبر، وقد يتنافسون في نيل هذا الشرف، وقد يؤدي هذا التنافس إلى وقوع الشر بين المتنافسين، لأن تجهيز الميت ووضعه في لحده من علامات تقدير الميت وتعظيمه، ومن دلائل قرب من دخل القبر من الميت واتصالهم الوثيق به.
ويقال للميت عند وضعه في قبره: "لا تبعد"، أي انه وان ذهب عنهم سيكون دائما معهم وفي قلوبهم. ولعل هذا التفكير هو الذي حملهم على إخراج حصته مما كانوا يأكلونه ويشربونه يسمونها بأسم الميت، وعلى زيارة قبور الموتى والجلوس عندهم وضرب الخيام حولها، وعلى مناجاة صاحب القبر بذكر اسمه وتحيته، لأن روح الميت في رأيهم حية لا تموت. ولهذا السبب أيضا كانوا يسقونها بصب شيء من الماء على القبر، كما كانوا ينضحونه بالدم. وبهذا المعنى يفسر ما ورد في الشعر وفي النثر من سقي الغمام للقبر، ونزوله عليه، وما ورد من شرب الخمر على القبر وسكب بعضه عليه. وقد كان العبرانيون يخرجون حصة مما يأكلونه لتكون من نصيب الموتى. ويذكر أهل الأخبار ان الناس كانوا يسكبون الخمر على قبر "الأعشى" ب "منفوحة" اليمامة، وذلك لولعه بها وتقديرا لذكراه.

(1/2657)


--------------------------------------------------------------------------------

ويدفن بعض العرب الميت بملابسه، ويغلى رأسه. ويكفن بعضهم موتاهم ويدفنونهم مكفنين. ويذكر علماء اللغة ان من أسماء الكفن الجنن، واستشهدوا على ذلك ببيت للأعشى. وفي الحديث: "ان ثمود لما استيقنوا بالعذاب تكفنوا بالأنطاع وتحنطوا بالصبر، لئلا يجيفوا وينتنوا. يضعون الحنوط في أكفان الميت".كما وردت كلمة "أكفاني" في بيت لامرىء القيس، مما يدل على معرفة الجاهليين للكفن. وقد كان قدماء العبرانيين يدفنون موتاهم بملابسهم التي كانوا يستعملونها، أي كما كان يفعل قدماء الجاهليين، ثم كفن المتأخرون منهم موتاهم بكفن مكون من قماش أبيض مصنوع على الأكثر من الكتان على هيأة البرد اليماني يلف على جسم الميت، وربطوا الرأس بمناديل، كما ربطوا يدي الميت وقدميه برباط خاص، على النسق الذي أقر في الإسلام.
ويظهر من الأخبار الواردة عن تكفين رسول الله، أن أهل مكة أو الحجاز عامة كانوا يفضلون الأكفان السحولية، وهي أثواب بيض سحولية من كرسف، اي من قطن. وقد نسجت في "سحول"، وهي قرية باليمن منها هذه الثياب. وقد كره الإسلام تكفين الموتى بالمصيغات وغيرها من ثياب الزينة، كما كره التكفين بالحرير، بل حرم بعض العلماء التكفين فيه. وقد كان أغنياء الجاهلية يكفنون موتاهم بالألبسة الغالية، مبالغة منهم في تقديرهم لمنزلة ميتهم عندهم.
وقد ذكر "اليعقوبي"، أن "عبد المطلب" لف في حلتين يمانيتين ثمينتين وكانت البرود اليمانية مفضلة على غيرها في التكفين. وذكر أنه كان من المستحسن عندهم الإحسان في الكفن. ورويت أحاديث في تحسين الكفن. منها:" إذا كفن أحدكم أخاه، فليحسن كفنه".
وذكر أن "التحسيب"، بمعنى التكفين وان لفظة "محسب" بمعنى مكفن. وذكر ايضا التحسيب دفن الميت بالحجارة.

(1/2658)


--------------------------------------------------------------------------------

عند وضع الميت في قبره يقوم من يذكر محاسنه وأعماله، ثم يظهر حزنه وحزن الناس لفراقه، ويقال لذلك "الصلاة". وقد أطلق الإسلام على هذه وعلى الندب والأعمال الأخرى "دعوى الجاهلية"، ونهى عنها.
ويوارى الميت في حفرته ثم يهال التراب عليه. وإذا كان الميت من أصحاب الاسم والجاه فقد يجصص قبره ويبنى عليه، ويكتب على قبره اسم صاحبه وما يناسب المقام. وكثيرا ما نسمع بنحر الإبل أو عقرها على الفور لتبتل بدماء الإبل. ولا سيما إذا كان الهالك من سادات القبائل والأجواد. وإذا حلقت النساء شعورهن حزنا على الميت، وضعن شعورهن على القبر.
وقد اختلف العلماء في سبب عقرهم للابل على القبور، فقال قوم إنما كانوا يفعلون ذلك مكافأة للميت على ما كان يعقره من الإبل في حياته وينحره للأضياف. وقال قوم إنما كانوا يفعلون ذلك اعظاما للميت كما كانوا يذبحون للاصنام. وزعم بعض آخر أنهم انما كانوا يفعلون ذلك، لأن الإبل كانت تأكل عظام الموتى إذا بليت فكأنهم يثأرون لهم فيها. وقيل ان الإبل أنفس اموالهم، فكانوا يريدون بذلك أنها قد هانت عليه لعظم المصيبة، وقد نهى الإسلام ذلك بحديث: " لا عقر في الإسلام ".
وإذا وضع الميت في لحده، أهالوا التراب عليه، وقد ينظم الشعراء شعرا لهذه المناسبة ينشدونه على القبر اظهارا لحزنهم ولحزن الناس على فراقه.
وطريقة دفن الميت هي العادة الشائعة المعروفة بين الجاهليين، غير أن هناك من كان يوصي بحرق جثته وذر رماده في الهواء، أو بدفن الرماد في الأرض، وطريقة حرق الموتى ليست من العادات السامية أي من العادات المنتشرة بين الساميين إذ يرون أنها تنافي حرمة الميت وأحكام الآلهة. وكانوا إذا سبوا شخصا أو أرادوا به سوءا دعوا له بالحرق، أو قالوا له يا ابن المحروق.

(1/2659)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد وجد من فحص القبور التي عثر عليها خارج أسوار "مأرب" أن من الموتى من دفن على هيأة انسان نائم أي وضع متمددا في لحده، كما نفعل في موتانا وأن بعضهم لم يدفن على وفق هذه الطريقة، ولكن دفن قائما. وقد عثر في بعض هذه القبور على كتابات قصيرة، كما عثر فيها على رؤوس منحوته دفنت مع الميت، لعلها ترمز إلى رمز ديني، أو عقيدة من عقائدهم في الموت، أو تمثل الميت نفسه لتكون شاهدا عليه.
ولم نعثر على جثث في جزيرة العرب محنطة على طريقة المصريين،والذي نعرفه الآن ان الجاهليين كانوا يضعون الحنوط في أكفان الميت وملابسه ليطيب به جسمه وليحفظه مدة طويلة. ويظهر من التفسير الذي يرويه علء اللغة لجملة "عطر منشم" الواردة في شعر "زهير بن أبي سلمى"، ان "خزاعة" وربما غيرها كانت تشترى "الكافور" لموتاها. وقد كانت قريش تضع الكافور مع الميت، وهي عادة استمرت في الإسلام أيضا.
ويقال: إن منشما امرأة كانت تبيع الحنوط في الجاهلية، فقيل للقوم إذا تحاربوا: دقوا بينهم عطر منشم، يراد طيب الموتى، مما يدل على ان تطييب الميت عادة جاهلة قديمة، ويقال لطيب الموتى الحنوط. وقد طرح المسك على عبد المطلب لتطييبه، "وكل ما يطيب به الميت من ذريرة أو مسك أو عنبر أو كافور هو قصب هندي أو صندل مدقوق، فهو كله حنوط".

(1/2660)


--------------------------------------------------------------------------------

وقيل ان منشما، هي ابنة "الوجيه" العطارة بمكة من حمير، وقيل من همدان، وقيل من خزاعة وقيل من جرهم. وكانت خزاعة وجرهم إذا أرادوا القتال وتطيبوا بطيبها كثرت القتلى فيما بينهم. وذكر انهم كانوا إذا قصدوا الحرب غمسوا أيديهم في طيبها وتحالفوا عليه بأن يستميتوا في الحرب ولا يولوا أو يقتلوا. وقال "الكلبي": " جرهمية. وكانت جرهم إذا خرجت لقتال خزاعة خرجت معهم فطيبتهم فلا يتطيب بطيبها أحد إلا قاتل حتى يقتل أو يجرح. وقيل امرأة كانت صنعت طيبا تطيب به زوجها، ثم انها صادقت رجلا وطيبته بطيبها، فلقيه زوجها فشم ريح طيبها عليه فقتله. فأقتتل الحيان من أجله. قال الكلبي: ومن قال منشم بفتح الشين فهي امرأة كانت تنتجع العرب تبيعهم عطرها فأغار عليها قوم من العرب فأخذوا عطرها، فبلغ ذلك قومها فاستأصلوا كل من شموا عليه ريح عطرها. وقد ضرب بها المثل في الشر، فقالوا: أشأم من عطر منشم".
وورد أن "المنشم" عطر شاق الدق أوشيء يكون في قرون السنبل، يسميه العطارون "روقا". وهو سم سوعة. وقيل: ثمرة سوداء منتنة الريح، أو حب البلسان.
ويجعل الحنوط في مرافق الميت وفي بطنه وفي مربع رجليه ومآبضه ورفغيه وعينيه وأنفه وأذنيه. يجعل يابسا.

(1/2661)


--------------------------------------------------------------------------------

ونظرا لوجود لفظة "حنط" في العربية في المعنى الذي نفهمه من التحنيط، أي حفظ الجسد، ولاستعمال الجاهلين "الحنوط" في تجهيز موتاهم، وهي موإد عطرة ذات رائحة طيبة ولورود اللفظة في العبرانية وفي السريانية "حونطو"، نرى أن نوعا من التحنيط كان معروفا عند الساميين. وان لم يكن بالشكل الذي كان عند المضربين. ولا يستبعد أن يكون اهل الجاهلية قد مارسوا التحنيط ايضا، وذلك بالنسبة إلى أغنيائهم واصحاب الثراء منهم. ويؤيد هذا الاحتمال ما رواه اهل الأخبار من عثور الجاهليين وبعض الإسلامين على جثث عادية كانت محافظة على هيأتها حتى انها تبدو وكأنها دفنت بالأمس، وما رووه من عثورهم على نفائس وأواني وكتابات، إلى جانب تلك الجثث. مما يبعث على الظن بان تلك الجثث كانت محنطة بطريقة ما.
ولم تستعمل التوابيت المصنوعة من الحجارة في نجد والحجاز. أما في يطرا وتدمر فقد اتخذت التوابيت المصنوعة من الحجر والنواويس.
والتابوت، هو الصندوق الذي يوضع فيه الميت. ويصنع من الخشب والحجر. أو من مواد أخرى. وهو "تبا" فى العبرانية. وقد ذكر بعض علماء اللغة، ان "التابوه" لغة في التابوت، والتابوت في الأصل "صندوق من الخشب وقد أشير اليه في القرآن الكريم ".
وقد عرف العرب لفظة أخرى استعملوها في معنى"التابوت" هي لفظه "إران"، ويراد بها صندوق من خشب يوضع الميت فيه. وقد ذكر بعض علماء اللغة ان ان الإران تابوت يضع النصارى فيه أمواتهم ويدفنونه مع الميت. واللفظة عبرانية، وقد وردت جملة "حمل على الإران"، أي حمل في التابوت. وذكر علماء اللغة ان "الإران" الجنازة، وخشب يشد بعضه إلى بعض تحمل فيه الموتى، وسرير الموتى، وتابوت الموتى.

(1/2662)


--------------------------------------------------------------------------------

والعادة ان تذكر مناقب الميت عند قبره في أثناء الاحتفال بدفنه إذا كان عظيما سيدا، وأن يعجل بدفنه في مقبرة القبيلة أو القرية أو في بيته. وقد كان من عادتهم دفن الميت في البيوت أو على مقربة منها. أما الأعراب،فقد كانوا يدفنون موتاهم في المنازل التي يكونون فيها، وإذا كانوا في أثناء رحيلهم دفنوهم على قارعة الطرق ولا سيما على المرتفعات المشرفة عليها.
ويعجل العرب بدفن موتاهم. والتعجيل بدفن الميت من الضرورات التي اقتضتها طبيعة الجو. فجو جزيرة العرب لا يساعد على بقاء جسد الميت مدة طويلة، وإلا تعرض للفساد، ولحق الأذى به ولهذا صار من الاستحباب التعجبل بدفن الميت ليس في العرف حسب، بل من الناحية الدينية كذلك.
ويحلق بعض الجاهليين شعر الرأس كله أو بعضه ويرمونه على القبر. وحلق شعر الرأس أو جز الناصية أو حلقها أو حلق الضفيرتين من التقاليد القديمة. وكانوا يقومون بذلك إكراها وتعظيما لشأن الأرباب، وعند الحج إلى بيوت الآلهة، فيرمون يالشعر أمام الأصنام تعظيما لها وبيانا عن مقدار احترامهم لها حتى ضحوا بأعز رمز لديهم في سبيلها، ولهذا كان لرمي ضفائر شعر الرأس عند القبر أهمية خاصة في نظر الجاهليين.
وكان في روع الأمم القديمة ان الشعر للفرد قوة وحياة، فحلقه أو جز جزء منه، معناه تضحية كبيرة وصلة تربط الميت بالحي.
القبر
ويدفن الموتى عادة في حفر تحفر يقال لها: قبر، وجدث، ومقبر،ووجر، ورمس، وجنن. أما في "بطرا"، وفي بعض المناطق الجبلية والصخرية، فقد نقرت المقابر في الصخور، فصنعت على هيأة حجر وضعت جثث الأموات فيها، كما استعملت المقابر المرتفعة في مدينة "تدمر"، وذلك بتشييد مبان وضعت فيها جثث الموتى في حجر صغيرة تعمل في تلك الأبنية.

(1/2663)


--------------------------------------------------------------------------------

واستعملت الكهوف مقابر كذلك. ففي المناطق الصخرية توجد كهوف طبيعية سكنها الإنسان، واتخذها مقبرة له. وذلك بدفن الأموات فيها وسد بابها. وقد عثر الباحثون والسياح على عدد منها.
والقبر هو التسمية المعروفة الشائعة في أغلب أنحاء جزيرة العرب، وقد وردت في نص النمارة، وجمعها القبور. ذكر علماء اللغة ان "القبر" مدفن الإنسان وان "المقبر" موضع القبر. وأما "المقبرة"، فهي موضع القبور. وقد وردت لفظة "مقبر" و "مقبرت" أي مقبرة، و "مقبرتم " أي "مقبرة" في حالة التنكير في نصوص المسند.
وأما "الجدث" فالقبر، والمجمع أجداث وأجدث، وهو قلة. وورد "الجدف" في بعض الروايات.
.وأما الوجر، فهو كالكهف عند علماء اللغة. فهو يؤدي معنى قبر على سبيل المجاز. وقد ورد في نص مدون بالمسند يعود إلى القرن السادس للميلاد، عثر عليه في العربية الشرقية. وهو شاهد قبر رجل اسمه "ايليا".
ويذكر علماء اللغة، ان الجنن: القبر، سمي بذلك لستره الميت، وأيضا الميت لكونه مستورا فيه، وأيضا "الكفن" لأنه يجن الميت، أي يستره، فالأصل في الكلمة الستر، ويجمع على أجنان.
وقد وردت لفظة "ضرح"، أي "ضريح" بمعنى قبر في اللغة الصفوية. ولكن من الجائز أن تكون قد وردت فيها بالمعنى المفهوم من الكلمة في عربيتنا. كما وردت فيها ألفاظ أخرى بمعنى قبر، مثل: "نفست" أي، "نفس" و "مقل"، بمعنى "مقيل"، أي موطن الراحة ومحلها، و "نيت". ويظهر ان لفظة "نفست" قد أخذت من أصل إرمي هو "نفسا" "نفشا".
وقد وردت لفظة "نفش" و "نفس" في النصوص النبطية واللحيانية والسبئية وفي نصوص دونت بلهجات عربية أخرى. ولعل للفظة "نيت"، علاقة ب "منوت" و "منايا" و "منون"، وهي تعني في الصفوية: المسافر والسفر أي في معنى أدبي لطيف، له صلة بالموت، باعتبار ان الميت مسافر من هذا العالم إلى عالم آخر، وان القبر هو مستقر ذلك السفر.

(1/2664)


--------------------------------------------------------------------------------

ويلحد أهل الحجاز لحدا في القبر لوضع الميت فيه. ويقال للذي يلحد القبر ويضع الميت فيه "اللاحد". ويقال للذي يعمل الضريح "الضارح". وكان من عادة الجاهليين رجم القبور أي وضع أحجار فوقها، وذلك على سبيل التقدير والتعظيم للميت. فإذا زار قريب أو صديق قبر قريب أو صديق له رجمه، أي وضع أحجارا فوقه. والرجام الحجارة. والرجمة أحجار القبر ثم يعبر بها عن القبر وجمعها رجام ورجم. وقد ورد في كتب الحديث ان الرسول قال: لا ترجموا قبري، وان "عبدالله بن مغفل المرني" قال: "لا ترجموا قبري، أي لا تجعلوا عليه الرجم. وأراد بذلك تسوية القبر بالأرض"، وعدم نصب أحجار فوقه ليظهر واضحا شاخصا.
وتؤدي لفظة "رجم" و "رجمت" و "هرجم" أي "الرجم"، معنى قبر أيضا. وترد بكثرة في الكتابات الصفوية. ويراد بها الآحجار التي تكوم فوق قبر. والعادة عندهم أن الشخص الذي يمر على قبر ما، أو يزور قبر قريب له، يضع حجرا او أحجارا فوق القبر، تكريما لصاحبه وتخليدا لذكره، حتى وان لم يعرفه، لأن ذلك من باب احترام الموت والميت. فالرجام اذن، هي قبور غطيت بأحجار.
وقد عثر على عدد من الرجام المكتوب الذي اتخذ شواخص للقبور فيه اسم الميت ودعاء على من يحاول نقل الرجمة من محلها أو على من يحاول تغيير معالم القبر وازللته أو على من يريد انحاذه برا له أو لأحد أفراد أسرته أو يسفن أي أحد فيه. وقد أفادتنا هذ الشه س اهد في معرفة لهجة الفوم وفي بعض الأمور التي لها صلة بالأصنام وبالدين.
وقد استعملت اللحيانية لفظة "قبر" ومنها "هنقبر"، أي "القر"، للتعبير عن القبر، كما استعملت لفظة أخرى هي "مثبر" "م ث ب ر" ومنها "همثبر"، أي "المثبر" في معنى قبر. وللثبور بالطبع صلة بالموت. وتعبر لفظة "كهف" في هذه الهجة عن هذا المعنى أيضا.

(1/2665)


--------------------------------------------------------------------------------

ويقال للقبر المسوى مع الأرض "رمس" فإذا كان مرفوعا عن الأرض فهو قبر مسنم. ويظهر أن الجاهليين كانوا يسنمون قبورهم. وقد ورد في حديث "ابن مغفل": "ارمسوا قبري رمسا". أي سووه بالأرض ولا تجعلوه مسنما. والرمس تراب التر والمر مس موضع القبر.
ووردت لفظة "مقبر" في الكتابات الصفوية، بمعنى "القبر"، أي الموضع الذي يقبر به. وهم يرصفون القبر، ويعبرون عن ذلك بكلمة "ارصف". كما يرجمونها بالرجم ويعتبرون ذلك من امارات التقدير والاحترام.
وعرفت مقابر النصارى ب "الناووس". وقد شلك بعض علماء اللغة في أصلها، فذهب الى احتمال، كونها من أصل أعجمي، وهي من أصل يوناني، ومعناها فيها: حجر منقور لدفن ميت، كما أطلقت على مقبرة النصارى وعلى المعبد والكنيسة،لأن كثيرا ما كان النصارى القدامى يقبرون موتاهم في الكنائس. وقد حارب الإسلام عادة أهل الجاهلية في تسنيم القبور ورفعها عن سطح الأرض، وشدد على ذلك في الحديث، وجعلت القبور المسنمة في حكم الأوثان. ولا بد أن يكون لهذا التشديد سبب، إذ لا يعقل ورود تلك الأحاديث في موضوع طمسها بغير داع ولا أساس. وسبب ذلك هو تقديس أهل الجاهلية لتلك القبور تقديسهم الأوثان وتقربهم اليها، وهو ما لا يتفق ومبادىء التوحيد في الإسلام.
ونهى الإسلام عن تكليل القبور. "أي رفعها تبنى مثل الكلل، وهي الصوامع والقباب التي تبنى على القبور. وقيل: هو ضرب الكلة عليها. وهي ستر مربع يضرب على القبور". وقد كانوا يبنون البيوت والأبنية فوق القبور. وقد نادى الشاعر "لبيد" باني قبر عزيز له بأن يضعف من سمك القبر وأن يرفع الحائط أو السقف، حتى يكون هناك متسع من فضاء فوق القبر. وذكرأنه كانت على قبر " أبي أحيحة" قبة مشرفة.

(1/2666)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ورد في شعر "بشر بن أبي خازم الأسدي" ما يفيد بناء أضرحة فوق القبور، ورفع القبر عن الأرض حتى يكون كسنام الجمل بارزا ظاهرا. وقد عبر عن بناء القبر ورفعه عن الأرض وبناء ضريح عليه ب "ارتفد الضريح" والضريح في تعريف علماء اللغة، الشق في وسط القبر، وقيل القبر كله أو قبر بلا لحد. وذلك لأنهم يجعلون اللحد في جانب القبر.
ويظهر أن يهود الحجاز ونصاراه كانوا قد بالغوا في ضرب القباب والأضرحة على قبور موتاهم وفي تعظيم قبور أحبارهم وقسسهم، حتى تحولت قبورهم إلى اضرحة ومزارات. تزار في المناسبات وقد دفنوهم في المعابد. لذلك نهي عن التشبه بفعلهم في الإسلام. وأشير إلى عملهم هذا في القران الكريم وفي كتب الحديث. وقد وضع اليهود والنصارى شعار اليهود والنصارى على قبورهم لتمتيزها عن مقابر الوثنيين.
ويقال للحائر الذي يحيط بالقر "الودع". وقيل: الودع القبر، أو الحظيرة حوله، أو المدفن يحير به حائر.
وتعرف علامات القبر ومعالم حدوده به "الآيات"، والاية هي العلامة. وقيل للرجمات التي وضعت على القبر إلأحجار والأطباق والصفيح والصفائح والصفاح. ويراد بالصفائح الحجارة العريضة التي توضع على القبر لتغطيته.
وكان منهم من يضع الجريد على إلقبر، ومنهم من يضعه داخل القبر. وقد تغرز الجريدة في القبر فيكون رأسها بارزا فتكون علامة تشير إلى القبر. وذكر إذ رسول الله أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين، ثم غرز في كل قبر واحدة. ولا زال الناس يتبعون هذه العادة. وقد استعملوا الأذخر والحشيش في قبورهم كذلك. كانوا يضعون الأذخر في الفرج التي تكون بين اللبنات،ويضعون الحشيش تحت الميت وفوقه.
وعثر في مواضع من جزيرة العرب على مقابر دعاها الباحثون: "تمولي" tamuli لأنها على شكل تلال أو هضاب. وقد اتخذت مدافن. منها "تمولي" البحرين. وسأتحدث عنها في أثناء حديثي عن الفن والعمارة عند الجاهليين.

(1/2667)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عثر المنقبون على مقابر جاهلية عامة، على نحو ما نجده من المقابر العامة في هذا الوقت. وقد نبش عدد منها في الإسلام، لاتخاذها أملاكا أو مساجد، كما حول بعضا منها الى مقابر اسلامية، دفن فيها المسلمون بعد أن أزيلت ونبشت قبور الجاهليين. وأشير اليها في كتب الحديث. ويظهر ان بعضا منها كان ذا أضرحة وقبور مرتفعة عن الأرض.
ولا يدفن في المقابر إلا أفراد العائلة التي تمتلكها، أو من يؤذن بدفنه فيها. ويعد الإذن بدفن غريب في مقبرة خاصة من علامات التقدير والاحترام بالنسبة للمتوفى الغريب. وقد تحجز مناطق من مقبرة عامة لتكون مقبرة خاصة،فلايسمح لأحد بالدفن فيها إلا لمالكها. وقد تسور ويعمل لها باب، وقد يقام ضريح أو بناء ضخم، مع ان المقبرة هي جزء من مقبرة عامة. ولا تزال هذه العادة متبعة وقد تشترى، الأرض ممن يتولى أمر المقبرة العامة. ويحافظ أهل المقابر الخاصة على مقابر أسرهم فيتعهدونها بالرعاية والعناية وبإدامتها على خير وجه. وهي تزار في المناسبات تقربا إلى اصحاب القبور، لئلا تنقطع صلتهم بموتاهم. وورد ان بعضا من الجاهليين كان يضرب قبة على قبر عزيز له مدة سنة"للاستمتاع بقربه وتعليلا للنفس وتخييلا باستصحاب المألوف من الأنس ومكابرة للحسن. كما يتعلل بالوقوف على الأطلال البانية ويخاطب المنازل الخالية".
وتراعى القرابة والمنزلة في دفن الموتى في المقابر فتدفن الزوجة على مقربة من زوجها في الغالب والأبن على مقربة من أبيه "، وهكذا فكانهم يريدون بذلك جمع شمل العائلة، وإعادتها إلى ما كانت عليه يوم كانوا أحياء. وإذا كان المتوفى عظيم وذا مكانة ومنزلة حرص، أقرب الناس اليه من أصحابه على نيل شرف الدفن على مقربة منه عند دنو أجلهم. وقد تتحول أمثال هذه المقابر الى مزارات، خاصة إذا كانت مقابر كهنة وسدنة ورجال دين.

(1/2668)


--------------------------------------------------------------------------------

أما قبور الأعراب والفقراء والسواد، فهي بسيطة، حفرة تحفر في الأرض يوارى فيها الميت، ثم يهال عليه التراب أو الرمال أو الحجارة حسب طبيعة الأرض فتكون قبر ذلك الميت. وقد يسو ى القبر بالأرض فلا تظهر آثاره ولاتبرز معالمه عن معالم القشرة، وقد يرفع التراب بعض الشيء ليكون علامة عليه.وقد توضع عصي أو أحجار فوقه لتكون إشارة تشير إلى مكانه. وليس في إمكان الأعراب النازلين في البوادي البعيدة عن الحضر، فعل غير ذلك، ولا سما إذا كان الموت قد وقع في حين نزول القبيلة في أرض جاءت اليها في الموسم لترعى العشب أو في أثناء تنقل فإنها لا تستطيع أن تصنع قبرا لميتها غير هذا القبر.
ومدة العزاء عند الجاهليين حول، أي سنة لا يترك أهل الميت فيها ذكرى فقيدهم، فيندبونه في أوقات معينة ويبكون عليه عند قدوم قادم اليهم، وينحرون لذكراه ويكرمون من يأتيهم لتعزيتهم. وقد كانت مدة العزاء حول عند العبرانيين أيضا وعند غيرهم من الساميين والشعوب الأخرى، يقوم فيها أبناء الميت أو بناته بتلاوة صلوات خاصة في خلالها عاى الميت ليرحمه الله وليغفر له وليسعد روحه. وتكاد هذه المدة تكون امدا للعزاء ولذكرى الميت عند كل الشعوب إلى هذا اليوم.
وأما مدة المناحة فهي في العادة سبعة أيام. فلما مات "زيد الخيل"، الشاعر الفارس، وهو في طريقه إلى دياره، أقام "قبيصة بن الأسود" المناحة سبعة أيام. ولا تزال هذه المدة مرعية في العراق، حيت تنوح وتبكي النسوة فيها موتاها، ويكون اليوم السابع هو ختام العزاء. أما الرجال، فيقيمون العزاء ثلاثة أيام، ويسمونه "الفاتحة" في الإسلام بالعراق في هذه الأيام. ويجلس أقرباء الميت وأهله عند العبرانيين سبعة أيام في البيت حزنا عليه وتقبلا لتعازي الناس. وقد ورد أن مدة النياحة قد تستمر عند الجاهليين فتكون حولا.
ملابس الحزن

(1/2669)


--------------------------------------------------------------------------------

ويلبس أهل الميت وأقرباؤه ملابس الحزن مدة العزاء أو حولا كاملا. واللونان الأبيض والأسود هما اللونان اللذان تتخذ منهما الملابس في الحزن، فقد لبسوا الملابس البيض، ولبسوا الملابس السود، وما زال اللونان شعاري الحزن حتى الان. فاللون الأبيض هو شعار الحزن في الحجاز والشام، أما الأسود، فهو شعار الحزن في العراق.
وحداد المرأة على زوجها حداد صعب عسير، عليها في هذه المدة الامتناع عن الزينة والطيب امتناعا تاما، ويقال لها في هذه الأثناء "الحادة" لأنها حدت على زوجها: وفي خلال الحداد يمتنع الخطاب من خطبتها والطمع فيها حتى تنتهي منه.
ويفهم من بعض رايات الأخباريين أن من عادة الجاهليين حجز المرأة عند وفاة زوجها في بيت صغير، قد يكون خيمة أو بناء يسمونه "الحفش"، لتقضي فيه مدة العدة. فإذا كانت في هذا البيت، لبست شر ثيابها، وامتنعت عن الطيب وعن تزيين نفسها مدة عام. فإذا انتهت المدة افتضت عدنها "بمس الطيب أو بغيره كقلم الظفر أو نتف الشعر من الوجه أو دلكت جسدها بدابة أو طير، ليكون ذلك خروجا عن العدة. أو كان من عادتهم أن تمسح قبلها بطائر، وتنبذه فلا يكاد يعيش.
وتصف رواية أخرى دخول المرأة الحفش وخروجها منه على هذه الصورة: " كانت إذا توفي زوجها دخلت حفشا ولبست شر ثيابها حتى تمر بها سنة ثم تؤتى بدابة، شاة أو طير فتفتض بها، فقلما تفتض بشيء إلا مات. ثم تخرج فتعطي بعرة ترمى بها...". وجاء: و "كانت لا تغتسل ولا تمس ماء ولا تقلم ظفرا ولا تنتف من وجهها شعرا، ثم تخرج بعد الحول بأقبح منظر. ثم تفتض بطائر تمسح به قبلها وتنبذه فلا يكاد يعيش ".

(1/2670)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن عادات بعض الجاهليين ضرب القباب على قبور موتاهم أياما أو أشهرا قد تبلغ عاما، يقيم فيها نساء الميت أو ذوو قرابته، ليجاوروا الميت، وليستقبلوا فيه من يفد لزيارة القبر. واعتقادهم بإحساس روح الميت بوجودهم هناك وبمجيئهم إلى القبر لمؤانستهم له هو الذى حملهم، ولا شك، على ضرب هذه القباب وعلى مجاراتهم لتلك الأجداث. ومن هذه القباب المؤقتة ظهرت الأضرحة الثابتة ذات القباب السامقة الشامخة، كما أن من المعابد المتنقلة، أي الخيام المقدسة، نشأت المعابد الثابتة عند العبرانيين وعند الجاهليين وعند غيرهم من الشعوب.
ومن عادة الجاهليين إسالة دم الذبائح على القبر أو تضريحه بتلك الدماء. فيعقر على قبور الموتى وعند إهالة التراب على الميت، وقد يعقر على القبر كل عام وفي أثناء المناسبات إذا كان الميت من السادة المشهورين المعروفين يالخصال الحميدة كالشحاعة والكرم. وفي الشعر الجاهلي والأخبار أسماء أناس كانوا من المشاهير في ايامهم، جرت العادة بأن تذبح الذبائح عند قبورهم إكراما لهم. وقد بقيت هذه العادة الجاهلية خالدة حتى اليوم مع إبطال الإسلام لها بحديث: "لا عقر في الإسلام ". وليس من الضروري أن يكون أصحاب العقائر من ذوي قرابة صاحب القبر أو من قبيلته. ومن هذه القبور قبر "ربيعة بن مكدم" من "بني فراس بن غنم بن ماللك بن كنانة". وكان الناس يعقرون على قبره. ويظهر من شعر لحسان بن ثابت قاله لما مر بقبره، أن قبره كان قبرا مبنيا بني من حجارة حرة.
والعادة في العقر، عقر قوائم الدابة، وقاء تعقر الدابة ثم تذبح والغالب ان تكون الدابة جملا أو ناقة، ولبهن بعضهم كان يعقر شاة كذلك، وذلك إذاكان اهل الميت من طبقة ضعيفة، يصعب عليها عقر جمل أو ناقة. وقد ورد النهي عن ذلك في حديث آخر هو: " لا تعقرن شاة أو بعيرا إلا لمأكله".

(1/2671)

admin
12-31-2010, 08:14 PM
وقوم كان يحبسون ناقة الرجل وذلك بأن يشدوا الناقة إلى قبر الرجل، ويعكسو رأسها إلى ذنبها، ويغطو رأسها بولية، وهي البردعة،وتربط برباط وثيق حتى لا تهرب، فإن أفلتت لم ترد عن ماء ولا مرعى، وإذا بقيت على القبر، فإنها تبقى في حفرة لا تعلف فى لا تسقى حتى تموت عطشا وجوعا،ويقال لهذه الناقة السيئة الحظ البلية. ويزعون انهم انما يفعلون ذلك، ليركبها صاحبها في المعاد، ليحشر عليها فلا يحتاج أن يمشي. قال أبو زبيد: كالبلايا رؤوسها في الولايا مانحات السموم حر الخدود
ووجدت في قبور الجاهليين أشياء مما يستعمله الإنسان في حياته مما يدل على أنهم كانوا كغيرهم يدفنون مع الموتى ما يشعرون ان الميت قد يحتاج في حياته الأخرى اليه. أما الأعراب فلا نتصور أنهم كانوا يدفنون مع الموتى أشياء ثمينة لفقرهم وبساطة معيشتهم. وقد عثر في مقابر أهل العربية الجنوبية مثل اليمن وحضرموت على حلي وأحجار نفيسة وأمثال ذلك مما دفنه أهل تلك البلاد مع موتاهم، ليتزبنوا بها في العالم الثاني.
وتؤيد روايات أهل الأخبار عن فتح القبور في الإسلام بحثا عن الغنى والمال، ما ذكرته من احتمال وجود رأي عند عرب ما قبل الإسلام، بأن الميت سيحتاج إلى هذه الأشياء التي دفنت معه، وأنه سيستفيد منها في عالمه الثاني الذي رحل اليه. ولكني لا أستبعد احتمالا اخر، قد يكون أهل الجاهلية قصدوه من دفن الذهب والفضة من حلي أو سبائك أو صفائح مكتوبة مع الميت، هو رغبة أهل الميت في اظهار شعور الود والمحبة نحو ذلك الميت، بدفن تلك النفائس العزيزة معه، لاظهار أنهم لا يبالون بها بعد فقدهم عزيزهم الميت، وأنهم يريدون دفن كنوزه معه، تعففا عنها وإزدراء بها، وقد ورد في بعض الأخبار أن امرأة ماتت، فدفنوها مع متاعها.

(1/2672)


--------------------------------------------------------------------------------

ولصيانة القبر وبقائه على حاله أهميه كبيرة عند الجاهليين، تتجلى في الجمل التي دونوها على شواخص قبورهم، هذه الشواخص التي عثر عليها السياح والباحثون في مواضع متعدة من جزيرة العرب، وهي تطلب إلى الآلهة بأن زنزل الالام والمدراض والعاهات بمن يتجاسر فينقل شاخص القبر من مكانه، أو يكسره ويأخذه ليستعمله، أو ما شاكل ذلك. وجملة "عور لذ عور سفر" أي "عور للذي يعور الشاخص"، أو جملة "وعور دشر وخبل"، أي عمى وجنون "خبل" من الإله "ذو الشرى"، على من يحو ر هذا الشاخصم، ويغيره أو يأخذه ويغيره لغرض ما، وأمثالها، هي من العبارات المألوفة التي نقرأها يكثرة على شواخص القبور.
ومن الطبيعي أن تجد هذه العبارات وعبارات أخرى أشد منها مدونة على تلك الشواخص، راجية من الالهة أن تنزل عقابها على من يحاول التطاول على حرمة القبر بدفن غريب، فيه. ويظهر من هذه العبارات ان من الجاهليين من كان يتطاول على القبور، ولأ سيما القبور المنحوتة والقبور الجيدة المبنية على شكل غرف، وأضرحة، فيدفنون موتاهم فيها، وبذلك تدخل جثث غريبة في تلك القبور،أو يحولوا تلك المقبرة القديمة إلى مقبرة جديدة. وقد يزيلون معالمها تماما، أو يدفنون أمواتا فوق أموات على نحو ما نفعل اليوم في المقابر القديمة المشهورة المقامة حول الأولياء، حيث تتحول المقابر القريبة من الولي الى مقبرة قد ترتفع من كثرة ما يدفن عليها، حتى تكون مرتفعا عن ظاهر الأرض.
وتزار قبور السادات والشثراف، وخاصة قبور كبار سادات القبائل، ويذبح عندها، ويحلف بها، ويلجأ اليها طلبا للأمان والسلامة، فلا يستطيع أحد التحرش بمن التجأ الى صاحب القر ولا ذويه. وقد هجا "بشر بن أبي خازم الأسدي" "أوس بن حارثة" من "آل لأم"، فكان في جملة ما قاله في هجائه: جعلنم قبر حارثة بن لأم الها تحلفون به فجورا
وحارثة بن لأم صاحب القبر، هو أبو أوس المهجو.

(1/2673)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد أشار أهل الأخبار إلى قبور سادات جاهلين كان الناس يفدون اليها ويعظمونها، ويلوذون بها، ويطوفون حولها، منها قبر "تميم" بموضع "مر الظهران"، وقبر "عامر بن الطفيل"، وقد وضعوا الأنصاب حول القبر لتكون علامة له، فلا يدخل الساحة التي يكون فيها القبر إلى موضع الأنصاب حيوان أو راكب ولا يهتك حرمتها انسان. كذلك كان الناس يحلقون شعورهم عند مثل هذه القبور، كالذي كانوا يفعلونه عند الأصنام.
وقد حجت قبائل قضاعة إلى قبر كان على مرتفع من الشحر، زعم أنه قبر جد قبائل قضاعة. وكانت أمثال هذه القبور ملاذا يلوذ بها أصحاب الحاجات، كما قصدها الشعراء لانشاد قصائدهم في مدح صاحب القبر والتغني بمجده وبمجد قبيلته. ولها جمى حكمه حكم الحمى الذي يحيط ببيوت الأصنام. ويقسم بهذه القبور وبحق أصحابها، كما يقسم بالأجداد، ويعد هذا النوع من القسم يمينا لا بحوز الكذب فيه، وهو كاليممان المغلظة التي حلف بها الناس ويذكرون فيها الآلهة اسماء الأصنام.
وفي كتب الحديث أن النبي نهى عن الحلف بالآباء والأجداد وبتربهم، لأن ذلك من عمل أهل الجاهلية. وقد كانت قريش تحلف بآبائها وبأجدادها فتقول: أبي أفعل هذا، أو وأبي لا أفعل وحق أبي أو تربة أبي أو وتربه جدك، نحو،ذلك. وهي ايمان من ايمان الجاهلية نهى النبى عنها.
الفصل الثاني والخمسون
الدولة
أقصد بالدولة الشعب والحزب أو الجماعة الحاكمة له في أرضه وتحت سلطانه وفي حيازته وملكه، لذلك لا أشترط في هذه الدولة أن تكون دولة كبيرة كالدولة الرومانية أو اليونانية أو الساسانية، فقد تكون الدولة.حكومة قرية مثل يثرب أو مكة، وقد تكون حكومة قبيلة، وقد تكون أكبر من ذلك وأوسع مثل دولة الحيرة ودولة الغساسنة ودول اليمن. فلا علاقة اذن لكبر أو لصغر الحكومة بمفهوم الدولة في نظري، فكل حكومة جاهلية مستقلة، هي عندي مع شعبها أي التابعين لها دولة صغرت أم كبرت.

(1/2674)


--------------------------------------------------------------------------------

وألشعب في الجاهية وعند الجاهليين، هو القبيلة. فالقبيلة هي أصل الدولة ونواتها، وتقوم على رابطة الدم، أي على فكرة ان القبيلة هي من صلب رجل عاش حقا ومات، وان أفرادها من هنا يرتبطون بينهم برابط الدم،اي ان بينهم قرابة وصلة رحم. أما وطن القبيلة، فالأرض التي نشأت فيها، ثم الأرض التي هي عليها. فمن القبيلة ومن أرضها، تكونت دولتها، وعلى رأسها سيد القبيلة.
هذا بالنسبة إلى اللأعراب، أما بالنسبة إلى الحضر، فإن فكرة الدولة عندهم تختلف باختلاف درجه اولئك الحضر. فالدولة في العربية الجنوبية، تجمع شمل قبائل عديدة كما تضم طوائف وفئات رسمت لها حدود معينة وحددت بحدود وقيود، فلا تتجاوزها. وقد حدد المجتمع مكانتها ومنزلتها بحيث جعل من المجتمع العربي الجنوبي مجتمعا طبقيا. يتمتع فيه الملوك ومن يأتي بعدهم من حكام وأصحاب معبد وأرض بأعلى المنازل، ثم تليهم بقية الطبقات حسب قوتها ومكانتها إلى أن تصل الى سواد الناس، وأقلهم منزلة الرقيق واصحاب الحرف المبتذلة.
وهو نظام بقيت روحه وجذوره قائمة ئي اليمن الى الوقت الحاضر، ولكنه بدأ يجابه بمقاومة روح العصر وتقدم البشرية، فأخذ يتهدم بعض التهدم حسب مواطن الضعف في البناء. وأما في الأماكن الحضرية الأخرى، مثل العربية الشرقية وفي الحجاز، أو نجد، فإن درجة فهم الناس فيها للدولة، اختلف فيها، باختلاف تقدم ذلك المكان في ألحضارة وباتصاله بالعالم الخارجي.

(1/2675)


--------------------------------------------------------------------------------

وبفضل عثور الباحثين على كتابات تعود إلى عهود مختلفة من تأريخ العربية الجنوبية، استطعنا الالمام بعض الالمام بشيء من نظم، الدولة في تلك الارضين. وفي جملتها طرق الحكم فيها ونفوذ رجال، الدين وأصحاب الارض و الحياة ألاقتصادية التي جعلت العربية الجنوبية مجتمعا مكونا من طبقات، يسيره ألحكام ورجال الدين وأصحاب المال والأرض. أما بالنسبة ان المواضع الأخرى، فإن علمنا عن هذه الأمور هو دون علمنا عن العربية الجنوبية بكثير، بسبب عدم عثور الباحثين على كتابات جاهلية فيها، نستطيع أن نستلهم منها وحينا عن الماضي البعيد. ولذلك فعلمنا عنها ضحل،اعتمد أكثره من أخبار اهل الأخبار، وهي فجة أو مصنوعة، أو محرفة حرفها مرور الزمن،أو مدسوسةعمدا من اخباري أراد اظهار علمه للناس،أو من متعصب لقبيلة أراد بدسه الأخبار التفريج عن عاطفة التعصب الكامنة في نفسه.
ويعبر عن سكان القرى والمدن ب"أهل" وب "آل". فيقال "أهل مكة" و "أهل يثرب"، ويراد بهم قطان مكة وسكان يثرب، و "شعب" في التعبير الحديث، على اعتبار أن كل مدينة مستقلة بشؤونها قائمة بإدارة أمورها وهي حكومة ذاتية يدير حكمها سادات المدينة. على نحو ما كان عليه الوضع في القرى الأخرى من الحجاز وفي نواح عديدة من جزيرة العرب. وإذا أصيب احدهم بضيم، أو أراد شيئا يتطلب العون والمساعدة نادى: "يا أهل مكة" أو "يا آل مكة"، فيلبي ساداتها نداءه ويمضون في معالجة أمره، والغريب عن "اهل مكة"، له حق النخوة والاستجارة، فإذا نادى بشعارها حصل على من يدافع عنه ويأخذ حقه ممن ظلمه.

(1/2676)


--------------------------------------------------------------------------------

ويشعر سكان المدن والقرى انهم كالقبيلة من اصل واحد، وأن لهم جدا أعلى، يرجع نسبهم اليه، أو جده إن انتمى اهل المدينة إلى امرأة. وذلك، لاعتقادهم أنهم من قبيلة واحدة في الأصل، هاجرت إلى هذا المكان فسكنت نيه. فمرجع نسب مكة الى "قريش"، ونهاية نسب اهل يثرب من الأوس والخزرج الى "قيلة" جدتهم، وشب أهل الطائف الى ثقيف. فنحن إذن وإن كنا امام مدن وقرى، اي أمام عرب حضر، لكننا في انفسنا امام نظم تقوم على أسس قبلية وعقلية قبلية. فالقرية في الواقع قبيلة مستقرة تمركزت في مكان واحد. وقد تمسكت بنظم تفرع القبيلة وبالعصبية، وبما إلى ذلك من عرف مجتمع أهل البادية. وقد بقيت رابطة النسب وصلة الدم بها قوية. ذلك لأن تلك القرى، وإن جلبت اليها الأجانب والغرباء، غير انها بقيت مجتمعات منعزلة، لأن وسائل الاختلاط لم تكن مهيئة لها في ذلك الوقت، حتى نجبرها على الخروج عن العزلة، والاختلاط بالغير، اختلاطا شديدا على نحو ما يحدث للحضر في الأمكنة المتحضرة الممتزجة بالسكان.
وجد القبيلة، هو مصدر إلهامها، ورابطها الروحي الذي يربط بينها. باسمه تتنادى في الغزوات والحروب، لتبعث حرارة الاندفاع والحماسة في القتال، وبه يدعو للنخوة أبناؤها ومن يلتجئ إلى القبيلة من مولى أو جار، وبقبره يلاذ إن كان له قبر، وباسمه يحلف كما يحلف بأسماء الآلهة.
وللقبائل مصدر إلهام روحي آخر، هو أصنامها. فكان "المقه" صنم سبأ، وكان "ود" صنم "معين"، وكان للقبائل العربية الشمالية التي حاربت الآشوريين أصنام يحملونها معهم في سلم وفي حرب، ويستمدون منها المدد والعون في النزوات والحروب. ويعد سقوط الصنم في أيدي الأعداء نكسة للقبيلة وعارا على أبنائها، لذلك كانوا لا يهدأ لهم بال حتى تعاد اليهم أصنامهم. وكان من اهم ما يدعو القبائل العربية الى التهادن مع الآشوريين رغبتهم في استعادة أصنامهم وضمان عودتها من المنفى والأسر إلى الحرية.

(1/2677)


--------------------------------------------------------------------------------

ولما ظهر الإسلام كانت القبائل ما تزال تحتمي بأصنامها وتدعوها لتنصرها في الحرب،حتى من تحضر منها واستقر، مثل أهل مكة الذين كانوا ينادون: "أعل هبل. أعل هبل" في حربهم مع المسلمين. أما الذين غيروا دينهم وتنكروا لعبادة الأصنام فقد احتموا بشفعاء جدد، أخذوهم من النصرانية الني دخلوا فيها، فكان لهم قديسون يلوذون بهم في أثناء القتال.
ويعبر عن القبيلة بلفظة "شعب" في العربيات الجنوبية. فالقبيلة والشعب إذن لفظان مترادفان على معنى واحد. الشعب بمعنى قبيلة في عربية القرآن الكريم،والقبيلة بمعنى شعب في العربيات الجنوبية. ولكن علماء العربية يفرقون بين اللفظتين، فيجعلون الشعب أكبر من القبيلة. والظاهر ان هذا التفريق قد وقع في الجاهلية القريبة من الإسلام، ونجده في القرآن الكريم في آية الحجرات: )وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم(. فذكر المفسرون ان الشعب أكبر من ألقبيله. غير ان كثيرا من علماء العربية يرون أن الشعب والقبيلة في معنى واحد.
وقد وردت كلمة "شعب" في الكتابات السبئية بمعنى قبيلة كما ذكرت،فورد: "شعب سبا"، بمعنى قبيلة سبأ. وورد "سبا واشعبهمو" بمعنى "سبأ و أشعبهم"،أي السبئيون وقبائلهم، ويراد بقبائلهم القبائل الأخرى الخاضعة لهم.
ويرى بعض الباحثين في العربيات الجنوبية، ان لفظة "شعب" لا تعني عند العرب الجنوبين معنى "قبيلة" بالمعنى المفهوم من اللفظة عندنا، بل تعني جماعة ترتبط بالدولة وبالآلهة: آلهة الدولة ارتباطا ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا. فإذا قلنا شعب سبأ "شعبن سبا"، فإننا لا نقصد القبيلة سبأ، بل أمة سبأ، أو شعب سبأ بالاصطلاح الحديث. أي رابطة مواطنة تجمع شمل جميع المواطنين بالدولة جمعا روحيا وماديا، أي ان أمة سبأ تجمع السبئيين وغيرهم من الغرباء من أتباع حكومة سبأ، الخاضعين لحكم هذه الحكومة، ويدينون بالولاء لها ولأنظمتها ولقوانينها الروحية والمادية.

(1/2678)


--------------------------------------------------------------------------------

ونجد في النصوص العربية الجنوبية إشارات إلى وجود ثلث أو ربع أو نصف قبيلة. فورد: "ثلثن سمعى"، أي "ثلث سمعي". ومعنى هذا ان جزءا من قبيلة ما تعاون مع سكان منطقة ما لاستغلال أرض وللاستفادة من غلاتها،فيذكر عندئذ رقم الجزء الذي نزل في هذا المكان. ولا يعني هذا بالضرورة ثلث أبناء القبيلة أو ربعها أو نصفها أوخمسها على الوجه المفهوم من القبيلة عندنا. بل يعني ذلك توزيع الأعمال والشغل على المجتمعين الذين تجاوزوا ورضوا بالعمل معا حسب الأجزاء المذكورة، التي تمثل نسب اشتراك المشتركين في العمل.
وفي العربيات الجنوبية مصطلح، له صلة بمعنى "المواطنة" والمواطنين بالمعنى الحديث. وهو مصطلح: "خمس" ويجمع على "اخمس" "أخمس"، ويراد به مواطنو مملكة أو إمارة. فهو بمعنى المواطنة أو الرعاية في الاصطلاح الحديث. فكل من يعيش في حكومة ما في اي مكان كان، من قرية أو مدينة، فهو "خمس"، أي مواطن ومن رعايا تلك الحكومة، كما نرى في هذه الفقرة في نص "معيني": "ركل الا لت معنم ويثل وكل الالت ذا خمسم واشعبم"، و معناها: "وكل آلهة معين ويثل وكل آلهة المواطنين والقبائل". ويراد ب "اشعبم" هنا القبائل، أي الأعراب واما "أخمس"، فيظهر أن المراد بها الرعايا الحضر المستقرون. ورد في نص سبئي: "خمسيهو وحميرم"، أي "مواطنو سبأ وحمير".

(1/2679)


--------------------------------------------------------------------------------

وترد لفظة "جوم" "كوم"،في النصوص السبئية القديمة بوجه خاص،مثل هذه الجملة "هوصت كل جوم". ويرى بعض الباحثين أن "هوصت" بمعنى "ملة". و"الملة"، في الإسلام،يراد بها نظام ديني واقتصادي واجتماعي،ارتبط أفراده بمجتمع واحد، برابط الأمور المذكورة. اما لفظة "جوم" "كوم"، فترادف لفظة "قوم" في عربيتنا. وقد يكون القوم عددا صغيرا،وقد يكون كبيرا. ويرتبط القوم برباط متين يربط افراده، هو الإله الذي ينتمي القوم أليه. فورد "جوم غثتر" و "كوم ود"، اي "قوم عثتر" "وقوم ود"". فالقوم إذن جماعة وإخوان في دين، تؤمن بإله يجمع شمل المؤمنين به،ويربط بينهم برباط العقيدة والإيمان به، لا برباط النسب وصلة الرحم والدم.
هذا، ويذكر علماء ا اللغة ان "الملة"، الشريعة والدين، كملة الإسلام والنصرانية واليهودية، وهي في اللغة السنة والطريقة. وقد وردت في خمسة عشرموضعا من القران الكريم. استعملت في ثمانية مواضع منها للتعبير عن دين إبراهيم: "ملة ابراهيم". وللمستشرقين اراء متضاربة في أصل الكلمة.
والمواطنون هم أبناء "القبيلة"، التي هي نواة الحكومة وجرثومتها، والتي بقوتها تكونت تلك الحكومة، والقبائل المتحالفة معها، أو التي خضعت لحكمها فتبعتها، ولهذا تذكر القبيلة ويشار اليها، باعتبار ان الحكومة هي حكومتها في الأصل ثم يشار إلى القبائل الخاضعة لها للدلالة على انها في حكم تلك الحكومة. فقد ورد في الكتابات السبئية "سبا و اشعبهمو"، بمعنى سبأ و القبائل التابعة لها.وورد: "ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابها في المرتفعات وفي التهائم"، وهو لقب ملوك سبأ بعد توسع رقعة سبأ واستيلاء السبئيين على غيرهم وضمهم أرضهم إلى ارض دولتهم. فدون اسم سبأ أولا، باعتبار ان السبئيين هم العنصر الحاكم المكون الأول للدولة، ثم اشارالى من تبعهم و انضم اليهم سلما او حربا.

(1/2680)


--------------------------------------------------------------------------------

وبين "الشعب" وإلهه رابطة مقدسة وصلة متينة لا انفصام لها. وفي استطاعتنا ان نقول ان مجتمعات العرب الجنوبيين كانت مجتمعات دينية ز فالشعب **** الاله ن والاله بالنسبة لاتباعه اب غفور رحيم ن شفيق قدير. "الجوم" "الكوم" أي القوم ابناؤه واولاده. فالسبئيون هم ولد "المقة"، أي اولاد المقه، اله سبأ، والمعينيون هم "ولد ود"، وقد خاطبوا الههم "ودا" بعبارة "ود ابم" أي "ود اب" و "ود الاب". وقال القتبانيون عن انفسهم "ولد عم" و "ولد عم"، أي ولد الاله "عم" واولاد الاله "عم". وفي هذه الجمل اجمل تعبير عن وجهة نظر المجتمع الى ربه. ان رب القبيلة، هو الرابط المقدس الذي يربط شملها ويجمع بين ابنائه، وبه يعتصم الناس، واليه يلاذ في الخير وفي الشر. وقد عبر عن هذه الرابطة بلفظة جميلة هي "حبلم" في بعض الكتابات. والحبل يربط ويجمع ويجعل من المتفرق وحدة. وهو مصطلح يذكرنا بالآية الكريمة: "واعتصموا بحبل الله "، وبالآية "أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس". فلفظة "ولد" اذن بمعنى قوم وابناء صنم أو موضع. فهي في معنى أبناء في اصطلاحنا الحديث، تستعمل قبل اسم الصنم أو الموضع أو القبيلة، لتدل على معنى المواطنة. ولا يشترط فيها أن تكون مواطنة نسب أي صلة رحم وقرابة دم، بل مواطنة دينيه ورابطة سياسية واجتماعية واقتصادية.
والإله حامي شعبه والذاب عنه، والمؤيد له في السلم وفي الحرب. لذلك نعت بى "شيمم" "ش ي م م" أي "شيم"، وتعني اللفظة معنى حام وحافظ ومدافع. وتجد الناس وهم ينعتون آلهتهم بهذا النعت في كتاباتهم طالبين منهم العون لشفائهم من أمراضهم ولحمايتهم من الأسوأ.

(1/2681)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي جملة "اهل عثتر" وامثالها التي ترد في مختلف كتابات المسند، تعبير عن هذه الرابطة المتينة الني تربط القوم بإلههم. تعبير عن صلة ملة عثتر بربهما. الجاعة المؤمنة بالإله عثتر. وتعبير عن جماعات انتمت الى الهة اخرى، وقالت عن نفسها: "اهل". ويشبه هدا التعبير تعبير "اهل الله" الوارد في الإسلام ويراد بهم المؤمنون بالله المنقطعون له وحده العابدون القانتون الزاهدون.
وهكذا نجد شعوب حكومات العربية الجنوبية، مؤلفة من وحدات سياسية دينية. لكل وحدة رابطة روحية تربط أفرادها، جعلت "المؤمنين إخوة"، في عقيدتهم وفي تمسكهم واعتقادهم بإله قبيلتهم الخاص، هو إله القبيلة.
ونحن إذ نقرأ لفظة "شعب" في الكتابات العربية الجنوبيه، يجب ان لا نفهم منها ما نفهمه من لفظة "قبيلة" في نظر الأعراب، وعند العرب الشماليين، اي رابطة دموية تجمع ابناء القبيلة، ترجع بهم إلى جد واحد أعلى. بل يجب علينا ان نفهمهما على وجه آخر. يجب ان نفهمهما بمفهوم "الملة" أو "الأمة" في المصلح الإسلامي، وعلى النحو الذي فهمه المسلمون الأول من مصطلح "امة" و "ملة"، اي رابطة تجمع بين شمل جماعات شعرت بوجود روابط دينية وفكرية واقتصادية واجتماعية بينها، وبوجود إخوة في العقيدة والرأي. على نحو ما نفهمه من آية الحجرات:" إنما المؤمنون إخوة". وذلك كما سبق أن تحدثت عن ذلك قبل قليل.
وترد لفظة "عم" بمعنى شعب في الكتابات النبطية، وترد بهذا إلمعنى في لهجات عربية أخرى. وقد نعت ملوك النبط أنفسهم ب "رحم عمه" "راحم عمه"، أي "رحيم شعبه" أو "راحم شعبه"، بمعنى أنه محب لشعبه رحيم به. وأن ملوك النبط رحماء بشعبهم محبون له.

(1/2682)


--------------------------------------------------------------------------------

والذي يجمع شمل الدولة ويقويها ويأخذ بها إلى الحكم ثلاثة أركان:إله أو آلهة، يدافع أو تدافع عن الحاكم وعن رعيته، وحاكم قد يكون "كاهنا" وقد يكون ملكا، وقد يكون أمرا، وقد يكون سيد قبيلة، واجبه حكم رعيته وارشادهم وقيادتهم في السلم والحرب، ثم رعية طيعة طائعة تدين بالولاء للآلهة وللحكام، ليس لها الاعتراض على "حق الحكم"، لأنه حق إلهي متكرر، ولا اعتراض على قدر الآلهة ومقدراتها: ومن يخالف أوامر السلطان، كان كمن يخالف أمر ربه، عاصيا خارجا عن سواء السبيل، فيجب تأديبه، ولو بالقتل، لأن جزأء من يخرج على أمر الالهة القتل.
ومن سيماء الاخلاص للدولة ذكر أسماء الآلهة التي يتعبد لها إلحكام، اي الالهة الشعب الحاكم، تيمنا بها، وتقربا اليها، وذكر أسماء الحكام في إلكتابات في المناسبات تعبيرا عن ولاء صاحب الكتابة واخلاصه للحاكم. وذكر اسم القبيلة الحاكمة مع اسم القبيلة التي ينتمي اليها صاحب الكتابة، ليكون ذكرها تعبيرا عن الاعتراف بسيادتها عليه وعلى قبيلته.
أصول الحكم
المجتمع العربي الجاهلي: بدو و حضر اهل وبر وأهل مدر يتساوى في ذلك عرب العراق وعرب بلاد الشام وعرب جميع أنحاء جزيرة العرب. وفي كل مجتمع من هذين المجتمعين تكون نظام من أنظمة الحكم يتناسب مع المحيط، لأنه نبات ذلك المحيط، وحاصله، وما ينبت في مكان ينبت وقد اكتسب خصائص التربة وخصائص الجو، وما يحيط بالنبات من مؤثرات طبيعية أو بشرية.
ومن هنا صارت "الرئاسة" قاعدة الحكم عند أهل الوبر، و "الملكية" و "رئاسة القرى والمدن"، أداة الحكم عند أهل المدر.

(1/2683)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا ينال الحكم في المجتمعات البدوية وفي المجتمعات الصغيرة التي لم تبلغ مرحلة متقدمة من الحضارة، والتي لم تنل حظا من الغنى والمهارة في العمل وفي كثرة الانتاج وتنويعه، إلا من كان ذا قابلية عالية وذو شخصية قوية، وذو أسرة متجانسة متآلفة متماسكة كثيرة العدد، وذا عشيرة أو قبيلة تندفع في تأييده لمزاياه المذكورة أو لخوفها منه، أضف إلى ذلك العصبية والرغبة في كسب المال عن طريق الاندفاع معه في غزو القبائل الأخرى. فمجتمع من هذا النوع تكون قيادته بيد "سادته"، وقد يفرض أحدهم نفسه على الاخرين، طوعا أو كرها فيكون حكومة تنسب في الغالب اليه، قد يطول أجلها إذا جاء من بعده حكام أكفاء لهم قابلية وشخصية، وقد تموت بموته، لعدم كفاءة من يخلفه، ولأنه كون دولته بشخصيته، وليس عن دوافع أخرى مثل ايمان بعقيدة واخلاص لها، أو وجود وعي مشترك وحس بوجوب التكاتف والتآزر، لتأليف مجتمع متكاتف يعيش فيه المواطنون عيشة مؤاخاة ومواطنيه بالعدل والانصاف، حتى يطول عمر تلك الحكومة، ولما كانت تلك الدولة قد كونت إما عن مصلحة أو عن خوف وقهر أو عن طمع، وقد زالت هذه بموت صاحبها، لذلك يصيبها التفكك وانهيار البناء. ومما يؤيد ذلك ردة من ارتد بعد وفاة الرسول عن الإسلام، فقد كانت حجتهم في ردتهم انهم انما بايعوا الرسول وآمنوا به، ولم يبايعوا غيره. وبوفاته انتهى حكم البيعة، فلن يخضعوا لغيره ولن يدفعوا صدقة ولا زكاة ولن يطيعوا أحدا. ولو لم يؤدبهم "أبو بكر"، بأدب القوة، لما عادوا ثانية إلى الإسلام.

(1/2684)


--------------------------------------------------------------------------------

وللحكم الملكي صلة كبيرة بحياة الاستقرار والاستيطان، فهو لا ينمو ولا يظهر إلا في المجتمعات المستقرة وفي المواضع الغنية بالماء وفي القرى والمدن. فنرى ان حكام قرى فلسطين ومدنها كانوا قلى لقبوا أنفسهم بلقب "ملك" في ايام "ابراهيم" مع انهم لم يكونوا إلا رؤساء قرى أو مدن." قد كان أكثرهم كهنة في الأصل، اي حكاما حكموا رعيتهم باسم الآلهة، فكان لهم الحكم في الدين وفي تدبير امور الرعية من الناحية الدنيوية، ثم عافوا هذا المركز وتركوا المعبد،وخصصوا أنفسهم بالنظر في الأمور الدنيوية.
ولما تقدمت وسائل الحروب وتفنن الإنسان في صنع الأسلحة، وفي استذلال الحيوان وتسخيره لنقل محاربيه وأسلحتهم ومواد اعاشتهم، توسعت سلطة كبار الملوك، وتضخمت حدود ممالكهم، فظهرت الملكيات الكبيرة: ظهرت على أنقاض "ممالك القرى" و "ممالك المدن". حيث حكم التأريخ بتسلط الممالك القوية على الممالك الصغيرة،وبأكل القوي منها الضعيف، لأن الحق للاقوى والبقاء للقوي المكافح المناضل المكالب في هذه الحياة تكالب الكلاب فيما بينها لمجرد شعور كلب قوي بتفوقه على كلب آخر غريب أو كلاب غريبة عنه.
ولعب "المال" دورا خطيرا في ظهور "الملوك الكبار" وفي تكوين "الحكومات الملكية الكبيرة "، ونضيف اليه شخصية صاحب المال والطبيعة التي عاش بها، من برودة وحرارة وتبدل في الضغط الجوي، ومن تربة ومعدن ونبات وماء. فالمال وحده لا يكفي لخلق دول كبرى، وهو لا يدوم إذا لم يقرن بعقل فطن. خلاق يعمل على الإيجاد والتكوين وتسخير الطبيعة في خدمته وخلق قوة تكون سندا له وسدا منيعا يقف حائلا منيعا أمام المعتدين. والاستفادة من المال بتشغيله بحكمة وبعلم، وبإيجاد موارد جديدة تحل محل الموارد القديمة إن نففت.

(1/2685)

admin
12-31-2010, 08:14 PM
وقد كان ظهور الحكومات ألملكية الكبيرة في الأرضين الغنية بخيراتها ذات الماء الغزير والجو المساعد على العمل. فوسعت رقعتها وطمعت في غيرها فابتلعتها وقوت نفسها بخيراتها وعبأت كل قواها لخدمتها، وأخذت تكتسح غيرها وتتوسع وكونت الممالك الكبير المشهورة في التأريخ.وقد سمح بعض ملوك الحكومات الكبيرة لملوك الممالك الصغيرة بالاحتفاظ بحمل لقب "ملك"، على أن يكون ذلك مقرونا باعتراف أولئك الملوك بحماية الملوك الكبار لهم،وبوجوب عدم الخروج على طاعتهم وبلزوم الاشتراك معهم في الحروب إن طلب منهم الاشتراك فيها، وبدفع جزية مرضية لهم. فلم تتمكن الحكومات الصغيرة التي عاشت على التجارة والاتجار من العيش بمأمن وسلام، إذ طمعت فيها الدول القوية، فأرسلت اليها من يخيرها بين الاستسلام والطاعة أو الهلاك واحراق الدور وإنزال الدمار. وقد رأينا أمثلة عديدة على ذلك فيما سلف من هذا الكتاب. من ذلك تهديد حكومات العراق لحكومات مدن الخليج،وتهديد الرومان واليونان للنبط. وحملة "أوليوس غالوس" على اليمن، لضم أصدقاء أغنياء إلى انبراطورية الرومان، يؤدون لها الخراج ويقدمون لها ما عندهم من ذهب ابريز، وإلا فالنار والخراب والدمار والقتل. فلا مجال للحكومات الغنية الصغيرة من العيش بأمن وسلام. وليس عندها سوى الإختيار بين أمر من أمرين. فإما دفع جزية ثقيلة ترضي القوي، واما الاستسلام وإنزال النار بها والدمار.

(1/2686)


--------------------------------------------------------------------------------

أما البوادي والأرضين القفرة الفقيرة القليلة الماء، فلا يمكن أن تنبت بها "ممالك" كبيرة،لعدم توفر مستلزمات المعيشة والتجمع الكبير فيها، لهذا صارت حكوماتها حكومات "رئاسات" رئاسة قبيلة أو أحلاف. وقد يحلو للرئيس أن نحتار له "ملك"، لقب لا يعني في الواقع العملي أكثر من سيد قبيلة. وحكومات باطن جزيرة العرب هي من هذا النوع في الأكثر. أما الملكيات فقامت في مواضع الحضارة، حيث التربه الصالحة الخصبة المساعدة على حياة التجمع والاستقرار. ووجود حضر يقبلون بالطاعة والخضوع لحكم حاكم، ومال يجبى من الناس ليستعين به الحاكم على الانفاق على نفسه وعلى جيشه وعلى من ينصبهم لادارة الأمور. قامت تلك الملكيات في العراق وفي بلاد الشام وفي أطراف جزيرة العرب وفي مواضع الماء من نجد كاليمامة. وقد تكلمت عنها في الأجزاء السابقة من هذا الكتاب.
أما الرئاسة، فهى درجات تبدأ برئاسة بيت، وتنتهي برئاسة قبيلة. ولكل رئيس سلطان على أتباعه وحقوق وواجبات. وعليه أيضا حقوق وواجبات يجب أن يوفي بها لأتباعه ومن هم في عنقه ويمينه. والرئيس هو "بعل" و "رب" و "سيد" جماعه والمسؤول الشرعي عن أتباعه، وهو ممثلهم ولسانهم الناطق باسمهم وحاميهم في الملمات.
وقد عرف "هشام بن المغيرة" ب "رب قريش" ونسبت قريش اليه في الجاهلية، فقال الشاعر: أحاديث شاعت من معد وحمير وخبرها الركبان حي هشام
وذلك تعظيما له واحراما لشأنه.
ويعرف رئيس القبيلة ب "سيد القبيلة"، وسادات القبائل هم رؤساء القبائل.
وقد ينعت رجل ب "سيد العرب" وب "سيد مضر" وب "سيد أهل الوبر"، وذلك لتعبير عن سلطانه وعن مكانته وعن حكمه لقبائل كثيرة عديدة. فقد نعت "الأفكل"، وهو "عمرو بن جعيد" ب "سيد ربيعة" لرئاسته على ربيعة. وعرف "حذيقة بن بدر" ب "سيد غطفان"، وكان يقال له: "رب معد".

(1/2687)


--------------------------------------------------------------------------------

وعرف "قيس بن عاصم بن سنان المنقري" ب "سيد أهل الوبر"،- فلما وفد على رسول الله في وفد "تميم"، قال رسول الله: " هذا سيد أهل الوبر". وكان ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية، لأنه سكر فعبث بذي محرم له.
وعرف حاكم "تدمر" ب "رش تذمور"، أي "رأس تدمر" و"رئيس تدمر"، في الكتابات التدمرية القديمة. ثم عرف ب "ملك"، في الكتابات المتأخره المدونة وصار اللقب الرسمي لحكام "تدمر" في ايام "الزباء" فما بعد، إلى احتلال الرومان لتدمر وإلغائهم الحكم التدمري.
ولقب "أذينة" ملك "تدمر" نفسه ب "ملك ملكا" أي "ملك الملوك" أيضا، تشبها مملوك الفرس وبملوك حكموا قبلهم مثل الملوك الأشوريين، واتخذ لنفسه ألقابا يونانية تقليدا للرومان. ولم نعثر في النصوص العربية الجنوبية على لقب "ملك الملوك". ويظهر ان الملوك العرب لم يتلقبوا بهذا اللقب الأعجمي.
المكربون
وترينا أقدم الكتابات العربية ان العربية الجنوبية حكمها قبل الملوك أناس حكموا حكما مزدوجا، أي حكما دينيا ودنيويأ، على نحو ما حدث في العراق وفي مصر وفي أماكن أخرى من الشرق، قبل أن ينتقل الحكم إلى الملوك، ويتحول. الى حكم زمني، ينصرف فيه.الملك إلى الأمور الزمنية لرعيته، تاركا الشؤون الدينية لرجال الدين، حكموا الأرض باسم ألسماء،وحكموا حكم الساسة والحكام،.ونطقوا باسم الآلهة، فحكمهم حكم إلهي مقدس، على أتباعهم ومن يؤمن بهم إطاعتهم، لأنهم ألسنة الآلهة الناطقة على هذه الأرض.

(1/2688)


--------------------------------------------------------------------------------

ويعرف هذا الكاهن الملك ب "مكرب"، أي "مقرب". وقد حصانا من كتابات المسند على أسماء عدد من "المكربين"، غير ان تلك الكتابات خرساء، لم تبح لنا بشئ ما عن أصول حكمهم للمعابد ولإدارة الدولة ولا عن كيفية تلقيهم الأوامر الإلهية التي يطلبون من أتباعهم تنفيذها، هل كانت وهل وحيا من الآلهة، يحملها اليهم ملائكة مقربون، أو إلهاما يتجلى في نفوسهم فينطق به المكربون ويبلغونه للناس،أو صوتا يخرج من رئي أو صنم أو ما شاكل ذلك يسمعه "المكرب" فيفسره للناس على طريقة الكهان ? وليس في نصوص المسند تعليل ما للدوافع والاسباب التي حملت آخر "مكرب" في كل دولة من الدول العربية الجنوبية على تغيير لقبه القديم، الموروث عن ابائه، واتخاذ لقب جديد، لقب "ملك"، وهو لقب يشير إلى الحكم الدنيوي فقط، والى ابتعاد الملك عن الحكم الديني وتركه لغيره. غير اننا نستطيع أن نقول باحتمال تأثر هؤلاء "ألمكربين" بالمظاهر الخارجية اإني كانت عند الدول المعاصرة التي لقبت حكامها بلقب ملك، وهي دول كبيرة ذات جاه وسلطان فأراد أولئك الحكام، حكام حكومات اليمن، التشبه بهم، ومحاكاتهم في المظهر، فغيروا لقبهم، ليظهروا أنفسهم انهم مثلهم، وانهم ليسوا أقل شأنا من أقرانهم الملوك.
ولا يظن أن التغيير الذي حدث فأدى إلى إبدال حكم "المكربين"بحكم الملوك كان تغيرا قسربا، أي نتيجة انقلاب عسكري أو ثورة، ذلك لأننا نعلم أن آخر مكرب من مكربي سبأ كان هو المكرب "كرب ال وتر" "كرب ايل وتر". وقد كان هذا المكرب أول من افتتح العهد الملكي في سبأ، وأول من حمل لقب "ملك وذلك يدل على أنه هو الذي اختار اللقب الجديد، واستبدله بالقب القديم.

(1/2689)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم يكن "المكرب" رجل دين بالمعنى المفهوم من الجملة، أي عالما بأمور الدين فقيها بها كرس وقته لها، ومتوليا إمامة الناس في صلواتهم وفي أداء الشعائر الدينية للارباب في معابدها، مقدما القرابين بنفسه اليها، بل يرى بعض الباحثين أنه مجرد منصب له صبغته الدينية، وأنه يشبه منصب "الخليفة" في الإسلام "، حيث كان الخليقة يعد "أمير المؤمنين" ورئيس المسلمين. ولم يكن مع ذلك أعلم المسلمين بأمور الدين ولا أفقههم بالأحكام، وإنما هو "خليفةالله" في أرضه. وكذلك كان المكربون خلفاء الالهة على الأرض.
وقد استتبع انتقال الحكم من "المكربين" إلى الملوك، حدوث تغيير في أصول الحكم. فانقطعت صلة الملك بالمعبد، ولم يعد الرئيس المباشر له ولرجال الدين، وإن بقي الملك حامي الدين والمعبد. لما للمعبد من ارتباط بالدولة ولما للاثنين من مصالح مشتركة مترابطة، إذا اختلت أصاب الأذى الجهتين. وانصرف رئيس المعبد إلى ادارة المعبد وأملاكه الكثيرة الواسعة، والى جباية الضرائب الدينية، أي حقوق الالهة على الناس. وهي حقوق واجبة مفروضة. وانصرف الملك إلى ادارة الدولة، وجباية حقوقه على شعبه. وادارة املاكه الخاصة وأملاك الدولة،.التي هي أملاك الملك أيضا. حيث لم يفرق الملوك بين جيبهم الخاص وبين جيب الدولة. لأن الدولة الملك، والملك الدولة. وبيت المال هو بيت مال واحد، للملك أن يتصرف به كيف شاء.
الملك
وأما "الملك"، فهو الرئيس الأكبر والإنسان الأعلى في مجتمعه. ولفظة "ملك" من الألفاظ العربية القديمة التي ترد في جميع اللهجات العربية، وهي أيضا من الألفاظ التي ترد في أغلب اللغات السامية. وقد تلقب بها ملوك العربية الجنوبية، وتلقب بها ملوك الحيرة وملوك آل غسان وملوك كندة، بل طمع في هذا اللقب أمراء وسادات قبائل،اعجبهم فلقبوا أنفسهم به.

(1/2690)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا يعني هذا.ان حكم الملك كان دائما" "حكما شاملا واسعا بالمعنى المفهوم من هذا اللقب،فقد كان سلطان الملك في بعض الأحيان لا يتجاوز سلطان سيد قبيلة، أو سلطان صاحب قرية أو أرض. وعلى ذلك نجد في العربية الجنوبية وفي أنحاء أخرى من جزيرة العرب عشرات من أمثال هؤلاء الملوك يحكمون قبائلهم أو أرضهم بهذه النعوت والصفات المغرية المحببة الى النفوس والقلوب، ذلك لأنهم أحبوا هذا اللقب، فلقبوا أنفسهم به، وصاروا ملوكا، وهم في الواقع سادة قبائل أو أرض صغيرة. ونجد في كتب السير والتواريخ اسماء جملة "ملوك" عاشوا قبل الإسلام وعند ظهوره، لم يكونوا في الواقع سوى سادات "شيوخ" قبائل أو قرى، ولم يكن لهم على من حولهم نفوذ أو سلطان.
ومعنى "ملك"، الرأي والمشورة والنصيحة. و "ملك"، بمعنى قد م رأيا أو نصيحة أو مشورة، وذلك في بعض اللغات السامية. وتعني كلمة "شارو" "شرو"، "الملك" في الأشورية، وهي في معنى "الحكيم" في الأصل، أي في المعنى المقدم. وتعني كلمة "مليخ" "ملخ"، أي "ملك" في العبرانية،الحكيم الذي يقدم رأيا وحكما ومشورة، فهي في معنىCounseller , Adviser الانكليزية إذ كان الملوك بمنزلة الحكماء القضاة في شعوبهم، ثم تخصصت بالحاكم الذي يحكم شعبه على النحو المفهوم من اللفظة عندنا.
وقد وردت لفظة "ملك" في نصوص المسند. وردت على هذه الصورة: "ملكن"، أي "الملك"، و "ملكم"، أي "ملك". ووردت على هذه الصورة: "ملك" في النصوص الثمودية واللحيانية والصصوية. و"ملكو" في النصوص النبطية. أما في النصوص ألعربية الشمالية، فإن أقدم نص وردت فيه هذه اللفضة، هو نص "أم الجمال"،الذي يعود عهده إلى سنة "250" أو "275" بعد الميلاد. وهو شاهد قبر رجل اسمه "نهر بن سلى مرب جذيمة ملك تنوخ" ونص " النمارة " الذى هو شاهد قبر الملك "امرء القيس"،وقد دون سنة"328" للميلاد.

(1/2691)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا نعرف في الزمن الحاضر مكانة درجة من يحمل لقب "اخ ملكا" أي "أخي الملك" الوارد في النصوص النبطية. فلسنا ندري أكانت تعني "وصاية" أو "وزارة" أو مقربا من الملك، ام تعني ان حامله من الأسرة المالكة.
ونطلق لفظة "تبع"، والجمع "التبابعة"، على ملوك حمير، بل تطلقها الموارد الإسلامية في بعض الأحيان على كل ملوك اليمن. فهي في معنى "ملك".
ولا يطلقونها على غيرهم، أي على الملوك الآخرين من ملوك العرب. فهي إذن اصطلاح خاص بأولئك الملوك. كما اصطلحوا على تسمية كل من ملك الحبشة "النجاشي"، وكل من ملك الروم "قيصر"، وكل من ملك الفرس "كسرى". وقد ذكر علماء اللغة في تفسيرها: "وتبع كانوا رؤساء، سموا بذلك لاتباع بعضهم بعضا في الرئاسة والسياسة. وقيل تبع ملك يتبعه قومه والجمع التبابعة". وورد في القرآن الكريم: "وقوم تبع" في جملة الأقوام التي كذبت فحق عليها وعيد.
وذكر بعض أهل الأخبار "أن العرب لم تكن تسمي أحدا تبعا حتى يملك
اليمن والشحر وحضرموت، وقيل: حتى يتبعه بنو جشم بن عبد شمس". فإن لم يكن كذلك سمي ملكا، وأول من لقب منهم بذلك "الحارث بن ذي شمر"وهو الرائش. ولم يز ل هذا اللقب ملازما لملوكهم إلى أن زالت مملكتهم بملك الحبش اليمن.
وذكر أن العرب كانت تسمي الملك "الحصير" ئ لك. لأنه محجوب عن الناس، أو لكونه حاصرا، أي مانعا لمن أراد الوصول اليه. قال لبيد.
وقماقم غلب الرقاب كأنهم جن على باب الحصير قيام
والمراد به النعمان بن المنذر. وروي لدى طرف الحصير قيام. أي عند طرف بساط النعمان.
وذكر بعض أهل الأخبار أن "حمير" تسمي الحاكم "الفتاح" بلغتها.

(1/2692)


--------------------------------------------------------------------------------

والعادة ان الملكية وراثية، تنتقل من الآباء إلى الأبناء، ويتولاها الابن الأكبر في الغالب. فإذا حكم هذا وتوفي، انتقلت إلى ابنه الأكبر، وهكذا. وبذلك يحرم إخوته الآخرون، إلا إذا نص الأب الملك على خلاف ذلك، كأن يذكر اسم الذي سيخلفه،أو يعين جملة أبناء أو أشخاص يحكمون من بعده على التوالي، فإذا توفي الابن الأكبر مثلا، انتقل الحكم إلى اخيه الذي يليه، وهكذا إلى نهاية الوصية. وقد يوصي المتوفى لأخيه من بعده، أو لإخوته، بدلا من ابنه أو اولاده، فنظام الحكم اذن نظام وراثي في العادة، ينتقل طبيعة إلى الابن الأكبر للحاكم المتوفى، إلا إذا حدث خلاف ذلك، لوصية يوصيها المتوفى ولرأي يراه، أو لأحوال قاهرة كأن يكون الشخص المتوفى عقيما لا عقب له، فقي مثل هذه الحالة ينتقل الحكم إلى أقرب الناس اليه، بحسب وراثة الدم، أو بحسب رأي الأسرة التي ينتمي اليها المتوفى.فيكون عندئذ لها وللمدنين والوجهاء الرأي والاختيار.
والعادة ان الحكم يكون في الأسر الكبيرة الرفيعة، ينتقل إما من أب إلى ابن على حسب العمر، وإما إلى أخ أو غيره من افراد الأسرة. وقد ينشب خصام بين افراد هذه الأسرة في موضوع تولي العرش، ولا سيما في العهود القديمة، حيث لم يكن العرف قد استقر على ضرورة انتقال الحكم من الأب إلى ابنه الأكبر. فتنقسم الأسرة، وقد يطول انقسامها، عند تكافؤ المتخاصمين واستعانة كل فريق على الاخر بمؤيدين اقوياء، فيدعي حق الحكم له، ويلقب زعيمه بلقب "ملك". وتفتح هذه الخصومات الأبواب لزعماء الأسر الكبيرة الأخرى،لمنافسة الأسر الحاكمة على الحكم، فتدعيه ايضا لنفسها وقد تنجح مدة وقد تنجح في انتزاعه من الأسر الحاكمة وابتزازه لنفسها.

(1/2693)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد يقارع تلك الأسر شخص من سواد الناس من المغمورين، وينتزع الحكم من أصحابه، وذلك يفضل كفاية فيه، وقوة شخصية دفعته للتزعم وللطموح. وفي تأريخ الحكم في ألعربية الجنوبية أمثلة عديدة على ذلك. وقد يصر هذا الشخص مؤسس أسرة حاكمة جديدة، إذ ينتقل الحكم منه الى أبنائه أو اعضاء أسرته بعد وفاته، وقد يقتصر الحكم عليه، فإذا توزع وقتل أو مات، قتل حكمه بقتله، ومات اغتصابه له بموته.
وقد أرتنا بعض كتابات المسند أن العرب الجنوبيين، لم يجدوا غضاضة في تلقب أب وابنه أو اب وأبنائه أو أخ وإخوته بلقب "ملك" في وقت واحد، فقد انتهت الينا كتابات عديدة، وفيها أب يحمل لقب ملك، ومعه أبناؤه يحملون هذا اللقب كذلك، كما انتهت الينا كتابات يحمل فيها أخ وإخوته لقب "ملك". وقد يدل ذلك على اشتراك المذكورين في الكتابة اشتراكا فعليا في الحكم، غير ان ذلك لا يعني الحتمية، فقد يجوز أن يكون "الملك" برد لقب يمنح لذلك الشخص أو لأولئك الأشخاص ليشير إلى صلة الشخص أو الأشخاص به، أو إلى منزلته ومنزلتهم بين الناس.
وقد يكون ذلك.للتخفيف عن أعمال الملك بسبب من كثرة عمله أو من عدم تمشه من القيام بأعمال الملك كلها لضعف شخصيته وقابلياته، أو لمرض ألم به، أو لأن الملك أراد بذكرهم معه تدريبهم على أعمال الحكم، حتى يكونوا قد خبروا أمور الملك إذا انتقل الحكم اليهم، مع بقاء الملك الأصل في عرشه ومكانه، يمارس أعماله على نحو ما يريد.
ولم يصل الينا نص ما من العربية الجنوبية يشير إلى وجود امم ملكة على عرش إحدى الحكومات التي تكونت هناك. اما خارج العربية الجنوبية، وخارج جزيرة العرب، فقد وردت في الكتابات الآشورية وفي كتابات غيرها أسماء ملكات عربيات، وكل ذلك دليل على ان العرب الشماليين لم يجدوا ما يمنعهم من تعيين ملكات عليهم، وان ملكات ولين حكومات.

(1/2694)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد كان ذلك قبل الإسلام بزمن طويل. أما في الأيام القريبة من الإسلام، فلم نعثر على اسم ملكه حكمت فيها، لا في الكتابات ولا في القصص الذي يرويه الاخباريون عن تلك الأيام.
ولا نعرف في جزيرة العرب نظاما انتخابيا عاما ينتخب الشعب فيه ملكه على النحو الذي نفهمه في الزمن الحاضر، أو على النحو الذي كان معروفا عند الرومان أو اليونان في زمن من الأزمان، انتخابا لأمد محدود معين بسنين أو لأمد طويل يحد حياة الإنسان، فلم يرد نص ما فيه لشيء من ذلك، ولم يرد في قصص الأخبارين ما يشير إلى وجود مثل هذا الانتخاب.
ولا نعرف أيضا ان المزاود وهي المجالس أو طبقة قادة الجيش أو سادة المدن والقبائل كان لها رأي في تعيين الملوك، أو إقرارهم على نحو ما كان يجري في الدولة البيزنطية. ولا نعرف كذلك اكان لأحد حق اقالة الملوك وتنحيتهم عن عرشهم إذا تبين انه غير صالح لتولي الحكم لسبب من الأسباب، فإننا لم نتعرف حتى الآن على نصوص تتحدث عن مثل هذه الأمور. وأما قيام شخص من الأسرة المالكة أو من غيرها بمنافسة الملك أو بالثورة عليه وانتزاع الملك مكنه، فإن ذلك شيء آخر، يعود إلى أستعمال القوة والخروج عن الظاعة، وهما بالطبع من الأمور المخالفة في كل عهد وزمان.

(1/2695)


--------------------------------------------------------------------------------

لقد تحدث "الهمداني" عن طريقة من طرق تعيين المللك عند "حمير"،فقال: "وبأسفل المعافر قصر ذي شمر، ويدخلون في قيالة حمير، وكانت أقوالها تكون في كل عصر ثمانين قيلا من وجوه حمير وكهلان، فإذا حدث بالملك حدث، كانوا الذين يقيمون القائم من بعده ويعقدون له العهد. وكان قيام الملك من قدماء حمير عن إجماع رأي كهلان، وفي الحديث عن رأي اقوال حمير فقط، وكانوا إذا لم يرتضوا بخلف الملك، تراضوا لخيرهم، وأدخلوا مكانه رجلا ممن يلحق بدرجة الأقوال، فيتم الثمانين قيلا، ولم يكن هذا في حمير إلا مرات يسيرة لأن الملك لم ييكن يعدو الرائش، إلا ان يتوفى الملك واولاده صغار، أو يكل، فيفعل ذلك حتى يتدبر في سواه من ال الرإئش.
وما ذكرته عن حكاية "الهمداني" عن كيفية تعيين الملوك في حمير، يؤيد كون الملكية في اليمن ملكية وراثية تنتقل في الأصل بالإرث من الأب الى الابن، إلا في الحالات الطارئة، مثل موت ملك فجأة وأولاده صغار، أو موته وهو عقيم لا خلف له، ولم يوص لأحد بالحكم من بعده، فيكون الرأي لسادات المملكة الذين جعل "الهمداني" عدة مجلسهم ثمانين قيلا، فيختارون للملك من يرون أنه أكفأ الناس للملك، وينصبونه ملكا. وقد رأينا انه نص في حديثه هذا على أن ما ذكره يتناول حالات خاصة، وقد وقع في مرات يسيرة، لأن الملك لم يكن يعدو الإرث المعهود عنهم الذي ينتقل في الأسره المالكة.

(1/2696)


--------------------------------------------------------------------------------

ولعل هذه الظروف الطارئة هي التي حملت الملك على تنصيب ابن له أو ابنين أو أخ له ملكا معه يلقب بلقب الحكم في أثناء حياته، ويذكر ويذكرون بعده في الكتابات. وغايته من هذا النص هو أن الشخص المذكور اسمه بعد اسم الملك، هو الذي يرث الملك بعد وفاة الملك لسبب من الأسباب، فلا يقع حينئذ خلاف ما في تعيين الشخص الذي سيلي الملك. ولعل ذلك كان يحدث عند مرض الملك أو عند تقدمه في السن وشعوره بالعجز والكلال، أو لكونه محاربا فهو يخشى أن يقتل في المعارك، وما أشبه هذا، فكان يحتاط لذلك بالنص على اسم من يليه وتعيينه معه ليعينه في تحمل أعباء الحكم، حتى إذا حدث له حادث يكون قد تدرب على ادارة الملك.
وذكر بعض اهل الأخبار انه لم يكن لملوك اليمن نظام، وانما كان الرئيس منهم يكون ملكا على مخلافه لا يتجاوزه. وإن تجاوز بعضهم عن مخلافه بمسافة يسيرة من غير ان يرث ذلك الملك عن ابائه فلا يرثه أبناؤه عنه، وانما هو شأن شذاذ المتلصصة، يغيرون على النواحي باستغفال اهلها، فإذا قصدهم الطلب لم يكن لهم ثبات. وكذلك كان امر ملوك اليمن، يخرج احدهم من مخلافه بعض الأحيان، ويبدو في الغزو والإغارة، فيصيب ما يمر به، ثم يرجع عنه، عند خوف الطلب، زاحفا إلى مكانه من غير ان يدين "له احد من غير مخلافه بالطاعة أو يؤدي اليه خراجا.
وقد اخذوا وصفهم هذا السلوك من الحالة السياسية التي كانت في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية، ايام تدهور الأوضاع بعد الميلاد، ولا سيما في أوائل القرن السادس للميلاد إلى دخول العربية الجنوبية في الإسلام. فقد استبد الحكام وأصحاب الاقطاع بالمخاليف، ولقبوا أنفسهم بألقاب الملك، وأخذ بعضهم يغير على بعض، ويغزو ارض جاره على طريقة الأعراب.

(1/2697)


--------------------------------------------------------------------------------

والسيادة على القبيلة، هي كالملكية تنتقل إلى مستحقها بالوراثة في الغالب. فإذا توفي سيد قبيلة، انتقلت سيادتها إلى ابنه الأكبر. هذا عامر بن الطفيل، وهو ابن سيد قبيلة، وقد صار سيدها بعد وفاة والده، يفتخر بنفسه، ويذكر انه ورث السيادة من وراثة، اذ أتته من والده، هذا صحيح، وليس في ذلك. من شك، لكن قومه لم يسودوه ولم يعينوه مكان ابيه، لهذا السب، وانما سودوه لأنه كان يحمي حمى قبيلته ويذب عنها،ولأن فيه شروط السيادة وحقوقها، فهو سيد قومه، قبل ان تأتي السيادة اليه من والده: وإني وإن كنت ابن سيد عامر وفارسها المشهور في كل موكب
فما سودتني ني عامر من وراثة أبى الله أن أسمو بأم ولا أب
ولكنني أحمي حماها وأتقي أذاها وأرمي من رماها بمنكب
وهذا "بشامة بن الغدير"، خال "أبي سلمى" والد زهير، يقول في شعر له:- وجدت أبي فيهم وجدي كليهما يطاع ويؤتى أمره وهو محشتبي
فلم أتعمل لمسيادة فيهم ولكن أتتني طائعا غيرمتعب
فهو رئيس ابن رئيس قبيلة،أتته السيادة من أبيه طائعة، لفضل فيه واستحقاق لها، دون ان يعمل وان يركض للحصول عليها. فالسيادة اذن عند العرب، تتبع نظام الارث في الغالب، إلا إذا حدث حادث يجعل أهل بيت السيادة، يعرضون عن الإبن الأكبر الى غيره، كأن يكون الآبن الأكبر معتوها أو سفيها أو ضعيفا، واخوته أو أقرباؤه أقوى منه.
الأمراء

(1/2698)


--------------------------------------------------------------------------------

والأمير ذو الأمر، اي الآمر. وأولو الأمر: الرؤساء واهل العلم. وذكر ان الأمير الملك لنفاذ أمره، والجمع امراء، وهو يأمر إمارة. ولما كان الخليفة في الإسلام اميرا على المسلمين، نعت ب "أمر المؤمنين"، ولم ترد اللفظة في النصوص الجاهلية بمعنى "ملك". ويظهر انها كانت تعني عند اهل الحجاز الرئيس الآمر. وقد ورد في كتب التأريخ ان الأنصار لما اختلفوا مع المهاجرين بعد وفاة الرسول على "الإمارة" واجتمعوا في "سقيفة بني ساعدة" قالوا: " منا أمير ومنكم أمير ". وفي استعمال الأنصار لهذه اللفظة، دلالة على وجودها عند الجاهليين واستعمال اهل الحجاز لها بهذا المعنى في ايام الجاهلية.

(1/2699)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من الموارد "البيزنطية" ومن روايات اهل الأخبار، أن الملوك الغساسنة والملوك من "ال نصر"، اي ملوك الحيرة، لم يكونوا ملوكا بالمعنى العلمي الصحيح المفهوم من الكلمة، وإنما كانوا "عمالا"، إذا كاتبهم الروم أو الفرس، لقبوهم ب "عامل". إذ عينوهم عمالا على الأعراب ولم يعينوهم "ملوكا". فلقب "ملك" من الألقاب الخاصة بملوك الروم لم يمنحوه لغيرهم. وكذلك كان الشأن عند الفرس. نعم لقد ذكر المؤرخ "بروكوبيوس" Procopius ان القيصر "يسطنيانوس" Justinianus منح "الحارث بن جبلة" لقب "ملك" ولقب بعض الكتبة اليونان سادات غسان باللقب المذكور. غير ان هذا التلقيب لا يمكن ان يكون دليلا على أن الدولة الييزنطية كانت تطلقه عليهم بصفة رسمية وانه كان لقبهم الرسمي المعترف به عند الدول الأجنبية. ومن هنا شك المستشرق "نولدكه" في صحة رواية "بروكوبيوس" بشأن منح الحارث لقب "ملك"، ذلك لأن لقب "ملك" كان خاصا كما ذكرت بقياصرة البيزنطيين فلا يمنح لغيرهم، ولأن الوثائق الرسمية لم تطلق هذا اللقب عليهم. ثم إن نص ابرهة الشهير الذي تحدثت عنه أثناء حديثي عن "ابرهة"، لم يلقب "المنذر" ولا "الحارث بن جبلة" بلقب "ملك"، بل لم يلقبهما بأي لقب، بما في ذلك لقب عامل. وهذا مما يدل على أن "آل نصر" و "آل غسان" وإن لقبوا أنفسهم بلقب "ملك" أو لقبهم العرب به، إلا ان ذلك التلقيب لم يكن بصفة دولية رسمية، وانما كان بصورة غير رسمية وعلى سبيل التجمل بهذا اللقب
والتشبه بالملوك الأجانب، استعمله الناس من باب التزلف والتقرب إلى اولئك الحكام، أو انهم نظروا اليهم من وجهة نظرهم الخاصة، فدعوهم ملوكا لأنهم كانوا رعيتهم وكانوا هم مالكي رقبتهم. ومن هنا اعترفوا بهم ملوكا، أما الدول الأجنبية فقد اعتبرتهم مجرد عمال وسادات قبائل.

(1/2700)

admin
12-31-2010, 08:15 PM
والذي صح اطلاقه على أمراء الغساسنة، وثبت وجوده في الوثائق الرسمية، هو لقب "بطريق" Patricius، ولقب "عامل" أو رئيس قبيلة Phylarcos=Phylarkos=Phylarchus مقرونا بنعت من النعوت التابعة له، أو مجردا منه، كالذي جاء عن المنذر الذي حكم بعد الحارث بن جبلة "فلابيوس المنذر البطريق الفائق المديح، ورئيس القبيلة"، و "المنذر البطريق الفائق المديح،، وما ورد عن الحارث "الحارث البطريق ورئيس القبيلة".
ولقب "اليطريق" من ألقاب الشرف الضخمة عند الروم، ولذلك لم يكن يمنح إلا لعدد قليل من الخاصة، ولصاحبه امتيازات ومنزلة في الدرلة حتى ان بعض الملوك كانوا يحبذون الحصول على هذا اللقب من القيصر، ويفضلونه على غيره من الألقاب.
ويلاحظ أن بعض كتبة اليونان أطلقوا لقب "ملك" على الأمراء العرب، مثل "ماوية" فقد لقبوها ب "ملكة". ولم يستعملوا كلمة "فيلارك" "فيلارخ" "فيلاركس" "فيلاركوس" التي تعني "العامل" أو "سيد قبيلة". والظاهر انهم نهجوا في ذلك نهج الكتبة "السريان"، فقد لقبوا سادات القبائل العربية بلقب "ملك" على نحو ما نجلد في الشعر العربي. ويظهر ان عرب العراق كانوا قد لقببوا حكام "الحيرة" بلقب "ملك" و "ملوك"، وأن عرب بلاد الشام لقبوا حكامهم الغساسنة بلقب "ملك" كذلك، وذلك على سبيل التفخيم والتعظيم كما ذكرت، وباعتبار انهم حكامهم ومالكو أمرهم. كما لقب من خضع ل "ال آكل المرار " حكامهم من هذه العائلة بلقب "ملك". وكما لقب بعض سادات القبائل أنفسهم بلقب "ملك"، ولم يكونوا ملوكا، بل كانوا سادات قبائل و "أمراء".

(1/2701)


--------------------------------------------------------------------------------

ومما يؤيد أن حكام الحيرة وغسان، لم يكونوا "ملوكا" في نظر الدول الأجنبية بل عمالا، ما نجده من اطلاق أهل الأخبار عليهم لقب "عامل" ولقب "ملك" أيضا. فكانوا إذا تحدثوا عن صلاتهم بالفرس، أو نقلوا من موارد فارسية قالوا لهم "عمالا"، وقالوا عنهم جملا مثل: " كان يلي ذلك من قبل ملوك الفرس من آل نصر... وقدر ولاية كل من ولي منهم. وأمثال ذلك من جمل تشعر أنهم كانوا عمالا وولاة. أما إذا تحدثوا عنهم من ناحية حكمهم للحيرة وللعرب وعن صلاتهم بالشعراء وبمدد حكمهم لقبوهم ب "ملك" وقالوا: "وقد ملك...."، وسبب ذلك أنهم أخذوا أخبارهم من منبعين: منبع اجنبي يوناني وفارسي، وهو منبع وثائقه -مدونة ومورودة من الموارد الرسمية التي تنعتهم ب"عمال". ومنبع عربي يلقبهم ب "ملوك"، استند على العرف العربي أي على ما كان يخاطب به العرب أولئك الملوك، فوقع من ثم هذا الالتباس.
السادات
وسادة القوم أشرافهم ورؤسائهم، وذكر ان السيد الذي فاق غيره بالعقل والمال والدفع والنفع، المعطى ماله في حقوقه المعين بنفسه. وذكر ان السيد الحليم الذي لا يغلبه غضبه.
والسيادة منزلة ودرجة، ولا تأتي أحدا إلا باعتراف قومه له بسيادته عليهم وبتنصيبهم له سيدا عليهم. إذا سودوا شخصا، عصبوه. والتعصيب التسويد. ولهذا كانوا يسمون السيد المطاع معصبا. وذكر ان العصابة العمامة. وكانت عمائم سادة العرب هي العمائم الحمر.
وتعد الأسر الحاكمة التي ينشأ فيها عدد كبير من الملوك والحكام أسرا عريقة في الشرف. وينظر اليها نظرة تقدير واحترام، لأنهم ورثوا المجد عن آبائهم أبا بعد أب.وينطبق ذلك على سادات القبائل الذين يرثون سيادتهم على قبائلهم أبا عن جد، فإنهم يفتخرون بذلك على غيرهم، لأنهم ليسوا من أولئك الذين انتزعوا السيادة فصاروا سادة، على حين كان آباؤهم أو أجدادهم من الخاملين.

(1/2702)


--------------------------------------------------------------------------------

ويعبر عن السادة والأشراف بتعابير التعظيم والتفخيم، ومنها لفظة "ابعل" "أبعل"، أي سيد ورئيس. وهي لفظة استعملت للالهة كذلك. استعملت بمعنى رب وإله. فورد "ود بعل..."، و "عثتر بعل..."، وهكذا. وقد استعملت في النصوص القديمة خاصة.
ويقال للسادة "اسود" "اسواد" في العربية الجنوبية، وهم السادة الأشراف. وتقابل اللفظة لفظة سادات في عربيتنا. وهم سادة القوم وأشرافهم وأصحاب المنزلة والمكانة في المجتمع.
ويعد أعضاء الأسر المالكة في طليعة السادات، وهم في السيادة على حسب قربهم أو بعدهم من الملك، ويقسمون على هذا الأساس عند حضورهم إلى الملك وفي المواسم الرسمية. ولهم أرضون يستغلونها، ورقق يخدمهم.
وكانوا يقولون: "هذا سيدنا"، و "انظروا إلى سيدكم"، و "جاء سيدنا"، تعبيرا عن السيادة والرئاسة. وقد كره الرسول أن يقال له: "أنت سيد قريش"، و "أنت سيدنا"، كما كانوا يدعون رؤساءهم.
علائم الملك

(1/2703)


--------------------------------------------------------------------------------

وللملك علامات ومميزات تميزه عن غيره من الناس. منها "التاج" والعرش والرمح أو الحربة وعربة الملك والحرس الخاص ووجود محل خاص يخصص له في المعبد ونقد يضرب عليه اسمه وشعاره وصورته. و "قصر" له يحكم منه، أو قبة كبيرة يتخذها قرارا له ومجلسا حين يبتدي أو يخرج للصيد إلى غير ذلك من علامات، تكون سيماء للملك، وعلامة فارقة تميزه عن رعيته وعن سواد مملكته. وقد وصلت الينا بعض الاثار التي تشير الى شعار الملوك وعلائمهم ومنها النقود. فلدى العلماء وفي المتاحف العامة والخاصة اليوم، نقود ضربت في العربية الجنوبية، منها نقود معينية وقتبانية وحميرية. وقد ضرب عليها أسماء الملوك أصحابها. ومن ذلك نقد ظهر الملك "اب يثع" "ا ب ي ث ع" "ابيشع" فيه وهو جالس على كرسي، لعله يرمز إلى كرسي العرش. أما رأسه، فهو مكشوف بغير غطاء. مما يدل على أنه لم يستعمل "التاج". ولا نجد التاج على رؤوس يقية الملوك ممن ضربت صورهم على النقود. ولا على التماثيل التي عثر عليها لبعض ملوك أوسان.
ولما كنا لا نملك في الوقت الحاضر، صور ملوك جاهليين، ولا تماثيل كافية أو كتابات تشير إلى شعار الملوك وعلاماتهم ونوع ملابسهم وأمثال ذلك مما يميز الملوك عن الرعية، لذلك صار الحديث في هذا الموضوع من اختصاص الأجيال القادمة، فلعلها تعثر على آثار هي الآن في باطن الأرض، فيها حديث شيق عنه، فتقدمه لهم لنشره للناس.
ومن علامات الملك "العمارة: رقعة مزينة تخاط في المظلة علامة للرياسة.

(1/2704)


--------------------------------------------------------------------------------

و "العمار": ما يضعه الرئيس على رأسه عمارة لرياسته وحفظا لها، ريحانا كان أو عمامة. وكانوا إذا استقبلوا ملكا أو رئيسا، استقبلوه بالريحان، يرفعونه له، وكانوا إذا جلسوا مجالس شربهم، زينوها بالريحان، فإذا دخل عليهم داخل، رفعوا شيئا منة بأيديهم وحيوه به.كما كانوا يضعون أكاليل الريحان على رؤوسهم كما تفعل العجم. وإذا سار الملك بين الناس، استقبلوه برمي الريحان عليه، وبنثر الورود عليهم، تحية للملوك.
وذكر ان من علائم الملك، أن يقال للملك أو السيد المطاع: "أبيت اللعن".
وقد زعموا أن "حذيفة بن بدر" كان يحيى بتحية الملوك ويقال له: أبيت اللعن. وقد ترك ذلك في الإسلام.
مظاهر التتويج
وكان من عادة الملوك الاعلان عن تتويجهم للناس، والاحتفال بيوم التتويج والإفصاح عنه، وعندئذ يتلقب الملك بلقب يختاره لنفسه، يعرف به "هملقب".
وكان من عادة ملوك حضرموت مثلا الاحتفال بحمل اللقب في "محفد أنود" "محفد انودم". وقد انتهت الينا جملة كتابات تشير إلى هذا المحفد. وقد اختتمت بكلمة "هملقب" أي "ليتلقب"، واستعملت فيها بعض التعابير والكلمات التي لها صلة بهذه المناسبة، مثل "متلل"، ومعناها "بين" و "شهر" وأظهر، و "علن"، ومعناها أعلن، ليكون ذلك معروفا بين الناس.

(1/2705)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد يدعى إلى هذه الاحتفالات رجال من حكومات أخرى، لمشاركة الملك وحكومته في الأفراح والمسرات، فيأتي رجال من قتبان أو من حضرموت أو من حكومات أخرى أى سبأ مثلا، لتهنئة ملكها وحكومتها، يحملون اليه الهدايا والألطاف التي تقدم في أمثال هذه المناسبات. ولا يستبعد استدعاء مندوبين من خارج العربية الجنوبية لحضور هذه المناسبات، غير أننا لم نظفر، ويا للأسف، بنص يفيد ورود رسل أجانب أو زيارات ملوك إلى اليمن وبقية العربية الجنوبية لهذه المناسبات، ان لمناسبات أخرى مثل الدعوة إلى زيارة العربية الجنوبية ومشاهدتها في الأعياد أو في سائر الأيام، إلا ما رأيناه في عهد "أبرهة" الحبشي.
وقد حافظ ملوك العربية الجنوبية، على اختلاف حكوماتهم، على عادة اتخاذ الألقاب الملكية حين تولي العرش. فالرجل الذي يملك لا بد له من اتخاذ لقب له، يعرف به. وقد بقوا يحافظون على هذه العادة إلى ما بعد الميلاد. ثم أخذوا يتساهلون في حمل هذه الألقاب ولا سيما بعد تدخل الحبش في شؤون العربية الجنوبية ودخول اليهودية والنصرانية اليها. وقد كان فراعنة مصر يتخذون لهم لقبا ملكيا عند توليهم العرش. وتجد هذه العادة، عادة اتخاذ ألقاب ملكية خاصة، عند ملوك آشور وعند غيرهم من الملوك، ليتميزوا بذلك عن أسماء الناس. ولهذه الألقاب صلة بالألهة التي كانوا يعبدون.

(1/2706)


--------------------------------------------------------------------------------

ومعارفنا في "مراسيم التتوييج" مع ذلك ضئيلة جدا، ولا سيما ما يخص العرب الشماليين، فلا نعرف اليوم شيئا يستحق الذكر عن كيفية التتويج وعن المراسيم والحفلات التي كانت. تقام عندهم في هذه المناسبات. ولم نعثر حتى اليوم على نص جاهلي يصف أسلوب التتويج وكيفية اجراء المراسيم الخاصة بالتتويج عند الجاهليين عامة. فلا ندري أكانت تلك المراسيم تتم في المعابد وبرئاسة رجال الدين كما كانت الحال عند الاشورين وعند غيرهم مثلا، حيث يقوم رجل الدين الأكبر بإجراء الطقوس الدينية وبتلاوة الصلوات والأدعية، ثم يقوم بعد ذلك بوضع التاج على راس الملك، وأمام تمثال الإله: "آشور". أم كانت تلك المراسيم تتم في القصور الملكية، ام كانت تجري بسذاجة وبغير تكلف، بأن يأتي، سادات القوم لتهنئة الملك، ثم تقام المآدب.
ويظهر من أخبار أهل الأخبار ان عادة اتخاذ الألقاب الملكية لم تكن معروفة عند ملوك الحيرة والغساسنة وملوك كندة وأمثالهم ممن وعت أسماءهم ذاكرتهم، بدليل ورود أسمائهم ساذجة لا تختلف عن تسميات الناس بشيء ليمس فيها نعوت ولا صلة بالآلهة على نحو ما نجده في العربية الجنوبية عند المعينيين والسبئين والقتبانيين، وغيرهم من حكومات ظهرت هناك.
ولم تصل الينا أخبار في وصف كيفية احتفال ملوك الحيرة أو الغساسنة عند تتويجهم، أو عند وفاة ملوكلهم وكيفية دفنهم، ثم كيفية تنصيب خلفائهم من بعدهم. ولا بد بالطيع من أن تكون تلك الحكومات قد احتفلت في هذه المناسبات،وأن يكون ملوكها قد جلسوا لتقبل التهاني من الهنئين، وأن يكونوا قد أولموا الولائم لكبار الوافدين عليهم. وتجد في أخبار "مكة" أن سادتها مثل "عبد المطلب"، كانوا يقصدون ملوك اليمن عند انتقال العرش اليهم لتهنئتهم ولتقديم التبريكات لهم. ثم يمضون أياما هناك حتى تنتهي ايام التهنئة، فيغدق الملك عليهم بالألطاف والطرف، لمناسبة عودتهم إلى ديارهم. وتكون هذه الألطاف من دواعي الفخر عندهم.

(1/2707)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا نعرف شيئا عن رسوم "البيعة" عند الجاهليين. وأعني بالبيعة كيفية مبايعة الملوك عند انتقال الملك اليهم. ولكن المألوف بين العرب ان كبار الناس يبايعون الملوك، بوضع أيديهم اليمنى على يد الملك اليمنى، ثم يبايعونه على الاخلاص له والسمع والطاعة وما شاكل ذلك من جمل وعبارات. وقد يقسمون له بمين الطاعة والولاء. وقد ورد في بيعة الناس لرسول الله يوم فتح مكة،ما قد يشرح لنا اصول بيعة في الحجاز. فقد ذكر ان الناس اجتمعوا، فجلس لهم رسول الله على الصفا وعمر بن الخطاب تحت رسول الله، أسفل من مجلسه يأخذ على الناس. فبايعوا رسول الله على السمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا، وكذلك كانت بيعتهم لمن بايع رسول الله من الناس على الإسلام. فلما فرغ رسول الله من بيعة الرجال بايع النساء، واجتمع اليه نساء من نساء قريش، وكانوا قد وضعوا إناء فيه ماء بين يدي رسول الله، فإذا أخذ عليهن العهد وأعطينه غمس يده في الإناء، ثم أخرجها، فغمس النساء أيديهن فيه.وكان بعد ذلك يأخذ عليهن، فإذا أعطينه ما شرط عليهن، قال: اذهبن فقد بايعتكن، لا يزيد على ذلك. وتكون هذه البيعة بغيرماء.
وتكون المبايعة مبايعة السادات والأشراف للملك أو لسيد القبيلة. والمبايعة هي المعاقدة والمعاهدة على الطاعة. وبايعه عليه مبايعة عاهده. كأن كل واحد منهما باع ما عنده لصاحبه وأعطاه خالصة نفسه وطاعته ودخيلة أمره. ويبدأ أقرب الناس من الملك بمبايعته ثم الأبعد فالأبعد حسب الوجاهة والمكانة. ولا بد وأن يكون للشعراء والخطباء المكان الأول في "البيعة"، فالبيعة هي من المناسبات ألتي يبحث عنها لسن الناس، لإظهار انفسهم وللحصول على نوال وعطايا المبايعن، ولا تحدث هذه المناسبات إلا في الفترات، لهذا كانوا يتلهفون لسماع أخبارها، لعرض ما عندهم من فنون القول، ولنيل ما عند الملوك من الكرم والبذل.

(1/2708)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان ملوك الجاهلية يأخذون الوضائع والودائع من السادات والوجوه، لتكون رهائن عندهم بالوفاء بعهود البيعة، لخشيهمم من خيسهم بعهدهم وتنصلهم منه. وقد فعل "الأكاسرة" مثل ذلك بسادات القبائل، فأخذوا "الوضائع" منهم، وجعلوها رهنا عندهم. وقد عرفت ب "وضائع كسرى". ووضائع كسرى: هم الرهائن كان يرتهنهم وينزلهم بعض بلاده، حتى يصيروا بها وضيعة. وهم الشحن والمسالح. وقد بعث رسول الله، إلى وضائع كسرى بهجر، فلم يسلموا، فوضع عليهم الجزية دينارا على كل رجل منهم. وكانت "وضائع كسرى" من أبناء أشراف العجم، ومن خضع لحكمه من عجم وعرب.
التيجان
ويضع الملوك شيئا فوق رؤوسهم، يتوجون به أنفسهم ليميزهم بذلك عن الرعية، يسمى "التاج" في عربيتنا.
ولا نعرف في الزمن الحاضر اسم "التاج" في العربيات الجنوبية. لعدم وروده في نصوص المسند. اما أهل الحيرة والغساسنة وعرب نجد والعربية الشرقية، فقد عرفوه واستعملوه، فورد في نص النمارة من سنة "328 م." حيث ورد "ذو اسر التج" أي "الذي حاز التاج". وهذا النص هو أقدم نص تأريخي مدون وردت فيه هذه الكلمة. وقد وردت الكلمة في الشعر، إذ جاء "تاج آل محرق" وفي أخبار."النعمان" حيث عرف "بذي التاج". وذكر علماء اللغة أن التيجان للملوك.
وقد رصع ملوك الحرة تيجانهم بالأحجار الكريمة على طريقة الفرس. وقد ورد في بيت شعر لمالك بن نويرة اليربوعي ان تاج النعمان بن المنذر كان من الزبرجد والياقوت والذهب.

(1/2709)


--------------------------------------------------------------------------------

ونحن إذا جهلنا اليوم التاج أو أي شعار آخر يشير إلى الملك والحكم كان يصنعه ملوك العربية الجنوبية على رؤوسهم ليكون سمة لهم تميزهم عن الرعية وعمن هم دونهم، فان ذلك لا يعني اننا ننكر وجودا لشعار الملك عندهم، بل إني أرى انه لا بد أن يكون لأولئك الملوك من تاج ومن شعارات أخرى، كانوا يتخذونها لتميزهم عن غيرهم ولتشعرهم بأنهم أصحاب السلطان. وإذا كان لملوك الرومان والروم والحبشة والفرس تيجان، فلم لا يكون لملوك العربية الجنوبية تيجان، وقد كانوا يحاكون ملوك زمانهم في رسوم الملك وأسلوب الحكم ? وفي عربيتنا لفظة أخرى استعملت لتمييز شخص، عن بقبة أناس في المنزلة والدرجات، هي لفظة "الإكليل". فلمن يضع الإكليل على رأسه منزلة رفيعة، إلا انها لا تبلغ درجة "ملك" ولا تؤدي معنى "تاج". فالتاج لا يكون إلا للملوك. وأما "الإكليل" فلمن دونهم. وقد كان شيئا يضعه الشخص فوق مفرق رأسه، قد يعلق به خرز وأحجار وقد لا يعلق. وقد ورد في بعض الأخبار أن "هوذة بن علي الحنفي"، صاحب اليمامة، كان يضع إكليلا على رأسه، واليه أشار الأعشى في شعره: له أكاليل بالياقوت، فصهلها صواغها لا ترى عيبا ولا طبعا
وقد عرف "الإكليل" انه شبهه عصابة مزينة بالجواهر،ويسمى التاج إكليلا. وقيل: إن الإكليل يجعل كالحلقة، ويوضع على أعلى الرأس.
وقد ورد في روايات أخرى ان كسرى أعطى "هوذة" قلنسوة فيها جوهر، فكان يلبسها، فسمي ذا التاج. غير ان أكثر الروايات تعارض في حصول "هوذة" على التاج، وفي بلوغه منزلة ملك. وترى ان تلقيبه ب "ذي التاج" هو على سبيل المجاز، وان الذي كان يضع على رأسه هو إكليل،لا تاج من التيجان.

(1/2710)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر بعض الأخباريين أن التيجان كانت لليمن، وذكر أن غيرهم كانوا يتوجون أنفسهم بخرزات تنظم لهم. ويقال إن الملك كان إذا ملك سنة زيد في تاجه وقلادته خرزة،ليعلم عدد السنن التي ملك فيها. وذلك كالذي ورد في بيت شعر من قصيدة قالها لبيد في رثاء النعمان بن المنذر، وهو قوله:. رعى خرزات الملك عشرين حجة=وعشرين،حتى فاد والشيب شامل وقد ورد في شعر أعشى بكر في هوذة بن علي الحنفي الذي كان يجيز لطيمة كسرى في كل عام: من ير هوذة يسجد غيرمتئب إذا تعصب فوق التاج أو وضعا
له أكاليل بالياقوت فصلها صواغها لاترى عيبا ولا طبعا
ويتبين من ذلك ان هوذة كان من أصحاب التيجان. غير أن بعض العلماء ينكرون وجود التيجان عند غير أهل اليمن، ويقولون كما ورد عن أبي ****ة عن أبي عمرو: " لم يتتوج معدي قط، وإنما كانت التيجان لليمن. ولما سئل عن هوذة بن علي الحنفي، قال: إنما كانت خرزات تنظم له.
وذكر ان عادة نظم الخرز في عقد يوضع على الرأس، ليكون شعارا للملك والحكم، عادة كانت معروفة في الحجاز. وقد ورد ان "عبد الله بن أبي بن سلول" كان رجلا شريفا في يثرب لا يختلف عليه في شرفه من قومه اثنان، ولم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل من أحد الفريقين غيره،وكان قومه قد نظموا له الخرز ليتوجوه ثم يملكوه عليهم. فما راعه إلا مجيء الإسلام إلى يثرب وقدوم الرسول اليها، فانصرف قومه عنه، فضغن على الإسلام، وراى ان الرسول قد استلبه ملكه.
وورد فى الحديث أن الرسول: "شكا إلى سعد بن عبادة، عبد الله بن أبي، فقال اعف عنه، يا رسول الله، فقد كان اصطلح أهل البحيرة، على أن يعصبوه العصابة. فلما ا جاء الله بالإسلام، شرق لذلك". ويعصبونه: معناه يسودونه ويملكونه، وكانوا يسمون السيد المطاع معصبا، لأنه يعصب بالتاج. وفي ذلك قال عمرو بن كلثوم: وسيد معشر قد عصبوه بتاج الملك،يحمي المحجرينا

(1/2711)


--------------------------------------------------------------------------------

فجعل الملك معصبا أيضا، لأن التاج أحاط لي رأسه كالعصابة التي عصبت برأس لابسها. ويقال: اعصب التاج على رأسه، إذا استكف به، ومنه قول قيس الرقيات: يعتصب التاج فوق مفرقه على جبين كأنه الذهب
ولا تؤدي لفظة "سموط" معنى "تاج"،بل ولا تبلغ في المنزلة منزلة "إكلبل". و "اسمط": الخيط ما دام الخرز أو اللؤلؤ منتظما فيه. وقد استعملت كلمة سموط في مقام التاج، للتعبير عن تاج ملوك الحيرة، غير انني أرى ان ذلك على سبيل التجوز، لا التخصيص. وقد ذكر علماء اللغة ان السمط يشد في العنق والجمع سموط.
ومن مظاهر الملك "السرير"، ويقال له "العرش" كذلك. ويعبر بالسرير عن الملك والنعمة. ويذكر أهل الأخبار ان أول من جلس على السرير من ملوك العرب "جذيمة الأبرش"، وهو أول من وقعت له السمعة من ملوك العرب، وأول من لبس الطوق. وقد أشير في القرآن إلى عرش ملكة سبأ، ويكنى به عن العز والسلطان والمملكة. ولذلك يقال: "عرش فلان" و "عرش الممكة" و "ثل عرشه"، و "أصحاب العروش" أي الملوك.
وذكر أهل الأخبار أن "السرير": الو ثاب. وقيل: السرير الذي لا يبرح الملك عليه، واسم الملك "موثبان". والموثبان بلغة حمير: الملك الذي يقعد، ويلزم السرير. والو ثاب المقاعد. قال أمية بن أبي الصلت: بإذن الله، فإشتدت قواهم على ملكين، وهي لهم وثاب
وقد كان الملوك يلبسون قلائد عرفت ب "قلائد الملك". تكون من الذهب والأحجار الكريمة. وربما كان "السمط" قلادة تنظم من اللؤلؤ والأحجار الكريمة، يتقلدها الملك للزينة ولتكون شعارا للملك.
وذكر علماء اللغة أن كل ما يضعه الملوك والرؤساء على رؤوسهم من تاج أو عمامة أو قلنسوة أو غيره، فهو "عمارة". و "العمارة"، رقعة مزينة نخاط في المظلة علامة الرياسة، وهي "التحية" أيضا.

(1/2712)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن عادة الملوك استخدامهم الحراس يمشون معهم إذا ركبوا، دلالة على الملك، ولحراستهم. يمشون معهم، وقد تقلدوا سلاحهم ولبسوا ألبسة خاصة تشعر انهم من حرس السلطان. ويذكر أهل الأخبار ان أول من مشت الرجال معه، وهو راكب، "الأشعث بن قيس الكندي". كانت "بنو عمرو بن معاوية" ملكوه عليهم وتوجوه. وكان من عادة الاشراف والسادات حتى في الإسلام، أن تسير مع ركابهم حاشية يتناسب عدد افرادها مع منزلة الشريف ومكانته وغناه. فكان "كريب بن أبرهة" سيد حمير في زمانه، إذا سار بالشأم خرج وتحت ركابه خمسمائة نفر من حمير يسعون.
القصور
وقد عرفت البيوت التي كان يقطن فيها المكربون وملوك العربية الجنوبية يالقصور، مثل "قصر غندن" أي "قصر غمدان" و "قصر سلحن"، أي "قصر سلحين". ولفظة "قصر" من الألفاظ الواردة في العربيات الجنوبية. وقد أشار علماء اللغة والأخبار إلى "قصور اليمن"، وذلك يدل على اختصاص اليمن بها. وذكر علماء اللغة أن القصر: المنزل، وقيل: كل بيت من حجر. وترد في لغة بني إرم على هذه الصورة: "قصرو".
ويقطن القصور حرم الملوك، أي أزواجه. وقد يكون للملك زوج واحدة، وقد تكون له جملة أزواج، إذ كانت العادة أن يتزوج الملوك بجملة نساء، ليتمتع بهن، وقد يتزوج لعوامل سياسية، فيأخذ الملك ابنة سيد قبيلة كبير، أو ابنة رجل من أصحاب الجاه والسلطان ليقوي مركزه وليحصل على مؤازرة أصحاب البنت له.
وربما لا يكتفي الملك أو سيد القبيلة بالزوجة أو الزوجات، فيضيف اليها أو اليهن عددا من "الجواري" والسراري، ممن وقعن في الأسر وعرفن بالجمال وحسن الذوق، ممن يشتريه من سوق النخاسة، وإذا ولد لهن مولود عد المولود من أبناء الملك أو سيد القبيلة إن قرر الملك أو سيد القبيلة ذلك، ويعامل معاملة أبناء الأسرة المالكة، غير أن الناس لم يكونوا ينكرون عليه نظرتهم إلى ابن ملك ولد من أم من بنات الأسر المالكة أو من أسرة شريفة معروفة.

(1/2713)


--------------------------------------------------------------------------------

ولملوك الحيرة قصور ذكر أهل الأخبار أسماء بعض منها. مثل: الخورنق والسدير، كما كان لملوك الغساسنة قصور في مواضع مختلفة من مملكتهم وقصور في دمشق، يمضون في اياما عند زيارتهم لها، وعند وجود مراجعات لهم مع حكامها من الروم. وقد ذكر أهل الأخبار أسماء بعض القصور التي بناها الغساسنة في مواضع متفرقة من الأرضين التي خضعت لحكمهم، تحدثت عنها في أثناء كلامي على الغساسنة في الجزء الثالث من هذا الكتاب: كما تحدثت عن قصور ملوك الحرة في الجزء نفسه.
وكان للملك "النعمان" قصر بالحيرة عرف ب" القصر الأبيض"، لبياضه، يظهر ان جدرانه كانت مجصصة، فظهرت بيضاء. ويذكر أهل الأخبار ان النعمان، كان عنده دواوين شعر فيها ما مدح به، أو ما مدح به آله. ثم أمر فدفنها في قصره هذا، فلما كان "المختار" قيل، له: إن تحت القصر كنزا فأمر به فحفر، فاستخرج الكنز ثم صار إلى آل مروان أو ما صار منه. وكان هذا القصر دار ملكه ومقره في الحيرة، إذ لم يذكروا له قصرا آخر له فيها.
وكان للاكاسرة القصر الأبيض بالمدائن، ذكر انه كان من العجائب،ولم يزل قائما الى إن نقضه "المكنفي بالله" العباسى في حدود سنة 290 ه.وبنى بشرفاته أساس التاج الذي بدار الخلافة وبأساسه شرفاته. وقد ذكره البحتري.
وذكر "الزبيدي"، اسم قصر دعاه "لحيان"، زعم أنه "قصر النعمان بن المنذر بن ساوى" بالحيرة. فهل، قصد بذلك شخصا آخر من أهك الحيرة أم إنه وهم من أوهام عديدة نجدهم في "تاج العروس" في أمور تأريخية، قد يكون المسؤول عنها نساخ الكتاب في بعض الأحيان.
ونسب بعض، أهل الأخبار إلى "النعمان بن المنذر"، دارا، قالوا لها: "الزوراء".، ذكروا أن "أبا جعفر المنصور" هدمها.
الحكم وأخذ الرأي
ولم يكن الملوك في العربية الجنوبية أو العربية الغربية ملوكا مطلقين لهم سلطان مطلق وحق إلهي في الدولة على نحو ما يريدون، ولكن كانوا ملوكا

(1/2714)

admin
12-31-2010, 08:16 PM
مطلقين لهم سلطان مطلق وحق الهي في ادارة الدولة على نحو ما يريدون ولكن كانوا ملوكا يستشيرون الاقيال والأذواء وسادات القبائل والناس وكبار رجال الدين فيما يريدون عمله، واتخاذ قرار بشأنه. وهو نظام تقدمي فيه شيء من الرأي والمشورة وحكم الشعب."الديمقراطية" بالقياس الى الملوك المطلقين الذين حكموا آشور وبابل ومصر وايران.
أما الطبقات الضعيفة وبقية السواد من السوقة والفلاحين وما شاكلهم، فليس لهم رأي في تسيير الامور، ولا يستشارون في البت في أي شيء حتى في المسائل الصميمة المتعلقة بمصيرهم، ولم يكن عالم ذلك اليوم يحفل بسواد الناس،أي بالغالبية، لأن الرأي لأصحاب الوجاهة والسيادة والسلطان إذ ذاك، وفي كل مكان من أمكنة العالم.
وترينا الكتابات المعينة ان ملوك معين كانوا مقيدين في حالات معينة باخذ رأي "المزود" عند اتخاذ قرار خطير، ولذلك يذكر "المزود" عند صدور التشريعات والقرارات الخطيرة في نص القوانين والقرارات، للتعبير عن موافقته عليها وعلى انها صدرت بعد وقوفه عليها وأخذ الملك رأيه فيها. ويؤخذ رأي المعبد أيضا، فقد ذكر في قرار بشأن الضرائب، وذلك يدل على ان المعبد كان يستشار في المسائل الخطيرة أيضا.
وقد تبين من بعض الكتابات ان ملوك العربية الجنوبية، قد أخذوا برأي الجمعيات وأصحاب الحرف والعمل، حتى لا يبرموا أمرا يظهر بعد تنفيذه انه غير واقعي ولا عملي، وانه سيلقى معارضة من بعض الفئات والطبقات. كما أخذوا برأي المستشارين وأصحاب الرأي من جماعة ال "فقضت" وال"بل"و "طبن" "الطبن"، وهم الملاكون، عند وضع القوانين.

(1/2715)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد تبين من النص: Rep. Epigr. 2771 ان ملك معين استشار "المزود" في فرض ضريبة. وتبين من النص: Rep. Epigr. 2774 انه استشاره في فرض ضرائب خصصت بالمعبد. ولكننا نجد في نصوص أخرى، مثل النصر: Rep. Epigr. 3699أن الملك لم يستشر "المزود" حين أصدر أمره في موضوع زواج المعينيين بأهل "ددن" "ددان" "ديدان". ولعله فعل ذلك لأن موضوع الزواج موضوع اداري ولا علاقة له بالسياسة العامة أو بفرض الضرائب أو بالمسائل الداخلية الخطيرة،وهي الأمور التي يأخذ فيها الملك رأي المجلس. كما نجد الملك يصدر قانونا باسم "معن" "معين" أي شعب "معين" دون أن يذكر اسم "المزود".
وقد تبين من بعض الكتابات أن ملوك معين أصدروا تشريعات في أمور لم يأخذوا فيها رأي المزود، لعدم ورود إشارة فيها اليه. فلدينا قرار في تنظيم أمور الزواج بين المعينيين وأهل "ددن" "ت يدان" ة لم يرد فيه ذكر للمزود. ولدينا قرار اخر لم يذكر فيه اسم المزود أيضا، غير أنه يشير إلى أنه صدر باسم شعب معين، مما قد يبعث على الظن بأن الملوك لم يكونوا ملزمين دائما بالرجو إلى رأي إلمزود ووجوب أخذ موافقته في كل قضية، بل في القضايا العامة الخطيره التي تخص مصير الشعب.
ويتبين من الكتابات السبئية أن ملوك سبأ ولا سيما قدماؤهم كانوا يتبعون سنة "معين" في الرجوع إلى رأي المزود في القضايا الخطيرة للدولة واصدار القوانين. فكان الملك إذا أراد اصدار تشريع، أحاله على المزود ليبدي رأيه فيه وفي طليعة هذه المسائل القوانين الخاصة بالأرضين وبالزرع وبحصص الحكومة من الضرائب لما لها من صلة بمصالح رجال المزود. ومتى وافق المزود على القانون أحيل على الملك لتصديقه ولاعلانه.

(1/2716)


--------------------------------------------------------------------------------

وهنالك شبه كبير في موضوع التشريع بين القوانين القتبانية والقوانين السبئية العامة، الصادرة في سبأ، ولا سيما في ايام حكم قدماء الملوك، حتى ذهب بعض الباحثين الى وجود ما يشبه حد الاتفاق بين قوانين إلمملكتين، إلا في القوانين الخاصة التي تتعلق بالتشريعات المحلية للمخاليف والمدن، فانها شرعت على وفق الأحوال الملائمة لتلك الأمكنة.
وقد يشار في التشريعات الى قصور الملوك، مثل "قصر سلحن" "قصر سلحين"،كما أشير اليها في كتابات مختلفة، تتعلق بأخبار الحروب والجباية، وذلك كناية عن مقر الحكم، على نحو ما يستعمل في الزمن الحاضر من قولهم: "صدر من قصرنا العامر" أو "صدر من قصر....". وذلك رمز إلى مقر الحكم وكناية عن الملك الذي يقيم في ذلك القصر. ومن تلك القصور: "قصرغمدن" أي "قصر غمدان" و "قصر وعلن "قصر وعلان" و "قصر ريدن"
أي "قصر ريدان". ومن هذه القصور تصدر الأوامر بالموافقة على القوانين والمراسيم، وفيها يوقع على ما يراد نشره ليكتسب صيغة رسمية مقررة.
??في اخلاق الحكام
ليس لدينا وثائق جاهلية في أخلاق الحكام والصفات التي يجب أن يتصف بها الحاكم، ليتمكن بها من حكم الناس ومن الحكم بينهم. وكل ما لدينا، نتف ومقتبسات في أصول الحكم تنسب إلى الجاهليين، مدونة في المؤلفات الإسلامية، يظهر ان بعضها أخذ من حكم الفرس ومن آداب اليونان في السياسة، فنسب الى الجاهليين، وبعضه اسلامي خالص وضع ليكون وعظا وإرشادا وإشارة هادية إلى الخلفاء والحكام في كيفية حكم الرعية وفي تنبيههم الى واجباتهم وابعادهم عن الظلم والاتعاظ بمصير الحكام الطغاة الماضين حتى لا يكون مصيرهم مصير أولئك الملوك.

(1/2717)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي كتاب "تأريخ ملوك العرب الأولية من بني هود وغيرهم"،لأبي سعيد عبد الملك بن قريب الأصمعي، وصايا وعظات في أصول الملك والحكم، نسبها إلى ملوك العرب الماضين قبل الإسلام، دونها للخليفة "المأمون" لتكون له هاديا ومرشدا في كيفية الحكم. وقد استهله بوصية نسبها الى "قحطان بن هود" أوصى بها بنيه أن يتعظوا بما نزل بقوم عاد حين عتوا على ربهم، وعصوا أمر نبيهم، فحثهم على التآلف والتعاضد و التناصر وعلى الطاعة للحكام، ثم حث ابنه "يعرب" كبير أولاده على العمل بسيرته ومنهجه، وان يصل ذوي القربى، وان يحفظ لسانه ويصونه، وان يكون كاظما للغيظ، يقظا من الأعداء، حليما، لأن الذين سادوا لم يسودوا إلا بالعلم،وان يكون كريما، لأن البخل يبعد الأتباع من الحاكم.
وذكر "الأصمعي" ان يعرب أوصى أبناءه بخصال وبما وصاه به أبوه. أوصى بأن يتعلم العلم ويعمل به، وان يترك الحسد وان يتجنب الشر وأهله، وان ينصف الناس، وان يبتعد عن الكبرياء، لأن الكبرياء تبعد قلوب الرجال عن المتكبر، وأوصى بالتواضع، فإنه يقرب المتواضع من الناس ويحببه اليهم، وان يصفح عن المسيء، وان يحسن إلى الجار، ولأن يسوء حال أحدهم، خير له من أن يسوء حال جاره، وان يوصي بالمولى، لأن المولى منكم واليكم، وان يخلص بالاستشارة والنصيحة، وان يتمسك الإنسان باصطناع الرجال.
ونجد في الوصايا التي ذكرها "الأصمعي" وصايا بوجوب التعاضد والتآزر،والابتعاد عن الفرقة، والطاعة من غير خوف، والعدل في الرعية، والتجاوز عن المسيء،والكف عن أذى العشيرة، والأخذ بالرأي لأنه لا بد للملك من يعينه في الرأي والأمر والنهي، ولا بد له من مشير يحمل عنه بعض ما يثقله من ذلك. والملك صانع، فإن قام الصانع حق قيامه على صنعته، استجاد الناس له، فكسب المال والجاه ؛ وان استهان بها، ذهبت الصنعة من يده، وكسب الندم والحرمان.

(1/2718)


--------------------------------------------------------------------------------

واستمر "الأصمعي" يذكر الوصايا التي ذكر أن ملوك العرب الماضين وضعوها في كيفية الحكم حذر الزلل، ولتجنب الوقوع في الخطأ، وهي نثر وشعر، قد تكون من وضعه وصنعته، صنعها للخليفة ليتعظ بها في الحكم على نسق ما كان يفعله ادباء الفرس والهند في وضع الوصايا والمواعظ والقصص على ألسنة الملوك الماضين والحكماء ليتعظ بها الحكام في أثناء حكمهم للناس. ونجد أمثلة كثيرة من هذا النوع دبجت في كتب السياسة والأدب، على ألسنة أرسطو أو الاسكندر أو أكاسرة الفرس.
ونجد في شعر ينسب إلى "لقيط الإيادي"،أن الحاكم الذي يقلد الأمر يجب أن يكون رحب الذراع، مضطلعا بأمر الحرب،لا مترفا ولا إذا عض به مكروه خشع وخضع، يحلب در الدهر،يكون متبعا طورا ومتبعا، مستحصد الرأي لا قحما ولا ضرعا.
وكان الملوك على استبدادهم أحيانا بآرائهم يستشيرون من يرون فيه الأصالة في الرأي،ولا سيما المتقدمون في السن، فقد "كانت العرب تحمد آراء الشيوخ لتقدمها في السن، ولأنها لا تتبع حسناتها بالأذى والمن، ولما مر عليها من التجارب التي عرفت بها عواقب الأمور، حتى كأنها تنظرها عيانا، وطرأ عليها من الحوادث التي أوضحت لها طريق الصواب وبينته تبيانا،ولما منحته من أصالة رأيها، واستفادته بجميل سعيها".

(1/2719)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر أن الملوك الغساسنة والمناذرة كانوا قد تطبعوا بطباع الروم والفرس، وأخذوا عنهم أبهة الحكم، فحجبوا أنفسهم عن رعيتهم، مخالفين بذلك العرف العربي، وحصروا أنفسهم في قصورهم وفي قبابهم،حتى أن من كان يريد الوصول اليهم من ذوي الحاجات كان عليه أن يقف أياما أمام باب الملك، حتى يأتيه الأذن بالدخول عليه، وهذا ما ازعج الوافدين عليهم. كثيرا، وسبب الى تجاسر الشعراء وذوي الألسنة الحادة عليهم. وكان على أكثر الوافدين التقرب إلى "الحاجب" والتذلل اليه ورشوته ليعجل لهم بالدخول على الملوك، ومنهم من كان يتعهد له بأن يجعل له نصيبا فيما قد يناله من جوائز الملك وهداياه،فيسرع الحاجب عندئذ إلى الملك، لطلب أخذ الأذن منه بدخول ذلك الوافد عليه. وتوصف أخلاق الملوك بالتلون والتغير، لأن الملوك لهم بدوات. حتى تضرب بتلون أخلاقها المثل. فقيل: ويوم كأخلاق الملوك ملون فشمس ودجن ثم طل ووابل
ولهذا حذر أصحاب المكانة والجاه من الوصول اليهم في أيام غضبهم وبؤسهم، خشية صدور شيء منهم قد يزعجهم فيغضبوا عليهم،أو يتفوهوا بعبارات قد تخدش من كرامتهم، وتسبب لهم الألم والأذى. وقد ورد في الحكم: اتقوا غضب الملوك ومد البحر. وقد ضرب المثل، بيومي البؤس والنعيم.

وقد وردت في الكتابات الجاهلية مصطلحات تعبر عن تقدير الناس لملوكهم،مثل مصطلح "أمرهم"، أي "آمرهم" و "أميرهم" أو سيدهم، ونجد الكتابات العربية الجنوبية تطلق لفظة "مراهمو" و "مراسهمو" بمعنى "آمرهم" او"أميرهم" و "سيدهم" على من هو فوقهم، كالملوك أو الأقيال أو السادات، احتراما لهم واعترافا بسيادتهم عليهم.

(1/2720)


--------------------------------------------------------------------------------

أما في كتابات "تدمر"، فقد وردت لفظة "مرن"، أي "سيدنا". وقد أطلقت على الملوك، كما استعملت للأشخاص الكبار من أصحاب السلطان. وتقابل هذه اللفظة كلمة Exarkos في اليونانية، وفي الشعر ذم الحكام وشعر في هجاء السادة، لظلمهم وتنمرهم في حق رعيتهم، حتى ذهب الظن بهم أن كل مطاع يظلم، وان المسود ظالم غشوم.
الراعي والرعية
الراعي هو الوالي، أي الذي يلي أمور قوم ويرعى شؤونهم، فهو بمنزلة الراعي للماشية المرعية. أما القوم فهم الرعية، أي العامة. والملك هو راعي مملكته، وراعي رعيته، وهم من هم دونه، يتبعونه ويخضعون لرأيه وحكمه.
ويعبر عن الرعية بالسوقة كذلك. سموا سوقة لأن الملوك يسوقونهم فينساقون لهم، والسوقة من الناس، من لم يكن ذا سلطان. والسوقة خلاف الملك. قال نهشل بن حري: ولم ترعيني سه سوقة مثل مالك ولا ملكا تجبى اليه مرازبه
وفي البيت المنسوب إلى "بنت النعمان بن المنذر"، وهو: فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا إذا نحن فيهم سوقة نتنصف
تعبير عن فكرة التعالي والترفع التي كانت عند أهل الحكم والملك بالنسبة إلى المحكومين. وفي حديث المرأة الجونية التي أراد النبي، صلى الله عليه وسلم، أن يدخل بها، فقال لها: هبي لي نفسك، فقالت: هل تهب الملكة نفسها للسوقة ? ما ينم عن هذه الروح.
ويعبر عن السواد الأعظم ب "سواد الناس" وب "سواد القوم " أي عوامهم وكل عدد كثير. وهو مصطلح يقرب معناه من معنى "السوقة". والسواد الأعظم من الناس، هم الجمهور الأعظم والعدد الكثير وهم "الغوغاء" الذين لا يفقهون شيئا من أمور دنياهم وانما هم تبع وغنم يتبعون أي راع. وقد برزت أهميتهم في صدر الإسلام، إذ عرفت الفائدة منهم فيما لو وجهوا توجيها حسنا. قال الخليفة "عمر": " استوصوا بالغوغاء خيرا، فإنهم يطفئون الحريق، ويسدون البثوق ".

(1/2721)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عرف الجاهليون قيمة وأهمية السواد، لأنه الكثرة والرماح التي يعتمد عليها ذوو السؤدد في سؤددهم، والجماعة التي تدافع عن سيدها وتحمي حماه. وقد استطاع "أبو سلمى" ان يعبر عن أهمية العوام وأصحاب الحناجر القوية من غوغاء الناس في جلب السؤدد إلى الأشخاص في هذا الرجز: لا بد للسؤدد من رماح ومن عديد يتقي بالراح
ومن كلاب جمة النباح
وعلى الرعية حق الطاعة، طاعة من بيده الحكم والسلطان. وليس عليها الخروج على أوامره وأحكامه،لأن من حق الراعي تأديب رعيته إذا خرجت عن طاعته. فإذا خرجت الرعية على الملك، حق عليه تأديب رعيته بالصورة التي يراها. ولا يتمكن من الخروج على طاعة السلطان إلا الأشراف وسادات القبائل، ففي استطاعة هؤلاء بما لهم من أتباع ورعية، تنديد الملوك، أو من ينوب عنهم في الحكم. ولهذا كانت لهذه الطبقة مكانة وكلمة عند الملوك.
ولم يكن من السهل على أبناء القبائل تقديم واجب الطاعة للملوك إذا كانوا من غير قبيلتهم، فالملوك الغرباء وإن كانوا عربا مثلهم، لكنهم في نظرهم غرباء عنهم، ومن قبيلة بعيدة عنهم. والعربي بحكم طبيعة ظروفه ومحيطه القبلي، لا يرى الخشوع إلا لمن تربطه به رابطة العصبية. ومعنى هذا أنه لا يخضع إلا لسيد قبيلته، أو لمن يخضع سيد قبيلته لحكمه أو للملك إذا كان من قبيلته.
وسيد القبيلة لا يخضع هو نفسه لأحد إلا إذا أكره على ذلك، إكراها، أو وجد في خضوعه لحكم حاكم آخر منفعة ما تاتيه من هذا الحكم. فإن زالت القوة التي أكرهته على الخضوع لغيره، أو ذهبت المنفعة التي كان يحصل عليها، أعلن انفصاله واستقلاله بشؤون قبيلته أو انضمامه إلى حاكم قوي اخر ليصير حليفا له.
لذا صار تأريخ القبائل صراعا ونزاعا بين قبائل طامعة في قبائل أصغر منها،وقبائل أخرى تريد أن تعيش لوحدها مستقلة بإدارة أمورها، أو منافسة غيرها في حكم قبائل أخرى، لتكوين حكومة كبيرة منها ومن القبائل التي استسلمت لها.

(1/2722)


--------------------------------------------------------------------------------

فالممالك الني تكونت والتي تحدثت عنها، لم تكن إذن ممالك مكونة من مواطنين آمنوا بمبدأ المواطنة واعتقدوا بعقيدة طاعة سلطان الدولة. بل كانت مملكة قبائل اتحدت طوعا أو كرها، وكونت حلفا كبيرا ترأسه ملك. يظل قائما ما دامت هنالك قوة قائمة ومصلحة وفائدة، فإن انتفت المصلحة، عادت طبيعة الأنانية القبلية إلى لعب دورها في الانفصال. وهي عقلية تعرقل وتقاوم تكون الدول الكبرى. ولهذا قاومها الإسلام، لأنه جاء بمبدأ "الجماعة"، وعقيدة "الأمة" و "الملة"، فورد في الحديث: "من خرج من الطاعة وفارق الجماعة ثم مات، مات ميتة جاهلية ".
وللشعراء وأهل البيان كلام في أصول سياسة الحكم وادارة أمور الرعية. قال "الجاحظ": " ومتى أحب السيد الجامع، والرئيس الكامل قومه أشد الحب وحاطهم على حسب حبه لهم، كان بغض أعدائهم له على حسب حب قومه له.هذا إذا لم يتوثب اليه ولم يعترض عليه من بني عمه واخوته من قد أطمعته الحال باللحاق به. وحسد الأقارب أشد، وعداوتهم على حسب حسدهم.
وقد قال الأولون: رضا الناس شيء لا ينال.
وقد قيل لبعض العرب: من السيد فيكم قال الذي إذا أقبل هبناه، وإذا أدبر اغتبناه.
وقد قال الأول: بغضاء السوق موصولة بالملوك والسادة وتجري في الحاشية مجرى الملوك.
وليس في الأرض عمل أكد لأهله من سياسة القوم.

(1/2723)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد دفعت الروح الفردية والنزعة القبلية سادات القبائل وقادة الجيش على الثورة بملوكهم وبحكامهم، فامتلأ تأريخ الجاهلية بها وبالمكايد والانتفاضات. وقد أثرت أثرا خطيرا في الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وصارت في جملة عوامل تدهور الحضارة في اليمن. ونقرأ في كتابات المسند بعض الألفاظ المعبرة عن الفوضى وعدم الاستقرار بسبب حركات العصيان. منها لفظة "كيد"، وتؤدي معنى ثورة وعصيان. و "ثبر" و "مثبر" بمعنى "ثبور"، ويراد بها ثورة ايضا. و "نزع" وتؤدي معنى ثورة كذلك. و "نقم" وتؤدي معنى "نقمة" وعدم رضى عن الاوضاع. و "قسدت" و "قسد" بمعنى ثورة وثار. فالثورة هي "قسدت" في العربية الجنوبية. و "قرن" وهي في المعنى نفسه. و "تحسبن" بمعنى عنف واستخدام العنف. ولفظة "هرج" بمعنى الفوضى والقتل والهرج. و "مخر" بمعنى مخالفة وقتال.
ونجد في كتابات المسند ألفاظا اخرى، لها صلة. وعلاقة بالأوضاع المذكورة.
مثل لفظة "هبعل" في معنى الاعتراف بسيادة قوم على قوم. وبالتسليم بسيادة الرؤساء بعد ان ثاروا عليهم وحاولوا التخلص منهم. ولفظة "هوبل" في معنى النجاح في المطاردة والتوفيق في القضاء على العصيان، وعودة الأمر إلى ما كان عليه. ولفظة "همسر" بمعنى احبط وكسر. و "هسحت"، بمعنى تحطيم والقضاء على شيء، كحركة عصيان. و "هضرع" بمعنى أخضع و "حلفي بمعنى ضغط واستعمل العنف. و "حف" بمعنى أحاط. و "خرط" بمعنى الاستيلاء على شيء. و"نحت" بمعنى ضرب. و "نكى" في معنى قاسى وكابد من الألم والعذاب. و "نقيذ" بمعنى استولى على مكان وفتحه. و "سبط" بمعنى أحبط وقضى على ثورة. و "سحت" في معنى هزيمة. و "قمع" في المعنى المعروف منها في لهجتنا. و "رتضح" بمعنى ذبح. و "توشع" في معنى هزيمة. و "تشكر" في معنى هزيمة ايضا. فلكل هذه الكلمات ولغيرها مما في معناها صلة بالأوضاع السياسية والعسكرية التي كانت سائدة في ذلك العهد. وهي دليل على سوء الحال.

(1/2724)


--------------------------------------------------------------------------------

تحية الملك
وكانت لملوك الحيرة وملوك الغساسنة وغيرهم من ملوك الجاهلية تحيات تختلف عن تحيات سائر الناس. لأن الملك يحيا بتحية الملك المعروفة للملوك التي يباينون فيها غيرهم..ومن حياتهم: أبيت اللعن، وأسلم وانعم، وانعم صباحا، وعش ألف سنة. "وكانت تحية ملوك العجم نحوا من تحية ملوك العرب، كان يقال لملكهم: زه هزار سال ؛ المعنى: عش سالما ألف عام".
وذكر بعض علماء اللغة أن "أبيت اللعن:كلمة كانت العرب تحيي بها ملوكها في الجاهلية، تقول للملك: أبيت اللعن، معناه أبيت ايها الملك ان تأتي ما تلعن عليه. واللعن: الإبعاد والطرد من الخير". وذكروا ان أول من حيي بتحية الملوك: "أبيت اللعن" و "أنعم صباحا" يعرب بن قحطان. وقد وردت تحية "أبيت اللعن" في شعر للنابغة الذبياني،يعتذر فيه للنعمان بن المنذر: أتاني-أبيت اللعن - انك لمتني=وتلك التي تستك منها المسامع وذكر أيضا ان اول من قيل له ذلك قحطان. وقيل: اول من حيي بها يعرب بن قحطان.
وذكر ان تحية الناس فيما بينهم: "أنعم صباحا" أو "انعم مساء" أو "انعم ظلاما"،و "عموا صباحا" و "عموا مساء"، وذلك حسب المناسبات.
أما إذا حيوا الملك، قالوا له: "انعم صباحا ايها الملك"، لهيبة الملك ولتعظيمه.
وقد ابطل الإسلام تلك التحية: بأن أحل السلام محلها. فلما دنا "عمير بن وهب" من رسول الله قال: "انعموا صباحا"، فقال رسول الله: "قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير؛بالسلام تحية اهل الجنة". وقد صار السلام من العلامات الفارقة بين الشرك والإسلام.
وذكر ان التحية الملك. وفي هذا المعنى قولهم: حياك الله وبياك،أي اعتمدك بالملك. وفي هذا المعنى قول زهير بن جناب الكلبي: ولكل ما نال الفتى قد نلته إلا التحية
أي إلا الملك، وذكر ان المراد بها هنا البقاء، لأنه كان ملكا في قومه.
والتحية في قول "عمرو بن معد يكرب": أسير به إلى النعمان،حتى أنيخ على تحيته بجندي

(1/2725)


--------------------------------------------------------------------------------

تعني ملكه. فالتحية الملك.
ويظهر ان بعض الجاهليين كانوا يحيون بتحية "حياك وبياك"،أو "حياك الله"، أو "حياك الله وبياك". ولا استبعد استعمالهم اسم صنم من الأصنام في موضع "الله" عند عباد ذلك الصنم، كأن يقولون: "حياك هبل"،وقد بقيت هذه التحية إلى الإسلام، ثم صارت: "حياك الله". وقد يخاطبون بها الملوك فيقولون: "حيا الله الملك". وذكر ان تحيات اهل الشام لملوكهم: "يا خير الفتيان".
والمعروف عن العرب أنهم لم يكونوا يسجدون للملوك ولساداتهم كما كان يفعل العجم. غير ان رواية وردت في "كتاب فتوح الشام" للواقدي تذكر ان "الياس"،وهو عم ملك الحيرة وصاحب حرسه، لما أدخل "سعد بن أبي **** القاري"، على الملك "النعمان بن المنذر"، "صاح به الحجاب والغلمان قبل الأرض للملك، فلم يلتفت اليهم". وفي هذا الخبر دلالة على ان أهل الحيرة كانوا إذا دخلوا على الملوك سجدوا لهم: كما كان يفعل ذلك غيرهم من الغرباء ممن يدخل على الملوك ولا سيما الفرس. وتتحدث هذه الرواية المنسوبة إلى الواقدي،بأن الملك النعمان، كان له كلام وجدل في موضوع الدين ورسالة الإسلام مع "سعد بن أبي **** القاري" رسول "سعد بن أبي وقاص" اليه. وأنه لما طرد الرسول، قال "سعد بن أبي وقاص": سأحمل فيهم حملة عربية ولا أنثني والله عنهم بعسكري
فإما أرى النعمان في القيد موثقا وإما طريحا في الدماء المعفر

(1/2726)


--------------------------------------------------------------------------------

ثم أمر سعد بن أبي وقاص جمعه بالمسير نحو النعمان، فالتقى القعقاع بن عمرو التميمي أو بشر بن ربيعة التميمي بالنعمان في كبكبة من الخيل، فحمل القعقاع أو بشر على الكبكبة أو الكتيبة فمزقها ورمى النعمان بطعنة في صدره، فلما رأت جيوش الحيرة الملك مجندلا، ولت الأبار تريد القادسية نحو جيش الفرس. والذي أجمع عليه المؤرخون واهل الأخبار، ان المنذر كان قد ذهب إلى العالم الثاني قبل الفتح،بزمن على نحو ما تحدثت عنه في الجزء الثالث من هذا الكتاب. وقد ذكرت ما قيل في موته من شعر نظمه شعراء معاصرون له، وما وقع من اصطدام بين العرب والفرس بسبب مطالبة "كسرى" بتركته على ما يذكره أهل الأخبار. لذلك لا يمكن التصديق بهذه الرواية مع وجود ذلك الاجماع، ثم ان فيها معالم الصنعة والتزويق،ولا سيما في موضوع الحوار بين النعمان وبين رسول "سعد" اليه في موضوع الإسلام، مما يحملنا على القول بأن هذا الخبر قد أدخل فيما بعد أيام العرب في المشكلات التي تتعرض لها الدولة، والبت في القضايا المهمة وفي موضوع فرض الضرائب. وقد عرف هذا المجلس في دولة معين ب"مزودن معن" "مزود معين". وكان للسبئيين مجالسهم الخاصة بهم، تنظر في المسائل التي يحتاج ملوك سبأ إلى اخذ الرأي فيها والوقوف على رأي عقلاء الأمة للاستنارة برأيهم عند اتخاذ رأي وإقرار قرار.

(1/2727)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا يعني وجود هذه المجالس ان النظام هناك كان نظاما نيابيا انتخابيا، يجتمع الأحرار والوجهاء فينتخبون من يريدون ان يمثلهم أو يتكلم باسمهم انتخابا على النحو المفهوم من الانتخاب في الزمن الحاضر. وإنما كانت عضوية المجالس بالوجاهة والمنزلة والمكانة، وتلك قضايا اعتبارية للعرف فيها الرأي والقرار، وأعضاء المجلس هم اعضاء فيه، لأنهم من رجال الدين أو سادات قبائل أو من كبار الموظفين، أو من اصحاب الأرض والمال، فهم في عرف ذلك اليوم الصفوة والخيرة، وعندهم العقل والرأي والسداد. وعلى هذا النحو من التمثيل تكون المزاود،اي مجالس الأمة.
وقد عرف أعضاء المزود ب "اسود"، اي "أسواد" "اسياد"، بمعنى سادة، وهم بالطبع من علية القوم وسادتهم. وفي ضمن هؤلاء ال "منوت" "منوات".
وكما تطلق الشعوب في الزمن الحاضر نعوت التفخيم والاحترام على مجالسهم التمثيلية، كذلك اطلقت الشعوب الماضية مثل هذه النعوت على مجالسهم. فأطلق العرب الجنوبيون لفظة "منعن" مثلا على المزود، فورد: "مزود منعن" في بعض الكتابات، بمعنى "المزود المنيع". وربما أطلقت اللفظة على العضو في هذا المجلس كذلك. ولكننا لا نعرف ذلك في هذا اليوم معرفة أكيدة، وربما كانوا يطلقون نعوت تفخيم وتعظيم أخرى على أعضاء هذا المجلس.

(1/2728)


--------------------------------------------------------------------------------

وحصلنا من الكتابات على اسم لمجلس يسمما ب "طبنن"، وذلك في الكتابات القتبانية. وقد رأى بعض الباحثين انه مجلس كبار الملاكين. ورأى اخرون انه بمنزلة "المزود" بالنسبة إلى القبيلة، وانه مجلس أصحاب الأملاك،ورؤساء أفخاذ القبيلة المالكين، وانه يأتي بعد "المزود" في الأهمية عند القتبانيين،وانه كان ينظر في المسائل الخاصة بالملك والأرض وفي الضرائب التي تجبى عن الزراعة وفي تأجير الأرض، وما شاكل ذلك من موضوعات تخص الأرض والزرع. ويقول علماء اللغة إن "الطبن"، هو الرجل الفطن الحاذق العالم بكل شيء، ولعلهم أخذوا هذا التفسير من العرب الجنوبيين. في "طبنن"، هو مجلس عقلاء التخوم وحذاقهم والمتكلمين باسم القوم.
ولم يكن لسواد الناس ولا للطبقات الوسطى منهم،رأي ولا تمثيل في "الطبنن" ذلك لأن هذا المجلس هو مجلس كبار الملاكين للارض فقط. وكانوا يشتركون في الي "المزود". ونجد ذكر هذا المجلس، في كتابات يرى بعض الباحثين قبل من أواسط القرن الخامس قبل الميلاد.
ويقابل مجلس الملاكين "طبنن" القتباني مجلس عرف ب "مسخنن" "المسخن" في اللهجة السبئية. وقد أشير اليه في الكتابات السبئية القديمة وفي كتابات عهد "ملوك سبأ وذي ريدان".وأعضاؤه من الوجهاء وكبار الملاكين الذين ورثوا ملكهم من عقار وأرض.

(1/2729)


--------------------------------------------------------------------------------

وترد في الكتابات السبئية لفظة لها علاقة بمجلس يمثل طبقة خاصة في سبأ عرف ب "عهرو" "عهر". ونجد هذا الاسم في الكتابات التي هي من القرنا الثاني قبل الميلاد فما بعده. ويظهر أنه كان مجلس اللأشراف من اهل الحسب والنسب من امثال الأشراف والنبلاء الذين عاشوا في اوروبة في القرون الوسطى. ولا يشترط في الطبقة المسماة بهذه التسمية ان تكون من كبار الملاكين وأصحاب العقار. والى هؤلاء يضاف من يقال لهم "ذ اعذر" "ذو اعذر". وهم طبقة من الاشراف لا يربط بينهم دم، ولا تجمع بينهم وبين القبيلة التي ينزلون بينها أو بين الناس الذين يعيشون بينهم، صلة رحم، ولا يملكون أرضا، وإنما هم حلفاء وجيران، نزلوا بين قوم فصاروا مثلهم، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، يؤدون ما يؤديه حليفهم من القبيلة من واجب وعمل، وعلى حليفهم مراعاتهم لانهم في جواره وفي حلفه.
هؤلاء هم أصحاب الرأي والاستشارة في الحكومات العربية الجنوبية، والمجالس المذكورة تنظر في مصالح المنتمين اليها وكلهم كما رأينا من اصحاب الجاه والسيادة و السلطان.
وإذا أقر "المزود" موضوعا ووافق عليه، رفع القرار إلى الملك لإصدار أمره بتنفيذ ما توصل اليه، وتصدر القرارات بصورة مراسيم تشريعية ملكية تعلن للناس وتبلغ للقبائل لاقرارها وتنفيذها، وقد حفظت الكتابات جملة قرارات من هذا النوع. وتوقع المحاضر في الغالب بلفظة "مثبت" من أصل "ثبت"، وذلك دلالة على الموافقة والتأييد بصحة صدور القرار. وأن اقرار قد ثبت وصار أمرا إلزاميا واجب التنفيذ.
واصطفى الملوك لهم حاشية من ذوي الرأي والعقل والتجربة، جعلوها هيأة استشارية، تقدم الرأي لهم، وقد عرفت ب"فقضت"، وب "بتل ".

(1/2730)

admin
12-31-2010, 08:16 PM
فنحن في اليمن إذن بإزاء نظام يمكن أن نسميه نظام يمكن ان نسميه نظاما تمثيليا،وان لم يكن يمثل رأي الشعب تمثيلا تاما، فلم تكن للاغلبية المكو نة للامة إرادة في اختيار ممثليهم للمجالس، كما هو المفروض والمطلوب من المجالس،فمن هنا لم يكن نظام الحكم في هذه البلاد نظام الحكم في هذه البلاد نظاما تمثيليا صحيحا ولكان تمثيلا من ناحية ضمه أصحاب الرأي والجاه والسلطان في الدولة، لمجالس "المزود" وإبدائها رأيها لحاكم البلاد، ولا سيما في المسائل الكبرى التي يتوقف عليها المصير،مثل إعلان حرب،أو عقد صلح، أو إقرار ضرائب. نظام نستطيع أن نسميه نظام الأخذ بمبدأ استشارة ذوي الرأي والوجاهة والسلطان في المسائل الخطيرة التي تخص الدولة أو المجتمع وحدهم، فهو نظام شوروي بالنسبة لأهل الرأي والمشورة، وهؤلاء وحدهم هم الذين يشاورون في الأمور. أما السواد، فلا رأي له. ومع ذلك، فهو أفضل من الحكم المطلق الذي يكون الملك فيه هو الكل في الكل، يفعل ما يشاء من غير حساب. وهو بالقياس إلى نظم الحكم عند الأشوريين أو البابليين لمن أو الفراعنة، نظام فيه "ديمقراطية" لا نجدها في قواعد حكم الشعوب المذكورة.
ولكن الدنيا لا تدوم على،حال واحد، فأخذ حكم المزاود يتقلص،وصار عدد من يأخذ بالرأي والمشورة من الملوك يقل حتى إذا جاءت الأيام المتأخرة من حكومة سبأ، صار الأمر للاقيال والأذواء وسادات القبائل، واضطر الملوك إلى النزول عن حقهم في الأرضين إلى أصحاب السلطان في مقابل اتفاقيات تحدد الواجبات والحقوق التي يترتب على هؤلاء الأقوياء الذين اغتصبوا الأرض اغتصابا أداؤها للدولة. ويقوم صاحب السلطان الملاك بايجار الأرض لأتباعه من آله أو من أهل قبيلته، مقابل أجر يدفعونه له، وهؤلاء يؤجرونها أيضا لمن هم دونهم في المنزلة والدرجة. فتحولت الملكية بذلك إلى دولة اقطاع، أرباحها وحاصلها وناتجها وقف على طبقة ذوي الجاه والسلطان.

(1/2731)


--------------------------------------------------------------------------------

وفقد "المزود" مكانته، إذ انتزع الأقيال "اقول" منه السلطان، حتى قدموا أسماءهم في النصوص على اسم المزاود. فنجد أقيال "سمعى" "اقول سمعى" يقدمون اسمهم على اسم المزود، دلالة على خطر شأنهم وقوتهم، وعلى أن حكم "المزود" صار في الدرجة الثانية من خطر الشأن في هذه الأيام.
وقد تضاءل حكم "المزود"، بل زال من الوجود منذ القرن الثالث للميلاد فما بعده، فلا نكاد تجد له حكما أو ذكرا في الكتابات، إذ انفرد الملوك والاقطاعيون الكبار بالحكم، وصار رأيهم هو الرأي الحق المقبول، وبيئة ينفرد فيها الأفراد بالحكم، وينتزع فيها من الأشخاص حق التعبير عن الرأي، هي بيئة لا يمكن أن يعمر فيها "المزود" أو أي مجلس كان من قبيله يقوم بالتعبير عن رأي الناس، وإن كان بصورة رمزية شكلية. لذلك نستطيع أن نقول إن العربية الجنوبية فقدت أهم نعمة كانت عندها، نعمة التعبيرعن رأي،والنظم اللامركزية بعد الميلاد. وزاد في تقليص حكم المجالس تدخل الحبش بصورة مستمرة في شؤون العربية الجنوبية، وانتزاعهم الحكم بالقوة من أصحابه الشرعيين وانفراد حكامهم وحدهم بالحكم، ثم اضطرار الملوك والأقيال و الأذواء إلى مقاومة الحبش الغزاة وحشد كل الطاقات البشرية لطرد الحبش من بلادهم، وأحوال مثل هذه لا تسمح بابداء رأي، فكان فيها موت تلك المجالس التي لم تكن كما قلت تمثل الشعب، لأنها لا تمثل السواد الأكبر،وإنما كانت تمثل أصحاب الوجاهة والسلطان ولكن وجود شيء فيه وقوف إزاء الملوك وتحد لسلطانهم إن أرادوا توسيعه، هو مهما كان نوعه خير من لا شيء ومن انفراد الملوك بالأمر دون خوف ولا رهبة من اعتراض، أحد ومن نقد ناقد.

(1/2732)


--------------------------------------------------------------------------------

هذا، ولم نعثر على نص بالمسند، ورد فيه ذكر لعدد أعضاء المزاود أو المجالس التمثيلية الأخرى. أما ما ذكره "الهمداني" من انه كان لحمير مجلس ينظر في أمور الملك واختيار الملك إذا مات الملك ولم يترك من يرثه، وان عدد أعضاء ذلك المجلس ثمانون قيلا، لا ينقص ولا يزيد، وانهم إذا انتخبوا قيلا منهم يكون ملكا عند عدم وجود من يخلف الملك، أو عدم رضائهم عن الملك لسبب من الأسباب، فإنهم كانوا ينتخبون قيلا" جديدا ليكمل العدد المقرر، فإننا لا ندري أكان ذلك حكاية عن وضع الحكم في اليمن قبيل الإسلام، ام كان مجرد رواية من هذه الروايات الواردة عن الجاهلية، مما يرويه أهل الأخبار. وقد نحمل روايته محمل الصدق بالنسبة إلى مجمل الخبر. أما بالنسبة إلى ثبات العدد فأمر لا نستطيع أن نأخذ به ونقطع بصحة ما ورد فيه.
وظهرت في القرن الثاني قبل الميلاد فما بعده ظاهرة جديدة أخرى، قد تدل على ضعف شخصية الملوك، وتقلص سلطانهم، هي ظاهرة ذكر امم ولي العهد مع اسم الملك، وتلقيبه بلقب ملك تماما كما يلقب الملوك. فجاء اسم نهفان مع ابنه "شعرم اوتر" "شعر أوتر"، دلالة على أنهما حكما حكا" مشتركا، وجاء اسم ملك، وجاء اسم ملك وجاء مع اسمه اسم أخيه يحكم معه ويحمل لقب الملك، وجاء اسم ملك ومعه اسم ابنين أو ثلاثة أبناء، يشاركونه في اللقب وفي الحكم، بل ورد اسم ملك ومعه حفدته يحملون لقب الملك.

(1/2733)


--------------------------------------------------------------------------------

وظاهرة أخرى نراها تظهر، فيها دلالة أيضا على تناحر الأسر وتقاتلها على الجاه والحكم والسلطان، تتجلى في حكم أسرتين حكم اسرتين مختلفتين، إحداهما من "حاشد" وأخرى من "بكيل"، وكلتاهما من همدان، وقد حمل كل واحد من رجلي الأسرتين اللقب الرسمي لملوك سبأ. فقد حكم "علهان نهفان" وابنه "شعر أوتر" وهما من "حاشد "، وحكم في الوقت نفسه "فرع ينهب"، وابنه، وهما من "بكيل"، وكان كل واحد منهما بلقب نفسه بألقاب ملوك سبأ. ثم تجد من ذيول هذه الظاهرة منافسة "ظفار" لمأرب، ومبارزة قصر ملوك "ظفار" وهو "ذو ريدان" لقصر ملوك سبأ القديم وهو "سلحن" "سلحين". وفي هذه المنافسة دلالة على تنافس أسرتين على الحكم، كل أسرة تدعي أنها حاكمة سبأ ومالكة مملكة سبأ.
وكان من نتائج هذا التطور ظهور حكم لا أود تسميته ب "حكم لامركزي"، ولكن أرى تسميته: حكما إقطاعيا، أو حكم "أمراء الطوائف"، أو حكم رؤوس الطوائف. فقد صار الأمر والنهي للقيال وللاذواء، وللسادات وقادة الجيش، حتى تكاثر عددهم، وحتى صارت لهم كلمة في اختيار الملوك وفي إسقاطهم. ونجد في الكتابات المتأخرة أسماء عدد كبير من هؤلاء الإقطاعين، دلالة على مكانتها، وخطر شأنها في السياسة العامة، ولم تختف هذه الظاهرة حتى بعد احتلال الحبش لليمن، وحتى بعد طرد الحبش عنها ودخولها في حكم الفرس إلى أيام الإسلام.

(1/2734)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان مما قوى سلطان الإقطاعيين الحروب التي أعلنها الملك "شمر يهرعش" على جيرانه. لقد تمكن من توسيع رقعة سبأ ومن إضافة أرضين جديدة واسعة لها، ومن إحاطتها بهالة من العظمة، ولكنه اضطر من ناحية أخرى إلى إرضاء الإقطاعيين الذين ساعدوه وخدموه في حروبه وأدوا له خدمات كجيرة، فوسع سلطانهم، وقوى مركزهم، وصيرهم قوة ذات شأن لها سلطان في الدولة، فأضعف بعمله مركز الحكومة، ووضع من جاء بعده من الملوك في مركز حرج أمام كبار الاقطاعيين الذين أخذوا لم يتدخلون في أمور الدولة، وينافسونها في سلطان. وهكذا زالت معالم. الحكم "الاستشاري" الأقيال، ويحل محله حكم الملوك المستند إلى تأييد عدد من كبار رجال ألاقطاعيين وسادات القبائل، وهو حكم راعى بالطبع مصالح هؤلاء، ولم يهتم بمصالح هؤلاء، ولم يهتم بمصالح سواد الناس، بل حتى مصالح الاقطاعيين الذين لم يكن لهم سلطان كبير، فاصيبوا بضرر بالغ من هذا التغيير الدستوري في أصول الحكم.
وقد كان ملوك العربية الغربية، مثل كل ملوك ألعربية الجنوبية، يأخذون بالرأي ويعملون بمشورة المجالس. ويعرف مجلس الشورى في الكتابات الحيانية ب "هجبل" "الجبل" و "جبل". وقد نعت المجلس بجملة "العالي الشأن" في إحدى الكتابات، تعظيما له، وتقديرا لشأنه. ومما يؤيد أخذ الملوك برأي المجلس "جبل"وهو ورود لفظة "براى"، أي "برأي" في الكتابات، دلالة على أخذ الملوك برأي المجلس.
بل ذهب بعض الباحثين إلى احتمال وجود أحزاب سياسية في مملكة لحيان.غير أننا لم نتمكن من الحصول على كتابات لحيانية فيها شيء عن الحزبية وألاحزاب في ذلك العهد.

(1/2735)


--------------------------------------------------------------------------------

أما أصول الحكم عند "آل لخم"، فإننا لا نملك نصوصا طما لها مدونة، كذلك لا نملك نصوصا فيها شيء عن أصول الحكم عند الغساسنة. ولم يشر أهل الأخبار الى وجود مجالس على نمط "المزود" أو "دار الندوة" عند المناذرة أو الغساسنة، لذلك لا نستطيع أن نتحدث بأي حديث عن الشورى وأخذ الرأي عند اللخميين، أو عند آل غسان.
بل يستنبط من بعض روايات أهل الاخبار، ان ملوك "آل نصر"و "آل غسان" و "آل اكل المرار"،كانوا ملوكا غلب على حكمهم الاستبداد بالرأي، إذ لم يعملوا برأي أحد، ولم يأخذوا بمشورة مستشار إلا إذا كانت المشورة موافقة لهواهم ومن شخص قريب منهم، وله أثر فعلي عليهم. كما يستنبط منها ايضا ان المقربين من الملوك، لم يكونوا مخلصين لهم في تقديم النصيحة، بل كانوا يبتغون من ورائها الحصول على منفعة وفائدة، أو ضررا يلحق بأعدائهم، وبالقبائل المعادية لقبائلهم في كثير من الأحايين. وان بعض الملوك، ولا سيما المتأخرون منهم، كانوا قد تأثروا بآرائهم فعملوا بها،فأوجدت لهم مشكلات خطيرة،كان الملوك في غنى عنها لو انهم كونوا مجالس استشارية، وأخذوا برأيها في تسيير النابه من أمور المملكة.
أما القرى والمدن إن جازت هذه التسمية، شد حكمها وجهاؤها وساداتها رؤساء الشعاب والبيوتات الكبيرة. فإذا حدث حادث في شعب حله رؤساء ذلك الشعب، وإن عرض للقرية او للمدينة عارضا اجتمع سادتها للنظر فيه وحلة، واليهم يكون تسيير أمور القرية أو المدينة. يجتمعون في "نادي" القرية أو المدينة، وهو مجتمعها للنظر في الأمر والبت فيما يرون اتخاذه من قرارات. وقد ورد في القرآن الكريم: " وتأتون في ناديكم المنكر ". والنادي هنا المجلس، ومجتمع القوم، وموضع اتخاذ القرارات والبت في الأمور.
وكان لأهل "تدمر" "مجلس" على غرار مجلس "الشيوخ" في "رومة" مؤلف من سادات المدينة من أصحاب الجاه والسلطان له سلطة من القوانين والتشربع، وله رئيس وكاتب.
دار الندوة

(1/2736)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد تحدث اهل الأخبار عن دار قالوا انها كانت بمكة سموها "دار الندوة" ونسبوها إلى جد قريش ومجمعها "قصي،"، قالوا: إن قريشا كانت إذا همت بأمر أو أرادت رأيا، أو قررت اتحاذ قرار، اجتمعت فيها، ونظرت في أمرها واتخذت فيها قرارها. فهي إذن مجلس يشبه "المجالس" التي كانت في مدن اليونان، وقد كونوها لتكون حكومة المدينة المشرفة على شؤونها المدبرة لأمورها الناظرة فيما يقع فيها من خصومات وخلاف.
وذكر بعض اهل الأخبار،انه لم يكن يدخلها من قريش من غير ولد قصي إلا ابن أربعين سنة للمشورة، وكان يدخلها ولد قصي "كلهم اجمعون وحلفاؤهم والظاهر ان هذا كان خاصا بالمشورة وأخذ الرأي. لما كان قد قر في نفوس أكثر الناس من أهمية السن في تقديم الرأي، ومن أن النضوج العقلي يبدأ في الاربعين من العمر. وإذا صحت الرواية، نكون أمام شرط مهم فيمن يحق له حضور دار الندوة، لابداء المشورة و الرأي. لكننا نسمع من رواة الأخبار أيضا، أنهم يذكرون ان قريشا كانت تتساهل في موضوع السن احيانا، فكانت تتساحل في قبول دخول من هو دون الأربعين من العمر إذا كان الشخص سديد الرأي. فقد " تحاكم العرب في الجاهلية في النفورة،وفي غير ذلك من المخايرة والمشاورة، الى أبي جهل ابن هشام في أيام حداثته وفتائه، ولذلك أدخلوه دار الندوة، ودفع مع ذوي الأسنان والحكمة من بين جميع الشبان، ومن بين جميع الفتيان.
ولذلك قال قطبة بن سيار حكيم فزاره حين تنافر اليه عامر بن الطفبل وعلقمة ابن علاثة: عليكم بالحديد الذهن، الحديث السن يعني أبا جهل ".
الملا

(1/2737)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي القران الكريم لفظة "ملأ" بمعنى جماعة يجتمعون على رأي. وتعبر هذه الفظه عن الغالبية، أي عن الرأي العام الغالب لمكان ما، أو لجماعة من الجماعات. ومعنى ذلك اتخاذ "أهل الحل والعقد" من الملا رأيا يكون ملزما للآخرين وأهل الرأي والحل والعقد، هم السادة أصحاب الجاه والعقل والسن، ولذلك كانوا يفضلون في أخذ الرأي، اخذ رأي أصحاب العقل والخبرة ،وهم المتقدمون في السن في الغالب،ففي صغر السن طيش وتسرع، والبت في الأمور يحتاج إلى نضج وصر وأناة وحلم. لهذا كان أكثر رجال "دار ألندوة" من البالغين المتقدمين في السن.
وعرف علماء العربية "الملا" أنه الرؤساء والجماعة وأشراف القوم ووجوههم ورؤساؤهم ومقدموهم الذين يرجع إلى قولهم، "يروى أن النبي، صلى الله عليه وسلم، سمع رجلا من الأنصار وقد رجعوا من غزوة بدر، يقول: ما قتلنا إلا عجائز صلعا، فقال عليه السلام: أولئك الملأ من قريش، لو حضر فعالهم، لاحتقرت فعلك " أي: اشراف قريش. فالملأ إنما هم القوم ذوو الشارة والتجمع للادارة.
وورد ان "الملا" التشاور والعطية. ويظهر من المواضع العديدة التي وردت فيها هذه الكلمة في القران الكريم، ان المراد بها في اكثر تلك المواضع، علية القوم من دوي الرأي والمكانة، والأشراف من القوم ووجوههم ورؤساؤهم و مقدموهم الذين يرجع إلى قولهم. وذكر ان "الملأ": التشاور. تشاور الأشراف والجماعة في أمر ما.
فرؤساء مكة إذن، هم حكومتها وحكامها، وليس هناك ملك أو حاكم انفرد بالحكم والسلطان. فالحكم فيها إذن، حكم مدينة، لا حكم ملك أو فرد، وقد كان الحكم في الطائف وفي يثرب وفي نجران، وفي وادي القرى على مثل هذه الطريقة، غير ان الأخباريين لم يتحدثوا عن مجلس يشبه دار الندوة في هذه المدن.

(1/2738)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي القرآن الكريم: "فاعف عنهم، واستغفر لهم، وشاورهم في الأمر"، و " أمرهم شورى بين هم ". وفي هاتين الآيتين دلالة على الأخذ بمبدأ المشورة، وان الحكم شورى. وحكم قريش في مكة، هو حكم المشاورة وأخذ الرأي، لهذا كانوا يتشاورون فيما بينهم حينما كانوا يعتزمون اتخاذ قرار تجاه الرسول. وقد بينت ان أصحاب الرأي والمشورة هم "الملا" وعلية القوم ومن عرف بجودة الحكم والفطنة والذكاء.
وكانت القرى الأخرى تستشير ذوي الحل والعقد. وكذلك فعلت القبائل. فقد كان سيد القبيلة يطلب من وجوه قبيلته ابداء رأيهم في القضايا المهمة من أمور الحرب والسلم. وكان سادات القبيلة، يجتمعون للنظر في امر اختيار رئيس، إذا مات رئيس وليس له وريث، أو وقع خلاف فيما بين أعضاء بيت الرئيس على الرئاسة. وقد حث العرب على الأخذ بالرأي والمشورة، حتى لا يقع المرء في الخطأ والتهلكة. والرأي: للنظر والتدبر والتفكير. وقد قدمه العرب على الشجاعة، فجعلوه قبلها، لأن الشجاعة لا تنجح ما لم يكن للشجاع رأي ونظر في كيفية التغلب على خصمه.
المشاورة
وقد كرهت العرب والحكماء مشاورة من اعترته الشواغل، وألمت به النوازل، مع وفور عقله وحزمه، فقال "قس بن ساعدة الإيادي لابنه: لا تشاور مشغولا" وإن كان حازما، ولا جائعا وإن كان فهما، ولا مذعورا وإن كان ناصحا، ولا مهموما وإن كان عاقلا، فالهم يعقل العقل فلايتولد منه رأي ولاتصدق به روية". و "قال الأحنف بن قيس: لا تشاور الجائع حتى يشبع، ولا العطشان حتى يروى، ولا الأسير حتى يطلق، ولا المقل حتى يجد،ولا الراغب حتى ينجح".
وكانت العرب تخمد الأناة في الرأي، واجالة الفكرة فيه وعدم التسرع.
"و كان عامر بن الظرب حكيم العرب يقول: دعوا الرأي يغب حتى يختمر، وإياكم والرأي الفطير".

(1/2739)


--------------------------------------------------------------------------------

واجتمع رو ساء بني سعد إلى أكثم بن صيفي يستشيرونه فيما دهمهم يوم الكلاب، فقال: إن وهن الكبر قد فشا في بدني، وليس معي من حدة الذهن ما أبتدئ به الرأي، ولكن اجتمعوا وقولوا، فإني إذا مر بي الصواب عرفته".
حكم سادات القبائل
وحكم سيد القبيلة حكما يتوقف على شخصيته ومكانته، فإذا كان السيد قويا حازما مهيبا رفع مكانة القبيلة، وصير لها منزلة بين القبائل، وقد يفرض ارادتها على القبائل الأخرى. أما إذا كان ضعيفا فاتر الهمة باردا بليدا، طمع فيه الطامعون، وقد يكون سببا في تشتت كلمة القبيلة وفي تجزئتها وهبوط مكانتها بين القبائل. فالرئيس هو الذي يخلق القبيلة ويعز مكانتها، وهذا هو سر ظهور قبائل كبيرة بصورة مفاجئة، ثم اختفاء أمرها وهبوط منزلتها بعد أمد. وسر ذلك ان الذي يرفع من شأن القبائل أو يخفض من منزلتها هو "سيد القبيلة"،فهو روحها، وهو الذي يمنحها إكسير الحياة.
وليس حكم سيد القبيلة، حكما مطلقا، لا مشورة فيه ولا أخذ رأي، بل الحكم في القبائل حكما مستمدا من رأي وجهاء القبائل وعقلائها وفرسانها وألسنتها المتبينة، فهو حكم "ملأ القبيلة". وقد يكون بيت رئيس القبيلة، هو مجلسها وموضع حكمها. وإذا حدث حادث اجتمع عقلاء القوم في مجلس الرئيس وتباحثوا في الأمر. ويقال لمجلس القبيلة "عهرو" "ع ه ر و" في اللهجة القتبانية، يعقد للنظر فيما يقع للقبيلة من أمر جليل، مثل فرض ضرائب أو زيادتها، أو إعلان حرب، أو ما شاكل ذلك من أمور.
ونجد مثل هذه المجالس عند جميع القبائل. فإذا حدث للقبيلة حادث، تجمع سادتها للتباحث في الأمر، ولاتخاذ ما يرون اتخاذه من رأي. ولما كانت القبيلة منتشرة لا تستقر في واحد، صارت مضارب سادات الأحياء اندية تلك الأحياء، يجتمع فيها وجوه المضرب للسمر وللبت فيما قد يقع بين الحي من خلاف. وبهذه الطريقة يفصل في الخصومات وفي كل ما يحدث للحي من أمر.

(1/2740)


--------------------------------------------------------------------------------

ويروي أهل الأخبار شعرا زعموا أن "لقيطا الإيادي"، قاله في كيفية الحكم وسياسة الرعية، فيه هذه الأبيات: فقلدوا أمركم لله دركم رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا
لا مترفا إن رخاء العيش ساعده ولا إذا عض مكروه به خشعا
ما زال يحلب در الدهر أشطره يكون متبعا طورا ومتبعا
حتى استمرت على شزر مريرته مستحصد الرأي لاقحما و لا ضرعا
حكم الملوك
و تتلخص نظرة الجاهلية بالنسبة إلى حكم الملوك فيما يأتي: الملك مالك والتابع مملوك، واجبه تقديم حقوق الملك للملوك وحق الملك الطاعة وفي ضمن الطاعة: ألإخلاص له، والعمل بما يفرضه على التابع من حقوق وواجبات. وليس للرعية الإمتناع عن دفع ما في عنقها من حقوق لملوكها أو ساداتها: سادات القبائل.
وليس لأحد حق مطالبة ملكه بدفع مال له، لا بصورة ثابتة معينة مقررة، ولا بصور أخرى. إنما الملوك والسادات احرار، لهم ان يعطوا ولهم ان يمسكوا، وما يدخل خزانتهم وما يأتيهم من ربح من تجارة أو مغنم من حروب أو من عشور ومكوس وضرائب اخرى، هو من حقهم وهو من ملكهم الخاص بهم.
وكل ما يعود للحكومة، هو لهم. لنفهم هم الحكومة، والحكومة الرؤساء.
وفي الحديث: " ومأكول حمير من آكلها ؛ المأكول: الرعية، الآكلون الملوك جعلوا أموال الرعية لهم مأكلة، اراد ان عوام اهل اليمن خير من ملوكهم".
و "الآكال: مآكل الملوك. وآكال الملوك: مأكلهم وطعمهم: والأكل: ما يجعله الملوك مأكلة". والمأكولون إذن هم الرعية، يأكلهم ملوكهم، مما يأخذونه منهم من حقوق وبما يفرضونه عليهم من واجبات، والآكلون هم الملوك، لأنهم يأكلون ولا يعطون.

(1/2741)


--------------------------------------------------------------------------------

والحاكم ملك كان أو سيد قبيلة، هو حاصل المحيط الذي نشأ فيه والبيئة التي عاش بين اهلها، لذلك نراه مستبدا إلى اخر حد من جهة، ونراه عطوفا غافرا للذنوب من جهة اخرى. وهو القانون والسلطة التنفيذية والتشريعية ولا راد لحكمه وقضائه، إلا التوسلات والوساطات وشفاعة الشفاع، فإن تأثر بالشفاعة غيررأيه وإن اصر على رأيه فلا راد لحكمه. وحكم هذا شأنه يكون خاضعا لمزاج الحاكم ولدرجة هدوء أعصابه واتزانه، فإن كان الملك عاطفيا منفعلا سريع التاثر، صار عهده عهد مشاكل ومؤامرات يكون قبل الأشخاص فيه من الأمور البسيطة. وما يومي البؤس والنعيم، إلا مثل على عقلية الحكم في ذلك الوقت. وفي حكم كهذا تكثر فيه بالطبع الوشايات والمؤامرات، إذ يستغله الحساد وأصحاب الذكاء في الايقاع بخصومهم، كالذي فعلوه من الايقاع بين النعمان والشاعر النابغة صديقه والمقرب اليه، وكالذي فعلوه من الإيقاع بين "عمرو بن هند" وهو ملك متهور قلق، وبين سادات القبائل مما سبب إلى غزوهم والى استهتار بعض القبائل بحكمه وخروجه على طاعته.
وقتل الأشخاص من أبسط الأمور بالنسبة إلى أولئك الحكام، فإذا أزعجهم شخص أو هجاهم شاعر أو انتقصهم احد،فقد يكون القتل جزاء له في الغالب.
وإذا كان امر الملك يقتل إنسان، قتل، ما لم يشفع له شفيع قوي مؤثر. وإذا كان امر الملك يقتل الشخص في الحال، قتل دون تأخر. ولا راد لحكمه، فهو الحاكم وهو المنفذ للاحكام. ولا اعتبار لمنزلة الشخص الذي سيقتل، والشيء الذي يؤجل الموت أو يبعده عن شخص ما، هو هروبه إلى رجل منافس لهذا الحاكم كاره له، أو له دالة عليه، فينقذ لجوؤه إلى ذلك الشخص رقبته من سيف الجلاد.

(1/2742)


--------------------------------------------------------------------------------

وللملك إحراق من يشاء إذا أراد، والتمثيل بجسم عدوه. وقد رأينا جملة ملوك من ملوك "آل لخم" و "آل غسان" وقد عرفوا "بمحرق" لأنهم حرقوا أعداءهم بالنار. لم يحرقوا بيوتا، بل بشرا، وقد رأينا بعض الروايات،وهي تنسب إلى "المنذر بن ماء السماء" قتل راهبات وقعن في الأسر من غسان ليكن قرابين قربهن إلى العزى. ورأينا امر "عمرو بن هند" بذبج تسعة وتسعين رجلا من تميم على قمة "أوارة"، لأنه حلف يمنيا لينتقمن منهم بقتل مائة رجل منهم، واحراقهم بالنار. فقيل له المحرق. وضرب بفعله المثل في قصة يروونها عن هذا المثل: إن الشقي وافد البراجم.
وقد اشتهر "الجلندي" ملك "عمان" بظلمه، حنى ضرب به المثل. فقيل "أظلم من الجلندي" و "ظلم الجلندي". وقيل انه هو الذي ذكره الله في كتابه، فقال: " وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ".
ويذكر أهل الأخبار ان الملوك إذا ارادت قتل شخص، لبست جلود النمر وجلست تتفرج على من يراد قتله. ويعبر عن ذلك بالتنمر.
اصول التشريع وسن القوانين
لا نملك اليوم نصوصا في أصول التشريع وقواعده عند الجاهليين. إذ لم يعثرعلى نص خاص بهذا الموضوع. غير ان في بعض النصوص اشارات عابرة، يمكن ان نستنبط منها شيئا عن قواعد التشريع عند العرب قبل الإسلام. وفي جملة هذه النصوص بعض النصوص القتبانية، و منها النص الموسوم بGlaster 1606.

(1/2743)


--------------------------------------------------------------------------------

والعرب من الشعوب التي تميل إلى الأخذ بالرأي، واستشارة ذوي إلى رأي والخبرة والسن. فنجد سيد القبيلة يستشير سادات القبيلة ووجوهها في الأمور الخطيرة التي تقع لقبيلته. كما نجد المدن والقرى تستنير برأي أولي الأمر في المشكلات التي تقع لها، لحلها وفقا لما يستقر عليم رأي ساداتها. وفي العربية الجنوبية نجد للقبائل مجالسها كذلك، حيث يجتمع اصحاب الرأي في القبيلة، للنظر فيما يقع لقبيلتهم من امرو وقضايا خطيرة يحب أخذ الرأي فيها. وكان للملوك مستشارون يتشارون في القضايا التي يعرضها الملك عليهم، بالاضافة إلى "المزاود" والمجالس الاخرى.
وقد استشار الملوك اصحاب الأرض من طبقة "طبنن" "الطبن". والمستشارون الذين عرفوا ب "فقضت" و "بتل"، كانوا يجمعونهم لأخذ رأيهم في امور الأرض وفي مسائل اخرى. كما استشاروا كبار رجال المعابد من درجة "رشو" و "شوع". وكان لرأي هؤلاء أهمية كبيرة بالنسبة للملوك، لما كان لهم من نفوذ وكامة في المجتمع.

(1/2744)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم يكتف الملوك بأخذ رأي الطبقات المذكورة عند إقرار قانون، بل كانوا يرسلون آرائها ووجهة نظرها إلى مجالس القبائل وإلى سادات ووجوه المدن والقرى والمستوطنات للوقوف عليها ولبيان رأيهم فيها، وذلك في القضايا العامة التي تشمل كل الدولة، مثل تنظيم امور استثمار الارض وفرض الضرائب والقوانين التجارية، لتدرس وتعالج على ضوء مصالح كل المتنفذين من ذوي الرأي والجاه في المملكة، على قدر الامكان، وليكون في الامكان تطبيقها وتنفيذها دون كبير اعتراض. ومتى جاء رأيهم ووقف الملك على كل الاراء واحاط علما بها، عمل برأيه فيها واتخذ قرارا باتا بموجبها. ويعبر عن اتخاذ قراره هذا بلفظة "جزمن" أي "الجزم". جزم الملك برأيه وامضائه لاصدار ذلك القانون، ويأمر عندئذ بتدوينه، ويعبر عن ذلك بجملة "سطرن ذت يدن"، أي "وقد كتب القرار بيده"، كناية انه، امر بتدوينه ونشره، فكأن يده ذاتها قد سطرته، وقد تدون جمل اخرى في هذا المعنى، مثل "تعلمه ذت يدن" و "تعلمه يدن" أي وقعه بيده، بمعنى امضاه وختمه بختمه، وذلك على ما يفعل رؤساء الدول من التوقيع تحت نص القوانين والاوامر،لاكسابها صبغة رسمية. وتذكر بعد اسم الملك بأسماء بعض رجال الحاشية وكبار السادات واعضاء المزاود، ممن يكونون قد ساهموا في اصدار القانون، ولهم قوة تنفيذية في المملكة. على نحو ما نفعل من ذكر اسم رئيس الوزراء والوزراء المختصين ممن لهم علاقة بتنفيذ القانون بعد اسم رئيس الدولة، دلالة على موافقتهم عليها، واقرارهم لها.

(1/2745)


--------------------------------------------------------------------------------

وبعد الانتهاء من موافقة الملك عليه بتثبيت اسمه عليه يدون وتحفظ نسخا منه في خزائن الحكومة للرجوع اليها، ويقرأ القانون على الناس للاطلاع عليه. ثم يكتب على احجار تثبت في جدار الساحات الكبيرة التي يجتمع فيها، لاسيما ساحات ابواب المدن والقرى التي تكون عند المداخل، وهي ساحات الاعلان ويكون القانون بذلك ملزما واجب التنفيذ، وعلى موظفي الحكومة والرعية العمل بما جاء فيه.
وفي حالات سن القوانين التي تخص قبيلة واحدة او مكانا معينا، يجتمع المجلس الاستشاري "المزود" لتلك القبلية او المكان، ثم يتداول في الامر، وقد يحضره الملك بنفسه، وقد يحضره ممثل او ممثلون عنه. واذا اتخذ المجلس قرارا في امر ما، فله الحق بأصداره بأسم الملك، كما ان له الحق بأصداره بأسمه، أي بأسم المجلس الاستشاري الذي اتخذ القرار. واذا صدر بأسم الملك دل ذلك على انه قانون رسمي وافقت الدولة عليه، اما في حالة اغفال الاشارة الى اسم الملك في القرار، فإن ذلك يدل على انه قانون خاص خصص بالموضع الذي أصدر المجلس قراره فيه. وتطبق احكامه عليه وحده.
ومن حق المجالس، اقرار القوانين القديمة وتثبيتها، كما ان لها حق إلغائها
او تعديلها ويصدر قرارها بقانون. ومن حقها ايضا العفو عن المحكوم عليهم، عفوا كليا أو جزئيا. وتنظيم حقوق الارض بقوانين يصدرها عند الحاجة وحسب مقتضيات الأحوال.

(1/2746)

admin
12-31-2010, 08:18 PM
ومن الصعب علينا في الوقت الحاضر تثبيت اسماء الهيئات المشرعة في العربية الجنوبية، أي الهيئات التي كان من حقها سن القوانين ووضع الانظمة. لأننا نجد في نصوص المسند اسماء مؤسسات سنت قوانين ووضعت أنظمة في جباية الضرائب وفي تنظيم معاملات ألبيع والشراء والأرض. مثل" ذو عهرو" "عهرو" في قبيلة "فيشن" "فيشان" من قبائل سبأ و "مسخنن" "مسخنان " في سبأ كذلك. ومؤسسات أخرى لا نعرف الآن من أمرها شيئا يذكر. يظهر أنها كانت مجالس ومؤسسات ذات طابع محلي تشمل صلاحيتها الموضع الذي تكون فيه وكان من حقها تشريع ما ترى ضروريا بالنسبة الى تنظيم الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لذلك المكان.
ويستنبط من تعدد المجالس و الجمعيات ومن الاعمال التي قامت بها، أن الحكم في العربية الجنوبي قبل الميلاد كان حكما قريبا من الحكم "الديقراطي" الشعبي. وان سلطات الملوك كانت مقيدة ببعض القيود، فلم يكن الملك يصدر أمرا إلا بعد أخذ رأي المجالس المختصة واستشارتها وأخذ موافقتها. والمجالس المذكورة وإن كانت في الواقع مجالس كبار اصحاب الارض وأصحاب الجاه والنفوذ، ولا راي لسواد الناس فيها. وكان للملوك نفوذ عليها و دخل في قراراتها، و لا سيما الملوك الكبار اصحاب الشخصية، إلا ان وجودها على تلك الصورة وعلى هذا النحو من الحكم، هو خير بكثير من عدم وجودها ومن حكم لا يستند على أي مجلس ولا على أية أستشارة او رأي، كما كاذ الوضع عند بعض الشعوب التي حكمها حكام مستبدون، حكموا شعوبهم حكما فرديا تعسفيا،لم يستند على رأي، لا رأي النخبة من الأمة، ولا رأي الشعب.

(1/2747)


--------------------------------------------------------------------------------

ودام الحال على هذا المنوال إلى القرن الثاني للميلاد تقريبا، ثم تبد ل وتغير.فلما جاء القرن الثالث تقلص ظل حكم الأخذ بالشورى والرأي، حتى زال هذا الحكم، واختفى ذكر "المزاود"، ولم نسمع بعد ذلك لها خبرا. ويظهر ان العربية الجنوبية قد سارت على الطريق التي سلكها ملوك اليونان وقياصرة "رومة" من التنكر للحكم "الديمقراطي" والابتعاد عنه، للاخذ بمبدأ حكم "الفرد"، وهيمنة الحاكم الأعلى على كل شيء. فلما بسط ملوك سبأ وذو ريدان وحضرموت سلطانهم على أرضين واسعة، وكونوا لهم جيشا كثير العدد غزوا به امارات و المخاليف،ازداد بذلك ملكهم، واتسع مالهم، وقضوا على من كان له رأي ونفوذ في المجالس حتى زالت المعارضة وصار الأمر بأيديهم، وبأيدي من يرضون عنهم ممن يأتمر بأمرهم. وبزوال قوة أصحاب المجالس، زال حكم الرأي والشورى الذي كان يحد بعض التحديد من سلطان الملوك، ويمنعهم من وضع القوانين من دون أخذ رأيهم، وصار الحكم إلى رأي الملوك وإلى رأي الأقوياء من كبار أصحاب "المخاليف".
ومما ساعد على زوال حكم الأخذ بالمشورة والرأي واستبداد الملوك وكبار رجال الاقطاع بالحكم هو تدفق الأعراب من الحجاز ونجد وسواحل الخليج إلى العربية الجنوبية وازدياد عددهم فيها، ولا سيما بعد انهيار حكم مملكة كندة وارتحالهم من منازلهم إلى العربية الجنوبية، فازداد بذلك نفوذ الأعراب واستغلهم الملوك للقضاء على نفوذ الأعراب الملوك والأذواء وذوي الاقطاع والنفوذ والجاه، حتى صار لهم نفوذ واسع في المملكة، وغدوا فوة اعترف الملوك بها، فأشاروا اليها في لقبهم الرسمي الذي صار على هذا النحو: ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت وأعرابها في الأطواد والتهائم.

(1/2748)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد استغل سادة الأعراب حاجة أهل الحكم والمتنافسون عليه اليهم، ببراعة ودهاء. فصاروا يؤيدون من يغدق عليهم بالمال، ومن يفتح لهم المجال للغزو والسلب والنهب ومن يزيد على غيره في اعطاء المال لهم. وأخذوا يتنقلون من جهة إذ أخرى. يعيشون بالأمن في وقت كان الأمن فيه مضطربا قلقا. يهاجمون المدن والقرى والحكومات. وهذا ما أقلق بال الحكومات والرعية، وجعل الناس يخشون على حياتهم ومالهم، ويعيشون بقلق، في ظل حكومات صغيرة عديدة، لا هم لها سوى مخاصمة بعضها بعضا والتناحر، على عادة الحكومات المتنافسة الصغيرة في التكالب فيما بينها تكالب الكلاب.
وقد امتاز هذا العهد بكثرة حروبه وبكثرة ظهور الثورات فيه. وفي محاربة الملوك إلى قضاء معظم أوقات حكمهم في مكافحة تلك الثورات وفي محاربة الاقطاعيين الذين أراد الملوك تقليص نفوذهم.وهذا مما جسر الحبش، على العربية الجنوبية، فدخلوا قوة فاتحة فيها. ووضع مثل هذا لا يساعد على قيام حكم "ديمقراطي" ولو بشكل هزيل. وقد أثرت هذه الحروب والاضطرابات على وضع العربية الجنوبية، فأخرتها كثيرا، وقضت على ما كان فيها من حضارة، وجعلت البلاد بلاد حكومات: حكومات قبائل قرى ومخاليف وعشائر. ولو ان الحكم هو للملوك أو للاحباش أو للفرس. وبقي الحال على هذا المنوال حتى ظهر الإسلام، فقضى الحكم الاجنبي في العربية الجنوبية.

(1/2749)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم يتمكن الحبش من حكم العربية الجنوبية كلها. ولم يكن من السهل عليهم حكها لطبيعة ارضها ولتركز الاقطاع فيها، وهو نظام لازم تأريخها من قبل ظهور الحم المركزي المنظم فيها، حتى صار من تراث تلك البلاد المميز لها في التأريخ. لقد اقتصر حكم الحبش في أليمن على مدن رئيسية معينة: كونت منطقة متصلة، أما خارجها فكان الحكم فيها بيد "الأقيال" الذين ركزوا حكمهم وقووه بتآزرهم وتعاونهم. وبقي الحال على هذا المنوال ايام الفرس أيضا. بل استطيع ان أقول إن حكم الفرس كان حكما شكليا، مقتصرا على بعض المواضيع، أما الحكم الواقعي فكان للاقيال. ولا عبرة لما نقرأه في الموارد الإسلامية من استيلاء الفرس على اليمن، لأن هذه المواد تناقض نفسها حين تذكر أسماء الأقيال الذين كانوا يحكمون مقاطعات واسعة في ايام حكم الفرس لليمن، وكان منهم من لقب نفسه بلقب ملك، وكان له القول والفعل في أرضه، ولا سلطان للعامل الفارس عليه.
حكومات مدن
استعلمت لفظة "حكومة" بالمعنى المجازى، فلم يكن للمدن حكومات بالمعنى المفهوم من الحكومة في الزمن الحاضر، أي رئيس مفروض على المدينة بحكم الوراثة أو بحكم القوة، أو رئيس منتخب ينتخبه أبناء المدينة أو ساداتها وأشرافها لأجل معلوم أو لأجل غير معلوم.
ولم يكن لهذه المدن موظفون نيطت بهم أعمال معينة و واجبات محددة عليهم القيام بها، في مقابل أجور تدفع لهم. ولم يكن فيها مؤسسات ثابتة مثل المحاكم والشرطة لضبط الأمن والضرب على أيدي من يخلون بالأمن ويخرجون على أوامر المجتمع وقوانينه ولم يكن فها ما يشبه أعمال الحكومة المعروفة عندنا، لأن مجتمع ذلك العهد يختلف عن مجتمعنا الحديث.

(1/2750)


--------------------------------------------------------------------------------

فمكة مثلا، وقد كانت من أبرز مدن الحجاز في القرن السادس للميلاد، لم تكن ذات حكومة. لم يكن يحكمها ملك ولم يحكمها رئيس، وكذلك كان أمر "يثرب" و "الطائف" وسائر قرى العربية الغربية. لم يكن فها أي شيء من هذه المؤسسات الثابتة التي تكون الحكومة، والتي تتعاون لتدبير أمور الناس.
وكل ما كان في مكة، أسر، يعبر عنها ب" آل" و"بني"، فيقال: "ال عبد المطلب" و"آل عبد شمس" و"آل هاشم"،و"بنو عبد المطلب" و "بنو عبد شمس" و "بنو هاشم" " وهكذا، تستوطن شعابا خصصت بها.
وكل "شعب" لمجتمع قائم بنفسه، له سادته وأشرافه، وهم وجوه الشعب، وأصحاب الحل والعقد في هذا المجتمع.
ويقوم وجوه الشعب بفض ما يحدث بين أبناء الشعب من خلاف، وبالنظر في أمر المخالفين لأعراف الشعب وعاداته، وأحكامهم غير إلزامية ولا تسندها قوة تنفيذية، بل تنفذ حكم الأعراف والأصول المرعية:وحكم وجاهة هؤلاء الرؤساء و مكانتهم عند الشعب.
أما إذا حدث حادث تجاوز مداه حدود "الشعب"، فشمل شعبا آخر أو عدة "شعاب"، فيكون أمر النظر فيه لسادات "الشعاب" التي يعنيها الأمر، فيجتمعون عندئذ للنظر في الامر وللبت فيه بحكمة وبأناة قدر المكان، مراعاة للجوار، واقرارا للسلم. وإذا أخفق المجتمعون في اتخاذ قرار، توسط بينهم وسطاء محايدون لفض ذلك النزاع بالتي هي أحسن.
وقد ينشب خلاف بين الأحياء على أمور تمس المصالح الكبيرة الخاصة يالأسر، فتفعل هذه الأحياء عندئذ ما لم تفعله القبائل، تلجأ الى حلفائها، أو نجدد أحلافها، أو تعقد حلفا جديدا لتدافع به عن مصالحها،كالذي كان من أمر "حلف المطيبين" وما كان من امر "الاحلاف"، أو من "حلف الفضول".

(1/2751)


--------------------------------------------------------------------------------

أما ما يعلق بأمر المدينة كلها، كأمر مكة مثلا، من امور تتعلق بأحوال السلم أو الحرب. فيترك النظر في ذلك الى "الملا" "ملاء مكة" مثلا. وهم وجوه مكة وسادتها من كل الاسر، فيجتمعون في "دار الندوة" او في دور الرؤساء للنظر القضايا والبت فيها، فيبين الرؤساء اراهم ويتناقشون فيها، فأذا اتفقوا على شيئ الزموا انفسهم تنفيذه، وان لم يتفقوا على شيئ وكان النزاع بين المجتمعين حادا حاول كل فريق تأليف جبهة قوية لمقابلة الجبهة المعارضة، ولمنعها من الاعتداء عليها، وقد يعمد المتخاصمون الى مقاطعة بعضهم بعضا، مقاطعة اقتصادية واجتماعية، كالذي حدث من مقاطعة اغلب قريش لال هاشم وال المطلب، بسبب تمسك ابي طالب بابن اخيه الرسول ودفاعه عنه، فما كان من بقية قريش الا ان قررت مقاطعة "ابي طالب" ومن آزروه وانضم اليه.
ونجد في مكة نوعا من التخصص في الامور. والظاهر ان ذلك انما كان عن استئثار بعض الرجال البارزين بعمل من الاعمال، ثم انتقل ذلك منه الى ورثتهم بالارث او بالاتفاق او بالنص، ثم صار سنة اتفق عليها، كالذي ورد من امر "الرفادة" وهي ما كانت تخرجه قريش من اموالها وترفد به منقطع الحاج. وقد عرفت الرفادة انها شيئ كانت قريش تترافد به في الجاهلية، فيخرج كل انسان مالا بقدر طاقته، فيجمعون من ذلك مالا عظيما ايام الموسم، فيشترون به للحاج الجزر والطعام والزبيب للنبيذ، فلا يزالون يطعمون الناس حتى تنقضي ايام موسم الحج. وكانت الرفادة لبني هاشم. وذكر ان اول من قام بالرفادة "هاشم بن عبد مناف" وسمي هاشما لهشمه الثريد.
وكالذي ورد في امر "السقاية"، سقاية الحاج، وقد عرفت انها مأثرة من مآثر قريش في الجاهلية. وهي ما كانت قريش تسقية الحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء، وكان يليها "العباس بن عبد المطلب" في الجاهلية والإسلام.

(1/2752)


--------------------------------------------------------------------------------

وكالذي جاء أمر "السدانة" مع "الحجابة". والسادن: خادم الكعبة وبيت الأصنام. وكانت السدانة في الجاهلية لبني عبد الدار، فأقرها النبي لهم في الإسلام. السدنة هم الذين يتولون فتح باب الكعبة واغلاقها وخدمتها.
وأما "الحجاب" فهم سدنة البيت أيضا. وذكر ان الفرق بين السادن والحاجب ان الحاجب يحجب وأذنه لغيره، والسادن يحجب واذنه لنفسه والحجبة هم حجبة البيت. ورد في آلحديث: " قالت بنو قصي فينا الحجابة، يعنون حجابة الكعبة " وهي سدانتها، وتولي حفظها، وهم الذين بأيديهم مفاتيحها". وكالذي ذكر من أمر "الندوة"، والندوة التجمع والجماعة. و "دار الندوة": دار الجماعه، سميت من النادي. وكانوا إذا حز بهم أمر، ندوا اليها فأجتمعوا للتشاور.
وكالذي روي من أمر "المشورة". وذلك أن رؤساء قريش كانوا إذا أرادوا أمرا استشاروا ذوي الرأي والعقل والحنكة، ومن هؤلاء "يزيد بن زمعة بن ألأسود"، وهو من "بني أسد". فكانوا اذا ارادوا أمرا ذهبوا اليه، وعرضوه عليه. فإن وافقه والاهم عليه وإلا تخير. وكانوا له أعوانآ. وقد أسلم،واستشهد بالطائف.
ومن الاعمال التي كانت في مكة "الاشناق". وهي الديات والمغرم. وكانت لأبي بكر، وهو من "بني تيم" فكان إذا احتمل، شيئا فسأل فيه قريشا صدقوه وأمضوا حمالة من نهض معه. وإن احتملها غيره خذلوه. ويدل حذا على أن تقدير الأشناق لم يكن ثابتا، بل كان يعود الى تقدير صاحب الأشناق. كمايدل أن غيره قد قام به.
ومن أعمال مكة "السفارة" وذلك أن أهل مكة كانوا إذا وقعت بينهم وبين غيرهم حرب بعثوا سفيرا، وإن نافرهم حي لمفاخرة جعوا ا لهم منافرا لينافرهم.
وكانت السفارة والمنافرة في "بني عدي" عند ظهور الإسلام. وكان الذي يتولاها إذ ذاك "عمر بن الخطاب". وذكر أهل الأخبار أن "بني سهم" "الحارث بن قيس" " وكانت ا اليه الحكومة والأموال المحجرة التي سموها لآلهتهم،والتي كانوا يخصصونها من مغانمهم في السلم وفي الحرب.

(1/2753)

admin
12-31-2010, 08:18 PM
ومن أعمالهم "الأيسار"، وهي "الأزلام" " وقد ذكر أهل الأخبار أنها كانت في "بني جمح"، ويتولاها منهم "صفوان بن أمية". فكان لايسبق بأمر عام حتى يكون هو الذي تسييره على يديه.
ومن الاعمال الأخرى التي ذكرها أهل الأخبار "العمارة". وكان الذي يتولاهاعند ظهور الإسلام "العباس". وكان ينهى الناس من أن يتكلم احدهم في المسجد الحرام بهجر ولا رفث ولا أن يرفع صوته.
وأشار أهل الأخبار الى ما يسمى ب "حلوان النفر" وقالوا إن العرب لم تكن تملك عليها في الجاهلية أحدا، فإن كانت حرب اقرعوا بين أهل الرياسة، فمن خرجت عليه القرعة أحضروه صغيرا كان أو كبيرا. فلما كان يوم الفجار أقرعوا بين بني هاشم، فخرج منهم العباس، وهو صغير، فأجلسوه على المجن.
وقد كانت سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام وحلوان النفر في بني هاشم. واهتم أهل مكة بأمر الحروب والدفاع عن مدينتهم. ويقتضي ذلك وجود أناس لهم خبرة وتجربة في الحرب، ولهم رأي في أحوالها وأصولها وحيلها وخدعها.
فالحرب خدعة، ولا بد للقائد من اللجوء إلى الخدع والحيل الحربية للتغلب على خصمه. ونطرا لضرورة التهيؤ للحرب في أيام السلم، أوجد أهل مكة بعض الأعمال وعهدوا إلى أصحابها القيام بها. منها القبة والأعنة وخزن الأسلهحة وحمل اللواء والقيادة.
أما "القبة" فإنهم كانوا يضربونها ثم يجمعون اليها ما يجهزون به قريشا. وأما "الأعنة"، فيكون صاحبها على خيل قريش في الحرب. وكانتا إلى "خالد بن إلوليد" وهو من "بني مخزوم" عند ظهور الإسلام.
وذكر ان قريشا كانوا يحفطون الأسلحة عند "عبدالله بن جدعان"، فإذا احتاجوا إلى السلاح وزعه فيهم. فبيتهه مخزن قريش للاسلحة. ويذكر ان القبائل كانت إذا حنضرت المواسم أودعت سلاحها "عبدألله بن جدعان"، فإذا انتهى الموسم وقررت العودة استعودته منه، وذلك لأمانته ولشرفه ولوثوق الناس به.

(1/2754)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن الأعمال التي لها علاقة بالحرب: "اللواء". وذكر ان "عثمان بن طلحة" وهو من "بني عبد الدار" كان اليه اللواء والسدانة مع الحجابة، ويقال: والندوة أيضفا. و كانت هذه في "بني عبد الدار". وورد في خبر آخر ان راية "العقاب" وهي راية قريش، كانت عند "أبي سفيان" وهو من "بني أمية". و "العقاب" راية للنبي، كما ورد في الحديث. وذكر ان إلعقأب علم ضخم " يعقد للولاة شبه بالعقاب الطائر.
والقيادة: قيادة جيش مكة. وقد كانت إلى بني أمية في الغالب. ولكن العادة ان يتولى سادات مكه قيادة أحيائهم في القتال. فيقود سيد كل شعب أبناء شعبه ويوجههم حيث يرى في المعركة. أما التنسيق بين خطط المقاتلين لانجاح المعركة فيكون أمره الى من تسلمه قريش قيادتها العامة في الحرب من الرجال المحاربين أصحاب الرأي في الحروب. وكان "حرب بن أمية"قائد قريش في الفجار وفي ذات نكيف.
ويجب ان نضيف الى ما تقدم قيادة قوافل قريش، وقد كان أمر"عير قريش" إلى "أبي سفيان" ضد ظهور الإسلام. و "عير قريش" قافلتها. وقد كانت رئاسة القوافل من الأعمال الهامة في ايام الجاهلية. وعندما تعود القافلة سالمة غانمة يستقبل قائدها استقبال الأبطال. وقد أشير في الكتابات اللحيانية والتدمرية إلى "رئيس القافلة"،على انه من الشخصيات المهمة ا البارزة في تدمر وعند اللحيانيين.

(1/2755)


--------------------------------------------------------------------------------

وكذلك كان أمر قائد قافلة قريش ولا شلك. وورد في الكتابات النبطية لقب آخرغير لقب: "زعيم القافلة" هو "زعيم السوق"، سأتحدث عنه فيما بعد. وذكر ان من أعمال قريش في الجاهلية، عمل يقال له "العمارة". و كان إلى "العباس بن عبد المطلب"، بالاضافة إلى السقإية. وقد خرجت عليه القرعة يوم الفجار، فنصب رئيسا على "بني هاشم". وكان من عادة قريش والعرب - كما يزعم أهل الأخبار - انهم لم يكونوا يملكون أحدا عليهم. فإن كان حرب أقرعوا بين أهل الرئاسة، فمن خرجت عليه ألقرعة أحضروه، صغيرا كان أو كبيرا. فلما خرجت القرعة على العباس،وهو صغير،جاءوا به،فأجلسوه على المجن.
و "العمارة" عمارة البيت. وقد عدت من مفاخر قريش. و قد أشير اليها في القرآن: )أجعلتم سقاية الحج وعمارة المسجد الحرام، كمن آمن بالله واليوم الآخر(. وقد ورد ان ممن تولاها "العباس بن عبد المطلب " و "شيبه بن عثمان ". وذكر ان "المشركين قالوا: عمارة البيت وقيام على السقاية خير ممن آمن وجاهد. وكانوا يفخرون بالحرم ويستكبرون به من أجل إنهم أهله، وعماره. فذكر الله استكبارهم واعراضهم".

(1/2756)


--------------------------------------------------------------------------------

أما بخصوص نظام الحكم في يثرب، فإنه لا يختلف عن طريقة نظام الحكم في مكة، فلم يكن لأهل يثرب عند ظهور الإسلام رئيس وقد حاول بعض ساداتها من الأوس والخزرج تنصيب أنفسهم ملوكا على المدينة، غير أنهم لم يفلحوا في مسعاهم فلم ينصبوا ملوكا عليها. والظاهر أن للمنافسة الشديدة العنيفة التي كانت بين الأوس والخزرج على الزعامة والرئاسة يدا في عدم تمكين أي أحد من سادة أ يثرب من الانفراد بزعامة المدينة وبالسيادة عليها. وقد يكون لوجود اليهود بيثرب يد في تعميق الخلاف بين "أولاد قيلة"، إذ لم يكن من مصلحتهم اتفأقهم واجماعهم على اختيار رئيس واحد قوي. فالرئيس القوي سيبسط نفوذه همن غير شك على يهود يثرب أيضا، ويستذلهم ويجعلهم أتباعا له. أما في حالة تشتت كلمتهم وتشاحنهم فستكون لليهود إمكانية إثارة فريق على فريق، والاستفادة من سياسة فرق تسد". وبذلك يكون أمرهم ونهيهم في أيديهم بدلا من أن يكون في أيدي "صاحب يثرب".
وقد حاول أهل يثرب من الأوس والخزرج حل " مشكلة الحكم في مدينتهم حلا وسطا، على قاعدة:أن من الأوس أمير ومن الخزرج. أمير. يحكمان حكما مشتركا، أو على التوالي، كأن يحكم سيد الأوس سنة، تم يترك الحكم لسيد الخزرج يحكم السنة التالية " ثم يعود فينسحب ليتولى الحكم سيد الأوس وهكذا، غير أن الحل لم ينجح ايضأ، وبقيت المشكلة: "مشكلة الحكم" مستعصية غير محلولة حتى دخل ألرسول يثرب، فحلها حلا أزعج بعض من كان طامعا في الحكم وكان يرغب ان يكون سيد يثرب.

(1/2757)


--------------------------------------------------------------------------------

هذا ولم نعثر في الأخبار الواردة الينا من يثرب، على خبر يفيد وجود "ناد" في هذه المدينة على شاكلة "دار الندوة" أو نوادي الملا. والظاهر أنه قد كان للنفرة الشديدة الني كانت بين الحيين: الأوس والخزرج يد في عدم ظهور مجلس حكم موحد في هذه المدينة. فبغض كل حي للحي جعل الاتفاق فيما بينهما على تكوين مجلس واحد من "ملا" المدينة أمرا صعبا، على حين كان ذلك ممكنا بالنسبة لأهل مكة، لأنهم كانوا كتلة واحدة، ومصلحتهم في حكم مشترك هي مصلحة عامة. ولم تكن المنافسات عندهم بين الأسر شديدة حادة، لذلك كان من الممكن اجتماع سادات الأسر في مجلس واحد، لا سيما وهم تجار، ومن مصلحة إلتاجر تمشية الأمور وتصريفها بالطرق السلمية، وحلها بغير تعنت ولا تشدد وغطرسة.
وكان أمر "الطائف" في أيدي "ملا المدينة". يديرون شؤونها في أيام السلم والحرب، ولم يرد في الأخبار أن أهل الطائف توجوا رجلا عليهم، فجعلوه ملكا، ولم يرد فيها أيضا انهم رأسوا رئيسا عليهم، بل كانت الرئاسة في عدد من الرؤساء، هم سادات البطون والأحياء. ولكل رئيس كلمته في حيه الذي يقيم فيه.
الفصل الثالث والخمسون
حقوق الملوك وحقوق سادات القبائل
وبعد أن تكلمت على أصول الحكم عند الجاهليين وعلى الأشخاص الذين. كانوا يتولون إدارة الحكم وتصريفها، وجب أن أتكلم على حقوق الملوك وحقوق سادات القبائل على أتباعهم،أي الواجبات التي يجب أن يؤديها الأتباع إلى ساداتهم وحكامهم من طاعة ومن مال، فأقول:
حقوق الملوك
والملك هو السلطة العليا في المملكة وهو الموجه والمدير المدبر لأمورها. وله على أتباعه حقوق، منها: حق التسليم والخضوع والطاعة. فطاعة الملك طاعة واجبة.
وله حق جباية الشعب، أي اخذ الضرائب منه: ضرائب على الزراعة،وضرائب على التجارة، وحق إعلان النفير والحرب، والامتناع عن دفع حقوق الملوك المتفق عليها، والخروج على أمره هو خروج على الحق والقانون.

(1/2758)


--------------------------------------------------------------------------------

هذا وانا نأسف إذ نقول اننا لا نملك كتابات جاهلية تتحدث عن حقوق الملوك وعلم الواجبات التي على الشعب القيام بها تجاههم، فما نتحدث به عن هذا الموضوع مستمد من بعض الأوامر والإرادات التي أصدرها ملوك من العربية الجنوبية، في تنظيم الأعمال وفي كيفية التجارة والاتجار أو في الضرائب التي على التاجر أو المزارع أداوها للملوك، وبعض آخر أخذ من كتب أهل الأخبار والتواريخ وكتب الشعر والنثر، وفيها نتف وردت عرضأ عن بعض حقوق الملوك وسادات القبائل في الجاهلية الملاصقة للاسلام.
والملك هو قائد شعبه إيام السلم وايام الحرب، يرأس جيشه في القتال ويختار من يشاء لقيادة الجيش. وهو القاضي الأعلى والحاكم فيما يقع بينهم من خلاف.
وهو الرئيس الروحي لأمته وكاهنها في الأصل. غير ان الملوك تركوا هذه القيادة الروحية، أي الزعامة الدينية لغيرهم، وهم رؤساء الدين، واحتفظوا بالسلطة الزمنية الني تشمل سلطة القيادة والحكم.
بيت المال

(1/2759)


--------------------------------------------------------------------------------

والملك هو صاحب ارض الدولة والقيم عليها. وله حق منح الأرض لمن يشاء وانتزاعها عمن يشاء، أو تأجيرها لمن يرى. والأرض عند العرب الجنوبيين هي ملك الآلهة، وليس على وجه الأرض ملك لإنسان. غير أن هذا لا يعني ان الأرض ومن عليها ملك لرجال الدين باعتبار انهم ألسنة الآلهة الناطقة على هذه الأرض والممثلون لهم في هذا العالم، فهم وحدهم إذن لهم حق ادارة الأرض واستغلالها، وذلك لأن الملوك سلبوهم هذا الحق واستبدوا به ومارسوه ونصبوا أنفسهم خلفاء على الأرض، وصاروا أوصياء الالهة على أموالها. وهكذا فسرت قاعدة "المال مال الآلهة" تفسيرا يجعل حق الأشراف على "مال الآلهة" في هذه الأرض للملوك ولأصحاب السلطان الفعلي الحاكمين حكما بقانون القوة، أما رجال الدين الذين يجب ان يكونوا هم خلفاء الآلهة على الأرض والمنفذين لأوامرها، فقد خضعوا لحكم الواقع، ورضوا بما حصلوا عليه من حقوق وامتيازات، وساروا إلى جانب الملوك في الغالب، لتشابه المصلحتين، وحصل الترضي على اعطائهم حقوقأ وامتيازات واسعة، واستقلالا في إدارة اموال المعابد، بحيث لا يكون للحكومة اي سلطان عليها، وهي مستثناة من دفع الضرائب التي يجب على سائر الناس دفعها الى الحكومة، فصار المعبد من ثم سلطة ذات ثرأء وسلطان تلي سلطة الحكومة ولها ضرائب يدفعها المؤمنون المتقون.

(1/2760)

admin
12-31-2010, 08:19 PM
والملوك هم من كبار أصحاب الملك في الدولة، فإلى جانب حقهم المتقدم في اعتبارهم خلفاء الالهة على الأرض في ادارة ملكها، نجدهم يمتلكون أرخضا وآسعة وأملاكا شاسعة ويتاجرون باسمهم،فيرسلون القوافل لتجارة. والأرض التي يمتلكها الملوك، هي أرضون خاضعة لهم مباشرة، لأنها ملكهم الخاص. ومعنى ذلك ان منفعتها تكون خاصة بهم. فلا يصرف منها على المصلحة العامة، إلا إذا أراد المك ان يتبرع بذلك رضاء، وله بالطبع أن يهدي منها ما يشاء الى من يشاء، كما يفعل أي مالك، وهو يؤجر ارضه لمن يريد. ويقال لما يدفع له في مقابل ذلك "نحلث".
والأرضون المفتوحة عنوة هي من حق الدولة، تضاف إلى أملاكها وتسجل باسمها وتعد من "بيت المال"، ويكون حق النظر في أمرها والإشراف عليها واستغلالها للملك، لأنه رئيس الدولة وحاكمها، وله الخيار في كيفية التصرف بها. له أن يعطيها للاقيال في مقابل ضريبة حربية يقدمونها له تسمى "ساولت." أو في مقابل ايجار يتفق عليه يقال له "ثوبت"، وله أيضا أن يبيعها متى شاء، ويعبر عن ذلك ب "شامت" أي بيع.
ويراد بضريبة "ساولت" أي الضريبة الحربية، تعهد أصحاب الأرض بتقديم المحاربين إلى الدولة، ويتفق على العدد وعلى وقت التقديم، ويسجل ذلك في عقد الآتفاق. ويقوم أصحاب العقد بالانفاق عليهم وبتقديم كل ما يحتاج المحارب اليه من عدة وسلاح. واالغالب ان يقوم بذلك المحارب نفسه، لأنه رجل مسخر مأمور، فهو من أتباع صاحب الأرض ينتزعه سيده من أرضه، ويرسله إلى الخدمة وقت الحاجة اليه.

(1/2761)


--------------------------------------------------------------------------------

ولما فتح "كرب ايل وتر" ملك سبأ أرض أوسان ودهس،وفتح عنوة كل أرضى"عبدان" ومدنها وقراها وأوديتها وحصونها ومراعيها، صارت كل هذه الأرضين وما عليها من محاربين ومن مدنين أحرار **** ملكا لدولة سبأ وسجلت في جملة مقتنياتها. ويلاحظ ان سلطنة العوالق العليا عدت "وادي عبدان" الذي هو في جنوب "نصاب" من "أرض الدولة" أي من أملاك السلطان ومن أرض "بيت المال" ورقبتها بيد "سلطان العوالق".
وبالاضافة إلى الأرضين المفتوحة عنوة،ضم ملوك سبا إلى أملاك الدولة أرضين اشتروها شراء، واشتروا كل ما كان عليها من ناس وحيوان وزرع. فقد كان المشتغلون بالأرض يعدون تابعين لها فيباعون معها وهم ملك لها. وهم طبقة خاصة من طبقات **** الأرض.
ولم تتحدث الكتابات عن حقوق الملك وعن مدى صلاحياته في الحكم، ولكننا نستطيع ان نقول قولا عاما إن سلطات الملك كانت كسلطات الملوك الاخرين في الأقطار الأخرى، تتوقف على شخصية الملك وسلطانه وقدرته، فهو ملك ذو سلطان واسع مطلق، أوامره قوانين، وارادته مطاعة، يحد سلطان المتنفذين ويخضعهم لحكمه إن كان الملك صاحب شخصية قوية وعزم،وهو مغلوب على أمره يحكم اسما إن كان ضعيفأ خائر العزم، وتحكم المملكة العناصر القوية صاحبة السلطان من ابناء الأسرة المالكة، أو من سادات القبائل أو رجال الدين، فعلى هذه الأجوال إذن كانت تتوقف سلطات الملك وأعماله في المملكة.

(1/2762)


--------------------------------------------------------------------------------

وللملوك حق يسمى "حق الإحماء". فإذا اعجب الملك بأرض أو بعشب، أعلن حمايته لتلك الأرض، أو لذلك العشب، فلا يسمح عندئذ لأحد بدخول "الحمى" اي المكان المحمي دون اذن الملك أو الشخص المخول من الملك بهذا الحق. ويدخل في هذا الحق حق حماية الحيوان أو النبات. وكان ملوك الحيرة يحمون الأرضين والحيوانات،كالإبل والخيل والكباش،، فتكون لهم، لا يسمحون لغيرهم بالانتفاع منها. ولما وثب "علباء بن ارقم اليشكري" على كبش للنعمان ابن المنذر، كان من أحماه، أي جعله حمى، فذبحه، حمل إلى النعمان، فاعتذر اليه وعفا عنه.
وكان "النعمان بن المنذر" يحمي مواضع عديدة قرب الحيرة وعلى مبعدة منها. ترعى فيها إبله وبهائمه، منها أرض "سحيل". أرض بين الكوفة والشام.
أموال الدولة
ذكرت ان الأرض هي ملك الآلهة في نظر العرب الجنوبيين، وان "المكروبن" والملوك هم خلفاء إلالهة على الأرض، وهم المسؤولون عن الأرض وعن الملك وعن تطبيق أوامر الالهة ونواهيها بن الناس. وهم حماة الملكية. وكل أرض الدولة هي ملك الحاكم من حيث المبدأ،والحاكم هو الذي يقر الملكية ويثبتها لأتباعه ويحافط عليها.
والملكية بصورة عامة، إما أن تكون ملكية الدولة، وإما أن تكون ملكية الملك أو الحكام، أي أملاكهم الخاصة بهم المسجلة باسمهم، وإما ان تكون من أملاك المعابد، من أوقاف وغيرها وإما أن تكون من ملكية أشخاص وهي: أملاك ثابتة، أي غير منقولة، مثل أرض وبئر وحدائق وبساتين، وأموال منقولة مثل: بهائم وأثاث وغير ذلك مما يمكن نقله من مكان إلى مكان.

(1/2763)


--------------------------------------------------------------------------------

وأعني بأرض الدولة، أرض الفتوح. وهي كل أرض تفتتح عنوة، فتعد مالا من أموال الدولة، وتسجل باسم الدولة، كأن تسجل باسم شعب معين أو شعب سبأ، وتقيد عند تسجيلها باسم الهة ذلك الشعب، باعتبار انها هي المالك الحقيقي الشرعي. وتقوم الحكومة بإدارتها وبالاشراف عليها وباستغلالها واستثمارها إما مباشرة، أي بتعينن موظفين لإدارتها، وإما بإعطائها اقطاعا أو كراء إلىغير ذلك من طرق الاستثمار. ويسجل وارد هذه الأملاك باسم الدولة ويدخل في خزانتها، وينفق منه على المشاريع العامة، وفي ضمنها رواتب الموظفين وأجورالمشتغلين في إدارة هذه الأملاك.
ويمكن تسمية أرض الدولة بأرض السلطان أو أرض "ميرى" أو "أرض سنية" في المصطلح الحديث.
ومن أملاك الدولة: الصوافي. وهي الأرضين التي استولي عليها وكانت تابعة لحكومة سابقة. فتكون حقا من حقوق الدولة المنتصرة وغنيمة لها. وتدخل فيها الأملاك واللأرض التي جلا عنها أهلها أوماتوا ولا وارث لها. ففد كان الملوك يستصفون الأرضين التي يستولون عليها بالقوة ويجعلونها ملكا لهم. وهي غير "الصفايا"، أي ما يختاره الرئيس من المغنم ويصطفيه لنفسه قبل القسمة من فرس أو سيف أو غيره.
والصوافي في الإسلام: الأملاك والأرض التي جلا عنها أهلها أو ماتوا ولا وارث لها. والضياع التي يستخلصها السلطان لخاصته. وكانت "صفية" بنت "حيي" من الصفايا، اصطفاها الرسول لنفسه من غنيمة "خيبر".
أموال الملوك
وإلى جانب أموال الدولة، توجد اموال الملوك. وهي اموالهم الخاصة بهم

(1/2764)


--------------------------------------------------------------------------------

والمسجلة بأسمائهم لأنها ملك لهم. يتصرفون بها تصرفا مباشرا، أو يؤجرونها لأتباعهم في مقابل أجر يقال له "نحلت". والعادة ان الذي يستأجرها هم كبار الناس وسادات المجتمع يأخذونها منهم بشروط سهلة، ثم يؤجرونها لمن هم دونهم بشروط صعبة، للاستفادة من الفرق بين سعري الإيجارين. وقد يؤجرالملوك إلى قبيلة، وتكون القبيلة مسؤولة كلها امامه على الأرض. فيذكر في العقد اسم القبيلة المستأجرة باعتبار أنها هي التي أجرت ذلك الملك. إلا أن الغالب هو أن سادات القبائل، هم الذين يتصرفون بالأرض المستأجرة، فيؤجرونها إلى اتباعهم بشروط ثقيلة. ليربحوا من الفرق. ويكونون هم المسؤولين عن تقديم ال "نحلت" أي بدل الإيجار إلى الملوك.
ويحدث في كثير من الأوقات ان كبار الاقطاعيين وكبار سادات القبائل، يستأثرون بأملاك الدولة وبأملاك الملوك، ويتصرفون بها تصرفا اعتباطيا،ولا تتمكن الحكومة من عمل شيء تجاههم لنهم أقوياء، لذلك تضطر الدولة إلى مداراتهم ومسايستهم، بأن تأخذ منهم "نحلت" "نحلة"، أي أجرا رمزيا، يكون بمثابة اعتراف منهم بأن الأرض التي استأثروا بها هي ملك للدولة وللملوك.ويقومون هم باستغلالها وبالتصرف بها كيف يشاؤون. ولا يزال هذا الوضع معروفا حتى اليوم، فقد كان سادات القبائل قد وضعوا أيديهم على أرضين "حكومية" أي "ميري"، وتصرفوا بها وكأنها ارض تملك "طابو" في مقابل اجر رمزى زهيد، ومنهم من استولى عليها وسجلها باسمه، فصارت ملكا صرفا له. بعد بذله مبلغا زهيدا اعتبر ثمنا لتلك الأرض.
الأوقاف

(1/2765)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد كانت المعابد اوقاف حبست عليها، ولها موظفون لجياية غلتها، وهي أوقاف قديمة سجلت باسم المعابد منذ كان الكهان "المكربون" يتولون أمور الحكم. وأوقاف كان يحبسها الآغنياء الأتقياء في حياتهم أو بعد وفاتهم على المعابد، قربة إلى الآلهة. وهي معفوة من الضرائب، فلا تدفع للحكومة اي ضريبة. لانها أملاك المعبد. ويدفع المستغلون للاوقاف حق التصرف بالاوقاف إلى المعبد، لأنه هو المالك الشرعي للوقف. كما ساتحدث عن ذلك بالقسم الخاص بالمعبد.
وكان أهل الجاهلية يحبسون السوائب والبحائر والحوامي وما ألشبهها، فلا يعتدي عليها ولا يستغلها احد. فلما جاء الإسلام، نزل القرآن بإحلال ما كانوا محرمون منها وإطلاق ما حبسوا. وعرف ذلك ب "الحبس". وكانوا في الجاهلية يحبسون مال الميت ونسائه. كانوا إذا كرهوا النساء لقبح أو قلة مال حبسوهن عن الأزواج لأن أولياء الميت كانوا اولى بهن عندهم. " وفي حديث ابن عباس: لما نزلت آية الفرائض قال النبي، صلى الله عليه وسلم: لا حبسى بعد سورة النساء، أي لا يوقف مال ولا يزوى عن وارثه "، إشارة إلى ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من حبس مال الميت ونسائه.
وكانوا يحبسون الأرض والنخل والكروم وغير ذلك على أصنامهم، ويجعل بعضهم غلتها على ابناء السبيل.وذكر ان "الحبس"يقع على كل شيء وقفه صاحبه وقفا محرما لا يورث ولا يباع من ارض ونخل وكرم ومستغل.
سمات الملك
وكانوا يسمون إبل الملوك وماشيتهم بسمة خاصة، لتكون علامة على انها من ملك الملوك والدولة. كما كان إلأشخاص يسمون إبلهم وماشيتهم بسمات خاصة بهم، لتكون دلالة على تبعيتها لصاحب "الميسم". والوسم أثر الكي.والميسم: هو الحديدة التي يكوى بها، واسم للالة التي يوسم بها. والأصل في الوسم أن يكون بكي، ثم أطلقوه على كل علامة، مثل قطع في أذن أو قرمة تكون علامة، أو ضروب الصور.وكان الرسول يسم إبل الصدقة بميسم، أي يعلم عليها بالكي.

(1/2766)


--------------------------------------------------------------------------------

ووضعوا الريش علامة وسمة لجمالهم، ليعرف من يراها انها من إبل الملوك، فلا يقترب منها. وكانوا إذا أرادوا تشريف أحد، حملوه على هذه الإبل أو أهدوه منها. "ومن المجاز: أعطاه،اي النعمان النابغة مائة من عصافيره بريشها،. اي بلباسها وأحلاسها. وذلك لأن الرحال لها كالريش أو لأن الملوك كانت إذا حبت حباء جعلوا من أسنمه الإبل ريشا، وقبل ريش قنعامة، ليعرف انه من حباء الملك". وذكر ان الملوك كانوا يضعون الريش في أسنمة الإبل وتغرز فيها، وكانت تجعل الريش علامة لحباء الملك تحميها بذلك وتشرف صاحبها.
وقد عرفت إبل المك "النعمان بن المنذر" بأصالتها وبجودة جنسها وبنجابتها. وذكر ان أكرم فحل كان للعرب من الإبل كان يسمى عصفورا، وتسمى أولاده عصافر النعمان. وكان إذا وهب منها لأحد عد ذلك تقديرا وتعظيما له. حتى كانوا يقولون: "حباه بكذا وكذا من عصافيره"، و "وهب له مائة من عصافره". وذكر ان من فحول إبل "النعمان" الأخرى "داعر" و "شاغر"و "ذو الكبلين".
ولأهمية السمات في ذلك الوقت، وضعوا لها أسماء، ذكرت في كتب اللغة ولأخبار. منها: السطاع، والرقمة، و الخبا ط، والكشا ح، والعلاط، وقيدا لفرس، والشعب، و المشيطفة، والمعفاة، والقرمة، والجرفة، والخطاف،والدلو والمشط، والفرتاج، والثؤثور، والدماغ، والصداع، واللجام،والهلال، والخراش، والعراض، واللحاظ، و التلحيظ، والتحيين، والصقاع،و الدمع.
اتجار الملوك وسادات القبائل

(1/2767)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم تكن الموارد المذكورة لتسد حاجة الملوك، وسادات القبائل، لذلك عمدوا إلى موارد أخرى لاستنباط المال منها، فعمدوا إلى التجارة وتربية الأنعام وإلى إقامة بعض المصانع وتنمية أرض التاج وزراعتها لبيع حاصلها وساهموا في البيع والشراء في الاسواق، فكان لهم وكلاء ينقلون أموال الملوك إلى الأسواق لبيعها فيها، ولشراء ما يحتاج اليه الملك من تجارة أخرى يستطيع تصريفها في أسواق أخرى، تكون هذه البضائع عزيزة ثمينه فيها، ولم يكن الاتجار بالأسواق أمرا خاصا بالملوك العرب، وإنما كان ذلك عرفأ متبعا عند غيرهم من الملوك، مثل الأكاسرة والقباصرة وملوك العبرانيين.
فمن ذللث ما روي من انه كان للنعمان بن المنذر وغيره لطائم، عير تحمل الطيب والمسلك وبز التجارة، تذهب إلى الأسواق لبيعها فيها، ولتأتي بتجارة جديدة. وقد ذكر ان "اللطيمة" وعاء الطيب أو سوقه، وقيل كل سوق بحلب اليها غير ما يؤكل من حر الطيب والمتاع غير الميرة: لطيمة. والميرة لما يؤكل. والطأئم هي الأسواق التي تباع فيها العطريات. وفي جملة ما يباع فيها "بالات" المسك، أي اوعية المسك.
ويظهر من نصوص المسند ان الملوك كانوا قد أسسوا دورا للنسيج، يباع ما تنتجه في الأسواق. وقد اشتهرت اليمن بأنسجتها المختلفة المتعددة. فكانت دور النسيج من جملة الموارد التي تأتي بالمال الى أولئك الملوك.
غنائم الحروب

(1/2768)


--------------------------------------------------------------------------------

وللملوك مورد آخر من موارد دخلهم، هو غنائم الحروب. فإن ما يغنمه جيشهم من مال وأشياء ثمينة واسرى يكون ملكا للملوك،وإذا فاض عدد الأسرى عن حاجة الملوك باعوهم في أسواق النخاسة، للاستفادة من ثمن بيعهم. أما إذا قرر الملك الاحتفاظ. بالأسرى، فإنهم يستخدمون في أعمال كثيرة، مثل الخدمة م في الجيش، أو الاشتغال بشق الطرق وانشاء الأبنية والعمل في الأرض، إلى غير ذلك من أعمال يشغلون بها باعتبار انهم رقيق. وقد يهدي منهم الملوك إلى المقربين اليهم، ولا سيما بعد انتهاء الحرب أو الغزو واحصاء الأسرى، فقد يختار الملك لنفسه أجل الأسيرات. وقد يعطيهن هدايا إلى من يشاء من قواد جيشه ومن كبار موظفيه والمقربين البه.
وتشمل غنائم الحرب كل ما يقع في أيدي المنتصر من غنيمة، لا فرق عنده إن كانت من أموال الحكومة الخاسرة أو من أموال سيد القبيلة المغلوب، أو من أموال الأتباع والرعية. فقانونهم في الحرب ان كل ما يقع في أيدي الغالب هو ملك له، ان كانت الغنيمة من أموال الحكومة أو من أموال الرعية فالرعية ملك للملك، وملكها ملك للغالب بحق القوة، وهي نفسها ملك له يتصرف بها كيف يشاء. لذلك تكون غنائم الحروب موردا حسنا بالنسبة للغالب، لا سيما إذا كان المغلوب من أصحاب الثراء والمال ومن الحضر.
وكان الأمير في الجاهلية يأخذ الربع من الغنيمة، وجاء الإسلام فجعله الخمس وجل له مصارف. ومنه قول: عدي بن حاتم الطائي: ربعت في الجاهلية وخمست في الإسلام. أي قدمت الجيش في الحالين.
الاقطاع والاقطاعيون
والاقطاع معروف بين الجاهليين، وخاصة بين أهل العربية الجنوببة. وقد كان اقطاعا للارض لتستغل زراعة، واقطاعا لاستغلال ما فيها من ماء أو معدن مثل الملح. وكان الملوك يقطعون أملاك الدولة لمن شاعوا، كما فعل المعبد ذلك، إذ كان يقطع الأرض المحبوسة باسمه لمن يشاء من الناس.

(1/2769)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد كانت العادة في اليمن جارية بإقطاع المعادن والمياه لأصحاب السلطان، كأن يقطع "الملح" لشخص ليستغله، فيشغل من يريد في استخراجه وبيعه. وقد وردت في الكتابات الجاهلية إشارات إلى استغلال معادن الملح، والى إقطاعها الأشخاص يستخرجون الملح منها في مقابل أجر يدفع عن ذلك الإقطاع. وقد بقيت هذه العادة إلى الإسلام، فقد ورد في كتب الحديث: أن "الأبيض بن حمال" استقطع رسول الله ملح مأرب،فأقطعه. ولما ذكر "الأقرع بن حابس" للرسول أنه قد ورد ذلك الملح ورآه، وانه مثل الماء العد بالأرض، من ورده أخذه، وان إقطاعه له يمنع الناس من وروده، فاعتده الرسول صدقة، وجعله مثل الماء العد.
والإقطاع يكون تمليكا وغير تمليك. فإذا كان تمليكا، صار له ليس لأحد حق مزاحمته عليه ولا استثماره، ويكون عندئذ ملكه. وله حق تأجيره. لغيره أو اعطائه في مقابل حق يعينه في الحاصل والناتج.وقد كان الملوك في العربية الجنوبية يقطعون أصحاب الجاه والسلطان وسادات القبائل الإقطاعات،فتولد من هذا الإقطاع كبار أصحاب الأرض، وصار لهم سلطان واسع بحكم ما حصلوا عليه من مال وقوة وجاه. حتى صاروا يتدخلون في شؤون الدولة الداخلية.
وأما الإقطاع الثاني، وهو إقطاع من غير تمليك فإنه إقطاع لأمد قد يحدد بزمن، وقد لا يحدد بزمن، وذلك بشروط تثبت وتحدد في عقد الاتفاق،كأن يتفق على أن يقدم من يقطع له الإقطاع ثلث الحاصل أو الغلة أو الربع أو ما شابه ذلك، أو أن يقدم مبلغا مقطوعا أو عينا يذكر ويثبت مقداره، أو خدمةا معين للدولة أو للمعبد القطاعي صاحب الملك مثل تقديم عدد معين من المحاربين وقت الطلب ومقدار معين من مال أو عين.

(1/2770)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد لا يستغل الإقطاعي اقطاعياته، وإنما يقوم بإقطاعها للاقطاعيين الصغار، أو يؤجرها لمن هم دونهم في المكانة ليقوموا هم باستغلال ما استأجروه، وقد يعطيها للفلاحين للاشتغال بها بشروط يتفق عليها معهم. ويكون الإقطاعي قد استفاد من إقطاعه من غير تعب أو جهد.
وفي الكتابات الجاهلية ان سادات القبائل كانوا يملكون اقطاعيات واسعة يديرونها باسم قبائلهم، وقد تزيد اقطاعياتهم عن حاجات القبيلة، لذلك يؤجرونها لقبائل اخرى تكون في حاجة إلى الأرض في مقابل خدمات تؤديها للقبيلة المؤجرة صاحبة الأرض وفي مقابل حقوق عينية تثبت وتعين وتدفع عند حلول الآجال المعينة في العقد. وتعتبر القبيلة التي تستغل الارض نفسها تابعة للقبيلة التي تملك الأرض.
وللفقهاء اراء في الاقطاع في الإسلام، بأنواعه: اقطاع التمليك، واقطاع الإرفاق، واقطاع الموات.
وقد عاش الاقطاعيون على استغلالهم لخيرات الأرضين الواسعة التي امتلكوها، والتي درت عليهم أموالا طائلة، خلقت لهم قوة مهابة في البلاد، صيرت بعضهم حكومة في داخل حكومة. عاشوا في قلاع وقصور حصينة حمتها حصون متينة، لهم أتباعهم وحرسهم، وصارت لهم سطوة لا تقل عن سطوة كبار رجال الدين، بل زادت على سطوتهم فيما بعد الميلاد، حيث صاروا ينافسون الملوك ويتحدون إرادتهم في كثير من الأحايين، مما أقلق الوضع السيامي، وهز صرح الحكومات. وأوجد مجالا لتدخل الأحباش في شؤون اليمن.
حقوق سادات القبائل وامتيازاتها
ولسادات القبائل بحكم منازلهم ومكانتهم في قومهم امتيازات وحقوق، ولهم في مقابلها واجبات عليهم أدبيا تبعة القيام بها لرعيتهم، وهم أفراد القبيلة.

(1/2771)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي جملة حقوق سيد القبيلة حق "المرباع" وهو حقه في أخذ ربع الغنائم إذا وقع الغزو. وأخذ "المرباع" هو من أمارات الفخر والجاه والرئاسة عند العرب ولذلك كان يتباهى به من له هذا الحق، ويفتخر أهله بهذا الحق، لأنه من سيماء الرئاسة والشرف. وقد افتخر "الزبرقان بن بدر التميمي" أمام الرسول بأنه من حي كرام، فلا حي يعادلهم منهم الملوك وفيهم يقسم الربع، أي انهم كانوا يأخذون ر الغنيمة خالصا، وهو المرباع. وكان "عدي بن حاتم" ممن يأكل "المرباع". ويروى ان الرسول قال له: "انك لتأكل المرباع وهولا يحل لك في دينك".

وقد عرف سادات القبائل الذين يأخذون المرباع ب "ذوي الاكال"، ولهم مقام عندهم بالطبع، ولهذا منحوا امتيازات في الغنائم، فوقتهم على سائر الناس. وقد ذكرهم "ابن حبيب السكري"، فقال عنهم: "ذوو الآكال من وائل. وهم أشراف كانت ألملوك تقطعهم القطائع. فاما مضر، فكانوا لقاحالا يدينون للملوك إلا بعض تميم ممن كان باليمامة،ما صاقبها. فذوو الآكال: قيس بن مسعود بن قيس بن خالد بن عبدالله ذي الجدين بن عمرو بن الحارث ابن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان. وكان كسرى أطعمه الأبلة وثمانين قرية من قراها، ويزيد بن مسهر بن أصرم بن ثعلبة بن أسعد بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان، والحارث بن وعلة بن المجالد بن يثربي بن الزبان بن الحارث ابن مالك بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة ".
وذوو الاكال، سادة الأحياء الآخذين للمرباع وغيره. قال الأعشى: حولي ذوو الآكال من وائل كالليل من باد ومن حاضر
والمرباع حق قديم نجده عند أكبر القبائل، وظل إلى مجيء الإسلام،لا ينازعها عليه منازع من القبيلة، فكان الحارث بن عبدالله بن بكر بن يشكر المعروفون بالغطاريف ياخذون ربع ما يغنم الأزد جميعا، لأن الرئاسة في اللأزد كانت لهم.
ومن أكل "المرباع" "عامر الضحيان"، وكان سيد "النمر بن قاسط"في الجاهلية وصاحب مرباعهم.

(1/2772)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن "المرباع" جاءت "الرباعة"، بمعنى الرئاسة. يقال هو على رباعة قومه، أي سيدهم. ويقال: ما في بني فلان من يضبط رباعته غير فلان، أي أمره وشأنه الذي عليه. ويقال: لا يقيم رباعة القوم غير فلان. و"الرباعة" الحال والطريقة والإستقامة. وفي كتاب الرسول للمهاجرين والأنصار: انهم أمة واحدة على رباعتهم. أي على استقامتهم. وامرهم الذي كانوا عليه.
ولسيد القبيلة حق اخر مفروض على قبيلته، هو حق "الصفايا"، وهو ما يصطفيه الرئيس لنفسه من الغنيمة من فرس وسلاح أو جارية وغير ذلك من الأموال قبل القسمة. وكانت "صفية بنت حيي" في جملة الصفايا التي اصطفاها الرسول لنفسه يوم خيبر، ومنه قيل للضياع التي يستخلصها السلطان لخاصته "الصوافي". وقيل: الصفايا ما يصطفيه الرئيس لنفسه دون أصحابه مثل الفرس، وما لايستقيم أن يقسم على الجيش لقلته،كثرة الجيش. وقيل أيضا الصفى أن يصطفى الرئيس لنفسه بعد الربع شيئأ كالناقة والفرس والجارية.والصفى في الإسلام على تلك الحالة.
ثم له حق "النشيطة"، وهو ما أصاب من الغنيمة قبل أن يصير إلى مجتمع الحي. وقيل: النشيطة من الغنيمة، ما أصاب الرئيس في الطريق قبل أن يصير إلى بيضة القوم. وقيل: ما يغنمه العزاة في الطريق قبل بلوغهم المواضع التي قصدوها، أو ما أنشط من الغنائم ولم يوجفوا عليه بخيل ولا ركاب.
وأما الفضول، وهو حق آخر من حقوق الرئيس، فهو ما عجز أن يقسم لقلته وما فضل عن القسم فيخصص به، كالبعير والفرس ونحوهما.
وقد أشير إلى حقوق سيد القبيلة المدكورة في هذا البيت من الشعر المنسوب إلى عبد الله بن عنمة الضبي، أو إلى الأفوه الأودي: لك المرباع منا والصفايا وحكمك والنشيطة والفضول
الحمى

(1/2773)


--------------------------------------------------------------------------------

ولسيد القبيلة حق "الحمى"، وهو من أمارات عزه وشرفه وسيادته. فكان إذا مر سيد قبيلة برمضة أعجبته، أو بغدير أعجبه، أعلن حمايته عليها أو عليه إلى حد يعينه ويثبته، فلا يقترب أحد من ذلك الحد، وهو في ذلك مثل الملوك في هذا الحق. ولهذا لم يتمتع بهذا الحق إلا سادات القبائل الكبار أصحاب العز والجاه وكثرة العدد، مثل "كليب وائل" سيد ربيعة، وكانت رئاسة مضر وربيعة له في أيامه، وكان من عزه انه إذا مر بمكان أعجبه كنع كليبا له ثم رمى به هناك، فلا يسمع عواء ذلك الكليب أحد، فيقرب ذلك الموضع. فكان يقال: "أعز من كليب وائل".
وقد تفرد العزيز من سادات القبائل بالحى،وعد وه من أمارات العز والمنعة، فلا يناله إلا كبار سادات القبائل. وذكر ان "كليب وائل كان متغطرسا، حتى كانت غطرسته هذه سبب قتله. والى ظلمه وتعسفه، وأخذه الحمى، أشار "العباس بن مرداس" يقوله: كماكان يبغيها كليب بظلمه من العزحتى طاح وهو قتيلها
على وائل اذ يترك الكلب نابحا وإذ يمنع الأفناء منها حلولها
والحمى الأرض التي تحمى من الناس فلا يرعى فيها إلا بموافقة من حماها. وقد،جعله بعضهم: "موضع فيه كلأ محمى من الناس أن يرعى". وذكروا أنه "كان الشريف من العرب في الجاهلية إذا نزل بلدا في عشيرته استعوى كلبا فحمى لخاصته مدى عواء الكلب لايشركه فيه غيره، فلم يرعه معه أحد.وكان شريك القوم في سأئر المراتع حوله ".
ويظهر من غربلة ما ورد في الآخبار عن "الحمى"، أنه كان على نوعن: حمى دائم أو طويل الأجل، وهو الأرض المخصبة الجيدة المنبتة التي تتوفر فيها المياه، أو تكون المياه فيها قربية من سطح الأرض، فينتقيها كبار سادات القبائل ويجعلونها حمى دائما لهم ولأسرتهم، وقد يحولونه إلى ملك لهم، يتوارث توارث الإرث، ويكون لمن هو من الأسرة التي حمته، أو لمن خصمص الحمى باسمه. ومن هذا القبيل "حمى ضرية"، مرعى لإبل الملوك، ومراعي الملوك الأخرى.

(1/2774)


--------------------------------------------------------------------------------

وحمى آخر، يكون قصير الأجل بالنسبة للحمى الأول. فقد يحمى لموسم وقد يحمى لمواسم فأجله سرتبط بأجل الغيث الذي ينزل عليه. فإذا جاد ووصل الأرض وأنبتها نباتا حسنا وكساها بساطا أخضر، بقي حامي الحمى به، وإد انحبس المطر عنه، وجف كل شيء به، ورفع ذلك البساط عنه، وظهرت عبوسة الرمال والتربة المتهشمة من نحته، فقد يهرب حاميه منه ليفتش عن أرض أخرى يعيش عليها، فيصير الحمى عندئذ بلا حام، إلا إذا عاد الغيث اليه، وعاد صاحبه ليجدد عهده به، وليثبت حق حمايته عليه، وإلا، فقد يصير في حماية شخص آخر قد ينزل به قبله، ويكون لديه من القوة والمنعة ما لا يستطيع أحد من زعزعته عنه.
ولا بد وان نحدد حدود الحمى وان تثبت له أنصاب وعلامات، حتى يكون الناس علي بينة من حسوده فلا يدخلونه. ونجد في الكتب التي دونها الرسول للوفود الي زارته، والتي حمى لها أحمية، حدودا ومعالم دونت أسماؤها فيها، وقد تثبتت مساحتها في بعض الكتب، مما يدل على ان مايرويه أهل الأخبارمن قصة تعيين حدود الحمى بعواء كلب أو بركضة فرس أسطورة من أساطير أهل الأخبار.

(1/2775)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن أشهر مواضع الحمى في جزيرة العرب: حمى ضرية. وقد عرف في ايام ملوك كندة ب "الشرف" وهو "كبد نجد"، وكانت به منازل الملوك من بني آكل المرار. ثم عرف ب "ضرية" في وقت لا نستطيع نحديده تماما، ويذكر علماء اللغة ان "ضرية" امرأة سمي الموضع بها، وهو بأرض نجد، وبه يئر. ويظهر ان اسم "ضرية" كان معروفا في ايام ملوك كندة من بني آكل المرار، ولكنه كان اسم موضع من مواضع الشرف، ثم اشتهر، فسمي به هذا الحمى: حمى ضرية. وذكر بعض أهل الأخبار ان "ضرية" أكبر الأحماء، وقد سمي ب "ضرية بنت ربيعة بن نزار.". قال "ابن السكيت": "الشرف كبد نجد و كان من منازل الملوك من بني آكل المرار من كندة. وفي الشرف حمى ضرية وضرية بئر. وفي الشرف الربذة وهي الحمى الأيمن. وفي الحديث ان عمر حمى الشرف والربذة ". ويظهر من هذا الوصف ان "الشرف" أرض واسعة بنجد. منها الربذة وهو الحمى الأيمن لمن يتجه إلى الجنوب فيوجه وجهه نحو البحر العربي ويجعل قفاه إلى العراق وبادية الشام وبلاد الشام، ومنها حمى "ضرية"الشهير.
وذكران أول من حمى "ضرية" في الإسلام "عمر" حماها، لإبل الصدقة وظهر الغزاة، وكان ستة أميال من كل ناحية من نواحي ضرية وضرية في وسطها. و"ضرية" من مياه "الضباب" في الجاهلية، وكانت لذي الجوشن الضبابي، والد شمر بن ذي الجوشن قاتل الحسين. وورد أنها كانت حمى "كليب بن وائل"، وان في ناحية منه قبره، وكان الناس يقصدونه.
ومن الحمى، حمى فيد. قرب أجأ وسلمى جبلي طيء، على طريق حاج العراق إلى مكة. وذكر أن فيدا فلاة في الأرض بين أسد وطيء في الجاهلية، فلما قدم "زيد الخيل" على رسول الله أقطعه "فيد". وبها قرية "فيد"،سميت ب "فيد بن حام" أول من نزلها. وهي من القرى الجاهلية.

(1/2776)

admin
12-31-2010, 08:20 PM
وقد أشار "ياقوت" إلى أحماء أخرى. منها حمى الربذة وحمى النير وحمى ذو العثرى وحمى النقيع. وذكر أن ب "النير" قبر كليب وائل. وأن الخليفة "عمر" حمى "النقيع" لخيل المجاهدين ولنعم الفيء، فلا يرعاها غيرها.
ولا يعقل أن يكون "كليب وائل" أول من حمى الحمى في الجاهلية. والظاهر ان شطط "كليب" وتعسفه" في الإكثار من الحمى، وشدة منعه الناس الغرياء
من الرعي في احمائه، جعل أهل الأخبار ينسبون مبدأ الإحماء اليه. وقد تكون لفظة "كليب" التي صارت وكأنها اسم كليب مع أنها لقب في الأصل، هي التي أوحت إلى ذهب أهل الأخبار، بابتكار قصة استنباح "كليب" جهروا، ليكون مدى انقطاع سماع نباحه وعوائه نهاية الحمى، أي حدوده. ونجد بعض أهل الأخبار يجعلون حدود الحى المواضع التي تصل اليها الخيل وهي جارية، فتقف عندها من التعب. فيكون الحمى بهذه الطريقة أكبر وأوسع من الحى المحدد بنباح كاب.
وفي أرض "بني أسد" "حزن"، كانت ترعى فيه إبل الملوك. وهو قف غليظ بعيد من المياه، فليس ترعاه الشياه ولا الحمر، وليس فيه دمن ولا روث. اليه أشير في قول الأعشى: ما روضة من رياض الحزن معشبة خضراء جاد عليه مسيل هطل
ويتبين من دراسة ما أورده أهل الأخبار عن الحمى، أن الأحماء لم تكن أرضين صغيرة حدودها ضيقة بحدود مدى سماع عواء الكلب، بل انها كانت أكثر من ذلك بكثير. كانت مقاطعة كبيرة تظم آبارا وعيونا وقرى في بعض الأحيان. وقد حصل عليها أصحابها من الحروب والغزو في الأصل. فعندما يغزو سيد قبيلة، قبيلة أخرى، كان يختار لنفسه خيرة الأرضين فيجعلها في حماه. فنشأ الحمى في الأصل هو من الحروب والغزو، أي من الغنائم التي تقع في أيدي المنتصر، ومن الهبات التي يعطيها ملك لأشراف شعبه ولقادته في السلم أو في الحروب، فتحمى لهم ولا يدخلها أحد غيرهم، إذ صار حكمها حكم الملك.
وذكر أن الملوك إذا جاءتها الخرائط بالظفر، غرزت فيها قوادم ريش اسود.
دواوين الدولة

(1/2777)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا بد وأن يكون لكل حكومة مهما كان حجمها وشأنها دواوين وسوائر لتنفيذ ما تقرره من أوامر وأحكام، ولجباية ما تفرضه من حقوق على رعينها،ولاحقاق الحق بين الرعية وللدفاع عن حدودها ولضبط الأمن في أرضها، ولا يمكن تصوروجود حكومة، بدون وجود ما ذكرته.
وقد سبق لي أن ذكرت ان قصور الملوك في العربية ألجنوبية كانت موضع حكمهم ومقر عملهم، ولهذا السبب ذكرت أسماؤها في القوانين،لتكنى بذلك عن صدررها بأمر من الملك وبموافقته عليها. والمفروض ان أولئلك الملوك كانوا قد خصصوا جناحا أو أجنحة فيها لجلوسهم مع مستشاريهم وكبار موظفيهم للنظر في شؤون الحكم، أو لاستقبال الرسل والوفود الذين يقصدونهم من الخارح أو من داخل المملكة لمقابلتهم ولعرض ما جاؤوا به من رسائل أو طلبات عليهم، وان هنالك مواضع في يجلس فيها الملوك للاستماع إلى شكاوي الناس وظلاماتهم، ومواضع لجلوس الكتاب وموظفي القصر، ومواضع لخزن السجلات والوثائق. فقصور الملوك، اذن هي بهذا المعنى، دار الحكم الأولى في تلك الحكومات، والمرجع الأول للرعية في علاقتها وصلتها بصاحب المملكة.
ذلك ما كان بالنسبة إلى عواصم الملوك، أما بالنسبة الى بقية أجزاء المملكة، فإن الحكم فيها هو إلى ولاة وعمال ثم إلى من هم دونهم في المنزلة والدرجة.وبيوتهم هي دور حكمهم يجلس العامل أو الوالي أو "الكبير" في جناح من بيته، ليأتيه من يريد مقابلته من موظفين وكتبة ليقصوا عليه ماعندهم من أخبار وطلبات، وليملي عليهم ما يراه من أحكام وأوامر. وفي هذا البيت أيضا يستقبل الضيوف وأعيان البلد وأصحاب الشكاوي والمراجعات. وفيها يقيم مع عائلته. فبيوت الحكام اذن، هي دور اقامة ودور حكم وقضاء بين الناس في ان واحد.

(1/2778)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما ما ورد في روايات أهل الأخبار من أن ملوك الحرة كانوا قد اتخذوا قصورهم مكانا للنظر في أمور رعيتهم، ولاستقبال الرسل والوفود، وللاستماع إلى ظلامات الناس وشكاويهم، وانهم كانوا قد أوكلوا أمر ادخال الرعية عليهم إلى حجاب معينين، لا يسمحون لأحد بالدخول على الملك إلا بعد أخذ اذن منه بذلك، فإنه يدل على أن ملوك الحيرة كانوا مثل ملوك العربية الجنوبية ومثل ملوك ذلك الوقت قد اتخذوا بيوتهم دارا للحكم ودارا للاقامة. وان قصر الملك هو أيضا دار الحكم بين الناس، والمشروع للاحكام.
وإذا أخذنا بما ورد في كتب أهل الأخبار من أن "دار الندوة" كانت مرجع
اهل مكة في كل أمر من أمورهم صغر أم كبر، حتى أن "الجارية إذا حاضت أدخلت دار الندوة، ثم شق عليها بعض ولد عبد مناف بن عبد الدار ثم درعها إياه وانقلب بها إلى أهلها فيحجبها. وكان عامر بن هاشم بن عبد ماف عبد الدار يسمى محيضا، جاز لنا القول إن تلك الدار كانت دار حكومة.
اليها يرجع أهل مكة في منازعاتهم وفي خصوماتهم وفي أمور سامهم وحربهم. وأن أبناء قصي كانوا قد وزعوا أعمالها بينهم على نحو ما سطره أهل الأخبار.

(1/2779)


--------------------------------------------------------------------------------

ولفظة "ديوان" من الألفاظ المستعملة في الجاهلية عند عرب العراق، ويذكرعلماء اللغة أنها من الألفاظ المعربة عن الفارسية. وقد كان للفرس دواوين في جملتها ديوان خاص للنظر في أمور العرب، واجبه النظر في صلات "كسرى"مع ملوك الحيرة وسادات القبائل. وليه "زيد" والد "عدي بن زيد العبادي"،فلما توفى "زيد" وليه ابنه من بعده، ثم وليه "زيد بن عدي بن زيد"، بعد مقتل والده على يد "النعمان بن المنذر". ولا أستبعد وجود الدواوين في حكومة الحيرة. فقد كان لها كتاب تولوا أمور ديوان المراسلة بين ملوك الحيرة، والفرس، وأمور المراسلة فيما بين ملوك الحيرة وبين عمالهم على الأرضين التابعة لهم وبينهم وبن سادات القيائل. أما ما ورد في أخبار أهل الأخبار من أن الخليفة "عمر بن الخطاب"، هو أول من أمر بتدوين الدواوين، فإنهم قصدوا بذلك موضوع تأسيس ديوان العطاء وموضوع تدوين الدواوين في الإسلام. مما لا مجال للبحث عنه في هذا المكان. وورد اسم "الديوان" في الحديث. ذكرا".
لم أن الرسول قال: "إن لله حراسا، فحراسه في السماء الملائكة، وحراسه في الأرض الذين يأخذون الديوان ".
صاحب السر
وذكر علماء اللغة ان الملوك كانوا يسرون أمورهم إلى من يثقون به من رجالهم أو المقربين اليهم. وقد عرف صاحب سر الملك ب "الناموس"، وذكر بعضهم ان "الناموس" هو صاحب سر الخير، وان "الجاسوس" هو صاحب سر الشر.
الموظفون
ودون الملك أناس يختلفون في المنزلة والمكانة،عهدت اليهم أمور ادارة الحكومة والشعب. وهم نوعان: موطفون مدنيون، واجبهم النظر في الأمور المدنية.
وموظفون عسكريون، واجبهم إعداد الجيش والدفاع عن حدود الدولة والقضاء ا على الفتن والاضطرابات، وتوسيع رقعة أرض الدولة عند الطلب.

(1/2780)


--------------------------------------------------------------------------------

وإني آسف إذ أقول إن من غير الممكن في الزمن الحاضر تثبيت درجات الوظائف، وتعيين سلالمها من أدنى درجة الى أعلى درجة، لعدم وصول كتابات جاهلية الينا فيها حصر تلك الدرجات وعدها وترتيبها، لهذا سأحاول ترتيبها على حسب ما وصل الينا من شأنها من مختلف الكتابات، وعلى وفق ما ورد من اسماء بعضها في المسند أو في روايات أهل الأخبار، وعلى حسب اجتهاد الياحثين الذين توصلوا اليه باستنادهم إلى المرجعين المذكورين، وإذا سألتني عن المصدر الذي استقيت منه أسماء الوظائف والدرجات النى أذكرها هنا، فإني أقول: لقد حصلت عليها من ورودها في الكتابات التي عثر عليها المنقبون في مواضع من العربية الجنوبية وفي أعالي الحجاز وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب أخذتها من هذه الكتابات، وعينت درجتها ومكانتها بالاستناد إلى المعنى المستنبط من النصوص. وبالقياس أحيانا إلى المفردات الواردة في معاجم اللغة أو في اللغات السامية الأخرى حيث يرد ما يماثلها في تلك اللغات علما لوظائف معروفة، بقيت أسماء بعض منها معروفة أو متداولة إلى يومنا هذا.
ونستطيع أن نقول بالقياس إلى ما هو مألوف في قصور الملوك المعاصرين لملوك الجاهلية أن كبار متولي أمور قصور الملوك وكبار قادة الجيش، كانوا من أقرب الناس إلى الملوك،ومن أكثر الناس تأثيرا فيهم، وذلك بحكم اتصالهم بهم والتصاقهم بالعرش. فكانت لهم كلمة مسموعة عندهم. فهم من الصنف الممتاز من اصناف الموظفين، ولهم أثر خطير في تأريخ تلك الحكومات.

(1/2781)


--------------------------------------------------------------------------------

وتحتلف درجات المشرفين على ما أمور القصور الملكية، فمنهم الحرس الخاص الذي يتولى حراسة القصر، ومنهم الخدم والطباخون، ومنهم من اختص بخدمة الملك وحده، كأن يقوم بتقديم الطعام اليه، ومنهم من اختص بتقديم الشراب اليه، أو يتولى أمر الحجابة له، ومنهم من كان يكتب له، أو يخدم زوجاته وذريته، إلى غير ذلك من أعمال اقتضتها طبيعة تلك القصور وعضمة الملك ومنزلته وقدعرف كل هؤلاء"**** الملك"عند بعض الشعوب.
والطبقة المذكورة، وإن كانت من الطبقات الدنيا بالنسبة لطبقات المجتمع، وظيفتها الطبخ وتقديم الأشربة والأطعمة وإلسهر على راحة الملك وضيوفه، إلا أن رهطا منها تمكن مع ذلك من لعب دور كبير في أمور المملكة، وفي مقدرات الناس،بفضل استخدام ذكائهم وقربهم من الملك ووجودهم بحضرته بصورة دائمة، من.التاثير على سيدهم وتوجيهه الوجهة التي يريدونها. كما تمكنوا من الحصول على مكانة كبيرة عند قومهم، باتصالهم بحكم مراكزهم بأعيان الناس. وبنوال جوائزهم وهباتهم، ليفتحوا بذلك لهم الباب للوصول إلى الملك في كل وقت.
ثم بإيصالهم أخبار المجتمع ولا سيما سادته إلى الملك وبأخبارهم هذه صار في امكانهم ابعاد شخص أو تقريبه من الملك، واهلاك شخص أو اسعاده برضاء ملكه عنه.
الكبراء

(1/2782)


--------------------------------------------------------------------------------

وأعلى مناصب الدولة ودرجاتها الإدارية هي درجة "كبير" أي كبير. ويجب أن أكون حذرا جدا في التعبير. فكلمة "كبر" "كبير"، ليست منصبا أو وظيفة أو درجة بالمعنى المفهوم من هذه الألفاظ الاصطلاحية في الزمن الحاضر، ولكنها لفظة عامة قد تعني ممثل ملك على مقاطعة، مثل "كبرددن" أي "كبير"أرض "ديدان" في حكومة "معين" وتقع في أعالي الحجاز، وهي "العلا"، وقد تعني موظفا كبيرا من رجال الملك المقربين اليه، عينه الملك واختاره لتنفيذ أوامره وأحكامه، أو للاشراف على إدارة أملاكه وأمواله وتدبير شؤون قصره، أو لاعداد ما يلزم من اعاشة جيش وتقدم ما يحتاجه اليه. وقد تعني درجة عليا من درجات رجال الدين، أو كبيرا من تناط به شؤون إدارة أملاك المعابد وأموالها. وقد تعني سيد قبيلة، أو رجلا كبيرا عينه الملك منسوبا عنه ليشرف على تصريف أمور الحكم على قبيلته. وقد تعني "الكبير" المسؤول عن تصريف أمور المدن. فقد كان الذي يسير أمور مدينة "تمنع" مثلا مسؤولا درجته درجة "كبر" "كبير" واتضح من بعض الكتابات ان مدينة "ميفعة" "ميفعت" الحضرمية كانت تحت حكم "كبير".
وقد أشير إلى وجود "كبر" "كبير" في سبأ، كان يتولى درجة دينية.
إذ كان من كبار رجال الدين. وورد اسم "كبير" آخر كان عمله ادارة بساتين الملك ومزارعه والإشراف عليها. وورد اسم "كبر" كان عمله الإشراف على أعمال الصرف والانفاق على الجيوش. وورد اسم "كبير" آخر كان يتولى رئاسة قبيلة، فيستنتج من هذه اللأمثلة ان لفظة "كبر" لا يقصد بها درجة معينة من كبار الموظفين، بل أريد بها علية قوم وأعيانهم وكبارهم، ولهذا أطلقت على من ذكرت أعيان سبأ وعلى المنازل الكبيرة التي كان على رأسها كبير من كبراء الناس من رجال دين ومن عسكريين ومن موظفين أو مدنيين غير موظفين.

(1/2783)


--------------------------------------------------------------------------------

والكبراء بالطبع هم من أصحاب الجاه العريض والوجاهة والمنزلة والثراء، وهم كبار الأحرار في الأرض، ولأهميتهم ومكانتهم أرخ الناس حوادثهم وما وقع لهم بأيامهم، وقد حملت الكتابات أسماء طائفة منهم: دلالة على ما كان لهم من اسم وسلطان في ذلك العهد.
ومن أشهر الكبراء، "كبر خلل"، أي كبير خليل. وخليل عشيرة قديمة. و قد ذكر كبيرها في الكتابات السبئية القديمة،كما ذكر في الكتابات المتأخرة كذلك. وقد أرخ بهؤلاء الكبراء عدد من الكتابات السبئية. ويظهر أن "كبر خلل" "كبير خليل" كان كاهنا، أي رجل دين في الأصل، يشرف علب معبد "عثتر ذ ذبن " "عثتر ذو ذبن". ويقدم الذبائح إلى هذا المعبد، ويدعو الالهة لإنزال الغيث، ودعوته الهته لإنزال المطر، هي بمثابة صلاة الاستسقاء.
وقد كان يحكم حضرموت في النصف الأول من القرن السادس للميلاد "كبير"، "كبر حضرموت" وقد ذكر في نص "أبرهة" في جملة من وفد على أبرهة بعد اتمام سد " مأرب".
الاقيان
جمع "قين"، وتتألف طبقتهم من الأمراء ومن ممثلي الملك في المدن، ومن
الموظفين ومن رجال الدين من درجة "رشو". وقد ذهب "ويبر" Weber إلى أن "القين" وال "رشو" هما شىء واحد. أما "هارتمن" Hartmann فيرى أن القين غير الرشو فهو وظيفة دنيوية ومركز حكومي. أما "الرشو" فإنه منزلة دينية، فهو "كاهن" إله ما وتعني رئاسة دينية. وقد يستعمل "قين" لأداء المعنين. أما "رشو"، فإنه لا يستعمل إلا في الأمور الدينية وفي التعبير عن منزلة كهنوتية. وذهب بعض الباحثين إلى ان "القين" "رشو" أيضا، أي رجل دين،ولكنه تخصص بالأمور الادارية والمالية للمعابد. وقد يتولى قيادة الناس في الحروب أيضا.
وقد ورد في نص عثر عليه في "حرم بلقيس" اسم كاهن عرف ب "تبعكرب" "تبع كرب"، كان رجل دين أي "رشو" و "قينا" في الوقت نفسه على "سحر". ويدل ذلك على ان رجل الدين هذا كان يجمع بين سلطتين: سلطة دينية هي درجة "رشو"، وسلطة زمنية هي عرجة "قين".

(1/2784)


--------------------------------------------------------------------------------

وفهم من بعض نصوص المسند ان " القين" كان يساعد الملك في ادارة بعض الاعمال، كما كان ينوب عنه في اداره المدينة أو المعبد. وفهم من نصوص أخرى انه كان يدير أملاك المعابد،وانه كان يتولى قيادة الجيش أو تهيئة ما يحتاج اليه. واستدل من تعداد هذه الأعمال المدونة في النصوص، ان عمل "القين" لم يكن عملا معينا محدودا بحدود وقيود، وانما كان يشمل كل عمل وشغل كان الملك يعهد به إلى أحد الأقيان. أي ان القين لم يكن موظفا يشغل وظيفة معينة محدده، بل كان من كبار رجال الدولة ومن السادات، له مواهب وكفاءات وله قرب وحظوة عند الملك، فإذا احتاج الملك الى انجاز عمل ما، كلف أحد أقيانه القيام به.
والقين دون الكبر في الدرجة، فقد جاء في بعض الكتابات ان الأقيان كانوا يخضعون للكبراء، كما يتبين ذلك من كتابات عثر عليها في "شبام اقيان" "شبم اقين"، ومن كتابات أخرى عثر عليها في "عمران" من "مرثد" من قبيلة"بكيل".
وقد كان الأقيان طبقة خاصة من طبقات أهل الحظوة والنفوذ "الارستقراطية" في الدولة وفي المجتمع، لها رأي مسموع بين الناس وكلمة نافذة عند الملك. وهم من جماعة أصحاب الأملاك والاقطاع، قد يعطون أرضهم لغيرهم لاستغلالها مقابل أجر "اثوبت"، أي كراء. وقد يستغلون أرضهم بأنفسهم، بتشغيل فلاحيهم وخدمهم ورقيقهم بها، فيكون حاصلها لهم، لا ينازعهم فيه منازع.
الأقيال
والأقيال هم طبقة من كبار الإقطاعيين من أصحاب الأرضين الواسعة، ومن رؤساء القبائل كذلك والسادات الكبار. وكانوا يتمتعون بسلطان واسع، ويقال للواحد منهم: "قول" في المسند، و "قيل" في عربيتنا. والجمع "اقول"، أي أقيال.
وقد جاء فيء كتابات المسند ذكر أقيال عديدين، مثل أقيال "سمعي، وأقيال "بكيل" من "ال مرثد". وقد كان على مدينة "صرواح" حاكم درجته درجة قيل. وورد ذكر "اقيال حمير" في "حصن غراب"، وذكر الأقيال في نص "أبرهة"، كما ورد في نصوص عديدة أخرى.

(1/2785)


--------------------------------------------------------------------------------

و "القول" في الأصل المتحدث باسم قوم أو جماعة من فروع قبيلة. كأن يكون رئيس حي أو عشيرة أو ما شاكل ذلك من القبيلة،ثم توسع نفوذه وازداد شأنه حتى صار في منزلة "كبر" كبير، بل حل محله. وعند ظهور الإسلام، كان للاقيال النفوذ الأوسع في العربية الجنوبية، حتى حكموا المخاليف، كالذي يظهر لنا بجلاء من وصف أهل الأخبار لنظام الحكم في اليمن عند ظهور الإسلام.
وقد لقب أكثرهم نفسه بلقب "ملك"، مع أنه دون الملك في الحكم وفي امتلاك الأرض بكثير. بل كان حكم بعضهم أقل من حكم سيد قبيلة.
وذكر علماء اللغة أن "المقول": المقيل بلغة أهل اليمن، وهو دون الملك الأعلى، والجمع "أقوال" و "اقيال". وذكر منهم: أن القيل هو الملك النافذ القول والأمر، وقيل: الأقيال، ملوك اليمن دون الملك الأعظم، واحدهم قيل، يكون ملكا على قومه ومخلافه ومحجره. وقد سمى قيلا لأنه إذا قال قولا نفذ قوله. وعرف أنه الملك من ملوك حمير يقول ما شاء. وقد كتب الرسول إلى "وائل بن حجر" ولقومه: " من محمد رسول الله الى الأقوال العباهلة، وفي رواية الى الأقيال العباهلة ".
وذكر علماء اللغة أن العباهلة، هم الذين أقروا على ملكهم لا يزالون عنه، وعباهلة اليمن ملوكهم الذين أقروا على ملكهم.
ووردت في النصوص السبئية لفظة "قبت"، يظن أفها بمعنى "نائب الملك" "نائب ملك".
وجاء في بعض النصوص المعينية ذكر منصب، عنوانه "حفيه نفس" "ح ف ي ه ن ف س" "حفي نفس" "حافي نفس"،يظهر ان صاحبه كان مكلفا أن يعمل أعمالا خاصة، مثل النظر،في شؤون الماء، أي في توزيعه، وفي الخصومات التي قد تقوض أجله، ومثل القيام بالاشراف على الأبنية والأعمال العامة وافتتاحها باسم الملك.
ويظهر من بعض النصوص المعينية أيضا انه كان يعاون هذا الموظف القضائي موظفان، وضعا تحت إمرته، يقال لمنصبهما "ربقهى معن"، ربما كانا بمثابة كاتبين عنده.

(1/2786)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر ان حكومة "معين" كانت قد كلفت جماعة أخرى النظر في شؤون الري عرفت ب "اهل طبنتم" وب "اطبنو". وإذا علمنا مما للمياه من شأن في بلاد العرب، عرفنا السبب الذي جعل ملوك "معين" يعتنون عناية خاضة بشؤون الرى حتى جعلوا لها موطفين خاصين واجبهم رعاية هذه الشؤون.
ويرد في الكتايات ذكر منصب، يقال له: "مقتوي"، والجمعع "مقتت".
ويعبر عنه ب "مقتوى ملكن"، أي "مقتوي إلملك". ويظن بعض الباحثين ان المقتوي أو "مقتوي الملك"، هو ضابط كبير، أو هو تعبير عن قائد أو مشاور عسكري، اختصاصه تقديم الرأي ألى الملك في الأمور الحربية وقيادته للجيش، فهو معتمد الملك في هذه الأمور. وقد تؤدي اللفظة معنى"أمير" في العرف الإسلامي في صدر الإسلام. وهو من تشد اليه قيادة الجيش وإدارة الادارة التي توكل اليه وتحدد له حدود "جنده".
وقد أظهرت نصوص المسند وجود "مقتوت" أيضا، أي نساء مقتويات.
وقد فسرها الباحثون ب "كاهنة".
وعرف من يقوم بإدارة وحدة من الوحدات الإدارية ب "سمخض" ومعناها "مدير"، فيكون المعنى: مدير أرض، ويكون واجبه الإشراف على الأرض التي وكل أمر إدارتها اليه، فواجبه إذن هو واجب سياسي وإداري، وأما وظيفته، فيقال لها "سمخضت ارض"، أو "سخضت" "سمخضة"، ومعناها إدارة أرض، أو "إدارة".
ويعنى مصطلح "امنهت" "امنهات" "اهل امنهتن" المعيني، منصبا دينيا مختصا بالإشراف على معامل المعابد،تتولاه امرأة، ويقابل "امنت ذ عثتر" "امنت ذي عثتر" في القتبانية. وقد ورد معه مصطلح "منوت" "منوات" في بعض الكنابات.
ومن الوظائف وظيفة "ملوطن ملك" "ملوطن"، وقد تعني وظيفة إدارية تنظر في شؤون أملاك الملك. وقد ورد ذكرها في النصوص السبئية المتأخرة.
وأما مصطلح "اذن قنى" الذي ورد في أحد النصوص: "اذن قنى ملك حضرمت"، "اذن قنى ملك حضرمرت"فقد يعني المأذون بإدارة مقتنيات الملك وامواله.

(1/2787)


--------------------------------------------------------------------------------

واما "حشرو"، فقد تعني جماعة واجبهم جمع الحشر للدولة. وقد يكون لهذه اللفظة علاقة مع ما ورد في الموارد الإسلامية عن "الحشر" و "الحشور". فقد جاء في الحديث: "إن وفد ثقيف اشترطوا أن لا يعشروا ولا يحشروا"، " أي لا يندبون إلى المغازي ولا تضرب عليهم البعوث، وقيل: لآ يحشرون إلى عامل إلزكاة ليأخذ صدقة أموالهم، بل يأخذها في أماكنهم، ومنه حديث صلح أهل نجران:على أن لا يحشروا، وحديث النساء: لا يعشرون ولايحشرون يعني للغزاة، فإن الغزو لا يجب عليهن ". فالحشر إذن قد يكون موظفا خصحص بحباية الضرائب، أو بجمع الحشور أي الناس الذين يحشرون ويجمعون للحروب أو للقيام بأعمال اجبارية، فهم مثل "السخرة" الذين يجمعون جمعا لأداء أعمال من غير اجر وهو "الحاشر" في لغتنا.
واما الذي يتولى جباية الضرائب والاشراف على الموظفين الذين توكل الجباية اليهم، فيقال له: "نحل"ويقال لوظيفته "نحلت".ويذكر كل علماء اللغة ان "النحلة" بمعنى العطية،وان النحل اعطاؤك الإنسان شيئا بلا استعاضة، وعم به بعضهم جميع أنواع العطاء.ويظهرمن هذا التفسير ان له بعض الصلة بمعنى اللفظة في المسند، وان المراد منها في اللغات العربية الجنوبية أخذ المال من الناس. فقد كان الملوك يعطون الأرض لأتباعهم والمقربين لديمهم ممن يخدمونهم لاستغلالها، وذلك في مقابل دفع تعويض عام، فيقوم هؤلاء باستغلال ما أعطي لهم بأنفسهم، أو بتأجر الأرض قطعا إلى من هم في خدمتهم، فيأخذون الربح لهم،ويقدمون ما اتفق عليه مع الملك إلى خزانته.
ويصرف الموظفون الذين يجمعون حصة الحكومة المخصصه باسم الجيش، من الحبوب ب "ساولت" "س ا و ل ت". وهي ضريبة عسكرية يؤديها المزارعون من الحضر والأعراب إلى الحكومة، لتموين الجيش ببعض مايحتاح اليه من طعام. وتعرف هذه الضريبة العسكرية بتلك التسمية كذلك. فهي ضرببة من ضرائب غلات الأرض.

(1/2788)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من بعض الكتابات ان بعض الاقطاعات كانت في ادارة مجلس يتألف من ثمانية أشخاص عرفوا ب "ثمنيتن" أي "الثمانية"، فهم بمثابة مجلس مديري شركة يدير أمور تلك المقاطعة، أو بمثابة مشروع زراعي تعاوني، يتعاون فيه الأشخاص بإدارة ذلك المشروع، وقد تكون هنالك اقطاعات بإدارة أناس يزيد عددهم على هذا العدد أو ينقص عنه.
وقد ذهب "رودوكناكس" Rhodokanakis إلى احتمال وجود طبقة خاصة من الموظفين عرفت ب "ابعل سير"، كانت تحكم إلى جانب الطبقة المثمنة المؤلفة من الأشخاص الثمانية.
وظهر من النصوص القتبانية وجود جماعة من الموظفين نيطت بهم مهمة الإشراف على إدارة المعابد وتمشية شؤون الأوقاف المحبوسة على المعبد. يقال لها "اربى"، والواحد هو "ربي". ومهمته أيضا جمع الأعشار والنذور التي تقسم إلى المعابد. فهم كهيئات "الأوقاف" في البلاد العربية والإسلامية في الوقت الحاضر.
وذكر علماء اللغة "المحاجر"، وقالوا عنهم: إنهم أقيال اليمن، وهم الاحماء،كان لكل واحد منهم حمى لا يرعاه غيره. وأن المحجر ما حول القرية. ويظهر أنهم قصدوا بهم أصحاب الإحماء، أي الإقطاع، الذين استقطعوا الأرضين واستخلصوها لأنفسهم، ولم يسمحوا لأحد بالدخول اليها للرعي أو للاستفادة منها بغير اذن منهم.فهم أصحاب الإقطاع والإحماء. فحجروا بذلك على خيرة الأرضين المحيطة بالقرى، وجعلوها خاصة بهم لا يرعاها غيرهم، لما كان لهم من نفود وسلطان.
هذا ما عرفناه من أصول الحكم عند العرب الجنوبيين. أما بالنسبة إلى العرب الشماليين، فإن معارفنا بنظام الحكم عندهم نزر يسير، لعدم ورود شيء ما عن نظام الحكم في "الحيرة" أو في مملكة الغساسنة في كتابة جاهلية. أما أخبار أهل الأخبار، فإنها قليلة في هذا الموضوع،وهي لا تنص على نظم الحكم عندها نصا، وإنما تشير اليها إشارة، وتومىء إيماء، ولذلك لا تقدم إلينا رأيا واضحا صحيحا في أصمول الحكم عند العرب الشماليين.

(1/2789)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من أخبار الأخباريين عن ملوك الحيرة ان أولئك الملوك لم يكونوا مثل لا ملوك اليمن من حيث استشارة المجالس وتوزيع أعمال الحكومة. وطبيعي أن يكون هنالك فرق بين أصول الحكم في العربية الجنوبية، وأصول الحكم في الحيرة، لما بين طبيعتي الحكومتين من اختلاف في نواح عديدة، تجعل وجود الإختلاف في نظم الحكم أمرا لا بد منه. فإدارة الحكم في "الحيرة" متأثرة بالنظم السياسية الساسانية، وظروف البادية والبداوة وهي الغالية على سواد التابعين لملوك الحيرة، ولا يمكن تطبيق ما يطبق في المجتمع الحضري على المجتمع البدوي.
لم وإذا أخذنا "الردافه" على أنها منصب أو منزلة ودرجة خاصة في حكومة "الحيرة"، فإننا نستطبع أن نقول إنها أسمى وظائف تلك الحكومة أو أعلى درجاتها، وأنها من المنازل العليا عند ملوكهم.فقد ذكر أهل الأخبار أن الردف هو الذي يجلس على يمين الملك. فإذا شرب الملك، شرب الردف قبل الناس، وإذا غزا الملك،، قعد الردف في موضعه، وكان خليفته على الناس حتى ينصرف، وإذا عادت كتيبة الملك، أخذ الردف ربع الغنيمة. وكان للردف أن يخلف الملك إذا قام عن مجلس الحكم، فينظر بين الناس بعده. وذكر: ان هناك ردافة أخرى، ولكنها دون الردافة المتقدمة، وهي أن يردف الملك الردف على دابته في صيد أو غيره من مواضع الأنس، ولكن الأولى أنبل.
وقد عرف "عروة بن عتبة بن جعفر بن كلاب" ب "رديف الملوك"، ومعنى هذا انه عاش وخالط عددا من ملوك ايامه،وذكر انه كان رحالا اليهم.
ولذلك عرف ب "عروة الرحال". وذكر ان "ردافة الملوك: كانت من العرب في بني عتاب بن هرمي بن رياح بن يربوع، فورثها بنوهم كابرا عن كابر حتى قام الإسلام، وهي أن يثنى بصاحبها في الشراب، وإن غاب الملك خلفه في المجلس، ويقال: إن أرداف الملوك في الجاهلية بمنزلة الوزراء في الإسلام، والردافة كالوزارة. قال لبيد من قصيدة:
وشهدت أنجية الأفاقة عاليا كعبى وأرداف الملوك شهود

(1/2790)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان "سدوس بن شيبان" رديفما، "فكانت له ردافة آكل المرار". وقد كانت الردافة معروفة عند "ملوك كندة" أيضا. وقد رووا أن "أبا حنش عصم بن النعمان التغلبي"، كان رديفا للملك "شرحبيل بن الحارث بن عمرو الملك المقصور بن آكل المرار الكندي". وقد احتفظ بنو سدوس" بهذا الحق: حق ردافة ملوك كندة.
ولا يوجد نظام خاص في "الردافة"، ولكن نظرا لما للردافة من مكانة ومنزلة، جرت العادة ألا تعطى إلا للرجال الذين لهم مكانة عند الناس ولهم عقل وشخصية، وقد تنتقل من ألأب إلى الابن، وقد تنحصر في قبيلة واحدة، فإذا أراد الملك نقلها إلى قبيلة أخرى، ولم يأخذ رأي تلك القبيلة في نقلها منها،زعلت القبيلة وثارت إن كانت قوية ووقع الشر بينها وبين الملك، أو بينها وبين القبيلة الأخرى التي نازلتها على الردافة.

(1/2791)


--------------------------------------------------------------------------------

وللرديف، بحكم اتصاله بالملك وبقربه منه وبتقديمه الرأي له، أثر في توجه الملك وفي اتخاذه القرارات، لا سيما إذا كان الملك ضعيفا فاتر الهمة، ليس له رأي. والرديف بهذا المعنى المستشار والوزير. وقد ذكر أن الردافة بهذا المعنى عرفت في الإسلام أيضا. روي أن "عثمان" كان يدعى "رديفا" في إمارة عمر. وذكرعلماء اللغة أن "الأرداف: الملوك في الجاهلية، والاسم منه الردافة"، وكانت الردافة في الجاهلية لبني يربوع.. خصصها ملوك الحيرة بهم ولم يعطوها لأحد غيرهم، حتى ان كانوا مثل بني يربوع من تميم. ولا بد وأن يكون لهذا التخصيص سبب إذ لا يعقل أن يكون جاء "بني يربوع" عفوا. فهو فضل وتفضيل، وقضية التفضيل والتقديم، قضيه حساسة جدا ويحسب لها ألف حساب عند العرب. لما لها من مس بالمنازل وبكرامة القبائل والسادات، وقد ذهبت أرواح بسبب تقديم ملك سيد قبيلة على سيد آخر في موضع جلوسه منه أن جعله أقرب اليه منه وفي جهته اليمنى لأن في هذا التقديم على عرفهم إيثار لمن قدم وتفضيل له على بقية الحضور. فهل يعقل إذن أن يكون ملوك الحيرة قد أعطوا "الردافة" لبني يربوع عفوا ومن غير أسباب حملتهم على تخصيصها فيهم. لقد حاول بعض ملوكهم تحويلها من أصحابها إلى قوم اخرين، ومنهم قوم مثل " بني يربوع" من تميم. لكنهم هاجوا وماجوا وهددوا. فاضطر أولئلك علىابقاء الحال على ما كان عليه.

(1/2792)


--------------------------------------------------------------------------------

ويمكن اعتبار "الحجابة" وصاحبها "الحاجب" من الدرجات المهمة في "الحيرة" فقد كان "الحاجب" هو الذي يتولى إدخال الناس والاذن لهم بالدخول على الملوك. وكان في إمكانه التعجيل بإدخال من يريد على الملك، وتأخير من ينفر منه من الدخول عليه وربما منعوه من الوصول اليه. لذلك كان الذين يقصدون الملوك يتقربون إليه ويتوددون له ليكون شفيعا لهم عندهم وواسطة في التقرب اليهم. وطالما تعرض الحاجب لذم شاعر وهجائه، إذا أخره عن الدخول على الملوك أو حال بينه وبين الوصول اليه، أو كان سببا في اثارة غضب الملك على الشاعر.
وقد ذكر علماء اللغة انه لما كان الملك محجوبا عن الناس، فلا يصلون اليه إلا بإذن من الحاجب، لذلك حصر، أي حبس عن رعيته، فقيل له الحصير.
وقد كان للنعمان بن المنذر "ملك العرب" حاجب ورد اسمه في شعر للنابغة، هو "عصام بن شهر" من رجال "جرم"، ذكر انه قد كانت له منزلة عند النعمان. حتى انه إذا أراد أن يبعث بألف فارس بعث بعصام، مما يدل على انه كان يوكل اليه أمر قيادة جيشه أيضا. وقد ضرب به المثل، ورد: "ما ورائك يا عصام"، يعنون به إياه. وورد: "كن عصاميا ولا تكن عظاميا يريدون به قوله: نفس عصام سودت عصاما وصيرته ملكا هماما
وعلمته الكر والإقداما
وقوله ولا تكن عظاميا، أي ممن يفتخر بالعظام النخرة".

وقد ورد في أخبار الرسل الذين أوفدهم رسول الله إلى الملوك، ان "شجاع ابن وهب" رسول رسول الله إلى "الحارث بن أبي شمر الغساني" ليدعوه إلى الإسلام، اتصل بحاجبه، وانتظر حتى جاء له الاذن بمقابلته فدخل عليه. وبقيت "الحجابة" من المنازل الرفيعة في مكة وفي الأماكن المقدسة الأخرى.

(1/2793)

admin
12-31-2010, 08:20 PM
فبيد "الحاجب" تكون مفاتيح الكعبة ومفاتيج الخزانة الخاصة بالمعبد وهي درجة ترزق صاحبها رزقا حسنا وربحا ماديا، فضلا عن الربح المعنوي ياعتبار انه صاحب الصنم أو الأصنام وبيده أمر المعبد. لذلك قالت بنو قصي: فينا الحجابة. تفتخر على غيرها. ويظهر من الحديث: "ثلاث من كن فيه من الولاة اضطلع بأمانته وأمره: إذا عدل في حكمه، ولم يحتجب دون غيره، وأقام كتاب الله في القريب والبعيد "، ومن اشتراط "عمر" على كل من كان يعينه عاملا، ألا يتخذ حاجبا، ومن تحذيره لمعاوية وغيره من اتخاذ الحجاب. ان الحجاب، أي احتجاب الحكام في الجاهلية عن الناس وعدم دخول أحد عليهم بغير اذن منه، كان معروفا فاشيا، وان أصحاب الحاجات والمراجعين من الناس كانوأ يلاقون صعوبات جمة في الوصول إلى حكامهم، وقد يقفون اياما ثم يسمح لهم بالدخول عليهم، وقد لا يسمح لهم بذلك. ونظرا لما في ذلك من تعسف بحق الرعية نهى الإسلام عنه، وأمر الحكام بوجوب فتح أبواب بيوتهم للناس ليستمعوا إلى ظلاماتهم وإلى ما هم عليه، من حال.
وفي كتب أهل الأخبار تأييد لهذا الرأي، إذ فيها تذكر إن الشعراء وغيرهم كانوا يقفون أياما بأبواب ملوك الحيرة أو الغساسنة يلتمسون الأذن بالدخول على الملوك، ولا يأذن الحاجب لهم بالدخول عليهم، حتى أضطر البعض منهم على التعهد للحاجب بإعطائه نصيبا ما سيعطيه الملك له إن يسر له أمر الدخول عليه. ومنهم من كان يقدم للحاجب هدية ترضيه حتى يسمح له بالدخول دون إبطاء، مما اضطر بعضا، الشعراء على نظم الأشعار في هجاء الحاجب والملك الذي يراد، الوصول إليه. وتجد مثل هذه الشكاوي عن حجاب ملوك اليمن.

(1/2794)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر إن ملوك الحيرة كانوا يستوزرون الوزراء ليستشيروهم في الأمور، فقد ورد إن "زرارة بن عدس" كان من عمرو بن هند كالوزير له. وقد وردت كلمة "وزير" في القران الكريم بمعنى المؤازر الذي يشد أزر صاحبه فيحمل عنه ما حمله من الأثقال، والذي يلتجئ الأمير إلى رأيه وتدبيره، فهو ملجأ له ومفزع. وجاء في حديث "السقيفة": "نحن الأمراء وأنتم الوزراء"، مما يدل على إن الوزارة كانت معروفة عند الجاهليين.
وورد أن "التأمور" وزير الملك لنفوذ أمره. ولم يذكر علماء اللغة الموضع الذي استعملت فيه هذه اللفظة.
وقد كان لملوك الحيرة عمالا يديرون بالنيابة عنهم أمور الأرضين التابعة لهم. ف "العامل" هو نائب الملك على تلك الأرض. وقد ذكر أنه كان لملوك الحيرة "عمال" على البحرين كالذي رووه في قص مقتل الشاعر "**** بن الأبرص". وقد عرف علماء اللغة العامل بأنه هو الذي يتولى أمور الرجل في ماله وملكه وعمله ومنه قيل للذي يستخرج الزكاة "عامل"، وللساعي الذي يستخرج الصدقات من أربابها "العامل" والعامل هو الخليفة عن الشخص.
وقد استعمل المسلمون لفظة "العامل" وبقوا يستعملونها أمدا. وعين الرسول عمالا على الصدقات. واستعملت بمعنى أوسع أيضا، شمل الضرائب والإدارة.
وأطلق "الطبري" لفظة "العامل" على ملوك الحيرة، فنجد في كتابه جملة: "من عمال.."، وورد أن "امرأ القيس" كان عاملا للفرس، وكان يحكم الحجاز.
ويذكر علماء اللغة أن "العمالة": رزق العامل الذي جعل له على ما قلد من العمل.
والولاية بمنزلة الإمارة، والولي هو الذي يتولى إدارة شؤون الولاية. وقد استعملت في الإدارة الإسلامية. واستعملت لفظة "الأمير" في معنى من يتولى إمارة الجيش، فقيل "امراء الجيش" وهم كبار القادة الذين توكل اليهم مهمة تسيير الجيش وإدارته في السلم وفي الحرب.

(1/2795)


--------------------------------------------------------------------------------

وتؤدي لفظه "الوكيل" معنى العامل أيضا. جاء في نص "العمارة" "ووكلهن فرسولروم"، أي " ووكل لفارس وللروم". ولكنني لا أستطيع أن أجزم بأن لفظة "الوكيل" كانت مستعملة اصطلاحا مقررا مثل لفظة "عامل" في ذلك العهد، أي سنة "328" للميلاد، وهي سنة تدوين النص.
ومن الدرجات المهمة من الوجهة العسكرية والإدارية "الخفارة"، بمعنى الحراسة والمراقبة. والخفر هو المجير والحارس والحامي والأمان. وكان ملوك الحيرة قد عينوا "الخفراء" على المواضع الحساسة لحمايتها والدفاع عنها. وقد كان الساسانيون قد عينوا خفراء منهم ومن العرب لحماية الحدود، ولما حاصر "خالد بن الوليد" "عين التمر" وتغلب عليها قتل "هلال بن عقبة"، وكان خفيرا بها.
وقد أشير اليها في كتب الرسول، إذ ذكر أنه أخفر "سعير بى ن العداء الفريعي" أحد المواضع.
ويظهر من أخبار أهل الأخبار أن ملوك الحيرة لما كانوا قد اتخذوا لهم أمناء، فقد لقب "هانىء بن قبيصة" ب "أمين النعمان بن المنذر". و "الأمين" المؤتمن الحافظ، فلعلهم قصدوا أنه كان المؤتمن. على أسراره والمستشار، يستشيره في مسائله والحافط لها،أو أنه كان الأمين على أمواله وما يأتيه من جباية وخراج، أو الكاتم لأسراره والمدون لرسائله،فهو كاتب الدولة في ذلك إلعهد.
وعرف "قبيصة بن مسعود" ب "وافد المنذر". ويظهر أن المنذر كان يكلفه بالوفادات، أي بالذهاب موفدا عنه. في مهمات وأعمال يحتاج قضاؤها إلى ذهاب موفد ليتكلم عن الملك وبأسمله. و "الوافد"هو السابق والارسال،ويقال: هم على أوفاد أي على سفر. وقد يقال إن "قبيصة" إنما عرف ب "وافد المنذر"، لأنه كان ممن يكثر الوفادة عليه، فيجد له ترحيبا وأبوابا مفتوحة، فعرف بذلك. فيكون بهذا المعنى من الرجال المقربين إلى الملك. ولا علاقة له بمهمة الايفاد إلى الملوك وسادات القبائل بمهمات سياسية،أي بمهمة رسول وسفير.

(1/2796)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد استعمل عرب العراق الألفاظ الفارسية المستعملة في ادارة الحكومة الساسانية لأنها هي المصطلحات الرسمية والألقاب الني يحملها الموظفون وتشير إلى منازلهم ودرجاتهم، ومنها درجة "قهرمان" "القهرمان". والكلمة فارسية، وقد دخلت العربية وعربت. ذكر علماء اللغة انها تعني المسيطر الحفيظ على من تحت يديه والقائم بأمور الرجل ومن أمناء الملك وخاصته. وفي الحديث: كتب إلى قهرمانه. وقد ورد ان "علي بن أبي طالب" قال لدهقان من أهل "عين التمر"، وكان قد أسلم: "ا أما جزية رأسك فسنرفعها، وأما أرضك فللمسلمين. فإن شئت فرضنا لك، وإن شئت جعلناك قهرمانا لنا".
و "دهقان" من الألفاط الني عرفها عرب العراق كذلك. وذكر بعض علماء اللغة ان الدهقان التاجر. ويراد بدهقان حاكم ضيعة أو بلدة. وهي من "ده" بمعنى "ضيعة" و "قان" "خإن" بمعنى رئيس قبيلة في الفارسية القديمة.
فالدهقان هو رئيس موضع، وقد كان الساسانيون قد نصبوا الدهاقين على العراق وعلى قرى غالب أهلها من العرب، فكانوا يخاطبونهم باسم منصبهم: دهقان.

(1/2797)


--------------------------------------------------------------------------------

وأشير إلى وجود وظيفة "كاتب" عند الفرس، واجبه تولي أمور المراسلة بالعربية والفارسية فيما بين العرب والفرس. وقد ذكر "الطبري" ان "كسرى" جعل ابن "عدي بن زيد العبادي" في مكان أبيه،"فكان هو الذي يلي ما كتب به الى أرض العرب، وخاصة الملك، وكانت له من العرب وظيفة موظفة في كل سنة: مهران أشقران والكمأة الرطبة في حينها واليابسة، والأقسط والأدم وسائر تجارات العرب، فكان زيد بن عدي بن زيد يلي ذلك، وكان هذا عمل عدي" . وقد أشير الى وجود كتاب عند ملوك الحيرة تولوا لهم أمر تدوين المراسلات وما يأمر به إلملوك. ولا يعقل ألا يكون لهم ديوان خاص بالمراسلة على نمط ما كان عند الساسانيين، وظيفته تولي ما يكتب به ملوك الحيرة إلى الملوك الساسانيين، وترجمة ما يرد من الساسانيين اليهم من كتب. وتولي أمور المراسلة بين ملوك الحيرة وبين سادات القبائل. فقد كانت الرسائل تترى بين أولئك الملوك وسادات القبائل، كما يظهر ذلك من كتب أهل الأخبار.
وكان للملوك خاتم عرف ب " خاتم الملك" يكون في ايديهم. يظهر انهم استخدموه للتوقيع على الكتب وقد عرف ب "الحلق" وكذلك عرف "الحلق" ب "خاتم الملك الذي يكون في يده". وكان من شأنهم، أنهم إذا أمروا يكتابة كتاب، ختموا عليه ب"الختام"، وهو الطين أو الشمع، حى لا يفتح ولا يمكن لأحد فتحه، وإلا كسر الخاتم، وعرف أن الكتاب قد فتح، وأن سره عرف.
وألمعروف أن "الشرطة"، لم،تكن معروفة عند الجاهليين،وأنها من المستحدثات الإدارية التي ظهرت في الإسلام. ولكن أهل الأخبار يروون حديثا نسبوه الى الرسول هو: "الشرط كلاب النار". وهو حديث لو صح أنه من قول الرسول، فإفه يدل على وقوف أهل الحجاز على "الشرطة"، ويذكر علماء اللغة أن الشرطة سموا بذلك لأنهم أعلموا أنفسهم بعلامات يعرفون بها. وذ كروا أن واحد الشرط هو الشرطي، واستدلوا على ذلك بقول الدهناء امرأة العجاج: والله لولا خشية الأمير وخشية الشرطي والترتور

(1/2798)


--------------------------------------------------------------------------------

أعوذ بالله وبالأمير من عامل الشرطة و الأترور
وقد ذهب "ابن قتيبة" إلى وجود "الشرطة" في أيام الجاهلية، إذ قال في أثناء حديثه عن المثل "على يدي عدل": "هو: عدل بن فلان من سعد العشيرة، وكان على شرطة تبع، فإذا غضب على رجل دفعه اليه. فقال الناس لكل شيء يخاف هلاكه. هو على يدي عدل".واختلف في اسم والده، فقيل هو جزء "جر". وقيل لكل ما يئس منه: وضع على يدي عدل.
وقد عرف الحراس في اليمن. منهم من كان يتولى أمر حراسة الملوك، إذا ذهبوا إلى مكان، أو خرجوا لصيد،ومنهم من كان يتولى أمر حراسة قصورهم، ومنهم من تولى أمر حراسة أبواب المدن والاسوار حتى لا يدخل المدينة عدو"،ولا يهرب منها سارق أو مجرم، وكان لملوك الحيرة والغساسنة وسادات القبائل حراس، يسرون معهم لمنع من يريد إلحاق الأذى بهم. وإذا تجولوا استببعهم الحراس والخدم. وذكر ان "خشرم بن الحباب" كان من حراس الرسول.
ويقال لمن يطوف بالليل لحراسة الناس "العس" و "المعسس". فهم نوع من أنواع الحرس، تخصص بالحراسة ليلا.
وأما "الدرابنة"، فهم البوابون، أي الذين يقفون على الباب، لمنع الغرباء ومن فيه ريبة من الدخول إلى البيوت. واللفظة من الألفاط المعربة عن الفارسية،وقد ذكرت في شعر نسب الى المثقب العبدي: فأبقى باطلي والجد منها كدكان الدراابنة المطين
ويقال لمن يطوف بالليل لحراسة الناس "العس" و "العسس"، فهم نوع من انواع الشرطة، أو من المحافظين على الأمن، تخصصوا بالحرإسة ليلا.
وذكر علماء اللغة ان من مرادفات "الشرطي" "الجلواز". و "الجلواز": الثؤرور "التؤرور"، وقيل هو الشرطي. وجلوزته: خفته بين يدي العامل في ، ذهابه:إيابه. وذكروا ان "التؤرور: العون يكون مع السلطان بلا رزق، وقيل: هو الجلواز".وذكر "عكرمة" في تفسير )له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله" "الجلاوزة يحفظون الأمراء".

(1/2799)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد اتخذ حكام العربية الجنوبية السجون لتأديب خصومهم بسجنهم بها. واستعملت لسجن الخصوم السياسيين واللأعداء في الغالب. لذلك كانوا يتشددون في حراستها وفي عزلها عن الناس حتى لا يتمكن احد من الهروب منها. وقد يجعلونها في قلاعهم وحصونهم، زيادة في الحذر وفي نراقبة المساجين، وقد يتوفى السجين في سجنه من سوء حالة السجن ومن الجوع والعطش. ويقال لحارس السجن "حصق" في اللغة العربية الجنوبية.
وذكر بعض علماء اللغة ان النبط تسمي "المحبوس"، "المهزرق"، و "الحبس" "الهزروقي". ولا يستبعد أن يكون عرب العراق قد عرفوا هذا المصطلح.
إذ ذكروا ان "إلمهرزق: المحبوس،نبطية تكلمت بها العرب،وكذلك المحرزق". وان "الهرزق" "الحبس". وقال بعض العلماء: "المهزرق والمهرزق يقالان معأ.
كما وردا في بيت الأعشى: هنالك ما أنجاه عزة ملكه بساباط حتى مات وهو مهرزق.
وترد لفظة "عوق" بمعنى المحبوس في النصوص الصفوية. وقد كان الروم. يقبضون على من يغير على أرضهم من الصفويين وغيرهم ويودعونهم السجون. ومنهم من كان يفر منها، ويكتب ذكرى هروبه من سجن الروم على الحجارة.
وقد كان لملوك الحيرة "سجون"، منها سجن "الصنين" وقد أشير اليه في الشعر الجاهلي. ولا بد أن يكون لهم موظفون أودعوا اليهم مهمة المحافظة على السجون ومراقبة المساجين حتى لا يهربوا، ووكلوا اليهم أمر تعذيبهم وقتلهم أو سمهم عند صدور أمر الملك بذلك. كما فعلوا بعدي بن زيد العبادي. ويقال آ للسجن: الحصير،لأنه يحصرالناس ويمنعهم من الخروج،و"الحبس".
ويقال للذي يتولى أمر القبيلة أو الجماعة من الناس يلي امورهم، وينقل إلى الملك أحوال الناس "العريف". وكان للملوك "عرفاء"، هم بثابة عيونهم

(1/2800)


--------------------------------------------------------------------------------

على القبائل. ويظهر من بعض الأخبار أن العرافة كانت نوعا من الرئاسة والزعامة والدرجة.فقد ورد في كتب الحديث: ان شيخا كان صاحب ماء جعل لقومه مئة من الإبل على أن يسلموا،فأسلموا، وقسم الإبل بينهم. وبدا له أن يرتجعها منهم، فأرسل ابنه إلى النبي، وأوصاه بأن يقول له: "أبي شيخ كبير، وهوعريف الماء، وإنه يسألك أن تجعل لي العرافة بعده".فلما قص الخبرعلى الرسول، قال الرسول له: " إن بدا له أن يسلمها اليهم، فليسلمها، وإن بدا له أن يرتيجعها منهم، فهوأحق بها منهم.فإن اسلموا، فلهم إسلالمه 3 وإن لم يسلموا، قوتلوا على الإسلام". فقال: " إن أبي شيخ كبير، وهو عريف الماء، وإنه يسالك أن تجعل لي العرافة بعده ". فقال الرسول: "إن العرافة حق، ولا بد للناس من عرفاء. ولكن العرفاء في النار".
وورد أن العريف:النقيب، وهو دون الرئيس، وان عريف القوم سيدهم، والعريف: القيم والسيد لمعرفته بسياسة القوم، ولتدبيره أمر تابعيه. وعرفوا "النقيب" بهذا التعريف أيضأ، فقالوا إنه العريف، وهو شاهد القوم وضمينهم والمقدم عليهم الذي يتعرف أخبارهم وينقب عن أحوالهم.
و "العريف" من المصطلحات العسكرية أيضا، المستعملة في تنظيمات الجيش.
وقد أقر الرسول مما كان متبعا من أمر تقسيم الجيش الى وحدات. فعرف على كل عشرة رجلا وأمر على الأعشار رجالا من الناس لهم وسائل في الإسلام. هم العرفاء.

(1/2801)


--------------------------------------------------------------------------------

و "النقيب"، شاهد القوم، وهو ضمينهم وعريفهم ورأسهم، لأنه يفتش أحوالهم ويعرفها. وفي التنزيل: "وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا". ولما بايع الأنصار رسول الله، جعل عليهم اثني عشر نقيبا، ليتولوا أمر المسلمين بيثرب وليكونوا شهوده عليهم، وليقوموا بالدعوة فيها إلى الإسلام. ويظهر ان لهذه اللفظة صلة بلفظة Nacebus التي وردت في بعض المؤلفات أليونانية في حديثها عن العرب. ونجد في العهد المنسوب إلى "خالد بن الوليد" المعطى إلى أهل الحيرة والمدون في تأريخ الطبري، جملة: "وهم نقباء أهل الحيرة"، وقصد الشارح بها رؤساء الحيرة الذين صالحوا "خالد" على أداء الجزية، وهم: عدي وعمرو أبناء عدي بن زيد العبادي، وعمرو بن عبد المسيح، واياس بن قبيصة وحيري "جبري" بن آكال.
وفي ورود اللفظة في القرآن الكريم، واختيار الرسول لنقباء أمرهم على مسلمي يثرب قبل هجرته اليها، وفي:ورودها في عهد "خالد" مع أهل الحيرة، دلالة على انها كانت شائعة معروفة في الحجاز، بمعنى رئيس وسيد قوم والمسؤول عن جماعة.
أما "الرائد"، فهو الذي يتقدم الناس لطلب الماء والكلا للنزول عليه.
وقد نصب "عمر" "سلمان الفارسي" رائدا وداعية على الجيش الذي أرسله إلى العراق.
ولا بد وان يكون للملوك خزان يتولون خزن أموال الملك والاشراف على مدخولاته ومصروفاته. وكلمة "خزانة" من الألفاظ المعروفة في العربية. وقد كان الناس يخزنون أموالهم في خزائن. ومنها أوعية يجمعون فيها المال المخزون.
وقد كان لهؤلاء الملوك جباة يجبون لهم حقوق الملك على الرعية، من أعشارالتجارة، ومن غلات الأرض.
وهناك طبقة من السادة كانت لهم منزلة ومكانة في أهلهم ودرجة محترمة عند الملوك، فقربوهم اليهم وأدنوهم منهم. وقد عرفوا ب "قرابين الملك" واحدهم قربان. يجلسون مع الملك على سريره لنفاستهم وجلالتهم. وذكر ان "القربان":جليس الملك الخاص، أي المختص به. و "قرابين الملك" وزراؤه وجلساؤه وخاصته.

(1/2802)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عرفنا من كتابات "تدمر" أسماء بعض الوظائف التي كان يتولاها الموظفون في القيام بإدارة الأعمال العامة للمدينة. وقد أشرت اليها في حديثي عن تلك المدينة، وكانت "تدمر" قد سارت على خطة المدن اليونانية في ادارة شؤونها.، وهي خطة عمل بها الرومان أيضا مع بعض التغيير الذي يناسب جو "الانبراطورية" الرومانية. ويلاحظ ان أهل "تدمر" اسعملوا المصطلحات اليونانية أيضا في تسمية الوظائف.
ويمكن أن نقول إن عرب بلاد الشام كانوا قد سارو"على وفق النظم اليونانية - الرومانية في إدارة الحكم، لوجود جاليات يونانية كبيرة العدد من مدن الشام وقراها، ولاتصال عرب هذه الديار باليونان والرومان، مما جعلهم يختارون نظم اليونان والرومان في إدارة الحكم وفي إدارة الجيش، ونجد أثر هذا التأثر حتى في لغة أهل الحجاز، فنجد فيها ألفاظا عديدة دخلت العربية قبل الإسلام بزمن طويل، فعربت. وذلك في الأمور التي أختص بها اليونان الرومان ولم تكن معروفة عند العرب.
بطانة الملك
والبطانة السريرة يسرها الرجل، والصاحب للسمو الذي يشاور في الأحوال.
وقد أشير اليها في الحديث. ويقال لها الوليجة،وهو الذي يختص بالولوج والاطلاع على باطن الأمر. وذكرت "البطانة" في القران. بمعنى مختصين بقوم،ويستبطن بهم الأمور. فهم النخبة الخاصه التي يركن اليها في السراء والضراء وفي أخذ الرأي.
ول "سقاة" الملوك حظوة عند الملوك بحكم قربهم منهم واتصالهم بهم، ولاسيما، وقت شرابهم، ويسمعون من أفواههم وبخاصة في أوقات الشراب أمورا لا يبيحون بها في وقت صحوهم وشعورهم. وقد كانت "السقاية" منزلة رسمية كبيرة عند الفرس والاشوريين والعبرانيين. وقد استعمل اللخميون والغساسنة السقاة، لإسقائهم الشراب ولإسقاء ضيوفهم أيضا.

(1/2803)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا يستبعد وجود "الخصيان" في قصور الملوك والأشراف. فقد كان من عادة الناس، في ذلك الوقت استخدامهم فى البيوت. فكانوا يدخلون على مخدرات الملوك والسادات، ويتصلون بهن، لخدمة البيت. ولهذا لجأ الملوك الي شراء الخصيان، أو اخصاء مماليكهم حتى يكونوا بمأمن من اتصالهم بالقصر ودخولهم على نسائهم.
ادارة المملكة
لا نستطبع أن نتكلم بوجه صحيح مضبوط عن كيفية إدارة المملكة عندالجاهليين وعن طرق توزيع الأحمال وتقسيم المملكة إلى وحدات إدارية يديرها الموظفون، وعن أسماء تلك الوحدات. إذ لم يصل أي شيء عن ذلك الينا في كتابات المسند أو الكتابات الجاهلية الأخرى. كما لم يصل الينا أى شيء عن النظم الإدارية الجاهلية في كتب أهل الأخبار والتواريخ.
وفي كتب اللغة و الأدب مصطلحات ذات معان إدارية مثل "الطسوج" و "الكور" وردت فيها عرضا، غير أن ما أورده علماء اللغه عنها لا يبين لنا بوضوح استعمالها ولا الأزمنة التي استعملت فيها، ولا المراد منها. فهم يقولون عن "الطسوج"، الطسوج: الناحية وربع الدانق. وقيل مقدار من الوزن، وقيل معرب واحد من طساسيج السواد. فنحن إذن أمام معان ثلاثة: هي جزء من دانق أو درهم، ومقدار من الوزن وجزء من أرض. والمعنى الثالث هو المعنى الملائم لبحثنا، لأنه يدل على وحدة إداريه، كانت مستعملة في العراق بتأثير الحكم الفارسي.
وأما "الكور" فجمع "كورة". قال علماء اللغة انها المدينة والصقع، والمخلاف. وهي القرية من قرى اليمن والكلمة من أصل يوناني،هو "خورة" Khora بمعنى ناحية من بلد، أي مصر. ولم يشر علماء اللغة إلى انها كانت مستعملة في جزيرة العرب. ولعل العربية أخذتها من التسيمات الإدارية لبلاد الشام.

(1/2804)


--------------------------------------------------------------------------------

وجاء في أثناء حديث "ألطبري" عن فتح "أمغيشيا" وعن سير خالد بن الوليد اليها، أنها كانت مصرا كالحيرة. وورد في كتب اللغة والأخبار أن "عمر" كان قد مصر الأمصار منها البصرة والكوفة. وذكر علماء اللغة أن المصر الحد. ويظهر من ذلك أن "أمغيشيا" كانت مصرا، أي من إمارات الحدود، التي أقيمت على ألحدود المغربية للدولة الساسانية لحمايتها من الروم ومن غارات الأعراب وغزوهم. وكان اهلها على النصرانية. وان لفظة "مصر" كانت تؤدي هذا المعنى عند ظهور الإسلام.

ولا تظهر التقسيمات الإدارية إلا في حكومة كبيرة تحكم مساحة واسعة نوعا ما.
لذا نستطيع أن نتحدث باطمئنان عن وجود تقسيمات ادارية في العربية الجنوبية، لأن حكوماتها كانت قد حكمت أرضين متسعة نوعا ما، وجعلت البلاد في حكم موظفين تولوا ادارتها. وقسموها إلى وحدات ادارية. أما في الحجاز، فلما كان الغالب عليها عند ظهور الإسلام نظام القرى والمدن، لذلك، فلا يمكن أن نجد فيه شيئا من هذا التقسيم. وأما ملوك الحيرة، فقد عينوا عمالا على الاقاليم التي حكموها. ولكن أهل الأخبار لم يذكروا شيئا عن أنواع العمالات وعن درجات حكامها. لذلك لا نستطيع ألتحدث عنها بشيء.
ولقد سبق لي أن ذكرت أسماء بعض الوظالئف والمناصب في الممالك العربية الجنوبية.
فقلت مثلا" إن درجة "كبر" أي "كبير" هي من المناصب العالية عند العرب الجنوبيين، و "الكر" هو في مقام "محافط" و "متصرف" و "عامل" في مصطلحات الدول العربية في يومنا هذا. ولا أستبعد أن تكون تلك الدول قد أطلقت لفظة "كبر" على الوحدة الادارية التي كانت تحت حكم الكبير.
و "المخلاف"، هي الكلمة التي ترد في كتب علماء اللغة والأخبار عن التقسيمات الادارية الجغرافية لليمن، إذ يذكرون ان "المخلاف" مثل "الكورة" بالنسبة لأهل اليمن، وان اليمن كانت مقسمة إلى مخاليف.

(1/2805)


--------------------------------------------------------------------------------

ويعبر عن القرى بالأعراض، والواحد عرض. جاء في بعض كتب عبد الملك بن مروان لعماله: "وليتك المدينة وأعراضها "، أي قراها ونواحيها. وللقرى والمدن حدود ومعالم. خارجها ضاحيتها. وأما داخلها فجوفها، وهو من شعاب، ومن "ربعات". والربع و "الربعة" المحلة والشعب وجماعة الناس.
وقد أشير إلى "الرباع" في الكتاب الذي أمر الرسول بتدوينه بين "قريش" وأهل يثرب.
ويظهر ان الجاهليين قد عرفوا لفظة "الدسكرة"، بدليل ورودها في الحديث.
وقد ذكر بعض علماء اللغة انها بناء كالقصر حوله بيوت ومنازل للخدم والحشم. وخصصه بعضهم بالملوك. وقال قوم: القرية. ويظهر انهم أخذوها من الفارسية، فهي فيها مدينة وضيعة كبيرة.
و "الضواحي" النواحي، وضواحي الروم ما ظهر من بلادهم. وضواحي مدينة أو قرية ما كان خارج السور أو خارج حدود المدينة أو القرية. وضواحي قريش، النازلون بظواهر مكة، ولذلك قيل لقريش النازلة بظواهر مكه، قريش الظواهر. وأهل الضاحية، أو أهل الضواحي، هم أهل البادية، والساكنون على سيف الحضارة وحدودها. وكانت الحكومات تحسب لهم حسابا، وتراقب أحوالهم، خشية مهاجمتهم الحضر.
موارد الدولة
ولا بد لكل دولة من موارد تستعين بها في ادارة امورها وفي الانفاق على التابعين لها المكلفين القيام بأعمالها من موظفين ومستخدمن مدنيين وعسكريين ويدخل في هذه الموارد كل ما يحصل عليه الملك أو سيد القبيلة من أرباح ودخل يرد من استغلال الأرض والأملاك الخاصة، ومن الأتجار، ومن الضرائب التي تفرض على التجار والمواطنين والزر اع، ومن الغنائم، إلى غير ذلك من واردات تجمع وتقدم الى الحكام ملوكا كانوا أو سادات قبائل أو رؤساء مدن. أضف إلى ذلك"الجزية" التي كانت الحكومات تفرضها على من تحاربه أو تغزوه فتنتصر عليه، ثم تنسحب من أرضه على ان يدفع "جزية" يقررها المنتصر تتناسب مع حال المغلوب.

(1/2806)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم يكن من المعتاد في تلك الأيام التفريق بين "الخزينة الخاصة" و "الخزينة العامة"، أو بين الوارد الخاصة بالملك، مما يجبى من أملاكه وعن اتجاره وبين الوارد الذي يجب ان يصرف وينفق على الأعمال العامة التي تمس الشعب كله، مثل انشاء الطرق والحصون وادامة الجيش واغاثة المحتاج وما شابه فلك، فإن الحاكم في ذلك الزمن كان يرى ان كل ما يجبى يعود اليه، لا فرق عنده بين الخزينة الخاصة والخزينة العامة، وان الانفاق يتوقف على رأيه، إن شاء وهب هذا مالا وأقطع هذا ارضا، وان شاء صادر مال شخص وضمه اليه، ولا حق لأحد ان يعترض عليه. فأموال الدولة هي امواله والخزينة هي خزينته،وهو الذي يأمر بالإنفاق. وما يعطيه للشعراء ثوابا على مدحهم له، أو ما يقدمه من أموال للمنافع العامة وللنفقات الخاصة بالجيش وبمرافق الدولة،يكون كله بأمره وبموافقته، يتصرف كما يتصرف اي مالك كان بملكه.
وقد اختار الملوك لهم رجالا وكلوا لهم امر ادارة أملاكهم واستثمارها، كما وكلوا لاخرين. أمر الاتجار بأموالهم، إذ كان الملوك يتاجرون ايضا في الداخل وفي الخارج، كما وكلوا للموظفين امر جباية الضرائب واستحصالها من الزرأع ومن التجار، فكانوا يذهبون إلى المزارع لتقدير حصص الحكومة كما كانوا يقفون في الأسواق لأخذ العشر من المبيعات. وهناك موظفون يقيمون عند الحدود وعند ملتقى الطرق لأخذ حق المرور من القوافل.

(1/2807)


--------------------------------------------------------------------------------

" وقد وجدت بعضالحكومات مثل حكومة "رومة" ان طريقة تعيين الجباة لجباية الضرائب، هي طريقة تكلف الدولة اموالا تزيد على الاموال التي تردها من الجباية، لان الجباة كانوا يسرقون اموال الجباية ويسيؤن الاستعمال، وان الشدة معهم لم تنفع شيئا، لذلك عمدت إلى وضع الجباية في "المزايدة العلنية" بأن يعلن عنها، فيتقدم من يرغب في أخذها، فيزيد على غيره ممن ينافسه، وهكذا حتى ترسو على آخر المتزايدين، فيتولى هو جمع الجباية عن طريق تعيينه موظفين يقومون بجباية الضرائب المقررة، فيقدم هو للحكومة المبلغ الذي رسا عليه، ويأخذ الفضل لنفسه وقد تألفت في "رومة" شركات كبيرة خصصت نفسها بأمور جباية الضرائب من المقاطعات الواسعة التابعة لانبراطورية "رومة" وكانت تتزايد فما بينها حينما تعرض الحكومة جباية الضرائب في "المزاد".
وقد فعلت هذه الشركات كل ما امكنها فعله لجمع أكثر ما يمكن جمعه من أموال من المكلفين لتغطية مبلغ التعهد الذي أعطته للحكومة وللحصول على أرباح مفرطة لها، بأن أرهقت كاهل المكلف بأخذ أضعاف ما حدد من مقدار الصريبة، ولم تنفع الرقابة الحكومية التي وضعتها الحكومة على هذه الشركات وعلى الجباة، ذلك لأن "الحكام" حكام الولايات ومن بيدهم أمر الرقابة المالية ومن كان بيده أمر النظر في عرض الجباية على المتزايدين كانوا مرتشين، فكانوا يغضون الطرف عن تعسف الجباة ولا ينصفون المشتكين من الناس منهم. وقد ضج الناس من أصحاب المكس، وأشير إلى ظلمهم في الإنجيل، وعدوا من أصحاب الإثم أهل الخطيئة Sinners فكانوا من المبغضين. وقد ندد بهم و بظلمهم في كتب الحديث.
وقد عين "الأباطرة" أحيانا عمالا Procurator على المقاطعات للاشرأف على جمع الجباية، وعينوا موظفين في الموانئ والثغور لجباية الضرائب عن الأموال المصدرة التي تصدر الى الخارج، وعن الأموال الني تستورد إلى الانبراطورية، ومن التجار الرومان، أو التجار الأجانب.

(1/2808)

admin
12-31-2010, 08:21 PM
وقد وردت في النصوص العربية الجنوبية مصطلحات لها علاقة بالضرائب وبألأرباح، منها مصطلح "نعمت"، أي "نعمة"، وتعني هنا ما أنعم به على الإنسان، أي ما يحصل عليه من السوق، وما يربحه من تجارته. فهي بمعنى الربح. وللحكومة أو القبيلة أو لأصحاب السوق حق أخذ نصيب مقرر من هذه "النعم"،أي الأرباح. ويعبر عن النصيب الذي تأخذه الحكومة من الأرباح ب "زعرتم" "زعرت" "زعرة"،من أصل "زعر". وتعني"زعر" قل وتفرق، فكأن العرب الجنوبيين عبروا عن نصيب الحكومة بهذه اللفظة، لأن ما يدفع للحكومة هو مما يقلل من المبلغ ويصغره، فالربح اذن هو "نعمتم"، "نعمة"، "نعمت"، وهو كل ربح يصيب أحدا. وأما ما يؤخذ عن الأرباح ويدفع للحكومة: فهو "زعرتم" "زعرت" "زعرة"،أي ضريبة.
وترد لفظة "همد"بمعنى الضريبة في العربيات الجنوبية، أي ما يفرز ويعطى للحكومة أو للمعبد أو للسادات القبائل،والارضين التي يهيمنون عليها. و "الهميد" في عربية القرآن الكريم "المال المكتوب عليك في الديوان" و "المال المكتوب على الرجل في الديوان" فيقال: هاتوا صدقته، وقد ذهب المال و "الصدقة". وهذا التفسير قريب من المعنى المقصود من اللفظة في العربيات الجنوبية.
وقد أخذت حكومات العربية الجنوبية بطريقة تعيين موظفين خاصين بجمع الضرائب وبالأشراف على الجباة وعلى كيفية الجباية، كما أخذت بطريقة ايداع الجباية الى الإقطاعيين وسادات القبائل، فهم الذين يجمعون الحقوق من أتباعهم، ويقدمونها إلى الحكومة. وذلك بالالتزام. وللحكومة موظفون واجبهم التحقق من أن هؤلاء الملتزمين لا يأكلون حق الحكومة، ويأخذون من أموال الجباية النصيب الأكبر، ولا يقدمون للدولة الا شيئا قليلا من استحقاقها.

(1/2809)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي كل الحالات المذكورة كان المكلف يرهق بدفع الضرائب إرهاقا، ويجبر على دفع ضرائب تزيد على طاقته خاصة، وقد كانت الضرائب متنوعة عديدة. ضرائب للحكومة، وضرائب للمعبد، وضرائب للسيد صاحب الأرض، أو سيد القبيلة، ثم عليه السخرة أي العمل الإجباري دون مقابل وعليه الانخراط في سلك المحاربين حين الطلب، فأثر كل ذلك في الوضع الاقتصادي، وفي المجتمع العام تأثيرا كبيرا،و نهك السواد الأعظم من الناس، مما جعلهم يتذمرون من الحكام والحكومة والسادات،ولا يؤدون ما عليهم من واجبات وخدمات عامة الا مكرهين.
ولعل هذا الإرهاق الذي نزل بالرعية في دفع الضرائب، هو الذي حملها على اطلاق "الآكل" و "الآكال" و "آكال الملوك" و "مآكل الملوك" على ما يجعله الملوك مأكلة لهم، لأنهم جعلوا أموال الرعية لهم مأكلة، و اما "المأكول"، فهو الرعية، لأن الملوك تأكل أموالهم. فالملوك تأخذ ولا تعطي، والرعية تعطي ولا تأخذ ولا تستفيد مما تدفعه لملوكها من ضرائب أية فائدة.
والضريبة في تعريف علماء اللغة: ما تؤخذ في الأرصاد والجزية ونحوها، مثل ما يؤديه العبد إلى سيده من الخراج المقرر عليه،ومن الضرائب: ضرائب الأرضين وهي ضرائب الخراج عليها، وضرائب الإتاوة التي تؤخذ من الناس.
وعرف علماء اللغة الإتاوة: أنها الرشوة والخراج، وقال بعضهم: كل ما أخذ بكره، أو قسم على موضع الجباية وغيرها، فهو اتاوة. وفي ذلك قال "حني بن جابر التغلبي": ففي كل أسواق العرإق إتاوة وفي كل ما باع أمرؤ مكس درهم
وذكر "ابن فارس" أن "الإتاوة" من الألفاظ التي زالت بزوال معانيها، فهجرت لذلك.

(1/2810)


--------------------------------------------------------------------------------

ويقال للإتاوة: الأريان. والاريان بمعنى الخراج أيضا. وقد ذكرت اللفظة في شعر "الحيقطان"،شاعر اليمانية،وكان قد قال قصيدة يرد فيها على الشاعر "جرير"، فهجا بها قريشا، وكان مما قال فيها: وقلتم لقاح لا نؤدي إتاوة=فإعطاء اريان من الفر أيسر فقال: قلتم إنا لقاح ولسنا نؤدي الخراج و الاريان،فإعطاء الخراج، أهون من الفرار و اسلام الدار للأحابيش، وأنتم مثل عدد من جاءكم المرار الكثيرة.
ويقصدون باللقاح الحي لم يدينوا للملوك ولم يملكوا ولم يصبهم في الجاهلية سبأ.
والإتاوة في الأصل الجباية عامة. أي جباية كل شيء. وهي كلمة عامة تشمل أخذ كل عطاء،أي كل ما يؤخذ طوعا أو كرها عن شيء، فتشمل الخراج والجزية والجباية والرشوة،وما يفرض تعنتا وزورا،والمكوس. والخراج إتاوة. يقال أدى إتاوة أرضه، أي خراجها، والجباية إتاوة. يقال ضربت عليهم الاتاوة، اي الجباية، وهي بمعنى الرشوة. يقال شكم فاه بالإتاوة، أي الرشوة. وتدخل فيها الرشوة أي الماء. وجاء في قول الجعدي: موالي حلف لا موالي قرابة ولكن قطينا يسألون الاتاويا
أي هم خدم يسألون الخراج.
وقد ذكر "الجاحظ" الإتاوة في جملة ما ترك الناس في الإسلام من ألفاظ الجاهلية، إذ تركوها، وأحلوا لفظة "الخراج" محلها.
وكانت قريش تأخذ ممن نزل عليها في الجاهلية شيئا. كانت تأخذ بعض ثيابه أو بعض بدنته التي ينحر، إتاوة. ولما خرج "ظويلم" الملقب ب ""مانع الحريم" في الجاهلية يريد الحج، فنزل على المغيرة بن عبد الله المخزومي،فأراد المغيرة أن يأخذ منه ما كانت قريش تأخذ ممن نزل عليها في الجاهلية، امتنع عليه "ظويلم" وقال: يا رب،هل عندك من غفيره إن مني مانعه المغيره
ومانع بعد مني ثبيره ومانعي ربي أن أزوره
وذلك سمي "الحريم". وظويلم الذي منع "عمرو بن صرمة" الإتاوة التي كان يأخذها من غطفان.

(1/2811)


--------------------------------------------------------------------------------

ويعبر في عربية القرآن الكريم عن الشيء الذي يخرجه القوم في السنة من مالهم بقدر معلوم ب "الخرج" و ب "الخراج"، فهو إتاوة تؤخذ من أموال الناس. و "الخرج" كما يقول علماء اللغة أعم من الخراج، وجعل الخرج بازاء الدخل. والخراج مختص في الغالب بالضريبة على الأرض. وقيل: العبد يؤدي خرجه، أي غلته، والرعية تؤدي الى الأمير الخراج. وقد خصصت لفظة "الخراج" في الإسلام بما وضع على رقاب الأرض، وخصصت الجزية بما يدفع عن الرأس. و "الخرج"،مما يدفعه الرقيق إلى سيده وماله عن خراجه. وقيل: هو الأجرة، وان الخرج من الرقاب، والخراج من الأرض. وأرض الخراج تتميز عن أرض العشر في الملك والحكم.
ويقابل "الخراج" بالمصطلح الإسلامي لفظة pnoros في اليونانية، فهي ضريبة الأرض عند اليونان. وقد كان البيزنطيون قد فرضوا "الخراج" على غلة الأرض يدفعها كل من خضع لهم. وكان يدفعها عرب الشام لهم أيضا، لأنهم كانوا في حكمهم. وأما عرب العراق، فقد دفعوا "الخراج" إلى الفرس. ويقال للخراج "خرجا" في لغة بني إرم،ووردت في "التلمود" بلفظ: "خرجه" و "خرجا". وهي عند الساسانيين خراج الأرض، أي الضريبة الخاصة بحاصل الأرض. ولكن الفرس القدماء لم يكونوا في القديم يفرقون بين الخراج والجزية، أي ضريبة الرأس، بل كانوا يطلقونها على الضريبتين. وقد وردت لفظة "خرجا" في التلمود بمعنى ضريبة الرأس،وأطلق "التلمود" على ضريبة الأرض اسم "طسقه" "طسقا" Taska "ط س ق". وهي بهذا المعنى عند الفرس. وقد أخذ العبرانيون اللفظة من الفرس. وقد كتب "عمر" إلى "عثمان بن حنيف" في رجلين من أهل الذمة أسلما: "إرفع الجزية عن رؤوسهما، وخذ الطسق من أرضيهما". وعرف علماء العربية "الطسق" بأنه شبه الخراج، له مقدار معلوم، وما يوضع من الوظيفة على الجريان من الخراج المقرر على الأرض. وقد ذكروا أن اللفظة فارسية معربة.

(1/2812)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد وردت لفظة "الخرج" و "الخراج" في القرآن الكريم، مما يدل على ان اللفظتين كانتا معروفتين عند أهل الحجاز قبل نزول الوحي على الرسول، وانهما كانتا من الألفاظ المستعملة عندهم في الأمور المالية المتعلقة بدفع الضرائب إلى الحكومات والى ذوي السلطان. ويرى بعض،المستشرقين ان الجاهليين أخذوا اللفظة من "بني إرم"،وانهم وقفوا على "خرجه"، "خرج" و "خرجا"، وحولوهما إلى "خرج" و "خراج".
ولما فتح المسلمون العراق و الشام،أبقوا النظم المالية والإدارية على ما كانت عليه في أول الأمر، لأنها نظم قديمة، لم يكن من السهل تغييرها و تبديلها، فكان "الخراج" في جملة ما أبقي من النظم المالية. وقد دفع عينا أي غلة، فكان محتسب الخراج،يذهب إلى القرى عند دنو أجل دفع الخراج، فيأخذه من المزارعين عينا، كأن يدفع برا أو شعيرا، أو مالا، أي نقدا بالدنانير أو الدراهم. ثم غاب الدفع نقدا على الدفع عينا،وصار هذا النقد موردا مهما من موارد بيت المال.
والجزية من الألفاظ المستعملة عند الجاهليين كذلك، بدليل ورودها في القرآن الكريم. وقد خصصت في الإسلام بما يؤخذ من أهل الذمة على رقابهم.
وقد كان الجاهليون يأخذون الجزية من المغلوبين، وكانت عندهم الضريبة التي تؤخذ عن رؤوس المغلوبين، يدفعونها إلى الغالب. فدفعتها القبائل المغلوبة للقبائل الغالبة، على أساس الرؤوس.
والظاهر أن المسلمين في صدر الإسلام لم يكونوا يفرقون بين الخراج والجزية،فقد استعملوا الخراج عن الرؤوس وعن الأرض، كما استعملوا لفظة "الجزية" بمعنى خراج الأرض، ورد في الحديث: " من أخذ أرضا بجزيتها".
وأشار الطبري إلى أن "المثنى"،وضع على أهل الحيرة بعد كفرهم وارتدادهم "أربعمائة ألف سوى الحرزة". و يذكر علماء اللغة أن "الحرزة" خيار المال لأن صاحبها يحرزها ويصونها. والحرائز من الإبل التي لا تباع نفاسة بها.

(1/2813)


--------------------------------------------------------------------------------

وجعلها بعضهم "الخرزة". وقالوا انها نوع من جزية الرؤوس، كانت معروفة في زمن الأكاسرة،يؤديها كل من لم يدخل في جند الحكومة.
و "المكس"، دراهم تؤخذ من بائع السلع في أسواق الجاهلية. ويقال لجابي المكس: صاحب المكس،و الماكس و المكاس.و المكس الجباية. و"الماكس" الذي يتولى المكس. قال العبدي في الجارود: أيا ابن المعلى خلتنا أم حسبتنا صراري نعطي الماكسين مكوسا
وكان "الماكس"،ويقال له العشار،يشتط في كثير من الأحيان، ويظلم الناس في الجباية، إذ يزيد عليهم في المقدار، فكانوا لذلك مكروهين، حتى لقد ورد في الحديث:"لا يدخل صاحب مكس الجنة ".
وقد أشير إلى المكس والى الإتاوة التي تؤخذ من أسواق العراق في شعر "جابر ابن حني": أفي كل أسواق العراق إتاوة وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم
فإن ملوك العرب كانت تأخذ من التجار في البر والبحر، وفي أسواقهم، المكس،وكانوا يظلمونهم في ذلك. ولذلك قال جابر بن حني، وهو يشكو ذاك في الجاهلية ويتوعد، وهو قوله: ألا تستحي منا ملوك وتتقي محارمنا لا يبوو الدم بالدم
وفي كل أسواق العراق إتاوة وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم
ولهذا زعم الأعراب أن الله لم يدع ماكسا إلا أنزل به بلية، وأنه مسخ منهم اثنين ضبعا وذئبا. فلهذه القرابة تسافدا وتناجلا،وإن اختلفا في سوى ذلك.فمن ولدهما السمع و العسبار. وفي هذا المعنى قول الشاعر: مسخ الماكسين ضبعا وذئبا فلهذا تناجلا أم عمرو

(1/2814)


--------------------------------------------------------------------------------

وضريبة "العشر" هي ضريبة معروفة بين الجاهليين، فقد كانت الحكومات تتقاضى عشر ما حصل عليه التاجر من ربح في البيع والشراء، وكان المتولون أمور الأسواق يتقاضون العشر كذلك. وقد أشير اليها في كتابة قتبانية،حيث كانت حكومة قتبان تتقاضى هذه الضريبة من المعاملين في البيع والشراء،إذ كانت تأخذ عشر الأموال، وتوسعت في ذلك حتى عمت هذه الضريبة على كل ربح أو وارد يصيبه الرجل سواء أكان ذلك من البيع والشراء أم من الإجازة والإرث.
وقد كانت هذه الضريبة مقررة في كل جزيرة العرب وفي خارجها، ففي كل سوق من الأسواق عشارون يجبون العشر ممن يبيع ويشتري،بأمر المشرف على السوق ومن في أرضه تقام، ويقدم ما يجمع اليه. ومن أخذ العشر من التاجر، قيل لجابيه: العشار والمعاشر، وهو الذي يعشر الناس.
وقد كان التجار العرب الذين يقصدون بلاد الشام للاتجار في أسواقها يدفعون العشر إلى العشارين،ففي "بصرى" وغزة، وهما أشهر الأسواق في تلك البلاد بالنسبة إلى العرب، كان تجار العرب يؤدون ضريبة العشر إلى الجباة الذين عينهم الروم، كذلك كان يعشر أصحاب الأسواق من يفد عليها من التجار.
ويؤخذ العشر عينا أو نقدا بحسب الثمن. ولما كان النقد قليلا إذ ذاك كان الدفع عينا هو الغالب في أداء هذه الضريبة. وقد أبطل الإسلام هذه الضريبة،وعدها من سيماء أهل الجاهلية، وجعل رفعها من التخفيف الذي جاء به دين الله. وقد ذكر المحدثون أحاديث في إبطالها وفي ذم من يعشر الناس. بل ورد في بعضها جواز قتل العشار. وبظهر ان أهل الجاهلية كانوا يشتطون في أخذها ويسرفون في ظلم التجار وأصحاب السوق في أخذها، فذموا العشار وهجوه. ودعوا عليه. وقد ذكر بعض أهل الأخبار ان "سهيلا" كان عشارا على طريق اليمن ظلوما، فمسخه الله كوكبا.

(1/2815)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان مما يفعله العشارون وضع "المآصر" على مفترقات وملتقيات الطرق وعلى المواضع المهمة من الأنهار ليؤصروا السابلة وأصحاب السفن، ولتؤخذ منهم العشور.
وقد عرف من،كان يقوم بالتقدير والخرص ب "الحازر" و الخارص ". لأنه كان يحزر المال ويقدر ما يجب أخذه منه ومن غلة الزرع بالحدس والتقدير.وكان الحازر يشتد في أخذ الخزرة ويتعسف على الناس. وقد نهى النبي عن ذلك والحازر مثل العشار والخارص من المكروهين عند الجاهليين. و "الخارص" المقدر والمخمن، ومنه خرص النخل والتمر، لأن الخرص، إنما هو تقدير بظن لا احاطة. وما يدفع عن الأرض والنخل الخرص. يقال:كم خرص أرضك،وكم خرص نخلك، وفاعل ذلك الخارص. وكان النبي يبعث الخراص لخرص نخيل خيبر عند ادراك ثمرها، فيحزرونه رطبا كذا وثمرا كذا.
وكان أهل الحجاز وبقية جزيرة العرب، يدفعون العشر عن غلات أرضهم. فلما جاء الإسلام، اقر ذلك، وجعل ارض العرب ارض عشر. ولم يدخلها الخلفاء في أرض الخراج.
ويعبر عن الضريبة التي تقابل ضريبة "الكمارك" في مصطلحنا،بلفظة Telos،و ب Telonion عن "الكمرك"،أي الموضع الذي تؤخذ به الضرائب "الكمركية" من التجار. وكان الرومان واليونان قد أقاموا "كمارك" على حدودهم مع البلاد العربية وضعوا فيها جباة لجباية العرب القادمين من جزيرة العرب للاتجار.

(1/2816)


--------------------------------------------------------------------------------

ولما كان من الصعب على الروم جباية العشور والحقوق الأخرى من العرب، وكلوا أمر الجباية إلى سادات القبائل والأمراء في الغالب، ممن يعتمدون عليهم وممن لهم قبيلة قوية تخشاها القبائل الأخرى، وقد كان أمد هذا الايكال يتوقف على أهمية الشخص ومكانته ومنزلة قبيلته، فإذا مات وترك خلفا ضعيفا،أو فقدت قبيلته سلطانها، حتى طمعت فيها قبائل أخرى أقوى منها، ووجدوا ألا أمل لهم في هذا الشخص، فإنهم ينبذونه ويعطون الجباية إلى شخص آخر. وقد كان "سلامة بن روح بن زنباع الجذامي"، أحد من أولى إليهم الروم العشور،وقد هجاه "حسان بن ثابت" فوصفه بأنه "دمية" في لوح باب،وانه بئس الخفير، وانه غادر خداع،ولا ينفك أي جذامي يغدر ويخدع ما دام "ابن روح" حيا.
وقد أقر العشر في الإسلام، ولكن بأسلوب آخر، فأخذ من "خثعم"،كما أخذ من أهل "دومة الجندل ". وأخذ أيضا من حمير، فقد جاء في كتاب الرسول إلى رؤسائهم الحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال والنعمان قيل ذي رعين ومعافر وهمدان: "وأعطيتم من المغانم خمس الله، وسهم الرسول وصفيه،وما كتب على المؤمنين من الصدقة من العقار، عشر ما سقت العين وسقت السماء، وعلى ما سقى الغرب نصف العشر. وإن في الإبل الأربعين ابنة لبون، وفي ثلاثين من الإبل ابن لبون ذكر، وفي كل خمس من الإبل شاة،وفي كل عشر من الإبل شاتان 000".وعقد مثل ذلك مع بني الحارث بن كعب.
والكلام على العشر في الإسلام، وعلى الأرضين التي كانت تدفع العشر، يخرجنا من بحثنا هذا، وللفقهاء كلام طويل مسهب في هذا الموضوع، فعلى كتب الخراج مثل كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف وكتاب الخراج ليحيى بن آدم القرشي، وكتب الفقه والأحكام أحيل القارئ الراغب في الوقوف على العشر في الإسلام.

(1/2817)


--------------------------------------------------------------------------------

والعشر من الضرائب القديمة المعروفة عند الشعوب القديمة من ساميين وغيرهم،وتكاد تكون من أقدم الضرائب المعروفة في التأريخ،وهي "اشرو" Ish-ru-u في النصوص الآشورية و "معشير" Ma,asher، في العبرانية، وقد كان الآشوريون يتقاضون العشر من التمر والحبوب عينا، كما كانوا يتقاضونه ذهبا.
وقد كانت معظم الشعوب الهندوجرمانية والسامية وغيرها تعشر أموالها: تعشر الماشية، والأثمار، وكل ما تملكه وما تضمه في الحرب،وتخصصه باسم آلهتها.فالعشر زكاة قديمة أدتها الشعوب الى آلهتها تقربا اليها وتطهيرا لأموالها، فهي من أقدم الضرائب عند الإنسان.
وقد خصص العشر ب "يهوه" إله اسرائيل وحده، يجمعها اللاويون باسمه،ولكننا نجد أن العبرانيين دفعوا العشر في بعض الأحيان إلى الملوك كذلك.
ويمكن رد الأسباب التي دعت العبرانيين إلى تخصيص العشر بالله "يهوه " إلى اعتقاد العبرانيين أن الله هو مالك كل شيء،وأن الأرض والعالم كله له، مانح الخصب والحياة، وأنه الكائن الأعلى، ولهذا خصصوا عشر ما ينتجه العبراني لله، ثم لسبب آخر نشأ فيما بعد،هو تقرب العبرانيين الى إلههم بهذا العشر،عبادة له وتقربا اليه.وذلك كما يفهم من الآيات الواردة عن العشر في التوراة.
وتدفع القبائل الضعيفة إتاوة الى القبائل الكبيرة أو إلى الملوك، تكون بمثابة حق الحماية والاعتراف بالسيادة. ولهذا كانت القبائل التي لا تدفع إتاوة تتباهى وتفتخر لأن ذلك يدل على عزتها ومنعتها ويقال: إن الأوس والخزرج ابني قيلة،لم يؤديا إتاوة قسط في الجاهلية الى أحد من الملوك. فلما كتب إليهم تبع يدعوهم إلى طاعته ويتوعدهم،لم يجيبوه،وتحارب معهم، ثم ارتحل عنهم.
وكانت للغطاريف على دوس إتاوة يأخذونها كل سنة، حتى إن الرجل منهم كان يأتي بيت الدوسي،فيضع سهمه أو نعله على الباب ثم يدخل.
ويقال للقوم الذين قهروا على أمرهم، واضطروا إلى أداء ضريبة لمن قهرهم "النخة"،وصاروا "نخة" له.

(1/2818)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا بد لي من الإشارة هنا إلى جباية كانت الحكومات تأخذها عينا عن الحبوب والزراعة، للإنفاق منها على إعاشة الجيش. وقد عرفت ب "س ا و ل ت"،"ساولت". ذكرت في النصوص السبئية والقتبانية. فهي ضريبة عينية تؤخذ من الزراعة، يجبيها موظفون يعرفون ب "ساولت"،فهم جماع هذه الضريبة.
وكان ملاك الجاهلية قد وضعوا "الوضائع" على رعيتهم، من الزكوات والمغنم في الحروب،يستأثرون به. وقد أشير اليها في الحديث. ورد في حديث "طهفة بن زهير النهدي"، أن الرسول قال: "لم يا بني نهد ودائع الشرك و وضائع الملك. أي ما وضع عليهم في ملكهم من الزكوات. أي لكم الوظائف التي نوظفها على المسلمين لا نزيد عليكم فيها شيئا. وقيل معناه: ما كان من ملوك الجاهلية يوظفون على رعيتهم ويستأثرون به في الحروب وغيرها من المغنم. أي لا نأخذ منكم ما كان ملوككم وظفوه عليكم، بل هو لكم".
و الوضائع: أثقال القوم. وأما الوضائع الذين وضعهم كسرى، فهم شبه الرهائن، كان يرتهنهم وينزلهم بعض بلاده. وقيل: الوضائع قوم كان كسرى ينقلهم من أرضهم فيسكنهم أرضا أخرى، حتى يصيروا بها وضيعة أبدا. وهم الشحن والمسالح.
والودائع: العهود والمواثيق. ويحتمل أن تكون كل ما يستودع من رهائن، من مال وبنين، ليكون رهينة على الوفاء بالعهد والموعد.
وذكر "الجاحظ" ان في جملة ما ترك من ألفاظ الجاهلية التي لها صلة بالجباية والمال "الحملان"، ويراد بها الرشوة وما يؤخذ للسلطان. والحملان ما يحمل على الشيء من أجر، و "الحمالة" الدية أو الغرامة التي يحملها قوم عن قوم.
ويظهر من شعر العبدي: أيا ابن المعلى خلتنا أم حسبتنا صراري نعطى الماكسين مكوسا
ان أصحاب السفن وهم "الصراريون"،كانوا يعطون المكس عن البضائع التي تحملها سفنهم، حين وصولها إلى المواني.
الأشناق والأوقاص

(1/2819)

admin
01-01-2011, 01:05 AM
ودفع الجاهليون فى ضرائب أخرى، منها: "الأشناق" و "الأوقاص". وقد خص بعض العلماء "الأشناق" بالإبل: فإذا كانت من البقر، فهي "الأوقاص". وقد تحدث العلماء عن حدود الأشناق والأوقاص في الإسلام. وفي كتب الفقه أبواب خاصة بهما.
وكان منهم من تحايل في سبيل التخلص من أداء ما عليه من الأشناق و الأوقاص. وقد كتب الرسول إلى "وائل بن حجر": لا خلاط، ولا وراط،ولاشناق ولا شغار. وعين الرسول الحدود فيهما. و الوراط: الخديعة والغش.
وليس في استطاعتنا تعيين الضرائب المجباة، وتحديدها تحديدا مضبوطا، فقد كانت تختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة. ثم إن العادة أن تؤخذ الضريبة من القبيلة أو العشيرة مجتمعة، أي ان رئيس القبيلة أو العشيرة هو الذي يتولى تقديم ما على القبيلة من ضرائب إلى الحكومة، ويختلف ذلك أيضا بحسب صلة الرئيس بالحكومة، وبحسب قوته و مركزه السياسي لدى المسؤولين. والرئيس هو الذي يعين نصيب أفراد القبيلة من الضرائب، وذلك بعد اتفاقه مع الحكومة على ما هو مفروض على القبيلة دفعه لها، وبعد موافقة مجلس القبيلة على ما فرض على القبيلة دفعه إلى الحكومة.
هذه هي الضرائب التي كانت تدفع عن التعامل والاتجار. وهناك ضرائب أخرى أوجب دفعها إلى سادات القبائل في مقابل حماية القوافل وضمان مرور التجارة في أرضهم بأمان وسلام، وهي ضرائب حق المرور. وإلا تعرضت التجارة للنهب والسلب، وتعرض أصحاب القافلة للخطر والهلاك. ولحماية التجارة يتفق التجار عادة مع سادات القبائل التي تمر القوافل في أرضهم على دفع جعالة في مقابل تقديم الحماية لها والمحافظة على سلامتها، وبذلك تمر بأمن وسلام.

(1/2820)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي "قتبان" نجد نفوذ المعبد على الأهلين كبيرا. وللمعبد أرضون واسعة تدر عليه دخلا كبيرا، وله ضرائب تبلغ عشر الدخل والميراث والمشتريات.بالإضافة الى النذور والعطايا التي يتبرع بها الأغنياء له. وقد حفظت النصوص القتبانية وثائق عديدة تتعلق بما كان يتقاضاه المعبد من زكاة وأموال تزكية لأعمالهم ولأنفسهم، باسم الآلهة التي لها سلطان كبير على الناس.
ولما كانت النقود قليلة إذ ذاك، كان دفع الضرائب عينا في الغالب. ويعبر عن ذلك ب "دعتم". أما إذا كان الدفع نقدا، فيعبر عن ذلك ب "ورقم".
أي "ورق".
وقد كانت الحكومة تضع يدها على المحصول أحيانا أو على البضاعة المهربة أو البضاعة التي يمتنع أصحابها عن دفع الضريبة عنها ويعبر عن ذلك ب "رزم".
تقدير الغلات الزراعية.
،كان تقدير حصة الحكومة من الغلات الزراعية، بواسطة خبراء الحكومة وموظفيها المسؤولين عن جمع الضرائب، وذلك لأنهم كانوا يذهبون إلى المزارع والبساتين إبان إدراك النبات وقيل حصاده أو جنيه، ثم يخمنونه ويقدرون مقدار ما يجب دفعه للحكومة. وطالما أدت هذه الطريقة إلى الأضرار بالفلاح، إذ يجوز أن يتعرض الزرع لآفات زراعية وللتلف والضرر، فيقل الحاصل كثيرا، ولا يستطيع تحمل دفع ما قدر عليه، ولكن جباة الضرائب يأخذون حصة الحكومة منه كما قدروها دون نقص، فإذا امتنع المكلف، أخذ حاصله حتى يستوفى منه ما قدروه عليه.
ولم يكن من حق الفلاح حصاد زرعه وحمله إلى مخزنه أو جني ثمر زرعه ونقله الى الأسواق والتصرف به ما لم يره جباة الضرائب لأخذ حصة الحكومة العينية. وقد استتبع هذا النظام تعيين عدد كبير من جباة الضرائب، وانشاء مخازن لنقل حصص الحكومة اليها. وتستهلك الحكومة جزءا من هذا الحاصل، وتدفع قسما منه إلى موظفيها فالمدفوع لهم، هو مرتباتهم وأجر عملهم. أما الباقي فيباع في الأسواق، أو يصد ر لبيعه في البلدان الخارجية، ولا سيما الحاصل المهم الثمين.

(1/2821)


--------------------------------------------------------------------------------

ويتقاضى المعبد في "معين" جملة ضرائب من الرؤساء وسائر الناس. لكل ضريبة اسم،مثل "كبودت" و "اكرب" و "عشر" و "فرع". وبعض هذه الضرائب تجبى عن حاصل الأرض وغلتها، وبعضها عن التجارة والأعمال الأخرى مثل الصناعات. ولم يشترط دفعها كلها عينا أو نقدا، بل كانت تدفع عملا أحيانا، أي أن المكلفين بدفع الضرائب وجمعها من أتباعهم يقدمون الفعلة والصناع وعمال البناء أحيانا إلى الحكومة، أو إلى المعبد، للقيام بالأشغال العامة بالمجان بدلا من تقديم الضرائب نقدا أوعينا. وذلك متى وافق المعبد على ذلك واعتبر الآلهة راضية عن انشاء ذلك العمل.
وكانت الحكومات العربية الجنوبية تتقاضى ضرائب عن المغازل ودور النسيج. ويظهر ان أهل الحجاز كانوا يعرفون هذه الضريبة أيضا. وقد ورد ان الرسول فرض في كتاب لقوم من اليهود ربع المغزل، أي ربع ما غزل.
الركاز

(1/2822)


--------------------------------------------------------------------------------

أغلب العلماء في الإسلام ان الركاز دفين اهل الجاهلية، أي الكنز الجاهلي. وقال بعض العلماء الركاز المعادن كلها.فمن استخرج منها شئ فلمستخرجها أربعة أخماسه ولبيت المال الخمس. وكذلك المال العادي يوجد مدفونا، هو مثل المعدن سواء، فحكم الركاز تأدية خمسه لبيت المال. أما بالنسبة إلى الجاهليين، فلا توجد عندنا نصوص جاهلية في بيان نصيب الحكومات منه.ويظهر من مطالبة سادات أهل مكة "عبد المطلب" بنصيبهم من الكنز الذي عثر عليه عند حفره بئر زمزم، ان حجتهم في المطالبة لم تكن تستند على قانون سابق، بل ارتكزت على ان الكنز لم يعثر عليه في أرض ملك، رقبتها لعبد المطلب، حتى يستأثر به، وانما عثر عليه في أرض مقدسة مشاعة، تخص البيت الحرام واهل مكة كلهم،لذلك وجب إشراك غيره به ومعنى هذا ان من يعثر على كنز في ملك له،يكون من حقه ونصيبه، لا تشاركه قريش فيه. وقد وجد "عبد الله بن جدعان" كنزا، سبق ان أشرت اليه، فلم يعط سادة قريش منه شيئا، وكان من عادة،اهل مكة نبش المواضع العادية بحثا عن الكنوز، ولم تجد في الأخبار المروية عن ذلك ما يفيد بمشاطرة قريش لمن يعثر على كنز،معنى ان من يستخرج شيئا من الدفائن يكون ما يستخرجه من نصيبه، لا تأخذ مكة منه نصيبا. وكيف تتمكن من ذلك، لأن من يعثر على كنز لا يظهره للناس، خشية اغتصابهم له.وان من شاهد أحدا يستخرج كنزا استعمل حق القوة في الاستحواذ عليه أو على نصيب منه.
النذور والصدقات

(1/2823)


--------------------------------------------------------------------------------

وما تحدثت عنه هو الضرائب المفروضة التي يجب على من تشمله دفعها. أما النذور والصدقات، فهي هبة يقدمها المتمكن طوعا للتقرب إلى آلهته أو شعورا بمسؤولية أدبية يقتضيه واجب المروءة تجاه الضعفاء. والصدقة: ما تصدقت به على الفقراء وقد أشير اليها في القرآن الكريم. وقد تؤدي معنى "الزكاة".ووردت في معنى "المهر" أيضا أي الصداق الذي يقدم إلى المرأة. ويظهر أن الجاهليين كانوا يستعملونها في معنى التصدق على المحتاج والسائل.
وأما الزكاة، فهي ما يخرج من المال لتطهيره، فهي تزكية اختيارية للمال وطهارة له. وقد جعلها الإسلام فريضة على المسلم المتمكن بحسب الأنصبة المقررة في الشرع. وهي "زكوتو" Zakutu عند البابليين. وقد نص عليها في العهد القديم. وهي أن يقدم أصحاب الزرع من أول ثمرهم إلى الكاهن ليقدمه إلى الرب، وأن يسمح للفقراء بالتقاط ما يجدونه على الأرض مهملا من بقايا الزرع،وأن يعطى الكهنة واليتامى والفقراء والغرباء والأرامل والمحتاجين عشر محاصيل الأرض. وقد كثرت الإشارة اليها في العهد الجديد.
وإذا اعتددنا العشر الذي كان يقدمه العرب الجنوبيون إلى المعبد من حاصل عملهم، لصرفه على المعبد وفي الأعمال الخيرية زكاة، ففي استطاعتنا أن نقول إنها كانت مفروضة على المتمكن فرضا، أي على نحو ما تجده في الإسلام. غير ان من الجاهليين من كان يقدم زكاة المال من ماشية وإبل وزرع طوعا واختيارا تقربا إلى الآلهة، يقدمها إلى المعابد تخصيصا باسم الأصنام. ومن هذا القبيل السائبة والحامي الوصيلة ونحو ذلك، مما خصصه الجاهليون لآلهتهم تطوعا، وذلك تزكية لأموالهم وأملا في نماء أموالهم الجديدة وحدوث البركة فيها.
السخرة

(1/2824)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان من حق الدولة وسادات الأرض والقبائل تسخير الناس في الأعمال التي يريدون القيام بها بلا عوض ولا أجر ولا دفع مقابل عن العمل الذي يؤمرون القيام به. ونظام السخرة شائع معروف عند جميع الأمم. وقد كان معمولا به عند بعض الشعوب الى عهد قريب. فكان من حق الحكومة إكراه أتباعها وأخذهم بالقوة وسوقهم للقيام بأداء أي عمل تريده. وفي ضمن ذلك المباني العامة و القصور.
وبها تم انشاء معظم المباني الفخمة مثل الأهرام والمعابد، حيث لا يكلف العمل بهذه الطريقة الحكومة كثيرا، فالعمال مسخرون لا يدفع لهم شيء، وعليهم أداء عملهم بسرعة و حمل أكثر ما يمكن حمله،و الا انهالت عليهم سياط المراقبين.
ويدخل في هذه السخرة، السخرة العسكرية، أي القبض على أي شخص عند الحاجة وسوقه الى القتال، وذلك من غير مقابل أيضا. وقد كابد سواد الناس منها عنتا شديدا لفقرهم ولعدم وجود شيء عندهم تعتمد أسرهم عليه في،معيشتها إذا غاب المعيل أو مات، ولهذا لم يحارب المحاربون إلا قصرا وخشية ورهبة، وكانوا يهربون من هذه "السخرة" بالرغم مما قد يتعرض له الهارب من عقوبة شديدة قد تصل إلى القتل.
واجبات الدولة
واجبات الدولة كثيرة، فإن عليها ان تحفظ الأمن في الداخل، وتحمي الحدود من مهاجمة الأعداء لها، وتصد كل غزو يقع عليها، وعليها ان تحقق العدالة، وتقتص من الجناة وتعاقب المجرمين، وعليها أن تقيم الأبنية العامة وتفتح الطرق، إلى غير ذلك من الواجبات التي نعرفها عن الغاية من نشوء الحكومات.
ونحن لا نستطيع ان نتحدث في الزمن الحاضر عن جهاز حفظ الأمن الداخلي،أي جهاز "الشرطة" الذي تناط به مهمة القبض على المجرمين وتعقب اللصوص والقتلة وما إلى ذلك من شؤون لعدم ورود شيء عن هذا الموضوع في الكتابات.

(1/2825)


--------------------------------------------------------------------------------

ولكننا لا نستطيع نفي وجود علم للجاهليين الحضر بالشرطة. فلا بد وان يكون لهم علم بأجهزة الأمن المخصصة بالقبض على المجرمين وتعقب آثارهم، أي الشرطة. وقد كان لهم اتصال بالعراق وببلاد الشام. ويظهر من كتب اللغة ان لفظة " الشرطي" و "شرطة" كانت معروفة بين الناس عند ظهور الإسلام. "وفي حديث ابن مسعود: وتشرط شرطة للموت لا يرجعون إلا غالبين. وهم أول طائفة من الجيش تشهد الوقعة، وقيل: بل صاحب الشرطة في حرب بعينها".
وقد كان لملوك الحيرة سجون يسجنون بها من يتجاسر عليهم ومن يخالف أمرهم ويعارضهم ويخرج على العرف. ومن سجونهم "الصنين". وفيه سجن "عدي بن زيد العبادي". وقد ذكر انه كان موضعا بظاهر الكوفة. وذكر بعضهم انه بلد، ذكره الشاعر بقوله: ليت شعري ! متى تخب بي النا قة بين العذيب فالصنين
ولم يعين موضعه. ويظهر انه لم يكن بعيدا عن الحيرة. ولعله كان حصنا حصينا منعزلا عن الناس،به حرس كثيرون يحرسونه، لهذا اتخذ سجنا ومحبسا.
ويظهر من شعر لعدي بن زيد العبادي،ان ملوك الحيرة، كانوا قد نظموا
لهم حرسا يحرسونهم ويحرسون مؤسسات الحكومة المهمة مثل "السجون"،والأشخاص المسؤولون عن الأمن والأخبار، ليرسلوا ما قد يحدث من أمور إلى الملوك والحكام.
وقد عرف "العسس" عند الجاهليين أيضا، وهم المسؤولون عن حفظ الناس من أهل الريبة والكشف عنهم. والعس: نفض الليل كل عن أهل الريبة. وكان الخليفة "عمر" يعس بالمدينة، أي يطوف بالليل يحرس الناس ويكشف اهل الريبة.
البريد

(1/2826)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عرف "البريد" بين الجاهليين. ويذكر علماء اللغة أن اللفظة من الألفاظ المعربة عن الفارسية، وأن أصلها "بريده دم"، أي محذوف الذنب، لأن بغال البريد كانت محذوفة الأذناب كالعلامة لها، ثم سمي الرسول الذي يركبه بريدا، والمسافة التي بين السكتين بريدا. والسكة موضع كان يسكنه "الفيوج" المرتبون من بيت أو قبة أو رباط، وكان يرتب في كل سكة بغال، وبعد ما بين السكتين فرسخان، وقيل أربعة. فالبريد إذن بمعنى رسول،وموضع البريد، والشئ الذي يرسل مع البريد، أي الرسول حامل البريد، ودابة البريد.
إني أنص العيس حتى كأنني عليها بأجواز الفلاة، بريدا
ومن أعمال صاحب البريد إرسال الأخبار إلى من عينهم في هذا المنصب، فهم موظفون مخبرون، من اعمالهم اطلاع كبار الموظفين والامراء والملوك على الاحوال العامة للمكان الذي يقع في ضمن عملهم واختصاصهم، وأخبار الجهات المسؤولة عن الأعمال المشبوهة التي قد تدبر ضد الدولة، وعن تصرفات كبار الموظفين، خشية انفرادهم في الحكم واعلانهم العصيان على الدولة.
ونسب "الجاحظ" إلى " امرىء القيس" قوله: ونادمت قيصر في ملكه فأوجهني وركبت البريدا
إذا ما ازدحمنا على سكة سبقت الفرانق سبقا بعيدا
وقد نسب غيره إلى "امرىء القيس" أيضا قوله: على كل مقصوص الذنابي معاود بريد الشرى بالليل، من خيل بربرا
ومعنى هذا، إن صح بالطبع أن الشعر المذكور هو لامرىء القيس حقا، أنه عرف البريد واستعمله، وقد رأى خيل البريد. وهي تقص ذنابها ليكون ذلك علامة على انها من خيل البريد.

(1/2827)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد اشير الى البريد في الحديث: جاء " لا تقصر الصلاة في اقل من اربعة برد "، وهي ستة عشر فرسخا، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل أربعة آلاف ذراع. وورد في إلحديث أيضا "لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد"، اي لا احبس الرسل الواردين علي. وورد إذا أبردتم الي بريدا فاجعلوه حسن الوجه حسن الاسم. وعرفت الطرق التي يسير بها رسل البريد ب "سكك البريد". كل سكة منها اثني عشر ميلا.
وقد أشير إلى البريد في فى شعر ينسب إلى "ورقة بن نوفل"، يقال انه قاله حينما مات "عثمان بن ألحويرث" عند "ابن جفنة الغساني"، فاتهمت بنو أسد "ابن جفنة" بقتله. وعرف "أبو قيس" ب "راكب البريد".
وتحدث "الجاحظ" عن "البريد" في أيام الساسانين، فقال: "وكانت البرد منظومة إلى كسرى،من أقصى بلاد اليمن إلى بابه،أيام وهرز،وأيام قتل مسروق عظيم الحبشة ". "وكذلك كانت برد كسرى إلى الحيرة: إلى النعمان والى آبائه. وكذلك كانت برده إلى البحرين: إلى المكعبر مرزبان الزارة، والى مشكاب، والى المنذر بن ساوى، وكذلك.كانت برده إلى عمان، والى الجلندي بن المستكبر. فكانت بادية العرب وحاضرنها مغمورتين ببرده، إلا ما كان من ناحية الشام ؛ فإن تلك الناحية من مملكة خثعم وغسان ألروم، إلا أيام غلبت فارس على الروم، ولذلك صرنا نرى النواويس ب الشام ات إلى القسطنطينية.
وهل كانت برد كسرى إلى وهرز، وباذام،وفيروز بن الديلمي والي اليمن، والى المكعبر مرزبان الزارة، والى النعمان بالحيرة، إلا البغال ? وهل وجدوا شيا لذلك أصلح منها".

(1/2828)


--------------------------------------------------------------------------------

فالبغال هي وسيلة نقل البريد في ذلك الوقت. تتوقف في محطات البريد لتبدل البغال التعبة ببغال أخرى، وليبدل حملة البريد كذلك. وهكذا إلى آخر محطة. فهي سكك تمتد مسافات طويلة.ولما كان من الصعب على البغل اختراق الصحارى ذات الرمال البعيدة الغور والتي تقل فيها المياه، لزم أن تكون طريق البريد ممتدة في الأرضين التي يكثر وجود الماء فيها، وتتوفر فيها الآبار، وفي مواضع مأمونة قليلة الرمال.
ويظهر أن الجاهليين قد أخذوا نظم بريدهم من الفرس، وأن ملوك الحيرة
وغيرهم استخدموها في ادارتهم لدولتهم، بدليل ما يذكره علماء اللغة من أن لفظة "البريد" كلمة فارسية عربت فصارت على هذا النحو. واصها "بريده دم"، أي محذوف الذنب، لأن بغال البريد كانت محذوفة الأذناب كالعلامة لها،فأعربت وخففت، ثم سمي الرسول الذي يركبه بريدا. والمسافة التي بين السكتين بريدا، والسكة موضع كان يسكنه الفيوج المرتبون من بيت أو قبه أو رباط، وكان يرتب في كل سكة بغال، وبعد ما بين السكتين فرسخان، وقيل أربعة ولعل ما ورد في شعر امرىء القيس من "على كل مقصوص الذنابي"، إشارة إلى تفسير كلمة "بريده دم".
وقد ذكر علماء اللغة ان "الفيج" رسول السلطان على رجله، فارسي معرب. وقيل هو الذي يسعى بالكتب. والجمع "فيوج" واشاروا الى ورودها في شعر لعدي بن زيد، زعموا انه قاله هو: ام كيف جزت فيوجا، حولهم حرس ومريضا، بابه بالشك صرار?
قيل الفيوج الذين يدخلون السجن ويخرجون يحرسون.

(1/2829)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر أنهم فر قوا هنا بين "البريد"، أي الرسول الراكب، الذي ينقل البربد إلى مسافات، وبين "الفيج" الرسول الذي يسير على رجليه، وهو لا يمكن بالطبع أن يقطع أميالا كثيرة. فهوبريد محلي ينقل الاخبار الى مسافات غير بعيدة. وقد يكون مخبرا، ينقل ما يحدث ويقع بسرعة إلى المراجع العالية. فالفيوج، لصوص الأخبار وبريد ماش ينقل الكتب إلى الجهات المختصة في الوقت نفسه. ويظهر من شعر "عدي" المذكور، أن "الفيوج" كانوا يقفون للناس بالمرصاد، براقبون الحركات ويدرسون السكنات حولهم حرس منتبه، يحرسونهم من احتمال محاولة أعداء الحكومة ايقاع أي أذى بهم، أو الدخول أو الخروج إلى الأماكن الحساسة التي كانوا يلازمونها، ويسترقون أخبارها واخبار من يدخل ويخرج منها.
وأما الأبنية العامة،مثل المباني الحكومية، فقد كانت الحكومات العربية الجنوبية تقوم مستقلة بانشائها، وتنفق عليها أموالها ومن مواردها الخاصة. وتقوم بإنشائها بالاتفاق مع السلطات الدينية في أحيان أخرى. بأن تسهم تلك السلطات في تحمل نفقات البناء كلها أو جزء منها وقد يكون ذلك في مقابل نزول الحكومة عن بعض الحقوق إلى المعبد. وقد تقوم الحكومة بإنشائها بالأتفاق مع كبار المتمولين، أصحاب الأرض والثراء.
وتقوم المدن والقبائل والحكومات بالاستدانة من أموال المعبد ومن الضرائب التي تدفع اليها، للانفاق منها على إقامة الأبنية العامة والمشروعات الأخرى، على أن تعاد تلك الديون الى المعبد. ولم ترد في الكتابات اشارات إلى موقف المعابد من هذه الديون: أكانت تتقاضى أرباحا عليها أي ربا، أم كانت تعطيها قرضا حسنا من غير فائض. ويعبر عن ضرئب المعبد التي نجبى من الناس بلفظة "كبودت". وأما الدين، فيعبر عنه ب "دينم" "دين" كذلك، كما جاء في هذه الجملة: "بكبودت دين عتثر"، أي "بالضرائب التي داينها"أقرضها" الإله عتثر".
حماية الحدود

(1/2830)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن واجبات الدولة تثبيت حدودها والمحافطة عليها من كل اعتداء، وذلك بمراقبة الحدود ووضع حاميات عسكرية عليها، من "مسالح" و "مناظر" وبناء قلاع في الثغور لحمايتها من المغيرين وصدهم. وتبنى هذه التحصينات في الخطوط الأمامية وعلى مبعدة من الأماكن الكبيرة المأهولة حتى يكون في وسعها صد المغيرين، أو وقفهم حتى تأتي نجدات كبيرة من الجيوش لمحاربة الغزاة، ويكون في وسع أهل القرى والمدن الهرب بأنفسهم وأموالهم إلى مواضع آمنة.
و "المسالح" مواضع المخافة. والمسلحة كالثغر والمرقب يكون فيها أقوام يرقبون العدو لئلا يطرقهم على غرة، فإذا رأوه أعلموا أصحابهم ليتأهبوا له. ومسلحة ألجند خطاطيف لهم بين أيديهم ينفضون لهم الطريق، ويتجسسون خبر العدو ويعلمون علمهم، لئلا يهجم عليهم، ولا يدعون واحدا من العدو يدخل بلادهم. وذكر انه كان أدنى مسالح فارس إلى العرب "العذيب". فالمسالح اذن، هي الخطوط الأمامية من خطوط الدفاع عن بلد ما، ونقاط الأمان فيها، ومحل جمع المعلومات عن تحركات ونيات العدو. بها حاميات مقيمة وظبفتها الأولى الاستطلاع واخبار الجيش بقدوم عدو ما، ومشاغلته إلى وصول القوات المدافعة الكبيرة.
و "المنظرة" "موضع الربيئة" وهي المرقبة، وتكون في مواضع مشرفة مثل رأس تل أو جبل يبنى عليه بناء يجعل فيه رقباء ينظرون العدو ويحرسونه، ليتوقوا غدره وشره. فإذا أراد الاغارة، أرسلت "النظيرة" "النظورة" رسالة تحذير للتهيؤ لصد العدو. والظاهر ان اتخاذ المناظر في المواضع العالية المشرفة، هو الذي جعل علماء اللغة يفسرون المناظر بأنها أشراف الأرض لأنه ينظر منها.
و "المراقب" و "المرقبة" الموضع المشرف، يرتفع عليه الرقيب، و"الرقيب" الحارس الحافظ، و "رقيب القوم": حارسهم، وهو الذي يشرف على مرقبة ليحرسهم. وذكر علماء اللغة ان المرقبة هي المنظرة في رأس جبل أو حصن، فهي في المعاني المتقدمة.

(1/2831)


--------------------------------------------------------------------------------

و "الثغر" الموضع الذي يكون حدا فاصلا" بين الحكومتين. وهو موضع المخافة من أطراف البلاد. و "الثغرة": الثلمة،" وكل فرجة في جبل أو بطن أو طريق مسلوك. ويظهر من هذا التعريف ان الثغور هي المواضع الخطرة من الحدود، لأنها تكون بمثابة الفرجة أو الثلمة فيها يتسنى للعدو منها التسلل بسهولة الى أرض عدوه، ولهذا تجب حراستها والعناية بها، بوضع حاميات بها لتشغل العدو ولتصده من الولوج اليها.
وقد أقام الفرس والروم "مناظر" على حدودهم، على أبعاد لا يكون ما بينها بعيدا حتى يكون في وسع حماة "المناظر" أن يتعاونوا، ويقسموا العون للمنظرة التي تهدد بالخطر. وأقام الروم "طرقا" ممهدة بين هذه المناظر، ليسهل على القوات السير عليها بسرعة لنجدة المناظر وحماية الحدود.
وتلجأ الحكومات إلى اقامة استحكامات أخرى لوقاية الحدود من مهاجمة عدو لها، مثل اقامة الخنادق في بعض المواضع الخطيرة المهددة من الحدود لمنع المغيرين من عبورها، كالذي يذكره أهل الأخبارعن "خندق سابور" الذي أقامه لمنع الأعراب من العبور بقصد الغزو، ومثل اقامة بعض الحواجز والأسوار في الممرات والأودية، وربايا في المواضع المشرفة، لمراقبة حركات الأعداء وصدهم من المرور من هذه الأماكن.
ضرب النقود

(1/2832)


--------------------------------------------------------------------------------

ذكرت فيما سلف أن ملوك العرب الجنوبين، ضربوا النقود، وأن في المتاحف وفي الخزائن الخاصة ببعض الناس نقودا تعود إلى أولئك الملوك. أما بالنسبة إلى الأماكن الأخرى مثل مكة أو يثرب، فإننا لا نستطيع ان نتحدث بأي شيء عن ضرب النقود عندهم، لعدم عثور العلماء على نقد ضرب في هذه الأماكن، ولعدم ورود إشارة إلى وجود ذلك في موارد أهل الأخبار. والذي يستخلصى من هذه الموارد ان أهل تلك المواضع، كانوا يتعاملون بعملة الروم والفرس. وهي الدنانير والدراهم. كما سأتحدثء عن ذلك في الموضع المناسب عندما سأتحدث عن الأحوال الاقتصادية. ولم أجد في روايات أهل الأخبار ما يشير الى تعامل أهل مكة أو يثرب بنقود حبشية أو بنقود ضربت في العربية الجنوبية، ولم أجد فيها ولا في كتب السير والتواريخ أن المسلمين ضربوا النقد في ايام الرسول.
ولم أسمع بضرب ملوك الحييرة أو الغساسنة للنقود، ولم يعثر الباحثون كما أعلم - على نقد ضرب في عهود هؤلاء الملوك. والظاهر أنهم كانوا يتعاملون بالعملات الفارسية والرومية. وربما كان الفرس والروم قد منعوا أولئلك الملوك من ضرب النقود، لبواعث سياسية واقتصادية. ولكني لأ أريد ان أجزم بأن ا "آل لخم" و " آل غسان" لم يضربوا النقد بتاتا، استنادا الى عدم وصول نقد ضرب في أيامهم الينا حتى هذه الأيام، أو إلى عدم اشارة أهل الأخبار إلى وجوده عندهم، فقد يعثر في المستقبل على نقود تعود إلى أيامهم، هي الان في مخابئها، مسفونة تحت الأتربة، ثم إن أهل الأخبار لم يتحدثوا عن كل شيء، حتى نتخذ سكوتهم عن ضرب ملوك الحيرة والغساسنة للنقود حجة على عدم وجود ضرب السكة عندهم.

(1/2833)


--------------------------------------------------------------------------------

والسكة: حديدة منقوشة كتب عليها يضرب عليها الدراهم. والضرب الطبع، يقال: ضرب الدرهم، أي طبعه، على سبيل المجاز. و "اضطرب، بمعنى سأل ان يضرب له. وفي الحديث انه صلى الله عليه وسلم، اضطرب خاتما من حديد. أي سأل ان يضرب له ويصاغ ". والنقد تمييز الدراهم واخراج الزيف منها وأما الطبع فالسك. يقال طبع السكاك الدرهم أي سكه. وهناك مصطلحات أخرى لها صلة بالنقد، ترد في كتب الحديث واللغة يظهر منها، أنه قد كان للجاهليين ولأهل مكة بصورة خاصة وقوف على النقد، وانهم كانوا يتعاملون بها، ولهم علم بكيفية صنعها.
قواعد السلوك
وللجاهليين اداب اصطلحوا عليها بالنسبة لتعاملهم مع الملوك وسادات القبائل، فمن قواعدهم المقررة: ان الملوك لا تجز نواصيها. وذلك لأن جز النواصي بالنسبة للعرب تعبير عن الازدراء بالشخص الذي جزت ناصيته، ولما كان للملوك حرمة، فلا تجز نواصيهم، ولا تجز نواصي سادات القبائل كذلك. وقد حدث ان جزت نواصي بعض الملوك، أو اخوتهم، أو أبنائهم، أو سادات القبائل، إلا ان هذا العمل هو عمل شاذ، لا يقدم عليه، إلا لأن العداوة بين الملك وبين من قبضوا عليه أو على أقربائه أو سادات القبائل، كانت عداوة شديدة عميقة، بحيث جاوزت حد العرف فخضعت لأحكام العواطف والاهواء.
ومن قواعد اداب السلوك التي يجب على الملوك وسادات القبائل بل على كل انسان التأدب بها والتمسك بقواعدها، تجنب الغدر وإذا كان الغدر عيبا بالنسبة للسوقة وللسواد، فكم يكون الغدر معيبا بالنسبة للملوك ولسادات القبائل ولكرام الناس.
العلاقات الخارجية
لم تصل الينا حتى الآن نصوص في أصول آداب السلوك بالنسبة للعلاقات الخارجية بين الدول،أي علاقات ما بين حكومات الدول العربية والدول الأجنبية.

(1/2834)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا نعرف لذلك طرق العرف السياسي الذي كان متبعا عندهم في استقبال "الرسل" و الوفود" الذين كانوا يفدون على قصور الملوك بأمر من ساداتهم ملوك الحكومات الأجنبية من أعاجم وعرب. ولكننا نستطيع ان نقول قياسا على المألوف عند العرب، انهم كانوا يبالغون في إكرامهم وفي ضيافتهم، وفقا للتقاليد العربية ولظروفهم وامكانياتهم المحلية. وكانوا يستمعون بإنصات إلى كلامهم، ثم يردون عليهم ردا جميلا، إن حاز كلامهم موقعا حسنا في نفوس الملوك، وردا يناسب ما جاء في خطاب الرسل من تهديد أو وعد ووعيد، إن استعملوا التهديد وألوعد في خطبهم. ومتى عادوا اكرموا إكراما خاصا، ومنحوا ألطافا وهدايا على الطريقة المتبعة في ذلك العهد، وقد يحملون أولئك الرسل هدايا خاصة لمن أوفدهم اليهم، يرفقونها بكتب جوابية في بعض الاحيان، أو برسائل شفوية تبلغ للرسل ليبلغوها هم لسانا أو كتابة الى موفديهم.
و "الوفد"، القوم الغادمون للقاء العظماء، وجماعة مختارة للتقدم في لقاء العظماء. ويقال وفده الأمير الى إلأمير الذي فوقه، أي ورد رسولا. وقد كان سادات القبائل يرسلون وفودا عنهم الى إلملوك أو إلى سادات قبائل أخرى في مهام مختلفة، مثل عقد حلف أو تفاوض أو تهديد لإعلان حرب أو لتهنئة أو لتعزية أو لبيعة وما شاكل ذلك من أمور. وقد اخذت الوفود تترى على الرسول بيثرب لما استحكم وإشتد أمر الإسلام.

(1/2835)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد يكون. الرسول المرسل إلى بلاد العرب لا يعرف العربية، فيكون من الضروري إرسال مترجم معه يتقن العربية، ليقوم بأعمال الترجمة. وقد دونت الموارد اليونانية أسماء بعض الرسل الذين أرسلهم ملوك البيزنطيين الى اليمن أو إلى الغساسنة أو المناذرة، للقيام بمهمات خاصة، ولاجراء مفاوضات في أمور تتعلق بالمصالح اليونانية العربية،وقد نصوا أيضا على أسماء بعض، المترجمين الذين رافقوهم إلى ملوك العرب أو الى سادات القبائل. ويظهر أنهم كانوا يختارونهم من رجال الدين النصارى الذين كانت لهم صلات وعلاقات وثيقة بالعرب، ومنهم من كان من أصل عربي.
وكان من عادة سادات القبائل والملوك العرب، انهم إذا أرادوا ارسال ممثل عنهم الى الحكام الأجانب، لمفاوضاتهم في امور تخصهم، اختاروا من عرف بالذكاء والفطنة من أتباعهم للقيام بهذه المهمات التي تحتاج إلى ذكاء ولباقة وحسن تصرف. وهم في هذا الباب مثل غيرهم يراعون أن يكون رسولهم ممن يتقنون لغة من سيرسل اليه، وان يكون من خواصهم ومن أتباعهم، حتى لا يبوح بأسرار مهمة لأعدائهم. وأما إذا تعذر هذا الشرط، فكانوا يختارون مترجمين ثقات عربا أو عجما لمرافقة الرسول، وللتكلم بلسانه، ولنقل ما يقوله الأعاجم للرسول. ونجد في الموارد اليونانية ان عرب بلاد الشام، أرسلوا رجال دين عنهم الى حكام بلاد الشام أو الى القسطنطينية لمفاوضة الروم في المهمات التي كانوا يكلفون بها. ويظهر أنهم إنما لجأوا الى هؤلاء، لأنهم كانوا يتقنون اليونانية ولأنهم نصارى، والروم نصارى كذلك. ولبعضهم صلات برجال الكنيسة في القسطنطينية، فيساعد الدين في تسهيل حل ألمشكلات.

(1/2836)

admin
01-01-2011, 01:06 AM
ودفع الجاهليون فى ضرائب أخرى، منها: "الأشناق" و "الأوقاص". وقد خص بعض العلماء "الأشناق" بالإبل: فإذا كانت من البقر، فهي "الأوقاص". وقد تحدث العلماء عن حدود الأشناق والأوقاص في الإسلام. وفي كتب الفقه أبواب خاصة بهما.
وكان منهم من تحايل في سبيل التخلص من أداء ما عليه من الأشناق و الأوقاص. وقد كتب الرسول إلى "وائل بن حجر": لا خلاط، ولا وراط،ولاشناق ولا شغار. وعين الرسول الحدود فيهما. و الوراط: الخديعة والغش.
وليس في استطاعتنا تعيين الضرائب المجباة، وتحديدها تحديدا مضبوطا، فقد كانت تختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة. ثم إن العادة أن تؤخذ الضريبة من القبيلة أو العشيرة مجتمعة، أي ان رئيس القبيلة أو العشيرة هو الذي يتولى تقديم ما على القبيلة من ضرائب إلى الحكومة، ويختلف ذلك أيضا بحسب صلة الرئيس بالحكومة، وبحسب قوته و مركزه السياسي لدى المسؤولين. والرئيس هو الذي يعين نصيب أفراد القبيلة من الضرائب، وذلك بعد اتفاقه مع الحكومة على ما هو مفروض على القبيلة دفعه لها، وبعد موافقة مجلس القبيلة على ما فرض على القبيلة دفعه إلى الحكومة.
هذه هي الضرائب التي كانت تدفع عن التعامل والاتجار. وهناك ضرائب أخرى أوجب دفعها إلى سادات القبائل في مقابل حماية القوافل وضمان مرور التجارة في أرضهم بأمان وسلام، وهي ضرائب حق المرور. وإلا تعرضت التجارة للنهب والسلب، وتعرض أصحاب القافلة للخطر والهلاك. ولحماية التجارة يتفق التجار عادة مع سادات القبائل التي تمر القوافل في أرضهم على دفع جعالة في مقابل تقديم الحماية لها والمحافظة على سلامتها، وبذلك تمر بأمن وسلام.

(1/2820)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي "قتبان" نجد نفوذ المعبد على الأهلين كبيرا. وللمعبد أرضون واسعة تدر عليه دخلا كبيرا، وله ضرائب تبلغ عشر الدخل والميراث والمشتريات.بالإضافة الى النذور والعطايا التي يتبرع بها الأغنياء له. وقد حفظت النصوص القتبانية وثائق عديدة تتعلق بما كان يتقاضاه المعبد من زكاة وأموال تزكية لأعمالهم ولأنفسهم، باسم الآلهة التي لها سلطان كبير على الناس.
ولما كانت النقود قليلة إذ ذاك، كان دفع الضرائب عينا في الغالب. ويعبر عن ذلك ب "دعتم". أما إذا كان الدفع نقدا، فيعبر عن ذلك ب "ورقم".
أي "ورق".
وقد كانت الحكومة تضع يدها على المحصول أحيانا أو على البضاعة المهربة أو البضاعة التي يمتنع أصحابها عن دفع الضريبة عنها ويعبر عن ذلك ب "رزم".
تقدير الغلات الزراعية.
،كان تقدير حصة الحكومة من الغلات الزراعية، بواسطة خبراء الحكومة وموظفيها المسؤولين عن جمع الضرائب، وذلك لأنهم كانوا يذهبون إلى المزارع والبساتين إبان إدراك النبات وقيل حصاده أو جنيه، ثم يخمنونه ويقدرون مقدار ما يجب دفعه للحكومة. وطالما أدت هذه الطريقة إلى الأضرار بالفلاح، إذ يجوز أن يتعرض الزرع لآفات زراعية وللتلف والضرر، فيقل الحاصل كثيرا، ولا يستطيع تحمل دفع ما قدر عليه، ولكن جباة الضرائب يأخذون حصة الحكومة منه كما قدروها دون نقص، فإذا امتنع المكلف، أخذ حاصله حتى يستوفى منه ما قدروه عليه.
ولم يكن من حق الفلاح حصاد زرعه وحمله إلى مخزنه أو جني ثمر زرعه ونقله الى الأسواق والتصرف به ما لم يره جباة الضرائب لأخذ حصة الحكومة العينية. وقد استتبع هذا النظام تعيين عدد كبير من جباة الضرائب، وانشاء مخازن لنقل حصص الحكومة اليها. وتستهلك الحكومة جزءا من هذا الحاصل، وتدفع قسما منه إلى موظفيها فالمدفوع لهم، هو مرتباتهم وأجر عملهم. أما الباقي فيباع في الأسواق، أو يصد ر لبيعه في البلدان الخارجية، ولا سيما الحاصل المهم الثمين.

(1/2821)


--------------------------------------------------------------------------------

ويتقاضى المعبد في "معين" جملة ضرائب من الرؤساء وسائر الناس. لكل ضريبة اسم،مثل "كبودت" و "اكرب" و "عشر" و "فرع". وبعض هذه الضرائب تجبى عن حاصل الأرض وغلتها، وبعضها عن التجارة والأعمال الأخرى مثل الصناعات. ولم يشترط دفعها كلها عينا أو نقدا، بل كانت تدفع عملا أحيانا، أي أن المكلفين بدفع الضرائب وجمعها من أتباعهم يقدمون الفعلة والصناع وعمال البناء أحيانا إلى الحكومة، أو إلى المعبد، للقيام بالأشغال العامة بالمجان بدلا من تقديم الضرائب نقدا أوعينا. وذلك متى وافق المعبد على ذلك واعتبر الآلهة راضية عن انشاء ذلك العمل.
وكانت الحكومات العربية الجنوبية تتقاضى ضرائب عن المغازل ودور النسيج. ويظهر ان أهل الحجاز كانوا يعرفون هذه الضريبة أيضا. وقد ورد ان الرسول فرض في كتاب لقوم من اليهود ربع المغزل، أي ربع ما غزل.
الركاز

(1/2822)


--------------------------------------------------------------------------------

أغلب العلماء في الإسلام ان الركاز دفين اهل الجاهلية، أي الكنز الجاهلي. وقال بعض العلماء الركاز المعادن كلها.فمن استخرج منها شئ فلمستخرجها أربعة أخماسه ولبيت المال الخمس. وكذلك المال العادي يوجد مدفونا، هو مثل المعدن سواء، فحكم الركاز تأدية خمسه لبيت المال. أما بالنسبة إلى الجاهليين، فلا توجد عندنا نصوص جاهلية في بيان نصيب الحكومات منه.ويظهر من مطالبة سادات أهل مكة "عبد المطلب" بنصيبهم من الكنز الذي عثر عليه عند حفره بئر زمزم، ان حجتهم في المطالبة لم تكن تستند على قانون سابق، بل ارتكزت على ان الكنز لم يعثر عليه في أرض ملك، رقبتها لعبد المطلب، حتى يستأثر به، وانما عثر عليه في أرض مقدسة مشاعة، تخص البيت الحرام واهل مكة كلهم،لذلك وجب إشراك غيره به ومعنى هذا ان من يعثر على كنز في ملك له،يكون من حقه ونصيبه، لا تشاركه قريش فيه. وقد وجد "عبد الله بن جدعان" كنزا، سبق ان أشرت اليه، فلم يعط سادة قريش منه شيئا، وكان من عادة،اهل مكة نبش المواضع العادية بحثا عن الكنوز، ولم تجد في الأخبار المروية عن ذلك ما يفيد بمشاطرة قريش لمن يعثر على كنز،معنى ان من يستخرج شيئا من الدفائن يكون ما يستخرجه من نصيبه، لا تأخذ مكة منه نصيبا. وكيف تتمكن من ذلك، لأن من يعثر على كنز لا يظهره للناس، خشية اغتصابهم له.وان من شاهد أحدا يستخرج كنزا استعمل حق القوة في الاستحواذ عليه أو على نصيب منه.
النذور والصدقات

(1/2823)


--------------------------------------------------------------------------------

وما تحدثت عنه هو الضرائب المفروضة التي يجب على من تشمله دفعها. أما النذور والصدقات، فهي هبة يقدمها المتمكن طوعا للتقرب إلى آلهته أو شعورا بمسؤولية أدبية يقتضيه واجب المروءة تجاه الضعفاء. والصدقة: ما تصدقت به على الفقراء وقد أشير اليها في القرآن الكريم. وقد تؤدي معنى "الزكاة".ووردت في معنى "المهر" أيضا أي الصداق الذي يقدم إلى المرأة. ويظهر أن الجاهليين كانوا يستعملونها في معنى التصدق على المحتاج والسائل.
وأما الزكاة، فهي ما يخرج من المال لتطهيره، فهي تزكية اختيارية للمال وطهارة له. وقد جعلها الإسلام فريضة على المسلم المتمكن بحسب الأنصبة المقررة في الشرع. وهي "زكوتو" Zakutu عند البابليين. وقد نص عليها في العهد القديم. وهي أن يقدم أصحاب الزرع من أول ثمرهم إلى الكاهن ليقدمه إلى الرب، وأن يسمح للفقراء بالتقاط ما يجدونه على الأرض مهملا من بقايا الزرع،وأن يعطى الكهنة واليتامى والفقراء والغرباء والأرامل والمحتاجين عشر محاصيل الأرض. وقد كثرت الإشارة اليها في العهد الجديد.
وإذا اعتددنا العشر الذي كان يقدمه العرب الجنوبيون إلى المعبد من حاصل عملهم، لصرفه على المعبد وفي الأعمال الخيرية زكاة، ففي استطاعتنا أن نقول إنها كانت مفروضة على المتمكن فرضا، أي على نحو ما تجده في الإسلام. غير ان من الجاهليين من كان يقدم زكاة المال من ماشية وإبل وزرع طوعا واختيارا تقربا إلى الآلهة، يقدمها إلى المعابد تخصيصا باسم الأصنام. ومن هذا القبيل السائبة والحامي الوصيلة ونحو ذلك، مما خصصه الجاهليون لآلهتهم تطوعا، وذلك تزكية لأموالهم وأملا في نماء أموالهم الجديدة وحدوث البركة فيها.
السخرة

(1/2824)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان من حق الدولة وسادات الأرض والقبائل تسخير الناس في الأعمال التي يريدون القيام بها بلا عوض ولا أجر ولا دفع مقابل عن العمل الذي يؤمرون القيام به. ونظام السخرة شائع معروف عند جميع الأمم. وقد كان معمولا به عند بعض الشعوب الى عهد قريب. فكان من حق الحكومة إكراه أتباعها وأخذهم بالقوة وسوقهم للقيام بأداء أي عمل تريده. وفي ضمن ذلك المباني العامة و القصور.
وبها تم انشاء معظم المباني الفخمة مثل الأهرام والمعابد، حيث لا يكلف العمل بهذه الطريقة الحكومة كثيرا، فالعمال مسخرون لا يدفع لهم شيء، وعليهم أداء عملهم بسرعة و حمل أكثر ما يمكن حمله،و الا انهالت عليهم سياط المراقبين.
ويدخل في هذه السخرة، السخرة العسكرية، أي القبض على أي شخص عند الحاجة وسوقه الى القتال، وذلك من غير مقابل أيضا. وقد كابد سواد الناس منها عنتا شديدا لفقرهم ولعدم وجود شيء عندهم تعتمد أسرهم عليه في،معيشتها إذا غاب المعيل أو مات، ولهذا لم يحارب المحاربون إلا قصرا وخشية ورهبة، وكانوا يهربون من هذه "السخرة" بالرغم مما قد يتعرض له الهارب من عقوبة شديدة قد تصل إلى القتل.
واجبات الدولة
واجبات الدولة كثيرة، فإن عليها ان تحفظ الأمن في الداخل، وتحمي الحدود من مهاجمة الأعداء لها، وتصد كل غزو يقع عليها، وعليها ان تحقق العدالة، وتقتص من الجناة وتعاقب المجرمين، وعليها أن تقيم الأبنية العامة وتفتح الطرق، إلى غير ذلك من الواجبات التي نعرفها عن الغاية من نشوء الحكومات.
ونحن لا نستطيع ان نتحدث في الزمن الحاضر عن جهاز حفظ الأمن الداخلي،أي جهاز "الشرطة" الذي تناط به مهمة القبض على المجرمين وتعقب اللصوص والقتلة وما إلى ذلك من شؤون لعدم ورود شيء عن هذا الموضوع في الكتابات.

(1/2825)


--------------------------------------------------------------------------------

ولكننا لا نستطيع نفي وجود علم للجاهليين الحضر بالشرطة. فلا بد وان يكون لهم علم بأجهزة الأمن المخصصة بالقبض على المجرمين وتعقب آثارهم، أي الشرطة. وقد كان لهم اتصال بالعراق وببلاد الشام. ويظهر من كتب اللغة ان لفظة " الشرطي" و "شرطة" كانت معروفة بين الناس عند ظهور الإسلام. "وفي حديث ابن مسعود: وتشرط شرطة للموت لا يرجعون إلا غالبين. وهم أول طائفة من الجيش تشهد الوقعة، وقيل: بل صاحب الشرطة في حرب بعينها".
وقد كان لملوك الحيرة سجون يسجنون بها من يتجاسر عليهم ومن يخالف أمرهم ويعارضهم ويخرج على العرف. ومن سجونهم "الصنين". وفيه سجن "عدي بن زيد العبادي". وقد ذكر انه كان موضعا بظاهر الكوفة. وذكر بعضهم انه بلد، ذكره الشاعر بقوله: ليت شعري ! متى تخب بي النا قة بين العذيب فالصنين
ولم يعين موضعه. ويظهر انه لم يكن بعيدا عن الحيرة. ولعله كان حصنا حصينا منعزلا عن الناس،به حرس كثيرون يحرسونه، لهذا اتخذ سجنا ومحبسا.
ويظهر من شعر لعدي بن زيد العبادي،ان ملوك الحيرة، كانوا قد نظموا
لهم حرسا يحرسونهم ويحرسون مؤسسات الحكومة المهمة مثل "السجون"،والأشخاص المسؤولون عن الأمن والأخبار، ليرسلوا ما قد يحدث من أمور إلى الملوك والحكام.
وقد عرف "العسس" عند الجاهليين أيضا، وهم المسؤولون عن حفظ الناس من أهل الريبة والكشف عنهم. والعس: نفض الليل كل عن أهل الريبة. وكان الخليفة "عمر" يعس بالمدينة، أي يطوف بالليل يحرس الناس ويكشف اهل الريبة.
البريد

(1/2826)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عرف "البريد" بين الجاهليين. ويذكر علماء اللغة أن اللفظة من الألفاظ المعربة عن الفارسية، وأن أصلها "بريده دم"، أي محذوف الذنب، لأن بغال البريد كانت محذوفة الأذناب كالعلامة لها، ثم سمي الرسول الذي يركبه بريدا، والمسافة التي بين السكتين بريدا. والسكة موضع كان يسكنه "الفيوج" المرتبون من بيت أو قبة أو رباط، وكان يرتب في كل سكة بغال، وبعد ما بين السكتين فرسخان، وقيل أربعة. فالبريد إذن بمعنى رسول،وموضع البريد، والشئ الذي يرسل مع البريد، أي الرسول حامل البريد، ودابة البريد.
إني أنص العيس حتى كأنني عليها بأجواز الفلاة، بريدا
ومن أعمال صاحب البريد إرسال الأخبار إلى من عينهم في هذا المنصب، فهم موظفون مخبرون، من اعمالهم اطلاع كبار الموظفين والامراء والملوك على الاحوال العامة للمكان الذي يقع في ضمن عملهم واختصاصهم، وأخبار الجهات المسؤولة عن الأعمال المشبوهة التي قد تدبر ضد الدولة، وعن تصرفات كبار الموظفين، خشية انفرادهم في الحكم واعلانهم العصيان على الدولة.
ونسب "الجاحظ" إلى " امرىء القيس" قوله: ونادمت قيصر في ملكه فأوجهني وركبت البريدا
إذا ما ازدحمنا على سكة سبقت الفرانق سبقا بعيدا
وقد نسب غيره إلى "امرىء القيس" أيضا قوله: على كل مقصوص الذنابي معاود بريد الشرى بالليل، من خيل بربرا
ومعنى هذا، إن صح بالطبع أن الشعر المذكور هو لامرىء القيس حقا، أنه عرف البريد واستعمله، وقد رأى خيل البريد. وهي تقص ذنابها ليكون ذلك علامة على انها من خيل البريد.

(1/2827)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد اشير الى البريد في الحديث: جاء " لا تقصر الصلاة في اقل من اربعة برد "، وهي ستة عشر فرسخا، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل أربعة آلاف ذراع. وورد في إلحديث أيضا "لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد"، اي لا احبس الرسل الواردين علي. وورد إذا أبردتم الي بريدا فاجعلوه حسن الوجه حسن الاسم. وعرفت الطرق التي يسير بها رسل البريد ب "سكك البريد". كل سكة منها اثني عشر ميلا.
وقد أشير إلى البريد في فى شعر ينسب إلى "ورقة بن نوفل"، يقال انه قاله حينما مات "عثمان بن ألحويرث" عند "ابن جفنة الغساني"، فاتهمت بنو أسد "ابن جفنة" بقتله. وعرف "أبو قيس" ب "راكب البريد".
وتحدث "الجاحظ" عن "البريد" في أيام الساسانين، فقال: "وكانت البرد منظومة إلى كسرى،من أقصى بلاد اليمن إلى بابه،أيام وهرز،وأيام قتل مسروق عظيم الحبشة ". "وكذلك كانت برد كسرى إلى الحيرة: إلى النعمان والى آبائه. وكذلك كانت برده إلى البحرين: إلى المكعبر مرزبان الزارة، والى مشكاب، والى المنذر بن ساوى، وكذلك.كانت برده إلى عمان، والى الجلندي بن المستكبر. فكانت بادية العرب وحاضرنها مغمورتين ببرده، إلا ما كان من ناحية الشام ؛ فإن تلك الناحية من مملكة خثعم وغسان ألروم، إلا أيام غلبت فارس على الروم، ولذلك صرنا نرى النواويس ب الشام ات إلى القسطنطينية.
وهل كانت برد كسرى إلى وهرز، وباذام،وفيروز بن الديلمي والي اليمن، والى المكعبر مرزبان الزارة، والى النعمان بالحيرة، إلا البغال ? وهل وجدوا شيا لذلك أصلح منها".

(1/2828)


--------------------------------------------------------------------------------

فالبغال هي وسيلة نقل البريد في ذلك الوقت. تتوقف في محطات البريد لتبدل البغال التعبة ببغال أخرى، وليبدل حملة البريد كذلك. وهكذا إلى آخر محطة. فهي سكك تمتد مسافات طويلة.ولما كان من الصعب على البغل اختراق الصحارى ذات الرمال البعيدة الغور والتي تقل فيها المياه، لزم أن تكون طريق البريد ممتدة في الأرضين التي يكثر وجود الماء فيها، وتتوفر فيها الآبار، وفي مواضع مأمونة قليلة الرمال.
ويظهر أن الجاهليين قد أخذوا نظم بريدهم من الفرس، وأن ملوك الحيرة
وغيرهم استخدموها في ادارتهم لدولتهم، بدليل ما يذكره علماء اللغة من أن لفظة "البريد" كلمة فارسية عربت فصارت على هذا النحو. واصها "بريده دم"، أي محذوف الذنب، لأن بغال البريد كانت محذوفة الأذناب كالعلامة لها،فأعربت وخففت، ثم سمي الرسول الذي يركبه بريدا. والمسافة التي بين السكتين بريدا، والسكة موضع كان يسكنه الفيوج المرتبون من بيت أو قبه أو رباط، وكان يرتب في كل سكة بغال، وبعد ما بين السكتين فرسخان، وقيل أربعة ولعل ما ورد في شعر امرىء القيس من "على كل مقصوص الذنابي"، إشارة إلى تفسير كلمة "بريده دم".
وقد ذكر علماء اللغة ان "الفيج" رسول السلطان على رجله، فارسي معرب. وقيل هو الذي يسعى بالكتب. والجمع "فيوج" واشاروا الى ورودها في شعر لعدي بن زيد، زعموا انه قاله هو: ام كيف جزت فيوجا، حولهم حرس ومريضا، بابه بالشك صرار?
قيل الفيوج الذين يدخلون السجن ويخرجون يحرسون.

(1/2829)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر أنهم فر قوا هنا بين "البريد"، أي الرسول الراكب، الذي ينقل البربد إلى مسافات، وبين "الفيج" الرسول الذي يسير على رجليه، وهو لا يمكن بالطبع أن يقطع أميالا كثيرة. فهوبريد محلي ينقل الاخبار الى مسافات غير بعيدة. وقد يكون مخبرا، ينقل ما يحدث ويقع بسرعة إلى المراجع العالية. فالفيوج، لصوص الأخبار وبريد ماش ينقل الكتب إلى الجهات المختصة في الوقت نفسه. ويظهر من شعر "عدي" المذكور، أن "الفيوج" كانوا يقفون للناس بالمرصاد، براقبون الحركات ويدرسون السكنات حولهم حرس منتبه، يحرسونهم من احتمال محاولة أعداء الحكومة ايقاع أي أذى بهم، أو الدخول أو الخروج إلى الأماكن الحساسة التي كانوا يلازمونها، ويسترقون أخبارها واخبار من يدخل ويخرج منها.
وأما الأبنية العامة،مثل المباني الحكومية، فقد كانت الحكومات العربية الجنوبية تقوم مستقلة بانشائها، وتنفق عليها أموالها ومن مواردها الخاصة. وتقوم بإنشائها بالاتفاق مع السلطات الدينية في أحيان أخرى. بأن تسهم تلك السلطات في تحمل نفقات البناء كلها أو جزء منها وقد يكون ذلك في مقابل نزول الحكومة عن بعض الحقوق إلى المعبد. وقد تقوم الحكومة بإنشائها بالأتفاق مع كبار المتمولين، أصحاب الأرض والثراء.
وتقوم المدن والقبائل والحكومات بالاستدانة من أموال المعبد ومن الضرائب التي تدفع اليها، للانفاق منها على إقامة الأبنية العامة والمشروعات الأخرى، على أن تعاد تلك الديون الى المعبد. ولم ترد في الكتابات اشارات إلى موقف المعابد من هذه الديون: أكانت تتقاضى أرباحا عليها أي ربا، أم كانت تعطيها قرضا حسنا من غير فائض. ويعبر عن ضرئب المعبد التي نجبى من الناس بلفظة "كبودت". وأما الدين، فيعبر عنه ب "دينم" "دين" كذلك، كما جاء في هذه الجملة: "بكبودت دين عتثر"، أي "بالضرائب التي داينها"أقرضها" الإله عتثر".
حماية الحدود

(1/2830)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن واجبات الدولة تثبيت حدودها والمحافطة عليها من كل اعتداء، وذلك بمراقبة الحدود ووضع حاميات عسكرية عليها، من "مسالح" و "مناظر" وبناء قلاع في الثغور لحمايتها من المغيرين وصدهم. وتبنى هذه التحصينات في الخطوط الأمامية وعلى مبعدة من الأماكن الكبيرة المأهولة حتى يكون في وسعها صد المغيرين، أو وقفهم حتى تأتي نجدات كبيرة من الجيوش لمحاربة الغزاة، ويكون في وسع أهل القرى والمدن الهرب بأنفسهم وأموالهم إلى مواضع آمنة.
و "المسالح" مواضع المخافة. والمسلحة كالثغر والمرقب يكون فيها أقوام يرقبون العدو لئلا يطرقهم على غرة، فإذا رأوه أعلموا أصحابهم ليتأهبوا له. ومسلحة ألجند خطاطيف لهم بين أيديهم ينفضون لهم الطريق، ويتجسسون خبر العدو ويعلمون علمهم، لئلا يهجم عليهم، ولا يدعون واحدا من العدو يدخل بلادهم. وذكر انه كان أدنى مسالح فارس إلى العرب "العذيب". فالمسالح اذن، هي الخطوط الأمامية من خطوط الدفاع عن بلد ما، ونقاط الأمان فيها، ومحل جمع المعلومات عن تحركات ونيات العدو. بها حاميات مقيمة وظبفتها الأولى الاستطلاع واخبار الجيش بقدوم عدو ما، ومشاغلته إلى وصول القوات المدافعة الكبيرة.
و "المنظرة" "موضع الربيئة" وهي المرقبة، وتكون في مواضع مشرفة مثل رأس تل أو جبل يبنى عليه بناء يجعل فيه رقباء ينظرون العدو ويحرسونه، ليتوقوا غدره وشره. فإذا أراد الاغارة، أرسلت "النظيرة" "النظورة" رسالة تحذير للتهيؤ لصد العدو. والظاهر ان اتخاذ المناظر في المواضع العالية المشرفة، هو الذي جعل علماء اللغة يفسرون المناظر بأنها أشراف الأرض لأنه ينظر منها.
و "المراقب" و "المرقبة" الموضع المشرف، يرتفع عليه الرقيب، و"الرقيب" الحارس الحافظ، و "رقيب القوم": حارسهم، وهو الذي يشرف على مرقبة ليحرسهم. وذكر علماء اللغة ان المرقبة هي المنظرة في رأس جبل أو حصن، فهي في المعاني المتقدمة.

(1/2831)


--------------------------------------------------------------------------------

و "الثغر" الموضع الذي يكون حدا فاصلا" بين الحكومتين. وهو موضع المخافة من أطراف البلاد. و "الثغرة": الثلمة،" وكل فرجة في جبل أو بطن أو طريق مسلوك. ويظهر من هذا التعريف ان الثغور هي المواضع الخطرة من الحدود، لأنها تكون بمثابة الفرجة أو الثلمة فيها يتسنى للعدو منها التسلل بسهولة الى أرض عدوه، ولهذا تجب حراستها والعناية بها، بوضع حاميات بها لتشغل العدو ولتصده من الولوج اليها.
وقد أقام الفرس والروم "مناظر" على حدودهم، على أبعاد لا يكون ما بينها بعيدا حتى يكون في وسع حماة "المناظر" أن يتعاونوا، ويقسموا العون للمنظرة التي تهدد بالخطر. وأقام الروم "طرقا" ممهدة بين هذه المناظر، ليسهل على القوات السير عليها بسرعة لنجدة المناظر وحماية الحدود.
وتلجأ الحكومات إلى اقامة استحكامات أخرى لوقاية الحدود من مهاجمة عدو لها، مثل اقامة الخنادق في بعض المواضع الخطيرة المهددة من الحدود لمنع المغيرين من عبورها، كالذي يذكره أهل الأخبارعن "خندق سابور" الذي أقامه لمنع الأعراب من العبور بقصد الغزو، ومثل اقامة بعض الحواجز والأسوار في الممرات والأودية، وربايا في المواضع المشرفة، لمراقبة حركات الأعداء وصدهم من المرور من هذه الأماكن.
ضرب النقود

(1/2832)


--------------------------------------------------------------------------------

ذكرت فيما سلف أن ملوك العرب الجنوبين، ضربوا النقود، وأن في المتاحف وفي الخزائن الخاصة ببعض الناس نقودا تعود إلى أولئك الملوك. أما بالنسبة إلى الأماكن الأخرى مثل مكة أو يثرب، فإننا لا نستطيع ان نتحدث بأي شيء عن ضرب النقود عندهم، لعدم عثور العلماء على نقد ضرب في هذه الأماكن، ولعدم ورود إشارة إلى وجود ذلك في موارد أهل الأخبار. والذي يستخلصى من هذه الموارد ان أهل تلك المواضع، كانوا يتعاملون بعملة الروم والفرس. وهي الدنانير والدراهم. كما سأتحدثء عن ذلك في الموضع المناسب عندما سأتحدث عن الأحوال الاقتصادية. ولم أجد في روايات أهل الأخبار ما يشير الى تعامل أهل مكة أو يثرب بنقود حبشية أو بنقود ضربت في العربية الجنوبية، ولم أجد فيها ولا في كتب السير والتواريخ أن المسلمين ضربوا النقد في ايام الرسول.
ولم أسمع بضرب ملوك الحييرة أو الغساسنة للنقود، ولم يعثر الباحثون كما أعلم - على نقد ضرب في عهود هؤلاء الملوك. والظاهر أنهم كانوا يتعاملون بالعملات الفارسية والرومية. وربما كان الفرس والروم قد منعوا أولئلك الملوك من ضرب النقود، لبواعث سياسية واقتصادية. ولكني لأ أريد ان أجزم بأن ا "آل لخم" و " آل غسان" لم يضربوا النقد بتاتا، استنادا الى عدم وصول نقد ضرب في أيامهم الينا حتى هذه الأيام، أو إلى عدم اشارة أهل الأخبار إلى وجوده عندهم، فقد يعثر في المستقبل على نقود تعود إلى أيامهم، هي الان في مخابئها، مسفونة تحت الأتربة، ثم إن أهل الأخبار لم يتحدثوا عن كل شيء، حتى نتخذ سكوتهم عن ضرب ملوك الحيرة والغساسنة للنقود حجة على عدم وجود ضرب السكة عندهم.

(1/2833)


--------------------------------------------------------------------------------

والسكة: حديدة منقوشة كتب عليها يضرب عليها الدراهم. والضرب الطبع، يقال: ضرب الدرهم، أي طبعه، على سبيل المجاز. و "اضطرب، بمعنى سأل ان يضرب له. وفي الحديث انه صلى الله عليه وسلم، اضطرب خاتما من حديد. أي سأل ان يضرب له ويصاغ ". والنقد تمييز الدراهم واخراج الزيف منها وأما الطبع فالسك. يقال طبع السكاك الدرهم أي سكه. وهناك مصطلحات أخرى لها صلة بالنقد، ترد في كتب الحديث واللغة يظهر منها، أنه قد كان للجاهليين ولأهل مكة بصورة خاصة وقوف على النقد، وانهم كانوا يتعاملون بها، ولهم علم بكيفية صنعها.
قواعد السلوك
وللجاهليين اداب اصطلحوا عليها بالنسبة لتعاملهم مع الملوك وسادات القبائل، فمن قواعدهم المقررة: ان الملوك لا تجز نواصيها. وذلك لأن جز النواصي بالنسبة للعرب تعبير عن الازدراء بالشخص الذي جزت ناصيته، ولما كان للملوك حرمة، فلا تجز نواصيهم، ولا تجز نواصي سادات القبائل كذلك. وقد حدث ان جزت نواصي بعض الملوك، أو اخوتهم، أو أبنائهم، أو سادات القبائل، إلا ان هذا العمل هو عمل شاذ، لا يقدم عليه، إلا لأن العداوة بين الملك وبين من قبضوا عليه أو على أقربائه أو سادات القبائل، كانت عداوة شديدة عميقة، بحيث جاوزت حد العرف فخضعت لأحكام العواطف والاهواء.
ومن قواعد اداب السلوك التي يجب على الملوك وسادات القبائل بل على كل انسان التأدب بها والتمسك بقواعدها، تجنب الغدر وإذا كان الغدر عيبا بالنسبة للسوقة وللسواد، فكم يكون الغدر معيبا بالنسبة للملوك ولسادات القبائل ولكرام الناس.
العلاقات الخارجية
لم تصل الينا حتى الآن نصوص في أصول آداب السلوك بالنسبة للعلاقات الخارجية بين الدول،أي علاقات ما بين حكومات الدول العربية والدول الأجنبية.

(1/2834)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا نعرف لذلك طرق العرف السياسي الذي كان متبعا عندهم في استقبال "الرسل" و الوفود" الذين كانوا يفدون على قصور الملوك بأمر من ساداتهم ملوك الحكومات الأجنبية من أعاجم وعرب. ولكننا نستطيع ان نقول قياسا على المألوف عند العرب، انهم كانوا يبالغون في إكرامهم وفي ضيافتهم، وفقا للتقاليد العربية ولظروفهم وامكانياتهم المحلية. وكانوا يستمعون بإنصات إلى كلامهم، ثم يردون عليهم ردا جميلا، إن حاز كلامهم موقعا حسنا في نفوس الملوك، وردا يناسب ما جاء في خطاب الرسل من تهديد أو وعد ووعيد، إن استعملوا التهديد وألوعد في خطبهم. ومتى عادوا اكرموا إكراما خاصا، ومنحوا ألطافا وهدايا على الطريقة المتبعة في ذلك العهد، وقد يحملون أولئك الرسل هدايا خاصة لمن أوفدهم اليهم، يرفقونها بكتب جوابية في بعض الاحيان، أو برسائل شفوية تبلغ للرسل ليبلغوها هم لسانا أو كتابة الى موفديهم.
و "الوفد"، القوم الغادمون للقاء العظماء، وجماعة مختارة للتقدم في لقاء العظماء. ويقال وفده الأمير الى إلأمير الذي فوقه، أي ورد رسولا. وقد كان سادات القبائل يرسلون وفودا عنهم الى إلملوك أو إلى سادات قبائل أخرى في مهام مختلفة، مثل عقد حلف أو تفاوض أو تهديد لإعلان حرب أو لتهنئة أو لتعزية أو لبيعة وما شاكل ذلك من أمور. وقد اخذت الوفود تترى على الرسول بيثرب لما استحكم وإشتد أمر الإسلام.

(1/2835)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد يكون. الرسول المرسل إلى بلاد العرب لا يعرف العربية، فيكون من الضروري إرسال مترجم معه يتقن العربية، ليقوم بأعمال الترجمة. وقد دونت الموارد اليونانية أسماء بعض الرسل الذين أرسلهم ملوك البيزنطيين الى اليمن أو إلى الغساسنة أو المناذرة، للقيام بمهمات خاصة، ولاجراء مفاوضات في أمور تتعلق بالمصالح اليونانية العربية،وقد نصوا أيضا على أسماء بعض، المترجمين الذين رافقوهم إلى ملوك العرب أو الى سادات القبائل. ويظهر أنهم كانوا يختارونهم من رجال الدين النصارى الذين كانت لهم صلات وعلاقات وثيقة بالعرب، ومنهم من كان من أصل عربي.
وكان من عادة سادات القبائل والملوك العرب، انهم إذا أرادوا ارسال ممثل عنهم الى الحكام الأجانب، لمفاوضاتهم في امور تخصهم، اختاروا من عرف بالذكاء والفطنة من أتباعهم للقيام بهذه المهمات التي تحتاج إلى ذكاء ولباقة وحسن تصرف. وهم في هذا الباب مثل غيرهم يراعون أن يكون رسولهم ممن يتقنون لغة من سيرسل اليه، وان يكون من خواصهم ومن أتباعهم، حتى لا يبوح بأسرار مهمة لأعدائهم. وأما إذا تعذر هذا الشرط، فكانوا يختارون مترجمين ثقات عربا أو عجما لمرافقة الرسول، وللتكلم بلسانه، ولنقل ما يقوله الأعاجم للرسول. ونجد في الموارد اليونانية ان عرب بلاد الشام، أرسلوا رجال دين عنهم الى حكام بلاد الشام أو الى القسطنطينية لمفاوضة الروم في المهمات التي كانوا يكلفون بها. ويظهر أنهم إنما لجأوا الى هؤلاء، لأنهم كانوا يتقنون اليونانية ولأنهم نصارى، والروم نصارى كذلك. ولبعضهم صلات برجال الكنيسة في القسطنطينية، فيساعد الدين في تسهيل حل ألمشكلات.

(1/2836)

admin
01-01-2011, 01:06 AM
ودفع الجاهليون فى ضرائب أخرى، منها: "الأشناق" و "الأوقاص". وقد خص بعض العلماء "الأشناق" بالإبل: فإذا كانت من البقر، فهي "الأوقاص". وقد تحدث العلماء عن حدود الأشناق والأوقاص في الإسلام. وفي كتب الفقه أبواب خاصة بهما.
وكان منهم من تحايل في سبيل التخلص من أداء ما عليه من الأشناق و الأوقاص. وقد كتب الرسول إلى "وائل بن حجر": لا خلاط، ولا وراط،ولاشناق ولا شغار. وعين الرسول الحدود فيهما. و الوراط: الخديعة والغش.
وليس في استطاعتنا تعيين الضرائب المجباة، وتحديدها تحديدا مضبوطا، فقد كانت تختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة. ثم إن العادة أن تؤخذ الضريبة من القبيلة أو العشيرة مجتمعة، أي ان رئيس القبيلة أو العشيرة هو الذي يتولى تقديم ما على القبيلة من ضرائب إلى الحكومة، ويختلف ذلك أيضا بحسب صلة الرئيس بالحكومة، وبحسب قوته و مركزه السياسي لدى المسؤولين. والرئيس هو الذي يعين نصيب أفراد القبيلة من الضرائب، وذلك بعد اتفاقه مع الحكومة على ما هو مفروض على القبيلة دفعه لها، وبعد موافقة مجلس القبيلة على ما فرض على القبيلة دفعه إلى الحكومة.
هذه هي الضرائب التي كانت تدفع عن التعامل والاتجار. وهناك ضرائب أخرى أوجب دفعها إلى سادات القبائل في مقابل حماية القوافل وضمان مرور التجارة في أرضهم بأمان وسلام، وهي ضرائب حق المرور. وإلا تعرضت التجارة للنهب والسلب، وتعرض أصحاب القافلة للخطر والهلاك. ولحماية التجارة يتفق التجار عادة مع سادات القبائل التي تمر القوافل في أرضهم على دفع جعالة في مقابل تقديم الحماية لها والمحافظة على سلامتها، وبذلك تمر بأمن وسلام.

(1/2820)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي "قتبان" نجد نفوذ المعبد على الأهلين كبيرا. وللمعبد أرضون واسعة تدر عليه دخلا كبيرا، وله ضرائب تبلغ عشر الدخل والميراث والمشتريات.بالإضافة الى النذور والعطايا التي يتبرع بها الأغنياء له. وقد حفظت النصوص القتبانية وثائق عديدة تتعلق بما كان يتقاضاه المعبد من زكاة وأموال تزكية لأعمالهم ولأنفسهم، باسم الآلهة التي لها سلطان كبير على الناس.
ولما كانت النقود قليلة إذ ذاك، كان دفع الضرائب عينا في الغالب. ويعبر عن ذلك ب "دعتم". أما إذا كان الدفع نقدا، فيعبر عن ذلك ب "ورقم".
أي "ورق".
وقد كانت الحكومة تضع يدها على المحصول أحيانا أو على البضاعة المهربة أو البضاعة التي يمتنع أصحابها عن دفع الضريبة عنها ويعبر عن ذلك ب "رزم".
تقدير الغلات الزراعية.
،كان تقدير حصة الحكومة من الغلات الزراعية، بواسطة خبراء الحكومة وموظفيها المسؤولين عن جمع الضرائب، وذلك لأنهم كانوا يذهبون إلى المزارع والبساتين إبان إدراك النبات وقيل حصاده أو جنيه، ثم يخمنونه ويقدرون مقدار ما يجب دفعه للحكومة. وطالما أدت هذه الطريقة إلى الأضرار بالفلاح، إذ يجوز أن يتعرض الزرع لآفات زراعية وللتلف والضرر، فيقل الحاصل كثيرا، ولا يستطيع تحمل دفع ما قدر عليه، ولكن جباة الضرائب يأخذون حصة الحكومة منه كما قدروها دون نقص، فإذا امتنع المكلف، أخذ حاصله حتى يستوفى منه ما قدروه عليه.
ولم يكن من حق الفلاح حصاد زرعه وحمله إلى مخزنه أو جني ثمر زرعه ونقله الى الأسواق والتصرف به ما لم يره جباة الضرائب لأخذ حصة الحكومة العينية. وقد استتبع هذا النظام تعيين عدد كبير من جباة الضرائب، وانشاء مخازن لنقل حصص الحكومة اليها. وتستهلك الحكومة جزءا من هذا الحاصل، وتدفع قسما منه إلى موظفيها فالمدفوع لهم، هو مرتباتهم وأجر عملهم. أما الباقي فيباع في الأسواق، أو يصد ر لبيعه في البلدان الخارجية، ولا سيما الحاصل المهم الثمين.

(1/2821)


--------------------------------------------------------------------------------

ويتقاضى المعبد في "معين" جملة ضرائب من الرؤساء وسائر الناس. لكل ضريبة اسم،مثل "كبودت" و "اكرب" و "عشر" و "فرع". وبعض هذه الضرائب تجبى عن حاصل الأرض وغلتها، وبعضها عن التجارة والأعمال الأخرى مثل الصناعات. ولم يشترط دفعها كلها عينا أو نقدا، بل كانت تدفع عملا أحيانا، أي أن المكلفين بدفع الضرائب وجمعها من أتباعهم يقدمون الفعلة والصناع وعمال البناء أحيانا إلى الحكومة، أو إلى المعبد، للقيام بالأشغال العامة بالمجان بدلا من تقديم الضرائب نقدا أوعينا. وذلك متى وافق المعبد على ذلك واعتبر الآلهة راضية عن انشاء ذلك العمل.
وكانت الحكومات العربية الجنوبية تتقاضى ضرائب عن المغازل ودور النسيج. ويظهر ان أهل الحجاز كانوا يعرفون هذه الضريبة أيضا. وقد ورد ان الرسول فرض في كتاب لقوم من اليهود ربع المغزل، أي ربع ما غزل.
الركاز

(1/2822)


--------------------------------------------------------------------------------

أغلب العلماء في الإسلام ان الركاز دفين اهل الجاهلية، أي الكنز الجاهلي. وقال بعض العلماء الركاز المعادن كلها.فمن استخرج منها شئ فلمستخرجها أربعة أخماسه ولبيت المال الخمس. وكذلك المال العادي يوجد مدفونا، هو مثل المعدن سواء، فحكم الركاز تأدية خمسه لبيت المال. أما بالنسبة إلى الجاهليين، فلا توجد عندنا نصوص جاهلية في بيان نصيب الحكومات منه.ويظهر من مطالبة سادات أهل مكة "عبد المطلب" بنصيبهم من الكنز الذي عثر عليه عند حفره بئر زمزم، ان حجتهم في المطالبة لم تكن تستند على قانون سابق، بل ارتكزت على ان الكنز لم يعثر عليه في أرض ملك، رقبتها لعبد المطلب، حتى يستأثر به، وانما عثر عليه في أرض مقدسة مشاعة، تخص البيت الحرام واهل مكة كلهم،لذلك وجب إشراك غيره به ومعنى هذا ان من يعثر على كنز في ملك له،يكون من حقه ونصيبه، لا تشاركه قريش فيه. وقد وجد "عبد الله بن جدعان" كنزا، سبق ان أشرت اليه، فلم يعط سادة قريش منه شيئا، وكان من عادة،اهل مكة نبش المواضع العادية بحثا عن الكنوز، ولم تجد في الأخبار المروية عن ذلك ما يفيد بمشاطرة قريش لمن يعثر على كنز،معنى ان من يستخرج شيئا من الدفائن يكون ما يستخرجه من نصيبه، لا تأخذ مكة منه نصيبا. وكيف تتمكن من ذلك، لأن من يعثر على كنز لا يظهره للناس، خشية اغتصابهم له.وان من شاهد أحدا يستخرج كنزا استعمل حق القوة في الاستحواذ عليه أو على نصيب منه.
النذور والصدقات

(1/2823)


--------------------------------------------------------------------------------

وما تحدثت عنه هو الضرائب المفروضة التي يجب على من تشمله دفعها. أما النذور والصدقات، فهي هبة يقدمها المتمكن طوعا للتقرب إلى آلهته أو شعورا بمسؤولية أدبية يقتضيه واجب المروءة تجاه الضعفاء. والصدقة: ما تصدقت به على الفقراء وقد أشير اليها في القرآن الكريم. وقد تؤدي معنى "الزكاة".ووردت في معنى "المهر" أيضا أي الصداق الذي يقدم إلى المرأة. ويظهر أن الجاهليين كانوا يستعملونها في معنى التصدق على المحتاج والسائل.
وأما الزكاة، فهي ما يخرج من المال لتطهيره، فهي تزكية اختيارية للمال وطهارة له. وقد جعلها الإسلام فريضة على المسلم المتمكن بحسب الأنصبة المقررة في الشرع. وهي "زكوتو" Zakutu عند البابليين. وقد نص عليها في العهد القديم. وهي أن يقدم أصحاب الزرع من أول ثمرهم إلى الكاهن ليقدمه إلى الرب، وأن يسمح للفقراء بالتقاط ما يجدونه على الأرض مهملا من بقايا الزرع،وأن يعطى الكهنة واليتامى والفقراء والغرباء والأرامل والمحتاجين عشر محاصيل الأرض. وقد كثرت الإشارة اليها في العهد الجديد.
وإذا اعتددنا العشر الذي كان يقدمه العرب الجنوبيون إلى المعبد من حاصل عملهم، لصرفه على المعبد وفي الأعمال الخيرية زكاة، ففي استطاعتنا أن نقول إنها كانت مفروضة على المتمكن فرضا، أي على نحو ما تجده في الإسلام. غير ان من الجاهليين من كان يقدم زكاة المال من ماشية وإبل وزرع طوعا واختيارا تقربا إلى الآلهة، يقدمها إلى المعابد تخصيصا باسم الأصنام. ومن هذا القبيل السائبة والحامي الوصيلة ونحو ذلك، مما خصصه الجاهليون لآلهتهم تطوعا، وذلك تزكية لأموالهم وأملا في نماء أموالهم الجديدة وحدوث البركة فيها.
السخرة

(1/2824)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان من حق الدولة وسادات الأرض والقبائل تسخير الناس في الأعمال التي يريدون القيام بها بلا عوض ولا أجر ولا دفع مقابل عن العمل الذي يؤمرون القيام به. ونظام السخرة شائع معروف عند جميع الأمم. وقد كان معمولا به عند بعض الشعوب الى عهد قريب. فكان من حق الحكومة إكراه أتباعها وأخذهم بالقوة وسوقهم للقيام بأداء أي عمل تريده. وفي ضمن ذلك المباني العامة و القصور.
وبها تم انشاء معظم المباني الفخمة مثل الأهرام والمعابد، حيث لا يكلف العمل بهذه الطريقة الحكومة كثيرا، فالعمال مسخرون لا يدفع لهم شيء، وعليهم أداء عملهم بسرعة و حمل أكثر ما يمكن حمله،و الا انهالت عليهم سياط المراقبين.
ويدخل في هذه السخرة، السخرة العسكرية، أي القبض على أي شخص عند الحاجة وسوقه الى القتال، وذلك من غير مقابل أيضا. وقد كابد سواد الناس منها عنتا شديدا لفقرهم ولعدم وجود شيء عندهم تعتمد أسرهم عليه في،معيشتها إذا غاب المعيل أو مات، ولهذا لم يحارب المحاربون إلا قصرا وخشية ورهبة، وكانوا يهربون من هذه "السخرة" بالرغم مما قد يتعرض له الهارب من عقوبة شديدة قد تصل إلى القتل.
واجبات الدولة
واجبات الدولة كثيرة، فإن عليها ان تحفظ الأمن في الداخل، وتحمي الحدود من مهاجمة الأعداء لها، وتصد كل غزو يقع عليها، وعليها ان تحقق العدالة، وتقتص من الجناة وتعاقب المجرمين، وعليها أن تقيم الأبنية العامة وتفتح الطرق، إلى غير ذلك من الواجبات التي نعرفها عن الغاية من نشوء الحكومات.
ونحن لا نستطيع ان نتحدث في الزمن الحاضر عن جهاز حفظ الأمن الداخلي،أي جهاز "الشرطة" الذي تناط به مهمة القبض على المجرمين وتعقب اللصوص والقتلة وما إلى ذلك من شؤون لعدم ورود شيء عن هذا الموضوع في الكتابات.

(1/2825)


--------------------------------------------------------------------------------

ولكننا لا نستطيع نفي وجود علم للجاهليين الحضر بالشرطة. فلا بد وان يكون لهم علم بأجهزة الأمن المخصصة بالقبض على المجرمين وتعقب آثارهم، أي الشرطة. وقد كان لهم اتصال بالعراق وببلاد الشام. ويظهر من كتب اللغة ان لفظة " الشرطي" و "شرطة" كانت معروفة بين الناس عند ظهور الإسلام. "وفي حديث ابن مسعود: وتشرط شرطة للموت لا يرجعون إلا غالبين. وهم أول طائفة من الجيش تشهد الوقعة، وقيل: بل صاحب الشرطة في حرب بعينها".
وقد كان لملوك الحيرة سجون يسجنون بها من يتجاسر عليهم ومن يخالف أمرهم ويعارضهم ويخرج على العرف. ومن سجونهم "الصنين". وفيه سجن "عدي بن زيد العبادي". وقد ذكر انه كان موضعا بظاهر الكوفة. وذكر بعضهم انه بلد، ذكره الشاعر بقوله: ليت شعري ! متى تخب بي النا قة بين العذيب فالصنين
ولم يعين موضعه. ويظهر انه لم يكن بعيدا عن الحيرة. ولعله كان حصنا حصينا منعزلا عن الناس،به حرس كثيرون يحرسونه، لهذا اتخذ سجنا ومحبسا.
ويظهر من شعر لعدي بن زيد العبادي،ان ملوك الحيرة، كانوا قد نظموا
لهم حرسا يحرسونهم ويحرسون مؤسسات الحكومة المهمة مثل "السجون"،والأشخاص المسؤولون عن الأمن والأخبار، ليرسلوا ما قد يحدث من أمور إلى الملوك والحكام.
وقد عرف "العسس" عند الجاهليين أيضا، وهم المسؤولون عن حفظ الناس من أهل الريبة والكشف عنهم. والعس: نفض الليل كل عن أهل الريبة. وكان الخليفة "عمر" يعس بالمدينة، أي يطوف بالليل يحرس الناس ويكشف اهل الريبة.
البريد

(1/2826)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عرف "البريد" بين الجاهليين. ويذكر علماء اللغة أن اللفظة من الألفاظ المعربة عن الفارسية، وأن أصلها "بريده دم"، أي محذوف الذنب، لأن بغال البريد كانت محذوفة الأذناب كالعلامة لها، ثم سمي الرسول الذي يركبه بريدا، والمسافة التي بين السكتين بريدا. والسكة موضع كان يسكنه "الفيوج" المرتبون من بيت أو قبة أو رباط، وكان يرتب في كل سكة بغال، وبعد ما بين السكتين فرسخان، وقيل أربعة. فالبريد إذن بمعنى رسول،وموضع البريد، والشئ الذي يرسل مع البريد، أي الرسول حامل البريد، ودابة البريد.
إني أنص العيس حتى كأنني عليها بأجواز الفلاة، بريدا
ومن أعمال صاحب البريد إرسال الأخبار إلى من عينهم في هذا المنصب، فهم موظفون مخبرون، من اعمالهم اطلاع كبار الموظفين والامراء والملوك على الاحوال العامة للمكان الذي يقع في ضمن عملهم واختصاصهم، وأخبار الجهات المسؤولة عن الأعمال المشبوهة التي قد تدبر ضد الدولة، وعن تصرفات كبار الموظفين، خشية انفرادهم في الحكم واعلانهم العصيان على الدولة.
ونسب "الجاحظ" إلى " امرىء القيس" قوله: ونادمت قيصر في ملكه فأوجهني وركبت البريدا
إذا ما ازدحمنا على سكة سبقت الفرانق سبقا بعيدا
وقد نسب غيره إلى "امرىء القيس" أيضا قوله: على كل مقصوص الذنابي معاود بريد الشرى بالليل، من خيل بربرا
ومعنى هذا، إن صح بالطبع أن الشعر المذكور هو لامرىء القيس حقا، أنه عرف البريد واستعمله، وقد رأى خيل البريد. وهي تقص ذنابها ليكون ذلك علامة على انها من خيل البريد.

(1/2827)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد اشير الى البريد في الحديث: جاء " لا تقصر الصلاة في اقل من اربعة برد "، وهي ستة عشر فرسخا، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل أربعة آلاف ذراع. وورد في إلحديث أيضا "لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد"، اي لا احبس الرسل الواردين علي. وورد إذا أبردتم الي بريدا فاجعلوه حسن الوجه حسن الاسم. وعرفت الطرق التي يسير بها رسل البريد ب "سكك البريد". كل سكة منها اثني عشر ميلا.
وقد أشير إلى البريد في فى شعر ينسب إلى "ورقة بن نوفل"، يقال انه قاله حينما مات "عثمان بن ألحويرث" عند "ابن جفنة الغساني"، فاتهمت بنو أسد "ابن جفنة" بقتله. وعرف "أبو قيس" ب "راكب البريد".
وتحدث "الجاحظ" عن "البريد" في أيام الساسانين، فقال: "وكانت البرد منظومة إلى كسرى،من أقصى بلاد اليمن إلى بابه،أيام وهرز،وأيام قتل مسروق عظيم الحبشة ". "وكذلك كانت برد كسرى إلى الحيرة: إلى النعمان والى آبائه. وكذلك كانت برده إلى البحرين: إلى المكعبر مرزبان الزارة، والى مشكاب، والى المنذر بن ساوى، وكذلك.كانت برده إلى عمان، والى الجلندي بن المستكبر. فكانت بادية العرب وحاضرنها مغمورتين ببرده، إلا ما كان من ناحية الشام ؛ فإن تلك الناحية من مملكة خثعم وغسان ألروم، إلا أيام غلبت فارس على الروم، ولذلك صرنا نرى النواويس ب الشام ات إلى القسطنطينية.
وهل كانت برد كسرى إلى وهرز، وباذام،وفيروز بن الديلمي والي اليمن، والى المكعبر مرزبان الزارة، والى النعمان بالحيرة، إلا البغال ? وهل وجدوا شيا لذلك أصلح منها".

(1/2828)


--------------------------------------------------------------------------------

فالبغال هي وسيلة نقل البريد في ذلك الوقت. تتوقف في محطات البريد لتبدل البغال التعبة ببغال أخرى، وليبدل حملة البريد كذلك. وهكذا إلى آخر محطة. فهي سكك تمتد مسافات طويلة.ولما كان من الصعب على البغل اختراق الصحارى ذات الرمال البعيدة الغور والتي تقل فيها المياه، لزم أن تكون طريق البريد ممتدة في الأرضين التي يكثر وجود الماء فيها، وتتوفر فيها الآبار، وفي مواضع مأمونة قليلة الرمال.
ويظهر أن الجاهليين قد أخذوا نظم بريدهم من الفرس، وأن ملوك الحيرة
وغيرهم استخدموها في ادارتهم لدولتهم، بدليل ما يذكره علماء اللغة من أن لفظة "البريد" كلمة فارسية عربت فصارت على هذا النحو. واصها "بريده دم"، أي محذوف الذنب، لأن بغال البريد كانت محذوفة الأذناب كالعلامة لها،فأعربت وخففت، ثم سمي الرسول الذي يركبه بريدا. والمسافة التي بين السكتين بريدا، والسكة موضع كان يسكنه الفيوج المرتبون من بيت أو قبه أو رباط، وكان يرتب في كل سكة بغال، وبعد ما بين السكتين فرسخان، وقيل أربعة ولعل ما ورد في شعر امرىء القيس من "على كل مقصوص الذنابي"، إشارة إلى تفسير كلمة "بريده دم".
وقد ذكر علماء اللغة ان "الفيج" رسول السلطان على رجله، فارسي معرب. وقيل هو الذي يسعى بالكتب. والجمع "فيوج" واشاروا الى ورودها في شعر لعدي بن زيد، زعموا انه قاله هو: ام كيف جزت فيوجا، حولهم حرس ومريضا، بابه بالشك صرار?
قيل الفيوج الذين يدخلون السجن ويخرجون يحرسون.

(1/2829)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر أنهم فر قوا هنا بين "البريد"، أي الرسول الراكب، الذي ينقل البربد إلى مسافات، وبين "الفيج" الرسول الذي يسير على رجليه، وهو لا يمكن بالطبع أن يقطع أميالا كثيرة. فهوبريد محلي ينقل الاخبار الى مسافات غير بعيدة. وقد يكون مخبرا، ينقل ما يحدث ويقع بسرعة إلى المراجع العالية. فالفيوج، لصوص الأخبار وبريد ماش ينقل الكتب إلى الجهات المختصة في الوقت نفسه. ويظهر من شعر "عدي" المذكور، أن "الفيوج" كانوا يقفون للناس بالمرصاد، براقبون الحركات ويدرسون السكنات حولهم حرس منتبه، يحرسونهم من احتمال محاولة أعداء الحكومة ايقاع أي أذى بهم، أو الدخول أو الخروج إلى الأماكن الحساسة التي كانوا يلازمونها، ويسترقون أخبارها واخبار من يدخل ويخرج منها.
وأما الأبنية العامة،مثل المباني الحكومية، فقد كانت الحكومات العربية الجنوبية تقوم مستقلة بانشائها، وتنفق عليها أموالها ومن مواردها الخاصة. وتقوم بإنشائها بالاتفاق مع السلطات الدينية في أحيان أخرى. بأن تسهم تلك السلطات في تحمل نفقات البناء كلها أو جزء منها وقد يكون ذلك في مقابل نزول الحكومة عن بعض الحقوق إلى المعبد. وقد تقوم الحكومة بإنشائها بالأتفاق مع كبار المتمولين، أصحاب الأرض والثراء.
وتقوم المدن والقبائل والحكومات بالاستدانة من أموال المعبد ومن الضرائب التي تدفع اليها، للانفاق منها على إقامة الأبنية العامة والمشروعات الأخرى، على أن تعاد تلك الديون الى المعبد. ولم ترد في الكتابات اشارات إلى موقف المعابد من هذه الديون: أكانت تتقاضى أرباحا عليها أي ربا، أم كانت تعطيها قرضا حسنا من غير فائض. ويعبر عن ضرئب المعبد التي نجبى من الناس بلفظة "كبودت". وأما الدين، فيعبر عنه ب "دينم" "دين" كذلك، كما جاء في هذه الجملة: "بكبودت دين عتثر"، أي "بالضرائب التي داينها"أقرضها" الإله عتثر".
حماية الحدود

(1/2830)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن واجبات الدولة تثبيت حدودها والمحافطة عليها من كل اعتداء، وذلك بمراقبة الحدود ووضع حاميات عسكرية عليها، من "مسالح" و "مناظر" وبناء قلاع في الثغور لحمايتها من المغيرين وصدهم. وتبنى هذه التحصينات في الخطوط الأمامية وعلى مبعدة من الأماكن الكبيرة المأهولة حتى يكون في وسعها صد المغيرين، أو وقفهم حتى تأتي نجدات كبيرة من الجيوش لمحاربة الغزاة، ويكون في وسع أهل القرى والمدن الهرب بأنفسهم وأموالهم إلى مواضع آمنة.
و "المسالح" مواضع المخافة. والمسلحة كالثغر والمرقب يكون فيها أقوام يرقبون العدو لئلا يطرقهم على غرة، فإذا رأوه أعلموا أصحابهم ليتأهبوا له. ومسلحة ألجند خطاطيف لهم بين أيديهم ينفضون لهم الطريق، ويتجسسون خبر العدو ويعلمون علمهم، لئلا يهجم عليهم، ولا يدعون واحدا من العدو يدخل بلادهم. وذكر انه كان أدنى مسالح فارس إلى العرب "العذيب". فالمسالح اذن، هي الخطوط الأمامية من خطوط الدفاع عن بلد ما، ونقاط الأمان فيها، ومحل جمع المعلومات عن تحركات ونيات العدو. بها حاميات مقيمة وظبفتها الأولى الاستطلاع واخبار الجيش بقدوم عدو ما، ومشاغلته إلى وصول القوات المدافعة الكبيرة.
و "المنظرة" "موضع الربيئة" وهي المرقبة، وتكون في مواضع مشرفة مثل رأس تل أو جبل يبنى عليه بناء يجعل فيه رقباء ينظرون العدو ويحرسونه، ليتوقوا غدره وشره. فإذا أراد الاغارة، أرسلت "النظيرة" "النظورة" رسالة تحذير للتهيؤ لصد العدو. والظاهر ان اتخاذ المناظر في المواضع العالية المشرفة، هو الذي جعل علماء اللغة يفسرون المناظر بأنها أشراف الأرض لأنه ينظر منها.
و "المراقب" و "المرقبة" الموضع المشرف، يرتفع عليه الرقيب، و"الرقيب" الحارس الحافظ، و "رقيب القوم": حارسهم، وهو الذي يشرف على مرقبة ليحرسهم. وذكر علماء اللغة ان المرقبة هي المنظرة في رأس جبل أو حصن، فهي في المعاني المتقدمة.

(1/2831)


--------------------------------------------------------------------------------

و "الثغر" الموضع الذي يكون حدا فاصلا" بين الحكومتين. وهو موضع المخافة من أطراف البلاد. و "الثغرة": الثلمة،" وكل فرجة في جبل أو بطن أو طريق مسلوك. ويظهر من هذا التعريف ان الثغور هي المواضع الخطرة من الحدود، لأنها تكون بمثابة الفرجة أو الثلمة فيها يتسنى للعدو منها التسلل بسهولة الى أرض عدوه، ولهذا تجب حراستها والعناية بها، بوضع حاميات بها لتشغل العدو ولتصده من الولوج اليها.
وقد أقام الفرس والروم "مناظر" على حدودهم، على أبعاد لا يكون ما بينها بعيدا حتى يكون في وسع حماة "المناظر" أن يتعاونوا، ويقسموا العون للمنظرة التي تهدد بالخطر. وأقام الروم "طرقا" ممهدة بين هذه المناظر، ليسهل على القوات السير عليها بسرعة لنجدة المناظر وحماية الحدود.
وتلجأ الحكومات إلى اقامة استحكامات أخرى لوقاية الحدود من مهاجمة عدو لها، مثل اقامة الخنادق في بعض المواضع الخطيرة المهددة من الحدود لمنع المغيرين من عبورها، كالذي يذكره أهل الأخبارعن "خندق سابور" الذي أقامه لمنع الأعراب من العبور بقصد الغزو، ومثل اقامة بعض الحواجز والأسوار في الممرات والأودية، وربايا في المواضع المشرفة، لمراقبة حركات الأعداء وصدهم من المرور من هذه الأماكن.
ضرب النقود

(1/2832)


--------------------------------------------------------------------------------

ذكرت فيما سلف أن ملوك العرب الجنوبين، ضربوا النقود، وأن في المتاحف وفي الخزائن الخاصة ببعض الناس نقودا تعود إلى أولئك الملوك. أما بالنسبة إلى الأماكن الأخرى مثل مكة أو يثرب، فإننا لا نستطيع ان نتحدث بأي شيء عن ضرب النقود عندهم، لعدم عثور العلماء على نقد ضرب في هذه الأماكن، ولعدم ورود إشارة إلى وجود ذلك في موارد أهل الأخبار. والذي يستخلصى من هذه الموارد ان أهل تلك المواضع، كانوا يتعاملون بعملة الروم والفرس. وهي الدنانير والدراهم. كما سأتحدثء عن ذلك في الموضع المناسب عندما سأتحدث عن الأحوال الاقتصادية. ولم أجد في روايات أهل الأخبار ما يشير الى تعامل أهل مكة أو يثرب بنقود حبشية أو بنقود ضربت في العربية الجنوبية، ولم أجد فيها ولا في كتب السير والتواريخ أن المسلمين ضربوا النقد في ايام الرسول.
ولم أسمع بضرب ملوك الحييرة أو الغساسنة للنقود، ولم يعثر الباحثون كما أعلم - على نقد ضرب في عهود هؤلاء الملوك. والظاهر أنهم كانوا يتعاملون بالعملات الفارسية والرومية. وربما كان الفرس والروم قد منعوا أولئلك الملوك من ضرب النقود، لبواعث سياسية واقتصادية. ولكني لأ أريد ان أجزم بأن ا "آل لخم" و " آل غسان" لم يضربوا النقد بتاتا، استنادا الى عدم وصول نقد ضرب في أيامهم الينا حتى هذه الأيام، أو إلى عدم اشارة أهل الأخبار إلى وجوده عندهم، فقد يعثر في المستقبل على نقود تعود إلى أيامهم، هي الان في مخابئها، مسفونة تحت الأتربة، ثم إن أهل الأخبار لم يتحدثوا عن كل شيء، حتى نتخذ سكوتهم عن ضرب ملوك الحيرة والغساسنة للنقود حجة على عدم وجود ضرب السكة عندهم.

(1/2833)


--------------------------------------------------------------------------------

والسكة: حديدة منقوشة كتب عليها يضرب عليها الدراهم. والضرب الطبع، يقال: ضرب الدرهم، أي طبعه، على سبيل المجاز. و "اضطرب، بمعنى سأل ان يضرب له. وفي الحديث انه صلى الله عليه وسلم، اضطرب خاتما من حديد. أي سأل ان يضرب له ويصاغ ". والنقد تمييز الدراهم واخراج الزيف منها وأما الطبع فالسك. يقال طبع السكاك الدرهم أي سكه. وهناك مصطلحات أخرى لها صلة بالنقد، ترد في كتب الحديث واللغة يظهر منها، أنه قد كان للجاهليين ولأهل مكة بصورة خاصة وقوف على النقد، وانهم كانوا يتعاملون بها، ولهم علم بكيفية صنعها.
قواعد السلوك
وللجاهليين اداب اصطلحوا عليها بالنسبة لتعاملهم مع الملوك وسادات القبائل، فمن قواعدهم المقررة: ان الملوك لا تجز نواصيها. وذلك لأن جز النواصي بالنسبة للعرب تعبير عن الازدراء بالشخص الذي جزت ناصيته، ولما كان للملوك حرمة، فلا تجز نواصيهم، ولا تجز نواصي سادات القبائل كذلك. وقد حدث ان جزت نواصي بعض الملوك، أو اخوتهم، أو أبنائهم، أو سادات القبائل، إلا ان هذا العمل هو عمل شاذ، لا يقدم عليه، إلا لأن العداوة بين الملك وبين من قبضوا عليه أو على أقربائه أو سادات القبائل، كانت عداوة شديدة عميقة، بحيث جاوزت حد العرف فخضعت لأحكام العواطف والاهواء.
ومن قواعد اداب السلوك التي يجب على الملوك وسادات القبائل بل على كل انسان التأدب بها والتمسك بقواعدها، تجنب الغدر وإذا كان الغدر عيبا بالنسبة للسوقة وللسواد، فكم يكون الغدر معيبا بالنسبة للملوك ولسادات القبائل ولكرام الناس.
العلاقات الخارجية
لم تصل الينا حتى الآن نصوص في أصول آداب السلوك بالنسبة للعلاقات الخارجية بين الدول،أي علاقات ما بين حكومات الدول العربية والدول الأجنبية.

(1/2834)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا نعرف لذلك طرق العرف السياسي الذي كان متبعا عندهم في استقبال "الرسل" و الوفود" الذين كانوا يفدون على قصور الملوك بأمر من ساداتهم ملوك الحكومات الأجنبية من أعاجم وعرب. ولكننا نستطيع ان نقول قياسا على المألوف عند العرب، انهم كانوا يبالغون في إكرامهم وفي ضيافتهم، وفقا للتقاليد العربية ولظروفهم وامكانياتهم المحلية. وكانوا يستمعون بإنصات إلى كلامهم، ثم يردون عليهم ردا جميلا، إن حاز كلامهم موقعا حسنا في نفوس الملوك، وردا يناسب ما جاء في خطاب الرسل من تهديد أو وعد ووعيد، إن استعملوا التهديد وألوعد في خطبهم. ومتى عادوا اكرموا إكراما خاصا، ومنحوا ألطافا وهدايا على الطريقة المتبعة في ذلك العهد، وقد يحملون أولئك الرسل هدايا خاصة لمن أوفدهم اليهم، يرفقونها بكتب جوابية في بعض الاحيان، أو برسائل شفوية تبلغ للرسل ليبلغوها هم لسانا أو كتابة الى موفديهم.
و "الوفد"، القوم الغادمون للقاء العظماء، وجماعة مختارة للتقدم في لقاء العظماء. ويقال وفده الأمير الى إلأمير الذي فوقه، أي ورد رسولا. وقد كان سادات القبائل يرسلون وفودا عنهم الى إلملوك أو إلى سادات قبائل أخرى في مهام مختلفة، مثل عقد حلف أو تفاوض أو تهديد لإعلان حرب أو لتهنئة أو لتعزية أو لبيعة وما شاكل ذلك من أمور. وقد اخذت الوفود تترى على الرسول بيثرب لما استحكم وإشتد أمر الإسلام.

(1/2835)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد يكون. الرسول المرسل إلى بلاد العرب لا يعرف العربية، فيكون من الضروري إرسال مترجم معه يتقن العربية، ليقوم بأعمال الترجمة. وقد دونت الموارد اليونانية أسماء بعض الرسل الذين أرسلهم ملوك البيزنطيين الى اليمن أو إلى الغساسنة أو المناذرة، للقيام بمهمات خاصة، ولاجراء مفاوضات في أمور تتعلق بالمصالح اليونانية العربية،وقد نصوا أيضا على أسماء بعض، المترجمين الذين رافقوهم إلى ملوك العرب أو الى سادات القبائل. ويظهر أنهم كانوا يختارونهم من رجال الدين النصارى الذين كانت لهم صلات وعلاقات وثيقة بالعرب، ومنهم من كان من أصل عربي.
وكان من عادة سادات القبائل والملوك العرب، انهم إذا أرادوا ارسال ممثل عنهم الى الحكام الأجانب، لمفاوضاتهم في امور تخصهم، اختاروا من عرف بالذكاء والفطنة من أتباعهم للقيام بهذه المهمات التي تحتاج إلى ذكاء ولباقة وحسن تصرف. وهم في هذا الباب مثل غيرهم يراعون أن يكون رسولهم ممن يتقنون لغة من سيرسل اليه، وان يكون من خواصهم ومن أتباعهم، حتى لا يبوح بأسرار مهمة لأعدائهم. وأما إذا تعذر هذا الشرط، فكانوا يختارون مترجمين ثقات عربا أو عجما لمرافقة الرسول، وللتكلم بلسانه، ولنقل ما يقوله الأعاجم للرسول. ونجد في الموارد اليونانية ان عرب بلاد الشام، أرسلوا رجال دين عنهم الى حكام بلاد الشام أو الى القسطنطينية لمفاوضة الروم في المهمات التي كانوا يكلفون بها. ويظهر أنهم إنما لجأوا الى هؤلاء، لأنهم كانوا يتقنون اليونانية ولأنهم نصارى، والروم نصارى كذلك. ولبعضهم صلات برجال الكنيسة في القسطنطينية، فيساعد الدين في تسهيل حل ألمشكلات.

(1/2836)

admin
01-01-2011, 01:06 AM
وقد يذهب ملك عربي أو سيد قبيلة لزيارة الحكام الأعاجم في مواضع حكمهم، أو في أماكن أخرى يتفقون عليها. فإذا لم يكن متقنا ذلك الملك أو سيد القبيلة للغة الحاكم الذي سيزوره أخذ مترجما معه ليكون لسانه الناطق باسمه واذنه التي تفسر له أقوال الحكام والأجانب. ويظهر من الموارد اليونانية أن من الملوك الغساسنة من كان يتقن اليونانية، فلما زار بعض منهم القسطنطينية، تكلم بها وتباحث مع رجال الدين الييزنطيين في أمور اللاهوت بهذه اللغة.
والقاعدة العامة في العرف السياسي عند الجاهليين، أن الموفد لا يهان و لا يعتدى عليه ولا يقتل. وكذلك كان هذا العرف ساريا على رسل الملوك وسادات القبائل وعلى الوفود التي ترسلها القبائل إلى الملوك أو الرسل الذين يرسلهم سادات القبائل بعضهم إلى بعض.وطالما نقرأ في كتب اهل الأخبارجملا مثل: " لولا أنك رسول لقتلناك "، تشير إلى احترام العرب لرسالة الرسل والموفدين. وقد كان بعض الرسل يسيئون الأدب أو لا يحسنون التصرف مع من أرسلوا اليه، فيثيرونهم، ومع ذلاك، فإن من يهاج منهم يحاول جهد إمكانه ضبط نفسه، والتحكم في أعصابه، حتى لا يتههور على الرسول، فيتهم بسوء الأدب بإهانة ضيفه،اويتهم بالغدر. وإذا كان بعضهم قد غدر بالرسل،فإن هذا الغدر لا يمثل العرف العام، وإنما هو غدر، والغدر لؤم، وقد يقع اللؤم من لئيم.

(1/2837)


--------------------------------------------------------------------------------

ولفظة "رسول" والجمع "رسل" هي من الألفاظ العربية القديمة المستعملة في عالم السياسة عند العرب. وردت في نص "أبرهة"، الذي أشار فيه إلى وفود أتت، اليه من مأرب لتهنئته بمناسبة اتمامه سد "مأرب"، فكان من بينهم رسل النجاشي وملك الروم وملك الفرس وملك الحيرة "المنذر" وملك الغساسنة "الحارث بن جبلة" و "أبو كرب بن جبلة". وفي هذا النص ملاحظة مهمة جدا جديرة بالعناية إذ أطلق هذا النص على مندوب النجاشي وملك الروم لفظة "محشكت" أما رسل الملوك العرب المذكورين فقد أطلق عليهم اللفطة العربية "رسل". أي ا، أنه استعمل ثلاثة مصطلحات سياسية في هذا النص لمفهوم واحد، هو رسل أرسلوا من ساداتهم لحضور ذلك الاحتفال.

(1/2838)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد يذهب الظن إلى ان النص إنما استعمل تلك المصطلحات الثلاثة، لأنها مصطلحات للغات أولئلك الموفدين، فاستعمل لفظة "محشكت" لأن الحبش كانوا يطلقونها على معنى "رسول" في لغتهم وهذا كلام معقول، ولكن ما باله أطلق تلك اللفظة على رسول ملك الروم ايضا مع انها كلمه غريبة عن اليونانية لم يستعملها اليونان، ولم يستعمل النص المصطلح الرسمي اليوناني المستعمل في اليونانية للسفير ? ثم ما بال النص يطلق لفظة "تنبلت" على رسول ملك الفرس، واللفظة أيضا غير فارسية وغير مستعملة عند الساسانيين أفلا يدل ذلك على أن النص لم يأخذ بالمصطلحات السياسية المقررة عند الحبش والروم والفرس للسفير، وإنما اخذ بشيء اخر، هو اهم من ذلك بكثير، لا صلة له بما ذهب هذا الظن اليه، بل لسبب سياسي مهم، هو ان مندوب ملك النجاشي في نظر ابرهة اهم وأقدم في المنزلة من أي مندوب آخر من المندوبن الذين وصلوا اليه، لذلك قدمه في الذكر على بقية المندوبين، وأطلق عليه لفظه "محشكت"، لأنها في معنى رسول ذي أهمية كبيرة، وله ميزات على الرسل الاخرين، فهو رسول ملك له صلة خاصة قوية، به، ثم ثنى بذكر رسول ملك الروم، لأن الروم أصدقاء وحلفاء الحبش وأبرهة ولهم صلات قوية به، ثم ان ملك الروم مثل ملك الحبشة وأبرهة على النصرانية، فبينه وبين الروم رابطة الاخوة بالدين، فذكر لذلك مندوبهم بعد مندوب النجاشي واستعمل لفظة "محشكت"، لما لهذه الكلمة من معنى خاص في معجم ألفاظ السياسة. وذكر مندوب ملك الفرس بعد مندوب ملك الروم، لأن صلة الفرس بالحبش، لم تكن على درجة صلة الروم بهم، ثم انهم يختلفون عنهم في الدين ويعارضونهم في السياسة، لذلك أخره عن مندوب الروم، وأطلق عليه لفظة تشير إلى أنها دون لفظة "محشكت" في الدرجة والتقدير. ولكنها فوق لفظة "رسل" "رسول" "رسل" في الأهمية والدرجة والمكانة على كل حال.

(1/2839)


--------------------------------------------------------------------------------

لأن ملوك الفرس أكثر شأنا في عالم السياسة من المنذر ومن الحارث ومن أبي كرب لذلك استعمل هذه اللفظة لرسول ملك فارس واستعمل كلمة "رسل" لمندوبي الملوك العرب.
وفي العربية لفظة أخرى تؤدي معنى "رسول"، هي لفظة "سفير". ويذكر علماء العربية أن السفير: الرسول والمصلح بين القوم. وكان أهل مكة إذا وقعت بينهم وبين غيرهم حرب أو خصومة، بعثوا سفيرا. وكانت السفارة في "بني عدي".
ويقال للرسول "اسى" في العربيات الجنوبية، تعبيرا عن رسول يرسل بمهمة خاصة.
ولجلوس رجال الوفود عند الملوك وسادات القبائل اهمية كبيرة عند العرب، فالمقدم على الناس يكون أيمن الملك أو ايمن سيد القبيلة، وهكذا. وجلوسه هذا على هذأ النحو وعلى هذا العرف هو علامة ايضا، له على غيره. ويقوم الحجاب أو من اليه امر استقبال الوفود بتطبيق هذه القاعدة مراعاة شديدة، وقد يتولى الملك ذلك بنفسه، فيطلب من كبير القوم أو ممن يريد تشريفه وتفضيله على غيره الجلوس إلى جانبه الأيمن، ويفتخر عندئذ من ناداه الملك بالجلوس إلى يمينه فخرا شديدا، ويتباهى بهذا التقديم على غيره، وتعتز قبيلته به، فتقدم الرجال عند الملوك والسادات من امارات الشرف والعز. وقد يخلق مثل هذا التقديم للملك مشكلات خطيرة، إذ يزعل الباقون من هذا التفضيل، خاصة إذا كانت بينهم وبين من قدم عليهم عداوة أو منافسة، فيرون في هذا التقديم ازدراء بهم وإهانة متعمدة قد وجهت أليهم. وقد يتركون مجلس الملك.، ويقع ما يقع بين الملك وبين إلمنزعجين، أو بين من قدم ومن قدم عليهم.

(1/2840)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن آيات تكريم رئيس الوفد، ان ألملك كان إذا وضع الشراب،بدأ بالشرب أولا، فإذا إنتهى اسقى من كأسه من يراه أفضل القوم، وهو رئيسهم، أو انه يأمر السقاة أو يشير اليهم اشارة واضحة أو خفية بتقديم من يراه أهلا للتقديم، ومعنى هذا انه أفضل الوفد. وقد أثار هذا التقديم مشكلات خطيرة للوفود المتنافسة التي كانت تفد على الملوك، وإلى الملوك أنفسهم، ولا سيما املوك الذين تحكمت اعصابهم بهم، مثل "عمرو بن هند" و "النعمان بن المنذر". وقد قتل "عمرو بن هند"، كما سبق ان تحدثت عن ذلك بسبب تهوره وانسياقه لعواطفه، إذ دعا الشاعر "عمرو بن هند" وامه لزيارته، وكان ينوي الاساءة اليه، لأنه كان فخورأ متعززا بنفسه، فأمر الملك أمه بأن تكلف أم الشاعر بخدمتها، وهي من أعز النساء في قومها ولانها من بيت رئاسة، فلما صرخت "واذلاه"، وسمع ابنها الصرخة، ثار على الملك فقتله.
وكان من عادة ملوك الحيرة، انهم يتخذون للوفود عند انصرافهم مجلسا: يطعمون فيه ضيوفهم، ويسقو فيها الخمور، وقد تغنى فيه القيان، ثم يعطي الملوك الخلع والهدايا لاعضاء الوفود، وقد يخلعون عليهم الخلع الملكية، يعطونها لخاصة من حضر دلالة على زيادة تقديرهم لهم. ويتباهى من يناله هذا الحظ السعيد بتلك الملابس ويحتفظ بها للاعتزاز.

(1/2841)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد جرت العادة بإنزال الوفود في دار الضيافة، ليعتنى بالضيوف الوافدين ولينالوا حريتهم وراحتهم بها. ويظهر ان من عادة إلعرب إذ ذاك ان الوفد منهم إذا انتهت مهمته وقرر الرجوع إلى اهله، عملت له وليمة في آخر يومه،وقدمت له هدية، وتسلم له رسالة ان احتيج إلى ذلك. وقد اتبعت هذه العادة في يثرب حينما أخذت الوفود تترى على الرسول لمبايعته ب الإسلام. فقد اتخذ الرسول دارا خاصة بيثرب لتكون دارا تنزل بها الوفود، عرفت ب "دار رملة بنت الحارث" امرأة من بني النجار. ويظهر انها كانت دارا واسعة، بدليل ما ورد من ان ا الرسول حبس، بها "بنو قريظة" لما نزلوا إلى حكمه. ولا يمكن إنزال عشرات من الناس بها لو لم تكن دارا واسعة كبيرة. كما كان الرسول يأمر المكلف بأمر الوفود بإعطائهم بم جوائز يعينها له،فيعطى مقدار ما يأمره به الرسول، وما يكتبه لهم من اقطاع.
صكوك المسافرين
هي جواز السفر في اصطلاح هذا اليوم. كان على المسافر حمله معه لئلا يتعرض به أحد، يمنحها الملوك وسادات القبائل،وتختم بختمها، فلا يتحرش احد بحاملها. ويؤمن على سلامته. وإذا اعتدى عليه معتد طالب صاحب الجواز بحقه من المعتدي عليه.وتعطى مثل هذه الصكوك للوفود وللنابهين من الناس من أصحاب المكانة والجاه.
وقد يكون الجواز شيئا غير مكتوب. فقد كان "جواز" أهل مكة ومن كان في حلفهم لحاء شجر الحرم، يعقدونه في أعناقهم أو في أعناق ابلهم، ليكون علامة على أنهم من "قريش" أو من قوم لهم عهد وعقد معهم فلا يتجاسر أحد على التحرش بهم. للعهود المعقودة بين قريش وبين سادات القبائل، بعدم تحرش احد برجل من اهل مكة أو ممن يكون في جوارهم ومن له عهد معهم.
وقد يكون الجواز شيئا بسيطا عصا أو سهم أو اي شيء آخر. يعطيه شخص شخصا اخر ليكون جواز أمان وسلام، إذا ابرزه لم يتحرش أحد به.

(1/2842)


--------------------------------------------------------------------------------

ويكون محرما، اي مسالما لا يجوز لأحد الاعتداء عليه لأنه في حرمة صاحب الجواز، ولا تهتك لصاحبه حرمة. ولما جاء الإسلام، جعل المسلمين محرما.
جاء في الحديث: "كل مسلم عن مسلم محرم "، و "كل مسلم عن مسلم محرم، اخوان نصيران". معناه ان المسلم ممسك عن مال المسلم وعرضه ودمه. وانه معتصم ب الإسلام ممتنع بحرمته ممن أراده وأراد ماله. فكل واحد هو في الإسلام امن.
ومن عادة ملوك الحيرة اعطاء "القطوط" للناس، وهي صكوك الجوائز، أي كتب تخرج للناس فيها جوائز الملك، فيقبضون مقدار ما كتب فيها. وقد ذكرها الاعشى في قوله: ولا الملك النعام يوم لقيته بغبطته يعطي )القطوط( ويأفق
وذكر ان القط: الصك بالجائزة والكتاب، وقيل: هو كتاب المحاسبة، وفي ذلك يقول امية بن ابي الصلت: قوم لهم ساحة العرا ق جميعا، والقط والقلم
الفصل الرابع والخمسون
الغزو وأيام العرب
الغزو
والغزو في تعريف علماء اللغة: الطلب. وهو مورد من أهم موارد الرزق عند الأعراب، لا سيما في سني انحباس السماء وانقطاع الغيث وغضب السماء على الأرض ونفورها منها، حيث تقطع غرامها بها، فتحبس عنها دموعها المعبرة عن شوق السماء إلى الأرض وعن مكانهم المنكوب إلى مكان آخر فيه ماء: بئر أو ماء جار، أو عين دائمة والاستيلاء عليه عنوة وقهرا، أو صلحأ بغيرقتال، وذلك إذا وجد أصحاب الماء أن من غير الممكن لهم، مقاومة الغزاة، وأن خير ما يفعلونه للحفاظ على حياتهم، هو ترضية الغازين والتودد اليهم، وارضائهم من غير حرب ولا قتال، وفي ذلك توفيق بين مصلحة الغازين والقارين.

(1/2843)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد يقع الغزو لأسباب أخرى لا علاقة لها بانحباس المطر، بل بسبب طمع القبائل بعضها في بعض، ولا سيما القبائل التي ترتبط بروابط حلف مع قبائل أخرى. والعادة أن القبائل القوية تطمع في القبائل الضعيفة لتأخذ منها ما عندها من مال ورزق. فتغزوها لتستولي على ما طمعت به، وقد تنجح وقد تفشل وتخسر. والقبائل الضاربة على أطراف الحضارة، تطمع في الحضر لما عندهم من رزق حرمت منه، من رزق وافر ومن ماء ومن وسائل عيش رغيدة، فتغزوهم ولهذا صار من اللازم على الحضر تعزيز أنفسهم، بناء حصون وآطام ومناظر لمراقبة الغزاة، وبشراء سلاح لا يتوفر عند الأعراب من سيوف ماضية صلبة حادة، ومن اتخاذ حرس من ألرقيق والمرتزقة ليساعدهم في الدفاع عن حاضرهم، أضف إلى ذلك شراء سادات القبائل الضاربين حولهم بالمال وبالهدايا وبالألطاف، لمنع أعرابهم من التحرش بهم، ولمنع الأعراب الغرباء الذين قد يطمعون فيهم من الدنو منهم.
أضف إلى ما تقدم من أسباب وقوع الغزو:أثر العلاقات الشخصية بين سادات القبائل، من زواج وطلاق، ومن حسد وتنافس، ومن كلمة نابية قد تثير حربا بين قلبي شخصين متنافرين، ومن عمل سفيه جاهل يثير غزوا وحربا بسبب عصبية قومه له، ودفاع الجانب الاخر عن صاحبهم حمية وغيرة. الى غير ذلك من عوامل معقولة مفهومة وعوامل تافهة سخيفة نجد لها مع ذلك مكانة في القلوب فتثير غزوا وتسبب نكبة لأناس مساكين فقراء، لا دخل لهم في كل خصومة، وكل ما لهم أنهم من قوم غضب عليهم قوم آخرون، فزادوا في تعاس إخوانهم المغزوين.والغازي والمغزو مع ذلك معدم محروم من النعم التي وهبتها اطبيعة لغيرهم من البشر، بأن جعلتهم في أرضين خصبة ذات ماء وخيرات وجو حسن، أما هؤلاء التعساء أبناء البادية، فلم يجدوا أمامهم من رزق متيسر سهل سوى الرزق عن طريق هذا الغزو.

(1/2844)


--------------------------------------------------------------------------------

فالغزو إذن هو حاصل ظروف طبيعية واقتصادية واجتماعية، ألمت بالأعراب واجبرتهم على ركوب هذا المركب الخشن. كارهين ام مختارين فليس للاعرابي للمحافظة على حياته ولتأمين رزقه غير هذا الغزو. وقد بقي يغزو حتى في الإسلام، مع منع الإسلام له لا يجد فيه مع ذلك غضاضة ولا بأسا. وهو ان امتنع اليوم منه وطلقه، فأنه لم يتركه عن ارادة واختيار وطيب خاطر، وانما امتنع منه لانه يعلم انه ان قام به، فأن هنالك حكومات اقوى منه، لها اسلحة لا يملكها ولا يستطيع التغلب عليها، وعلى رأسها الطائرات، ستفتك به فتكا ذريعا، وتكرهه على الخضوع لاحكامها، وعلى الاستسلام لها، وعلى تجريده مما يملكه ومما يستولي عليه لذلك خنس وسكت عن الغزو.
ومن هذا الغزو، غزو وقع في الجاهلية بين قبائل صغيرة، لذلك لم ينل من أهل الأخبار حظا من الذكر و الرعاية والعناية، ولم يجد له مكانا بارزا في صفحات كتب الأخبار، وغزو كبير خلد الشعر الجاهلي ذكره، فأخذ رواة الشعر يتسقطون أخباره، ويجمعون ما وعته ذاكرة رواة الأخبار من أمره، فوجد له مكانا فسيحا رحبا في شروح الشعر الجاهلي وفي كتب إلأخبار والأدب وقد عرف مثل هذا الغزو الخالد ب "أيام العرب" وب "ايام القبائل". وقد ذكر صاحب كتاب "الفهرست" أسماء جماعة من علماء الأخبار ألفوا فيها، وشغلوا أنفسهم بجمع أخبارها، دونوها في كتب وفي جملتها مدونات عن أخبار ايام وقعت بين بطون قبيلة واحدة.

(1/2845)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد تداول الجاهليون أخبار الغزو، وصيرت القبائل المنتصرة ألأيأم التي انتصرت فيها ملاحم، تعيد قصها في مجالسها وأنديتها، وقد زخرفت قصصها بأخبار الشجعان الذين برزوا فيها، وبالغت في أخبار شجاعتهم حتى طغت على أخبار الغزو نفسه، وصار البطل رمزا للقبيلة، تستمد منه الشجاعة والإقدام في النصر وفي الهزائموالخسائر. فالنصر كما نعلم لا يدوم لاحد، ورب قبيلة وكر عليها طير السعد فسعدها الحظ بالنصر، ثم طار عنها، لأن الأيام الحلوة لاتدوم أبدا. وقد تصاب القبيلة المنتصرة بنكسة،فتعوض عن ذكرى خسارتها، بذكرها انتصارها في الماضي، فيكون الماضي خير مسل لها عن مرارة الهزيمة،وأحسن مشجع وباعث على النصر في غزو المستقبل.
وقد أمدتنا أخبار الغزو بأسماء عدد من أبطال الجاهلية عرفوا بالشجاعة،لا تزال أخبار بعضهم تروى وتقص على الناس. وتقرأ قصتهم في المجالس مثل قصة "عنترة" التي حصلت على النصيب الاوفر من الشهرة والذكر من بين القصص المروي عن أبطال الجاهلية، وهو قصص مهما قيل عنه، ومما ورد فيه من مبالغات، فإنه لا يصل إلى درجة القصص المروي عن أبطال الفرس، القدماء أو اليونان أو الرومان أو العبرانيين في المبالغة بشجاعتهم وبقوة أجسامهم الخارقة.

(1/2846)


--------------------------------------------------------------------------------

لقد فرضت الطبيعة على العربي أن يكون محاربا غازيا،فقد حرمته من خيرات هذه الدنيا ومن طيبات ما تنبت الأرض. حرمته من وجود حكومة تحميه وتدافع عنه وحرمته حتى من وسائل الدفاع عن النفس. فجعلته لا يملك شيئأ يكن اليه في البوادي ليحمي به نفسه من الرياح السموم ومن أشعة الشمس القاسيةو الحيوانات الوحشية، وجعلته يقابل المرض بمفرده، إذ ليس في البادية طبيب حاذق دارس. فلم يكن أمامه والحالة هذه إلا أن يعلم نفسه الصبر، وان يصير محاربا غإزيا لا يبالي بالنصر او بالخسارة، بالحياة أو بالموت. إن خسر هذه المرة، حاول تعويض الخسارة بجولة جديدة وهكذا. لأنه إن يئس وجلس واستسلم للزمان، أكله جار له يطمع في ماله مهما كان،فهو لا بد له من استعداد لغزو جديد.

وفقر البادية قد حدد في الوقت نفسه من غرام الأعراب في الغزو. إذ حعل اسلحتهم محدودة وامكانياتهم في القتال دون امكانيات الحضر يكثير. لذا صار غزوهم للحضر كر سريع وفر بأقصى ما يكون من السرعة، للنجاة بما حصلوا عليه من سلب، او للنجاة بأنفسهم من القتل في حالة الخسارة والهزيمة. ولهذا كانوا يحسبون الف حساب حين يريدون غزو حدود الحكومات التكبيرة، ولا يقدمون عليه إلا بعد درس وتأمل ووقوف على مواطن الضعف والثغرات في خطوط الدفاع لتلك الحكومات. اما غزوهم بعضهم بعضا، فأن اسلحتهم فيه متساوية متكافئة. سيوف ورماح ورمي بالسهام. والذي يكسب النصر فيه، من له عدد وافر كثير وخيل وفرسان شجعان، يأخذون الخصم بمباغتة ومفاجأة.
الخيل

(1/2847)


--------------------------------------------------------------------------------

وللخيل نصيب كبير ولا شك في الغزو وفي اكثاره في جزيرة العرب إذ صارت سببا من أسباب توسيع رقعة الغزو والحروب. فالقبيلة ألتي تمتلك عددا كبيرا من الخيل يكون لها النصر في الغالب، لأن الخيل سريعة الحركة وهي تمكن الفارس من مقارعة خصمه بسرعة، ومن ملاحقة الراجل والوصول اليه بسهولة، فلا يكون أمامه عندئذ سوى المقاومة أو القتل أو الوقوع في الأسر. وبفضل الخيل ظهر الأبطال الفرسان، الذين نقرأ أسماءهم في أخبار الأيام. والحصان مثل البطل، يجب عده من ابطال معارك تلك الايام. فقد مكن القبائل الغنية من بسط نفوذها على القبائل الضعيفة. فالجمل ثقيل الحركة بطئ السير بالنسبة للفرس، وفي أمكان من لديه عدد كبير من الخيل غزو القبائل التي لا تمتلك مثل هذا العدد من الخيل، حتى وإن امتلكت عددا كبيرا من الإبل والرجال. لما ذكرته من سرعة حركة الخيل ومن مرونتها في القتال وفي الكر وفي الف، ثم لصبرها ولتحمل أعصابها على ظيط نفسها في القتال بالنسبة إلى الجمل الذي يهيج بسرعة فتثور أعصابه، فيولي لا يبالي إلى حيث يوجهه هياجه، ملقيا براكبه عن ظهره في بعض الأحيان، أو يذهب طائشا مسرعا، لا يخضع لتوجيه راكبه له. والجمل إذا هاج صار من الصعب على صاحبه الامساك بزمامه وتوجيهه حيث يريد.
وقد اشتهر بعض الناس بالعدو، من هؤلاء: "سليك بن السلكة" المعروف ب "سليك المقانب". وكانت أمه سوداء. وهو أحد أغربة العرب، وأعدى الناس، لا يشق غباره، وقد أشير اليه في الشعر. وقد استفيد منهم في الغزو، فكان منهم المخبرون المتلصصون لأخبار الغزاة أو المغزوين. وكان منهم من يباغت ويفر، فلا يلحق به ماش. فاذا لحقه احد اتبعه في عدوه، حتى اذا تعب انقض،عليه.
الجمل

(1/2848)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد أكون مقصرا هنا إذا أهملت الحديث عن صديق جزيرة العرب وأليفها الحبيب: الجمل. لقد تحدثت عنه في الجزء الأول من هذا الكتاب في أثناء تحدثي عن جزيرة العرب وعن ثرواتها بما فيه الكفاية، ولكنني لا زلت بحاجة إلى التحدث عنه بشيء لم أذكره في ذلك المكان، وسأذكره هنا لما له من صلة بهذا الموضع.
والأبل هي المال عند العرب. وبها كانوا يقدرون أثمان الأشياء ويتعاملون في تجارتهم و في اسواقهم. فالجمل عندهم هو وحيدة قياسية في البيع وفي الشراء. وفي تقدير الحقوق كالديات والفدية والمهور والاراشة وما شاكل ذلك. وبمقدار ما يملك الإنسان من جمال تقدر ثروته وينظر إلى غناه،لأنه الحيوان الوحيد الذي في إمكانه قطع البوادي بخيلاء، رافع الرأس، غير عابىء بما يكون تحت أخفاف أرجله من رمال، هازىء بالعطش إذ هو صبور عليه، لمدة لا يمكن أن يباريه في طولها حيوان آخر. ثم هو يحمل الإنسان ويحمل متاعه. وهو طعام الإنسان إن مضه الجوع، أو جاءه ضيف كبير. وهو يشرب حليب،النوق ويجد فيه شفاء وعافية وتعويضا عن الماء والطعام. فلا عجب إذن إن اتخذ الأعرآبي الجمل مقياسا نلثم للثروة والمال.
والإبل على منازل ودرجات فيها الجمل الأصيل المقدر وفيها اجمل الحرود المبتذل. وخير الإبل عندهم: الإبل الحمراء، لأنها أصبر من غيرها على الهواجر، والعرب تفتخر بعدد ما عندها من الجمال الحمر، لغلاء ثمنها بالنسبة إلى الجمال الأخرى ومن هنا ضرب العرب بها المثل حين قالوا: لا ما أحب ان لي بمعاريض الكلم حمر النعم "ا. فالمراد بحمر النعم: الإبل الحمراء.

(1/2849)


--------------------------------------------------------------------------------

والإبل الصهباء من الإبل الجيدة الشريفة في نظر ! العرب. "قال ابن الأعرابي: تقول قريش: الإبل صهبها وأدمها، يذهبون في ذلك إلى تشريفها على سائر الإبل. وقد أوضحوا ذلك بقولهم: خير الإبل: صهبها وحمرها. فجعلوها خير الإبل". وقيل الأصهب من الابل الذي يخالط بياض حمرة. وهو ان يحمر أعلى الوبر ويبيض أجوافه. وقد عرفت هذه الإبل بسرعتها. والصهباء الناقة الصهابية.
وفي الحديث: كان يرمي الجمار على ناقة صهباء. وإبل صهابية منسوبة إلى فحل اسمه "صهاب"، أولد الإبل الصهابية.
وعدت ألإبل الرمكاء، من أبهى إبل العرب. وأما النوق الخور، فهي النوق التي تمتاز عن غيرها بكثرة ألبانها، وتكون ألوانها بين الغبرة والحمرة وفي جلودها رقة. وقد عدت من الجمال الرقيقة الحسنة. قالت العرب: الحمر من الإبل أطهرها جلدا والورق أطيبها لحما والخور أغزرها لبنا. وقد قال بعض العرب: "الرمكاء بهياء والحمراء صبراء والخوارة غزراء ".
ويقسم اهل الاخبار الابل الى ثلاثة اصناف: يماني، وعراب، وبختي. فاليماني هو النجيب وينزل بمنزلة العتيق من الخيل. والعرابي كالبرذون. والبختي كالبخل.
وذكر أن في الإبل ما هو وحشي وانها تسكن أرض وبار، وهي غير مسكونة بالناس. وتسمى الإبل الوحشية "الحوشي". ويذكرون أنها من بقايا إبل "عاد" وثمود. والمهرية منسوبة الى "مهرة"، وهي سريعة إلعو، ويعلفونها من قديد سمك يصطاد من بحر عمان، وذكروا أن "الحوشي" الوحشي من الإبل وغيرها. منسوب إلى بلاد ألجن من وراء رمل "يبرين"، لا يمر بها أحد من الناس. وقيل هم من بني الجن. وقيل هي فحول جن، تزعم العرب أنها ضربت في نعم بني مهرة بن حيدان فنتجت النجائب المهرية من تلك الفحول الوحشية،فنسبت اليها، فهي لا يكاد يدركها التعب.

(1/2850)


--------------------------------------------------------------------------------

ولتحمل الإبل الجوع والعطش ولصلاحها على المشي في البوادي صارت خير أليف للعرب. وقد اشتهر بعض منها، لاشتراكه في الغزو والحروب. وكانوا يسابقون بين الإبل. وسابق الرسول بين،الإبل، وكانت ناقته القصواء سريعة الجري فسبقت مرارا. وتعد لحوم الإبل من اللحوم الطيبة عند الجاهليين. أما أليهود، فكهانوا يحرمون عليهم أكل لحومها. وذكر "النويري" أن من الناس من قال:"إن العرب إنما اكتسبت الأحقاد لأكلها لحوم الجمال ومداومتها "، لاتهامهم الجمل بالحقد واللؤم، وبعدم نسيانه الإساءة.
والجمل من الحيوانات القانعة الصابرة. وهو الحيوان الوحيد الذي رضي بمرافقته الأعراب ومصادقتهم منذ آلاف السنين. ولولا هذا الجمل لما كان في استطاعة العرب اختراق جزيرتهم، والتنقل فيها من مكان إلى مكان. وبفضله اتصل عرب جزيرة العرب بعضهم ببعض وقامت المستوطنات في مواضع نائية منعزلة من بلاد العرب وقهر العربي ظهر باديته. وتكونت فيها تجارة برية. وطرق برية طويلة يخترقها الجمل بغير كلل ولا ملل صابرا على العطش حتى يصل إلى مرحلة بعيدة فيها يكون فيها ماء وفي استطاعة الجمل تحمل العطش مدة أربعة أو خمسة أيام في الصيف، ومدة خمسة وعشرين يوما في الشتاء. لانه بختزن الماء في جوفه ويعيش.عليه. حتى صار هذا الماء المخزون في جوف البعير سندا للاعراب وأملهم الوحيد في انقاذ حياتهم عند اشتداد العطش بهم، وانقطاع الماء عنهم. ولما عبر خالد بن الوليد البادية لفتح بلاد الشام اختزن الماء في اجواف الابل، لقلة الماء في البادية، فلما اشتد العطش بجيشه، ذبح بعض الابل واسقى من الماء المخزون في اجوافها، وبفضله تمكن الجيش من الصمود امام اهوال العطش ومن الوصول إلى بلاد الشام بسلام. وهكذا ساهم هذا الحيوان في انتصار خالد على جيش الروم.

(1/2851)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا زال الجمل عماد الأعراب في حياتهم. ولا يمكن أن نتصور وجود أعرابية بغير جمل وقد أناط إنسان القرن العشرين به أعمالا جديدة لم يكن يعرفها، فعهد إليه نقل الآلات الحديثة ومنتوجات حضارة هذا القرن في البوادي فنجح في أدائها أحسن نجاح. ومع ذلك، فان الزمن ضده، فالجمل بطئ لا تتناسب سرعته وسرعة عصور السرعة وطفرات التطور الحديث ولا بد وأن يأتي عليه يوم سيحال فيه على التقاعد عن العمل، فيقل بذلك وجوده، ويصير مكانه في حدائق الحيوان.
ولتمييز الإبل وتعيين أصحابها، وسمت بسمات وعلمت بعلامات عرفت عندهم ب "سمة" و "سمات"، توسم في الخد والعنق والفخذ، على صور شتى، مثل المشط والدلو والخطاف، أي على صورة هذه الأشياء. ويكون وسم الإبل بالميسم: حديدة تحمى فيكوى بها، فتترك أثرا على الموضع الذي كوي. وذكر ان الوسم أثر.، أثر كية، يقال: موسوم، أي قد وسم بسمة يعرف بها، إما كية، وإما قطع اذن أو قرمة تكون علامة له. والوسام والسمة ما وسم به الحيوان من ضروب الصور. وفي الحديث انه كان يسم إبل الصدقة، أي يعلم عليها بالكي.
وسمات الإبل: السطاع، والرقمة، والخباط، والكشاح، والعلاط، وقيد الفرس، والشعب، والمشيطفة، والمعفاة، والقرمة والجرفة، والخطاف والدلو، والمشط، و الفرتاج، و الثؤثور، والدماغ، والصداع، و اللجام، والهلال، و الخراش، و العراض، و اللحاظ، والتلحيظ، و التحجين، والصقاع، و الدمع.
ويقع الغزو في وجه الصباح في الغالب، ولذلك يقال: طصبحوا ب ..." أي اتوا صباحا. وقد يقال: "صبحه بكذا"، أي بعدد يذكر من رجال الغزو. ومن ذلك قول بجير بن زهير المزني: صبحناهم بألف من سليم وسبع من بني عثمان وافى
أي أتيناهم صباحا بألف رجل من "بني سليم".
أيام العرب

(1/2852)

admin
01-01-2011, 01:07 AM
عرفت الحروب والمناوشات التي وقعت بين القبائل بعضها مع بعض، أو بين ملوك اليمن والقبائل أو بين الفرس والعرب أو بين الملوك العرب والقبائل ب "الأيام" وب "ايام العرب". وهذه الأيام تؤلف - في الواقع - القسط الأكبر من علم الأخباريين بتأريخ الجاهلية، ومادتها القصص الذي تناقله الناس عمن شهدوها، وحفظوه في صدورهم، إلى أن كان التدوين فدون. وهو مادة محبوبة تناولها الناس في الجاهلية و الإسلام بلذة وشوق، فكونت هي والشعر الجاهلي من أهم المجالس. "قيل لبعض أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ما كنتم تتحدثون به إذا خلوتم في مجالسكم قال: كنا نتناشد الشعر، ونتحدث بأخبار جاهليتنا"، وأهم أخبار الجاهلية هي هذه الأيام.
ومادة هذه الأيام عربية خالصة، يتخللها شعر قيل بالمناسبة في تلك الأيام في الفخر والحماسة وفي هجاء الخصم والانتقاص منه. والفضل هو لهذا الشعر في حفظ اخبار تلك الأيام، وصيانتها من النسيان، لاضطرار الراوي والسامع إلى الاطلاع على المناسبة التي قيلت فيها تلك الأشعار. وعلى هذه المادة العربية اعتماد المؤرخ في تدوين تأريخ العرب في الجاهلية، وتتبع التطورات السياسيه التي حدثت قبيل الإسلام.
وفي شعر المخضرمين وشعر الشعراء الإسلاميين الذين نبغوا في العهد الأموي مادة تفيدنا في الوقوف على خبر تلك الأيام. فقد حفظ تفاخر الشعراء بقبائلهم ومهاجاة بعضهم لبعض اثار تلك الأيام، فدونت في شعر الهجاء والتباهي والتفاخر، وزاد بذلك علمنا الذي أخذناه من أخبار الأيام ومن الشعر الجاهلي الذي أشر فيه اليها.

(1/2853)


--------------------------------------------------------------------------------

وموضوع كموضوع الأيام، لا بد أن يقبل العلماء عليه اقبالا كبيرا، وهذا ما وقع، فألف فيه جماعة، منهم "أبو ****ة" المتوفى سنة "210" أو "211" للهجرة، وأدخله قوم في مؤلفاتهم، فأفردوا له بابا أو أبوابا، ولكنا لا نملك حتى اليوم كتابا قديما قائما بذاته في الأيام. وكل ما نملكه هو هذه الأبواب الداخلة في بطون كتب الأدب في الغالب وفي بعض كتب التأريخ والجغرافيا، سأشير اليها في أثناء حديثي عن الشهر من هذه الأيام.
وقد أشار "ابن النديم" وغيره إلى أسماء مؤلفين ألفوا كتبا في أيام العرب. منهم من ألف عنها كلها، ومنهم من ألف عن بعضها. ومنهم من ألف في أيام قبائل معينة. لكنها لم تطبع، ولعل من بينها من قد يطبع في المستقبل. وقد ورد أن "أبا الفرج الأصبهاني" قد استقصى أيام العرب في كتاب أفرده لذلك، فكانت أيامه ألفا وسبعمائة يوم.

(1/2854)


--------------------------------------------------------------------------------

ولكن هذه الأيام غير منسقة ويا للاسف، ولا مبوبة على حسب ترتيب الوقوع، وتسلسل الزمن. ثم إن من الصعب استخراج مستند منها يمكن الاعتماد عليه في تصنيف هذه الأيام، وتنظيمها على أساس تأريخي، مع انها مادة المؤرخ الذي يريد كتابة تأريخ جزيرة العرب قبل الإسلام ودراسة التطور السياسي فيها. وقد حاول المستشرقون تنسيقها وترتيبها على أساس تواريخ الوقوع، فلم يفلحوا إلى الان في الوصول الى نتيجة مرضية. ولو كانت لدينا معارف عن أحوال من أسهم فيها وأجج نارها ومن قال شعرا فيها، ثنير لنا السبيل لتثبيت التأريخ وضبط المدنين، لصار في امكاننا ضبطها وتعين تواريخها استنادا إلى هذا المروي عن أولئك. ولكن ما نعرفه عن هؤلاء الرجال، وهم أبطالها وأصحابها، لايقل غموضا وابهاما من حيث التواريخ والسنين عن غموض تواريخ تلك الأيام وإبهامها، ولذلك فكل ما يقال عن تواريخ الأيام وترتيبها والسنين التي وقعت فيها، هو حدس وتخمين. وسيبقى الحال على ذلك، حتى تتهيأ مادة جديدة كنصوص جاهلية مدونة أو موارد أخرى قد تتعرض لتلك الأيام بتأريخها أو بتأريخ من اشترك فيها على وجه مضبوط صحيح. وعندئذ يكون في الآمكان تدوينها على نحو علمي يشرح لنا تطور الحوادث عند العرب قبيل الإسلام.
ولوجود مجال واسع للعب العاطفة في أخبار الأيام، تجب دراسة الروايات على حذر، والتفتيش - على قدر الامكان - عن روايات مثعددة عن اليوم الواحد، للمقارنة والمقابلة والغربلة. وليس هذا بأمر ميسور،لأن الروايات والأخبار محدودة، وهي ترجع بآخرة إلى نفر تستطيع حصرهم. فهذه الأبواب، وإن كانت متعددة منثورة بين مؤلفات، دونها مؤلفون مختلفون، إلا انها أخذت من ذلك النفر، فهي لم تأت لهذا السبب في ثناياها بشيء جديد.

(1/2855)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي هذا النفر المذكور، نفر منحاز متحزب، يشايع قومه، ويريد نسبة الغلب والتفوق لهم، والغض جهد إمكانه من خصوم قومه ومن الأطراف التي خاصمت قومه واشتبكت معها في قتال، وهو مكثر بالنسبة لجماعته، مبالغ يسند مبالغاته بكلام منثور ومنظوم، ليثبت صحة قوله، ولهذا وجب الانتباه لهذه الناحية والحذر من تصديق كل رواية وإن نسبت إلى خيرة من نثق بعلمهم من الرواة.
وهذه الأيام ليست حروبا بالمعنى المفهوم من الحرب، فإن منها ما هو مجرد مناوشات أو مهاترات وغزوات لم يسقط فيها إلا بضعة أشخاص، ومنها أيام وقعت في عدة سنين كانت تثار فيها الحرب حينما تتجدد المناسبات، وتنتهي بتسويه، يتفق فيها على دفع ديات القتلى وانهاء المشكلات الني كانت السبب في إثارة تلك الحرب، فاذا ما انتهت، بقيت القبيلة المنتصرة تفتحر بيومها وبأيامها، وباسماء أبطالها الذين رفعوا اسمها فيها. وطالما جر التباهي والتفاخر القبائل إلى حرب جديدة، بسبب جواب قد يصدر من سفيه عابث لا يرضيه سماع ذلك الفخر، أو من قبيلة مغلوبة لم يكن من السهل عليها أو على أفرادها سماع هذا الكلام.
والنابه من هذه الأيام، معدود عند بعض العلماء محدود. وقد حصرها "أبو ****ة" في الأيام الكبيرة العظيمة، التي ساهم فيها عدو كبير من الفرسان. وجعلها:يوم الكلاب، ويوم ربيعة، ويوم جبلة، ويوم ذي قار.
واكثر اسباب هذه الايام، هو عسف حكام القبائل القوية في القبائل الضعيفة الخاضعة لهم، بسبب الاتاوة التي كانوا يلحون في جبايتها غير مفكرين في الظروف والاوقات، او بسبب نزاع على ماء ومرعى، او اخذ بثأر، او محاولة للتخلص من حكم القبائل على القبيلة بظهور شخصية قوية فيها، وامثال هذه من اسباب، قد يكون بينها سبب تافه سخيف، يؤدي الى ازعاج المتخاصمين بسبب النزعات العاطفية التي تتغلب عند القبائل في غالب الاحوال على العقول.

(1/2856)


--------------------------------------------------------------------------------

والعادة أن يعنون اليوم باسم الموضع الذي حدثت فيه المعركة، أو بالشيء البارز في تلك الحرب، أو بأسم القبائل التي اشتركت فيه. ومن هذه الأيام ما وقع بين قبائل قحطانية، ومنها ما وقع بين قبائل عدنانية، ومنها ما وقع بين قبائل قحطانية وقبائل يرجع النسابون نسبها إلى مضر وربيعة، وإلى معد والى، عدنان، فهي أيام وقعت إذن بين جماعتين هما في عرف النسابين من جدين، هما: قحطان وعدنان. وهما جدا كل العرب الأحياء.
ومن الأيام التي وقعت بين القبائل القحطانية: يوم البردان، ويوم الكلاب
الأول وعين أباغ ويوم حليمة ويوم اليحاميم، وأيام الأوس والخزرج. وأما أيام القحطانيين والعدنانين، فمنها: يوم البيضاء، ويوم طخفة، ويوم أوارة الأول، ويوم أوارة الثاني، ويوم السلان، ويوم خزار ويوم حجر، ويوم الكلاب الثاني، ويوم فبف الريح، ويوم ظهر الدهناء.
وأما الأيام التي وقعت بين القبائل العدنانية، فمنها ما وقع بين قبائل ربيعة فيما بينها، ومنها ما وقع بين ربيعة وتميم، ومنها ما وقع بين قبائل قيس فيما بينها، ومنها ما وقع بين قيس وكنانة، ومنها ما وقع بين قيس وتميم، ومنها أيام ضبة وغيرهم.
وهناك أيام وقعت بين العرب والفرس مثل يوم الصفقة ويوم ذي قار. وقد تحدثت عن الأيام التى وقعت بين القبائل القحطانية، وعن الأيام التي وقعت بين العرب والفرس في الأماكن المناسبة الخاصة بها. فلست أجد حاجة هاهنا إلى الكلام عليها مرة ثانية، وسأقتصر هنا على الأيام الأخرى.

(1/2857)


--------------------------------------------------------------------------------

والأيام بين ما يسمى بالقبائل العدنانية أكثر بكثير من الأيام التي وقعت بين القبائل القحطانية، وسبب ذلك هوانها أكثر بداوة وأعرابية من القبائل الثانية، وأن من طبع البداوة: الفردية والخصومة والتنازع والتحاسد، بسبب ضيق العيش وقلة المال وتحول القبائل من مكان الىا مكان وراء الماء والكلا. لذلك قل اجتماع العدنانيين تحت رئاسة رئيس واحد، وتقاتلوا وتخاصموا، وفضلوا الخضوع لحكم رئيس بعيد عنهم على الخضوع لرئيس منهم، لأن النفسية الأعرابية ترى في خضوع أعرابي لأعرابي من جنسه استكانة ومذلة.أما خضوعها لحكم غريب عنها، فليس فيه شيء من ذلك، ولهذا خضعت لملوك المناذرة أو الغساسنة أو لكندة أو للتبابعة، ونفرت من الخضوع لرئيس عدناني لعقدة التنافس والتناحر بين ذوي القربى.
والقبائل العدنانية، قبائل خشنة شديدة المراس، القتال عندها طبيعة، ولو اتحدت وجمعت كلمتها ووحدت أمرها، لكانت قوة لا تغلب، ولكنها، وهي على هذه الصفة من التخاذل، والتنافر، صارت خاضعة لحكم القحطانيين، وأخصهم التبابعة على ما يذكره الرواة. فكانوا يعينون عليهم حكاما وينصبون عليهم أمراء منهم، بل يذكر أهل الأخبار أن العدنانيين كانوا يذهبون هم أنفسهم إلى أولئك التبابعة أحيانا يطلبون منهم تنصيب شخص منهم،أو تعيين أمر عليهم من أصحاب المنزلة والمكانة، لأنهم سئموا من التقاتل والتشاحن، بقوا على ذلك دهرا حتى سئموا حكم التبابعة والقحطانيين لهم، فثاروا عليهم كما يذكر أهل الأخبار.
وساقتصر في هذا الفصل على الأيام المهمة التي كان لها في شؤون السياسة القبلية شأن وخطر. أما الأيام الصغيرة التي لم يكن لها شأن يذكر، فأدع الحديث عنها إلا بقدره. وأما الخامل منها، فسأترك أمره إلى كتب الأخبار والأدب، لعدم وجود مكان لها في حديثنا العام عن تأريخ العرب قبل الإسلام.

(1/2858)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن أمهات الأيام التي وقعت بين القحطانيين و العدنانيين: يوم طخفة، ويوم أوارة الأول، ويوم أوارة الثاني، ويوم السلان، ويوم خزاز، ويوم حجر، ويوم الكلاب الثاني، ويوم فيف الريح، ويوم ظهر الدهناء. وقد تحدثت عن بعضها في أثناء كلامي على ملوك الحيرة أو الغساسنة، و سأتحدث عما لم أتناوله من قبل.
ومن الأيام التي وقعت بين قبائل قحطانية وقبائل عدنانية، يوم يسمى ب "يوم البيضاء" "البيداء" وكان سببه مجيء مذحج، وهي قبيلة قحطانية من اليمن، قاصدة متسعا من الأرض وموطنا جديدا صالحا، فاصطدمت بقبائل معد النازلة بتهامة، وتهامة هي موطن معد القديم في عرف أهل الأخبار، فبرزت لها قبيلة عدوان ورئيسها يومئذ عامر بن الظرب العدواني. جمع عامر هذا من كان في تهامة من قبائل معد،وهاجم مذحجا فغلبها في موضع "البيضاء". يقول الأخباريون إن هذا اليوم هو أول يوم اجتمعت فيه معد تحت راية واحدة، هي راية عامر ابن الظرب. وقد اجتمعت بعدها مرتين تحت راية واحدة: مرة تحت راية ربيعة ابن الحارث في قضاعة، ومرة أخرى تحت راية كليب بن ربيعة. فهذه المعركة هي من المعارك القديمة التي وقعت بين العدنانيين والقحطانيين على رأي الأخباريين.
وعامر بن الظرب هذا، رجل يعده الأخباريون من قدماء حكماء العرب وأئمتهم الذين تحاكم اليهم الناس، وصارت أحكامهم سنة يتبعونها. وقد ذكرأهل الأخبار أنه أول من قرعت له العصا. ويرون في تفسير ذلك أنه كان قد كبر و هرم، وكان الناس يأتون مع ذلك اليه ليحكموه فيما يقع بينهم من خلاف.
فقال له أحد أولاده: " إنك ربما أخطأت في الحكم فيحمل عنك "، فقال عامر: "فاجعلوا لي أمارة أعرفها، فإذا زغت فسمعتها رجعت إلى الصواب ": فجعلوا قرع العصا أمارة ينبهونه بها. فكان يجلس قدام بيته ويقعد ابنه في البيت ومعه العصا، فإذا زاغ أو هفا قرع له الجفنة فيرجع إلى الصواب.

(1/2859)


--------------------------------------------------------------------------------

ولأهل الأخبار قصص عن عامر، فقد ذكروا أنه كان أول من جلس على منبر أو سرير وتكلم، ولجلوسه على منبر، سموه ذا الأعواد، ونسبوا اليه أحكاما وحكما" وأقوالا وعمرا طويلا، وعد وه من الفصحاء البلغاء، وجعلوا أقواله مضربا للأمثال.
وأخذ رؤساء معد على عاتقهم الخروج على طاعة حكام اليمن، أو من عينه هؤلاء الحكام عليهم،وذلك بعد ما تبين لهم من ضعف الحكم في اليمن ومن تقاتل المتنفذين فيها بعضهم مع بعض، ومن تدهور الأحوال هناك. وكانت اليمن قد ولت "زهير بن جناب" زعيم كلب على قبائل معد. وكلب من قبائل قضاعة، فوافقت معد على تعيينه وخضعت لحكمه، وأخذت تؤدي الإتاوة له. وكان يخرج في حاشية لجمع الإتاوة، فأصاب معدا ضيق شديد، وأجدبت أرضهم، فتأخروا عن الدفع، فجاءهم زهير و ألح في مطالبتهم، فشكوا عجزهم،وطلبوا إمهالهم والتخفيف عنهم. فما كان منه إلا أن منعهم النجعة والمرعى، فنقموا منه، وأصابهم من ذلك بلاء، فغضب عليه رجل منهم من بني "تيم الله"، اسمه زيابة، واندس اليه وهو نائم فطعنه، وظن أنه قتله، ورجع إلى قومه فاخبرهم بخبره، ولكن "زهيرا" لم يصب بسوء، ونجا من الطعنة، وكان قد أخمد أنفاسه ولم يتحرك حتى يوهم "زيابة" أنه قتله ومات، ثم أوعز إلى حاشيته أن يعلنوا أنه مات، وشاع خبر موته بين الناس ولكنه كان قد فر مع حاشيته إلى قومه، حيث جمع جمعهم، ثم هجم بهم على بكر وتغلب،وقاتلهم قتالا شديدا أدى إلى هزيمة بكر، ثم إلى هزيمة تغلب من بعدها،وأسر "كليبا" و "مهلهلا" ابني ربيعة، وجماعة من أشراف تغلب. فتأثرت قبائل ربيعة من هذه الهزيمة، وعينت "ربيعة بن مرة بن الحارث بن زهير التغلبي"، والد "كليب" و "مهلهل" رئيسا عليها، فحمل ربيعة ومن انقاد اليه على زهير، واسترجع الأسرى،ولكن زهيرا لم يلبث أن عاد إلى ما كان عليه من جمع الإتاوة من معد.

(1/2860)


--------------------------------------------------------------------------------

وإذا أخذنا برأي الأخباريين القائلين إن تعيين زهير بن جناب على بكر وتغلب ابني وائل كان بأمر أبرهة الذي غزا نجدا، وتوسع فيها، فجاءه زهير ليتقرب اليه، وليعينه على بعض القبائل، يكون حكم زهير على هذا القول في القرن السادس للميلاد.
وفي عهد رئاسة "كليب بن ربيعة"، جددت قبائل ربيعة محاولاتها للتخلص من حكم اليمن، وكان "كليب" شخصية قوية، فاختارته قبائل معد رئيسا عليها، واجتمعت تحت لوائه، والتقت باليمن في "يوم خزار " فانتصرت معد فيه، وعد من أيامها الكبرى قبل الإسلام. ونظرت معد إلى كليب نظرة تجلة و إحترام، وجعلت له قسم الملك وتاجه وطاعته، لأنه وحدهم وأنقذهم من تعسف اليمن بهم.
وقد داخل "كليب بن ربيعة" زهو شديد بعد هذا النصر، وبعد سيادته بني معد، فبغى على قومه، وصار يتعسف في احماء الحمى، فلا يرعى حماه احد، ولا يصاد فيه ولا ترد إبل مع إبله، ولا توقد نار مع ناره، وبقي كذلك حتى قتله "جساس بن مرة الوائلي"، فتوالت الحروب بين تغلب وبكر وائل بسبب ذلك.
وقد اختلف الأخباريون في هذا اليوم، واختلفوا في اسم قائد قبائل معد فيه، واختلفوا في اسم ملك اليمن الذي في عهده وقع، واختلفوا في زمن وقوعه، وفي سببه، فقالوا: إن رئيس معد فيه هو "كليب بن ربيعة"، و قالوا: بل هو زرارة بن عدس، وقالوا: لا، وإنما هو ربيعة بن الأحوص بن جعفر. ويذكر بعضهم أنه وقع بعقب يوم السلان،وأنه كان لجموع ربيعة ومضر وقضاعة على مذحج وغيرهم من اليمن.
وذكر جماعة من أهل الأخبار، أن "الأحوص بن جعفر بن كلاب"، كان على نزار كلها يوم خزاز، ثم ذكرت ربيعة أخيرا من الدهر أن كليبا كان على نزار. وتوسطت جماعة بين الرأيين، فقالت: كان كليب على ربيعة، وكان الأحوص على مضر.

(1/2861)


--------------------------------------------------------------------------------

وسبب اختلافهم في ذلك هو دور العصبيات القبلية، والنزعات العاطفية عند الرواة. ذكر أهل الأخبار ان جماعة من وجوه أهل البصرة، كانوا يتجالسون يوم الجمعة ويتفاخرون ويتنازعون في الرياسة يوم خزاز، فتعصب كل قوم لرئيس من الرؤساء الذين ذكرت. وقد تحاكموا إلى "عمر بن العلاء" وكانوا في مجلسه، فقال: ما شهدها عامر بن صعصعة ولا دارم بن مالك، ولا جشم بن يكر، اليوم أقدم من ذلك. ولقد سألت عنه، فما وجدت أحدا من القوم يعلم من رئيسهم ومن الملك. وقد أنكر بعضهم ان يكون لكليب بن ربيعة دور بارز فيه. والظاهر أن روايات الرواة عن هذا اليوم، وهي شفوية بالطبع،كانت متضاربة تضاربا كبيرا بسبب بعد عهد ذاكرتهم عنه، كما كانت متنافرة بسبب العواطف والنزعات القبلية، وتعصب كل راو لقبيلته. فلما جاء مدونو الأخبار لجمع ما في حافظة رواة القبائل عن هذا اليوم، وجدوا اختلافا كبيرا، حاولوا جهد امكانهم التوفيق بينه، واستخراج قصة موحدة عنه، فجاؤوا بهذا الذي جاؤوا به.
وترجع رواية من روايات أخبار هذا اليوم،سبب وقوعه إلى جباية اهل اليمن لقبائل معد. "كان الرجل منهم يأتي،ومعه كاتب وطنفسة يقعد عليها، فيأخذ من اموال نزار ما شاء، كعمال صدقاتهم اليوم،.وكان أول يوم امتنعت معد عن الملوك: ملوك حمير". فلما ضجرت نزار وبقية قبائل معد من هذه الجباية القاسية، ومن هذا التعسف، هاجت على اليمن، وأعلنت عصيانها على القحطانيين، فوقع هذا اليوم. أوقدت نارا على خزاز ثلاث ليال، ودخنت ثلاثة أيام. فلما أحست مذحج باجتماع "معد"، سارت على نزار ومن انضم اليها من معد، فوقع يوم خزار.

(1/2862)


--------------------------------------------------------------------------------

وجاء في رواية أخرى، ان سبب هذا اليوم هو احتباس ملك من ملوك اليمن أسرى من مضر وربيعة وقضاعة، وامتناعه عن فك أسرهم، وذلك في عهد "كليب". فجاءه وفد من بني معد فيهم: سدوس بن شيبان بن ذهل، وعوف بن محلم بن ذهل بن شيبان، وعوف بن عمرو بن جشم بن ربيعة بن زيد مناة، وجشم بن ذهل بن هلال. فلقبهم رجل من بهراء يسمى **** بن قراد، وكان في الأسر وكان شاعرا، فسألهم أن يدخلوه في عدة من يسألون.
فكلموا الملك فيه وفي الأسرى، فوهبهم لهم، وأبقى الملك بعض أفراد الوفد رهائن حتى يأتي الباقون برؤساء قومهم ليأخذ عليهم مواثيق الطاعة. فرجع الباقي إلى قومهم وأخبروهم الخبر، فاجتمعت ربيعة ومعد تحت راية "كليب بن ربيعة" "كليب وائل"، فسار ومعه "السفاح التغلبي" وهو سلمة بن خالد بن كعب ابن زهير بن تيم بن أسامة بن مالك بن بكر بن حبيب بن تغلب، وقد جعله "كليب" على مقدمة معد، وأمر "كليب" أن توقد النار على خزاز،ليهتدوا بها. فلما سمعت مذحج باجتماع ربيعة، استعدت هي ومن يليها من قبائل اليمن للقتال، وساروا اليهم. فلما سمع أهل تهامة بذلك انضموا إلى ربيعة، و ساروا كلهم إلى خزاز. فلما التقى الطرفان، اقتتلوا قتالا شديدا، فانهزمت مذحج شرهزيمة فيه.
و لياقوت الحموي رواية أخرى في سبب وقوع هذا اليوم، فهو يقول إن مضر و ربيعة اجتمعت على أن يجعلوا منهم ملكا يقضي بينهم،فكل أراد أن يكون منهم،ثم تراضوا أن يكون من ربيعة ملك ومن مضر ملك،ثم أراد كل بطن من ربيعة ومن مضر أن يكون الملك منهم، ثم اتفقوا أن يتخذوا ملكا من اليمن، فطلبوا ذلك إلى بني آكل المرار من كندة، فملكوا أولاد الحارث بن حجر الكندي عليهم، ثم ما لبثوا أن ثاروا عليهم وقتلوهم، فكان حديث يوم الكلاب.

(1/2863)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم يبق من ولد الحارث غير سلمة، فجمع جموع اليمن وسار ليقتل نزارا، وبلغ ذلك نزارا فاجتمع بنو عامر وبنو وائل، وتغلب وبكر، ويلغ الخبر كليب وائل، فجمع ربيعة، وقدم على مقدمته السفاح التغلبي، فكان يوم خزاز،وقد انتصر بنو نزار فيه على القبائل اليمانية. وهذه الرواية قريبة جدا من رواية "اليعقوبي" عن هذا اليوم.
وقد أشار "عمرو بن كلثوم التغلبي" إلى هذا اليوم، وافتخر به، كما افتخر ب "كليب وائل "، وذكر ان قومه أعانوا نزارا في محاربتهم اليمن في ذلك اليوم. وذكر بعض أهل الأخبار أنه "لولا عمرو بن كلثوم ما عرف يوم خزاز". وذلك لذكره له في شعره.
وقد ذكر هذا اليوم عدد آخر من الشعراء منهم "زهير" والسفاح التغلبي، وهو سلمة بن خالد من الجرارين للجيوش، وقد قاد قومه يوم كاظمة، وقيل له السفاح لأنه سفح المزاد أي صبها في ذلك اليوم حتى يقاتل قومه قتال المستميت، وكان من خطباء حرب بكر وتغلب.
وذهب بعض أهل الأخبار الى أن يوم خزاز هو "أعظم يوم التقت فيه العرب في الجاهلية". وهو رأي يعبر عن وجهة نظر العدنانيين بالطبع. ففي هذا اليوم انتصرت نزار ومن انضم اليها من قبائل مذحج ومن انضاف اليها من قبائل اليمن ولم يسبق لقبائل نزار،وهي مضر وربيعة وبقية معد أن تغلبت على القبائل الكبرى المنظمة المنتمية إلى اليمن. فكان يوم نصرها هذا من أعظم الأيام عندها، بعث فيها روح المقاومة والاعتماد على النفس في مقاومة القبائل القوية الي تنسب نفسها إلى اليمن.

(1/2864)


--------------------------------------------------------------------------------

وإذا أخذنا برأي القائلين إن يوم خزار كان عقب يوم السلان، يكون هذا اليوم قد وقع أيام النعمان بن المنذر، اي في أواخر ايام المناذرة وفي النصف الثاني من القرن السادس للميلاد، إذ يذكر الأخباريون أن سبب وقوع يوم السلان هو ان بني عامر بن صعصعة كانوا قوما حمسا، أي متشددين في دينهم، لقاحا لا يدينون للملوك. وكان من عادة النعمان بن المنذر أن يجهز كل عام لطيمة لتباع بعكاظ، فتعرض لها بنو عامر، فغضب النعمان، وبعث عليهم وبرة الكلبي أخاه لأمه ومعه الصنائع والوضائع وجماعة من بني ضبة بن أد والرباب وتميم، وانضم اليهم ضرار بن عمرو وأولاده، وهم فرسان شجعان، وحبيش ابن دلف، وطلب منهم أن يذهبوا إلى عكاظ فإذا فرغوا من البيع، وانسلخت الأشهر الحرم، قصدوا بني عامر بنواحي السلان.
فلما فرغوا من عكاظ، علمت بخطتهم قريش، وأرسل عبد الله بن جدعان قاصدا أخبر بني عامر بغرض القوم، فحذروا وتهيأوا للحرب، وتحرزوا ووضعوا العيون، وسلموا قيادتهم لفارس شهير معروف هو عامر بن مالك المعروف بملاعب الأسنة. فلما التقوا تغلبوا على قوة النعمان وهزموها، وأخذوا وبرة أسيرا. ولم يفكوه من أسره إلا بألف بعير وفرس ويدخل يوم الكلاب الثاني في عداد هذه الأيام. وقد وقع عقب يوم الصفقة، وقع بين تميم وبني سعد و الرباب وبين مذحج ومن التف حولها من قبائل اليمن.

(1/2865)


--------------------------------------------------------------------------------

فلما بلغ مذحج ما حل بتميم بالمشقر وبهجر بعد الصفقة، وما سمعته من تخوفهم من انتقام كسرى كل مرة ثانية منهم ومن دوران العرب عليهم، مشى رجال مذحج بعضهم إلى بعض، وقالوا: اغتنموا بني تميم، ثم بعثوا الرسل في قبائل اليمن وأحلافها من قضاعة، ثم سألت مذحج كاهنها المأمور "الحارثي" في أمر هذا الهجوم فنهاها، ولكنها لم تأخذ برأيه، بل سارت طامعة في تميم، وقد جمعت اثني عشر ألف مقاتل، من مذحح وهمدان و كندة: وهو أعظم جيش أخرجه العرب كما يقول علماء الأخبار.وكان من رجالهم يزيد بن عبد المدان، ويزيد ابن المخرم، ويزيد بن الكيشم "الكيسم" "اليكسم" بن المأمور "المأموم"، ويزيد بن هوبر وهم كلهم حارثيون، ومعهم عبد يغوث الحارثي، وأقبلت بنو سعد والرباب. ورئيس الرباب النعمان بن جساس ورئيس سعد بن قيس بن عاصم،والتقت في أوائل الناس بجموع مذحج وهمدان وكندة، واختلطوا واقتتلوا قتالا شديدا انتهى في آخر النهار بمقتل "النعمان بن جساس". وقد دفع مقتله بني تميم على الثبات والوقوف للأخذ بالثأر، حتى تمكنت من الانتقام لنفسها، بأن انتصرت على اليمن. فأسر "عبد يغوث بن وقاص الحارثي"، "عبد يغوث ابن صلأة الحارثي" سيد "بني الحارث"، وقتل خمسة من أشراف اليمن، وأخذت الرباب "عبد يغوث" وقتلته بقتل "النعمان بن جساس". وهكذا انتهى هذا اليوم بفوز بني تميم. وكان رئيسها في هذا القتال: قيس بن عاصم. ويسمى الكلاب الثاني: يوم جز الدوابر.. و دعاه "ابن رشيق القيرواني" ب "يوم الشعيبة ".
ونعت بعض أهل الأخبار اليزيديين الأربعة المذكورين وهم قادة القوم: يزيد ابن هوبر، ويزيد بن عبد المد ان، ويزيد بن المأموم، ويزيد بن المخرم،
ب "أربعة أملاك". ويدل ذلك على انهم كانوا يلقبون بلقب ملك، وأن"بني الحارث" كانوا قد نصبوهم عليهم، وإن كان لقب "ملك" لا يتجاوزفي الواقع لقب "شيخ" في عرف هذا اليوم.

(1/2866)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان من ابرز رجال تميم في هذا اليوم سبعة من رؤسائهم، هم: أكثم بن صيفي، والأحيمر "الأعيمر" بن يزيد بن مرة المازني، وقيس بن عاصم المنقري، وأبير بن عصمة التيمي، والنعمان بن جساس "الحسحاس." التيمي، وأبين بن عمرو السعدي، والزبرقان بن بدر السعدي. وبرز فيه اسم "مصاد بن ربيعة بن الحارث" و "عصمة بن أبير التيمي" وهو الذي أسر "عبد يغوث"، و "قبيصة بن ضرار الضبي"، وهو الذي شد على "ضمرة بن لبيد الحماسي الكاهن" فطعنه وخر صريعا،فقال له قبيصة: ألا انبأك تابعك بمصرعك اليوم.
وأما "الكلاب الأول"، فكان لسلمة ين الحارث بن عمرو المقصور،ومعه: بنو تغلب والنمر بن قاسط، وسعد بن زيد مناة والصنائع، على أخيه "شرحبيل ابن الحارث بن عمرو"، ومعه بكر بن وائل بن حنظلة بن مالك، وبنو أسد، وطوائف من بني عمرو بن تميم، والرباب. فقتل "شرحبيل"، قتله "أبو حنش عاصم بن النعمان الجشمي"، ويقال: بل قتله "ذو الثنية حبيب ابن عتبة الجشمي".

(1/2867)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن هذه الأيام يوم "فيف الريح"، وهو موضع بأعلى نجد، وقع بين مذحج وعامر. وسببه أن "بني عامر " كانوا يطلبون " بني الحارث بن كعب " بأوتار كثيرة، فجمع لهم الحصين بن يزيد الحارثي، وكان يغزو بمن تبعه من قبائل مذحج وأقبل في بني الحارث وجعفي، وزبيد، ومراد، وقبائل سعد العشيرة، ومراد، وصداء، ونهد، واستعانوا بقبائل خثعم وعليهم أنس بن مدرك، فخرج شهران وناهس وأكلب عليهم أنس بن مدرك، وأقبلوا يريدون بني عامر، وهم منتجعون "فيف الريح"، ومع مذحج النساء والذراري، حتى لا يفروا، إما ماتوا جميعا.فاجتمعت بنو عامر كلها الى عامر بن الطفيل "عامر بن مالك ملاعب الأسنة"، والتقى الجمعان في قتال لم يعط نصرا بينا لأحد الطرفين، إذ وقع القتل في الفريقين، ولم يستقل بعضهم عن بعض غنيمة، وكان الصبر والشرف لبني عامر. وممن قتل أو جرح فيه: الصميل بن الأعور الكلابي، وحسيل بن عمرو الكلابي، وخليف بن عبد العزى النهدي، وكعب الفوارس بن معاوية بن عبادة بن البكاء، وعامر بن الطفيل.
ومن أيام القحطانيين مع العدنانيين "يوم ظهر الدهناء". كان أوس بن حارثة بن لأم سيدا في قومه طيء، مطاعا فيهم، جوادا معروفا. جباه النعمان ابن المنذر حلة على العادة المتبعة عند ملوك الحيرة في تكريم الرؤساء الذين يفدون عليهم، وفضله على غيره، بأن طلبه وكان غائبا دون قوم من السادة الأشراف، فاغتاظ حساده من ذلك وأوعزوا إلى بعض الشعراء بهجائه،فهجاه بشر بن ابي خازم وهو من بني أسد، وأسرف في هجائه، فاغتاظ أوس من ذلك، وجمع قومه. من طيء، وأوقع ببني أسد بظهر الدهناء، وقتل منهم قتلا ذريعا، فانهزمت منه، وهرب بشر، فجعل لا يأتي حيا يطلب جوارهم إلا امتنع من إجارته على أوس إلى ان التجأ إلى أم أوس، فأجارته، وأجاره أوس عندئذ، وعفا عنه، ومن عليه وأعطاه وحباه، فانقلب مادحا له.

(1/2868)


--------------------------------------------------------------------------------

والأيام التي ذكرها الأخباريون عن حروب العدنانيين مع ملوك اليمن للحصول على استقلالهم، قليلة. ولا يعني حكم اليمن للعدنانيين أن تبابعة اليمن كانوا يحكمون تلك القبائل حكما مباشرا، وانما هو في الواقع وكما يظهر من غربلة هذه الروايات حكم كان يتسع ويتقلص تبعا لقدرة الحكام وشخصياتهم، ولاتفاقاتهم مع سادات تلك القبائل،ولأن القبائل العدنانية هي قبائل بدوية في الغالب لا تستقرعلى حال، ومن طبع البداوة التنازع والتخاصم. ثم إن سادات القبائل كانوا كما هو شانهم في كل وقت متنافسين متخاصمين، لذلك وجد ملوك اليمن، وهم ملوك شعب أكثريته مستقرة، من السهل عليهم التدخل في شؤون تلك القبائل بتأييد هذا الرئيس على منافسه، وبتعيين رئيس من رؤساء القبائل الكبيرة على قبيلة أو جملة قبائل أخرى ضعيفة أو متخاصمة، لتهيئة الحال واقرار الأمن. فصار من العادة بين القبائل العدنانية، بل بين القبائل القحطانية كذلك، أو بين كبار سادات القبائل، أن يلجأوا إلى التبابعة للتدخل في الخصومات واقرار الأمن بالحكم بين المتخاصمين، أو بعيين رجل محترم كبير من اليمن أو من غير اليمن عليهم.ونجد بين روايات الأخباريين روايات تؤيد هذا الرأي.
ويدخل الأخباريون في أيام العدنانيين مع القحطانيين الأيام التي وقعت بين القبائل العدنانية وبين ملوك الحيرة لاعتدادهم من قحطان. وكذلك يدخل أهل الأخبار في أيام القحطانية مع العدنانية، والأيام التي وقعت بين ملوك بني سليح والغساسنة من بعدهم وبين القبائل العدنانية، والأيام التي وقعت بين كندة وبين القبائل العدنانية.
وإذ أسلفت الكلام على ايام تلك الحكومات مع القبائل العدنانية في المواضع المناسبة، فإني أكتفي بالاشارة اليها، على أمل الرجوع إلى تلك الأماكن لمن يريد الوقوف عليها.

(1/2869)

admin
01-01-2011, 01:10 AM
أما أشهر ايام القحطانيين، فالأيام التي وقعت بين المناذرة والغساسنة، والأيام التي وقعت بين هؤلاء الملوك وملوك كندة وأمرائها، ثم الأيام التي وقعت بن القبائل المنتسبة إلى اليمن، مثل الأيام التي وقعت بين الأوس والخزرج، والأيام التي وقعت بين قبائل طيء، وأمثال ذلك. ولما كنت قد تحدثت عن معظم هذه الأيام، فسأكتفي بما تحدثت عنها، وأتحدث عن النابه من بقية الأيام فقط مما لم أتحدث عنه سابقا.
وتؤلف الأيام التي وقعت بين القبائل العدنانية الجزء الأكبر من أيام العرب، وهي أهمها وأغناها بالشعر والأمثال والقصص. وكان لتميم وبكر وتغلب أثر خطير فيها. وأشهر هذه الحروب، الحرب المسماة بحرب البسوس، وقعت بين بكر وتغلب ودامت أربعين عاما على ما يذكره الأخباريون.
وتغلب وبكرهما من قبائل ربيعة، لذلك تكون حرب البسوس من الحروب التي وقعت بين قبائل ربيعة، لأن أيام العدنانيين هي أيام وقعت بين قبائل ربيعة وحدها، وأيام وقعت بين قبائل من ربيعة وقبائل من مضر، وأيام وقعت بين قبائل مضر.
وذكر بعض أهل الأخبار أن أشهر أيام بكر وتغلب، خمسة أيام مشاهير. أولها يوم عنيزة و تكافأوا فيه، والثاني يوم واردات، وكان لتغلب على بكر.
والثالث يوم الحنو، وكان لبكر على تغلب. والرابع يوم القصيبات، وكان لتغلب على بكر. والخامس يوم قضة، وهو آخر أيامهم، وكان لبكر. وفيه أسر مهلهل بن ربيعة.
وتولد من هذه الحرب قصص وشعر، ونسب إلى أبطال الأيام التي وقعت فيها، وأمثلة ذكر انها قيلت في المناسبات، صارت على العادة أمثلة شائعة بين الناس.
وليست حرب البسوس في الواقع حربا واحدة، انما هي حروب عدة وقعت في تلك المدة المذكورة وفي اوقات متقطعة إلى أن انقطعت بوساطة المنذر بن السماء وتدخله بين الفريقين.

(1/2870)


--------------------------------------------------------------------------------

والذي أثار نيران هذه الحرب هو جساس بن مرة بن ذهل بن شيبان أخو "جليلة" امرأة كليب بن ربيعة سيد قومه تغلب، وذلك بقتله كليبا، لأنه أدمى ضرع ناقة للبسوس خالة جساس، إذ كانت ترعى في أرض حماها كليب ومنع الرعي فيها إلا لإبله. وقد أثار عمل كليب هذا غضب جساس، فقتله، وثارت بذلك الحرب بين تغلب وبكر قوم جساس.
وكليب بن ربيعة، أو "كليب وائل" كما يعرف عند بعض أهل الأخبار،
هو وائل بن ربيعة بن الحارث بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو ابن غنم بن تغلب. رجل صلب قوي، تمكن بمواهبه وبقدرته من السيطرة على قبائل ليست السيطرة عليها بأمر سهل يسير، ومن إقامة نفسه ملكا عليها، ومن أخذ الإتاوة من القبائل، ومن الانتصار على قبائل اليمن في يوم خزاز. وبقي على ذلك دهرا، حتى داخله و هو شديد، فأخذ يبغي على القبائل ويشتط في أخذ الإتاوة منها وفي اتخاذ خيرة الأرضين المخصبة أحماء لا يجوز لإبل غيره الرعي فيها، ولا الاستيلاء على مواضع الماء، حتى ضجرت الناس منه، فكانت نتيجته ما تقدم.
وأخذ المهلهل "واسمه عدي بن ربيعة"، وهو أخو كليب على نفسه عهدا بأن يترك النساء، والغزل، والقمار، والشراب، حتى يثأر بقتل أخيه، وجمع قومه، ووقعت حروب. ومهلهل هذا هو أول من هلهل الشعر، أي أرقه على حد رواية أهل الأخبار.
وقد أقام أصحاب "كليب" قبة رفيعة على قبره، تكريما له. شأن الجاهليين في ذلك الزمن من إقامة القباب على قبور الكبار.
وفي جملة الأيام التي يدخلها أهل الأخبار في حرب البسوس: يوم النهي، ويوم الذنائب، ويوم واردات، ويوم عنيزة، ويوم القصيبات، ويوم تحلاق اللمم.

(1/2871)


--------------------------------------------------------------------------------

وكما كان كليب سيد تغلب، كذلك كان زهير ين جذيمة العبسي سيد قيس عيلان. وقيس عيلان قبائل كبرى عديدة، كان لها شأن بين القبائل وخطر، ترأس غطفان، وقادها كلها وساد على عبس وذبيان، ولمكانته هذه ولسؤدده تزوج اليه النعمان بن امرىء القيس ملك الحيرة، فتوسع بذلك نفوذه وعظمت منزلته عند القبائل، ولا سيما القبائل المتصلة به والقبائل الخاضعه لملوك الحيرة.
واتفق ان أحد أولاد زهير - واسمه شأس - كان عائدا من زيارته للنعمان ومعه هدايا ثمينة وألطاف فاخرة حباه بها النعمان، فطمع به رجل من غني اسمه "رياح بن الأسك الغنوي" وقتله بموضع منعح. فلما علم بذلك أبوه، أخذ بقتل كل من وقعت عليه يده من غني. وغزت بنو عبس غنيا ومعها الحصين بن زهير أخو شأس، فطلبت غني من رياح ترك أرضها والارتحال عنها، وصار هذا القتل سببا لإثارة البغضاء بين عبس وغني لما أوقعه زهير بغني من القتل.
ويوم منعج ويسمى أيضا ب "يوم الردهة"، من الأيام التي وقعت بين قبائل قيس. ومن هذه الأيام: يوم النفراوات "النفرات"، ويوم بطن عاقل وداحس والغبراء، والرقم، والنتاءة، وحوزة الأول، وحوزة الثاني، واللوى.
وكان زهير يأخذ الإتاوة من هوازن كرها،تدفعها اليه كل عام بسوق عكاظ وهي مكرهة. وكانت هوازن تعترف بسيادته عليها وتعتبره ربا، وهي يومئذ لا خير فيها، وإنما هي رعاة الشاء في الجبال. فإذا كانت أيام عكاظ أتاهما زهير، ويأتيها الناس من كل وجه، فتأتيه هوازن بالإتاوة التي عليهم، فيأتونه بالسمن والأقط والغنم، ثم إذا تفرق الناس نزل بالنفراوات. فلما كان الدفع، ذهب زهير على عادته لأخذ الإتاوة، انتهز "خالد بن جعفر بن كلاب" هذه الفرصة، فذهب إلى هوازن، وحرضها على زهير. فلما بلغ زهير أطراف بلاد هوازن، باغته خالد بن جعفر ومعه جمع من هوازن، فقتل زهير، ورجع به أبناؤه إلى بلادهم ليدفنوه. وقط عرف اليوم الذي قتل فيه زهير بيوم النفراوات.

(1/2872)


--------------------------------------------------------------------------------

وعزمت غطفان على الأخذ بثأر زهير من خالد، فخاف خالد على نفسه منها، وفر إلى الحيرة ليستجير بالنعمان في رواية،أو بالأسود بن المنذر في رواية أخرى. عندئذ تعهد الحارث بن ظالم المري. وهو فاتك معروف، لبنى زهير بقتل خالد إذا كفت غطفان عن هوازن، وقد بر بوعده، إذ اغتاله وهو في قبة كان النعمان قد أمر بنصبها له. وذلك ببطن عاقل، فعرف اليوم به. فلما علم بذلك النعمان، أمر بطلبه ليقتله بجاره، وأخذت هوازن تطالب به لتقتله بسيدها خالد.
ففر الحارث إلى بني دارم من تميم، واستجار بضمرة بن ضمرة بن جابر ن قطن، فأجاره ضمرة على النعمان وهوازن، فكان ذلك سببأ لتجهيز النعمان جيشا على بني دارم انتقاما منها لتجاسرها على ايواء من يطلب قتله.
وورد في رواية أخرى أن لجوء "الحارث بن ظالم" كان إلى "معبد بن زرارة"، وأن بني تميم استاءت من لجوئه إليه، لأنه أوى هذا المشؤوم الأنكد، وأغرى بهم الأسود ملك الحيرة، وخذلوه غير بني ماوية وبني عبد الله بن دارم.
وجاء في خبر أن "الحارث بن ظالم" كان عند "حاجب بن زرارة بن عدس بن عبد الله بن دارم". وقد وعده النصرة والمنعة. وبلغ الأحوص بن جعفر الكلابي أخو خالد بن جعفر، مكان الحارث بن ظالم، فسار على تميم، حتى أدركها ب "حرحان"، فاقتتلوا اقتتالا شديدا، وانهزمت بنو تميم، وأسر معبد بن زرارة، أسره عامر والطفيل ابنا مالك بن جعفر بن كلاب. فوفد لقيط بن زرارة في فدائه، وعرض عليهما مئتي بعير في فدائه، فامتنعا قائلين: أنت سيد الناس، وأخوك معبد سيد مضر، فلا تقبل فيه إلا دية ملك. فأبى أن يزيدهم، ورجل لقيط عن القوم ومنع بنو عامر معبدا عن الماء وضاروه حتى مات هزالا.وورد في رواية انه أبى أن يطعم في شيئا أو يشرب حتى مات هزالا.

(1/2873)


--------------------------------------------------------------------------------

وأمر النعمان جيشه بالتوجه إلى بني دارم، وانضم اليه الأحوص بن جعفر أخو خالد، ومعه جمع بني عامر، للانتقام من الحارث قاتل خالد. فعلمت بنو دارم بمجيء الجيش، واستعدوا للقتال، فلما التقى الجمعان، قتلت بنو مالك ابن حنظلة "ابن الخمس التغلبي" رئيس جيش النعمان، وصبرت بنو دارم، وأقبل قبس بن زهير فيمن معه، فانهزمت بنو عامر، وانهزم جيش النعمان، وعادوا إلى ديارهم، وكان رئيس بني دارم زرارة بن عدس سيد بني تميم.
وهناك روايات أخرى عن هذا الحادث وعن الحارث ذكرتها في الفصول السابقة.
وصارت الرئاسة إلى قيس بعد مقتل والده "زهير بن جذيمة العبسي"، ويصفه الأخباريون بجودة الرأي وبحسن التجارب،ويقولون إنه لذلك عرف ب "قيس الرأي"، ويذكرون له في ذلك أقوالا وحكما ونصائح، ويروون طائفة من ذلك، ولا سيما مما قاله في مناسبات حرب داحس والغبراء.
ويذكر أهل الأخبار أن قيس بن زهير بن جذيمة العبسي، كان قد سار الى المدينة ليتجهز لقتال عامر، والأخذ بثار أبيه، فأتى "أحيحة بن الجلاح" ليشتري منه درعا موضونة، فقال له: لا أبيعها، ولولا أن تذمني بنو عامر لوهبتها منك، ولكن خذها بابن لبون. ففعل ذلك، وأخذ الدرع، ووهبه أحيحة أدراعا، و عاد قيس الى قومه، فاجتاز بالربيع بن زياد العبسي، فدعاه إلى مساعدته.على الأخذ بثأره، فأجابه إلى ذلك. فلما أراد فراقه، نظر إلى عيبته فقال: ما في حقيبتك ? قال: متاع عجيب،لو أبصرته لراعك،وأناخ راحلته، وأخرج الدرع، فأخذها ومنعها من قيس، ولم يعطه اياها، وترددت الرسل بينهما. فلما طالت الأيام على ذلك، سير قيس أهله إلى "مكة، فأغار قيس على نعم الربيع، واستاق منها أربع مئة بعير، وسار بها إلى مكة وباعها من عبد الله ابن جدعان واشترى بها خيلا، وتبعه الربيع فلم يلحقه، فكان فيما اشترى من الخيل داحس والغبراء.

(1/2874)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد اقترن اسم قيس بهذه الحرب الشهيرة التي يتناقل الناس قصصها الطريفة حتى اليوم، وهي حرب ثارت بين عبس و ذبيان بسبب إختلاف على سباق خيل كان قد تراهن عليه حذيفة بن بدر بن فزارة سيد ذبيان و قيس بن زهير، اشتركت فيه خيار خيل قيس و حذيفة وفي مقدمتها داحس والغبراء والخطار والحنفاء. وقد ادعى كل واحد من المتنافسين أن فرسه كان السابق، وانه هو الكاسب للرهان في قصص طويل يتخلله شعر وكلام وجواب. وانتهى النزاع الى ما ينتهي اليه كل نزاع من هذا القبيل، وهي الحرب.
وهي حرب استمرت سنين،قتل فيها حذيفة بن بدر وعدة رؤساء،واشركت فيها شيبان وضبة وأسد وغطفان وقبائل أخرى، كما ساهم فيها ملك هجر، وامتدت إلى أن اتصلت بالإسلام. وللشاعر زهير بن أبي سلمى ذكر فيها. ولم تنته إلا بتوسط الرؤساء حيث سويت بدفع الديات، وبإنهاء تلك الحرب التي شغلت تلك القبائل وأقلقت الأمن لذلك السبب التافه على زعم قول الرواة.
وفي جملة حروب داحس والغبراء، يوم العذق، وهو ماء، انهزمت فيه فزارة، وقتلوا قتلا ذريعا، وأسر حذيفة، فاجتمعت غطفان وسعت للصلح، فاصطلحوا على أن يهدر دم بدر بن حذيفة بدم مالك أخي قيس، وتساووا فيما بقي، فأطلق حذيقة من أسره.
ثم وقعت حرب أخرى، مثل يوم "البوار"، وكان الفوز فيه لعبس على فزارة وأسد وغطفان، و يوم الهباءة، ويوم الجراجر، إلى غير ذلك من أيام.
ولامتداد هذه الحرب سنين عديدة، وانتشارها خارج نطاق حدود قبيلتي عبس وذبيان، شملت أرضين واسعة، وتخللتها جملة أيام لها اسماؤها. وهي بالطبع كلها من أيام هذه الحرب: حرب داحس والغبراء.
وإذا قرأت قصة داحس والغبراء، قرأت قصص شجاعة بطل مغوار أظهرشجاعة فائقة في هذه الحرب، وكان له فيها شعر، هو عنترة بن شداد العبسي. وقصص شجاعة عنترة معروفة حتى اليوم،مشهورة، يسمعها الناس بشوق ورغبة، وهي عندهم أشهر من قصص داحس والغبراء: هذه الحرب التي خلد اسمها هذا الشعر وأمثاله.

(1/2875)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي يوم الرقم، غزت بنو عامر غطفان وعليهم عامر بن الطفيل شابا لم يرأس بعد، فخرجت اليهم بنو مر ة بن عوف، وأشجع، وناس من فزارة،وكلهم من غطفان، فقاتلوا بني عامر، وتغلبوا عليهم. وفر عامر بن الطفيل، وشنق الحكم بن الطفيل نفسه، ليتخلص بذلك من الأسر. ويروي الأخباريون لعروة ابن الورد وللنابغة الذبياني ولعامر بن الطفيل شعرا ذكروا أنهم قالوه في هذا اليوم.
وقد منيت بنو عامر بهزيمة أخرى يوم النتاءة، وكانت قد خرجت إلى غطفان تريد الأخذ بثأرها من هزيمة يوم الرقم، فأغارت على نعم بني عبس وذبيان وأشجع فأخذوها، فتعقبتها عبس وأشجع وفزارة حينما عادوا بالغنائم، والتحموا بها، وأوقعوا بها هزيمة كبيرة، وقتلت كثيرا منهم، ونجا عامر بن الطفيل بفرسه المشهور المسمى الورد.
وقد منيت بنو عامر بهزيمة أخرى يوم شواحط الذي وقع بين بني عامر وبني محارب بن خصفة، وذلك حينما أغارت جماعة من بني عامر على بلاد غسان.
ويعد عامر بن الطفيل من فرسان العرب المشاهير. وهو من المعاصرين للرسول، وقد تعرض لنفر من أصحاب رسول الله كان الرسول قد أرسلهم بناء على رغبة "أبي براء عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب" ملاعب الأسنة. وكان سيد بني عامر بن صعصعة،وذلك ليعلموا أهل نجد الإسلام ويفقهوهم في الدين. وقد تعهد للرسول بأن يحميهم، وأن يكونوا في جواره. فلما بلغ النفر "بئر معونة "عدا عليهم "عامر بن الطفيل" فقتلهم، واستاء من ذلك أبو براء.

(1/2876)


--------------------------------------------------------------------------------

ووقعت بين سليم وغطفان حرب بسبب مقتل معاوية بن عمرو بن الشريد السلمي، يوم حوزة الأول، وكان سبب هذا اليوم تأثر معاوية من كلام امرأة من بني مر"ة كانت جميلة وسيمة دعاها لنفسه، وقد رآها بعكاظ، فامتنعت، فغزا لذلك بني مرة. فلما علمت بنو مرة بقدومه عليهم، تجهزوا له وقتلوه. فقرر صخر بن عمرو الشريد السلمي الانتقام من قتلة أخيه، فأغار على بني مرة في يوم حوزة الثاني، وقتل دريد بن حرملة أخا هاشم بن حرملة رئيس بني مرة. ثم قتل رجل من بني جشم هو عمرو بن قيس الجشمي هاشم بن حرملة،فاستراحت بذلك بنو سليم، وسرت الخنساء بمقتل هاشم، ولها شعر كثير في رثاء أخويها معاوية وصخر.
وقد توفي صخر على أثر إصابته بجرح ظل يفتك به مدة طويلة، أصيب به في غزوة غزا بها بني أسد بن خزيمة. فتعقبته بنو أسد لتخلص إبلها منه،وكان قد اكتسحها منهم في هذا الغزو، فلما كان في موضع ذات الأثل، لحقت به وجرحته فقضى هذا الجرح عليه.
ومن أيام هوازن وغطفان يوم اللوى، وقد قتل فيه عبد الله بن الصمة أخو دريد بن الصمة. وكان عبدالله قد غزا مع بني جشم وبني نصر أبناء معاوية بن بكر بن هوازن غطفان، فظفر بهم وساق أموالهم. وبينما كان عائدا بغنائمه، فاجأته عبس وفزارة وأشجع في موضع اللوى، فقتلوه واستعادوا ما كان قد غنمه منهم، وجرح دريد أخوه. فلما شفي دريد من جرحه، أغار على غطفان لينتقم منها لمقتل أخيه، وقتل رجالا منهم، واستاق جملة أسرى. وقد عرف هذا اليوم بيوم الغدير.

(1/2877)


--------------------------------------------------------------------------------

ويذكر أهل الأخبار أنه قد كان بين "دريد بن الصمة" و "ربيعة بن مكدم" يوم، عرف ب "يوم الظعينة". وكان دريد قد خرج في فوارس من "بني جشم" حتى إذا كان في واد يقال له: "الأحزم " وهم يريدون الغارة على بني كنانة،رفع له رجل في ناحية الوادي ومعه ظعينة، فأرسل فرسانا من فرسانه ليأتوا اليه بخبره، فلم يعودوا، فذهب "دريد" بنفسه اليه ليراه، فأخذ الرجل منه رمحه وخلى، ثم انصرف دريد إلى أصحابه، ثم لم تلبث "بنو كنانة" أن أغارت على بني جشم، فقتلوا وأسروا "دريد بن الصمة"، وكان الرجل الذي أخذ رمح دريد يوم الظعينة، هو "ربيعة بن مكدم"، فلما سأل "دريد" وهو في الأسر عنه، قيل له: "قتلته بنو سليم"، ثم أطلق، وجهز، ولحق بقومه. فلم يزل كافا عن غزو بنى فراس حتى هلك.
ولدريد يوم مع غطفان عرف ب "يوم الصلعاء". وقد انتصرت فيه هوازن على غطفان، وقتل فيه دريد ذؤاب بن زيد بن قارب.
ودريد بن الصمة من الفرسان المعروفين كذلك، وقد ترأس قومه في عدة غزوات. ويعده الأخباريون في جملة البرص الأشراف، وهو ممن أدرك الإسلام.
و "ربيعة بن مكدم" فارس مشهور، وهو فارس بني كنانة، وبنو كنانة من أنجد العرب، عرفوا بالشجاعة حتى قيل إن الرجل منهم يعدل بعشرة من غيرهم. وصادف أن قتلت "بنو فراس" رجلين من بني سليم، فحقدت بنو سليم عليهم. فلما كان ظعن من بني كنانة ب "الكديد"، وفيهم ربيعة بن مكدم، تلقاهم قوم من "بني سليم"، فاقتتلوا معهم، وقتل ربيعة في ذلك اليوم. ولما دفن عقر على قبره. وكان "يعقر على قبره في الجاهلية، ولم يعقرعلى قبر أحد غيره".

(1/2878)


--------------------------------------------------------------------------------

ولما قتلت بنو سليم "ربيعة بن مكدم"، غزا "مالك بن خالد بن صخر ابن الشريد" سيد "بني سليم" "بني كنانة". وكان بنو سليم قد توجوا مالكا وأمروه عليهم، حتى عرف ب "ذي التاج". فأغار "ذو التاج" على "بني فراس" وهم من "بني كنانة" ب "بزرة". وكان رئيس بني فراس "عبد الله بن جدل"، فدعا "عبد الله" "ذا التاج" إلى البراز، فشد عليه، وقتله. وعرف هذا اليوم ب " يوم فزارة ". و ب " يوم بزرة".
ثم إن بني الشريد حرموا على أنفسهم النساء والدهن أو يدركوا ثأرهم من كنانة فأغار "عمرو بن خالد بن صخر بن الشريد"، بقومه على بني فراس، فقتل منهم نفرا، وسبى سببا فهم ابنة مكدم أخت ربيعة بن مكدم.
وتميم من القبائل التي يرد اسمها في الأيام. ومن هذه الأيام عدة أيام وقعت بينها وبين قبائل ربيعة وأيام أخرى وقعت بينها وبين قيس. ومن أيامها مع قبائل ربيعة: يوم الوقيط ويوم ثيتل "نبتل "، ويوم جدود، ويوم زرود، ويوم ذي طلوح، ويوم الغبيط، ويوم قشاوة، ويوم زبالة، ويوم مبايض، ويوم الزورين، و يوم عاقل.
أما يوم الوقيظ،فكان بين اللهازم من ربيعة وبين تميم. وأما "ثيتل" "نبتل" فيذكر مع يوم النباج أيضا، وهما يومان متقاربان وقعا في موضعين متقاربين.
وقد وقعا بسبب خروج قيس بن عامر المنقري رئيس مقاعس بجماعته ومعه سلامة ابن ظرب رئيس الأجارب لغزو بكر بن وائل. فلما وصلا إلى النباج وثيتل، وجدا اللهازم وبني ذهل بن ثعلبة وعجل بن لجيم وعنزة بن أسد بهذين الموضعين، فأغار قيس على أهل النباج واقتتل معهم، فانهزمت بكر. فعاد قيس بغنائم عديدة فوجد سلامة، وهو في موضعه لم يغر بعد على من بثيتل من ناس، فأغار قيس عليهم، وسلم ما غنمه إلى سلامة.

(1/2879)


--------------------------------------------------------------------------------

ووقع يوم جدود بسبب عزم الحارث بن شريك على غزو بني سليط بن يربوع.جمع الحارث بني شيبان وذهلا واللهازم ثم سار بهم إلى أرض بني يربوع راجيا مباغتتهم. ولكنه ما كاد يصل إلى بلادهم حتى شعروا به، وهاجوا عليه. فلم يتمكن من غزوهم، فتركهم وذهب نحو بني ربيع بن الحارث بجدود، فأغار عليهم، وأصاب سبيا ونعما. فبعث بنو ربيع صريخا إلى بني كليب بن يربوع يطلب العون، فلم يجيبوهم، فذهب الصريخ إلى بني منقر بن ****، فركبوا في الطلب، ولحقوا بكر بن وائل واصطدموا بهم وانتصروا عليهم فرجعوا بأموال وغنائم وبما كانت بكر بن وائل سلبته من بني ربيع بن الحارث. وكان رئيس بني يربوع في هذا اليوم: قيس بن عاصم المنقري.
ويعد الحارث بن شريك من الجرارين في ربيعة، ويعرف بالحوفزان. وفي يوم ذي طلوح وقع أسيرا في أيدي بني يربوع. فلما غزا مع قومه بني يربوع في هذا اليوم، كانت يربوع يقظة عارفة بعزم بكر. فأخذوا بكرا على غرة،وسقط الحوفزان أسيرا فجزت ناصيته،ودفع مئتين من الإبل حتى فدى نفسه من الأسر.
وأما قيس بن عاصم المنقري، فهو من سادات "منقر" من تميم، ويعد من سادات أهل الوبر، ومن حلماء بني تميم، وممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية.
ولما أغار حزيمة "خزيمة" بن طارق التغلبي على بني يربوع، وهم بزرود، واستاق إبلهم، كانت نتيجة غزوته هذه أن تعقب بنو يربوع أثره وأسروه،واستنقذوا ما كان قد أخذ، ثم أسروه ولم ينج إلا بعد جز ناصيته ودفع مئة من الإبل.
وكان يوم "ذي طلوح" وهو موضع في حزن بني يربوع بين الكوفة وفيد، لبني يربوع من تميم على بكر من ربيعة. وقد أخذ "الحارث بن شريك" أسيرأ، أخذه حنظلة بن بشر، وكان نقيلا في بني بشر، فاختصم عبد الله بن الحارث، وعبد عمرو بن سنان في الحارث، فحكم الحارث في أمر نفسه،فأعطى كل واحد منهما مئة من الإبل، وجعل ناصيته لحنظلة بن بشر.

(1/2880)


--------------------------------------------------------------------------------

وانتصرت بنو يربوع على بكر في يوم الإياد كذلك، وكانت بكر قد أقبلت من عند عامل عين التمر قاصدة بني يربوع، ومعها من الرؤساء بسطام بن قيس فارس بكر وهانىء بن قبيصة ومفروق بن عمرو، فأحست بنو يربوع بمجيء بكر، وقاتلهم في موضع الإياد، وقتلت جماعة من فرسان بكر، وأسرت قوما منهم: هانىء بن قبيصة الذي فدى نفسه، فنجا.
وقد كان بسطام بن قيس مع الحارث بن شريك - الحوفزان - ومفروق بن عمرو في يوم الغبيط، وفيه غزت بنو شيبان بلاد تميم، غزوا بني ثعلبة بن يربوع وثعلبة بن سعد بن ضبة، وثعلبة بن عدي بن فزارة، وثعلبة بن سعد بن ذبيان، وكانوا متجاورين بصحراء فلج، فهزمت الثعالب، وأصابوا فيهم، واستاقوا إبلا من نعمهم. ثم ساروا في أرض بني مالك بن زيد مناة من تميم، فاكتسحوا إبلهم، فركبت عليهم بنو مالك، وعليهم عتيبة بن الحارث اليربوعي،والأحيمرابن عبد الله، وأسيد بن حباءة، وأبو مرحب، وجزء بن سعد الرياحي،وربيع والحليس وعمارة بنو عتيبة بن الحارث، ومالك بن نويرة وغيرهم، فأدركوهم بغبيظ المدرة، فقاتلوهم حتى هزموهم، وأخذا ما كانوا استاقوا من آبالهم، وقتلت بنو شيبان أبا مرحب ثعلبة بن الحارث وألح عتيبة بن الحارث، وأسيد ابن حباءة، والأحيمر بن عبد الله على بسطام بن قيس حتى وقع بسطام في أسر عتيبة. وقد وافق بسطام على دفع دية هي ثلاث مئة بعير وأن تجز ناصيته وعلى أن يعاهد بعدم غزو بني شيبان، فأفرج عنه.
وغزا بسطام بن قيس رئيس بني شيبان بني يربوع في يوم قشاوة، "يوم نعف قشاوة " وقد انتصر فيه على جماعة من بني يربوع، وعاد مع بعض الغنائم.
ويعد هذا اليوم من وقعات بسطام المعدودة. قال ابن الأنباري: "كان لبسطام أربع وقعات: أسر يوم الصحراء، وظفر يوم قشاوة، وانهزم يوم العظالى، و قتل يوم النقاء".

(1/2881)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد استحر القتل قي تغلب ومن كان معهم من تميم، وذلك في يوم بارق. وكان سببه أن بني تغلب والنمر بن قاسط وأناسا من تميم اقتتلوا حتى نزلوا ناحية بارق من أرض السواد، وأرسلوا وفدا منهم إلى بكر بن وائل يطلبون إليهم الصلح، فاجتمعت شيبان ومن معهم، وقرروا الاستفادة من هذه الفرصة، وعزموا على مباغتة القوم، فقال: زيد بن شريك الشيباني إني أجرت أخوالي وهم النمر بن قاسط، فأمضوا جواره، وساروا وأوقعوا ببني تغلب وتميم، فقتلوا منم مقتلة عظيمة، لم تصب تغلب بمثلها، واقتسموا الأسرى والأموال، وكان من أعظم الأيام عليهم.
وقد اصطدمت بنو شيبان ببعض بطون تميم في يوم زبالة كذلك. وقد حضر هذا اليوم الأقرع بن حابس، وأخوه فراس، وهما من تميم، وكانت تميم هي البادئة بغزو بكر بن وائل. اصطدمت بهم في موضع زبالة، فنزلت الهزيمة بتميم، وأسر الأقرع وفراس أخو الأقرع، أسرهما بنو تيم الله وهم من بكر.
ثم لقي بنو تيم الله بني شيبان وهم من بكر أيضا ومعهم بنو رباب، فانتزع بسطام بن قيس رئيس بني شيبان الأقرع وأخاه منهم، وصاروا أسيرين لبسطام.
ثم افتدى الأقرع واخوه أنفسهما من بسطام، وعاهداه على إرسال الفداء، فأطلقهما ولكنهما لم يرسلا له الفداء.
والأقرع بن حابس،فارس مشهور من فرسان تميم، ويعد من حكام العرب. وقد اتصل حكمه في عكاظ إلى الإسلام. ويعد أيضا من الساسة الجرارين، ومن المؤلفة قلوبهم من تميم.
وكان يوم مبايض من الأيام المهمة التي وقعت بين بني شيبان من بكر، وبين ابني تميم، وقد دارت الدائرة فيه على تميم. وألحقت بها خسائر فادحة. وسبب هذا اليوم أن فارسا من فرسان تميم يدعى طريف بن تميم العنبري كان قد وافى عكاظ في الشهر الحرام، وكان قد قتل رجلا من بني شيبان، فتعقبه ابن ذلك الرجل، ليأخذ ثأر ابيه منه.

(1/2882)


--------------------------------------------------------------------------------

وصادف ان وقع نزاع بين بي مره بن ذهل بن شيبان وبين بني ربيعة بن ذهل بن ثيبان كاد يؤدي بينها إلى حرب، فقرر هانىء ابن مسعود رئيس بني ربيعة - حقنا للدماء - الارتحال بقومه، والنزول على ماء مبايض. فلما سمع طريف العنبري بنزول ربيعة على هذا الماء، نادى قومه للاغارة على ربيعة، ما دامت منفردة، وليس لها في هذا الموضع نصير، لإضعاف بكر ابن وائل وللإنتقام منها. فعلمت ربيعة بذلك، فاستعدت للقتال. فلما هاجمت تميم ربيعة، كان بنو شيبان على استعداد، فألحقوا بتميم خسارة لم تصب بمثلها، فلم يفلت منهم إلا القليل. وانهزم طريف فتعقبه ابن الشيباني الذي قتله طريف، فقتله. فكان هذا اليوم من أهم الأيام التي وقعت بين بني شيبان وتميم. واسم قاتل "طربف"، هو "حصيصة الشيباني"، "حصيصة بن شراحيل".
و كان سادة تميم الذين قادوهم في هذا اليوم ثلاثة رؤساء، هم: أبو الجدعاء الطهوي على بني حنظلة، وابن فدكي المنقري على بن سعد، وطريف بن عمرو علي بني عمرو بن تميم.
وكان يوم الزوربن من ايام بكر على تميم كذلك. وكانت بكر تنتجع أرض تميم، ترعى بها إذا أجدبوا، فإذا أرادوا الرجوع، أخذوا كل ما وجدوه أمامهم واستاقوه معهم. فلما كثر اعتداء بكر على تميم، تفاقم الشر بينهما وعظم حتى صار لا يلقى بكري تميميا إلأ قتله، ولا يلقى تميمي بكريأ إلا قتله.
ثم عزمت تميم على التخلص من أذى بكر ومنعها من الرعي في أرضها، فحشدت واستعدت لقتال بكر، واستعدت بكر لقتال تميم. فلما اصطدم الجمعان تغلبت بكر على تميم، وقتلت منهم مقتلة عظيمة.

(1/2883)


--------------------------------------------------------------------------------

ويذكر أهل الأخبار ان سبب تسمية يوم الزورين بهذه التسمية، هو ان بني تميم كانوا قد وضعوا بكر ين مجللين مقيدين، بن.الصفين، وقالوا: هذان زورانا، أي إلهانا، فلا نفر حتى يفرا، وجعلوا عندهما من يحفظهما. فلما أبصر البكريون الزورين هجموا على حراسهما وأخذوا البعيرين وذبحوهما، أو ذبحوا أحدهما وتركوا الآخر يضرب في شولهم. فارتبكت تميم وانهزمت شر هزيمة.
وكان المقدم على بكر "عمرو بن قيس بن مسعود الشيباني"، المشهور ب "أبي مفروق"، قدمته "بكر" عليهم، فحسده سائر ربيعة، وأرادوا ازاحته عن الرئاسة، إذ كانوا يريدون أن يجعلوا على كل حي رجلا منهم، وأن يكون كل حي على حياله، فأصر ابنه "مفروق" عليه بمخالفتهم، وبقي رئيسا عليهم كلهم: فلما كان القتال، برك بين الصفن، وقال أنا زوركم، فقاتلوا عني، ولا تفروا حتى أفر. ولم يكن الحوفزان بن شريك يومئذ في القتال، فقد كان في أناس من بني ذهل بن شيبان غازيا في بني دارهم. وممن اشترك فيه: حنظلة بن سيار العجلي، وحمدان بن عبد عمرو العبسي، وأبو عمرو ابن ربيعة بن ذهل بن شيبان. وقتل فيه من بني تميم أبو الرئيس النهشلي، وهو ساداتهم.
وقد أكثر الشعراء في ذكر هذا اليوم لا سيما الأغلب العجلي، وذكره الأعشى أيضا.
وكان سبب يوم عاقل ان "الصمة بن الحارث الجشمي"أغار على بني حنظلة بعاقل، فأسره الجعدين الشماخ أحد بني عدي بن مالك بن حنظلة، وهزم جيشه، وأبطأ الصمة في فدائه فجز الجعد ناصيته وأغلظ في الكلام عليه، فضرب الصمة عنقه. فمكث الصمة زمانا، ثم غزا بني حنظلة، فأسره الحارث ابن بيبة المجاشعي "الحارث بن نبيه المجاشعي" وهزم جيشه ثم أجاره الحارث من إساره ذلك، وخرج الحارث بالصمة إلى بني يربوع من بني حنظلة ليشتري الصمة أسراء قومه. فلما رأى "أبو مرحب"، وهو ثعلبة بن الحارث،الصمة، وكان يعرف انه غدر بالجعد ظ خنس عنه، وأخذ سيفه ثم جاء فضرب به بطن الصمة فأثقله.

(1/2884)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما أشهر الأيام التي وقعت بن قيس وتميم، فيوم الرحرحان، ويوم شعب جبلة، ويوم ذي نجب، ويوم الصرائم، ويوم الرغام، ويوم جزع ظلال، و،وم المروت.
أما يوم رحرحان، فقد أشرت اليه سابقا وهو يوم وقع في أعقاب قتل الحارث بن ظالم المري خالد بن جعفر الكلابي، وكان سببه ان قوم الحارث ابن ظالم انكروا عليه فعله، ولاموه على عمله فتجنبهم وهرب منهم، ولحق بتميم فأجاروه، فاستاءت بنو عامر من ذلك، وطلبت من بني تميم تسليم الحارث اليهم. فلما أبوا، جاءت بنو عامر تريد مباغتة تميم، وكانت تميم قد علمت بمسيرها اليهم فأرسلوا بما عندهم من أثقال وأهل إلى بلاد بني بغيص. ولما كانوا في موضع
رحران، التقوا ببني عامر ورئيسهم الاحوص، فدارت الدائرة على بني تميم، واسر منهم معبد بن زرارة: اسره عامر والطفيل ابنا مالك بن جعفر بن كلاب. وشاركهما في أسره رجل من غنى يقال، له:أبو عميرة عصمه بن وهب،وكان اخا طفيل من الرضاعة وفي اسرهم مات معبد. شدوا عليه القيد وبعثوا به إلى الطائف خوفا من بي تميم ان يستنقذوه.

(1/2885)


--------------------------------------------------------------------------------

وأخذ لقيط بن زرارة يستعد ويجمع العدة، لينتقم من بني عامر، وليأخذ منهم بثأر أخيه معبد الذي أسر في يوم رحرحان، ثم هلك لمنع بني عامر الماء عنه. فذهب الى النعمان بن المنذر وأسمه في الغنائم، فأجابه. ثم ذهب إلى الجون الكلبي ملك هجر، فأجابه أيضا. ثم توجه إلى كل من عرف بعدائه لبني عامر وعبس، فأوغر صدره عليهم، ومناه بالغنيمة والنصر، فانضمت اليه بنو ذبيان لعدائها لعبس بسبب حرب داحس والغبراء، وبنو أسد للحلف الذي كان بينهم وبين بني ذبيان. فلما مضى الحول على يوم رحرحان، انهالت الجيوش على لقيط، فوصل جيش الجون الكلبي وعليه عمرو ومعاوية ابناه، ووصل جيش النعمان وعليه أخوه لأمه حسان بن وبرة الكلبي،وأقبل الحليفان أسد وذبيان وعليهم حصن بن حذيقة، وأقبل شرحببل بن أسر بن الجون بن آكل المرار في جمع من بني كندة وسار سادات تميم: حاجب بن زرارة، ولقيط بن زرارة، وعمرو بن عمرو، و الحارث بن شهاب، ومعهم أحلافهم ومن انضم اليهم، يقصدون بني عامر، فنتج عن ذلك جمع لم يكن في الجاهلية أكثر منه.
وعرفت بنو عامر بمجيء الجمع، فاستعدت له وتحصنت في شعب جبلة. اخبرها بذلك كرب بن صفوان السعدي، وكان شريفا من أشراف قومه لم يخرج مع الجمع، فخافوا من تخلفه عنهم، وعرفوا انه دبر في ذلك أمرا،وانه يقصد إخبار بي عامر. فأخذا عليه العهد بألا يفشي سر مسيرهم هذا لبنى عامر.وقد سار كرب بن صفوان إلى بني عامر، وأظهر لهم علائم هجوم بني تميم عليهم، دون أن يقول لهم شيئا عنه لئلا يخلف وعده. فعرفوا به، واستعدوا له. وبينما كان القوم على وشك الوصول إلى ديار بني عامر، عادت بنو أسد فغيرت رأيها من الاشتراك في هذا الهجوم، ورجعت عنهم، ولم يسر مع لقيط منهم إلا نفر يسير.

(1/2886)

admin
01-01-2011, 01:14 AM
ولما وصل بنو تميم واحلافهم الى شعب جبلة، كان بنو عامر على أتم استعداد للقاء وقد احتموا في مواضع منيعة حصينة من الشعب. ولما دخلوه يريدون الفتك ببني عامر وعبس،-باغتهم هؤلاء بهجوم مفاجئ افسد عليهم خطط قتالهم فارتدوا مذعورين تتعقبهم سيوف بني عامر. فكانت هزيمة فادحة نزلت بتميم وبمن كان معهم من الأحلاف كلفت لقيطا حياته، وأوقعت حاجبا في الأسر، وأوقعت غيره في الأسر كذلك.
وقد وقع هذا اليوم في عام مولد النبي على بعض الروايات، أي سنة 570 للميلاد، وبعد عام من يوم الرحرحان. وقد اشار بعض الرواة الى اشتراك عمرو بن الجون ومعاوية بن الجون في هذا اليوم، والى عقد معاوية بن الجون الألوية، فكان بنو أسد وبنو فزارة بلواء مع معاوية بن الجون. وكان بنو عمرو ابن تميم مع لواء حاجب بن زرارة، وكان لوا، الرباب مع حسان بن همام،وعقد لجماعة من بطون تميم مع لقيط بن زرارة، وكان عمرو بن الجون أول من قتل في هذا اليوم.
واسر أخوه معاوية بن الجون، كما، اسر عمرو بن عمرو بن عدس وحاجب بن زرارة. وقد حمل عنترة على لقيط.، فضربه بسيفه، ثم فدى حاجب.بن زرارة بخممس مئة من الإبل، وفدى عمرو بن عمر بمئتين.
وقد كان يوم جبلة في عام واحد مع يوم رحرحان على رواية، ويقصدون بهذا اليوم يوم رحرحان الثاني تمييزا له.عن يوم رحرحان الأول الذي غزا فيه يثربي ابن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم بن عامر بن صعصعة، وفي يوم رحرحان الثاني على هذه الرواية، كان أسر معبد بن زراره وقد نقل إلى الطائف خوفا من بني تميم أن يستنقذوه.

(1/2887)


--------------------------------------------------------------------------------

وبعد مرور عام على يوم جبلة طمعت بنو عامر في غزو بني تميم والايقاع بها، فذهبت إلى حسان بن كبشة الكندي، وعلى رأسها ملاعب الأسنة عامر ابن مالك بن جعفر وطفيل بن مالك بن جعفر وعمرو بن الأحوص بن جعفر ويزيد بن الصعق وقدامة بن سلمة بن قشير وعامر بن كعب بن أبي يكر بن كلاب، تطمعه في الغنيمة وفي الأموال الوافرة والسبي إن انضم اليها وساعدها في الغزو، فغلبه طمعه ووافق على السير معهم إلى بني حنظلة بن مالك بن تميم. وبلغ الخبر بني حنظلة، فتركوا ديارهم برأي عمرو بن عمرو بن عدس، وكانت في أعلى ذو نجب. وأما في أسفله،فكان بنو يربوع،وهم من تميم كذلك. فلما بلغ حسان ومن معه من الجيش ألموضع، اقتتلوا مع بني يربوع، فشد "حشيش بن نمران الرياحي" على حسان وضرب بالسيف على رأسه فقتل،وانهزم اصحابه، وأسر يزبد بن الصعق، وانهزمت بنو عامر وصنائع ابن كبيشة، فكان النصر فيه لبني تميم.
وفي رواية أن بني عامر استنجدت بمعاوية بن الجون الكندي، فأنجدهم بابنيه عمرو وحسان وبجيشه، فقتل في ذلك اليوم عمرو بن معاوية الكندي، وأسر حسان ابن معاوية الكندي، وقتل عامة الكنديين.
وفي رواية أخرى ان حسان بن معاوية آكل المرار، هو الذي اشترك في هذا اليوم، وقد قتل فيه:قتله حشيش بن نمران من بني رباح بن يربوع. وفي رواية أخرى انه كان في جملة من وقع في الأسر، وان المقتول رجل آخر هو عمرو بن معاوية.وقد قتل في هذا اليوم عمرو بن الأحوص رئيس بني عامر يومئذ قتله خالد بن مالك النهثملي.
وفي يوم الصرائم، وهو يوم يسمى أيضا بيوم بني جذيمة وبيوم ذات الجرف، أغارت فيه بنو عبس على ربيعة بن مالك بن حنظلة، فأتى "الصريخ" بني يربوع، فركبوا في طلب بني عبس، ؤأدركوهم بذات الجرف فقتلوا منهم جملة قتلى وأسروا بعض الرؤساء.

(1/2888)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان لبني تميم يوم آخر على بني عبس وعامر، وهو يوم مأزق "ملزق" ويسمى أيضا بيوم السوبان. وذللك بعد أن قاتلت تميم جميع من أتى بلادها من القبائل، وهم إياد وبلحارث بن كعب، وكلب، وطيء، وبكر، وتغلب وأسد، واخر من أتاهم بنو عبس وبنو عامر. ويظهر ان تميما حاربت هذه القبائل للتخلص منها، وكانت تنزل في ديارها للانتجاع في أرضها،وهى ارضون خصبة واسعة، فكلفها ذلك عدة حروب.
وقد انتصرت تميم على عامر في يوم المروت " وكان سسببه نزاع بسيط وقع بين "قعنب بن الحارث بن عمرو بن همام اليربوعي" وبين "بجير بن عبدالله العامري" بسبب نسب فرس " أدى الى غزو بجير لبني العنبر من تميم، ثم إلىملاحقة بني يربوع لبجير وجماعته من بني عامر، والى سقوط عدد من إلقتلى من بني عامر واسترداد ما كان بنو عامر قد غنموه. وقد ضرب "قعنب بن عتاب" رأس "بجير" فأطاره.
وانتصرت بنو يربوع على بني كلاب من قيس في يوم الرغام. وذلك ان "عتيبة بن الحارث بن شهاب" أغار في بني ثعلبة بن يربوع على طوائف من بني كلاب. وكان أنس بن عباس الأصم أخو بني رعل مجاورا في بني كلاب، وكان بين بتي ثعلبة بن يربوع، وبين بني رعل عهد ألا يسفك دم، ولا يؤكل مال. فجاء الكلابيون الى انس بن عباس ألاصم راجين منه أن يذهب إلى بني "ثعلبة" ليحبسهم عنهم حتى يتدبروا أمرهم ويستعدوا للقتال. فذهب أنس اليهم وقابل حنظلة بن الحارث شقيق عتيبة بن الحارث، و كلمه في أمر ما بينه وبين بني ثعلبة من عهد ث فأجيب الى طلبه، وتباطأ،في أخذ ما سلبه منه بنو ثعلبة من الابل حتى جاءت فوارس بني كلاب، فحمل "الحوثرة بن قيس" وهو من فرسان بني كلاب على "حنظلة بن الحارث" فقتله، فحمل فرسان من بني ثعلبة بن يربوع على إلحوثرة، فأسروه، ودفعوه الى عتيبة فقتله، وهزم الكلابيون.

(1/2889)

ومضى بنو ثعلبة بالإبل والغنائم، واتبعهم "أنسى بن عباس" رجكاء أن يصيب منهم غرة، فيأخذ منهم ما يريد. ولما مر بالطريق، تغفله "عتيبة" وأسره، وأتى به اصحابه وأراد اصحاب عتيبة قتله، ولكنه، أبى أن يفعل بل قبل من أنس الفداء ففدى نفسه بمئتي بعير.
وأما يوم جزع ظلال "طلال"، فكان النصر فيه لفزارة، وهم من قيس كذلك على بني تميم. وكان عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري قد أغار بقومه فزارة، ومعه مالك بن حمار الشمخي من بني شمخ بن فزارة، على التيم وعدي وثور أطحل من بنى عبد مناة، فأصاب غنائم كثيرة ورجع بأسرى عديدين أطلقهم فيما بعد. فما مضت مدة، بلغه أن النعمان بن جساس التيمي وعوف بن عطية وسبيع بن الخطيم، وهم سادة تيم، وابن المخيط وهو سيد بنى عدي تيم، انطلقوا إلى بني سعد بن زيد مناة وضبة يستمدونهم ويسألونهم النصر فركب عيينة بن حصن مع قومه، وأغار على التيم، فقتلوا منهم قتلا شديدأ وأخذوا سبيا كثيرا. واحتفلوا بانتصارهم هذا بشرب الخمر. وكان نساء تيم ومن كان معهن من رجالهن ينقلون زقاق الخمر اليهم. ولم يسقوا تيما محقرة لهم. ثم مضى زمن فرد بنو فزارة السبي إلى تيم، وأطلقوا الرجال بغير فداء.
ومن أيام ضبة وغيرهم: يوم النسار، ويوم الشقيقة، ويوم بزاخة، ودارة مأسل، والنقيعة.
وكان سبب يوم السار جدب حل بأرض مضر، وخصب أصاب بلاد بني سعد والرباب، مع غيث غامر. فالما وقع ذلك الغيث، أقبلت عامر بن صعصعة ومن معهم من هوازن إلى بني سعد، وكانوا يواصلونهم بالنسب، فسألوهم أن يرعوهم ومن معهم من هوازن ففعلوا.

(1/2890)


--------------------------------------------------------------------------------

فما اجتمعت بنو سعد والرباب وهوازن ومن معها، قال بعضهم لبعض: انه ما اجتمع مثل عدتنا قط إلا كانت بينهم أحداث، فليضمن كل حي ضامن، فكان الضامن لما كان في سعد والرباب الأهتم، وهو سنان بن سمي بن خالد، وكان الضامن على هوازن قرة بن هبيرة بن عامر بن صعصعة. فرعوا ذلك الغيث حينا، حتى وقع شر، سببه أن "الختف" وهو رجل من بني ضبة قتل رجلا من بني قشير، فوقع الشر ووقعت الحرب، واجتمع بنو سعد مع بني عامر، واستمدوا بني أسد فأمدوهم، والتقوا مع "بني ضبة" بالنسار فاقتتلوا، فصبرت عامر، واستحر بهم القتل، وانفضت بنو سعد وهربت، ثم هرب بنو عامر. وقتل في هذا اليوم: شريح بن مالك القشري، رأس بني عامر، ووقع سبي منهم في أيدي خصومهم.
وقد وقع يوم النسار بعد يوم جبلة، وذلك لأن الأحاليف، وهم غطفان وبنو أسد وطيء شهدوا يوم النسار بعدما تحالفت الأحاليف، وحضره حصن بن حذيفة، وكان حصن رئيس الأحاليف، كما جاء ذلك في شعر لزهير بن أبي سلمى. هذا ما يراه الرواة وأهل الأخبار من علماء قيس وبني أسد، ويؤيده أبو ****ة. أما الرباب ورواة ضبة، فترى ان يوم النسار كان قبل يوم جبلة ويفند أبو ****ة رأي الرباب. ويقول ابو ****ة: كان حاجب بن زرارة على بني تميم يوم النسار ويوم الجفار، و أن "لقيطا قبل يوم جبلة، ولو كان حيا ما نقدمه فيه حاجب بن زرارة، وإنما نبه أبو عكرمة بعد أبي نهشل، وكانا قبل مبعث النبي بسبع وعشرين سنة. وكان عام جبلة مولد النبي".
وذكر "المسعودي" أن "بني عامر بن صعصعة" كانوا يؤرخون بيوم شعب جبلة. وكان قبل الإسلام بنيف وأربعين سنة.
وقد كان يوم شعب جبلة بين بني عامر وأحلافها من عبس وبين من سار اليهم من تميم، وعليهم حاجب ولقيط ابنا زرارة بن عدس بن زيد بن عبد الله ابن دارم، ومن عاضدهما من اليمن مع ابني الجون الكندبين.

(1/2891)


--------------------------------------------------------------------------------

وما في رواية أبي ****ة أو غيره من أن مولد النبي كان في عام جبلة , وهم. فالرجال الذين أسهموا في ذلك اليوم، كانوا قد هلكوا قبل ذلك بأمد، ولم يدركوا أيام الرسول.وقد ذكر أن يوم جبلة كان قبل الإسلام بسبع وخمسين سنة. وقد غضبت بنو تميم وخجلت مما نزل ببني عامر من عار بسبب هذا اليوم، وحلف "ضمرة بن ضمرة النهشلي"، وهو من سادات بني تميم على أن يترك الخمر ويحرمه عليه حتى يأخذ بثأره من بني أسد، فهيأ نفسه وعبأ قومه لقتالهم، والتقى بهم في يوم ذات الشقوق، وانتصر فيه عليهم، وفرح بهذه النتيجة، و اباح لنفسه عندئذ شرب الخمر.
ولما كان على رأس الحول من يوم النسار اجتمع من العرب من كان شهد النسار. وكان رؤساؤهم بالجفار، الرؤساء الذين كانوا يوم النسار، إلا أن بني عامر تقول كان رئيسهم بالجفار "عبدالله بن جعدة بن كعب بن ربيعة"، فالتقوا يالجفار، واقتتلوا، وصبرت تميم، فعظم فيها القتل وخاصة في بني عمرو ابن تميم. وكان يوم الجفار يسمى "الصيلم" لكثرة من قتل به.
وفي يوم الجفار التقت بكر بتميم على رواية، والتقى الأحاليف في ضبة و اخوتها الرباب وأسد وطيء على بني عمرو بن تميم في رواية أخرى، واستحر القتل يومئذ في بني عمرو بن تميم على هذه الرواية، فكان النصر فيها للاحاليف.
وفي يوم الستار، وهو يوم كان بين بكر بن وائل وبني تميم،.قتل قيس بن عاصم و قتادة بن سلمة "مسلمة" الحنفي فارس بكر, وكان قتادة من الجرارين في ربيعة.
ولضبة نصر آخر، كان في يوم الشقيقة على بني شيبان. وقد قتل فيه بسطام بن قيس سيد بني شيبان. وكان ذلك بسبب قيام بسطام بغارة على بني ضبة وطمعه في إبل مالك بن المنتفق الضبي. فلما رأت ضبة بسطاما، وهو يغير على الإبل، هاجمته فوقع قتيلا، فولت بنو شيبان مهزومة تاركة ما استولت عليه وعددا من رجالها بين قتيل وأسير. ويعرف هذا اليوم باسم آخر هو: "نقا الحسن".

(1/2892)


--------------------------------------------------------------------------------

وانتصرت ضبة على أياد في يوم يسمى بيوم بزاخة. وقد كان بسبب إغارة محرق الغساني وأخوه في اياد وطوائف من العرب من تغلب وغيرهم على بني ضبة ب "بزاخة" فاقتتلوا قتالا شديدا حمل فيه "زيد الفوارس" على محرق فأسره، وأسرت بنو ضبة أخا حبيش بن دلف السيدي، فقتلتهما وهزم من كان معهما، وأصيب ناس منهم فيه.
وفي بعض الروايات أن يوم بزاخة هو يوم إصم. وهو يوم كان لبني عائذة ابن مالك بن بكر بن سعد بن ضبة على الحارث بن مزيقيا الملك الغساني، وهو عمرو بن عامر، وفيه قتل ابن مزيقيا، فانهزم أصحابه هزيمة منكرة. وفي رواية أخرى ان هذا اليوم كان مع عبد الحارث من ولد مزيقيا.
وأما يوم "دارة مأسل"، فكان لضبة على بني عامر، غزا "عتبة بن شتير بن خالد الكلابي" بني ضبة، فاستاق نعمهم. وقتل "زيد الفوارس" "حصن بن ضرار الضبي"، وكان يومئذ حدثا لم يذكر. فجمع أبوه ضرار قومه، وخرج ثائرا على بني عمرو بن كلاب , فأفلت منه "عتبة بن شتير" وأسر أباه "شتير بن خالد" فأمر ضرار ابنه "أدهم" أن يقتله.
وانتصرت ضبة على بني عبس في يوم النقيعة، ويسمى أيضا يوم أعيار. وقد كان بنو عبس قد أغاروا فيه برئاسة عمارة بن العبسي على إبل لبني ضبة، ومعه جيش من بني عبس، فأطردوا إبلهم، وركبت عليهم بنو ضبة،فأدركوهم في المرعى، فحمل "شرحاف بن المثلم بن المشخرة العائذي الضبي" على عمارة ففتله، واستنقذت بنو ضبة فيه إبلها من "بني عبس". ويعرف عمارة ب "عمارة الوهاب".
ومن الأيام التي وقعت بين "قيس" و "كنانة": يوم الكديد، ويوم برزة وحروب الفجار. أما يوم الكديد ويوم برزة، فقد تحدثت عنهما قبل قليل. وأما حروب الفجار فإليك ما جاء عنها.

(1/2893)


--------------------------------------------------------------------------------

العادة في الجاهلية ألا قتال في الأشهر الحرم لقدسيتها ومكانتها، فهي أشهر حرم يستريح فيها الأفراد والقبائل من القتال , ويكون الإنسان فيها آمنا على نفسه وماله، فيظهر فيها الفرسان المعروفون بسفكهم الدماء دون خوف وإن كانوا يتقنعون بقناع حين حضورهم الأسواق مثل عكاظ خوفا من وقوف طلاب الثأر على حقيقتهم، فيتعقبون خطاهم، فيفتكون بهم بعد انتهاء الأشهر الحرم. ويذهب في هذه الأشهر الناس إلى الأسواق للامتيار، والى الكعبات للحج إلى الأصنام، ثم يعودون إلى منازلهم مع انتهاء الأيام الحرم خشية حلول الأشهر الأخرى فيتعرضون لطمع الطامعين وغزو الغازين.
ومع ما لهذه الأشهر من الحرمة، فقد وقعت فيها حروب عرفت بحروب الفجار وبأيام الفجار، لأن من اشترك فيها كان قد فجر فيها بانتهاكه قدسية هذه الأشهر الحرم. ولكنها على ما يظهر من وصف الإخباريين لها لم تكن حروبا كبيرة واسعة، انما كانت مناوشات ومهاترات وقعت لأسباب تافهة بسيطة. ففي الفجار الأول لم يرق فيه دم، وانما محاورات وخصومة كلامية بن كنانة وهوازن بسبب حادث بسيط لا يستوجب في الواقع خصومة ولا اشتباكات. فقد تطاول"بدر بن معشر الغفاري" "بدر بن معسر الغفاري" على الناس , بأن جلس بعكاظ في الموسم والعرب مجتمعة فيه، ثم مد رجله وقال: أنا أعز العرب، فمن زعم انه أعز مني فليضربها بالسيف. فوثب رجل من "بني نصر بن معاوية" اسمه "الأحمر بن هوازن" فضربه بالسيف على ركبته فقطعها، فتحاور الحيان: أهل المضروب مع أهل الضارب عند ذلك. حتى كاد أن يكون بينهما الدماء، ثم تراجعوا ورأوا ان الخطب يسير.

(1/2894)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي الفجار الثانية وقعت بينهم دماء يسيرة.وكان سببه عبث شباب من قريش وكنانة بامرأة من بني عامر بن صعصعة وكانت وضيئة حسانة رأوها بسوق عكاظ، فأرادوا منها أن تكشف لهم عن برقعها، فثارت ونادت: "يا آل عامر"، ونادى الشباب قومهم، فالتحموا في قتال لم يكن هذا الحادث ليوجبه , ثم انتهى بتوسط "حرب بن أمية" "الحارث بن أمية" باحتمال دماء القوم.
أما الفجار الثالث، فكان بسبب دين كان لرجل من بني جشم بن بكر بن هوازن على رجل من كنانة، فلواه به، ولم يعطه شيئا منه. فلما أعياه، وافاه في سوق عكاظ بقرد، وجعل ينادي:" من يبيعنى مثل هذا الرباح بمالي على فلان بن فلان الكناني. من يعطيني مثل هذا بمالي على فلان بن فلان الكناني! رافعا صوته بذللك، فلما أكثر من ندائه، مر به رجل من بني كنانة، فقتل القرد، فهتف الجشمي: "يا آل هوازن"، وهتف الكناني: "يا ا ل كنانة" وتجمع الحيان حتى تحاجزوا، ولم يكن بينهم قتلى، ثم كفوا وقالوا: " أفي رباح تريقون دماءكم، وتقتلون أنفسكم ?" وأصلح عبدالله بن جدعان بينهما.
ووقع الفجار الآخر بسبب رجل خليع سكير فاسق، اتعب قومه فخلعوه وتبرأوا منه فخرج منهم، وصار يتنقل من قبيلة إلى قبيلة ومن سيد إلى سيد يطلب الحماية والجوار. فلما لفظه الجميع، وتعبوا منه، ذهب إلى مكة مستجيرا بحرب بن أمية، فحالفه، وأحسن جواره. ثم شرب بمكة، وعاد إلى سيرته الأولى، فهم حرب بخلعه، فخرج من مكة، وذهب عنه إلى الحيرة. فما كان هناك، عرض على النعمان بن المنذر أن يتولى له حماية لطيمته،ويجيزها له على أهل الحجاز.

(1/2895)


--------------------------------------------------------------------------------

وسمع بذلك عروة الرحال، وهو يومئذ رجل هوازن، فاحتقر أمر هذا الخليع: "البراض بن قيس الكناني"، فقال للملك: أكلب خليع يجيزها للك ? أبيت اللعن، أنا أجيزها لك على أهل الشيح والقيصوم في أهل نجد وتهامة. فدفعها النعمان إليه، وخرج عروة بها، والبراض بن قيس بتعقبه. فلما كان بأوارة غافله البراض، فقتله، واستاق اللطيمة إلى خيبر. ولما بلغ خبر مقتل عروة كنانة وهوازن، هاج ا الطرفان، واشتبكا في قتال وقع بموضع نجلة، فاقتتلوا حتى دخلت قريش الحرم، وجن عليهم الليل فكفوا.
وجر عمل هذا الخليع إلى وقوع جملة أيام أخرى، أدت افا اضطراب الامن في مواسم أمن ما كان يحدث فيها قئال. فبعد عام من يوم نخلة، تجمعت قريش وكنانة بأسرها والأحابيش ومن لحق بهم من بني أسد بن خزيمة ن لملاقاة سليم وهوازن، ووزع عبدالله بن جدعان السلاح على الشجعان الفرسان المعروفين بالشجاعه والصبر، وسلح يومئذ مئة كمي بأداة كاملة،سوى من سلح من قومه واجتمعوا بموضع شمطة من عكاظ في الايام التي تواعدوا فيها على قرن الحول.
وترأس المتقاتلين المتواعدين سادات ذلك الوقت المعروفون. وعلى كنانة كلها حرب بن أمية، ومعه عبدالله بن جدعان وهشام بن المغيرة وهما على الميمنة والميسرة، وعلى هوازن وسليم كلها مسعود بن معتب الثقفي. وفي بني عامر ملاعب الأسنة أبو براء، وفي بني نصر وسعد وثقيف سبيع بن ربيع، وفي بني جشم إلصمة والد دريد وفي غطفان عوف بن أبي حارثة، وفي بني سليم عباس ابن زغل، وفي فهم.وعدوان كدام بن عمرو.
وكانت الدائرة في أول النهار لكنانةء على هوازن، حتى إذا كان آخر النهار تداعت هوازن وصابرت، وانكشفت كنانة فاستحر القتل فيهم، فقبل منهم تحت رايتهم مئة رجل، ولم يقتل من قريش أحد يذكر، فكان هذا اليوم لهوازن على كنانة وقريش.

(1/2896)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد وقع الفجار الثاني بعد الفيل بعشرين سنة، وبعد موت عبد المطلب باثنتي عشرة سنة على رواية. ويعد كل من أيام العرب المشهورة، وهو أشهر من يوم جبلة الذي وقع قبله في بعض الروايات.
وعادت هوازن وكنانة إلى الحرب، والتقوا على قرن الحول في اليوم الثالث من أيام عكاظ، واقتتلوا وكانت الهزيمة على كنانة. وقد عرف هذا اليوم بيوم العبلاء.
وقد تأثرت كنانة من الهزيمة التي لحقتها في يومي شمطة والعبلاء، وأخذت تستعد للانتقام من هوازن، فتكتل رؤساؤها واشتروا الاسلحة، وحمل عبد الله بن جدعان مثري قريش وغنيها يومئذ ألف رجل من بني كنانة على ألف بعير. وتولى قيادة كل بطن رئيسه ثم سارت. على رأس الحول من اليوم الرابع من ايام عكاظ.
قاصدة هوازن، فالتقت بها واشتبكت معها في قتال كاد يهرب فيه بنو كنانة، لولا صبر بني مخزوم وبلاؤها بلاء حسنا. وخشيت قريش أن يجري عليها ماجرى يوم العبلاء، فقيد حرب وسفيان وأبو سفيان بنو أمية بن عبد شمس أنفسهم وقالوا: لا نبرح حتى نموت مكاننا أو نظفر واقتتل الناس قتالا شديدا، وحملت قريش وكنانة على قيس من كل وجه حتى انهزمت، وانتصرت بذلك كنانة وقريش على بني هوازن. وعرف هذا اليوم بيوم عكاظ.
ولما انهزمت ثقيس، دخلوا خباء "سبيعة بنت عبد شمس" امرأة "مسعود ابن معتب الثقني" مستجييرن بها، فأجار "حرب بن أمية" جيرانها،واستدارت قيس نجبائها حتى كثروا، فلم يبق أحد لا نجاة عنده إلا دار بخبائها فقيل لذلاك الموضع: مدار قيس، وكان يضرب به المثل، فتغضب قيس.
وقد التقت كنانة وقريش بقيس في يوم آخر يسمى يوم الحيرة، وكان على بكر بن عبد مناة، رئيسهم جثامة بن قيس أخو بلعاء بن قيس ذلك لوفاة بلعاء. أما الرؤساء الآخرون، فبقوا كما كانوا في اليوم الماضي. وبعد قتال اتفقوا على الصلح وتسوية الديات، وانصرف الناس من الحرب.

(1/2897)


--------------------------------------------------------------------------------

هذه ايام من ايام عديدة اخرى ترد أسماؤها في كتب الأخبار وإلتواريخ، نرى أن أسبابها طبيعة البداوة، وفقر البادية، وحاجة الناس إلى الماء والمرعى والاعتبارات الاجتماعية وما شاكل ذلك من اسباب أدت الى وقوع تلك !لأيام. وقد علقت ذكراها بأذهان الرواة، لأنها وقعت في عهد لم يكن بعيدا جدا عن الإسلام، وقد وقعت بالطبع مئات من هذه الأيام " محيت أخبارها من ذاكرة حفظة الأخبار ورواتها، لأنها وقعت في عهد بعيد عن الإسلام أو في أمكنة بعيدة لم يصل مداها إلى جماع الأخبار في الإسلام، فلم يضبطوها في جملة هذا الذي ضبطوه. والذي نجده من قراءة أسماء الأيام المذكورة ومن أخبارها، ان معظمها مما كان قد وقع في الحجاز أو في نجد أو العراق والبادية وبلاد الشام والبحرين. أما الأيام التي وقعت في العربية الجنوبية فقلما نجد لها ذكرا عند الأخبارين، خاصة أيام حضرموت وعمان، مما يدل على عدم وصول أخبار هذه الأرضين إلى علم الأخباريين. والواقع ان علم أهل الأخبار والتأريخ بهذه البلاد ضعيف جدا، حتى في باب علمهم عنها في الإسلام، وهو أمر يؤسف عليه.

(1/2898)


--------------------------------------------------------------------------------

وتتخلل هذه الأيام أسماء الرجال المشهورين ممن كان لهم أثر خطير فيها، وهم قادتها ومساعير نيرانها ومكونو تأريخ الجزيرة قبل الإسلام. وشأن هؤلاء الرجال من حيث بعدهم وقربهم عن الإسلام، شأن أيامهم، فأكثرهم من أهل القرن السادس للميلاد، وممن ماتوا في عهد لم يكن بعيدا عن الإسلام، أي في النصف الثاني من هذا القرن. لقد صنع القصاصون ومحبو المبالغات من رواة القبائل، على عاداتهم، هالة من الأقاصيص والأساطير لأولئك الرجال، حملت بعض المستشرقين على الشك في حقيقة بعضهم. ولكن وجود القصص الخرافي لا يمنع من الاعتراف بوجود شخص كات قد عاش ومات، وكان له أثر ظاهر في قومه وأعمال أثرت في مواطنيه، وجعلتهم يوسعونها ويكبرونها إلى أن صنعوها بقصصهم بهذا الشكل الذي وصل إلى الأخباريين،بنقلهم الرجال من عالم الحقيقة إلى عالم الخرافة والخيال.
لقد خلدت تلك الأيام أسماء رجال أثروا تأثيرا مهما في الحياة السياسية البدوية.
لقد أنجز بعضهم أعمالا لم تنجزها قبائلهم، فتمكنوا من بسط نفوذهم على كثير من القبائل ومن جمعها تحت رئاسته بفضل زعامته وشخصيته. فهذا زهير بن جناب الكلبي تجتمع عليه قضاعة وننضوي تحت لوائه، ويفرض الإتاوة على قبائل أخرى من غير قضاعة، ويحارب غطفان وبكرا وتغلب وبني القين بن جسر، وهي من القبآئل الكبيرة المعدودة، ثم ينتصر عليها. وهذا كليب بن وائل وهو من معاصري زهير بن جناب ومن المنافسين له، ومن رجال النصف الأول من القرن السادس للميلاد، يجمع شمل قبائل ربيعة - وهي قبائل متنافرة متخاصمة - تحت رايته، ثم يجمع شمل معد ويضمها كلها اليه، فتكون له الرئاسة على كل قبائلها، وهو بذلك أحد النفر الذين اجتمعت عليهم معد.

(1/2899)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن النفر الذين اجتمعت معد عليهم: عامر بن الظرب بن عمرو بن بكر ابن يشكر بن الحارث -وهو عدوان بن قيس كيلان - وربيعة بن مرة بن زهير ابن جشم بن بكر بن حبيب بن كلب، وكان قائد معد يوم السلان بين أهل اليمامة واليمن.
ولمع في هذه الأيام اسم حذيفة بن بدر، واسم حمل أخيه، وكان سيدي بني فزارة. وقد عرف حذبفة ب "رب" معد، وقاد قومه بني فزارة في عدة أيام، هي: يوم النسار، ويوم الجفار، وحرب داحس والغبراء حيث قتل فيها في يوم الهباءة.
وقد راينا عدة رجال آخرين يتزعمون قومهم في هذه الأيام، مثل بسطام بن قيس رئيس بني شيبان،وهو من مشاهير الفرسان،وأحد الفرسان الثلاثة المعدودين، وهم: عامر بن الطفيل، وعتيبة بن الحارث وبسطام، وربيعة بن مرة بن الحارث التغلبى، والهذيل بن هبيرة الثعلبي من ثعلبة بن بكر، والحوفزان، وهو الحارث بن شريك بن عمرو بن الشيباني، والحارث بن وعلة الذهلي، وأبحر بن جابر العجلي، وقيس بن حسان بن عمرو بن مرثد أخو بني قيس بن ثعلبة، وقتادة بن مسلمة الحنفي، وأثال بن حجربن النعمان بن مسلمة الحنفي، والهذيل ابن عمران التغلبي.
وقد دونت الأيام أسماء جماعة من سادات تميم ممن ترأسوا قومهم. ولقبائل تميم مكان في هذه الأيام. ويظهر انها كانت من القبائل البارزة في القرن السادس للميلاد. ومن هؤلاء: زرارة بن عدس من بني دارم. وقل قاد تميما وغيرها في يوم شويحط إلى عذرة بن سعد هذيم، ولقيط بن زرارة، وقد قاد تميما كلها إلا بني سعد بن زيد مناة إلى بني عامر بن صعصعة يوم جبلة، والأقرع ابن حابس، وقد قاد حنظلة كلها يوم الكلاب الأولى، عدا أسماء آخرين تجدهم مذكورين في أخبار الأيام.

(1/2900)


--------------------------------------------------------------------------------

وطبيعي أن يكون للفرسان وللفتاك وللشعراء المقام لأول بين أسماء الرجال الذين اسماؤهم في هذه الايام. وان لم يكونوا من بيوتات شهيرة معروفة، لها في الرياسة ذكر ومقام، فأعمال المرء كافية لتخليد اسمه بين المشاهير. وإذا كان للشاعر عمل التشجيع والحث على الاقدام، وإلهاب نار الحاسة في النفوس، فإن للفارس والفاتك واجبا مهمأ في هذه الأيام،فإنهم يقررون في الغالب مصير الحروب ولا سيما الفرسان الفتاك الذين يختارون كباش القوم، فينقضون عليهم ويفتكون بهم، وبعملهم هذا تنتهي الحرب في الغالب بهزيمة تحل في الجبهة إلتي تتضعضع بسقوط الرئيس. فان لسقوط الرئيس صريعا شأنا كبيرا عند القبائل. فالرئيس هو الرمز المعنوي للقبيلة، فمتى سقط الرئيس انهارت معنوياتها وخارت قواها ولا تستطيع عندئذ الثبات في الميدان،، فيهرب أفرادها في غالب الأحوال، ويكون النصر للجانب الذي أسعده الحظ بوجود فارس عنده قتل رئيس خصمه.
وإذ كان للخيل أثر في حروب تلك الأيام، في الهجوم والدفاع وفي الكر والفر، فإن.القبيلة كانت تملك فرسانا وعددا وافرا من الخيل، هي القبيلة المنتصرة الرابحة إلتي يخشى بأسها، فلا يطمع فيها الطامعون، ولا يهاجمها مهاجم بسهولة، ولها يكون الفخر على القبائل بكثرة ما لديها من خيل ومن فرسان، لأن للفرس و الفارس شأنا كبيرا في سرعة كسب الحرب، وتفتيت جبهة العدو، واحداث ثغر في صفوفه، تؤدي الى تشتيت شمله وبعثرته ثم هزيمته هزيمة منكرة. وهي لقوتها هذه لم تكن تعتمد على غيرها في الحروب والغزو،"إلا إذا قابلت بالطبع قوة كبيرة من القبائل لايمكن التغلب عليها إلا بالتعاون مع القبائل الأخرى فعندئذ تضطر إلى البحث عن حليف.
الفروسية

(1/2901)


--------------------------------------------------------------------------------

والفارس فخر القبيلة، لأنه المدافع عنها في الحروب والمهاجم الكاسر للأعداء. وهو أهم من الراجل في القتال، لما له من اثر في كسب النصر وفي إيقاع الرعب والفوضى في صفوف العدو. ولهذا فخرت القبائل بفرسانها، وفي كثرة الفرسان في القبيلة دلالة على عظمتها وقوتها. نظرا لغلاء ثمن الفرس، ولأهميته في تطوير الحرب وفي توجيهها. وإنهائها في صالح من له اكبر عدد من الفرسان.
ومن حسن حظ القبيلة أن يكون بها عدد وافر من الفرسان، وعدد من الشعراء. فالفارس فنان القبيلة في الحرب وفارسها في الطعان وحامي الذمار والعرض، والشاعر فارس الكلام، يؤجج نيران العواطف ويلهب جذوة الحماس في النفوس، ويدفع الفارس إلى الإقدام، وبذلك يساعد في كسب النصر لقبيلته، وفي الدفاع عن عرض القبيلة بسلاحه الموزون المقفى.
وقد حفظت ذاكرة أهل الأخبار أسماء جماعة من فرسان الجاهلية، دونت في كتبهم، فوصلت بفضل تدوينهم لها إلينا. وعلى رأس من دونوا أسماءهم في الشهرة وبعد الصيت: "عنترة بن شداد العبسي" الذي لا يزال الناس يضربون به المثل في الشجاعة. وهو أحد " أغربة العرب" وهم ثلاثة: أولهم هو، وثانيهم "خفاف" و اسم أمه "ندبة"، وثالثهم " السليك" واسم أمه "السلكة"، وأم الثلاثة إماء سود. كانت أم "عنترة" أمة سوداء، اسمها "زبيبة"، فلما كبر أغار بعض أحياء العرب على قوم من "عبس"، فأصابوا منهم. فتبعهم العبسيون، فلحقوهم فقاتلوهم وفيهم عنترة. فقال له أبوه "كر يا عنترة"، فقال: " العبد لا يحسن الكر إنما يحسن الحلاب والصر "، وذلك أن العرب في الجاهلية كانت إذا كان لأحدهم ولد من أمة استعبده، فعد "عنترة" من ال****.
فقال له: كر وأنت حر. فقاتلهم واستنقذ ما في أيدي القوم من الغنيمة،فادعاه أبوه بعد ذلك، واسمه "عمرو بن شداد". فنسب إليه.

(1/2902)


--------------------------------------------------------------------------------

admin
01-01-2011, 01:15 AM
وقد برز اسمه في حرب "داحس والغبراء". وقد قتل فيها ضمضما المري، أبا الحصين بن ضمضم. وقد كان مصيره القتل كذلك. وتزعم "طيء" ان قاتله منها. ويزعمون ان الذي قتله "الأسد الرهيف".
ومن مشاهير الفرسان " ربيعة بن مكدم" وهو من بني فراس بن غنم بن مالك بن كنانة. وقد عرف "بنو فراس" بالشجاعة والنجدة. وقد كان يعقر على قبره تعظيما له وتقديرا. مر على قبره "حسان بن ثابت"، فقال فيه شعرا.
و "ملاعب الأسنة "، وهو "عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب "، "أبو براء".وهو ممن اشتهر بالفروسية كذلك، وكان سيدا في قومه. ذكر انه أخذ أربعين مرباعا في الجاهلية.وفي ذلك دلالة على ما كان له من مقام في قومه. قيل انه سمي "ملاعب الأسنة" بقول أوس بن حجر: ولاعب أطراف الأسنة عامر فراح له حظ الكتيبة أجمع
وقد عرف ب "ملاعب الرماح" كذلك. وقد لقب بهذا اللقب في شعر الشاعر "لبيد".
وذكر "السكري"، "عامر بن مالك" في جملة من اجتمعت عليه هوازن. ولم تجتمع هوازن كلها في الجاهلية إلا على أربعة نفر من "بني جعفر ابن كلاب" وهم: "خالد بن جعفر بن كلاب" بعد قتله "زهير بن جذيمة ابن رواحة" و "عروة الرحال بن عتيبة بن جعفر" و "الأحوص بن جعفر" و "عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب". و "عامر بن الطفيل بن مالك بن كلاب العامري"، من فرسان الجاهلية المعروفين أيضا، وهو ابن أخي عامر بن مالك ملاعب الأسنة، وقد أدرك الإسلام فكان في جملة من وفد مع قومه في سنة تسع من الهجرة على الرسول.

(1/2903)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان قد أضمر الغدر برسول الله. ولكنه لم يتمكن منه. ثم قال لرسول الله: أتجعل لي نصف ثمار المدينة وتجعلني ولي الأرض بعدك فأسلم ? فأبى عليه رسول الله. فانصرف عامر وقال: والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا. وكان متعجرفا متغطرسا، لما ناله من مكانة عند قومه. حتى زعم أهل الأخبار ان اسمه كان قد طار إلى خارج جزيرة العرب، حتى بلغ "قيصر"، فكان "قيصر" إذا قدم عليه قادم من العرب قال ما بينك وبين عامر بن الطفيل ? حتى وفد عليه " علقمة ابن علاثة" فانتسب له، فقال: ابن عم عامر بن الطفيل، فغضب علقمة.
ورجع ونافر "عامر ين الطفيل" في قصص من هذا القصص المألوف وروده عن أهل الأخبار.
وروى بعض أهل الأخبار، أن "عامر ين الطفيل لما مات نصبت بنو عامر نصابا ميلا في حمي على قبره، لاتنشر فيه راعية ولايرعى ولا يسلكه راكب ولا ماش. تعظيما لقبره واحتراما لذكراه.
وذكر "أبو ****ة"، أن "عامر بن الطفيل"، أحد فرسان العرب المعروفين و "فرسان العرب ثلاثة: فارس تميم: عتيبة بن الحارث بن شهاب، وكان يقال له صياد الفوارس وسم الفوارس، وفارس ربيعة: بسطام بن قيس ابن مسعود، وفارس قيس:عامر ين الطفيل ملاعب الأسنة. فأما ملاعب الرماحفأبو براء عامر ين مالك بن جعفر". وذكر أن "عامر بن مالك بن جعفر"، "أبو براء"، بعث إلى رسول الله يسأله أن يوجه إليه قوما يفقهونهم في الدين، فبعث إليهم قوما من أصحابه، فعرض لهم "عامر بن الطفيل" " فقتلهم يوم "بئر معونة" فاغتم أبو براء لذلك، وقلق لاغفار عامر بن الطفيل بقتلهم ذمته.

(1/2904)


--------------------------------------------------------------------------------

ومات "عامر بن الطفيل"، وهو منصرف من عند رسول الله، ودعا "أبو براء" قينتين له، واستدعى "لبيدا"، وأخذ يشرب حتى أثقله الشراب، فاتكأ على سيفه حتى فاضت نفسه، فرثاه "لبيد"، ودعاه ب "ملاعب الرماح". وقد عده أهل الأخبار في جملة "من كان يركب الفرس الجسام فتخط إبهاماه في الأرض"، وفي جملة "العوارن الأشراف". وقد نافر "عامر ابن الطفيل" "علقمة بن علاثة" عند "هرم بن قطبة بن سنان".
وزعم انه كان في جملة من أوفدهم "النعمان بن المنذر" الى "كسرى" ليبينوا له مكارم العرب. وفي الوفد: أكثم بن صيفي، وحاجب بن زرارة، والحارث بن عباد البكري، وعمرو بن الشريد السلمي " وخالد بن جعفر الكلابي،وعلقمة بن علاثة. فتكلم في جملة من تكلم منهم. ودون أهل الأخبار كلامهم وأجوبة كسرى عليه، وكأنهم كانوا كتاب محضر، دونوه بالنص! وله منافرة مع "علقمة بن علاثة"، كان حكمها "هرم بن قطبة بن سنان" الفزاري. وقد سجل أهل الأخبار حديثها بالنص كذلك.
ويعد "زيد الخيل" من مشاهير فرسان العرب كذلك، واسمه "زيد بن مهلهل بن زيد بن منهب الطائي". وهو من سادات "طيء" ومن الشعراء.وكان بينه وبين "كعب بن زهير" هجاء، لأن كعبا اتهمه بأخذ فرس له.
قدم في وفد طيء، وهو سيدهم على الرسول. فلما انتهوا إليه كلموه. وعرض عليهم الإسلام فأسلموا. ثم بدل الرسول اسمه فسماه زيد الخير. وكلمه فأعجبه فلما ولى عائدا من عنده إلى وطنه قال الرسول: " ما ذكر لي رجل من العرب بفضل ثم جاءني إلا رأيته دون ما يقال فيه إلا ما كان من زيد الخيل، فإنه، يبلغ فيه كل ما فيه"، وقطع له "فيدا" وأرضين معه.وكتب له بذلك.فلما عاد من المدينة وانتهى إلى ماء من مياه نجد يقال له: "قردة" أصابته الحمى، حمى يثرب الشهيرة المكناة عندهم ب " أم ملدم"، فمات بها.

(1/2905)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان كما يصفه أهل الأخيار طويلا جسيما وسيما يركب الفرس العظيم الطويل فتخط رجلاه في الأرض كأنه راكب حمارا. أسر عامر بن الطفيل وجز ناصيته."قيل له زيد الخيل لطول طراده بها وقيادته لها". وقد عده "ابن حبيب" في جملة المتعممين مخافة النساء على أنفسهم لجمالهم.
ومن الفرسان " عمرو بن معد يكرب "، وهو ممن وفد على رسول الله في قومه من "زبيد". فأسلم ثم ارتد بعد وفاة الرسول. فلما سير الخليفة "أبو بكر" جيشا على المرتدين انهزم "عمرو بن ود"، ثم أخذ أسيرا الى الخليفة، فأنبه فعاد إلى الإسلام واشترك في معركة "اليرموك" ثم في معركة "القادسية" وتوفى سنة "21" من الهجرة. ويعد "فارس اليمن". ونعته "ابن حبيب " ب "فارس العرب".
ومنهم: "دريد بن الصمة"، وهو من " بني جشم". وله أخبار مع "بني كنانة"، وقد أسرته بنو فراس من "بني كنانة"، فلما عرفته امرأة منهم وهي امرأة "ربيعة بن مكدم"، توسلت إلى قومها بفك أسره، لمساعدته لها في وقت شدة وهو لا يعرفها وهي لا تعرفه، ثم جهزته ولحق بقومه. وقد عده "ابن حبيب" من "أشراف العميان" و "البرص الأشراف".
وزيد الفوارس من هذا الرعيل الشهير من فرسان الجاهلية. وكان الرؤساء في قومه. وشهد يوم " القرنتين" ومعه ثمانية عشر من ولده يقاتلون معه. وهو من سادات "بكر بن سعد بن ضبة ". وهو " زيد الفوارس بن حصين بن ضرار الضبي ". وقد طالت رياسته.
ومنهم "عمرو بن كلثوم " الشاعر الشهير قاتل " عمرو بن هند " ملك الحيرة وصاحب المعلقة. وينتهي نسبه الى " تغلب "، وهو أحد فتاك العرب وأخوه " مرة " هو الذي قتل " المنذر بن النعمان "، وأمه " أسماء بنت مهلهل بن ربيعة ". وقد ساد قومه وهو ابن خمس عشرة سنة، ومات وهو ابن مائة وخمسين سنة.
ومن الفرسان الشجعان " أمية بن حرثان الكناني "، وكان من سادات قومه، وقد أدرك النبي وأسلم، وله ولد اسمه " كلاب بن أمية " دخل في الإسلام كذلك.

(1/2906)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن الفرسان " الشنفري الحارثي " وهو من الشعراء وأحد العدائين. والعداؤون من العرب: السليك، والشنفري، والمنتشر بن وهب، وأوفى بن مطر. ولكن المثل سار من بينهم بالسليك. والعرب تضرب به المثل، وتزعم انه والشنفري أعدى من رئي. ويزعمون انهما كانا يسبقان الأفراس، ويصيدان الظباء عدوا. وقد عرف السليك ب "سليك المقانب " ومقانب أمه، وكانت أمه سوداء، وسليك أيضا أسود، وهو أحد أغربة العرب.
ولمع في هذه الأيام اسم حذيفة بن بدر، واسم حمل أخيه، وكانا سيدي بني فزارة. وقد عرف حذيفة ب "رب" معد، وقاد قومه بني فزارة في عدة أيام هي: يوم النسار، ويوم الفجار، وحرب داحس والغبراء حيث قتل فيها يوم الهباءة.
وقد دونت الأيام أسماء جماعة من سادات تميم ممن ترأسوا قومهم. ولقبائل تميم مكان خطير في هذه الأيام. ويظهر أنها كانت من القبائل البارزة في القرن السادس للميلاد. ومن هؤلاء: زرارة بن عدس من بتي دارم. وقد قاد تميما وغيرها في يوم شويحط إلى عذرة بن سعد هذيم، ولقيط بن زرارة، وقد قاد تميما كلها إلا بني سعد بن زيد مناة إلى بني عامر بن صعصعة يوم جبله، والأقرع اين حابس، وقد قاد حنظلة كلها يوم الكلاب الأول، عدا أسماء آخرين تجدهم مذكورين في أخيار الأيام.
الخيل
وللخبل أهمية كبيرة في جزيرة العرب، إنها سيارة ذلك اليوم، بل ربما كانت أهم منها عند العربي: يركبها ويحارب عليها بسهولة وبسرعة لا تتوفر في الجمل ويستطيع أن يسابق بها الإبل، ويفر ممن يريد اللحاق به لشر ينويه تجاهه ولذلك كانت للخيل مكانة كبيرة عند الجاهليين في السلم وفي الحرب، حتى كان الرجل منهم يبيت طاويا ويشبع فرسه ويؤثره على نفسه وأهله وولده. فالخيل وقاية للنفس، والمعاقل التي يأوي إليها، والخير عندهم معلق بنواصي الخيل.

(1/2907)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرجع أهل الأخبار تأريخ لم ركوب الخيل الى "اسماعيل بن ابراهيم"،يزعمون أنه اول من ركبها،وكانت الخيل وحوشا لا تركب. فذهب إلى موضع "أجياد"، وهو موضع بمكة يلى الصفا، وكان موطناله، فركب ظهور الجياد. وركب الناس منذ ذلك العهد الخيل. فاسماعيل على زعمهم هو أول راكب للخيل. ويلاحظ أن راوي هذا الخبر أراد اقناع السائل بصحة جوابه، فربط بن ركوب ظهور الجياد وبين موضع أجياد، ليبدو الجواب منطقيا مقبولا.
وقد مدحت العرب الخيل العراب.أي الخيول العربية الأصيلة، التي لم تهجن، ولم يختلط في دمها دم غريب. وقد مدحت الخيل الشقر، وذلك لسرعتها، ومدحت بعدها الحصان الأدهم الأرثم المحجل الطلق اليد اليمنى. وقيل للخيل الكريمة الأصيلة "العتاق من الخيل" و "الخيل العتاق" وقد كانت الخيل من جملة وسائل كسب الحروب. والفريق الذي يملك أكبر عدد من الخيل في المعركة يكسب الحرب. وذلك لسرعتها ولما تحدثه تحركات المحارب على ظهرها من أثر في صفوف جيش العدو. ولهذا عد بعض الباحثين دخول الخيل الى جزيرة العرب تطورا خطيرا في أسلوب القتال عند العرب، أحدث تغييرا خطيرا في طرق القتال وصار عاملا مهما من العوامل التي أدت الى انتشار القتال والغزو في بلاد العرب. وصار في امكان القبيلة التي تملك خيلا جيدة كثيرة أن تتفوق على غيرها في الغزو، حتى إذا كانت القبيلة كبيرة، لأن العدد الكثير وان كان ذا أهمية في النصر، ولكنه لا يستطيع أن يقف أمام الفرسان، إن كان المحاربون من المشاة أو كان أكثرهم منهم. إذ لا يستطيع الثبات أمام صولات وجولات الفرسان الذين يشتتون شمل الصفوف ويمزقون الجمع، ويمهدون لمن وراءهم من المشاة فرصة الانقضاض على الفارين المنهزمين.
ولأهمية الخيل عند العرب ألف كثير من العلماء كتبا فيها، نجد ذكرهم في "الفهرست" لابن النديم. ومن هؤلاء "ابن الكلبي" صاحب كتاب "أنساب الخيل "و "ابن الأعرابي" صاحب كتاب "أسماء الخيل".

(1/2908)


--------------------------------------------------------------------------------

ووضعوا جرائد ومشجرات في أنساب الخيل. حرصا منهم على المحافظة على أصالتها وبقاء جنس ما عندهم نقيا نظيفا. ومنعوا الفحول الجيدة منها من الاتصال بالأفراس الرديئة أو الأفراس المجهولة التي ليس لها نسب معروف.
حتى لا يتولد من هذا الاتصال نسل رديء هجين. بل حرص صاحب الحصان الجيد على ألا يعطيه لأحد ليتصل بفرسه حتى وإن كانت غاية فى النجابة، وذلك خشية أن ينسل نسلا" فاخرا لغيره ولا يكون له منه شيء. ولا تزال هذه العادة معروفه عند العرب حتى الآن، فهم يحفظون أنساب خيولهم حفظا عجيبا، من غير رجوع إلى جريدة نسب أو شجرة من شجرات النسب. كما يحافظون على النسل الجيد من الخيول العربية، ويعتنون به عناية فائقة، إذ يرون أنه زينة وبهجة للمرء، ومن ملذات الحياة في هذه الدنيا.
ومن دلائل عناية الجاهليين بالخيل ما نجده في اللغة من ألفاظ وكلمات كثيرة تخص الخيل. تخص أسماءها وأسماء أعضاء جسمها وحركاتها وسكناتها وأوصافها وألوانها، حتى انهم لم يتركوا شيئا له علاقة بها إلا ذكروه. فلا عجب إذن إذا ما ألفوا فيها الرسائل والكتب وتحدثوا عنها حديثا طويلا في الجاهلية وفي الإسلام.
وقد اشتهرت بعض الجياد في الجاهلية بشدة عدوها فلا تدانيها في العدو خيول أخرى، وفي مقدمتها فرس عرف ب "زاد الركب " "زاد الراكب "، قالوا إن أصل فحول العرب من نتاجه. وقد زعم ابن الكلبي أنه من بقية جياد سليمان ابن داود، وأن وفدا من "الأزد"، وكانوا أصهاره، وفدوا عليه، فما فرغوا من حوائجهم سألوه أن يعطيهم فرسا من تلك الخيل، فأعطاهم فرسا كانوا لا ينزلون منزلا" إلا ركبه أحدهم للقنص، فلا يفلته شيء وقعت عينه عليه من ظبي أو بقر أو حمار، إلى أن قدموا بلادهم فقالوا: ما لفرسنا هذا اسم إلا زاد الراكب، فسموه زاد الراكب، فأصل فحول العرب من نتائجه.

(1/2909)


--------------------------------------------------------------------------------

واشتهر فرس آخر بسرعته وبشدة عدوه اسمه "أعوج "، زعم انه من نسل "زاد الراكب". قيل: انه كان سريعا جدا لا يدانى في العدو. وكان فحلا لغني بن أعصر. وقد عرف ب "أعوج الأكبر".
وكان "أعوج" الأصغر أولا لكندة، ثم أخذته" "سليم" وصار لبني عامر ثم لبني هلال. وأمه "سبل" لغني، وأم "سبل" "سوادة" "البشامة"، وأم "سوادة" "القسامة"، وكانت لجعدة. وكان أعوج طويل القوائم سريع العدو. ولهم أيضا "الفياض". وقد اشتهر نسله، واكتسب شهرة فى العتاق من الخيل.
ومن خيل العرب المشهورة: "الغراب" و "الوجيه" و "لاحق" و "المذهب" و "مكتوم"، كانت كلها لغني. وذكر ان "الوجيه" و "لاحق" لبني أسد، وقيل لبني سعد. و "الأعنق" فحل من خيل العرب، أنجب سلالة نسبت إليه عرفت ب "بنات أعنق".
ومن خيل العرب الشهيرة الأخرى: "قيد" و "حلاب" لبني تغلب. و"الصريح" لبني نهشل، وزعم انه كان لآل المنذر، و "جلوى" لبني ثعلبة بن يربوع، وذو العقال لبني رياح ين يربوع، وهو أبو "داحس". وكان "داحس " و "الغبراء" لبني زهير. والغبراء خالة داحس وأخته من أبيه. و "ذو العقال" و "قرزل" و "الخطار" و "الحنفاء" لحذيفة بن بدر.. والحنفاء هي أخت داحس من أبيه وأمه. و "قرزل" آخر للطفيل ين مالك.
و "حذفة " لخالد بن جعفر بن كلاب، وحذفة أيضا لصخر بن عمرو بن الشريد. و "الشقراء" لزهير بن جذيمة العبسي و "الزعفران" لبسطام بن قيس، و "الوريعة" " الوديقة" و "نصاب" و "ذو الخمار" لمالك بن نويرة، و "الشقراء" أخرى لأسيد بن حناءة السليطي، و "الشيط" لأنيف بن جبلة الضبى، و " ألوحيف" "الوجيف" لعامر بن الطفيل، و "الكلب" و "المزنوق" والورد له أيضا، و "الخنثى" "خنثى" لعمرو بن عمرو بن عدس، و "الهداج" فرس الريب بن شريق السعدي، و "جزة" فرس يزيد بن سنان المر ي فارس غطفان، و "النعامة" للحارث بن عباد.

(1/2910)


--------------------------------------------------------------------------------

و "ابن النعامة" لعنترة، و "النحام" فرس "السليكة بن للسليك السعدي" و "العصا" فرس جذيمة بن مالك الأزدي، و "الهراوة" لعبد القيس بن أفصى و "اليحموم" فرس النعمان بن المنذر، و "كامل" فرس زيد الخيل، و "الزبد" "الربد" "الريد" فرس الحوفزان، وهو أبو "الزعفران" فرس بسطام، و "العرادة" "الحمالة" فرس الكلحبة اليربوعي.
و "القطيب" و "البطين" فرسان كانا للعرب، و "اللعاب" "العباية" فرسا حري بن ضمرة، و "المدعاس" فرس النواس بن عاسر المجاشعي، و "صهبى" فرس النمر بن تولب، و "حافل " فرس مشهور، ذكره "حرب بن ضرار" و "العسجدي" لبني اسد، و "الشموس " فرس زيد ابن خذاق "حذاق" العبدي، و "الضيف" لبني تغلب، و "هرارة العزاب" فرس الريان بن حويص العبدي، جاءت سابقة طول أربع عشرة سنة، فتصدق بها على العزاب يتكسبون عليها في السباق والغارات، و "الحرون" فرس تنسب اليه الخيل، وكان لمسلم بن عمرو بن أسد "أسيد الباهلي"، و "الزليف" فرس مشهور، وهو من نسل "الحرون" و "مناهب" فرس تنسب إليه الخيل أيضا، و "العلهان" فرس أبي مليل "مليك" عبد الله بن الحارث اليربوعي.
وذكر أن أفراس العرب الشهيرة أفراس عرفت ب "الكامل" منها: فرس لميمون بن موسى المري، وقال بعضهم بل كان لامرىء القيس. وفرس لرفاد ابن المنذر الضبى، وفرس الهلقام الكلبي، وفرس الحوفزان بن شريك الشيباني، وفرس سنان بن أبي حارثة المري، وفرس زيد الفوارس الضبي، وفرس شيبان النهدي، وفرس زيد الخيل الطائي.
ومن أفراس العرب: فرس عرفت ب "الكاملة"، وهي بنت البعيث، فرس عمرو بن معد يكرب. وفرس ليزيد بن قنان الحارثي.
وكان للرسول تسع عشرة فرسا، اشترى بعضا منها، وتقبل بعضا منها هدية.

(1/2911)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد اشترى "الضرس" من أعرابي بعشر أوراق، وسماه النبي "السكب" وهو فرسه يوم أحد، ليس مع المسلمين فرس غيره. واشترى "المرتجز" و "البحر"، وقد اشتراه من تجار قدموا من اليمن، فسبق عليه مرات. واشترى "سبحة" من أعرابي من "جهينة" بعشرة من الإبل.
ومن الخيل الني أهديت للرسول: "اللحيف" "اللخيف" "النحيف"، أهداه له: "فروة بن عمرو" من أرض البلقاء، وقيل أهداه له: "ربيعة بن أبي البراء" و "الظرب"، أهداه له "فروة بن عمرو بن النافرة الجذامي"، و "الورد"، أهداه له "تميم الداري"، و "المراوح" أهداه له وفد من الرهاويين، و "اللزاز" أهداه له "المقوقس".
ويدفعنا الكلام في تعداد أسماء خيول العرب الشهيرة في الجاهلية إلى ذكر جريدة طويلة بأسمائها. ترد في كتب الخيل وفي كتب المعجمات والأدب، ولما كان هذا الموضوع معروفا ومدونا ولا صلة له بالعقلية وبالحياة الجاهلية لذالك اكتفيت بما أوردته عنها في هذا المكان، ولمن أراد المزيد الرجوع إلى الموارد المذكورة.
الفصل الخامس والخمسون
الحروب
ترك المصريون والآشوريون والبابليون واليونان والرومان وغيرهم آثارا كثيرة، فيها صور معارك وأسلحة ومعدات وجنود مقاتلين أو مستأسرين أو منتصرين، أفادت الآثاريين والعلماء في تكوين رأي في حروب تلك الأمم والآلات التي استعانت بها في قتالها. أما الجاهليون فلم يتركوا، ويا للاسف، إلا نزرا يسيرا من الآثار فيه صور حروب أو جنود أو معدات قتال، لهذا صار علمنا بالحروب عندهم مستمدا من تلك النصوص القليلة ومن نصوص معدودة وردت في الآثار الآشورية أو البابلية وفيها إشارات إلى العرب، ومن موارد أعجمية مكتوبة تحدثت عن حروب وقعت مع العرب، ومن الموارد الإسلامية.

(1/2912)


--------------------------------------------------------------------------------

ولفظة "الحرب"، وتجمع على حروب، هي اللفظة الشائعة المعروفة عند الجاهليين للخروج لمحاربة العدو والاصطدام به. وترادفها لفظة "ضر" وتجمع على "اضرو" في اللهجات اليمانية. وهناك لفظة أخرى هي "غزو" وتعني الخروج لمحاربة العدو. فهي في معنى الحرب والغزو. وترد في اللهجات العربية الجنوبية أيضا. ويراد ب "غزت"، غزوات في عربيتنا، أي في حالة الجمع. وب "غزوي" غزوتين اثنتين. وأما لفظة " هغرو" فتعني أغاروا على قوم، والغارة هي "هغر" في العربية الجنوبية.
وترد لفظة "حربت" "ح ر ب ت".بمعنى معركة، وحربا واحدة في اللغة السبئية. وأما "حريب" فتعني الحروب والمعارك، أي جمع "حرب". وأما "حرب" فتعني المحاربة وحارب والحرب.
وتطلق لفظ قي "ضبا" في السبئية بمعنى الحرب، وبمعنى إعلان الحرب أيضا. ووردت لفظة "ضبات "، بمعنى مقاتلين ومحاربين. وترد لفظة "تادم"، بمعنى الشروع في قتال والاستعداد لحرب.
ويقال للحرب "ضرر" في اللحيانية. أما لفظة "الحرب"، فتعني السطو والسرقة، بالإضافة إلى معنى الحرب التي تعني الخصام والقتال.
ويعبر عن لفظة قاتل بلفظتي "سبا" و "جنب" في السبئية. وتؤدي لفظة "حرب" هذا المعنى أيضا، إذ أنها تعني حارب. و "جنب"، بمعنى قتال وتعارك وتحارب.
ويقال للحرب "حرب" في اللهجة الصفوية، أي على نحو ما تجده في اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم.
ويعبر عن الحملة أو الغزوة بلفظة "برث" في السبئية. ويقال لها "خرجت" أيضا. ويراد ب "خرجت" ثورة كذلك. ويعبر عن الحملة والغزوة بلفظة "منشا" في بعض الأحيان. ويعبر عنها بلفظة "مبسا" "مسبأ".كذلك. كما يقال "مقرن" أيضا.

(1/2913)


--------------------------------------------------------------------------------

والعرب تقول: الحرب غشوم، لأنها تنال غير الجاني. وتصيب أناسا لا علاقة لهم بها ولا صلة، فهي لا تعرف التفريق بين الجاني ومن لا ذنب له. "وقد عرف علماء اللغة الجيش بأنه الجند، أو جماعة الناس في الحرب والجمع جيوش. وقالوا الجيش: العسكر. فالمراد بالجيش اذن الجماعة المقاتلة التي تخرج للقتال. وترد لفظة "جيش" في العربيات الجنوبية كذلك. وتجمع على "اجيش" "أجيش" فيها، أي في مقابل "جيوش" و "الجيوش" في عربيتنا، ويذكر علماء اللغة ان الجيش واحد الجيوش، ويراد به جماعة الناس في الحرب.
وترد لفظة "خمس" "خميس" في العربيات الجنوبية بمعنى الجيش. وترد في عربية القرآن الكريم كذلك. فقد ورد ان الخميس الجيش،أو الجيش الجرار، أو الجيش الخشن. وذكر بعض علماء اللغة ان العرب سمت الجيش خميسا لأنه مكون من خمس فرق: المقدم والقلب والميمنة والميسرة والساقة،. وقالوا: بل سمي الجيش خميسا لأنه يخمس فيه الغنائم. والظاهر ان الأصل في "الخميس"، الجيش المنظم الكبير الذي يحارب بإمرة وبنظام. وتجمع لفظة "خمس" أي "جيش" في العربية الجنوبية على "اخمس" أي جيوش.
ويعبر عن الجيش بلفظة أخرى هي: عسكر.و "العسكر". وأما الموضع الذي يعسكر فيه فهو "المعسكر".
ويطلق الجاهليون على الجيش الكثير الذي لا يسير إلا زحفا من كثرته "الجرار" ويطلقون على الجيش العظيم كلا "الجحفل". ويقولون "جيش الجيش" و"جيش فلان الجيوش" للتعبير عن التعبئة وتحضير المحاربين لقتال العدو.

(1/2914)


--------------------------------------------------------------------------------

وللعرب آداب وقواعد في الحرب ، يطلبون من المحاربين اتباعها لكسب الحرب.قيل لأكثم بن صيفي: صف لنا العمل في الحرب، قال: أقلوا الخلاف على أمرائكم، فلا جماعة لمن اختلف عليه. واعلموا أن كثرة الصياح من الفشل، فتثبتوا، فإن أحزم الفريقين الركين، ورب عجلة تعقب ريثا، وادرعوا الليل، فإنه أخفى للويل، وتحفظوا من البيات. وقال عتبة بن ربيعة يوم بدر لما رأى عسكر رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أما ترونهم خرسا لا يتكلمون،يتلمظون تلمظ الحيات.
و "المعسكر" هو موضع تجمع العسكر وموضع نزولهم فيه. ويقال له "حيرت" "حيرة" في السبئية.
وتقول العرب: إن الشجاعة وقاية والجبن مقتلة. وأعتبر من ذلك أن من يقتل مدبرا أكثر من يقتل مقبلا. وتقول أيضا: الشجاع موقى، والجبان ملقى. فاستقبال الموت عندهم،خير من استدباره. ولم يكونوا يهتمون بالكثرة قد اهتمامهم بالألفة بين المحاربين، وبالعمل يدا واحدة وكأنهم بنية مرصوصة. قيل لعنترة: كم كنتم يوم الفروق ? قال: كنا مئة، لم نكثر فنتكل، ولم نقل فنذل.
وللحرب عند الجاهليين أسباب عديدة، يدخل في ضمنها ضنك العيش في البادية مما يحمل القبائل على التناحر والتقاتل فيما بينها للحصول على الماء والكلا، وهما عماد الحياة في البادية، أو الحصول على غنيمة. ويعبر عن هذه الحروب ب "الغزو". والواحدة "غزو". وهي تعتمد على مبدأ المباغتة في الغالب.
أما الحروب،فإنها الحروب الكبيرة التي تقع بين دول وحكومات. كما أن الغارة،.هي غزو مفاجىء يفاجىء به العدو عدوه، ليأخذه على غرة، ولينتزع منه ما يجده عنده من مال.
وقد كانت القبائل تغير بعضها على بعض، ثم تتراجع حاملة ما حصلت عليه من غنائم وأسلاب، وقد ترجع وهي مسلوبة مهزومة، في حالة تمكن من أريد إيقاع الغارة به من الدفاع عن نفسه، ومن تغلبه على المغير ورده خائبا على ألأعقاب.

(1/2915)

admin
01-01-2011, 01:16 AM
وتكون الغارات في وجه الصبح في الغالب، حتى يؤخذ من يراد الإغارة عليه بغرة ويفاجأ بالغارة مفاجأة. وقد يقصد في الليل من غير أن يعلم، فيؤخذ بغتة، والاسم "البيات". و "بيت القوم والعدو: أوقع بهم ليلا". وقد أشير إلى "البيات" في الحديث. فقد كان المسلمون يصيبون في البيات من ذراري المشركين، فسألوا الرسول حكمه فيهم. فكان حكمه: "هم منهم" و "هم من آبائهم".
والغارة دفع الخيل على من يراد الإغارة عليهم. يقال أغار على القوم غارة واغارة، دفع عليهم الخيل. فتكون الغارة بالخيل في الأخص. ويقال أغار إغارة الثعلب، إذا أسرع ودفع في عدوه. فالغارة غير الغزو والحرب، تكون سريعة في الغاب يعقبها رجوع سريع.
ويعبر عن الغارة بلفظة "تادم" في العربيات الجنوبية. وتطلق على كل حملة عسكرية أيضا.
ولا تقتصر الغارات على غارات قطعات الجيش على العصاة والثوار، بل قد تقوم بها قبيلة على قبيلة، وقد يقوم بها أفراد، لأسباب مختلفة. وقد يقوم بها اللصوص والصعاليك، يغيرون على أحياء العرب وعلى السابلة للحصول على مغنم. وكان.بعض أصحاب الغارات يمعنون في الغارة فيبتعدون عن منازلهم. ويعدون "بعد الغارة" نوعا من أنواع الشجاعة والفروسية، لما تكتنف المغير من أخطار ومهالك. وكان "مروان بن زنباع"، ويقال له: "مروان القرظ" من "مشهوري أهل الجاهلية في بعد إلغارة.

(1/2916)


--------------------------------------------------------------------------------

وكانت الغارات والغزوات من، أهم وسائل الإعاشة والحصول على مغانم بالنسبة للقبائل النازلة على حدود الحضارة أو على مقربة منها. مثل حدود العراق أو حدود بلاد الشام. وتكثر الغارات في سني الجدب والقحط وانحباس المطر. فلا يبق أمام تلك القبائل للبقاء على حياتها سوى النزوح إلى أماكن أخرى مخصبة معشبة، ويؤدي ذلك إلى التقاتل مع القبائل الأخرى النازلة في تلك الأرضين، أو مع قوات الحدود التي تحاول رد تلك القبائل خشية غزوها للحضر أو لمن يقيم وراء الحدود من أعراب. لذلك استعملت حكومات العراق وبلاد الشام جملة وسائل لكبح جماح الأعراب الغزاة في جملتها حماية الحدود ب "مسالح" بنيت في أطراف البوادي وفي نهايات إلطرق التي توصل إلى الحضر، تضع بها قوات مقاتلة نظامية وغير نظامية من الأعراب أصحاب الإبل لمقاتلة الأعراب، وتقديم الأطعمة والميرة من المستودعات المقامة في "المسالح" و "القصور" إلى سادات القبائل لسد ما عندها من نقص في الطعام، وبإقامة إمارات عربية، تودع اليها أمور تأمين الأمن في إلبادية وحماية الحدود من غارات الأعراب.
المحاربون
والمحاربون على نوعين:أحرار و**** ولذلك نجد بعض الكتابات العربية الجنوبية تشير إلى هذين النوعين من المقاتلين، مما يدل على كثرة عدد ال**** الذين يؤمرون بالقتال في ذلك الزمن. جاء في نص "كرب ايل وتر" الموسوم ب Glaser IOOOA "وجيش عبدان من أحرار ورقيق". وورد هذا التعبير في نصوص أخرى تعبيرا عن وجود عدد كبير وربما أفواج من المقاتلين ال**** في جيوش ذلك الزمن.

(1/2917)


--------------------------------------------------------------------------------

والسخرة هي الطريقة الغالبة في التجنيد، فإذا وقع خطر، طلب الملك من الأقيال والرؤساء تسخير من يتمكنون تسخيره للقتال. ويبقى المسخر في الخدمة حتى تنتهي الحرب. ولما كان المسخرون قد أجبروا على القتال إجبارا، وهم من الطبقات الدنيا في الغالب، وليس لهم ما يقتاتون به، لذلك، كثرت حوادث التهرب من الجيش،والفرار منه في أثناء القتال. ووضع مثل هذا يؤثر على مصير الحرب بالطبع.
ويتولى الحرب والجيش أناس مدربون على أسلوب القتال لهم خبرة بالحروب، أو سادات قوم عليهم واجب قيادة قومهم عند ظهور غزو أو خطر أو حرب، ويعرف مثل هؤلاء بقادة، والواحد "قائد".وكان بعض قادة الجيش عند العرب الجنوبيين يحملون درجة "مقتوي"، وهي منزلة خاصة في درجات القيادة العسكرية وورد "مقتوي ملكن"، أي "مقتوى الملك"، بمعنى "قائد الملك". والظاهر أن هذه الدرجة كانت خاصة ممن يختارهم الملوك لقيادة الجيوش. فإذا اختار الملك شخصا من الجيش أو من سادات القبائل أو من أصحاب الأرض لأمر يراه فيه، وعينه لقيادة الجيش، عبر عن مكانته هذه ب "مقتوي" وب "مقتوى الملك". وقد عرف علماء اللغة هذه اللفظة، غير أنهم عبروا عنها بلفظة "مغالب". ولم يبنيوا ما المراد من "مغالب".
ويقال للضابط الذي يقود الجيش، أو قطعة منه "اسود"، وذلك في اللغة السبئية.

(1/2918)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد كان لطبقة قواد الجيش شأن كبير، وسلطان واسع، ويعرف القائد ب "ق س د ن" "قسدن"، أي "القاسد" أيضا. وقد ظل هذا الاستعمال معروفا في العهد الحبشي كذلك، لوروده في نص "أبرهة". ولكن هذا لا يعني أن "القاسد" كان عسكريا محترفا، مختصا بقيادة الججش، فقمد كان القواد من رؤساء العشائر ومن الوجهاء والكبراء يقودون أتباعهم في أثناء الحروب. أما في أثناء السلم، فيعودون إلى أعمالهم الاعتيادية، كإدارة الأرض أو القبيلة. ولهذا ففي استطاعتنا أن نقول إن من بين قواد الجيش أناسا لم يكونوا من المتخصصين بالقيادة وبشؤون الحرب، وإنما هم قواد متطوعون وسادات قبائل تضطرهم مراكزهم إلى قيادة أتباعهم في أمثال هذه المناسبات.
وقد فهم بعض الباحثين أنها تعني المحاربين من النوعين: الأشراف والقادة من أصحاب الدرجات الرفيعة العالية، والمحاربين المحترفين للحرب، حتى صارت الجندية حرفة لهم، يعيشون منها. فهم طبقة عسكرية خاصة محترفة على نحو ما كان عند "البطالمة" بمصر وعند غير البطالمة من جيوش ودول. ولكن أكثر الباحثين يرون ان ال "قسمد" هم الطبقة الرفيعة من الأشراف وقادة الجيوش. وعرف المكلف بإدارة موقع من المواقع العسكرية، والذي يتولى أمر ادارة حاميته "امر". أي "آمر" "الآمر"، وربما الأمير. و عرف الضابط الذي يتولى قيادة جماعة من الجيش به "اسود". وأما "قدم"، فإنه المقدم، الذي يقود قطعة من الجيش، وربما قصد به من يتولى أمر قيادة مقدمة الجيش. ويعبر بلفظة "قتدم" عن تأمير ال "قدم" وتنصيبه في وظيفته. أي امرا على قطعة الجيش. ويعبر عن التقدم للهجوم على العدو أي على الهدف المقصود من الحملة، بلفظه "تقدم".

(1/2919)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عرف القادة الذين قادوا ألف رجل فما فوق ب "الجرارين". ذكر "محمد بن حبيب السكري"، ان العرب لم تكن تسمي الرجل جرارا، حتى يرأس ألفا. ومن هؤلاء "المطلب بن عبد مناف بن قصي" قاد "بني عبد مناف" وأحلافها من الأحابيش يوم "ذات نكيف". و "بلعاء بن قيس الكناني" قاد "بني عبد مناة" يوم "ذات نكيف" ويوم المشلل ويوم الفجار.
و أبو سفيان صخر بن حرب" قاد قريشا وكنانة يوم أحد ويوم الخندق. و "عامر بن الظرب العدواني" قاد ربيعة ومضر وقضاعة كلها يوم للبيداء. و "مالك بن عوف النصري"، و "عوف بن عبدالله بن عامر بن جذيمة" و "ربيعة بن حذار الأسدي" و "زرارة بن عدس" التميمي، و "لقيط ابن زرارة" و "الأقرع بن حابس"، و "النعمان بن مجاشع" الدارمي، و "النمر بن حمان" السعدي، و "الأضبط بن قريع بن عوف" السعدي، و "محلم بن سويط الضبي"، وذكر، انه الرئيس الأول،: أول من سار في أرض مضر برئاسته، وغزا العراق وبه كسرى، حتى بلغ العذيب. ومن بقية الجرارين في مضر: "قيس بن عاصم السعدى" و "وزهير بن جذيمة العبسي" و "عمرو بن جؤية بن لوذان الفزاري" و "بدر بن عمرو" و "حذيفة بن بدر" و "عيينة بن حصن" و "خالد بن جعفر بن كلاب" و "الأحوص بن جعفر" العامري.
والجرارون من ربيعة: "ربيعة بن مرة بن الحارث بن زهير التغلبي"، وابنه "كليب وائل،" و "الهذيل بن هبيرة" و "الحوفزان" وهو "- الحارث ابن شريك" و "بسطام بن قيس " و "الحارث بن وعلة الذهلي" و "أبجر ابن جابر العجلي" و "قيس بن حسان بن عمرو بن مرثد" و "قتادة بن مسلمة الحنفي" و "أثال بن حجر بن النعمان بن مسلمة الحنفي" و "الهذيل ابن عمران التغلبي.

(1/2920)


--------------------------------------------------------------------------------

والجرارون من قضاعة: "ذياد بن هبولة"، "زياد بن هبولة"، و "داوود اللثق بن هالبة"، و "زهير بن جناب"، و "رزاح بن ربيعة ابن حرام"، وهو اخو "قصي بن كلاب" لأمه، و "عميرة بن أوس ابن ثعلبة بن عوف بن كعب بن ذهل"، وكان يدعي الملك، و "الأشل بن عمرو"، و "الثعيل".
والجرارون من اليمن: "كرز بن عبدالله بن عامر" من بجيلة، و "عبد يغوث بن وقاص بن صلاءة الحارثي" من مذحج، و "الأشعث بن قيس الكندي"، و "شراحيل بن أصهب الجعفي"، و "يزيد بن أنس بن الديان الحارثي"، و "ذو الغصة الحارثي"، و "مخرم بن حزن بن يزيد الحارثي"، و "العباب الحارثي"، و "حجر بن يزيد بن سلمة الكندي" و "قيس ابن سلمة الكندي" و "الزوير: علقمة بن سلمة بن مالك الكندي"، و "حسان ابن عمرو بن الجون الكندي"، و "معاوية بن شرحبيل بن أخضر الكندي"، و "حديج بن جفنة بن قتيرة السكوني"، و "هبيرة بن المكشوح بن عبد يغوث المرادي" و "فروة ين مسيك المرادي".
وسار قادة الجيوش ومتولوا ادارة المعارك على قاعدة "الحرب خدعة". ومعناها خدع العدو وايهامه للتغلب عليه، كأن يشيع قائد الجيش أنه سيسلك،الطريق الفلاني، فيرسل بالفعل قوة صغيرة، وهو يضمر خطة أخرى، بأن يأمر القوة الكبرى بسلوك طريق آخر، فيفاجىء العدو وهو غير متأهب، أو يؤخذ على غرة وهو لا يدري باحتمال قدوم الجيش من هذا المكان.

(1/2921)


--------------------------------------------------------------------------------

ولما كانت "المباغتة" من أهم وسائل كسب الحرب والحصول على الربح، كان من أهم أسباب نجاحها التكتم والتستر ومعرفة قوة العدو ومواضع ضعفه، عمد الجاهليون إلى استخدام العيون للتجسس على العدو، يرسلونهم في صور شتى، في صورة تجار أو مسافرين أو على هيأة سرايا صغيرة تقتص آثار العدو وتسأل من يرون من المسافرين عن علمهم بأحوال العدو، أو تقبض ربايا العدو ليحققوا معهم وليحصلوا منهم عن معلومات. تفيدهم في إعداد خطة الحرب أو الغزو. وفي ضوء هذه المعلومات يرتب القادة طريقة مباغتة العدو ومحاربته لانزال الضربة القاصمة به. وإذا أحس انسان بوجود غارة، أو رأى قوما يتقدمون لمفاجأة قومه بغارة، فعليه الإسراع لإبلاغ قومه بها قبل أن يفاجئهم العدو بغارته وهم على غير استعداد لها، وكان من عادتهم أن الرجل إذا رأى الغارة قد فاجأتهم وأراد إنذار قومه تجرد من ثيابه وأشار بها ليعلم ان قد فاجأهم أمر. ويقال لذلك الرجل "النذير العريان"، ثم صار مثلا لكل أمر يخاف من مفاجأته.
ويقال للشخص الذي ينذر قومه بدنو عدو منهم، ويزحف مغير عليهم، "الصريخ". يسرع "الصريخ" إلى قومه قدر إمكانه ليبلغهم بخبر ذلك العدو قبل مباغتته لهم. ونظرا إلى ما للصريخ من أهمية بالنسبة إلى نتائج الغزو، يتخذ المغيرون كل وسائل الحذر والتكتم والبحث عن النذر والصريخين لكيلا يفلتوا منهم فيذهبوا إلى قومهم وهم هدف الغزو أو إلى غيرهم ممن قصدوا بالغزو فيحذرونهم منهم،ويكونوا عندئذ في حالة تأهب واستعداد لمقابلة المغيرين، أو لمباغتتهم بهجوم معاكس عليهم، أو بنصب كمائن لهم قد تلحق أذى بهم، وقد تؤدي إلى عكس ما قصد من ذلك الغزو.
ويعبر عن المباغتة والمفاجأة وأخذ العدو على حين غرة بحيث لا يشعر إلا والعدو يهاجمه بلفظة "بحض" في السبئية.

(1/2922)


--------------------------------------------------------------------------------

ويقال لمن ينذر قومه بقرب،وقوع غزو وبدنو عدو منهم: "القاصد". و "القاصد"، هو من يقصد أحدا طلبا لحاجة أو تسهيلا لأمر، أو لإجراء وساطة.
وكانوا إذا أرادوا حربا، وتوقعوا جيشا عظيما، وأرادوا الاجتماع أوقدوا ليلا على جبل أو أي مرتفع من الأرض نارا، ليبلغ الخبر أصحابهم. وإذا جدوا في جمع عشائرهم إليهم أوقدوا نارين. وقد عرفت هذه النار بنار الحرب.
وقد استعانت الحكومات بحماية حدودها بوضع قوات عسكرية في المواضع العسكرية الخطيرة التي تكون لها أهمية كبيرة من الوجهة "السوقية" في تعبئة الجيش للحرب،وعرفت مثل هذه المواضع ب "المناظر". وهي مواضع تقيم بها حاميات تراقب منها حركات الأعداء وتحركات الأعراب. وتكون الحاجز الأول الذي يمنع العدو من التقدم.
ونحن لا نكاد نعلم شيئا عن أسس تنظيم الجيش في الحكومات الجاهلية، لعدم ورود نصوص واضحة في ذلك. ولصلة ملوك الحيرة بالفرس ولصلة ملوك الغساسنة بالروم، لا استبعد تدريب الفرس، لجيش الحيرة وتقسيمه واعداده و فق نظم الجيوش الفارسية وأساليبها على القتال، وتدريب الروم لجيش الغساسنة و فق أنظمتهم وقوانينهم العسكرية. وقد ذكر أهل الأخبار أن النعمان بن المنذر، ملك خمس كتائب، يحارب بها، هي: "الوضائع" وقوامها قوم من الفرس كان كسرى يضعهم عنده عدة ومددا، فيقيمون سنة عند الملك من ملوك لخم. فإذا كان في رأس الحول ردهم إلى أهلهم، وبعث بمثلهم. وكتيبة يقال لها "الشهباء" وهي أهل بيت الملك، وكانوا بيض الوجوه، يسمون الأشاهب. وكتيبة ثالثة، يقال لها "الصنائع"، وهم صنائع الملك، أكثرهم من بكر بن وائل. وكتيبة رابعة، يقال لها "الرهائن"، وهم قوم كان يأخذها من كل قبيلة، فيكونون رهنأ عنده، ثم يوضع مكانهم مثلهم. والخامسة "دوسر"، و هي كتيبة ثقيلة تجمع فرسانا وشجعانا من كل قبيلة.

(1/2923)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من بعض تفاسير علماء اللغة للفظة "الوضائع"، أن "الوضيعة" جماعة من الجند تجعل في كورة لا يغزون منها، أي حامية. وأما الصنائع، فطوائف من الناس يصطنعهم الملك، ويكونون عونا له وجندا يحارب بهم. فهم من المرتزقة. وقد تستعين القبائل بطوائف من قبائل أخرى للقتال معها. وقد استعان "سلمة بن الحارث بن عمرو المقصور" ب "بني تغلب" و "النمر ين قاسط" و "سعد بن زيد مناة" وب "الصنائع" على أخيه "شرحبيل"، وذلك يوم "ا لكلاب" الأول.
وقد أشار "الزبيدي" إلى كتيبة دعاها "الملحاء"، قال عنها: "والملحاء": كتيبة كانت لآل المنذر من ملوك الشام. وهما كتيبتان. إحداهما هذه والثانية الشهباء. قال عمرو بن شأس الأسدي: يفلقن رأس الكوكب الضخم بعدما تدور رحى الملحاء في الأمر ذي البزل.
وقد أخطأ "الزبيدي" في جعل "آل المنذر" من ملوك الشام. وقصد ب "الملحاء" "الدرسر". بدليل قوله في موضع آخر: "والدوسر: اسم كتيبة للنعمان بن المنذر ملك العرب ". وقد تعرض في مكان آخر من كتابه إلى كتيبة الشهباء فقال: "والأشاهب بنو المنذر لجمالهم. قال الأعشى: وبنو المنذر الأشاهب بالحي رة يمشون غدوة بالسيوف
قلت: وهم إحدى كتائب النعمان بن المنذر. وهم بنو عمه واخوانه واخواتهم. سموا بذلك لبياض وجوههم".
ويظهر من شعر للمثقب العبدي، قاله يمدح عمرو بن هند: ضربت دوسر فيه ضربة أثبتت أولاد ملك فاستقر
ان هذه الكتيبة كانت موجودة في أيام الملك "عمرو بن هند". وذكر بعض علماء اللغة ان "دوسر: اسم كتيبة كانت للنعمان بن المنذر.، وأنشد للمثقب العبدي يمدح عمرو بن هند. وكان نصرهم على كتيبة النعمان". ولا بد وأن يكون في هذه الكلمات خطأ أو نقص: إذ لا يعقل أن يكون "عمرو بن هند" قد حكم أيام "النعمان بن المنذر". وقد يكون قصد أحد ملوك الغساسنة، أو ان الأخباريين أقحموا اسم أحد الملكين خطأ في هذا الشرح.

(1/2924)


--------------------------------------------------------------------------------

والكتيبة عشر "اللجيون" عند الرومان. ولذلك كان عددها يختلف حسب اختلاف عدد اللجيون. وعلى الأغلب كانت ما بين "400" الى "600" جندي. وقد كان عدد اللجيون "6" آلاف جندي في أيام الانبراطورية، من الفرسان وبقية الأصناف المساندة. ويقسم "اللجيون" المكون من الفرسان إلى عشر كتائب، عدد كل كتيبة من "600" فارس. تعرف ب Coforts، وتقسم كل كتيبة Cohort إلى عشرة أقسام. ويسير النظام العسكري عند الرومان وفقا للطريقة العشرية في تكون الجيش. وقد يتألف "اللجيون" من "7000" جندي، "0 0 2 6" منهم من المشاة و" 730 " من الفرسان ومن بقية التبع.
وحكومات اليمن والحيرة والغساسنة،تكاد تكون الحكومات الوحيدة الني ملكت جيوشا مدربة نظامية، أي جيوشا مستعدة في كل وقت للدخول في الحروب.
فلكل حكومة من هذه الحكومات كتائب مدربة في استطاعتها القتال. وهي كتائب من الفرسان وكتائب من المشاة، ولها رؤساء يشرفون على تدريبها وتسييرها وقت القتال. وهي بإشراف ضباط يتولون قيادتها بأمر من الملوك.
أما أهل القرى والمدن، فكان لهم، قوادهم وحملة رايتهم في الحرب، غير أننا لم نسمع بوجود جيش نظامي مدرب عندهم، ولم نسمع بوجود كتائب مقاتلة مستعدة للقتال أو للدفاع حين صدور الأمر اليها. بل كل ما وجدناه في كتب أهل الأخبار أن أسرا معروفة عهد اليها بحماية الراية والمحافظة عليها، فإذا وقع خطر،أخرج حفظتها تلك الراية ليرفعوها في القتال فتكون عندئذ شعارا لهم وروحا معنوية ذات أهمية، فإذا سقط حاملها أخذها غيره وهكذا كانوا يتناوبون في حملها. وسقوط الراية له أثر كبير في معنوية المحاربين.

(1/2925)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من دراسة ما أورده علماء اللغة والأخبار عن تشكيلات الجيش عند بقيه الجاهليين، أن الجاهليين لم يكونوا يسيرون على نظام معين في تكوين الجيش وفي عدد وحداته، بل كانوا يتركون أمر ذلك إلى الظروف والى رأي القادة الذين توكل إليهم أمور إدارة المعارك. وذلك لأنهم لم يكونوا يملكون جيوشا نظامية ثابتة، فقد كانت القبائل تقاتل حين تدعى الى القتال أو حين يقع غزو عليها، فيهب كل فرد منها للدفاع عن قبيلته، أو في المساهمة في الغزو، يشترك في ذلك النساء والصغار أيضا، ولا سيما في حالات الدفاع عن النفس. حتى المدن والقرى لم يكن لها جيش ثابت، ولا قادة يدربون المقاتلين على أساليب القتال، ولا وحدات ثابتة تقيم في ثكنات ومعسكرات. بل كان شأنها شأن القبائل، إذا هوجمت، هب أفرادها رجالا ونساء كهولا وصغارا في الدفاع عن مدينتهم،
يقوم كل واحد منهم بسوره حسب طاقت!ه وقدرته. وكذلك كان الحال في حالات الهجوم، أي حين تهاجم المدينة عدوا لها، يشترك في هجومها كل متمكن من القتال، قياما بواجبه الأدبي المفروض عليه. وليس لهذا الجيش المحارب تدريب عكري سابق، ولا وحدات معينة، إنما تكون إمرة سوقه وتسيره، بأيدي الشجعان الأذكياء: ومن سبق له أن برز في قتال سابق، وأبرز مكانه فيه.

(1/2926)


--------------------------------------------------------------------------------

وحتى في أيام الرسول لم يكن للمسلمين جيش ثابت منظم، له وحدات على شكل فرق وكتائب وأفواج وسرايا، وثكنات ومعسكرات، وضباط. يعرف كل ضابط منهم وحدته وعدد جنوده. إنما كان المسلمون كلهم جنودا، إذا دعاهم الرسول إلى القتال لبوا نداءه. وقد يكون فيهم الكهل والشاب والتاجر والمزارع ومن لا عمل له. الفارس بفرسه، والراكب على جمله، والراجل ماشيا، كل يحارب في سبيل الله. والرسول هو القائد الأعلى، وهو الذي يعين الأهداف والخطط، وهو الذي يختار القادة ومسيري المعركة إذ لا قادة ثابتون. وكان يستشير ذوي الرأي والخبره في المواضع التي يقصدها وفي إدارة الحرب مع العدو. وإذا كانت المعركة معركة مبارزة، نظر الرسول إلى من معه، واختار منهم من يصلح للمبارزة. وكان إذا أراد ارسال سراياه، اختار للسرية رجلا من أصحابه فأمره عليها. وأرسل معه من يختارهم ليكونوا له جنودا. ولم يكن عدد أفراد السرية ثابتا، بل كان مختلفا. ويتوقف العدد على حسب تقدير الرسول للموقف.
ويظهر من الشعر الجاهلي ان الأعراب كانوا يهابون من الالتحام بالجيوش النظامية، لعدم قدرتهم وكفاءتهم في مقابلتها، لما لها من تنظيم وتديب وسلاح.
وقد تركت "الدوسر" و "الشهباء" أثرأ في ذاكرتهم، نجده في شعرهم، مع ان الكتيبتين لم تكونا على مستوى عال من التدريب والتسليح. وقد كانوا يخشون من الالتحام بالجيوش الآشورية والبابلية والرومية، لتفوق تلك الجيوش، عليهم، فإذا تعقبتهم هربوا إلى البادية، حيث يجدون لهم عندئذ المأوى الصالح الأمين المناسب لهم، للوقوف أمام الجيش النظامي. ويكون وقوفهم أمامه على هيئة كر وفر، وهجوم من جوانب مختلفة. فإن وجدوا جلدا من ذلك الجيش وقوة ضاربة، هربوا إلى قلب البادية.

(1/2927)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر مما ذكره "سترابو" عن الجيوش العربية الجنوبية، انها لم تكن مدربة على القتال، ولم تكن مجهزة بأسلحة حسنة حديثة بالنسبة إلى أسلحة الرومان في ذلك الوقت. ولم تكن منظمة ومقسمة. إلى وحدات محاربة يسير أمورها ويوجهها في القتال ضباط لهم خبرة وعلم بأساليب القتال. ولهذا تقدم الجيش الروماني بكل سهولة نحو اليمين، دون أن يجد أمامه مقاومة تذكر، مع ان جيشهم لم يكن من الجيوش الحسنة التنظيم، المدربة تدريبا حسنا، لمقاومة الجيوش النظامية ونجد في تغلب "الحبش" ودخولهم العربية الجنوبية وتحكمهم بها مرارا، ما يؤيد أن العربية الجنوبية لم تكن تملك جيشأ منظما مدربا على مقاتلة الجيوش النظامية، وانما كانت تملك "عساكر" تعرف قتال الأعراب وأهل القوى، بأسلحة لم تحاول الحكومات تحسينها وتجديدها وفقا لتطورالسلاح في العالم. مع العلم ان الجيش أنفسهم لم يكونوا أصحاب جيوش منظمة ولا مدربة تدريبا حسنا، ولا مزودة بأسلحة جيدة حديثة على طراز أسلحة اليونان والرومان والفرس. وقد تحكموا مع ذلك في اليمن حتى جاءهم الفرس، فأخرجوهم منها قبيل الإسلام، مع ان الذين أخرجوهم كانوا من قطاع الطرق ومن المتصعلكة، وقد جاؤوهم بسفن قديمة، ولم يكونوا من المحاربين النظاميين المدربين على القتال.

(1/2928)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر أن حكام العربية الجنوبية،كانوا يعتنون بجمع العساكر وتكوين، الجيوش للقضاء على خصومهم،ولكنهم لم يحفلوا بأمر تنظيم الجيش وتدريبه وتجديده وتحسين سلاحه. مع أن أمر التنظيم والتدريب والتسليح وكيفية استخدام الجندي لسلاحه، من أهم أمور التغلب في الحروب والإنتصار على الأعداء. ولهذا كانوا يتغلبون على خصومهم في العربية الجنوبية وعلى القبائل، لأنهم دونهم بكثير في المستوى وفي الإمكانيات. ولما كانت حروبهم حروبأ داخلية، لم تتجاوز حدود جزيرة العرب، وإذا تجاوزتها، كان اتجاهها سواحل إفريقية، وهي بلاد غير متقدمة ولا تملك جيوشا نظامية مدربة، لذلك لم يحفل أولئك الحكام بأمر الانفاق على الجيش لتنظيمه وتدريبه وتحسين سلاحه ومستواه ووضعه في ثكنات صحية وتجهيزه بالعربات وبالخيل، لتعطي السرعة للجيش في القتال والحماية اللازمة للمشاة. وبقوا يسيرون على الطريقة التقليدية التي أملتها طبيعة أرضهم عليهم من الاعتماد على عساكر "اسد" الملك وعلى عساكر الاقطاعيين وعلى المرتزقة وعلى الحشور الذين يجمعون جمعا عند وقوع حرب.

(1/2929)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم يعتن العرب الجنوبيون بتحسين السفن وتجديدها وتحصينها للمحافظة بها على سواحلهم الطويلة. فما ظهر الرومان والبيزنطيون في البحر الأحمر، لم يتمكنوا من الوقوف أمامهم. فانتزعوا منهم السيادة على هذا البحر بسهولة، واتصلوا بالسواحل الإفريقية وبلغوا "سيلان" وسواحل الهند. وفقد العرب ما كان لهم من ممتلكات في السواحل الإفريقية المقابلة. بل صارت سواحلهم عرضة لهجمات سكان تلك السواحل، ولتدخل الحبش مرارا في بلادهم. مع أن الحبش أنفسهم لم يكونوا أصحاب سفن جيدة كبيرة، ولا اسطول قوي،حتى أن الروم ساعدوهم بأسطولهم في نقل قواتهم لاحتلال اليمن. ولم يرد في روايات أهل الأخبار ولا في أخبار الموارد اليونانية ما يفيد بتصدي السفن العربية الجنوبية للمغيرين الأحباش، ولا بوقوع أية معركة بحرية بين العرب والحبش أو غيرهم في البحر. ويدل نزول الحبش على السواحل العربية بيسر وسهولة على عدم وجود تحصينات بحرية على السواحل، وعلى ضعف الجيش في ذلك العهد.

(1/2930)


--------------------------------------------------------------------------------

ولطبيعة بلاد العرب أثر كبير بالطبع في ظهور هذا التخلف الملحوظ في بناء القوة العسكرية. فمعظم أرض جزيرة العرب أرضون سهلة منبسطة لا يجد فيها أصحابها مواضع طبيعية يتحصنون بها في حالتي الدفاع والهجوم. لذلك صار القتال فيها وجها لوجه، والتغلب فيه للمحارب الذي يملك وسائل الحرب السريعة من إبل وخيل وعدة. ثم إن الفقر العام الذي ساد جزيرة العرب آنذاك وفقرها من ناحية الموارد الطبيعية وتغلب الجفاف والحرارة عليها، جعلت العرب كتلا، أي شعوبا وقبائل، مشتتة مبعثرة، تعيش حول ما تجده من ماء ومن مورد رزق، وكأنها أمم متباينة، لضيق أفق المعيشة فيها، ولتقاتلها فيما بينها على الماء وموارد الرزق الشحيحة. وأوضاع مثل هذه لا تساعد على التجمع وعلى تكوين دولة قوية كبيرة، تجمع جيشا قويا مدربا ذا عدة وعدد، يستطيع الصمود أمام الجيوش النظامية المدربة التي تملكها الحكومات الغنية مثل حكومات البيزنطيين والفرس،الني غذت جيوشها بالمال وبالجنود المحترفين المدربين على القتال وبالضبط المتخصصين بشؤون الحرب وبالعدد والعدة المتطورة وبالمال. ولهذا لم تتمكن "عساكر" الجاهليين من الوقوف أمام الجيوش النظامية، لتفوق هذه الجيوش عليها في التنظيم وفي التدريب وفي السلاح وفي كيفية استعمال الأسلحة: واستغلال المواقف وتطبيق العلم على الأرض التي يقع فيها القتال، وفي التغذية والعناية بأحوال الجندي.
ولهذا تحاشت الاشتباك مع الجيوش النظامية في خارج حدود بلادها، وجمدت قتالها وحصرته في الغزو وفي القتال الداخلي، أي في قتال العرب بعضهم بعضا، وهو قتال لم يستوجب تطوير الأسلحة وتحسينها، كما يستوجبه قتال الجيوش النظامية الكبيرة، وقد اعتمد على شجاعة الفرد، وعلى الحماس، وعلى ذكاء السادة في الاستفادة من المواقف ومن توجيه فرسان الحرب.

(1/2931)

admin
01-01-2011, 01:17 AM
أما المقاتلون فهم متطوعون، تطوعوا للقتال للدفاع عن مواطنهم، ومجبرون، عليهم الخروج للقتال لأنهم تبع، وقد أمروا به أمرا، ومن هؤلاء الرقيق. ولما كان القتال بسيطا لذلك كان واجب المقاتل متوقفا على قابليته العقلية والجسمية.
ولا نجد في كتب أهل الأخبار ما يفيد بوجود تدريب للفريقين أثناء السلم ولا في أثناء الحرب، بل يدخل المحارب الحرب كما يدخل المتشاجرون أي شجار، وهناك يستعمل ذكاءه في اختيار الدور الذي يناسبه، فقد يظهر مهارة وحنكة وشجاعة فيرتفع اسمه بين قومه، وقد يقوم بدور المشجع بالكلام، وقد يقوم بأدوار بسيطة ساذجة. فإذا انتهى القتال عاد الناس إلى حياتهم الأولى، عادوا إلى بيوتهم وهي ثكناتهم الوحيدة التي جاؤوا منها.
وترد لفظة "كتيبة" والجمع "كتائب" في الشعر الجاهلي، تعبيرا عن تنظيم وتكتل في صفوف الجيش. فقد ورد أن "حجر بن أم قطام" قاد كتيبة"فارسية" على رواية، أو أنه كان نظم كتيبة مسلحة بأسلحة من دروع وبيض من صنع الفرس. ووردت أخبار أخرى تتحدث عن وجود كتائب عند سادات قبائل قوية، دلالة على أخذ القبائل القوية بنظام تكتيل الجيش وتصنيفه وتقسيمه إلى كتائب في القتال لتلقي الرعب في نفوس الأعداء، ولا سيما في نفوس الأعراب الذين لم تساعدهم ظروفهم على انشاء مثل هذه التنظيمات العسكرية.
ويعبر عن"الكتائب" بلفظ "المقانب" أيضا. واذا كان الجيش ما بين الثلاثين إلى الأربعين أو قدر أربعين رجلا أو خمسين، قيل له "المنسر".
ويذكر علماء اللغة ان الكتيبة انما سميت كتيبة، لاجتماعها وانضمام بعضها إلى بعض، فهي اذن كتلة كبيرة من الجيش. وعرفوها بأنها القطعة العظيمة من الجيش، والجمع: كتائب. وعرف بعض علماء اللغة الكتيبة بأنها جماعة الخيل إذا أغارت مكونة من المئة الى الألف.

(1/2932)


--------------------------------------------------------------------------------

وعرفت الكتيبة ب "جأواء" كذلك، وقيل: الجأواء كتيبة كثيرة الدروع. وذكر بعض، علماء اللغة أن المنسر ما بين ثلاثين فارسا إلى أربعين. بينما جعله بعض آخر، ما زاد على خمسمائة حتى يبلغ الثمانمائة، فيكون حبشيا. ويظهر من تفاسير علماء اللغة للفظة " المقنب، أن المقنب تكون في الخيل خاصة. قالوا: "والمقنب من الخيل جماعة منه ومن الفرسان. وقيل ما بين الثلاثين إلى الأربعين أو زهاء ثلثمائة... وقيل دون المائة ". وورد: المقنب جماعة من الخيل تجتمع للغارة. قال لبيد: وإذا تواكلت المقانب لم يزل بالثغر منا منسر معلوم
والسرية في تعريف علماء اللغة قطعة من الجيش، تسري في خفية ليلا، لئلا ينذر بهم العدو فيحذروا. وهي من خمس أنفس إلى ثلثمائة، أو يبلغ أقصاها أربعمائة. وقيل هي من مائة إلى خمسمائة، فما زاد فمنسر، فإن زاد على ثمانمائة فجيش، فإن زاد على أربعة آلاف فجيش جرار، وإن كانت من الخيل، فتكون نحوا من أربعمائة. وقيل سموا سرية لأنهم يكونون خلاصة العسكر وخيارهم من الشيء السري، وهوالنفيس.
وقد اختلف في عدد رجال "الحضيرة". فقيل: الحضيرة الأربعة والخمسة يغزون. وقيل: السبعة والثمانية. وقيل: العشرة فمن دونهم. وذكر ان "الحضيرة" مقدمة الجيش.
وأما "النفيضة" فالجماعة يبعثون ليكشفوا هل ثم عدو أو خوف. وذكر ان "النفيضة" الذين يتقدمون الخيل، وهم الطلائع.وتؤدى لفظة "مصر" معنى القطعة من الجيش، والحملة وذلك في السبئية. ويقال لقائد الكتيبة "كبش الكتيبة". وكبش القوم رئيسهم وسيدهم. فهو سيد الكتيبة وقائدها.
ويعبر عن المحارب والمقاتل بلفظة "جندي" وب "اسد" "أسد" في العربيات الجنوبية والجمع "اسدم" أي جنود. وقد يكون الجندي حرا وقد يكون عبدا أي رقيقا ومولى، وقد وردت جملة "اسد املكن" أي "أسود الملوك" بمعنى "جنود الملك" و "عسكر الملوك"، وذلك تمييزا لهم عن الجنود الآخرين الذين كان يجندهم الأقيال والأذواء وسادات القبائل.

(1/2933)


--------------------------------------------------------------------------------

ويقصد ب "اسد" أي جندي، الجندي النظامي أي المحارب الذي اتخذ الجندية عملا له. ولهذا نجد النصوص لا تستعملها إلا في هذا المعنى،وذلك للتمييز بينه وبين المحاربين الآخرين المتطوعين أو المكرهين على الدخول في القتال أو المؤجرين أو المحاربين من أهل القبائل أو من أهل المدن الذين يهبون للقتال عند دنو خطر على أهلهم أو قراهم. وتكون اعاشة هؤلاء الجنود على من يأمرهم بالخدمة في جيشه بالطيع، من ملك أو مكرب أو مدينة أو قرية أو سيد أرض.
وأما إذا كان المحارب رقيقا كائنا ما كان جنسه أو لونه، وأشرك في القتال،
فيعبر عنه ب "ادومت " "ادمت"، أي "ادم" و "أوادم"، بمعنى الخدم المملوكين. فلسيد القبيلة ولكبار أصحاب الأرض والملاكين والأغنياء "أدم" أي خدم، يخدمونهم ويقاتلون عنهم في الغزو وفي الحرب وفي الدفاع عن النفس. ولم يكن هؤلاء "الأدم" من العسكريين المحترفين.
وأما إذا كان المحارب أجيرا يؤجر نفسه لمن هو فوقه لخدمته أو للقتال عنه، فإذا وقع قتال طلب منه الدخول فيه، للقتال في سبيل صاحبه قيل له: "اجر" أي "أجير، والجمع "اجر" و "اجرم"، أي أجراء.
وليس لدينا أخبار عن معامل تعمل فيها "الشكة"، أي السلاح كله للحكومات أو للقبائل في الجاهلية. غير أني لا استبعد وجودها في اليمن. فقد كانت حكومات اليمن، حكومات منظمة تعنى بمثل هذه الأمور التي هي من ضرورات الدولة. أما القبائل، فقد كان المحاربون فيها هم الذين يجهزون أنفسهم بالسلاح. وقد يكون ذلك السلاح عصيا يقاتلون بها،وقد لا يكون لدى المحارب أي شيء منه سوى الحجارة التي يجدها أمامه، فيتراشق بها مع الأعداء. أما سادات القبائل والأغنياء، فقد كانوا يشترون أسلحتهم ويخزنونها إلى وقت الحاجة. فإذا ظهرت وزعوها في أولادهم وخدامهم ومواليهم للقتال.

(1/2934)


--------------------------------------------------------------------------------

وإذا عزمت قبيلة على غزو قبيلة أخرى وجب على كل بالغ سليم الغزو معها، كما أن على كل فرد من القبيلة المهاجمة أن يقوم بواجبه في الدفاع عنها، وهذا واجب كل رجل في القرى والمدن أيضا. فقد كان على رجال كل قرية أو مدينة الدفاع عن أنفسهم، ورد غزوات الغازين. لاستقلال كل قرية أو مدينة في أمورها وشؤونها، ووقوع كاهل الدفاع عن نفسها على عاتقها. وعلى كل مواطن لذلك، بدوي أو حضري أن يهيئ نفسه في أيام الحروب والغزوات للدفاع عن نفسه وعن مواطنيه، وأن يقوم بعمل الجندي في هذه الأيام.
وقد يقعد بعض الرجال من الأغنياء، أو من المسنين عن المساهمة في الحرب أو الغزو، فيدفعون جعلا في مقابل ذلك لرجال يحاربون عنهم، فيكون الجعل لهم ويكون ما قد يقع في أيديهم من غنائم لهم أيضا. وقد يتفق على ذلك بأن يجعل المقيم للغازي شيئا. وقد كرهت الجعائل في الإسلام. وفي الحديث أنها سحت. وهي ما تجعل للغازي إذا غزا عنك بجعائل. قال سليك بن شقيق الأسدي: فأعطيت الجعالة مستميتا خفيف الحاذ من فتيان جرم
واذا قامت قبيلة بغزو قبيلة ما، قام رجالها من ذوي الرأي والمعرفة بالمعارك بإعداد خطط غزو العدو ومهاجمته ومباغتته وترؤسه وعلى شجعانها قيادة الغازين المحاربين. أما القبيلة التي تتعرض للغزو، فيقوم ذوو الرأي والخبرة العسكرية فيها بإعداد الخطط للدفاع عن نفسها، ورد الاعتداء عنها. وفي حالة الأحلاف يعد ذوو الرأي والخبرة العسكرية في الحلف خطط الهجوم أو الدفاع، ويشترك الحلف في إعداد المحاربين وقيادتهم.

(1/2935)


--------------------------------------------------------------------------------

والغالب ان الذي يقوم بقيادة المحاربين وتوجيههم في المعارك هم من أسر توارثت ذلك، وصارت القيادة وكأنها حق لها. فإذا وقع غزو، أو أرادت قبيلة ما غزو قبيلة أخرى، نهض رجال الرأي في الحرب بإعداد الخطة والتشاورفي الرأي لكسب المعركة. وقد كانت قريش قد وكلت أمر حربها وقيادة محاربيها إلى "آل حرب". ولكن ذلك لا يعني عدم تغيير القادة وإبدالهم، وتعيين قادة جدد من أسر أخرى، فقد كانوا يفعلون ذلك أيضا عند الضرورات.
ولم تكن قوات القبائل في مستوى القوات النظامية من حيث التسليح والقابلية في القتال. فأسلحة رجال القبائل بسيطة وبدائية في الغالب لفقرها وعوزها وهي غير منتظمة ولا مدربة على القتال تدريبا فنيا، وإنما يقوم فنها على الإغارة والمباغتة، فإذا وجدت مقاومة ما فر ت وولت،لأنها لا تتحمل المقاومة والوقوف في وجه العدو مدة طويلة، ولا تستطيع الصبر على ذلك. وهي من هذه الناحية قادرة على إلحاق الأذى بالقوات النظامية في حروب الصحارى،فتقوم بمباغتة العدو وأخذه بالمفاجأة، فإذا وجدت مقاومة منه أو أخذت ما كانت تصبو اليه من غنيمة، عادت مسرعة إلى معقلها، لتحتمي به، ولتوزع ما غنمته وفق العادة والعرف.
والغزو مصدر مهم من مصادر الإعاشة بالنسبة إلى الأعراب، يلجأون اليه في أيام الشدة والمحنة لغناء أهل القرى والمدن بالنسبة إلى أهل البادية، صارت هذه المواضع هدفا مقصودا للإعراب، ومصدرا من مصادر الرزق عندهم، ولا سيما المواضع الواقعة على حدود الأرضين الغنية الخصبة، كالعراق وبلاد الشام. وقد أدركت الدول الحاكمة في العراق وفي بلاد الشام هذه الحاجة، فاستغلتها، فأخذ الروم يشترون رؤساء القبائل، يدفعون لهم رشاوى وهدايا ومنحا ومرتبات لحماية حدودهم من تحرش رجالهم بها، ولمهاجمة حدود أعدائهم الفرس، ولمقاومة القبائل التي يرسلها الساسانيون لمهاجمة بلاد الشام.

(1/2936)


--------------------------------------------------------------------------------

وفعل الفرس مثل ذلك، فدفعوا المنح والمرتبات والهدايا لرؤساء قبائلهم،ودفعوهم على مهاجمة حدود بلاد الشام، وقد اضطرت القرى والمدن في جزيرة العرب إلى مهاجمة القبائل القوية النازلة بقربها، والى محالفتها بدفع إتاوات لها في مقابل عدم التحرش بها وحمايتها من تحرش القبائل الأخرى الطامعة بها، وفي مقابل مرور قوافلها في أرضها. وبذلك أمنت على سلامتها وعلى أموالها بعقد هذه العهود والمواثيق.
ولضرورة الدفاع عن النفس، وللوقوف أمام طمع القبائل القوية في القبائل الضعيفة، اضطرت أكثر القبائل إلى التحالف والتكتل لمنع الغزو فيما بينها، والى مقاومة أي غزو يقع عليها. وقد أطلق العرب على كل قبيلة تحارب وحدها دون محالفة قبيلة أخرى "الجمرة". وذكر أن "الجمرة"، هي القبيلة التي لا يقل عدد فرسانها عن ثلاثمئة فارس، وهو عدد يدل على قوة القبيلة وشدة البأس.
وذكر الأخباريون أن "جمرات العرب" ثلاث: بنو ضبة بن أد، وبنو نمير ابن عامر، وبنو الحارث بن كعب. فطفئت جمرتان، وبقيت جمرة واحدة: طفئت بنو ضبة لأنها حالفت الرباب، وطفئت بنو الحارث لأنها حالفت،مذحج، وبقيت نمر لأنها لم تحالف.
والغالب على أسلوب القتال عند الجاهليين: الكر و الفر، و ذلك بأن يهاجم المحاربون عدوهم ثم يتراجعون بسرعة وكأنهم قد فروا خوفأ منه، ثم يعودون فيكرون عليه، يضعون مكانا يكون مركز ثقلهم والملجأ لهم، يلتجئوون إليه، ثم ينطلقون منه للكر على العدو. وقد اتبعوا أيضا أسلوب القتال صفوفا، بأن يقف المحاربون صفوفا، يحاربون دون كر ولا فر.
ولا بد للمحارب من أسلحة يحارب بها ويدافع بها عن نفسه. ويستعمل العرب لفظة سلاح وعدة المحارب في مقابل A rms=Armour في الانكليزية و"ملديم" Malddim و "كليم" Kelim و"حليضه" Hallizah في العبرانية. ويراد بها كل ما يستعمله ويحمله الجندي من وسائل الحرب من هجوم ودفاع.

(1/2937)


--------------------------------------------------------------------------------

والسيف هو السلاح الرئيسي في القتال. استعمل في الهجوم وفي الدفاع عن النفس. ويطلق العبرانيون عليه وعلى الخنجر لفظة "خ ر ب" "خريب".
وقد يكون السيف قصيرا أيضا. وهو ذو حد واحد وذو حدين. وقد يكون رأسه مدببا حادا يستعمل للطعن. أما الضرب فيكون بحد السيف. والسيوف الجيدة هي السيوف المصنوعة من الفولاذ ومن الحديد النقي الجيد. وقد اشتهرت سيوف اليمن، وبعض السيوف المستوردة من الخارج. ويقال لحديدة السيف "النصل"، وتقابل هذه اللفظة لفظة "لهب" "لهيب" في العبرانية، من أصل "لهب"، وذلك للمعان السيف الذي يشبه اللهب عند عرضه في الشمس.
وللسيف أسماء كثيرة ترد في كتب اللغة، بعضها أسماء وبعضها نعوت وصفات صارت في منزلة الأسماء للسيف. ومن أسماء السيف: "الجنثى" والجمع: "الجنثية"، يقال انها انما سميت جنثية نسبة إلى الجنثي، وهو الحداد.
ويعرف الحداد بالقين عند الجاهليين. أما الذي يقوم بصقل السيف، فهو "الصيقل".
وقد اشتهرت أنواع من السيوف عند العرب، تفاخروا بها، لجودتها وشدة وقعها في العدو. ومن هذه السيوف المشهورة: "السيوف المشرفية". قيل: انها سميت بذلك نسبة إلى "المشارف" جمع مشرف، ويراد بها قرى للعرب تدنو من الريف. وقيل: لأنها من مشارف الشام. وقيل: نسبة إلى موضع من اليمن. وقيل بل نسبة إلى "مشرف" رجل من ثقيف.
ورد "ابن رشيق القيرواني" قول من نسب السيوف المشرفية إلى مشارف الشام أو مشارف الريف، وذهب إلى انها نسبة إلى "مشرف"، من قرى اليمن.
وعرفت سيوف "بصرى" بالجودة كذلك، ويقال للسيف المنسوب اليها "بصري". وقد مسحها "الحصين بن الحمام المري"، وأثنى على القيون الذين أخرجوا "صفائح بصرى"، أي السيوف.
واشتهرت السيوف السماة ب "السريجية" بجودتها كذلك، ويقال: إنها نسبة إلى "سريج" رجل من بني أسد. وهو أحد بني معرض بن عمرو بن أسد ابن خزيمة وكانوا قيونا.

(1/2938)


--------------------------------------------------------------------------------

واشتهرت سيوف اليمن كذلك، فقيل للسيف "يمان" و "يماني"، إذا صنع باليمن. والظاهر أنها لماعة بيض، ولذلك قيل "بيض يمانية" يمدحون تلك السيوف.
واشتهرت بعض السيوف في الجاهلية، بقيت شهرتها خالدة في الإسلام. ومن هذه السيوف، سيف عرف ب "الصمصامة"، وهو سيف عمرو بن معد يكرب. وسيف عرف ب "ذي الفقار" ارتبط اسمه باسم علي بن أبي طالب، وكان قد استولى عليه في معركة "بدر"، أخذه من العاصي بن منبه.
وكان في أصحاب رسول الله صحابي اشتغل بعمل السيوف في الجاهلية هو "خباب بن الأرت ". وكان من المسلمين الأولين الذين أعلنوا إسلامهم، وعذبوا فيه.
ويتبين من دراسة وتقصي مصادر السيوف عند العرب الجاهليين، أن العرب كانوا آنذاك يستوردونها من أماكن مختلفة، وأن استيرادها كان تجارة مربحة.
وأن تجارها كانوا يفتشون في كل مكان من أسواق العالم المعروفة بصنع وبيع الأسلحة لشراء الأسلحة منها. فاستورد بعضهم أنواعا من السيوف المصنوعة من الهند وقد عرف السيف الجيد المصنوع بالهند ب "المهند". واشتهر الروم بصنع السيوف الجيدة، وكذلك الفرس.
وقد تفنن في تزويق السيوف وفي اكسائها بماء الذهب أو الفضة، وقد اشتهرت الروم بإكساء السيوف ماء الذهب، ويقال لذلك "الدجال".
والخنجر أقصر من السيف، ويستعمل، في المباغتة في الغالب وفي الهجوم وفي الدفاع عن النفس. وهو مثل السيف أيضا ذو حد وذو حدين، ويوضع في قراب يحمل في وسط الجسم. وهو لا يزال كثير الاستعمال لسهولة استعماله وإخفائه على حين قل استعمال السيوف، أو مات، لعدم ملاءمتها للقتال الحديث. ولرخص الخناجر، بالنسبة إلى السيوف، كانت كثيرة الاستعمال حملها معظم الناس حتى الفقراء لحماية أنفسهم من أذى الإنسان والحيوان. وقد استعملت في أثناء الالتحام بالحروب، حيث يشتبك المحاربون بعضهم ببعض، فيكون الخنجر من الأسلحة الملائمة للفتك بالعدو.

(1/2939)


--------------------------------------------------------------------------------

والرمح: سلاح يستعمل لطعن العدو، يستعمله الفارس،في الغالب. له رأس منبل حاد، يطعن به. وقد يكون له رأس آخر، يثبت به في الأرض. وهو يختلف طولا ووزنا. وهو من الأسلحة القديمة، ولا يزال معروفا، تستعمله بعض القبائل والشعوب البدائية. يصنع من حديد أو من معدن آخر، كما يكون من أعواد الأشجار القوية أو القصب القوي. وأجود الرماح عند العرب، "الرماح الآزنية "، أو "الرماح اليزنية"، يقال انها نسبت إلى "ذي يزن" الملك. وهو على رأي بعض الأخباريين أول من اتخذ أسنة الحديد، فنسبت اليه وانما كانت أسنة العرب قرون البقر.
وعرفت الرماح ذوات السنان بالأسنة. وهي ايضأ أنواع، منها نوع يسمى "الأسنة القعضبية" نسبة إلى رجل اسمه "قعضب" من "قشير". ونوع يسمى "الأسنة الشرعبية"، ينسب إلى "شرعب". وإلى هذه الأسنة أشار "الأعشى" في هذا البيت: ولدن من الخطي فيها أسنة ذخائر مما سن أبزى وشرعب
ويذكر أهل الأخبار ان الرماح الشرعبية، منسوبة إلى بطن من بطون حمير يقال لهم "شرعب بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد قيس".
و الرماح "ألخطية"، من الرماح الجيدة المعروفة وتنسب إلى "الخط".
والخط هو خط هجر، تحمل اليه الرماح من بلاد الهند، فتقوم به. فنسبت اليه.
و "الرماح الردينية" وهي من الرماح الجيدة المشهورة أيضا، يقال إنها نسبة إلى "ردينة" امرأة كانت تعمل الرماح.
ويقال للرمح "المنجل" أيضا. واشتهر نوع آخر من الرماح عرف ب"الرمح السمهري" والجمع: "الرماح السمهرية". ذكروا أنها منسوبة إلى "سمهر"، وكان صنعا يصنع الرماح، وكانت امرته "ردينة" تبيعها.
وتستعمل القنا في القتال أيضا. ويظهر أنها نوع من أنواع القصب القوي الذي لا ينثني ولا ينكسر، يكسى رأس القناة برأس من معدن مدبب حاد ليطعن به. ويستعمل القناة للفارس والراجل.
ويقال للقنا، "قانه" Kanah في العبرانية وkanna=Canna في اليونانية

(1/2940)


--------------------------------------------------------------------------------

ويراد بها القصب، وهو ينبت في مواضع كثيرة من مصر، وفي الأرضين التي تكثر فيها الرطوبة والمياه، وقد اشتهرت بعض أنواع القصب بالمتانة والقوة. ولهذا استخدمت سلاحا من أسلحة الطعان.
واستعملت الحراب في الطعن وفي زرق العدو بها. وقد ذكر أهل الأخبار أن الحبشة كانت تحسن الطعن بها، وأن ال**** المجلوبين منها والذين كانوا بمكة، كانوا قد اشتهروا بالطعن في الحراب، ومنهم "وحشي" قاتل حمزة. وهو عبد حبشي زرق حربته ورمى بها حمزة فأصابه.
وكما تعتمد الجيوش الحديثة على أسلحة الرمي، اعتمد الجاهليون على أسلحة هي بمنزلة البنادق والرشاشات في اسلحة هذه الأيام، هي القسي والسهام. والقوس، هي الآلة التي تمسك باليد ويشد وترها شدا قويا، ليرمي السهم إلى العدو المراد رميه. وكلما كان الشد قويا، صارت الرمية بعيدة مؤثرة. وقد يكون السهم من غصن أو من خشب، وقد يكون من معدن مثل حديد أو نحاس. ويتخذ الوتر من مادة قابلة للتوتر وللشد، حتى يكون في قدرته رمي السهم.
إلى مسافة بعيدة وبقوة. أما السهم، فقد يكون من شجر، وقد يكون من معدن، ويكون له رأس مدبب ليصيب به الهدف. وقد يسم رأس السهم، فينفذ السم منه إلى الجرح، فيصيب به الجريح إصابة قاتلة.
وقد عدت الرماية من جملة الخصال العالية في الشخص المكملة للانسان. وقد اشتهر في الجاهلية قوم بدقة رمايتهم، وبصحة اصابتهم الأهداف، إذا أرادوا رمي أحد اخرجو النبل، فرموه بها، وقلما يخطئون. واذا ارادوا وصف رجل بدقة الرمي، قالوا فيه: "كان من أرمى الناس". وكانت الرماية دراسة يتعلمها الرامي من رماة ماهرين. فكان أهل الحيرة والفرس يعلمون أولادهم الرمي بالنشاب، ليكونوا من الرماة المهرة. يستعملون فنهم هذا في قهر أعدائهم وفي الصيد وفي الحروب. وقد كانت الجيوش تضم فرقا من الرماة، تكون لهم أهمية كبيرة جدا في تقرير نهاية الحرب، لأنهم عنصر فعال قوي في التأثير في المحاربين.

(1/2941)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد استعان الفرس والروم والرومان بالرماة الماهرين من العرب،فكونوا منهم فرقا خاصة في جيوشهم، وظيفتها الهجوم على العدو ورميه بالسهام للفتك به. فكانت السهام تقوم مقام نار البنادق والرشاشات في أسلحة هذا اليوم. وقد أشار الكتبة "الكلاسييون" إلى كتائب الرماة العرب التي كونها الروم والرومان.
وقد عرف بعض الرماة بدقة إصابتهم الهدف، فكانوا يصيبون بسهامهم ونبلهم أدق الأهداف. وقد اشتهر هؤلاء ب "رماة الحدق"، أي المهرة في الرمى، فلا يخطئون الحدق. وفي كتب الأخبار قصص عن دقة إصابة هؤلاء الرماة. ولخطورة الرمي في القتال، ولأهمية هذا السلاح في مصير الحروب ونتائجها، أعطاه الإسلام أهمية كبيرة. وقد ورد في الحديث: " وأعدوا لهم ما استطعتم. من قوة، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي ". وورد أيضا: أن الرسول كان يحث أصحابه علىتعلم الرماية واتقانها، وقد كان في صفوف قريش والوثنيين جماعه من الرماة المهرة الذين يصيبون الأهداف.
واشتهرت أنواع من القسي، منها: "القسي الماسخية"، نسبة إلى رجل من بني نصر بن الأزد اسمه "ماسخة"، وقيل: "نبيشة بن الحارث".
ذكر أنه أول من عملها. وتنسب القسي أيضا إلى "زارة" وهى امرأة "ماسخة".
وفي هذه القسي قال الشاعر: شرعت قسي الماسخي رجالنا بسهام يثرب أو سهام الوادي
وذكر أهل الأخبار نوعا من الخشب سموه "الشريان"، ذكروا أنه خشب تتخذ منه القسي العربية.
وأجود السهام التي وصفتها العرب، "سهام بلاد"، "سهام بلام"، و "سهام يثرب"،وهما قريتان من حجر اليمامة. وقد ذكرها الأعشى في شعره. ومن "النبل" الجيد نبل يقال له "رقميات"، وقد نسبت إلى "الرقم"، وهو موضع دون المدينة، ويقال سهام مرقومة.

(1/2942)


--------------------------------------------------------------------------------

وتريش النبال بريش الطيور، وتوضع عليها ريش نسر أحيانا. وتحفظ السهام والنبال في محفظة، يقال لها: "الكنانة". وأشهرها الكنائن المعروفة ب"الكنائن الزغرية"، وهي منسوبة إلى "زغر"، موضع بالشأم، تعمل كنائن حمر مذهبة. وقد ذكرها أبو دؤاد الإيادي في شعره: ككنانة الزغرى زينها من الذهب الدلامص
ومن مشاهير الرماة عمرو بن عبد المسيح الطائي، وكان أرمى العرب. وفد إلى النبي، وفيه يقول امرؤ القيس: رب رام من بني ثعل مخرج كفيه من ستره
واشتهر "القارة" بالرمي، فقيل: إنهم أرمى حي في العرب، ولهم يقال: "قد أنصف القارة من راماها ".
والقسي هي سلاح الصياد في الجاهلية، فهي بمثابة "البندقية" في هذا اليوم، يأخذها الصياد معه وفي كنائنه، ثم ينتظر، فإذا شاهد صيدا رماه. ولهذا نجد المولعين بالصيد يذكرونها في شعرهم وفي وصفهم لمطاردة الحيوانات.
ومن القسي الجيدة الني تركت أثرا في ذاكرة الشعراء "العتل" واحدها "عتلة" وقد عرفت بأنها القسي الفارسية.
واستعمل الصعاليك واللصوص السهام سلاحا فتاكا في ابتزاز المال وسلب المسافرين. والرامي الجيد الرماية، متغلب على خصومه، لأنه يرمي وهو على بعد ممن يرميه، فلا يصيبه سيف أو رمح. وبذلك صعب على من لا يحسن الرماية التغلب عابر الرماة.

(1/2943)


--------------------------------------------------------------------------------

والرمي بالحجارة والحصى، سلاح مهم مؤثر في العدو في ذلك الزمان. فقد كان المحاربون يرمون عدوهم بآلة ما زال الأطفال والفلاحون يستعملونها،يطلقون عليها لفظة "معجان" في العراق. وهي عبارة عن قطعة من جلد أو قماش تشد من طرفيها بحبلين أو خيطين. فإذا أراد الرامي الرمي، وضع حجرا صغيرا أو حصاة في الجلد أو القماش، وأمسك بطرفي الحبلين غير المشدودين بالقاعدة،وأخذ يحركهما تحريكا دائريا بشدة، ثم يطلق أحد الحبلين بسرعة لينطلق الحجر إلى الهدف المراد، فيصيبه. ويطلق على هذه لفظة "قلع." في العبرانية " وهي أبسط أنواع آلات الرمي بالحجارة. ويستعملها الفلاحون والرعاة أيضا لطرد الطيور والحيوانات. ويسمونها في بلاد الشام "المقلاع".
وقد كان على المحارب التدرب على الرمي وعلى الطعن،ليكون محاربا ناجحا، ذا خبرة في القتال، فلا يتمكن منه عدو بسهولة. وفي جملة الوسائل التي كان يتسرب عليها: "الدريئة."، وهي حلقة يتعلم عليها الطعن والرمي. قال عمرو ابن معديكرب: ظللت كأني للرماح دريئة أقاتل عن أبناء جرم وفرت
ولا بد للمحاربين من أسلحة واقية، يتقون بها ضربات أعدائهم. وما يرمونهم به من حجارة وسهام. والترس من أقدم الأسلحة الواقية، يعلقه المحارب على ظهره أو على كتفه، فإذا احتاج إليه، أمسكه بإحدى يديه، ليتقي به ضربات خصمه. ويصنع من الحديد في الغالب، ولارتفاع ثمنه، لم يستعمله إلا المحاربون الشجعان المعروفون والمحاربون الموسرون. واستعمل الترس المصنوع من الخشب ومن الجلود الثخينة، مثل جلود الجمال والبقر وبعض أنواع الأسماك والحيوانات الوحشية ذوات الجلود الغليظة.

(1/2944)


--------------------------------------------------------------------------------

وبعض الأتراس،دائرية على هيأة قرص، ومعظم أنواع الأتراس عند الجاهليين وعند العرب الإسلاميين هي من هذا النوع،وبعضها على هيأة مستطيل أو مستطيل ذي رأس مدور أو ثابت أو غير ذلك، وفي ضهر الترس حلقة أو موضع يدخل المحارب يده فيه ليمسك به الترس، ويتصل به حبل أو سلسلة ليعلق المحارب به أو بها الترس على جسمه. ويعرف الترس بالدرقة وبالمجن كذلك. وقد ذكر امرؤ القيس المجن فقال: لها جبهة كسراة المجن حذقه الصانع المقتدر
ويقال له: "العنبر" كذلك.
ويقال للمجن "ماكين" "ماجن" Magen في العبرانية. وهو قرص دائري الشكل خفيف يحمله المحارب بيده ليدافع به عن نفسه وللاتقاء به من ضربات العدو. ويقال له "كليبوس" Clypeus عند الرمان.
والدروع هي من أسلحة الوقاية، يتدرع بها المحارب، ليقي بها نفسه من ضربات خصمه. وقد تكون للظهر وللصدر، تحمي ظهر المحارب وصدره، وقد تكون للصدر فقط، فيقي المحارب بالدرع ضربات المحارب من رمح أو سيف. فلا ينال به صدره ويعرف أهل الأخبار الدرع بأنها القميص المتخذ من الزرد. وتعرف الدروع عند العبرانيين ب "شريون" Shiryon. ويلبس الدرع كالثوب فيقي الجسم من الضربات.
وقيل للدروع "الخرصان" كذلك، والواحد خرص، وقد سموا الدرع خرصا لأنه حلق، كما سموا الحلقة التي في الأذن خرصا. وقيل للدرع سابغة أيضا. وقيل للرماح الخرصان كذلك.

(1/2945)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن الدروع المعروفة: "الدروع الحطمية" نسبة الى حطمة بن محارب بن عمرو بن وديعة. وقيل: نسبة إلى "حطم" أحد بني عمرو بن مرثد من بني قيس بن ثعلبة. و "الدروع السلوقية"، هي نوع آخر من الدروع المشهورة، يقال: انها نسبة إلى "سلوق" وهي قرية باليمن عرفت بدروعها. وقد ذكر النابغة الدروع السلوقية في شعره، وأشار "ابن مقبل" إلى نوع من أنواع الدروع دعاها "المشرفية" من صنعة مشرف، ومشرف جاهلي، وهم يدعون إلى ثقيف. كما عرف نوع آخر من الدروع اشتهر باسم "القردماني"، وذكر بأنه فارسي، وان أصله بالفارسية "كردماند".
وقد نسبت الدروع الجيدة الممتازة إلى "داوود" و "سليمان" فورد في شعر للحطيأة: فيه الرماح وفيه كل سابغة جدلاء مبهمة من نسج سلام
وورد في شعر للنابغة: وكل صموت نثلة تبعية ونسج سليم كل قضاء ذائل
ويلاحظ ان البيت المنسوب إلى "الحطيأة" ينتهي بلفظة "داوود" بدلا من "سلام" وهو "سليمان" في بعض الروايات. والمعروف ان "داوود" هو الذي اشتهر بعمل "الدروع" لا "سليمان" على حد قول أهل الأخبار. وقد أشيرإلى صنع "داوود" للدروع في بيت شعر "لبشامة بن عمرو"، وقد وصف دروعه بأنها "موضونة"، أي مضاعفة ثخينة، تسمع للقواضب فيها صليلا، كما أشير الى ذلك في بيت شعر ينسب إلى "الحصين بن الحمام المري"، حيث نسب نسج الدروع إلى " داوود". والغالب عند الجاهلين نسبة إلى الدروع إلى "داوود". وأما لفظة "سليم" الواردة في بيت "النابغة"، فتعني "سليمان" أيضا.
ونحن لا يهمنا في هذا المكان أمر صانع هذه الدروع، إنما الذي يهمنا هنا هو أثر القصص اليهودي والدعاية الإسرائيلية في نفوس الجاهليين، مما يدل على أن اليهود المهاجرين الى جزيرة العرب كانوا قد غرسوا بذور الدعاية اليهودية بين الجاهليين حتى تؤثر فيهم، فكان من أثره مثل هذا القصص الذي نجده في شعر الجاهليين وفي قصصهم المدون في الإسلام.

(1/2946)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا يستبعد أن يكون في اتجار يهود الحجاز بالأسلحة واستيرادهم إياها من بلاد الشام لبيعها للعرب أو للاحتفاظ بها لتهديد من يطمع فيهم ولمقاومته، أثر في ظهور مثل هذا القصص، وفي نسبة الأسلحة الجيدة إلى "داوود" أو "سليمان". وعرفت الدروع المصنوعة باليمن بالجودة كذلك.وقد نسبت بعضها إلى التبابعة، فقيل "نثلة تبعية" يريدون بلفظة "نثلة" درع. وقيل "مسفوحة تبعية" أي "درع تبعية" منسوبة إلى "تبع".
و "التسبغة" هي: زرد مشبك الحلق متصل بالبيضة يطرح على الظهر ليستر العنق، فلا تؤثر فيه الضربات والطعن.
ومن الأدوات التي استخدمها المحاربون "البيضة"، وهي غطاء يوضع على الرأس لحمايته من السيوف والحجارة والعصي وما شابه ذلك. وهي لا بد أن تكون مصنوعة من مواد واقيه تحفظ الرأس من الأخطار، كان تكون مصنوعة من الحديد أو المواد المعدنية الأخرى أو من الجلود الثخينة.
وقد عرفت "البيضة" المستديرة ب "تركة". وورد في شعر "مزرد بن ضرار الذبياني" "تركة حميرية "، أي منسوبة الى حمير، مما يشير إلى اشتهار هذا النوع من آلة وقاية الرأس.
والعمائم خوذ المحاربين عند الجاهليين. فإذا خاض المحارب معركة ما إعتم بعمامة، وقد يضع عليها ريشة، وقد يتحنك بذؤابتها، ولم تكن عمائم الحرب ذوات لون واحد، بل كانت ذوات ألوان، قد يدخل المحارب الحرب وعلى رأسه عمامة يختلف لونها عن لون العمامة التي لبسها قبلا. وقد تحدث أهل الأخبار عن أنواع العمائم التي لبسها المحاربون في القتال.

(1/2947)

admin
01-01-2011, 01:17 AM
ولكن هذا لا يعني ان الجاهليين كانوا لا يستعملون الخوذ في حروبهم. لقد كان عرب العراق وعرب بلاد الشام واليمن يستعملونها أيضا، واذا كانت الخوذ قليلة الاستعمال، في معظم أنحاء جزيرة العرب، فإنما يعود سبب ذلك إلى غلاء ثمنها، لأنها من المعدن في الغالب، ولعدم وجود حاجات ملحة اليها هناك. وقد لبس الرومان واليونان خوذا مصنوعة من النحاس ومن البرنز. واستعملت الخوذ المعمولة من الخشب ومن الجلود والكتان واللباد وبعض المواد الأخرى. وقد تفنن صانعوها في زخرفتها وفي أشكالها،وعلى هذه الزخرفة والمواد المصنوعة منها يتوقف سعر الخوذ بالطيع.
وأما "المجن" و "الترس" و "الدرقة"، فبمعنى واحد، وهي لوقاية الجسم من ضربات السيوف. ويصنعها العرب من الجلود في الغالب.
ويقال للزرد الذي ينسج على قدر الرأس ويلبس تحت القلنسوة "المغفر".
وقد لبس محاربو اليونان والساسانيون البسة واقية لتقي جسمهم من ضربات السيوف وطعن الرماح ومن تساقط السهام عليهم، كما حموا ارجلهم وافراسهم ايضا بأوقية خاصة، بعضها من جلد وبعضها من اقمشة او من معدن. وقد استخدموا ملابس خاصة صنعت من الزرد أي من خلقات معدنية، وتدرعوا بألواح من معدن حموا بها اجسامهم، وبالواح من الجلود الثخينة المدبوغة دبغا خاصا لتقاوم الضربات، وعطوا بها اجسام خيولهم في بعض الاحيان لئلا تصاب، فيسقط بسقوطها الفارس، ويعجز عن القتال.
وقد اشتهرت "ترسة الروم" بكبرها وشدتها، وقد اشير اليها في شعر "ابن مقبل".
ومن عادات العرب في الحروب انذار من يريدون محابتهم، كأن يقولون لمن يريدون محاربته: انا ننذرك بحرب. وهم يفتخرون بذلك، اذ يرون ان الانذار بالحرب من سيماء القوة والشجاعة، ومن علامات الجبن والضعف. وقد ينذرون عدوهم ويتواعدون معه على الالتقاء في زمن معين وفي مكان معين للحرب. فأذا جاء الاجل التقوا في المكان المعين وتحاربوا فيه.

(1/2948)


--------------------------------------------------------------------------------

وتبدأ الحرب عادة بأعلان حالة النفير أي خالة التجمع والتهيؤ للقتال او للذهاب الى الحرب. ويكون ذلك بالتبويق، أي بالنفخ ببوق من معدن او قرن حيوان او آلة من خشب، او بدق الطبول والدفوف او بضرب اعواد من خشب، او بالصياح لاعلام الناس بدنو عدو او ظهور خطر او استعداد للقيام بغزو ما، فيجتمع عندئذ كل قادر على القتال متمكن منه حاملا معه كل ما يحتاج اليه من معدات للقتال، راكبا او راجلا لأخذ دوره فيه والقيام بالعمل الذي يوكل به اليه وقد يلحق النساء بالمقاتلين فيقمن بأعداد الطعام لهم واعداد ما يحتاجونه اليه من خدمات وليس لهؤلاء المقاتلين من اجور ومرتبات غير الغنائم التي تصيبهم والاسلاب التي تقع في ايديهم فتكون ملكا لهم لان القتال واجب على كل مواطن متمكن محتم عليه والامتناع منه جبن ومخالفة لقوانين المجتمع واعرافه.
وللجيوش الوية ورايات يحملها اشجع المقاتلين والمعروفونبصبرهم على القتال.واذا قتل خامل الراية قام اخر من الشجعان بحملها ويستميت المقاتلون في الدفاع عن رايتهم فسقوط الراية على الارض او في يد العدو معناه هزيمة اصحابها وعجزهم عن القتال وخور عزيمة المقاتلين عن القتال في النهاية وتلك امارات الهزيمة والفرار.
ولا يشترط في الاعلام والبيارق والرايات ان تكون قديمة متوارثة فقد تعقد عند بدء الخرب، يعقدها الرؤساء ويسلمونها الى اشجع الناس لتكون سندا للمحاربين ورمزا يستمدون منه العون والقوة وتسمى بأسماء قد يتصايحون بها عند احتدام القتال وذلك لاثارة النفوس وبعث الحمية فيها على القتال اما امر لون الراية وطولها وعرضها فذلك من شأن الرؤساء والمشايخ وزعماء القوم.
ومما يدل على اهمية الراية عند العرب وعلى مكانتها عندهم انهم كانوا يسمون لواء الحرب ورايتهم التي يجتمعون تختها للجيش اما وكانوا يجتمعون لها في النزول والرحيل وعند لقاء العدو.

(1/2949)


--------------------------------------------------------------------------------

ولما تحدث الخرث بن حلزة اليشكري عن يوم الشقيقة وعن مجيء معد مع قيس بن معد يكرب ذكر احياء معد التي اشتركت معه كانت تحمل معها الويتها ولكل حي لواء.
وكانت لقريش راية يحتفظون بها ويقاتلون تختها تسمى العقاب وهي راية قريش واذا كانت عند رجل اخرحها اذا حميت الحرب فاذا اجتمعت قريش على احد اعطوه العقاب وان لم يجتمعوا على احد اخذها صاحبها فقدموه ولم تكن قريش بدعا في ذلك فقد كانت للقبائل وللحكومات رايات اخرى يتوارثونها ويحافظون على تسميتها وتحتفظ بها اسر خاصة او سادات قبائل تعتز بذلك وتعدها من اعظم درجات الفخر والتكريم.
ولأهمية القائد في المعارك كانوا يحيطونه بحرس ويجعلون اكثر ثقلهم حوله ويكون موضعه في القلب في الغالب ليشرف على القتال تخميه المؤخرة من الخلف والمقدمة من الامام ويوضع اللواء عنده ويخمل بين يديه وكان المسلمون يحملون "العنزة" بين يدي الرسول، وربما جعلوها قبلة.
وقد كان القادة يستعينون قبل الدخول في القتال بمخبرين يرسلونهم إلى العدو للحصول على معلومات عن قواتهم وعن مواقعهم وعن مدى استعدادهم للحرب. وكذلك كان للقبائل ولأهل المدن مخبرون يرسلونهم لاستطلاع الأحوال ولتحذيرهم من احتمال وقوع غزو مفاجىء عليهم، أو لتقدير مقدار الغازين أو المحاربين للاستعداد والتهيؤ. فهم "جواسيس" إذن، يذهبون للتجسس ولاستراق الأخبار حتى يكون من أرسله على حذر وبينة من أمره، ويقال للواحد منهم منذر" في السبئية، لأنه ينذر قومه وينبههم بقرب وقوع حادث عليهم.

(1/2950)


--------------------------------------------------------------------------------

ويقال للشخص الذي بتسقط أخبار العدو ويبحث عن مواضع ضعفه وعن حركاته وسكناته: "العين" و "الربىء" و "الجاسوس". وقد كانوا يتنكرون ويتسترون كي يخفوا هويتهم ويحصلوا على ما يحتاجون الحصول عليه من معلومات ليرتبوا بموجبها خططهم الحربية. روي أن "عمرو بن سفيان الكلابي"، جاء بني خزاعة في زي رجل من بني هلال، وأظهر أنه جاء يريد جيرتهم، وكانوا قد غزوا قومه وساقوا إبلهم، فقبلوا ايواءه، وبقي عندهم أمدا، حتى جمع كل ما احتاج اليه من معلومات عنهم، ثم خرج منهم وعاد إلى قومه فاستفادوا بما كان قد جمعه عن بني خزاعة، وغزوهم وانتصروا عليهم.
وذكر أنه كان لكليب وائل عينأ في تغلب، كان يتجسس له ويرسل له الأخبار عن هذه القبيلة. وأن "عمرو بن ربيعه" ارسل سدوس بن شيبان وصليع بن عبد غم إلى معسكر "زياد" ملك الشام، ليحتجسسا عليه ويأتيا له بالأخبار. وهناك امثلة كثيرة من هذا النوع تتحدث عن عيون كانت القبائل ترسلهم إلى القبائل المعادية لها لتأتي، لها بالأخبار عنها وبنواياها العدوانية وعن خططها في الغزو.
وقد يكون الرجل بين قوم، فيسمع بخبر عزمهم على غزو قومه، فيرسل رسالة رمزية في الغالب أو شفوية ليحذر قومه منه. وقد يكون. المنذر أسيرا في أيدي القوم، فلا يستطيع الهروب من مؤسريه ليخبر أهله بعزم آسريه على غزوهم فيعمد إلى "الشيفرة" وإلى إلرموز و الكنايات و التعابير التي تفهم القوم مراده من الرسالة، فيحتاطوا للامر ويستعدوا للقتال.

(1/2951)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي يوم "شعب جبلة" كان "كرب بن كعب بن زيد مناة"، وهو من بني تميم، قد علم بخطط أعداء قومه، وكانوا قد أخذوا عليه عهدا وميثاقا بالا يتكلم ولايخبر قومه عن عزمهم فعمد إلى الرمز والاشارة، بأن وضع ترابا في صرة، وشوكا قد كسرت رؤوسه، وحنظلة موضوعة و وطب معلق فيه لين، فلما رأى القوم ذلك، علموا انه يقول لهم: إن القوم كالتراب عددا لكن شوكتهم قليلة، وانهم قريبون منهم، فعليهم أن يحتاطوا للأمر، فاحتاطوا منه " واستعدوا للامر.
وكان الأعور، وهو ناشب بن بشامة العنبري أسيرا في قيس بن ثعلبة، فلما سمع بأن اللهازم تجمعت وهم: قيس وتيم اللآت ومعها عجل بن لجيم وعنزة بن أسد، تريد غزو بني تميم، قال لاسريه اعطوني رجلاء أرسله الى أهلي أوصيهم ببعض حاجتي. فقالوا له: ترسله ونحن حضور. قال نعم. فأتوه بغلام مولد. فقال اتيتموني بأحمق. فقال الغلام: والله ما أنا بأحمق. فقال: إني أراك مجنونا. قال: والله ما أنا بمجنون. ثم صار يكلمه ويسأله، ثم اوصاه بأمور لا يفهم منها أن فيها إشارات ورموز، ووافق القوم على ذهاب الغلام الى قوم ناشب، فلما كلمهم بما قاله ناشب للغلام لم يدروا ما أراد: فأحضروا "الحارث"، فقص عليه الغلام قصة ما جرى له مع ناشب ففهم المراد. ثم قال للغلام: أبلغه التحية، وابلغه انا سنوصي بما اوصى به. ثم قال لبني العنبر إنه يحذركم من غزو قريب فاستعدوا وارتحلوا عن ديارهم وبذلك نجوا من خطر الغزو.

(1/2952)


--------------------------------------------------------------------------------

وهناك أمثلة عديدة من هذا القبيل حذر بها الناس من رجال ونساء قومهم من غزو سمعوا به، فخلصوا قومهم منه او جعلهم يستعدون له. وقد استعمل المحذرون التراب أو الرمل " للدلالة على كثرة العدو. واستعملوا اشو ك للدلالة على القوة وعلى شوكة العدو وعبروا بالشوك الذي تكسر رؤوسه، بشوكة العدو، إلا أنه عدو لا يخشى جانبه، لأنه غير متحد ولا متفق. وقد استمدت القبائل هذه الرموز من محيطها التي عاشت فيه،فاتخذتها أدوات للتحذير والإنذار.
ويستعين القادة بادلاء ليقدموا لهم المعلومات عن الطرق الموصلة إلى المواضع التي يريدون مقاتلة أصحابها بها، أو للسير في مقدمة قافلة الجيش للوصول إلى المكان المطلوب. وللدليل أهمية كبيرة في القتال ولذلك استعان بهم المحاربون. ويقال للدليل "دلل" في العربية الجنوبية، والأغلب أنهم كانوا ينطقونها على نحو ما ننطقها بها في عربيتنا. وأما الجمع ف "دلول، أي أدلاء.
وكان لا بد لكل قائد من الاستعانة بدليل إذا ما أراد التفويز، فقد يهلك الجيش من العطش والجوع ويخطىء هدفه أو يصير فريسة في مخالب من يقصده، إن لم يستعن بدليل خريت مجرب، له علم بالبادية علمه ببته. وكان للقبائل أدلاء عركوا المفاوز وخبروها وعرفوا معالمها ومواضع الماء فها، وكان لهؤلاء فضل على قبائلهم، لا يقل عن فضل الفرسان عليها، لأنهم ما. أسباب النصر. ولما كتب "أبو بكر" إلى "خالد ين الوليد" يأمره بالمسير إلى بلاد الشام، دل على "رافع بن عميرة الطائي" وكان دليلا خريتا، وبفضل علمه بالطريق وبنصحه القيم لخالد في كيفية عبور المفازة، وصل الجيش سالما إلى بلاد الشام.

(1/2953)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد فعل الجاهليون ما تفعله القوى المتحاربة في كل وقت من اللجوء إلى التأثير في خصومهم باستخدام "الحرب النفسية". أي التأثر في نفوس الخصوم حتى يشعر انه دون خصمه، كأن يتظاهر بأن عدده أقوى وأكثر عددا من عدد خصمه، بتوسيع رقعة معسكره وايقاد النيران الكثيرة وإحداث أصوات مرتفعة، تشعر المتلصص للاخبار ان الجيش جرار، وان عدده كبير. وبذلك يخافه خصمه وترتعب نفسه. ولما نزل المسمون "حمراء الأسد"، "كانوا يوقدون تلك الليالي خمسمائة نار،، وذهب صوت معسكرهم ونيرانهم في كل وجه، فكبت الله تعالى عدوهم".
ويعمد الجيش أو القسم منه إلى التستر وألتخفي لمباغتة العدو ومفاجأته، كأن نقص ورقتين الى أية هزيمة بالمعنى المفهوم إنما ينسحب أحد الطرفين ويتراجع إلى مكانه فتنتهي بذلك تلك الحرب.
وإذا برز المبارز، فيعلم على رأسه في الغالب، بأن يلبس سامة خاصة أو عصابة او يضع ريشة. يتباهى بها، وقد يستعملون الخوذ، إلا أنها كانت قليلة الاستعمال لدى الاعراب، لغلاء ثمنها عندهم. وقد كان "أبو دجانة" يختال عند الحرب إذا كانت، وكان إذا أعلم رأسه بعصابة له حمراء، علم الناس أنه سيقاتل.
ويقسم المحاربون قواتهم إلى مجنبة وقلب: مجنبة يمنى تهاجم أو تحمي الجانب الأيمن، ومجنبة يسرى تحارب وتدافع عن الجانب الأيسر من المحاربين. أما القلب، فيكون واجبه الهجوم أو الدفاع من الوسط، أي وسط الجيش. وقد تقوم المجنبتان بالهجوم لتطويق العدو وحصره في دائرة، تضيق عليه. وفي معركة "يوم نخلة" من أيام الفجار، كان حرب بن أمية في القلب، وعبد الله بن جدعان وهشام بن المغيرة في المجنبتين.
وتوضع أمام الجيش أو المحاربين مقدمة، تتقدم المقاتلين، يكون واجبها حماية القسم الأكبر من الجيش الذي يكون وراءها، وارسال المعلومات عن العدو واشغاله بالقتال إن وقع حتى يأتي المحاربون. ويقال للمقدمة "مقدمت"، أي "مقدمة" في السبئية، وللذي يتولى أمرها ويقودها: "قدم".

(1/2954)


--------------------------------------------------------------------------------

ويقال لطليعة الجيش، وهي التي تتقدم الجيش، للقاء العدو وللوقوف على أمره وخبره "نذيرة الجيش".
ولما ندب رسول الله المسلمين لفتح مكة، قسم الجيش الى جنبتين،،وهما: الميمنة والميسرة، والقلب بينهما. وكان ترتيب الجيش إذ ذاك على خمس فرق: المقدمة والقلب والميمنة والميسرة والساقة. ولهذا كان يسمى خميسأ. وجعل رسول الله على "الحسر"، وهم الذين لا دروع عليهم "أبا ****ة". ويقال لهم "البياذقة"، وهم الرجالة، واللفظة فارسية معربة، سموا بذلك لخفة حركتهم وانهم ليس معهم ما يثقلهم. وقد كانت اللفظة معروفة في أيام الرسول. وهم رجالة لا دروع عليهم، أي حسرا.
وقد استخدمت هذه التعبئة الخماسية في اللقاءات الكبيرة، أي في الاشتباكات الضخمة، التي ممكن أن نسميها "حروبا"، أما في الغارات وفي الغزو فكانوا يتبعون طريقة المباغتة والهجوم من كل جانب يمكن الهجوم منه.
ويقال للقطعة من الجيش يمر قدام الجيش الكبير "منسرت" "منسرة"في السبئية، ويراد بها "المنسر" في عنبيتنا. ورد في النص: jamme 631 "ومنسرت خمسن"، أي "ومنسرة الجيش"، أو "ومنسر الجيش" بتعبير أفصح.
ويذكر علماء اللغة ان "الكردوس" القطة من الخيل العظمية. والكراديس الفرق منها. فالكردوس إذن حسب هذا التعريف القطعة من القوات الراكبة المحاربة.
وقد كان النظام العشري في تنظيم الجيش، هو النظام المتبع في الأرضين التابعة للانبراطورية اليونانية وفي الأرضين المتأثرة بثقافتها، فلا يستبعد أن يكون تأليف الجيش في اليمن في أيام احتلال الحبش لها على هذا الأساس أيضا. وأصغر وحدة عسكرية وفق هذا التقسيم، هي الوحدة المكونة من خمسة جنود، تليها وحدة مؤلفة من عشرة ثم من مضاعفات العشرة. ويحكم كل وحدة ضابط يدير شؤونها ويقوم بتدريبها وبالاشراف على سيرها و ادارتها في أثناء السلم وفي أثناء القتال.

(1/2955)

admin
01-01-2011, 01:18 AM
وقد يكون القتال صفوفا، بأن يتقدم المحاربون فيحاربون صفا صفا، وذلك إذا كان المحاربون كثيرين. والى هذا النظام أشير في القرآن الكرم: "إن الله محب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم. بنيان مرصوص ". وقد اتبع علي بن أبي طالب هذه الطريقة في يوم صفين. وأشار اليها في خطبته في أصحابه يعلمهم كيفية القتال.
أما في حروب القبائل وغزو بعضها بعضأ، فتكون المباغتة هي الأساس في الحرب، وتقوم على مهاجمة العدو بغتة ومفاجأة وهو في عقر داره أو في الموضع المتجمع فيه. وتتوقف المباغتة على حساب القائد وعلى حنكته في تقديره موقف عدوه. ويكون للماء الفضل الأكبر في النصر وكسب الحرب، لما له من شأن خاص في البوادي. لذلك كان يحسب له سادات القبائل الذين يقودون قبائلهم في القتال والغزو حسابا كبيرا، فيحمون معهم مقادير كبيرة مهنه تكفيهم المدة التي يقدرونها للقتال، أو يحاولون استباق عدوهم إلى مواضع الماء للسيطرة عليها، فإذا جاء العدو حرم الماء واضطر إلى استهلاك ما يحمله منه. وقد يؤدي نفاده إلى هزيمته وفراره. ويقال للمباغتة ولأخذ العدو بصورة مفاجئة "بحض" في لغة المسند.
ويعبر عن الحملة، أي عن الجماعة من الجيش تزحف على عدو ب "برث" في المسند.

(1/2956)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عرف قادة الجيوش أهمية طبيعة الأرض في كسب النصر وفي الدفاع. لذلك كانوا إذا تحاربوا تسابقوا إلى مواضع الماء لتكون في مؤخرتهم حتى يستقوا منها لي يمنعوا العدو من الشرب منها، كما كانوا يضعون الشمس عند ظهورهم حنى لا تؤثر على أعينهم، ويرتقون المرتفعات حتى يصب على العدو الارتقاء إليهم بفعل الحجارة أو النبال التي ترمى عليه. فلما كان يوم شعب جبلة صعدت بنو عامر إلى الشهب، ووضعت نساءها وما معها من الإبل والمؤن عليه. وكانت قد أعطشت إبلها وعقلتها، وصارت هي دونه. فلما وقع القتال: اشتد عمدت بنو عامر إلى الحيلة وإلى تنفيذ خطة كانت قد وضعتها فأخذت تتابع وتزحف نحو أعلى الشعب، وصار العدو يتعقبها حتى بلغوا وسط الجبل. فقال الأحوص قائد بني عامر، حلوا عقل الإبل ثم احدروها، واتبعوا آثارها، وليتبع كل رجل منكم بعيره حجرين أو ثلاثة ففعلوا، ثم صاحوا بها فلم يفجأ الناس إلا الإبل تريد الماء والرعي وجعلوا يرمونهم بالحجارة والنبل وأقبلت الإبل تحطم كل شيء مرت به. فانحط العدو منهزما، فلما بلغ السهل لم يكن لأحد منه همة إلا أن يذهب على وجهه، فجعلت بنو عامر تقتلهم وتصرعهم بالسيف فانهزم عدوهم شر هزيمة.
ولتقوية معنويات المحاربين في أوقات العسر والخطر، ولبعث الحمية في نفوسهم يقيد الرؤساء أنفسهم بقيود، مجتمعين أو فرادى، ثم يعلنون أنهم لا يبرحون مكانهم هذا حتى يهلكوا أو يربحوا. وقد كان العجم يضعون السلاسل في أرجل المحاربين لمنعهم من الفرار، ولإجبارهم على الاستماتة في القتال.
وقد كان كثير من المحاربين يأخذون زوجاتهم وذراريهم معهم في المعارك، ينقلونهم معهم وكأنهم ذاهبون إلى سفر أو رحيل إلى بلاد جديدة. وحكمتهم من ذلك أن الرجل منهم إذا رأى خلفه أهله وماله، قائل عنهم. ولعلهم كانوا يستعينون بهم في جمع الغنائم والأسلاب وحراسة ما يقع في يد المحارب من أسرى.

(1/2957)


--------------------------------------------------------------------------------

وكانوا يضعون أسرهم وإبلهم ومؤنهم وظعائنهم في مؤخرة الجيش، وذلك حتى تكون في مأمن من العدو بعيدة عنه، وتكون بذلك مدعاة لنصر.
وقد استعانوا بالنساء في حروبهم، وأوكلوا إليهن أعمال الإسعاف وضرب العدو وقاتلته في أوقات الشدة. فلما قاتلت "بكر بن وائل" "بني تغلب"، قال "الحارث بن عباد" للحارث بن همام بن مرة، وكان على "سكر بن وائل": "إن القوم مستقلون قومك، وذلك زادهم جراءة عليكم فقاتلهم بالنساء! قال له الحارث بن همام: وكيف قتال النساء? قال: قلد كل امرأة إداوة من ماء وأعطها هراوة واجعل جمعهن من ورائكم فإن ذلكم يزيدكم اجتهادا وعلموا بعلامات يعرفنها، فإذا مرت امرأة على صريع منكم عرفته بعلامته فسقته من الماء وكشفته وإذا مرت على رجل من غيركم ضربته باهراوة فقتلته وأتت عليه فأطاعوه. وحلقت بنو بكر يومئذ رؤوسها استبسالا للموت وجعلوا ذلك علامة بينهم وبين نسائهم، واقتتل الفرسان قتالا شديدا، وانهزمت بنو تغلب ولحقت بالظعن بقية يمومها واتبعموا سرعان بكر بن وائل".
وقد اشركوا اصنامهم معهم في الحروب، واشركوا معهم لتمن عليهم بالنصر والتاييد. وقد سقطت اصنام القبائل العربية اسيرة بايدي الاشورين، وكانوا قد حملوها معهم للتبرك بها ولاكتساب النثصر، فاسرها الاشوريون. واظطر الاعراب على مراجعتهم لاعادتهم اليهم. وفي يوم "الزورين"،وهو لبكر على تميم، اخذت تميم بعيرين مجللين، فعقلوهما، وقالوا هذان زورنا، أي إلهانا لن نفر حتى يفرا، وهزمت تميم ذلك اليوم. وأخد البكران فنحر أحدهما وترك الآخر يضرب في شولهم. ويذكر إن "الزور" كل ما يبعد من دون الله،كالزون. والزون الصنم.

(1/2958)


--------------------------------------------------------------------------------

والفرسان هم الة الحرب الحاسمو، وعليهم يقع معظم ثقل المعارك وقد كانت معظم معارك الجاهلية معارك فرسان، يكون المحاربون الاخرون فيها وكانهم متفرجون، يساهمون في المعركة بأصوات التشجيع والحث على الاستماتة في القتال،. وقد يدخل القائد نفسه المعركة ليقاتل خصمه وللفرس بالطبع منزلة كبيرة في نفوس قومه، لأنه هو المدافع والمهاجم والآخذ بالثأر.
وقد حفظت كتب الأخبار أسماء جماعة من فرسان للجاهلين وشجعانها ممن كان لهم شأن يذكر في الشجاعة في تلك الايام، من هؤلاء: ربيعة بن مكدم من بني فراس بن غنم بن ملك بن كنانة، وكان كما يقول أهل الأخبار يعقر على فبرة في الجاهلية، ولم يعقر على قبر أحد غيرة فعلوا ذلك تكريما وتعظيما له. وقد ذكر قبره وعقر الناس عليه في شعر بعض الشعراء.
ومن بقية فرسان العرب في الجاهلية: عنترة الفوارس،بن الحارث ابن شهاب، وأبو براء عامر بن مالك ملاعب الأسنة، وزيد الخيل، وبسطام ابن قيس، واحمير السعدي، وعامر بن الطفيل، عمرو بن عبد ود، وعمرو ابن معد يكرب، وبسطام بن. مسعود الشيباني سيد شيبان، قتله عاصم بن خليفة. الضبي يوم الشقيقة.
ويقال للفارس، أي لراكب الفرس "فرس" في العربية الجنوبية، ولما كانت الكتابة العربية الجنوبية لا تشكل الحروف ولا تضبط كيفية النطق بها، لذلك فمن الجائز أن العرب الجنوبيين كانوا ينطقون بها على نحو ما تنطق بها في عربيتنا أي "فارس". وأما الجمع في تلك اللهجة، فهو "افرس" "أفرس"، أي "فرسان".

(1/2959)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد كانت لسرعة الفرسان أهمية كبيرة في نتائج القتال. إذ كانوا ينقضون على المحاربين المشاة وعلى المدن أو القبائل انقضاض الصواعق، ويربكوا الخصم فيمهدوا بذلك لمشاتهم من التغلب على العدو. ويظهر من الكتابات التي يعود عهدها إلى ما قبل الميلاد أن عدد الفرسان في الجيوش العربية الجنوبية المحاربة لم يكن كبيرا، وأن أكبر عدد منها لم يتجاوز عن بضع مئات. وسبب. ذلك على ما يظهر قلة وجود الخيل إذ ذاك. ولا يستبعد أن يكون استيراد الخيل إلى هناك من عهد غير بعيد بعدا كبيرا عن الميلاد.
أما الذين يقاتلون وهم على ظهور حيوانات أخرى، كالجمل وهو في الغالب، فيقال لهم "ركبم" "ركب"، أي "راكب". وقد عرف العرب بقتالهم وهم على ظهور الجمال. وفي الكتابات الآشورية وكتابات المسند صور عرب وهم يحاربون من على ظهور جمالهم، وذلك لقلة وجود الخيل عندهم في ذلك الوقت.
وللجاهلين آراء في كيفية الاستفادة من الخيل في القتال، فكان خالد بن الوليد لا يقاتل إلا على أنثى، لأنها أقل صهيلا من الفحل، وكانوا يستحبون أناث الخيل في الغارات وفي "البيات" أي الإغارة على العدو لبلا،ولما خفي من أمور الحرب. وكانوا يستحبون فحول الخيل في الصفوف والحصون والسير والعسكر ولما ظهر من أمور الحرب، وكانوا يستحون خصيان الخيل في الكمين والطلائع، لأنها أصبر وأبقى في الجهد.
ويعبر عن الجرح ب "زسخنت" "زخنة"، وب "زسخن" عن فصل يجرح، وذلك في العربية الجنوبية.
التحصينات

(1/2960)


--------------------------------------------------------------------------------

وتدافع بعض المستوطنات، مثل قرى الريف والمدن، عن نفسها بإنشاء تحصينات تقيها من هجمات عدو ما. وتشمل هذه التحسينات حفر خندق وإقامة أسوار، وإنشاء أبراج وحصون وآطام وأمثال ذلك. وقد كانت مدينة الطائف ذات سور حصين، تغلق أبوابه آناء الليل وأيام الخطر، وقد تحصنت به ثقيف يوم حاصرهم الرسول. وقد عثر على آثار أسوار في خرائب مدن اليمن، تدل على إن تلك المدن كانت مسورة محصنة، وقد عثر على آثار قلاع وحصون وأبراج في تلك الأسوار على مسافات وأبعاد معينة تشير إلى إنها كانت لتحصين السور وللدفاع عنه ولضرب الأعداء عند محاولتهم الدنو منه.
وتعرف أبراج السور المقامة لحمايته ولتقويته ولضرب العدو منه ب "فنوت" في العربيات الجنوبية، ويطلق العبرانيون هذه اللفظة على مثل هذا البرج أيضا.
ويقال للحصن والبرج "مكدل" "مجدل" في العبرانية. وبهذا المعنى ترد اللفظة في عربيتا كذلك. وقد ذكر علماء اللغة ان الاجتدال: البنيان، وجاء في شعر للأعشى: في مجدل سد بنيانه يزل عنه ظفر الطائر
وتستعين القرى بالمجادل في الدفاع عن نفسها، وتكون أبراج مراقبة أيضا، يراقب منهاالعدو، وتكون مواضع دفاع لأهل القرى، أو العشر، حيث لا أسوار تحمي ولا خنادق تعيق العدو من التقدم.
ويعبر عن تحصن المواضع وتقويتها لتتمكن من الدفاع عن نفسها بلفظة "تمنع" في السبئية، أي إكساب الموضع مناعة.
ولم يكن في وسع الحكومات أو الإمارات والمشيخات تحصين كل المستوطنات والقرى لما يتطلب ذلك من جهد ومال. ولقلة عدد سكان هذه الأماكن قلة تجعل من الصعب عليهم أن يقوموا وحدهم بإنشاء حصون وإقامة تحصينات وبناء أسوار وحفر خنادق. ولذلك احتمى سكان أمثال هذه المستوطنات بحصون الإقطاعيين الذين أقاموها لحماية ممتلكاتهم وأموالهم وأهليهم وذراريهم، وبوسائل دفاع أخرى لا تكلفهم كثيرا لضمان سلامتهم وسلامة أموالهم ومقتنياتهم في السلم والحرب.

(1/2961)


--------------------------------------------------------------------------------

أما المستوطنات الكبيرة، من درجة مدينة، فإنها تحاط في الغالب بأسوار لها أبواب تغلق، في الليل، فلا يسمح بالدخول أو الخروج منها، ويحافظ عليها، ولا سيما في أثناء الخطر، حراس يسهرون عليها لمنع أي عدو طامع في المدينة من الوصل إليها. ويقال لهذه المدن "هكر" "هجر" في العربيات الجنوبية. فحيث ترد لفظة "هكر" في المسند فإنما تعني مدينة ذات أحياء وسكان كثرين، ولها أسوار في الغالب تحميها من هجمات الأعداء.
وتعبر العبرانية عن المدينة المحصنة المحاطة بسور، بلفظة "عر"، وذلك لتمييزها عن المدن المحصنة بحصون، والتي يقال لها "عر مبصر" Ir Mibsar، وعن القرية التي يقال لها "حصر" "حصور" و "قره" "قريت"، وتكون غير مسورة. أما "العر" في العربية الجنوبية. فبمعنى "حصن"، وموضع محصن. وتطلق اللفظة على المواضع المحصنة بعر، أي حصن " أي في معنى قريب من المعنى الوارد في العبرانية. وتذكر كتب اللغة أن العرار: القتال، وأن العرة الشدة في الحرب. فللفظة صلة بالقتال إذن. ويوجد موضع يقع في ملتقى طرق يقع في "وادي مسيلة" يسمى "حصن العر بني على مرتفع صخري بارز كان حصنا مهما لحماية الأرضين المحيطة به ولحماية للقوافل للتي تمر بهذا الوادي المهم. ولا تزال بقايا هذا الحضن باقية،وقد أقيمت جدره من حجارة صلدة نضدت بعضها فوق بعض تنضيدا جيدا، وقد صقلت الأحجار صقلا يدل على مهارة، وقد تألف الحصن من غرف كثيرة، ويبلغ طوله "95" مترا. وبه اثار معبد، وآبار لاستخراج الماء منها للشرب وللاستعمال.
ويعبر عن المانع الذي يحول بين العدو وبين الدنو من المكان الذي يريده ب "حبل" في العبرانية.- أي "الحائل" ويراد به الخندق. وقد ورد في كتب اللغة ان "الحيل" الماء المستنقع في بطن واد. و "الحائل" هو المانع، أي الحاجز الذي يحجز أهل الموضع الذي تحصن الناس به عن عدوهم، وهو سور أو خندق أو أي شيء آخر يتخذ للدفاع عن النفس.

(1/2962)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن بين الحوائل والموانع التي استعملها.الجاهليون لصد العدو من الزحف على بلادهم أو التسلل إلى أرضهم سد الممرات الجبلية والأودية ومفارق الطرق المهمة، ببناء جدر وأسوار لتحول بين المرور وللتسلل إلا بأمر وتخويل، ويكون المرور عندئذ من الأبواب المخصصة للعبور فقط. ومن أمثلة ذلك سد "أبنة" "لبنة" الذي أقيم في وادي "أبنة" ليسد الطريق على القادمين أو الذاهبين من "شبوة" إلى ميناء "قنا" "قنى" "قانة" cane المهم. وقد بنى عند مضيق يبلغ عرضة "80 ا" مترا، أما ارتفاعه فجعل حوالي خمسة أمتار، فاما ثخنه فحوالي المترين، وقد بني بحجارة مصقولة صقلا جيدا ورصف رصفا حسنا وربط بينها ملاط قوي شد الأحجار شدا. وقد جعل له باب عرضه خمسة امتار يمكن غلقها بإحكام، ولزيادة مقاومتها توضع صفوف من الأحجار الثقيلة خلفها أيام الخطر، فتسد بها وتكون وكأنها قد سدت بجدار قوي سميك. وهناك آثار جدر أخرى أقيمت لغايات مماثلة تقع في "وادي العروس" "وادي عروس" وفي "عنصاص" ويرجع تأريخها إلى حوالي القرن الثالث قبل الميلاد.
وتختلف الأسوار من حيث المتانة و التحصينات والمواد التي تبنى بها باختلاف قدرة المدن المالية، فبعضها ذات أسوار ثخينة متينة، لها تحصينات قوية، يحتمي بها المدافعون لمقاومة المهاجمين ولرميهم بمعدات المقاومة، لها مزاغل و فتحات ينظر منها المدافعون إلى أعدائهم، فإذا اقتربوا من السور، رموهم بالسهام وبالحجارة وبالمواد المشتعلة، وسكبوا عليهم الماء الحار او الزيت المغلي إذا ارادوا إحداث ثغرة فيه و قلع الأبواب وكسرها.

(1/2963)


--------------------------------------------------------------------------------

وعند أبواب الحصن أو أبواب المعابد أو المباني العامة أو الشعاب، تكون رحاب، يتخذها سكان المدن مواضع يبيعون فيها ويشترون وأماكن للتجمع. وتعرف الواحدة ب "رحبة" وتسمى "رحبوت" ? "رحب" في العبرانية. وفيها تعقد الاجتماعات العامة، وتجمع الناس لسماع الأخبار، وفيها تنفذ الأحكام العامة، مثل تنفيذ أحكام الاعدام والاعلان بالمجرمين. وتكون مرابد تنعقد فيها الأسواق أيام الأسبوع، أو في أيام خاصة منه، أو في السنة.
وأبواب المدة المسورة، هي المنافذ الوحيدة التي يدخل منها الناس ويخرجون. وتختلف في السعة، فبعضها أبواب واسعة في كل منها مصراعان، ولبعضها مصراع واحد. وتكون ثخينة متينة، وقد تقوى بكسوتها، بطبقة من حديد أو، من معدن آخر، ليكون في امكانها مقاومة المهاجمين، فلا تتحطم وتنهار بسرعة، ولا تأكلها النار، وتغلق بمغاليق متينة. تقوى بحجارة وبأخشاب متينه عند حدوث خطر ما. وأما المجازات التي تلي الأبواب وتؤدي إلى الرحاب، فهي مختلفة الأشكال. ويحتمي بها المدافعون أيام الخطر لأ لسدها، ولشد أزر الأبواب على الوقوف صامدة أمام المهاجمين. وقد يواجه الباب، جدار متين، يجل المجاز على هيأة غرفة، يخرج الناس ويدخلون في ركن من أركانها يربط بن المجاز والرحبة المؤدية الى الشعاب. وذلك ليكون من العسير على المهاجمين الولوج في المدينة عند تمكنهم من تحطيم الابواب. وقد يقوى الباب ببرج يبنى فوقه، يكمن فيه ألمقاومون، لرمي العدو ولإلحاق الأذى به إذا ما حاول مهاجمة الباب.

(1/2964)


--------------------------------------------------------------------------------

وتسد منافذ شعاب المدن بأبواب كذلك،لتقي من في الشعاب من أخطار الأشرار والمعتدين. وتغلق هذه الأبواب في الليالي. وقد تحاط الشعاب بسور يمتع الناس من الدخول الى الشعب إلا من الباب المؤدي اليه. وفي المدن الملكية، تحاط قصور الملوك ومخازنهم ومداخرهم بأسوار قوية تحميهم من المعتدين. وقد تبنى قلاع في مواضع مرتفعة من المدن، أو على تلال صناعية ليقاوم منها الناس عند انهيار المقاومة الخارجية، فتكون بذاك آخر وسائل المقاومة قبل الاستسلام.
أما القرى، فيدافع عنها بحصون وآطام وبمجادل وذلك لفقر أهلها وعدم تمكنهم من إقامة سور قوي يحمي القرية. وقد كان يهود الحجاز الساكنون في شمال المدينة، قد حصنوا قراهم بآطام يلجأون اليها ويحتمون بها أيام الخطر. وقد عرفت هذه الحصون عندهم ب " آطام" و واحدها "أطم". وأما القرية، فهي "قرية" في العبرانية، وتسمى ب "قريتا Keritha " في لغة بني إرم.
ويقال للحصن "الأجم" والجمع "آجام"، وقد ورد ذكر الأجم في شعر لامرىء القيس: وتيماء لم يترك بها جذع نخلة ولا أجما إلا مشيدا بجندل
ويقال للحصن "الأطم" كذلك، والجمع آطام. ولا تزال آثار آطام جاهلية باقية في الحجاز وفي نجد وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب وفي "وادي الحفر" بنجد، ويعرف ب "حضر بني حسين"،آثار قصور وآطام جاهلية وآبار كثيرة. وذكر بعض علماء اللغة أن الآطام: القصور والحصون، وخصصها بعض آخر بالدور المسطحة السقوف. وقد اشتهر "الأبلق"،وهو حصن "السموأل ابن عادياء" في التأريخ،وهو في تيماء. وورد اممه في شعر للاعشى مدح به السموأل. وكانت الأوس والخزرج تتمنع بالآطام،وتحارب عليها، وقد أرخت بحرب وقعت فيما بينهم بها، فقالوا: "عام الاطام"،وقد أخربت في أيام عثمان. ويقال للأطم: الأجم أيضا.

(1/2965)


--------------------------------------------------------------------------------

فكانت الآطام هي وسائل الدفاع عند أهل يثرب، إذ لم يكن حولها سور يحميها من غزو الأعداء. فكانوا إذا حوصروا أو وقع غزو عليهم، لجأوا إلى آطامهم يتحصنون بها ويقذفون من أعاليها بما عندهم من وسائل دفاع لمنع العدو من الدنو منهم ولإلحاق الأذى به. وهي جملة آطام تملكها البيوتات العريقة وسادات الشعوب المكونة ليثرب والقائمة على أساس التقسيم العشائري.
والآطام بيوت السادات ورؤساء القوم، يلجأ اليها الناس للدفاع عن أنفسهم وعنها وقت الخطر. ويظهر من شعر أوس بن مغراء السعدي: بث الجنود لهم في الأرض يقتلهم ما بين بصرى إلى آطام نجران
أن نجران كانت ذات آطام كذلك.
وذكر أن باليمن حصن يعرف بأطم الأضبط، وهو الأضبط بن قريع بن عوف بن سعد بن زيد مناة. كان أغار على أهل صنعاء وبنى بها أطما. ونسبوا له شعرا، من هذا الشعر الذي يحمل طابع العصبية القبلية، والحقد على اليمن. يذكر فيه أنه شفى نفسه من "ذوي يمن"، بالطعن في اللبات والضرب، واباح بلدتهم، وأقام حولا كاملا يسبى، وبنى أطما في بلادهم ليثبت تغلبه عليهم، وليكون أمارة على قهره لهم.
وقد اشتهر أطم "الضاحي" بالمدينة. وهو أطم بناه "أحيحة بن الجلاح" من سادات يثرب ب "العصبة" في أرضه التي يقال لها "القنانة".
وكان دفاع اهل الحيرة عن مدينتهم وفق هذه الخطة أيضا. فقد كانت المدينة "قصورا" كل قصر لعائلة كبيرة، هو مسكن لها، وهو مخزن ومستودع وحصن تتحصن به عند وقوع خطر على المدينة. وبه مواضع في اعلى القصر لرمي الأعداء، ويلجأ أتباع أصحاب القصور إلى هذه القصور أيضا للمساهمة في الدفاع عنها وفي حماية أنفسهم من الأذى. ولما حاصر المسلمون الحيرة، كان حصارهم لها هو حصار قصورها،فكانوا يحاربون القصور حتى غلب المسلمون أهلها فاستسلمت عندئذ لهم.

(1/2966)


--------------------------------------------------------------------------------

ولحماية السور ولمنع العدو من الوصول اليه والدنو منه، سفر خندق حوله، ليمنع الغزاة والمحاربين من الوصول اليه. يحفر عميقا وعريضا جهد الامكان، فعلى عرضه ومقاومته تتوقف مقاومته للعدو. ولما حاصر المشركون المدينة، أمر الرسول بحفر خندق حولها، ليمنع المشركين من الوصول اليها. وقد ذكر: أن سلمان الفارسي، هو الذي أشار على الرسول بحفر الخندق، بعد أن تباحث مع أصحابه في الوسائل التي يجب اتخاذها لحماية المدينة. وزعم أهل الأخبار: أن أهل الحجاز لم يكن لهم علم بالخنادق، وأن المسلمين كانوا في قلق شديد وخوف من تغلب قريش عليهم، فذكر سلمان لهم طريقة أهل بلاده في الدفاع عن مدنهم، فأخذوا برأيه. فلما رأت قريش الخندق، عجزت عن اقتحامه،ونجت يثرب منهم به. وزعموا أيضا: أن لفظة الخندق، هي لفظة معربة عن الفارسية. وإذا أخذنا برأي هؤلاء أصحاب الأخبار، وجب اعتبار تأريخ دخولها إلى العربية منذ هذا الحادث إذن. ويطلق العبرانيون لفظة "حيل"، أي حائل، على الخندق.
وانا أشك كثيرا في موضوع جهل أهل مكة والمدينة بأمور الخنادق، وفي قصة أن "سلمان الفارسي" كان أول من علم المسلمين حفر الخنادق، وذلك لأن أهل اليمن كانوا قد أحاطوا مدنهم بالخنادق لتعوق المهاجمين عن بلوغ الأسوار، كما أن أهل فلسطين كانوا يحيطون مدنهم بالخنادق أيضا،وقد كان لأهل الحجاز اتصال وعلاقات بالمكانين وبالعراق أيضا، وقد زاروا مدنا أحيطت بالخنادق، فلا يعقل أن يكونوا على غفلة من أمرها. والظاهر أن الرسول كان قد جمع أصحابه حين داهمه المشركون ليستشيرهم بصورة عاجلة في كيفية الدفاع عن "يثرب" بعد أن هددها الكفار، فبين كل صحابي رأيه، وكان من رأي "سلمان" حفر خندق ليحول بيتهم وبين دخول المدينة، فأخذوا الرسول برأيه، وحفر الخندق، وبه سميت المعركة "معركة الخندق". فصور "سلمان الفارسي"،وكأنه أول من علم أهل الحجاز حفر الخنادق.

(1/2967)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظن أن لفظة "خبزت" التي ترد في النصوص المعينية و،غيرها إنما تعني "خنادق" و منخفضات صنعت لحماية الأسوار والمتاريس،والقلاع حتى تمنع العدو و والمهاجمين من الدنو منها.
وتؤدي لفظة "صحفت" معنى خندق أيضا، وربما تؤدي معنى حاجز مائي يملأ بالماء حتى يمنع المهاجمين من الدنو إلى الموضع المحصن.
وقد كان الأغنياء وأهل القرى والمدن يستخدمون رقيقهم في الدفاع عنهم.
وقد كان أهل مكة مثلا قد جعلوا من أحابيشهم قوة عسكرية تحارب معهم. وتقاتل عنهم بأسلحتهم وبطريقة قتالهم التي ألفوها في بلادهم،.مثل القتال بالحراب، أو الرمي بالنشاب. وقد عرف هؤلاء بالأحابيش. ولعلهم استخدموا الرقيق الأبيض المجلوب من بلاد الروم ومن أماكن أخرى في تنظيم أمور الدفاع وإدارة القتال لخبرتهم ودرايتهم في أساليب القتال المدنية، كالذي فعله الرسول من استشارته سلمان الفارسي في أمر الدفاع عن المدينة يروم حاصرتها قريش، فكان أن أشار عليه بحفر خندق حولها لي يعوق تقدم قريش من المدينة، ففعل كما يشير الى ذلك أهل السير والأخبار.
والمصانع الأبنية وقد وردت "مصانع" في الآية الكريمة )( وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون(. بمعنى الحصون المنيعة. و "مصنعت" "مصنعة" في الحميرية بمعنى حصن. وذلك كما في هذه الجملة المقتبسة كل من نص "أبرهة" المدون على سد مأرب: "مصنعت كدر"، أي "حصن كدر". ولا تزال لفظة "مصنعة" مستعمله حتى اليوم في العربية الجنوبية في معنى قلعة وحصن. وقد اشتهرت حمير بمصانعها.
والمصانع: القرى التي ويظهر أنها إنما دعيت بذلك لوجود المصانع بها. واحدتها: مصنعة. أي حصن. يدافع به عن المتجمعين حوله.

(1/2968)


--------------------------------------------------------------------------------

و "القلعة" على ما يظهر من أقوال علماء اللغة، الحصن على الجبل، والحصن الممتنع في جبل، والحصن المشرف. تبنى في المواضع المرتفعة لتشرف على ما تحتها، ولتراقب العدو، وتكون بها حامية، وقد يتحصن بها أهل الموضع عند دنو خطر عليهم، فيصعب على العدو الوصول اليهم، لوعورة الأرض، وامتناع القلعة، وتسلط من فيها على من يريد بلوغهم، بما يمطرونه به من أسلحة الدفاع.
و "الحصن" ما يتحصن به. يتخذ في مواضع حصينة مثل المرتفعات وعلى الأنهار وعند الآجام، لزيادة حصانته، وقد يتخذ في مواضع خطرة مكشوفة ليدافع عنها. فيحصن بتحصينات قوية من سور متين وجدر سميكة ومتاريس وابراج، لتصد من يريد مهاجمته. وتكون الحصون برية وبحرية : ولا تزال آثار حصون جاهلية قائمة في مواضع من جزيرة العرب، صنع بعض منها من "اللبن" والطين، وذلك في البوادي وفي المواضع التي لا توفر بها الحجارة، والمواضع الفقيرة التي يصعب على أهلها بناء حصونهم من الآجر.
و "البرج" الحصن، وقيل: بروج سور المدينة والحصن، بيوت تبنى على السور ؛وقد تسمى بيوت تبنى على نواحي أركان القصر بروجا. وتكون البروج مرتفعة. وقد تبنى منفردة، ولكن الأغلب بناؤها على الأسوار. والكلمة من الألفاظ المعربة عن اليونانية.

(1/2969)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان يهود الحجاز قد ابتنوا الحصون و الآطام، للدفاع عن أنفسهم وأموالهم في السلم والحرب. فكانوا يخزنون فيها أموالهم وحصادهم وثمرهم وكل غال ثمين عندهم، وكانوا يدخلون اليها عند الظلام، فينامون فيها، خشية غزو أحد لهم، واعتداء غريب عليهم. فإذا طلع الصبح، خرجوا إلى مزارعهم ومواضع عملهم للاشتغال فيها إلى وقت المغيب. وكانوا يدخلون اليها حيواناتهم كذلك خشية سلبها ونهبها. أما في الغزو وفي القتال، فكانوا يعتصمون بها ويقذفون مهاجمهم بالصخور والحجارة وبوسائل الدفاع الأخرى من أعالي الحصون ومن الأبراج المشيدة فوقها. وقد وردت في كتب السير والتأريخ أسماء عدد من حصون اليهود في خيبر وفي أماكن أخرى وذلك في غزوات الرسول ليهود.
ويعبر عن الحراس الذين يحرسون شيئا ويدافعون عنه، مثل حراس الحصون والقلاع وأبواب المدن أو حرس الضباط والكبار بلفظة "مسجت" "مسكت" "مسكة" في السبئية أي في معنى "الماسكة"، وأما المفرد ف"مسج" "مسك"، أي الماسك.

(1/2970)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد استعمل الجاهليون آلات القذف والرمي وآلات الهدم الثقيلة في حروبهم كما يفعل الناس لهذا العهد. وهي آلات تبدو بسيطة مضحكة بالنسبة إلى آلات الخراب والتدمير المستعملة في الزمن الحاضر. قد يخجل الإنسان من التحدث عنها لأبناء هذا الزمان، ولكننا حين نتحدث عن الماضي وعن الأناس الماضين، فإننا لا نتحدث عنهم كما نتحدث عن أناس زماننا ولا نقيس انتاجهم على انتاجنا، وذلك لوجود فارق دقيق هو فارق الزمن. وهذا الفارق هو التطور الكبير الذي يقع للانسان كلما تقدم به الزمان ومرت عليه التجارب والاختبارات التي يطور الإنسان بها نفسه دوما ويزيد في علمه علما جديدا لم يكن معروفا عند القدماء. وسيأتي زمان تكون فيه اختراعات القرن العشرين، الاختراعات التي نفخر بها اليوم، ألاعيب أطفال بالنسبة الى اختراعات ذلك الوقت، واختراعات ذلك الزمان ألاعيب أطفال بالنسبة إلى من يأتي بعدهم، وهكذا إلى آخر الزمان. ولهذا لا نستطيع قياس الماضي على الحاضر بما أوجده من اكتشافات واختراعات على هذا النحو. وإنما نتحدث عن الماضي على أنه مرحلة من مراحل التطور اليشري، ودور مستمر لهذا التأريخ الذي لا نعرف مبدأه ولا منتهاه.

(1/2971)

admin
01-01-2011, 01:19 AM
وفي جملة هذه الآلات، الدبابة. وهي عبارة عن خشبة ثقيلة تعلق من وسطها ببرج من خشب مقام على عجلات ليمكن تحريكه نحو الهدف المراد هدمه أو سحبه منه أو نقله إلى أي مكان آخر. وقد غطى رأس الخشبة المتجه نحو الخارج، أي الرأس المتخذ للهدم، بغطاء من الحديد، ليكون سريعا فعالا في هدم المكان الذي يوجه اليه. ويقوم أشخاص يكمنون في الدبابة بتحريك الخشبة نحو الهدف، وذلك بتحريكها نحو الأمام والخلف بقوة، لتحدث ثغرة فيه و يختفي هؤلاء تحت ستار مثل سقف من خشب أو من جلود، ليحميهم من الحجارة أو السهام أو النيران أو المواد الساخنة التي يرميها المدافعون عليهم، لمنعهم من الاقتراب من السور، ومن هدمه. وقد أشير إلى هذه الدبابات في فتح المسلمين لخيبر وفي حصار الطائف، فذكر أن اليهود كانوا قد اختزنوا في حصن الصعب من حصون النطأة في بيت فيه تحت الأرض منجنيق ودبابات. وذكر أن المسلمين لما كان يوم الشدخة عند جدار الطائف، دخل نفر منهم.تحت دبابة، ثم زحفوا بها إلى جدار الطائف ليخرقوه، فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار، فخرجوا من تحتها، فرمتهم ثقيف بالنبل،، فقتلوا منهم رجالا وقد يكتفي المحاربون بسحب خشبة ضخمة نحو السور تحمل بعد ذلك على الاكتاف، فيضرب بها السور، ثم يتراجع حاملوها قليلا ثم يتقدمون ليضربوا بها السور، وهكذا إلى أن يتمكنوا من أحداث ثغرة فيه. و "القفع"، ضبر تتخذ من خشب يمشي بها الرجال إلى الحصون في الحرب. وقيل هي الدبابات التي يقاتل تحتها.
واستخدم "الكبش" في القتال،استخدم في اليمن بصورة خاصة، استخدم سلاحا من الأسلحة الثقيلة في قتال المدن والجيوش النظامية، وهو من خشب مكسو بجلود البقر مدبوغة بالقرظ، أو من جلود الإبل. يحتمي به المحاربون المشاة في هجومهم على الأعداء المتحصنين.
وقد وردت لفظة "كبش" في قول الشاعر "الحارث بن حلزة اليشكري": حول قيس مستلئمين بكبش قرظي كأنه عبلاء

(1/2972)


--------------------------------------------------------------------------------

وفسرت لفظة "الكبش" المذكورة ب "السيد" وهو تفسير أرى أن فيه تكلفا واضحا وبعدا من المعنى، وأن الصواب هو أنها الآلة الحربية المذكورة، وأن الشاعر أراد ببيته المذكور وصف جماعة "قيس بن معد يكرب" الذين كانوا ملتفين حوله، مستلئمين بكبش من جلود سميكة غليظة مدبوغة بالقرظ، مرتفع عال حتى علباء، أي هضبة من ارتفاعه. والكبش بالنسبة للاعراب من الأسلحة ااتي يقل استعمالها عندهم، وهي من الأسلحة المانعة المؤثرة، ولذلك ذكرها الشاعر في شعره. وقد جاء بها "قيس" من اليمن ولا شك.
ومن آلات القذف والرمي إلى مسافات، المنجنيق. ويوضع فوق الأسوار لاستخدامه في رمي العدو المتقدم نحو ألحصن، أو في السفن لرمي سفن الأعداء أو في الأبراج أو في الخطوط الأمامية لرمي الأعداء المهاجمين. فهو في مقام المدفعية عندنا. وقد ورد في أخبار حصار المسلمين للطائف ان الرسو ل رمى أهل الطائف بالمنجنيق، وكان أول من رمي في الإسلام بالمنجنيق على إحدى روايات أهل الأخبار.وورد أن اليهود كانوا يستعملون المنجنيق، في الدفاع عن حصونهم. ويرجع بعض أهل الأخبار تأريخ استعمال المنجنيق في الجاهلية إلى "جذيمة الأبرش"، فهم يذكرون انه أول من رمى بالمنجنيق.
والعرادة من آلات الحرب كذلك، وهي صغيرة شبه المنجنيق.
عرف السور بالحائط كذلك. والحائط هو ما محيط بالشيء. وقد دعي سور الطائف بحائط الطائف في بعض كتب السير، وذلك لأنه يحيط بالمدينة. وقد كانت به أبواب تغلق في الليل. ولما اقترب منه المسلمون رماهم المدافعون عنه بالسهام، وكانوا يكمنون فوقه فقتل أناس من.المسلمين. و يكون أعلى الجدار الخارجي عاليا وبه فجوات صغيرة ليكمن ورائه المدافعون ولينظروا من خلال هذه الفجوات الأعداء، وليرموهم منها. ويبنى السور سميكا في أسفله، ثم يقل سمكه في أعلاه وذلك ليكون من الصعب على المهاجمين احداث فتحة فيه أو هدمه.

(1/2973)


--------------------------------------------------------------------------------

ويكون عرضه في أعلاه كافيا لاختباء المدافعين ولمرورهم بسهولة. وتبنى أبراج في العادة فوقه للمراقبة ولرمي الأعداء، يختلف عددها باختلاف المدن، و باختلاف استطاعة البلدة وما تتخذه من وسائل لحماية نفسها من الأعداء.
ولحمل أهل المدن والقرى المحصنة على الاستسلام يتخذ المهاجمون أساليب الحيل ووسائل مختلفة للتضييق عليهم، وفي جملة ذلك قطع المياه عن المكان المحاصر إن كان الماء في خارجه. وذلك بسد المجرى وتخريب الآبار و الاحاطة بالماء لمنع الناس من الدنو منه، وبحرق المزارع والبساتين الواقعة في خارج المكان المحاصر، أو يقطع أشجارها وبأخذ الغلات،و بقطع كل اتصال للمكان بالخارج، وبالتشدد في ذلك حتى يضطر المحاصرون إلى الاستسلام أو عقد صلح مع المهاجمين. وقد كانت خطة حرق المزارع والبساتين من أهم العوامل المؤثرة على المحاصرين.، وذلك نظرا للخسائر المادية التي تلحقهم والتي لا يمكن تعويضها إلا بجهود وبأتعاب السنين.
ولجأ المحاربون الجاهليين الى سياسة حبس الميرة عن القبائل أو القرى والمدن لاخضاعهم واجبارهم على ترك المقاومة والاستسلام. يفعلون ذلك كما تفعل. الدول الحديثة في مقاطعة بعض الحكومات في الحرب وفي السلم لاجبارها على ترك سياستها أو على الاستسلام. وقد قاطعت قريش بني هاشمم حينما دخلوا في الشعب لاجبارهم على ترك الرسول وخذلانه على نحو ما هو معروف.

(1/2974)


--------------------------------------------------------------------------------

كما وجهوا خططهم السوقية نحو النقاط الضيفة من مواضع الدفاع للمكان الذي يراد الاستيلاء عليه، مثل الأبواب والثلم التي قد تكون في الأسوار أو الحصون للاستفادة فى منها في مهاجمته. والأبواب، هي من أهم الأهداف بالنسبة للمهاجم، لذلك، تتخذ مختلف الوسائل للتغلب عليها، برميها بالنار، أو بالحجارة، أو بضربها بالدبابات والأقفاع.أو باستخدام السلالم أو الحبال لارتقاء المواضع المنخفضة من السور، كما يركن الى حفر الأنفاق تحت السور، للدخول منها إلى الموضع المحاصر، وقد يعمد إلى صنع تل من تراب، أو إلى تكويم أحجار بعضها فوق بعض، أو بناء مرتفع يصل إلى علو السور أو أعلى منه، ليرمي منه الأحجار والقذائف على المحاصرين، فيكون في امكان المهاجمين، مهاجمة السور من الأرض بارتقائه من الموضع المقابل للمرتفع، أو بعمل ثقب فيه، يدخل المهاجمون منه إلى الداخل، وبذلك ينقل المهاجم الحرب إلى داخل الموضع المحاصر ويتمكن من التغلب عليه.
أما النظم العسكرية عند أهل اليمن، فكانت على هذا النحو: الملك، هو القائد الأعلى للجيش، والرئيس الأعلى له، يعلن الحرب، ويأمر بعقد الصلح، ويعين القادة الذين يتولون إدارة القتال، لضمان اانصر، و هو الذي يأمر القبائل بتقديم الجنود، على مقدار ما اتفق عليه.
وقد يقوم الملك نفسه بقيادة الجيوش واجراء العمليات الحربية، وقد يترك ذلك إلى قواده، يقومون بها ويديرونها بحسب علمهم وخبرتهم بالحروب. والقائد هو "قسد" أي "قاسد" في لغتهم. وقد يعبر عنه ب "اسد" في بعض الأحيان ة الا أن هذه اللفظة تعني "الجندي" و "الجنود" في الغالب.
وكان على المحارب أن يهيئ له سلاحه، فإذا لم يكن لديه هذا السلاح منح مالأ لشرائه به، يتعهد بإعادته فيما بعد. وكان على القبيلة أن تهيئ المقاتلين اللازمين للقتال، وترسلهم إلى جبهات القتال للقتال مع الجنود الآخرين.

(1/2975)


--------------------------------------------------------------------------------

ولسنا نعلم كيف كان يقاتل العرب الجنوبيون، و كيف كانوا يعطون خططهم الحربية في التغلب على العدو، لعدم تعرض كتابات المسند لذلك، فلم يرد الينا نص.
ويعبر عن الصلح بلفظة "سلم"، وهي في معنى "سلم" في عربيتنا. فالسلم هو الصلح الذي يلي الحرب بعد الانتهاء منها، كما انه السلم في الأوقات الأخرى أي الأوقات الاعتيادية.
ويعبر عن الحذر من العدو بلفظة "حذر"، وهي تؤدي معنى الدفاع كذلك، ف "حذر" تعني دافع ضد عدو. واذا سار شخص ما خلف زعيم أو قائد، يقال لذلك "تبع" و "تبعو" بمعنى سار مع القائد وساروا في حرب مثلا، وتقدم أو تقدموا نحو العدو.
ويعبر عن التراجع والانسحاب بلفظة "ضويم" "ضوى"، وتعني الهزيمة كذلك. وهي نقيض معنى "متسك" التي تعني التمسك بالشيء والاستيلاء عليه. و "امتسك ب". ويعبر عن الهزيمة بلفظة "سحت" كذلك. كما يعبر عنها بلفظة "تشوع".
وقد يتبع المحاربون طريقة حرب العصابات، وذلك بأن ينقسم الجيش إلى أحزاب وفلول مستقلة تنتشر في أماكن متباعدة، وتقاتل بمفردها أو تتعاون فيما بينها عند الحاجة، وهي تحمي نفسها بالالتجاء إلى المواضع الطبيعية الحصينة مثل المستنقعات والأدغال والجبال وأطراف الممرات الوعرة، وذلك لكي تخفي نفسها عن العدو فلا يراها إلا وهي مباغتة له. ويقال للعصابة هذه: "حزب" في السبئية، وأما الجمع ف "احزب".
وتتبع الطريقة المذكورة عندما يواجه عدو عدوا يرى انه لا يستطيع الوقوف أمامه ومحاربته، أو في حالة التريث والانتظار إلى ساعة مجيء مدد وعون، أو في حالات الهزيمة. فتشتت القوات المغلوبة قواتها إلى "أحزاب" وتشغل جيش العدو المتفوق عليها بجبهات عديدة لغاية إرباكه واضعاف قوته، وتبقى تحارب حرب عصابات حتى ترى رأيها الأخيرة فتقرر الصلح أو الاستسلام وقد تجمع فلولها ثانية وتظهر مرة أخرى في ميدان قتال جديد، ففي كتابات المسند أمثلة كثيرة من هذا القبيل.

(1/2976)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد وردت في النصوص المعينية لفظة "غزتس" بمعنى غزوة، كما في هذه الجملة: "غزتس عم مسبا"، بمعنى "في غزوته مع المسبين". ويظهر ان هذا النص قد دون في غزاة قام بها صاحب النص، وقد أخذوا معهم جماعة من السبي. وهذا النص هو من النصوص المعينية التي عثر عليها في مدائن صالح.
ويقال للحواجز التي يضعها المحاربون في شوارع المدينة أو في الطرق أو التي يقيمونها في ساحات المعارك لإعاقة حركات العدو "حجزت"، أي "حاجزة". ولا تقتصر عمل هذه الحواجز على الأغراض العسكرية وحدها بالطبع بل تقام لأغراض عديدة أخرى، مثل الحواجز التي تقام لحجز المواشي والحيوانات وما شابه ذلك.
ولا يشترط بالطبع في الحواجز أن تكون عالية مرتفعة أو قائمة عريضة، فقد تكون منخفضة وعندئذ تكون على هيأة موانع لإعاقة الإنسان أو الحيوان من المرور. وقد تكون خندقا حفر حول المدينة أو حول مكان يراد حمايته ومحافظته من التطاول عليه. فيقف هذا الخندق حاجزا مانعا يمنع الجنود والجيوش من التقدم نحو الهدف أو المدينة أو الموضع الذي يراد الاستيلاء عليه ? ويقال له عندئذ "خبزت" وبهذا المعنى عرف في كتب اللغة، فقد ورد في القاموس المحيط "خ ب ز": "خبز" الرهل والمكان المنخفض المطمئن من الأرض.
وقد بنى اليمانيون حصونهم في الهضاب والمرتفعات والجبال، ليكون من الاسهل الدفاع عنها. وحول هذه الحصون وبحمايتها بنى الناس بيوتهم، فتحولت هذه الأماكن اامحماة بالقلاع والحصون إلى مواضع حصينة تدافع عن نفسها وترمي من يحاول، الوصول اليها بالسهام وبوسائل الدفاع الأخرى، فيتكبد المهاجم خسائر، ويلاقي صعوبات كبيرة في الوصول اليها. ويقال لمثل هذه الحصون والقلاع "محفدن" و "محفدم" والأولى معرفة والثانية منكرة.

(1/2977)


--------------------------------------------------------------------------------

وتزود الحصون بكل وسائل الدفاع وما يحتاج اليه أصحابها والمدافعون عنها من ماء وزاد ووسائل دفاع. ولهذا تجد في الحصون آبارا ومخازن للمياه، ليستفيد منها المدافعون، ولا يتمكن المهاجمون من منع الماء عنهم. أما الزاد، فيخزن في العادة في مخازن خاصة لهذه الغاية أيضا. وأما وسائل الدفاع فتكون بانشاء أبراج فوق أسوار الحصن، يكمن فيها المدافعون لرمي العدو منها، وببناء فتحات صغيرة رفيعة لمراقبة العدو منها، ولرميه بالسهام.
ومن وسائل الدفاع التي لجأ اليها أهل العربية الجنوبية لإعاقة المحاربين من التقدم نحو هدفهم، انشاء حواجز على هيأة جسر تبنى في المضيقات والممرات، بحيث إذا وصل اليها العدو لم يتمكن من الاستمرار في سيره نحو عدوه، فينهال عليه حماة تلك الحواجز بالحجارة والسهام وما شاكل ذلك من أسلحة. وترى بقايا مثل هذه الجدار في مواضع عديدة من اليمن وحضرموت حتى اليوم. ومن جملة ما عثر عليه بقايا جدار أقيم في وادي "لبنا" شمال ميناء حضرموت القديم "قنا" "قانه" "قني". أقامه حكام حضرموت المكربون قبل القرن الرابع قبل الميلاد، وذلك لحماية حضرموت من غزوات الحميريين وغيرهم. وعثر على بقايا جدار في القسم الجنوبي من "وادي بيحان"، وعلى بقايا جدار آخر يقع في "وادي أنصاص" جنوب "شبوة"، وذلك لحمايتها، من الغارات.
والنصر ضد الهزيمة. وترادفها لفظة "شرح" في اللهجات العربية الجنوبية، كما في هذه الجملة "يوم شرح سبا"، أي "يوم نصر سبأ".
وبعد انتهاء الحرب توزع الغنائم بين المحاربين المنتصرين، ويعطى الرئيس إذا غنم الجيش معه "المرباع" أي ربع الغنيمة. وقد رده الإسلام خمسا، بنزول الأمر بالخمس في القرآن الكريم.

(1/2978)


--------------------------------------------------------------------------------

واذا وقع أحد في أيدي عدو وأسر فيقال له عندئذ "أسر". ويعبر عنه ب "اخذ" في السبئية في حالة المفرد، وب "اخذتم" "أخذت" "اخذيت" في حالة الجمع. وتطلق هذه اللفظة على الأسرى الذين يقعون في الأسر من دون قتال، وذلك عند اكتساح جيش أو غزاة جيش العدو أو مكان ما، فيؤخذ من فيه من ناس من غير قتال ولا مقاومة. فهم مثل الغنائم الني تقع في أيدي الغزاة والمحاربين يؤخذون دون قتال. أما الذين يؤخذون بعد مقاومة وبقتال، فيقال لهم: "سبيم" أي "سبى"، بمعنى "مسبى". وأما الجمع ف "اسبى" أي سبايا. وأما الاسباء فيعبر عنه ب "يسبيو"، وتعني "يسبي" و "يسبون".
وكانوا يكبلون أيدي الأسرى والسبي ب "الكبل" 0 القيد من أي شيء كان، وذلك لاحتباسهم حتى لا يهربوا. وقد ذكر بعض علماء العربية "أن الكبل غير عربي.. وقد صرح به أقوام". ولفظة "كبل" هي "كبلو"،Keblo و "كيبل" Kebel في لغة بني إرم وفي العبرانية، أي "القيد". وقد كانوا يكتفونهم بالحبال وبكل شيء يكون عندهم يشد به وثاق الأسر، فلا يفلت من اسره. و "الكتاف" الحبل. و "الوثاق" ما يشد به كالحبل وغيره. كما كانوا يكتفون الأسرى بالقد. والقد السير الذي يقد من جلد،فتشد به أطراف الأسر شدا شديدا حتى لا يتمكن من الهروب.

(1/2979)


--------------------------------------------------------------------------------

ولما بعث رسول الله خيلا قبل نجد، فجاءت ب "ثمامة بن أثال الحنفي" سيد أهل اليمامة مأسورا " أمر به رسول الله، فربطوه بسارية من سواري المسجد ثم من عليه فأطلقوه واسلم، لأنه لم يكن في زمن الرسول سجن. فكانوا يحبسون الاسير في المسجد او الدهليز حيث امكن فلما كان زمن علي بن ابي طالب أحدث السجن بالكوفة، وكان أول من أحدثه في الإسلام. وذكر ان "ثمامة" كان عرض، لرسول الله فأراد قتله، فلما قبض عليه أسلم، فلما أسلم قدم مكة معتمرا، فقال: والذي نفسي بيد لا تأتيكم حبة من اليمامة، وكانت ريف اهل مكة، حتى يأذن رسول الله له. ورجع إلى اليمامة ومنع الميرة عن قريش، وقد ثبت على إشلامه، لما ارتد أهل المامة، وارنحل هو ومن أطاعه من قومه، فلحقلإ ا بالعلاء بلأت الحضرجمب، فقاتل معه المرتدين من أهل البحرين، فلما ظفروا اشترى تمامة حلة كانت لكبيرهم فرآها عليه ظ س من "يني قي، بن ثعلبة"، فثهلنوا انه هو الذ.ئي قله وسلب." فضلوه. وكان له هم اسمه "عامر بن سلمة بن **** بات ثعلجة الحنقي". وقد دخل في الإسلام.
ويسبق المبشرون الجيش المنتصر بزف خبر النصر للحكام وللناس. يسرعون بأقصى ما يمكنهم من السرعة لنقل النبأ، ولنيل جوائز البشرى. وهي "البشارة" ما يعطاه المبشر. ويعبر عن البشرى ب "تبشرت" في العربية الجنوبية، أي "التبشرة" يقوم ال "هبشر"، أي المبشر بإبلاغ البشرى لمن يراد ايصالها اليها.
ويعبر عما يقع في أيدي المغيرين أو المحاربين أو الغزاة أو المنتصرين من أموال ب " مهرج"، أي غنيمة حرب، وذلك للمفرد وب "مهرجت" "مهرجة" في حالة الجمع، أي غنائم.
وتطبق هذه اللفظة على الغنائم التي تؤخذ بقتال وبعد مقاومة، أما الغنائم التي يحصل عليها المحاربون بعد القتال وبعد الهزيمة التي تنزل بالمغلوب، فيقال لها "غنم" و "غنم" وذلك في المفرد، أي للغنيمة الواحدة، وأما في حالة التعبير عن الجمع فيقال "غنمت"، أي غنائم.

(1/2980)


--------------------------------------------------------------------------------

ونظرا الى ما للمنزلة الاجتماعية من أهمية كبيرة في المجتمع العربي. لذلك كان الشريف يسأل من يريد أسره عن اسمه ونسبه، حتى إذا وجد أنه من ال**** والموالي أبى الاستسلام له،لأن في استسلام الرجل لمن هو دونه في المنزلة والمكانة مذلة كبرى وإهانة ولهذا كان الرجل الذي يشعر أنه في وضع حر ج وأنه مأسور لا محالة يبقى يراوغ خصمه ويحاول الافلات منه ومن أسره جهد امكانه حتى آخر نفس، له، وقد يسأل شخصا آخر يرى عليه امارة الوجاهة والشرف بأن يأسره خشية الفضيحة والعار من وقوعه أسيرا في يد عبد جلف، أو صعلوك لا مكانة له في المجتمع. ومن ذلك ما وقع لحاجب بن زرارة، إذ أدركه لا الزهدمان، فقال له: استأسر وقد قدروا علته، فقال ومن أنتما ? قالا، الزهدمان. فقال: لا أستأسر اليوم لمولين. وبينما هم كذلك، إذ ادركهم مالك ذو الرقيبة ابن سلمة من قشير، فقال لحاجب: استأسر، فقال: ومن أنت ? قال أنا مالك ذو الرقيية فقال: أفعل فلعمري ما ادركتني حتى كدت أكون عبدا. فألقى اليه رمحه واعتنقه زهدم عن فرسه فصاح حاجب واغوثاه، ثم تخاصم مالك والزهدمان في شأن أسر حاجب، واجتمع القوم وحكموا حاجبا في أمر من أسره، فاختار مالك، وحكم له، وذلك لأنه كان حرا شريفأ. ثم فك أسره، بأن أعطى فدية عن نفسه لمالك وفديتين أصغر منها ان الزهدميين.
ولم تكن "المثلة" بقتيل الحرب أو بالأسير محرمة في قوانين ذلك اليوم. فقد كانوا في يمثلون بقتلى الحرب وبالأسرى بتقطيع أجزاء جسمهم، وتشويه الجسم. يفعلون ذلك بالأسير حتى يموت، وهو يشاهد أعضاءه تقطع قطعا من جسمه. وفي "يوم الرقم" انهزم الحكم بن الطفيل في نفر من أصحابه " فيهم "خوات ابن كعب" حتى انتهوا إلى ماء يقال له: المرورات، فقطع العطش أعناقهم فماتوا، وخنق الحكم بن الطفيل نفسه مخافة المتلة، فقال في ذلك عروة بن الورد: عجبت لهم إذ يخنقون نفوسهم ومقتلهم تحت الوغى كان أعذرا

(1/2981)


--------------------------------------------------------------------------------

والقاعدة في الغزو والحروب والغارات، أن القاتل يأخذ سلب المقتول. يأخذ ما يجده عنده، وقد أقر ذلك في الإسلام، فجعل السلب للقاتل لا ينازعه في ذلك منازع، إن ثبت أنه هو القاتل.
والحروب من أهم الموارد الممونة للرقيق عند الشعوب القديمة، وفي جملتهم الجاهليين. فقد كان الشخص يتخذ من يقع في يده رقيقا له، واذا لم يمن عليه بالعفو، أو لم يتمكن المأسور من دفع فدية عن نفسه، صار عبدا مملوكا لمن وقع في يده، إن شاء باعه، وإن شاء احتفظ به رقيقا، يخدمه ما دام عبدا. وقد عمد المحاربون إلى إحراق المغلوبين في بعض الأحيان. فقد جمع المنذر بن امرىء القيس أسرى في الحظائر ليحرقهم، فسمي أبا حوط الحظائر.
وقد عرف بعض،ملوك الحيرة بحرق من وقع في أيديهم من المغلوبين، أو حرق مواضعهم وهم فيها لذلك عرفوا ب "محرق". وعقوبة الحرق من العقوبات المعروفة عند الأمم القديمة مثل الرومان والعبرانيين، ينزلونها في المحاربين جزاء لهم، وإخافة لغيرهم ودعاية لهم، حتى لا يتجاسر أحد فيعلن الثورة على المحرقين، فيحل،عندئذ بهم عذاب التحريق.
وكان بعض الاشخاص يقومون بالغارات بمفردهم أو بجمع من الناس،فيفاجئون الناس الآمنين أو رجال القوافل، ومن هؤلاء: شراحيل بن الأصهب، وكان كما يقول أهل الأخبار أبعد العرب غارة، كان يغزو من حضرموت إلى البلقاء في مئة فارس من بني أبيه، فقتله بنو جعدة.وكان قد أزعج قبائل معد وغيرها كما يظهر ذلك من شعر نابغة بني جعدة: أرحنا معد ا من شراحيل بعدما أراها مع السبح الكواكب مظهرا
وعلقمة الحراب أدرك ركضنا بذي الرمث إذا صام النهار وهجرا

(1/2982)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد يعمد المنتصر إلى أخذ رهائن من المغلوب لتكون رهنا لديه بالطاعة والخضوع. فإذا خان بعهده، تعرضت الرهينة التهلكة. وتؤخذ الرهائن في أيام السلم أيضا. يأخذها الملوك ممن يخشونهم ومن السادات لتكون ضمانا لديهم بالطاعة وبعدم مسهم بمصالحهم. وقد عرف "الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي" ب "الرهين"، "وإنما لقب به لأنه كان رهينة قريش عند أبي يكسوم الحبشي. وولده النضر بن الحارث من مسلمة الفتح. وأخوه النضر بن الحارث قتله علي، رضي الله تعالى عنه، بالصفراء بعد رجوعهم من بدر بأمر من النبي، صلى الله تعالى عليه وسلم، وبنته قتيلة رثت أباها بالأبيات القافية، وليس فيها ما يدل على إسلامها".
وللطيرة أثر كبير في نظر الجاهليين في كسب الحرب وخسرانها، فقد رسخ في عقولهم أن لها تأثيرا مباشرا في الغزو والحروب. وان كلمة طيبة تسمع ساعة الاستعداد للغزو، أو عطسة يعطسها إنسان، أو نعيب غراب ينعب ساعة الهجوم أو ما شاكل ذلك من علامات يتفاءل أو يتشاءم منها، تؤثر في مصير الغزو وتتحدث للغازين عن مصير ما سيقومون به. لذلك فقد كانوا ربما نبذوا الغزو إذا ظهر أمامهم ما يخطر منه، وكانوا ربما أسرعوا بالهجوم إن ظهر أمامهم ما يفسرونه بأنه يمن وتفاؤل وحث على الإقدام في العمل. ولم يكن هذا الاعتقاد من عقائد العرب وحدهم، فقد كانت الشعوب الأخرى تتطير كذلك. وتحسب للطيرة حسابا عند شروعها بحرب.ونجد في الكتب القديمة قصصا عن الطيرة وأثرها في الحروب عند اليونان والرومان والفراعنة والفرس.

(1/2983)


--------------------------------------------------------------------------------

ورسخ في عقول أهل الجاهلية ان في وسع الكهنة التنبؤ عن نتائج الغزو أو الحروب.، لما للكهنة من اتصال بالارباب والارواح المخبرة عن المغيبات وعما سيقع في المستقبل فكانوا لذلك يسألونهم في كثير من الاحايين عن رأيهم في غزو يريدون القيام به قيل الشروع به حتى اذا باركه الكاهن قاموا به والا تركوه ونجد في كتب الادب واهل الاخبار اخبارا ترجع سبب الهزيمة او سبب انتصارهم الى مخالفة اولئك القوم لرأي كاهنهم فكانت الهزيمة والى العمل برأيه فوقع من ثم لهم النصر لأن للكهنة علم بالمغيبات.
الفصل السادس والخمسون
في الفقه الجاهلي
عرفت "مدونة جستنيان" Institute de justinien" "الفقه" بأنه ".معرفة الأمور الإلهية والأمور البشرية، والعلم بما هو حق شرعا ومما هو غير حق".
و "الفقه" في اصطلاح المسلمين هو: استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، أو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد، أو العلم بأحكام الشريعة، وهو اصطلاح ظهر بالطبع في الإسلام. أما بالنسبة إلى الجاهليين فإننا لا نستطيع أن نأتي بتحديد علم ثابت به، لعدم وصول شيء منهم في هذا المعنى الينا.
وقد وردت اللفظة لغة بمعنى العلم والتبحر في الشيء والإحاطة به. ووردت في سورة التوبة كلمة يتفقهوا )فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين". ومن هذا المعنى جاءت لفظة "الفقه" في الإسلام.
وأنا اقصد بمصطلح "الفقه" هنا الأحكام الني نظمت العلاقات بين الجاهلين، وبينت الحلال في عرفهم من الحرام. وأقصد بالحلال كل مباح أباحه أهل الجاهلية لأنفسهم، وبالحرام كل ما حرموه عليها. فللجاهليين شرائعهم الخاصة بهم. وأنا هنا أريد أن أبحث عن شرائعهم التي ثبتت الأحكام بحسب اجتهادهم وعرفهم وسنتهم، وأريد بالأحكام "قوانينهم" التي وضعوها وساروا عليها في تثبيت المحظور أو المباح " أي الحرام والحلال.

(1/2984)


--------------------------------------------------------------------------------

وكلامنا في الفقه الجاهلي هو كلام لم نستنتجه من "قوانين" أو مدونات قانونية Codex juris أو من كتب في فقه الجاهليين أو من تعليمات جاهلية مدونة،وانما أخذناه في الغالب من الألفاظ الفقهية التي تعبر عن آراء قانونية وردت في كتب الفقه والحديث والتفسير،وما شاكل ذلك من موارد إسلامية، ومن أقوال وأحكام نسبها أهل الإسلام لرجال من أهل الجاهلية، فيها قواعد فقهية. ومن بعض أوامر وأحكام أصدرها ملوك العرب الجنوبيون قبل الإسلام في تنظيم التجارة وفي كيفية جباية الأموال. وسبب عدم أخذنا من موارد فقهية جاهلية هو عدم وصول مدونات قانونية الينا حتى الان، فليست لدينا ويا للاسف مدونات مثل "قوانين حمورابي" أو "مدونة جستنيان"، أو مثل ما كتبه "ديودورس" في الشريعة المصرية. فما نكتبه في التشريع الجاهلي، مستمد مما ذكرته ومن أوامر و إرادات ملكية وأحكام وردت في المسند في نواح خاصة من نواحي التشريع مثل كيفية جباية الضرائب. عن الأرض أو التجارة، أو نواح معينة من البيوع والقتل وغير ذلك. فهي خاصة بحالة معينة من حالات التشريع، لا قوانين عامة على نحو ما نفهمه من القوانين.
ولما كانت القوانين وليدة الظروف والحاجات اختلف التشريع في أيام الجاهلية باختلاف القبائل والأماكن، وطبيعة البيئة. فأهل اليمن بنظام حكمهم المستقر، وبحكوماتهم التي كانت تهيمن على مناطق واسعة كانوا يختلفون في أصول تشريعهم عن أهل مكة أو أهل يثرب. وكل من هؤلاء هم قطان مدن، حكمهم هو حكم مسن قائم على أساس اراء رؤساء الأحياء والشعاب. ثم إن "حكم هؤلاء، يختلف أيضا عن حكم القبيلة والعشيرة، أعني حكم الأعراب.

(1/2985)


--------------------------------------------------------------------------------

ولعدم وجود حكومات منظمة قوية في معظم أنحاء جزيرة العرب، لا يمكن تصور وجود هيئات قضائية ومؤسسات حكومية ذوات قوانين مدو نة، للفصل في ااخصومات، وللانزال العقوبات الجزائية الرادعة في المخالفين، على نحو ما نراه في حكومات هذا اليوم. كما أننا في شك من وجود نصوص قانونية مدونة في مثل هذه الأماكن على مثال قوانن "جستنيان" مثلا، أو القوانين التي سنها الأكاسرة. فمثل هذه ا القوانين والأنظمة الدقيقة المنظمة المعقدة لا يمكن أن تظهر إلا في المجتمعات السياسية المنظمة المعقدة التي تهيمن عليها حكومة ذات مجتمع منظم يشعر بحاجته الى حكم منظم يعين حقوق الحكام وحقوق المواطنين.
غير أن هذا لا يعني عدم وجود أحكام لردع المخالفين والزائغين، وعدم وجود أحكام لتنظيم العلاقات في المجتمع، وتعيين حقوق الحكام والمحكومين، وعدم وجود أناس لهم علم بعرف البلاد.فلكل مجتمع مهما كانت حالته من السذاجة قوانين وأناس لهم علم بتطبيق تلك القوانين على المخالفين. والقوانين في المجتمعات الصغيرة البسيطة، هي العرف والعادة المتوارثة عن الأباء و الأجداد. وإذا كانت مثل هذه المجتمعات لا تملك محاكم دائمة ذات موظفين ولا سجلات وقوانين ثابتة مكتوبة على نمط المحاكم لهذا العهد فإنها تملك في الواقع محاكم، وتملك حكاما.

(1/2986)


--------------------------------------------------------------------------------

ففي الممدن مثل مكة ويثرب، وهي مدن تحكم نفسها بنفسها ونستطيع ان نسمي حكوماتها بحكومات مدن، يحكم الرؤساء والأشراف المدينة، ويفضون المنازعات. وفق العرف والعادة. يجتمعون في مكان.معين، مثل "دار الندوة"، أو في المعبد، أو في بيوت الوجهاء " للنظر في الخصومات وفي المشكلات التي تقع في البلد " او يتولى رؤساء الشعب، أي الحارة والمحلة فض المنازعات ااتي تنشأ بين أفراد الشعب في الغالب. أما إذا وقعت الخصومات بين أبناء شعاب مختلفة، فقد يتفق رؤساء المحلات على فض الخصومة بينهم باللجوء الى المحكمين يختارونهم من غيرهم ممن يرضى عنهم المتخاصمون ويكونون في نظرهم محايدين لا علاقة بهم بهذا النزاع وقد يخال النزاع على رؤساء البلد او الحي للنظر فيه ويشترط بالطبع على المتخاصمين كلهم الاذعان لقضاء الحكام والتسليم بما يحكمونه من حكم.
ولسذاجة الحياة وعدم تعقدها في معظم أنحاء جزيرة العرب، كانت طبيعة التشريع عند الجاهليين ساذجة غير معقدة والقوانين قليلة تتناسب مع طبعة حياة ذلك العهد، تقتصر على المشكلات التي تحدث في مثل تلك البيئة وفي ظروف تشبه تلك ااظروف. فلا نرى لذلك قوانين معقدة عديدة في معالجة مشكلات الارض ومشكلات الصناعة والاقتصاد وتنظيمات المدن الكبيرة وما يتكون ويتولد فيها من اجرام ومخالفات.

(1/2987)


--------------------------------------------------------------------------------

ولما كانت الطبيعة الاعرابية هي الطبيعة التي تغلبت على حياة اكثر سكان جزيرة العرب، نبع مفهوم الحق عند الأعراب ومفهوم كيفية استحصاله وأخذه من المحيط الذي عاش الأعرابي فيه. فصار الحق في نظره القدرة أو القوة. فالقوي القادر على حمل السلاح هو صاحب ألحق لأن في استطاعته انتزاع حقه والدفاع عن نفسه متى تعرض للظلم. وهو بقوته لا يخشى ظلم ظالم. وعلى هذا اامبدأ بنيت اكثر أحكام ااجاهلية في تقويم الحق وتقديره في مثل دفع الديات، وفي حقوق الإرث وفي مفهوم السرقة، كما سأتحدث عن ذلك فيما بعد. فالقدرة هي سبب من اهم اسباب تحقيق الحق، وأخذ الحق وانتزاعه من المغتصبين ثم عامل آخر، هو العصبية بأنواعها من ابسط درجة فيها الى اعلاها، فإنها عامل آخر من عوامل الدفاع عن الحق وعن استحصاله، لعدم وجود حكومة نظامية تقوم بتحقيق الحق، فقامت العصبية مقامها في استحصال الحق وفي تأديب الخارج على العرف، الذي هو القانون.
واما النواحي القانونية والتشريع قفي العربية الجنوبية وسائر الأنحاء الأخرى من جزيرة العرب، فلم ترد الينا من كتابات وبحوث فيها. فلتكوين رأي فيها اذن، لا بد لنا من اللجوء إلى الكتابات التي لها علاقة بهذه النواحي، مثل الكتابات التي تحمل طابع الأوامر والنواهي وعقود التملك من ضيع وثراء، والقبوريات اي الكتابات الني تخص تملك القبور،فتمنع الغرباء من الدفن فيها والتجاوز عليها والتطاول عليها بإحداث تغيير وتبديل في شكل القبر وفي هيأته، ومن كتابات مماثلة اخرى. فقد وردت في هذه مصطلحات و تعابير قانونية، يمكن ان نستنتج منها، وان نكون رأيا قانونيا بدراستها ومقارنتها بالتشريعات الواردة عند الشعوب الأخرى وعند القبائل الساكنة في مختلف أنحاء بلاد العرب، وبالتشريع الإسلامي.

(1/2988)

admin
01-01-2011, 01:19 AM
ومن هذه المصطلحات الحقوقية لفظة "احلى" و " احل" بمعنى "أحل" في عربيتنا، وهي تشير الى لفظة "الحلال" التي هي ضد الحرام المعروفة في القوانين وفي الفقه. وقد وردت في النص الموسوم بMe 36 هذه العبارة: " هن بخطات نكرح اخلى ذ ينقل قبرن عمر خرقن وارخن"، ومعناها: هذا بخطيئة نكرح وود لمن يحل وينقل أي يغير القبر. عمر السنين والأزمان، وتعني لفظة عمر الدوام والتأييد واما خطأت الخطيئة فأنها بالمعنى المفهوم منها عند النصارى تقريبا فهي بمعنى التعدي على الشريعة وعدم الامتثال لها والاثم وبمعنى اللعنة في الإسلام فيكون المعنى الجملة المتقدمة على هذه الصورة: " هذا بلعنة الالهين نكرح وود لمن يحل أي يجوز تغيير القبر ابد السنين والايام وتعني "لفظة" نقل التغيير والتبديل".
وهناك لفظتان تردان في الكتابات القبورية والإعلانية في بعض الأحيان، هما "مسرس" و "سنكرس". وتعني اللفظة الأولى: يبعد وينقل. أما الثانية فتعني يغير ويزيل معالم الاشياء، وتد ترد بعد الكلمة هذه العبارة "يومي أرضم" أي أيام الارض، بمعنى ما دامت الارض.
ووردت لفظه "خطات" في نص قتباني، هو أمر ملكي أصدره الملك: "شهر هلل بن مذرأ كرب". وقد جاء في هذا الأمر أن الملك سينزل عقوبات بالمخالفين لهذا الأمر. واستخدمت هذه اللفظة في أداء هذا المعنى.
وفي السبئية لفظة "حجك" "حكك"، وتعني القانون. وربما تؤدي معنى "حك" أي "حق". أي ما كان ضد الباطل.
وقد فسر "رردوكناكس لفظة "حلكم"، "حلك" الواردة في نص قتباني عرف بكتابة "كحلان" ب "قانون" و ب "نظام". وفسر لفظة أخرى وردت معها هي "سحر" بمعنى أمر به. وأما لفظة "حرج"، فقد فسرها بمعنى أصدره وأخرجه. وقد وردت الألفاظ الثلاثة في ابتداء قانون أصدره "شهر هلال" ملك قتبان لتنظيم أمور الزراعة والملك في بلاده.

(1/2989)


--------------------------------------------------------------------------------

ووردت لفظة "نتذر" بعد لفظة "تنخيو" في بعض الكتابات ا. وقد ذهب بعض العلماء إلى ان لفظة "تنخيو" التي تعني الإعلان والإشهار، ليكون ذلك معلوما لدى الناس، انما يراد بها التنبيه على شيء قد تتولد منه نتائج غير طيبة، فهي بمثابة انذار وتخويف وتحذير. وبهذا المعنى ايضا لفظة "تنذر" بمعنى انذار و نذر.
وقد اختتمت بعض الأوامر والارادات الملكية القتبانية بهذه الجملة: "قدمن وتعلماي يد 0000"، ومعناها: "أمام. وعلمته يد"، اي ووقعته يد. ويراد بها ان الارادة الملكية قد كتبت أمامه، وان يد الملك قد وقعه، فهو أمر صدر بإرادته وأمره.
فنحن هنا أمام نص قانوني، صدر باسم ملك من الملوك،امر هو بإصداره، ودون أمامه، وشهد هو بنفسه عليه، ووقعته يده، دلالة على شهادته بصحته وبأنه نص شرعي ملكي معترف به. فعلى أتباعه السير وفقا لأحكامه ولما جاء فيه.
وفي كتابة مثل هذه العبارات القانونية دلالة على وجود فهم للقانون وإدراك له عند العرب الجنوبيين.
وتطلق لفظة "بل" على المباح بلغة حمير. وأما "البسل"، فهي من الألفاظ الني تدخل في باب الأضداد، فهي تعني الحرام كما تعني الحلال.
وفي شريعة أهل الجاهلية حلال وحرام، مباح ومحظور، ويراد بالحلال كل ما أباحه العرف، مما لم يتعارض مع تقاليدهم و مألوفهم، اما ما تعارض منه معه، فهو حرام محظور ويعاقب المخالف المرتكب للمحرمات ولما حرمته شريعتهم. ومعنى الحلال والحرام الاصطلاحي هو المعنى الوارد في القرآن الكريم نفسه. غير أن الإسلام حدد الحرام والحلال وفق قواعد الشرع،أي أن الإسلام ندب المصطلحين وحددهما وفق قواعده. أما الجاهلية، فحددتهما وفق عرفها.
ومن المصطلحات التي لها علاقة بالحياة الاجتماعية لفظة "ثوب" أي "ثواب"،و "أجر". ترد بهذا المعنى في الكتابات ذات الصبغة الدينية. ولفظة "تعمن" و تعني "النعم" و "نعمة".

(1/2990)


--------------------------------------------------------------------------------

وعثر في الكتابات الثمودية وفي اللحيانية على نصوص تتعلق بحق الملكية. فعثر على نص، ثمودي يشير إلى ملكية بئر. وعثر في اللحيانية على وثائق تتعلق بملكية ارض وعقار كما عثر على وثيقة، وجد أنها وصل أي اعتراف بتسلم مال. كما عثر على وثائق تتعلق بالقانون الجنائي. منها وثائق تتعلق بقتل، ووثائق تتعلق بعقوبات القتل وبالدية ووثائق تتخدث عن ازدياي الجرائم والخروج عن القوانين في ديدان.
وتدل هذه الوثائق على وجود أصول القانون والمحافظة على الحقوق عند عرب أعالي الحجاز. وإن كنا لا نستطيع في الوقت الحاضر تقديم أي رأي عن أصول التشريع عندهم أو التحدث عن وجود قوانين مثبتة مدو نة في معالجة الحق العام والحق الخاص أو الجرائم أو أصول المرافعات على نحو ما نجده عند الأمم المعاصرة لهم، أو الشعوب التي عاشت قبلهم، فوضعت شرائع وصلت نصوص بعضها الينا مثل شريعة حمورابي المعروفة.
وقد عثر الباحثون على نصوص تشريعية،أصدرها ملوك ا لعربية الجنوبية وأمروا بإعلانها على الملا، عمل بموجبها وهي حتى الان قليلة العدد. ومع ذلك، فقد أعطتنا فكرة مجملة عن أصول التشريع عند العرب الجنوبيين. وقد صدرت هذه التشريعات بأمر الملوك. فهم الذين أمروا بسنها وبتشريعها وبتنفيذ ما جاء فيها. ويعبر عن القانون، أو سن القوانين بلفظة "سن" وتقابل كلمة Law أي قانون في الانكليزية. و "السنة" في عربيتنا: الطريقة. وهي من القواعد الأساسية الأربع في الفقه الإسلامي. فللفظة صلة اذن بلفظة "سن" في العربية الجنوبية.

(1/2991)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من الأوامر والاحكام الملكية المدونة بالمسند، ان الحكومات العربية الجنوبية كانت حكومات مشرعة، نظمت اعمالها وأعمال مواطنيها بتشريعات عينت بموجبها حقوق الحكومة على الناس وحقوق الناس مع بعضهم وواجباتهم تجاه حكومتهم، وذلك بحسب امكانية المجتمع لذلك العهد، وقد أدركت شأن نشر القوانين والأحكام ووجوب إبلاغها للناس، فأمرت بتدوينها على الحجر، أي بحفرها فيها، ووضع الأحجار المدونة في مواضع بارزة ليقف عليها الناس ويفقهوا ما ورد فيها من أحكام وأوامر، فلا يقبل عندئذ عذر لمعتذر إذا خالفها، كذلك تجد الناس يعبرون عن حقهم في الشيء بتدوين ذلك الحق وإعلانه "، فعند شراء رجل بيتا او أرضا، أو عند بنائه بيتا، كان يكتب ذلك على الحجر ويضع الحجر في محل بارز من جدار البيت الخارجي ليطلع الناس على تملك صاحب الملك له. ويدل هذا الاعلان على وجود فكرة التقنين والتشر.يع وادراك الحق عند العرب الجنوبيين.
وإذا أبرمت الحكومات العربية الجنوبية قانونا، واذا أصدرت أمرا أو نظاما، أمرت بتدوين نسخ من القانون أو الأمر أو النظام، لحفظها في ديوان الوثائق، لتكون مرجعا يرجع اليه. وتعلن نسخ منها على الناس. ليقف الجمهور على ما جاء فيها.

(1/2992)


--------------------------------------------------------------------------------

وتعد الساحات المنشأة أمام ابواب المدن المكان المختار لنشر الأوامر والقوانين على الناس، نظرا الى كونها محلات عامة يتجمع فيها أهل المدينة في الغالب، وقد تعقد فيها المحاكمات والاجتماعات العامة. فإذا صدر أمر حكومي أو قانون كتب على الحجر، ثم يبنى على جدار المدينة عند الباب ليقف عليه الناس. وقد عثر المنقبون على قانونين قتبانيين في تحديد عقوبة القتل، وقد بنيا في الجهة اليسرى من باب مدينة "تمنع" العاصمة ليقف عليهما من حضر هذا المكان من سكان العاصمة أو القادمين اليها، كما عثر المنقبون على أسماء جماعة من رجال مدينة "مريمت" "مريمة" وقد دونت على حجر بني على جدار باب المدينة ليقف عليها الناس،لأنهم قاموا بغزو رجعوا منه بغنائم كثيرة، أعطوا منها نصيبا كبيرا، فلكي يقف أهل المدينة على كيفية توزيع الغنائم وكمياتها دونت تلك الكتابة..
وتلعب أبواب المدن دورا خطيرا في أصول التشريع عند الساميين. فقد كانت موضع اعلان القوانين، ومحل ابلاغه للناس. فهي بمثابة "الجرائد الرسمية" المخصصة بنشر القوانين في عرف هذا اليوم. وهي مواضع المحاكمة أيضا، حيث يجلس الحكام للنظر في خصومات المتخاصمين. وهي مواضع عقد العقود أيضا، من بيع وشراء. ويصف الاصحاح الرابع من سفر "راعوت" لنا، كيف ان "بوعز" جلس عند باب المدينة وأمر عشرة من شيوخ المدينة ليكونوا شهودا لاجراء عملية بيع وشراء.

(1/2993)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن الملاحظ على القانون القتباني انه أخذ بمبدأ ان تنفيذ القوانين هو حق من حقوق "الملك"، أو من يخوله حق التنفيذ. ويراد ب "الملك" الدولة، أو ما يسمى ب "السلطان" في الفقه " الإسلامي. فلا يجوز لأي أحد غير مخول تخويلا قانونيا من الملك أي الدولة تنفيذ قانون أو أخذ أي حق مدعي بدون اذن رسمي من مرجع قضائي وسلطة مخولة. فالدولة وحدها هي التي تنظر في أمر الخصومات وفيما يقع بين الناس من خلاف. وهي وجهة نظر كل حكومة متحضرة، تريد إشاعة العدل والأمن في حدودها والقضاء على الفوضى والفتن التي قد تقع فيما لو قام كل انسان بأخذ ما يدعيه من حق لنفسه بنفسه، وبدون مراجعة حكومة و سلطان.
وأنا اذ أستعمل لفظة الفقه " الجاهلي، فلا أعني ان الجاهليين عامة، كانوا كلهم يسيرون وفق فقه واحد وأحكام واحده تطبق على جميعهم، تطبيق الأحكام العامة في الدولة الواحدة. فكلام مثل هذأ لا يمكن أن يقال بالنسبة إلى الجاهلية فقد كان الجاهليون قبائل في الغالب، وهم أهل الوبر. وللقبائل أعراف وأحكام وقوانين تتباين بتباين الأمكنة، من انعزال في البادية أو قرب من الحضر أو اتصال بالأعاجم. وأما اهل المدر، فمنهم من كان يعيش في قرية والحكم فيها لا يتجاوز حدود القرية. ومنهم من عاش في ممالك أو إمارإت، والحكم فيها لم يبلغ كل جزيرة العرب بأي حال من الأحوال. وقد انحصرت أحكامها لذلك في الحدود. التي بلعتها قوتهم ووصل اليها سلطانهم الفعلي لا غير.
وإذا أردنا أن نتحدث بلغة هذا العصر عن اصول التشريع الجاهلي، أي عن المنابع التي أمدت فقه الجاهلية بالأحكام، فإننا نرى أنها استمدت من العرف، ومن الدين، ومن اوامر أولي الأمر ومن أحكام ذوي الرأي.

(1/2994)


--------------------------------------------------------------------------------

أما "العرف"، فهو ما استقر في النفوس وتلقاه المحيط بالرضى والقبول، وسلم به وسار عليه " في بعض الأحيان. وذلك لأخذه طابع القانون من حيث لزوم التنفيذ والإطاعة. وهو معروف عند أكثر الشعوب، وقد اكتسبت بعض الأعراف درجة القوانين عند كثير من الأمم، لمرور زمن طويلة على استعمالها، ولتعارف الناس عليها، لكونها معقولة منطقية لا تتعارض و روح الزمن وعدالة التشريع.
وقد أشير إلى العرف في القرآن الكريم: ) خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين(. وقد ذهب بعض العلماء إلى أن المراد من "العرف" هنا: الإحسان. وقد ألغى الإسلام بعض العرف الجاهلي، وأقر بعضا منه، لعدم تعارضه مع قواعد الدين.
ولا تزال القبائل تطبق "العرف العشائري" حتى اليوم في فض ما يقع بين أفرادها وبينها من خلاف وخصومات. وهي تتجنب جهد إمكانها مراجعة الحكومات لأنها تنفر من تطبيق القوانين عليها، بالرغم من إلغاء "العرف العشائري" أو "القضاء العشائري" كما هو معروف في بعض البلاد العربية، وعدم اعتراف تلك الحكومات به. وذلك لرسوخ هذا العرف في نفوسها، وظهوره من تربتها، ولكونه موروثا من الاباء والأجداد، فهو أقرب اليهم والى نفوسهم من القوانين الحديثة، وإن كانت أقرب إلى الحق والعقل من العرف.
ولا تزال بعض مصطلحات العرف الجاهلي باقية حية تستعملها القبائل حتى اليوم في الأغراض والمعاني التي كانت عند الجاهلين. وحبذا لو عني علماء القانون عندنا بضبط العرف المستعمل في بلاد العرب في الزمن الحاضر ودراسته دراسة علمية تحليلية، فإن لهذه الدراسة شأنا كبيرا في دراسة التشريع العربي في الجاهلية. وللسنة أهمية كبيرة في الفقه الجاهلي. واراد بها الطريقة، وترد في القرآن "سنة الأولين" و "سنة الله".

(1/2995)


--------------------------------------------------------------------------------

وترد لفظة "السنن" ! في الموارد الإسلامية. وكذلك "السنة" التي هي المورد الثاني في الفقه الإسلامي تستنبط منه الأحكام بعد القرآن. ولا بد أن تكون لها نفس المكانة عند الجاهليين. وقد ورد في القرآن الكريم: )وما منع الناش، أن يؤمنوا اذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين(، دلالة على مكانة سنة الأباء في عقلية الجاهليين. فما ورد في سنتهم هو قانون يعمل به. وورودها بهذا المعنى يدل على انها كانت تؤدي معنا خاصا عند الجاهليين. ولعلها كانت مصطلحا من مصطلحات الفقه عندهم.
وسنة، الجاهليين هي طريقهم في الحياة وما ورثوه عن آبائهم من عرف وأحكام،وما قرروا السير عليه من قوانين القبيلة في تنظيم حقوق القبيلة والأفراد، وما يقرره عقلائهم من القرارات لا تغير،ولا تبدل إلا للضرورة وبقرار يصدره أصحاب العقل والبصيرة والرأي والسن فيها. ولا يزال العمل بها حتى اليوم. ويقال لها "السانية" في اصطلاح قبائل العراق.
وأقصد ب "الدين" ما كان يدين به أكثر الجاهليين من شريعة التعبد للاوثان والتقرب للاصنام، فقد وضع سدنة المعابد والكهان أحكاما لأتباعهم على انها أحكام ملزمة يكون مخالفها في حكم المخالف للعرف. وهي بالطبع أقوى وأظهر عند أهل الحضر، لمباعدة محيطهم على ظهور الشعور الديني الجماعي فيه، عكس محيط البداوة الذي تباعد فيه أهله، وتبعثرت بيوته، فلم يساعد على ظهور هذا الشعور الديني الجماعي فيه.
وبين الجاهليين يهود ونصارى، مهما قيل في يهوديتهم أو نصرانيتهم من العمق أو الضحالة، فإنه لا بد أن يكون لديانتهم دخل في تنظيم حياتهم وفي أحكام مجتمعاتهم ولا سيما فيما يخص قوانين الأحوال الشخصية المقررة في الديانتين.

(1/2996)


--------------------------------------------------------------------------------

وأقصد بأوامر أولي الأمر، أوامر أصحاب الحل والعقد من ملوك وسادات قبائل ورؤساء "الملا" و "الندوة". فقد كانت أوامرهم أحكاما تتبع في زمني السلم والحرب. وهم مشرعون ومنفذون: وقد صارت قوانين متبعة. وأشير إلى بعض منها في الموارد الإسلامية.
وقد وصلت الينا أوامر ملكية قتبانية في تنظيم الجباية والتجارة، كما وصلت كتابات فيها تشريعات تخص النواحي القانونية سأتحدث عنها في المواضع المناسبة.
أما أحكام ذوي الرأي فأريد بها أحكام فقهاء الجاهلية الذين عرفوا بالأصالة في الرأي وبالمقدرة في استنباط الأحكام المناسبة في فض المنازعات والخصومات. ولا أريد بتعبير "فقهاء الجاهلية"، طبقة خاصة من علماء الفقه أي القانون، على نمط علماء الفقه عند الرومان أو اليونان أو فقهاء الإسلام،تخصصت بالفقه وبشرائع الجاهليين، وإنما أقصد بهم أولئك الذين طلب اليهم أن يكونوا حكما بين الناس، لوجود صفات خاصة بهم جعلتهم أهلا للقضاء والحكم فيما يشجر بينهم من خلاف. وهم سادات القبائل واشرافها والكهان.
وفي فقه الجاهلية أحكام كثيرة، وضعها مشرعون محترمون عند قومهم، وجرت عندهم مجرى القوانين - وقد نص أهل الأخبار عليها كما نصوا على أسماء قائليها. وقد ذكروا بين تلك الأحكام أحكاما أقرها وثبتها الإسلام. من ذلك حكمهم في "الخنثى" " وهو حكم حكم به "عامر بن الظرب إلعدواني"، و "ذرب بن حوط بن عبد الله بن أبي حارثة بن حي الطائي"، وقد أقر الإسلام حكمهما، ومثل حكم "ذي المجاسد" وهو "عامر بن جشم بن غنم لبن حبيب" في توريث البنات. فقد كانت العرب مصفقة على توريث ألبنين دون البنات، فورث ذو المجاسد، وهو الذي قرر ان للذكر مثل حظ الأنثيين.
وقد وافق حكمه حكم الإسلام.

(1/2997)


--------------------------------------------------------------------------------

إننا لم نسمع حتى الآن بوجود مفتين،أي فقهاء كلفوا إبداء آراء في معضلات تقع فتعرض، عليهم لايجاد حلول ومخارج قانونية لها. ولم نسمع أيضا بوجود حكام كلفوا رسميا من الدولة القضاء بين الناس، ولا أستبعد العثور في المستقبل على كتابات في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية قد تكشف النقاب عن وجود مثل هذه الوظائف هناك، وذلك لأن الحكومات التي ظهرت فيها كانت حكومات منظمة، لها شرائع، ولها صلات مع العالم الخارجي، فلا يستبعد تعيينها أناسا عرفوا بالكياسة وبالرأي السديد وبالعلم في الفقه للحكم بين الناس ولوضع القوانين التي تحتاج اليها الحكومة.
إن عدم تدوين الجاهليين لفقههم، أو عدم وصول شيء مدون منه الينا، لا يكون دليلا على عدم وجود فقه لديهم أو على عدم وجود منطق فقهي لديهم أو يكون دليلا على سذاجة فقهم وبداءته، فإن انعدام التدوين لا يكون دليلا على عدم وجود رأي فقهي عند قوم، فقد كان أهل "لقدمونبا" مثلا وهم من اليونان "يميلون الى الاعتماد على ذاكرتهم يستحفظونها من الأنظمة ما يعتدونه قوانين واجبة المراعاة "، عكس أهل "أثينة" الذبن كانوا ضدهم، فإنهم كانوا يدونون القوانين ويكتبونها للرجوع اليها. وقد أخذت أحكام "لقدمونيا" الشفوية في التشريع بنظر الاعتبار واعتبرت في المدونات القانونية.
ولا بد أن يكون بين الجاهليين "تعامل" و "عرف" متبع في أمور عديدة من أمور الحياة التي عاشوا فيها في مثل حقوق مرور القوافل من مناطق نفوذ القبائل، وحقوق الجباية عن الأموال المستوردة أو المصدرة وفي موضوع العقوبات وما شاكل ذلك.
وقد ذكرت بأن العلماء قد عثروا على بعض كتابات هي أوامر ملكية في الجباية، فلا يستبعد عثورهم في المستقبل على ألواح ومدونات في الفقه.

(1/2998)


--------------------------------------------------------------------------------

ومكان مثل مكة اشتهر أهله بالحذق في التجارة وبثراء بعضهم ثراء كبيرا، وبتعاملهم مع الشرق والغرب،مع الساسانيين ومع البيزنطيين ومع اليمن، وباكتنازهم الذهب والفضة، وبعقدهم العقود وبوجود الكتاب بينهم، وبوجود الرقيق الأبيض عندهم، من ذلك النوع الذي يقرأ ويكتب والذي له وقوف على كتب الأولين، إن مكانا مثل هذا لا يمكن أن يكون بلا فقه وبلا قوانين ومحاكم يتحاكمون بها.
وكيف يكون ذلك فقد خاطب الله رسوله بقوله: ) يستفتونك في النساء، قل: الله يفتيكم فيهن "، و "يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة "و "لا تستفت فيهم منهم أحدا"، وغير ذلك من مواضع فيها معنى الإفتاء. وقد ذكر العلماء أن "الكلالة" اسم لما عدا الولد والوالد من الورثة، وأن رسول الله سئل عن الكلالة فقال:من مات وليس له ولد ولا والد. وأن بعض العلماء فسر الكلالة بأنها مصدر يجمع الوارث والموروث جميعا. وقوم يستفتون في المواريث ويستفتون في النساء هل يعقل ألا يكون لهم فقه وقوانين.
وفي القرآن آيات مثل:" وقضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون "، و " فاقض ما أنت قاض"، و " لولا كلمة الفصل لقضي بينهم " و" فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون"، وايات أخرى تشير الى وجود فكرة القضاء بين الناس، والى الحكم بينهم بالقسط. فهل كان الله يخاطب قوما بهذه الايات لو كان المخاطبون قوما يجهلون العدل، ولا يفقهون شيئا عن القضاء? اللهم لا.

(1/2999)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي القران الكريم. "يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه. وليكتب بينكم كاتب بالعدل، ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا. فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليته بالعدل، واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر احداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسئموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله، ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم، فليس عليكم جناح الا تكتبوها واشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهبد وان تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم. وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن آمن بعضكم بعضا فليؤد الذي أوتمن أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قبله والله بما تعملون عليم ". وهي في تنظيم الدين والتداين وفي الشهادة على الدين وفي شادات الشهود. في الرهان وهي كلها من صميم عمل قريش. ولا بد وأن يكون لقريش أحكام في تنظيم الأعمال التجارية من بيوع وشراء وعقود مشاركات وأمثال ذلك ولو مقياس يناسب تجارة مكة في ذلك العهد.
ولا أستبعد أن تكون لأهل يثرب أحكام وقوانين في تنظيم الزراعة وفي كيفية التعامل فيما بينهم وفي الربا وبينهم قوم من يهود، وقد كانوا يتاجرون ويشتغلون بالحرف وبالربا، لأن مجتمعها مجتمع منظم لا بد أن تكون له قوانين وفقه ضابط للمعاملات.

(1/3000)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذهب المستشرق "كولدتزيهر" إلى أن الإسلام قد أقر بعض فقه الجاهليين وأحكامهم، مما لم يتعارض مع مبادىء الإسلام. فأخذ -على رأيه - من قوانين أهل مكة أحكامها وأخذ من فقه أهل المدينة، وهو في نظره أقل تطورا من فقه أهل مكة، ولذلك فإن فقه أهل الحجاز كان من جملة المنابع التي عرف منها الفقه الإسلامي.
وأنا لا أتوقع احتمال عثور العلماء على شريعة أو شرائع في القانون عم تطبيقها بلاد العرب كلها، ولا أؤمل عثورهم على مدونة تشبه "مدونة جوستنيان" في القوانين وضعت لتطبق على كل الجاهليين، ذلك لأن ظهور قوانين عامة منظمة ومركزة ومبوبة، يستدعي وجود حكومة منظمة ذات سلطان مطاع، يشمل سلطانها كل بلاد العرب، ووجود شعب واحد يشعر بتبعيته تجاه حكومته، أو وجود شعور بخوف تجاه تلك السلطة يضطر الناس إلى العمل وفق أحكامها وما تصدره من أوامر،وذلك على نحو ما نراه في الانبراطورية الرومانية والامبراطورية البيزنطية ونحوهما. وإذ كان ما تحدثنا عنه غير موجود ولا معروف في بلاد العرب، لم تظهر قوانين عامة تشمل أحكامها كل العرب. وكل ما ظهر انما هو قوانين خاصة طبقت في حدود مناطق الدولة أو القبيلة أو القرية أو الحلف.
ولما كانت القوانين والشرائع من نبات المحيط، ومحيط جزيرة العرب محيط قبائلي مجتمعاته صغيرة متناثرة متباعدة ومشكلاته محصورة في ضمن إطار حياتهم، فإن المعضلات القانونية عندهم تكاد تكون معدودة نابعة من ظروف جزيرة العرب في الغالب، ومعالجاتها وأحكامها نابعة أيضا من هذه الظروف نفسها، فهي وفق معيشة الجاهليين وأحوالهم الدينية والاجتماعية والاقتصادية والزراعية، ولا يمكن أن نجد فيها ما نراه في قوانين اليونان والرومان من تصنيف وتبويب وتعقيد لاختلاف الحياة وتباين المحيط ونوع الحكم.
العدل.

(1/3001)


--------------------------------------------------------------------------------

الغاية من وضع الأحكام وأمر المجتمع بتطبيق ما جاء فيها، هي ضبط ذلك المجتمع ومنع أفراده من تجاوز بعضهم على حقوق بعض آخر وسلبهم ما يملكون، وذلك لاشاعة "العدل" ورفع الاعتداء الذي هو "الظلم" وهو نقيض العدل. فمن أجل تحقيق "العدالة" سنت الشرائع والأحكام. والعدالة هي المساواة وعدم الانحياز.
وقد نصت شرائع الجاهليين على وجوب تحقيق العدالة بإعطاء كل ذي حق حقه وانصافه. غير ان فكرة "العدالة" تختلف بين البشر باختلاف الأوضاع والازمنة. فقد يكون حكم عدلا عند قوم، ويكون باطلا أي ظالما عند قوم آخرين. وقد يكون عدلا في زمان ويكون باطلا في زمان اخر، لان الظروف التي استوجبتا ضيار الحق حقا والعدل عدلا، تغيرت فتبدلت، فأبطلته أو صار ظلما في نظر الناس. ومن هنا أبطل الإسلام بعض أحكام الجاهلية، وهذب بعضا منها، وأقر بعضا آخر، وذلك لتغير الظروف بمجيء الإسلام وتغير النظر ان أصول العدالة.
لقد صيرت المعيشة القبلية الني عاش فيها اكثر العرب في الجاهلية مفهوم "العدل" أو "الحق" عندهم بصورة تختلف عن مفهومنا نحن للحق والعدل، فالعدالة عندهم لم تكن تتحقق وتؤخذ إلا بالقوة، لذلك أثرت "القوة" تأثيرا كبيرا في تحديد مفهوم "العدل" و "الحق"، فلكي ينال الإنسان حقه كان عليه ان يجاهد بنفسه وبذوي قرابته وعشيرته للحصول على مما يدعيه من حق ويثبته. وهو لا يحصل عليه في الغالب إلا بتهديد ووعيد وبوساطة أو باستعمال للقوة. وضخامة البيت او العشيرة أو للقبيلة، هي من جملة مسببات الحصول على الحق بفرضه فرضا، لذلك صارت القوة هي معيار الحق والعدل، وصار القوي المنيع هو صاحب الحق في الغالب.

(1/3002)


--------------------------------------------------------------------------------

ولما كان الرجل أقوى من المرأة، وقد منح نفسه حق سن الأحكام، صار الحق في الجاهلية في جانبه، فرفع نفسه عنها في أكثر الأحكام، وحرمها الميراث حتى لا يذهب الإرث الى غريب، و قايضها بديونه أو بجناية تقع منه كما في "فصل الدم" وفي زواج البدل وفي منع المرأة من الزواج إلا من قريبها لوجود حق الدم عليها " وفي منع زواج زوجات الاباء.إلا برضى ابناء الأب وذوي قرابته، لأنه أحق بالزواج منها، وغير ذلك من أمور، جعل المرأة عرضا وملكا، حتى حرم الإسلام كثيرا من هذه السنن الجاهلية التي لم يكن الجاهليون يرون أنها تنافي مبدأ العدالة، لأن ظروفهم الاجتماعية لم تكن توحي اليهم أن اعتبار المرأة دون الرجل في الحقوق شيئا منافيا للحق والعدل، فقد وجدوا أن الطبيعة خلقتها دونهم في القوة، فجعلوها من ثم دونهم في الحقوق، ولم يسن امامها بالطبع غير الاستسلام.
فالحق هو القوة، والعدل هو القوة، ولن ينال امرؤ حقه إلا إذا كان مالكا لذلك الحق وهو القوة على تحصيل الحق. وبهذا الحكم للحق، حرم المرأة من ميراثها كما ذكرت، كما حرم من هو دون سن البلوغ، ومن لا يستطيع القتال من هذا الحق أيضا. فلم يحرم القانون الجاهلي المرأة وحدها ودون غيرها من الإرث، لمجرد انها امرأة، بل حرم الأولاد منه ايضا ما داموا دون سن القتال. فقد وجد المشرع الجاهلي ان من الحيف اعطاء الطفل إرثا، وهو طفل لا يستطيع الطعن بالرمح ولا الضرب بالسيف، لذلك حرمه منه ما دام طفلا، وحرم الكبار منه ما داموا لا يستطيعون الطعن ولا الضرب بالسيف والذب عن الحق. ولا سيما عن حق الأهل والقبيلة،الذي هو الحق العام. لذلك حرم المعتوه ايضا من حق الإرث، لأنه معتوه لا يستطيع حمل السيف والدفاع عن الحق.

(1/3003)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن هذه النظرة اخذوا مبدأ تفاوت الحقوق ت بأن جعلوا تقدير الحق على اساس درجات الإنسان ومكانته، ومنزلة القبيلة ومكانتها، فدية الملك مثلا" أعلى من دية سيد القبيلة، ودية سيد القبيلة فوق ديات الآخرين، وهكذا على حسب الدرجات، ودية سيد قبيلة قوية هي أكثر من دية سيد قبيلة ضعيفة، ودية رجل من سواد قبيلة قوية هي ضعف دية رجل من درجته ومنزلته في قبيلة ضعيفة، وسبب هذا التباين في الحق هو أن مفهوم الحق عند الجاهليين كان يقوم على أساس الاعتبارين المذكورين:كمكانة المرء ودرجة القبيلة، ولا يقتصر اصل تفاوت الحق هذا على "الديات" اي على التعويض عن الضرر فقط، بل اقر التشريع الجاهلي رأي "التفاوت في الحق" في كل الحقوق الأخرى، مثل حقوق الغنائم الني يحصل عليها المنتصرون من الغزو أو الحرب. فأعطت الملك حقوقا خاصة في الغنائم، ووضعت لسادات القبائل أنصبة معينة فيما يقع في ايدي افراد القبيلة من غنائم، بان جعلت لهم: النشيطة وهي ما اصيب من الغنيمة قبل ان يصير الى مجتمع الحي، والصفايا وهي ما يصطفيه الرئيس، والفضول وهو ما عجز ان يقسم لقلته فيخصص بسيد القبيلة، والمرباع وهو حق سيد القبيلة في أخذ ربع الغنائم. وقد جمعت هذه الحقوق في هذا البيت: لك المرباع منا وألصفايا وحكمك والنشيطة والفضول
وأعطى التشريع الجاهلي الملوك وسادات القبائل والأشراف حق "الحمى"، لا يشاركهم فيه مشارك ولا يرعاه احد غيرهم. بل يكون صاحب الحمى شريك القوم في سائر المراتع حوله.
واخذت شرائع الجاهليين بمبدأ ان الإنسان: إما حر وإما عبد اي رقيق مملوك، والرقيق هو ملك سيده، ولذلك، فإن ما يكون له أو ما يكون عليه يختلف في القوانين عما يكون للاحرار من حقوق وأحكام.

(1/3004)

admin
01-01-2011, 01:21 AM
وهو مبدأ لم يكن خاصا بالجاهليين وحدهم، ولكن كان عاما في ذلك الزمن اخذت به جميع الأمم. وقد نص عليه في القوانين الرومانية واليونانية وفي الشريعة اليهودية. والعبد، هو كما قلت ملك صاحبه، وهو "ملك يمين"، إلا ان يمن عليه بالحرية، فيكون حرا. أما إذا بقي عبدا في ملك صاحبه، فإن نسله يكونون ****ا بالولادة ايضا. والعبدة، اي المملوكة تكون ملكا لسيدها،يتصرف بها كما يشاء. ومن حقه الاتصال بها دون حاجة إلى عقد زواج، لأنها ملك، والمالك يتصرف بملكه على نحو ما يحب.
ويعبر عن "الحر" ب "حرم" أي "حر" في اللهجات العربية الجنوبية، أما الرقيق، فقد عبر عنهم ب "ادم"، أو "اوادم" بالمصعطلح العراقي، وب "عبدم"، اي "عبد". ويقال لعبدة "امت"، اي "أمة". فالأمة هي الأنثى المملوكة في تلك اللهجات.
وقد اشير إلى هذا التقسيم الطبقي في النصوص التشريعية التي اصدرها حكام العربية الجنوبية، وذلك بأن نص فيها على ان تلك الأحكام تطبق على الأحرار وعلى ال****، أو على الأحرار دون ال****، أو على ال**** دون الأحرار، والنص على ذلك فيها امر ضروري لتوضيح الحقوق والالتزامات بالنسبة إلى مجتمع ذلك الوقت، ولتعرف بذلك الواجبات المفروضة على كل فرد من أفراده.
والعبودية حسب القوانين وراثية، فابن العبد عبد، وابنة العبدة عبدة،وهكذا تنتقل العبودية بالوراثة في الأجيال دون انقطاع، ولن يقطعها ويقضي عليها إلا تنازل مالك العبد عن عبده وممن يتبعه من نسله تنازلا شرعيا بإعلان يعلن عن ذلك وبكتاب يكتب في بعض الأحيان. وسبب ذلك ان العبد ملك يمين، وملك اليمين مثل كل ملك. والملك حق مقدس للفرد لايجوز الاعتداء عليه.

(1/3005)


--------------------------------------------------------------------------------

والحر قد يصير عبدا، ولو ولد حر الرقبة. فإذا أفلس رجل، ولم يتمكن من الوفاء بما عليه من دين عليه تأديته لدائنيه، واذا وقع في سباء أو أسر، صار عبدا. إلا إذا قبل الدائن اعفاءه من ديونه، أو من " آسره عليه، فرده الى اهله أو دفع فدية عن نفسه، كما سأتحدث عن ذلك فيما جد.
وأخذ التشريع الجاهلي بمبدأ ان ما يطبق على افراد القبيلة من قوانين واحكام يكون خاصا بالقبيلة.اما مما يطبق على الأشخاص الذين يكونون من قبيلتين مختلفتين أو من قبائل عديدة فإنه يكون خاضعا للعرف، المقرر بين القبائل، فهو قريب مما يسمى بالقوانين الدولية في الزمن الحاضر. اما القوانين التي تطبق في القبيلة، فإنها تشبه قوانين الدولة الواحدة. فالشخص إذا ما ارتكب عملا مخالفا داخل حدود قبيلته اي مع افراد القبيلة، عومل وفق أحكام القبيلة. أما إذا ارتكبها مع شخص من قبيلة أخرى، عومل وفق العرف القبلي، لا وفق عرف القبيلة.
المسؤولية "التبعة": الأصل في المسؤولية وفي الحق هو: كل امرىء وما عمله، اي إن الفاعل الذي يقع منه فعل يكون هو المسؤول عن فعله. هذا هو الأصل في المسؤولية إلا أن التشريع الجاهلي أخذ أيضا بمبدأ انتقال المسؤولية من الفاعل إلى ذوي قرابته الادنين، ثم الأبعدين، فالعشيرة أو القبيلة في حالة عدم التمكن من القصاص أي من اخذ الحق من الفاعل. وذلك بقانون العصبية. فالجماعة التي هي "القبيلة" تكون مسؤولة بعرف العصبية في النهاية عن كل عمل يقوم به احد أفرادها لارتباطها ب "العصبية" وعلى كل افرادها تحمل مسؤولية أي فرد من افرادها وضمان أداء ما يقع عليه من حق في حالة امتناعه، أو عدم تمكنه هو أو ذوي قرابته من تنفيذ أداء الحق.

(1/3006)


--------------------------------------------------------------------------------

فالقاتل مثلا إذا لم يسلم للاقتصاص منه يقتله، أو لم يتمكن اهل القتيل من قتله، انتقل حق اهل القتيل إلى قتل اقرب الناس اليه ثم الأبعد وهكذا، أخذا بثأر القتل. ويؤدي ذلك إلى التوسع في القتل في الغالب، مع عدم سقوط حق ذوي القتيل في البحث عن القاتل لقتله، لأن الأصل في كل جريمة هو الفاعل الأصل. وفي الديات، تؤخذ من اهل القاتل في الأصل، فإن لم يتمكنوا فمن ذوي قرابتهم الأدنين ثم الأقرباء الأبعدين على العصبات حتى تصل إلى حدود العشيرة أو القبيلة بقانون العصبية، فيوزع مقدار الدية على أفراد القبيلة كل على حسب مركزه، وهي تعقل بذلك عن أبنائها، ويحمل أفرادها بقدر ما يطيقون. ويقال لذلك "المعاقلة".
وقد ذكر ان العقل: الدية، سميت عقلا" لأن الدية كانت عند العرب في الجاهلية إبلا لأنها كانت أموالهم. فسميت الدية عقلا، لأن القاتل كان يكلف ان يسوق الدية إلى فناء ورثة المقتول، فيعقلها بالعقل، ويسلمها إلى أوليائه. وقد جرت عادة الجاهليين ان اهل القرية لا يعقلون عن اهل البادية ولا اهل البادية عن اهل القرية، فكل طبقة ملزمة بالعقل عن طبقتها.
وقد ورد في نص قانوني مدون بالمسند ان الجماعة تكون مسؤولة عن أية جريمة تقع في حماها إذا لم يعرف الجاني، أو إذا لم يسلم الى الحاكم. ومعنى هذا لزوم إسهام "الجماعة" في البحث عن المجرمين للاقتصاص منهم،وإلا اعتبرت مسؤولة عن الضرر الذي وقع بفعل الجاني. فإذا وقع قتل في مكان ما ولم يعرف القاتل أو لم يسلم إلى الحاكم، أمهله اهله أربعة ايام للبحث عنه ولتسليمه، فإن لم يسلم يصادر حصاد الجماعة أو يصادر ما عندهم من مال، ويودع في خزانة الحكومة أو المعبد رهنا، إلى صدور حكم الملك أو الحاكم بالقضية.

(1/3007)


--------------------------------------------------------------------------------

وغاية المشرع من وضع هذا القانون هو إشراك الجماعة مع الحكومة في تعقب المجرمين والقبض عليهم، ثم التعويض على أهل القتيل بدفع الدية، اي ثمن الضرر الذي لحق بهم في حالة عدم التمكن من الوصول إلى القاتل لأخذ حق الدم منه.
وتكون الطوائف مسؤولة كذلك عما يلحق أفرادها من أضرار، فإذا مات شخص في اثناء قيامه بعمل كلف إياه أو اصيب بضرر في اثناء أدائه ذلك العمل، وكان ذلك الرجل معدما، فعلى طائفته دفع تعويض عما أصابه يوضع في خزانة المعبد.
سقوط المسؤولية
ولا تسقط مسؤولية الأهل عن جرائم ابنائهم، ولا مسؤولية القبيلة عن افعال افرادها إلا إذا اسقطت "العصبية" عنهم. على أن يعلن عن إسقاطها في الأماكن العامة وبصورة صحيحة شرعية. ليكون ذلك معروفا بين الناس. وإلا بقيت المسؤولية قائمة في رقبة من تقع عليهم. ومتى "خلع" الخليع واشهد الشهود على خلعه صار أقرباؤه واهل قبيلته في حل منه.، ليس لهم تلبية ندائه واستغاثته وإلا تحملوا وزره من جديد.
ومتى خلع الإنسان سقطت عندئذ مسؤوليات عمله عن اهله واقربائه، وحصرت به وحده. وعليه ان يحمي نفسه بنفسه، وان يدافع عن جرائره بيده. ويقال لهذا الإنسان "الخليع". فإذا قتل لا يسأل اي احد من قومه عن عمله. وإذا قتل ذهب دمه هدرا. ولهذا قاسى الخليع حياة قاسية شديدة تنتهي بهلاكه في الغالب نتيجة خروجه على أنظمة قومه وقوانينهم. اللهم إلا إذا تاب ورجع عن غيه ووجد من يؤويه ويحميه. من اهله أو غيرهم،يحتمل ما قد يقع في المستقبل منه، ويدفع فداء ما وقع منه واصلاح ما احدثه من أضرار.
وإذا وجد "الخليع" من يكفله وينعم عليه بحق الجوار انتقلت مسؤولية عمله إلى من من عليه بجواره، وعلى المجير عندئذ تحمل كل تبعة تصدر من ذلك الخليع، ما دام يتحمل حق الدفاع عنه وحمايته.
إزالة الضرر

(1/3008)


--------------------------------------------------------------------------------

إزالة الضرر، حق عام من حقول الحقوق في القانون يشمل إزالة كل ضرر يلحق بشخص من تعد يقع على ملكه أو ظلم يلحق به، أو من اعتداء حيوان يصير عليه أو على ملكه. إلى غير ذلك من أضرار متعمدة أو غير متعمدة تلحق بمضرور. وقد قررت سنة الجاهليين إزالة الضرر وتعويض المتضرر. كما قررت ذلك كل القوانين والأديان للشعوب الأخرى. لأن الضرر ظلم، والظلم يجب أن يزال.
والضرر المتعمد، هو الضرر الذي يقع من شخص مسؤول عن تصرفاته، اي من انسان عاقل مالك لزمام نفسه، تعمد إلحاق ضرر بشخص آخر، أما الضرر الغير المتعمد فهو الضرر الذي يقع من مثل هذا الشخص من دون تعمد ولا قصد أو غاية. فضرره أخف من الضرر الأول، لأن عنصر الجريمة غير موجودة فيه. ويدخل في الضرر العمد، كل ضرر يأمر به انسان حر أتباعه من امثال النساء والأطفال والرقيق والحيوان إلحاقه عمدا بشخص آخر، فعنصر الجريمة متوفر في أفعال هؤلاء. ولما كان هؤلاء تبع، فتقع مسؤولية فعلهم على سيدهم بالدرجة الأولى، لأنه هو المسؤول شرعا عنهم، بحكم ولايته لهم، وتبعيتهم له.
كما يكون مسؤولا أيضا عن كل ضرر يقع عنهم من غير عمد للسبب المذكور. ولا تسقط العقوبة عن التبع ايضا. فقد فرضت شرائع الجاهليين عقوبات على التبع لما يقع منه من ضرر متعمدا اوعن خطأ.

(1/3009)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن قبيل الضرر الخطأ، إهمال السيطرة على الماء كإغفال أمر السدود، فإذا سال الماء إلى أرض أخرى فألحق ضررا بها وجب على صاحبه دفع تعويض عن الضرر الذي ألحقه الماء بالمالك صاحب الأرض المتضررة. ومن هذا القبيل أيضا سقوط بناء أو حائط على شخص، وسقوط عامل يشتغل أجيرا لصاحب بناء، فيجب في مثل هذه الأحوال إزالة الأضرار الني تقع بدفع تعويض لمن وقع الضرر عليه أو لمن يعيله أو يرثه في حالة الوفاة. ويزال الضرر الذي قد يقع في البيوع وفي الشراء بسبب غش وخداع أو مخالفة لوصف. فإذا باع بائع شيئا ثم تبين أن في المباع عيبا لم ينبه البائع المشتري عليه ولم يخبره به مع علمه به، فمن حق المشتري ارجاع المباع إن أراد، لوجود ذلك العيب فيه، وللمشتري حق المطالبة بإزالة الضرر عنه بتعويضه عن ضرره إن شاء ذلك. ومن هذا القبيل إزالة الضرر عن الجار إذا وقع تعد عليه بالتجاوز على أرضه أو بإيذائه أو بالانتفاع بملكه بصورة تؤذي ملك جاره أو تقلق راحته. فيجب في مثل هذه الأحوال إزالة الضرر وتعويضه عن الخسائر التي نجمت عنه.
الولاية -
والولي هو من يتولى أمر غيره، ويكون وليا شرعيا عليه. فالأب هو ولي أمر أبنائه، لأنه هو المسؤول الطبيعي عنهم. والجد هو ولي أمر أحفاده في حالة وفاة ابنه أو غيابه والأعمام أولياء أمور أولاد الاخوة في حالة غيابهم أو وفاتهم، والأخ الأكبر البالغ هو ولي أمر أخوته القصر. وهكذا حسب العصبات.

(1/3010)


--------------------------------------------------------------------------------

وتعلم الولاية للولي حق الاشراف على شؤون المولى عليهم. وللاب حق مطلق في الولاية على أبنائه. له أن يتصرف بهم كيف يشاء. حتى في حق الحياة، فيقدم ابنه قربانا للالهة إن نذر ذلك. والوأد مثل على ذلك. وكان من حق الأب رهن أولاده في مقابل دين له أو تنفيذ عهد عليه. ومن حقه تأديب أولاده على النحو الذي يريده. ويدخل في ضمن ذلك الضرب والطرد والخلع والحرمان من الإرث، وحق اختيار الزوج للبنت وأخذ مهر ابنته. وتلك حقوق أقرتها شرائع أكثر الأمم في ذلك العهد.
الملك والملك حق مقدس. معترف به في الجاهلية. فمن يملك شيئا، امتنع على غيره التصرف به، إلا باذن من مالكه وبتخويل منه، وإلا عد المتجاوز مغتصبا أو سارقا. ويعبر عن الملك والتملك بلفظة "قن" و "قنى" في العربية الجنوبية. وتؤدي لفظة "هقنى" و "سقنى" معنى "قنى" في عربيتنا، أي فعل ماض يؤدي معنى "امتلك". وأما "اقتنى"، فتعني الأملاك، وتعني لفظة "قنيت"، المقتنيات وألأملاك في كتابات الصفويين. وقد عبر بها عن معنى "رقيق" أي عبد، وذلك لأن العبد هو في حكم ملك يمين. وهناك لفظة أخرى في هذا المعنى أيضا، وهي لفظة "عسى"، فهي تعني امتلك وملك و اقتنى.
واذا اشترى أحدهم ملكا: أرضا أو عقارا أشار اليه وأعلن عنه وعن حدوده وعن أوصافه. وقد وصلت الينا كتابات عربية جنوبية عديدة هي عبارة عن وثائق تملك، أي "سندات تملك" "سندات طابو" في اصطلاح أهل العراق في الزمن الحاضر، حددت وأشارت إلى معالمه ومحتوياته بدقة. وقد استعملت بعض الألفاظ الدالة على الإعلان والإخبار للناس ليقفوا على ذلك، مثل لفظة "علم" ومعناها "أعلم" و "أعلن"، ليكون ذلك مفهوما، فلا يعذر من يريد التطاول على الملك، ولا يحتج بأنه لا يعلم عن مخالفته، لما جاء في الوثيقة المكتوبة التي توضع في محل بارز وفي واجهة الملك ليقرأها المارة.

(1/3011)


--------------------------------------------------------------------------------

ويعبر في بعض اللهجات العربية الجنوبية عن الأرض المستغلة للزراعة بلفظة "أرضت"، أي "أرض"، وبلفظة أخرى هي: "صربت" وذلك في اللهجة القتبانية، والجمع "صروب"، وتؤدي معنى أرض زراعية مملوكة.
والأموال هي ملك لصاحبها، وتقسم إلى اموال منقولة، وهي التي يمكن نقلها بتنقل الملك من صاحب المال، وأموال غير منقولة، وهي الأموال الثابتة. وهي مثل الأرض والدور وغير ذلك. وأما الأموال المنقولة، فمثل الإبل والخيل والمواشي والثياب وأدوات البيت. والغالب في المال عند الأعراب هو الإبل، ولذلك نجد أن تعاملهم كان بها. واذا ذكر المال، انصرف الذهن إلى الإبل، لأنها أعز ما يملكون. ولهذا قيم بها القيم، وعليها وضعت مقادير الديات والأفدية و المهور.
ولدينا اليوم نصوص تتعلق بتملك الأرض وبكيفية توزيعها وايجارها واستثمارها، وأوامر ملكية في تأييد وتثبيت قوانين سابقة بخصوص حقوق التملك، ومعنى ذلك اقرارها على ما كانت عليه. وهي تفيدنا - على قلتها - فائدة كبيرة في تكوين رأي عن حقوق الملك والتملك عند العرب الجنوبيين.

(1/3012)


--------------------------------------------------------------------------------

وكل إنسان حر عاقل، هو إنسان مالك لنفسه حر في تصرفه وفي ألتصرف في ماله، ولكنه معرض إلى فقدان حريته في الوقت نفسه،بموجب سلطان القانون. فالقانون الذي قدس الحرية الشخصية وحق الملكية وفي مقدمتها حق أن كل انسان حر، هو إنسان حر، أجاز في الوقت نفسه حق سلب هذا الحق وإبطاله، وتحويل الإنسان من إنسان حر، إلى إنسان مملوك، أي رقيق. فإذا وقع إنسان حر في سبي إنسان آخر، صار ملكا لمن سباه، وعلى المسبي ارضاء سابيه للمن عليه بفك أسره ومنحه الحرية. وذلك إما بالمن عليه منا دون مقابل وثمن، واما بشراء نفسه بفداء يقدمه الى سابيه يرضيه ويطمعه حتى يفك أسره، وإلا صار في ملكه وفي عداد مواليه، إلا إذا هرب، وفلت من تعقب آسره له، وتمكن من الوصول إلى وطنه. فيكون حرا اذ ذاك. ولأسر الأسير بالطبع حق بيعه وحق استخدامه، لأنه انسان رقيق. وقد أجاز ذلك القانون بيع المدين أيضا إذا لم يتمكن المدين من الوفاء بدينه، كما أجاز له حق بيع نفسه أو بيع من هم في رعايته وتربيته متى شاء. ومتى بيع الشخص فقد حريته،وصار في عداد الرقيق.
الملك ملك الآلهة
والملك ملك الآلهة وكل شيء على هذه الأرض، من مال وعقار هو ملك للالهة. للانسان حق الانتفاع به وانمائه لخيره في مقابل شكره لها وتأدية الفرائض التي فرضتها الآلهة عليه. ومنها دفع ضريبة حق الانتفاع عن هذا التملك إلى الجهات المسؤولة عن رعاية حقوق الآلهة، وهي المعابد ومن يتكلم باسمها وهم رجال الدين. وهذه النظرة إلى الملك التي نجدها عند العرب الجنوبيين، قريبة جدا من النظرة الإسلامية التي تلخص في ان المال مال الله، وان الملك ملك الله، وان الأرض ومن عليها أرض الله وان الناس ****ه.

(1/3013)


--------------------------------------------------------------------------------

أما ملك الإنسان فهو بتفويض من الآلهة وبتخويل شرعي منها. وذلك بالحق الشرعي الذي أمرت به. وبحق الانتقال الشرعي الذي أمرت الالهة به، بالإرث أو بالشراء أو بتنازل جهة مخولة شرعية عن حقها في ملكية ذلك الشيء اليه، وبما أشبه ذلك. فالملك عندئذ يكون ملكه، وهو حق مقدس له، لايجوز لأحد منازعته عليه ومطالبته به بغير حق ولا وجه شرعي. هو في ملكه وفي حيازته وله حق الانتفاع به. وتؤدي لفظة "جول" معنى ملك وتملك وحيازة وحق الانتفاع المطلق بالملك. فالملك هو ملك الإنسان من حيث الحيازة والتصرف والحق، أي من الناحية العملية، ولكنه ملك الآلهة، مالكة كل لشيء من حيث الوجهة النظرية و الأصل.
والملك حق مقدس أبدي، لا ينتقل من مالكه إلى غيره إلا بطرق شرعية وموافقة واختيار مثل بيعه أو اهدائه أو التنازل عنه ومما شابه ذلك، وهو ينتقل بطريق الإرث الشرعي إلى الورثة. لأن الآلهة أمرت بألإرث، وجعلت حماية حق الملك في رعايتها وحماها. ومن هذا القبيل ملكية المقابر. حيث يعد القبر ملكا خاصا بصاحبه وبمن أمر ونص على دفنه معه وهو في حياته فلا يجوز تغيير ملكيته ولا دفن أي غريب فيه ما لم يأذن أحد من المالكين بدفنه فيه. ولهذا وضعت تحت حماية الآلهة، وطلب منها أن تنزل العمى والعور والمرض وكل أنواع الأذى ممن يتطاول على حرمة المقابر،فيقبر غريبا فيها أو يغير من معالمها أو يزيل شاخص القبر المثبت فوق القبور. فالقبر أرض وقف حبست على أصحابه الشرعيين. وكما أن للوقف حرمة في الإسلام، فلا يجوز التطاول عليه، كذلك هو شأن القبرعند الرب الجاهلين من جنوبيين ومن نبط و صفويين ومن قوم ثمود ولحيانيين وغيرهم، لا يجوز مسه بأي سوء ولا أحداث أي تغيير في معالمه ولا أزالته لأنه ملك حبس على من أقامه وبناه واشترى أرضه أو أقامه في ملكه.

(1/3014)


--------------------------------------------------------------------------------

الحكام: ويعرف من يحكم بين الناس فيما يشجر بينهم من خلاف وخصومة ب "الحكم" و ب "الحاكم"، لأنه يحكم بالشيء، أي يقضي بأنه كذا، سواء ألزم أحدا به، أو لم يلزمه. والجمع "حكام". وما يصدره الحاكم من رأي وقرار هو "حكم"، لأنه يقضي بشيء على شيء. والمتنازعون "يحكمون" الحاكم، ليحكم بينهم. فهو "محكم" والجمع "محكمون" وإذا عرضت قضية على حاكم، فإنه "يحكم" فيها بما يراه. وإذا فرغ من النظر فيها وعمل رأيه، أصدر "حكمه" فيها.
وقد جاء في القرآن الكريم في موضوع التحكيم وحدوث الشقاق: "وان خفتم شقاق بينهما، فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلهما إن يريدا اصلاحا يوفق الله بينهما ". والعادة عند الجاهلية وفي العرف القبلي حتى اليوم، انتخاب كل طرف من الطرفين المتخاصمين "حكما" أو "جملة محكمين" يرضى الطرفان عنهم ويثقان بنزاهتهم وبعدلهم وبعدم انحيازهم إلى أحد الطرفين، فتعرض عليهم،القضية للفصل فيها. ويقال لذلك "التحكيم"، ولمن ينظرون فيه "المحكمون"، وتقابل كلمة "حكم" لفظة Arbitrator في الانكليزية.
وقد نعت الله ب "خير الحاكمين" و ب "أحكم الحاكمين" في القرآن. ورأى بعض العلماء وجود فرق بين "حكم" و "حاكم". فقال: "ويقال حاكم وحكام لمن يحكم بين الناس ". قال الله تعالى: " وتدلوا بها إلى الحكام" والحكم المتخصص بذلك، فهو أبلغ. قال الله تعالى: " أ فغير الله ابتغى حكما "، وقال عز وجل: "فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها". وإنما قال حكما ولم يقل حاكما تنبيها أن من شرط الحكمين أن يتوليا الحكم عليهم ولهم بحسب ما يستصوبانه من غير مراجعة لهم في تفضيل ذلك .
ومنهم من جعل "الحكم" الشخص الذي ينظر في العرف،و "الحاكم" الشخص الذي ينظر في القوانين، أي في مقابل "A just Ruler" في الانكليزية، ولكن هذا المفهوم متأخر، وليس من المؤكد إذا كان الجاهليون قد فرقوا بين الشخصين..

(1/3015)


--------------------------------------------------------------------------------

ويذكر علماء اللغة ان الحاكم انما سمي حاكما، لأنه يحكم بين الناس ويمنع الظالم من الظلم. وأصل الحكومة رد الرجل عن الظلم. والحكم القضاء بالعدل. وفي هذا المعنى قال النابغة: واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت إلى حمام سراع وارد الثمد
والمحاكمة المخاصمة إلى الحاكم. والحكمة: القضاة، لأنهم يقضون بين الناس ويفصلون في الأمر، ولذلك يقال: قضى الحاكم بكذا، أو قضى القاضي بكذا. وقد ورد: "القضاء عسر" في معنى الحكم. وقد استعملت لفظة "القضاء" في الإسلام في معنى "الحكم" بين الناس، واستعملت كلمة "القاضي" في مكان "الحاكم"، إذا أخذت "الحاكم" معنى خاصا في الإسلام. وليست لدينا فكرة واضحة عن مدى استعمال لفظتي "القضاء" و "القاضي" في الناحية الفقهية عند الجاهليين. غير اننا نجد في القرآن للكريم: "فاقض ما أنت قاض"، كما نجد أهل الأخبار يذكرون ان "عامر بن الظرب العدواني" اشتهر بين الجاهليين ب "حاكم العرب" وب " قاضي العرب ". واذا صح ان الجاهليين أطلقوا حقا عليه اللقب الثاني، فتكون كلمة "قاضي" في معنى "حاكم" عندهم، و انها كانت مستعملة عندهم بهذا المعنى.
ورب العائلة وسيدها هو القاضي بينها والحاكم الذي له حق الحكم فيما يقع بين أفراد العائلة التابعين له من خلاف. فإذا وقع خلاف بين عائلة ما،هرع المتخاصمون إلى وجيههم وسيدهم المطاع فيهم، يعرضون عليه ما وقع بينهم، ويرجون منه ان يكون حكما بينهم، يحسم ما حدث. وبعد أن يستمع إلى حجج الطرفين ويسمع بنفسه ما قد يقوله الناس في الموضوع، يكون رأيه، ويصدر حكمه. في الموضوع. وعلى المتخاصمن إطاعة قراره، لأن الخروج عليه وعدم الامتثال له، معناه إهانته والغض من شأنه، ولهذا فهو لن يسكت عن ذلك، ولن يرض أتباعه ومن أقر له بالرئاسة والزعامة بوقوع مثل هذه الإهانة.

(1/3016)


--------------------------------------------------------------------------------

و اذا وقع خلاف بين عوائل من عشيرة واحدة أو من قبيلة واحدة، اجتمع وجوه هذه العوائل لحله ولإصدار حكمهم بشأنه. وقد يتفقون على تعيين حكم غريب محايد لا صلة له بالطرفين المتخاصمين، وذلك فيما إذا كان الخلاف حادا أو كان مما يتناول أمورا تلعب العواطف والعوامل النفسية دورا بحلها. وينطبق ذلك على الخصومات التي تقع بين القبائل القريبة أو البعيدة، حيث يترك أمر النظر في الخصومات إلى المحكمين المختارين من الأطراف المتنازعة نفسها، أو من فريق محايد آخر لا علاقة له " ولا صلة بذلك الخلاف. ويكون اختيار المحكمين بموافقة الفريقين المتنازعين عليهم وبرضاء تام منهم به وبحكمه. فإذا وافق الطرفان المتخاصمان على اختيار الحاكم أو المحكم ورافق الحاكم أو المحكمون على النظر في الدعوى، عينوا موضعا ووقتا للنظر في القضية ولسماع البينات، ثم لإصدار الحكم بعد الوقوف على حجج الخصماء.
وقد أسهم "الكهان" وهم رجال الدين عند الجاهليين في تطوير التشريع الجاهلي وفي القضاء بين الناس، فقد كانوا حكاما يحكمون ويقضون فيما يقع بين الناس من خصامات. وقد ساعدت منازلهم ولا شك في القضاء، نظرا لسمو مننزلتهم، ولكونهم ألسنة الآلهة على اللأرض. وقد كان سلطانهم بن أهل القرى أوسع وأقوى منه بين أهل الوبر. ولا يستبعد لذلك أن يكون حكمهم بين أهل الحضر أ كثر وأقوى من حكمهم بين أهل البادية، ففي البادية كان الحكم في أيدي سادات القبائل وأشرافها في الغالب، ولما كانت المعابد هي مواضع تجمع الكهان وممارستهم أعمالهم فأن من الجائز لنا ان نعد تلك المعابد محاكم من محاكم الجاهليين إذ ذاك.

(1/3017)


--------------------------------------------------------------------------------

وتذكر كتب أهل الأخبار أن أحكام بعض هؤلاء الحكام خلدت بين الناس وصارت متبعة عندهم،كالقوانين، وأن قومهم ساروا عليها إلى أن جاء الإسلام. وذلك يدل على مكانة الحكم في نفوس الجاهليين ومدى احترامهم له، وأن الحكام كانوا عند الجاهليين بمثابة سلطة تشريعية تضع للناس الأحكام والقوانين وقد ذكرت أمثلة من بعض تلك الأحكام التي صارت قانونا للناس ساروا عليه. ونحن نأسف على أنها لم تأت بأمثلة كثيرة منها تقفنا على نواحي التشربع ومنطقه وفلسفته عند الجاهليين.
ولم يقتصر حكم هؤلاء وغيرهم على الفصل في الخصومات والمنازعات بسبب حوادث قتل أو سلب ونهب واعتداء على عرض أو سرقة أو ما شابه ذلك، بل شمل حكم التحكيم في أمور أخرى مهمة كان خطرها في ذلك العهد أعظم وأشد من خطر هذه الأمور المذكورة، مثل الحكم في التفاخر بالأنساب والاياء والأجداد والحكم في شعر الشعراء، وفي الآعتداء على الجوار والمنافرات، و أمثال ذلك من قضايا كان لها وزن كبير في المجتمع.
ومن أشهر المنافرات التي ذكرها أهل الأخبار، المنافرة المعروفة:- "منافرة عامر بن الطفيل مع علقمة بن علاثة" عند هرم بن قطبة بن سنان الفزاري، ومنافرة بني هلال وبني فزارة، ومنافرة الفقعسي وضمرة، ومنافرة جرير البجلي وخالد بن أرطاة الكلبي، وغيرها. وقد أثارت بعض المنافرات حروبا بين المتنافرين كما كان بين الحكام أناس عقلاء تمكنوا بحكمتهم وبعقولهم من تهدئة الحال واحلال السلم بين المتخاصمين.
ولم يفرق الجاهليون بين الرجل والمرأة في الاحتكام، بل كانوا يحتكمون إلى المرأة أيضا. يقبلون حكمها قبولهم لحكم الحكم الرجل. وقد ذكرت كتب الأخبار أسماء بعض حكيمات العرب مثل: ابنة الخس، وجمعة بنت حابس الإيادي، وصحر بنت لقمان،وخصيلة بنت عامر بن الظرب العدواني، وحذام بنت الريان.

(1/3018)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي كتب أهل الأخبار أقوال منسوبة الى هؤلاء، مسجعة على طريقة سجع الكهان ذكر ان أكثرها صارت مثلا " ولا يزال بعضها حيا، وبعضه ه من نوع الكلام المروي عن الحكماء. وهو يمثل الحكمة وتجارب الحياة في بساطة وبأسلوب يلائم الطبيعة السهلة التي عاش فيها الناس في ذلك العهد وفي ظروف في مثل ظروف جزيرة العرب.
قرع العصا
ونجد في كتب أهل الأخبار خبرا طريفا رووه بمناسبة كلامهم عن "عامر بن الظرب العدواني" وعن "عمرو بن حممة الدوسي"، فقالوا عن كل واحد منهما: "وضربت به العرب المثل في قرع العصا"، وقالوا أيضا: وهو "أول من قرعت له العصا". وحاولوا ايجاد تفسير لذلك، فقالوا: وانما قالت العرب ذلك، لأن كل واحد منهما كبر في السن وصار يذهل، فاتخذ له من يوقظه فيقرع العصا، فيرجع اليه فهمه. وهو تفسير مقبول عند أهل الأخبار معقول في نطرهم، لكنه في الواقع من هذه التفسيرات المألوفة الني يكثر ورودها عن أهل الأخبار، حين يسألهم سائل عن اسم قديم أو خبر قديم، فيصنعون له هذه ا لمصنوعات.
والذي أراه ان هذه الأشعار التي أشارت إلى "قرع العصا" إن صح انها من نظم اولئك الجاهليين، انما تشير إلى عادة كانت عند سادات القبائل والملوك والحكام من حمل "الصولجان"، والعصي دلالة على الحكم والسيادة.فالعصي تشير إلى الحكم والتأديب وكان الحكام يحملونها أو يحملها مساعدوهم عند قيامهم بالحكم بين الناس إشارة إلى سلطة الحاكم. فكان الحاكم إذا أراد اصدار حكمه أو ردع من يتطاول بالكلام في حضرة الحاكم أو يحدث ضوضاء وجلبة أثناء المحاكمة يقرع بعصاه الأرض أو أي شيء آخر، أو يأمر تابعه بقرع العصا، كما يفعل حكام هذا اليوم إذ يقرعون كرسي القضاء بمقرعة حين يريدون تنبيه الحضور إلى أمر مهم، أو إسكات المتكلمين المتطاولين أو من يعبث بنظام المحكمة، فينبه إلى مخالفته هذه بقرع المقرعة مثلما كان يفعل حكام الجاهلية من قرعهم الأرض أو أي شيء آخر بالعصا.
ملابس الحكام

(1/3019)


--------------------------------------------------------------------------------

ونحن لا نستطيع في الوقت الحاضر أن نتحدث عن لباس حكام العرب أثناء حكمهم بين المتخاصمين، لأن مواردنا ضنينة جدا بأخبارها في هذا الباب. ولأننا لا نملك نصوصا جاهلية فيها أخبار عن اداب وطريقة لبس الحكام او رسوم ومحور الحكام، حتى نستنبط منها صورة عن ملابسهم وعن كيفية جلوسهم عند، الحكم بين الناس. غير أن في بطون كتب أهل الأخبار بعض إشارات تفيد أن الحكام كانوا لا يفارقون الوبر، وذلك جريا على عادة العرب في أن يتخذوا لكل حالة لبوسها، وفي أن يتخذ السادات و اليارزون في المجتمع لهم ألبسة تميزهم عن سواد الناس.
و" العدل" من أول الصفات الني يجب أن تتوفر في "الحاكم". وقد ورد في القرآن الكربم: )وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل(. وأشير إلى لزومه ولزوم العدالة في مواضع عديدة أخرى. وكذلك كان شأن الجاهليين في لزوم توفر العدل عند الحكام حتى يصلح للحكم وفي مراعاة العدالة عون اصدار الأحكام. ووردت في القران الكريم لفظة "اقسطوا" بمعنى اعدلوا، وقيل: "القسط" هو النصيب بالعدل كالنصف والنصفة، و "القسطاس" الميزان، ويعبر به عن العدالة كما يعبر عنها بالميزان. )وزنوا بالقسطاس المستقيم(.
إنصاف المظلوم

(1/3020)

admin
01-01-2011, 01:21 AM
وفد كان في جملة العوامل التي حملت أهل مكة أو "قصي" كما يقول أهل الأخبار على تأسيس "دار الندوة"، النظر في الخصومات والبت فيها، وإنصاف المظلومين الذين لا نصير لهم ولا شفيع من ظلم المتنفذين الظالمين، أي أنها كانت بمثابة محكمة تقضي بين الناس، وتلزم الظالمين والمعتدين والمخالفين والخارجين على النظام العام بإطاعة المجتمع وعدم الخروج عليه، كما كانت دار تشريع وسن قوانين. ومعنى هذا أن أهل مكة، وهم حضر مستقرون شعروا بالحاجة إلى وجود قوانين وأنظمة ومحكمة دائمة لتفصل في الخصومات، وتنصف الناس، وتقر العدل والأمن والطمأنينة بينهم وقد وجدوا أن هذه الحاجة لا تتم ولا تنهض إلا بتثبيت العرف والعادة واختيار محل يجتمع فيه فقهاء هذا العرف و عرافه، للفصل فيما بين الناس على وفقه، و الاجتهاد في سن القوانين تحفظ العدل بين الناس، وتأخذ بحقوق الضعفاء من الأقوياء.
وما حلف الفضول الذي عقد في دار ثري مكة و وجيهها "عبدالله بن جدعان" لنصرة المظلوم ومساعدته على الأخذ بحقه، واتخاذ قرار فيه بإجماع الرؤساء لا ليكونن مع المظلوم حتى بؤدى اليه حقه ما بل بحر صوفة، وفي التأسي في المعاش له، إلا تعبير واضح، وحركة اصلاحية، وتعبير عملي عن شعور المدينة. وجوب تحقيق العدل و انصاف الضعفاء المظلومين والأخذ بمبدأ العدالة في المجتمع. وهو من أخطر المبادىء ولا شك ومن أهم الأعمال التي كانت في مكة في هذا العهد. وقد أثر هذا الحلف في الرسول أثرا كبيرا? على حداثة سنه، وكان كلما تذكره يعد ه من أهم الأحداث والأعمال في تلك الأيام، وقد عاشت روح الحلف وظهرت في مبدأ تحقيق العدالة في الإسلام.

(1/3021)


--------------------------------------------------------------------------------

إن هذا الشعور بوجوب تحقيق العدالة ونشرها، هو دلبل عن دافع نشأ عند أهل مكة بوجوب تأسيس ادارة مدنية، وحكومة تنظم شؤون المدينة وتديرها بأسلوب مدني استشاري يشترك فيه رؤساء مكة وملؤها. محل في محل الفوضى التي عمت المدينة من استغلال كل قوي لنفوذه للحكم والتحكم في الناس كيف يشاء. وقد ذكر بعض أهل الأخبار ان الذي حمل أهل مكة على التحالف في دار "عبد الله بن جدعان"، أن قريشا "في الجاهلية حين كثر فيهم الزعماء وانتشرت فيهم الرياسة وشاهدوا من التغالب والتجاذب ما لم يكفهم عنه سلطان، عقدوا حلفا على رد المظالم وإنصاف المظلوم من الظالم". وكان سببه "ان رجلا من اليمن من بني زبيد قدم مكة معتمرا ببضاعة، فاشتراها منه رجل من بني سهم، وقبل انه العاص بن وائل فلوى الرجل بحقه، فسأله ماله أو متاعه، فامتنع عليه فقام على الحجر وأنشد بأعلى صوته: يال قصي لمظلوم بضاعته ببطن مكة نائي الدار والنفر
واشعث محرم لم تقض حرمته بين المقام وبين الحجر و الحجر
أقائم من بي سهم بذمتهم أو ذاهب في ضلال مال معتمر
ثم قيس بن في شيبة السلمي باع متاعا على أبي بن خلف فلواه وذهب بحقه، فاستجار برجل من بني جمح فلم يجره، فقال قيس: يال قصي كيف هذا في الحرم وحرمة البيت وأحلاف الكرم
أظلم لا يمنع عني من ظلم فقام أبو سفيان و العباس بن عبد المطلب فردا عليه ماله، واجتمعت بطون قريش، فتحالفوا في دار عبد الله بن جدعان على رد المظالم بمكة وان لا يظلم أحد إلا منعوه وأخذوا للمظلوم حقه.

(1/3022)


--------------------------------------------------------------------------------

وهكذا نجد ان الاستغاثة بالأسر وبذوي الجاه والنفوذ، من جملة العوامل التي تعيد الحق إلى من أخذ منه وتنصف المظلوم. وقد كان من العار على شخص يستنجد بهم أو بسيد من ساداتهم، ثم لا يغاث، لأن "المروءة" وهي من دين الجاهلية تقضي على الرجل الحر، إجابة اغاثة المظلوم ونصرته بالأخذ بحقه. حتى إذا لم يكن من قبيلة ذلك الرجل. ومن صرخ باسمه في ناد أو في محل عام، استغاثة واستنجادا، تم لا يجيب نداء الصارخ، يكون قد قام في نظر قومه بعمل قبيح يجعله سبة للناس ومعرة، لذلك كان لا بد لمن يستغاث به من إجابة طلب المستغيث.
حكام العرب
ولكل قبيلة حكام يتحاكمون اليهم. ولأهل القرى والريف حكامهم أيضا، وهم من شعاب القرية، أي أحيائها. فإذا تخاصم أهل الشعب، تدخل حكامهم، أو حكام شعاب القرية الأخرى للفصل في الخصومة ولفض النزاع. ووجهاء للشعاب هم نواب الشعاب وألسنتها الناطقة والمحامون عن الناس. وهم الذين ينظرون في الخصومات بناء على طلب المتخاصمين، وبفضل تدخلهم هذا تفض المنازعات وتؤخذ الحقوق ويصان العدل والأمن. وقد تعرض "اليعقوبي" لموضوع "حكام العرب"، فقال: وكان للعرب حكام ترجع اليها في أمورها وتتحاكم في منافراتها ومواريثها ومياهها ودمائها. لأنه لم يكن دين يرجع إلى شرائعه،فيحكمون أهل الشرف والصدق والأمانة والرئاسة والمجد والتجربة.
من أهم الشروط التي يجب أن تتوفر في الحاكم: العدل، لأن الحاكم إذا لم يحكم بالعدل صار جائرا وصار حكمه حكما ظالما، فيخرج بذلك عن جادة العدالة. ولهذا عرف بعض العلماء "الحكم" ب "القضاء بالعدل"، فأخرجوا الحكم الجائر من مفهوم الحكم.

(1/3023)

وربط أهل الأخبار "الحكم" ب "الحكمة"، وجعلوا بينهما سببا ونسبا. وقالوا: "الحكمة: العدل في القضاء كالحكم. والحكمة: العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه والعمل بمقتضاها. وجعلوا "الحكام" "حكماء"، لهم أقوال وأمثلة في الحكم وفي تهذيب النفس والعقل، حتى انهم إذا ذكروا الحكام. تصدوا بهم حكماء العرب في الجاهلية، و اذا تحدثوا عن االحكماء، عنوا من اشتهر وعرف وورد اسمه الينا من حكام الجاهلية. وذلك لأنهم ربطوا بين الحكم والحكمة. ورأوا في الحاكم الرجل العادل البصير الحكيم الذي ينفذ الى أسرار الأمور ويعمل بحقائق الأشياء، فحكمه حكمة، وقوله مثل يعمل به، لما فيه من عمق وتبصر ونفاذ إلى داخل الأشياء، لأنه صار عن حكيم حليم راجح العقل، عقله فوق مستوى العقول. فهو حاكم وحكيم: "فيلسوف" "يفلسف" المعضل المشكل، والأمر المتنازع عليه المشبه فيه، ويستنبط من كل ذلك نتائج منطقية تكون رأيه في الأمور وحكمه وحكمته، حفظ يعضها أهلها الأخبار فدونوها في كتبهم، وبفضل تدوينهم هذا وقفا على هذه الأحكام.
ونجد في العربية جملة تؤدي معنى الحكم بين الناس، هي جملة: "القضاء بين الناس". فالقضاء بين الناس، هو الحكم بينهم، ويقال لمن يقضي بينهم: "القاضي". والقاضي هو القاطع للامور المحكم لها، وهو الحاكم. و "القضاء" "الحكم". و "قضاة العرب" هم "حكام العرب " على هذا التفسير.
وقد أقر الإسلام بعض الأحكام الجاهلية، وهذب بعضا آخر، ونسخ بعضا وحرمه ويقيدنا هذا الإقرار أو التهذيب أو التحريم والمنع في الوقوف على النواحي القانونية عند الجاهليين، ومعرفة معاملاتهم. ومن هذه الأمور المذكورة ما يدخل ا في باب العقوبات والجزاء، ومنها ما يقع في المعاملات المدنية بين الناس، كما تفيدنا المصطلحات الفقهية القديمة كثرا في تكوين رأي في أصول التشريع عند الجاهليين.
أقدم حكام العرب

(1/3024)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد جعل "اليعقوبي" "الأفعى الجرهمي"، أقدم حاكم حكم بين العرب وقضىبينهم. فقال: " وكان أول من استقضي اليه فحكم، الأفعى بن الأفعى الجرهمي. وهو الذي حكم بين بني نزار في ميراثهم،. وهو كذلك من أقدم حكام العرب في أغلب روايات أهل الأخبار. وذكر "اليعقوبي" بعده: "سليمان بن نوفل، ثم معاوية بن عروة، ثم صخر بن يعمر بن نفاثة بن عدي ابن الدئل، ثم الشداخ وهو يعر بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وسويد بن ربيعة بن حذار بن مرة بن الحارث ابن سعد ومخاشن بن معاوية بن شريف بن جروة بن أسيد بن عمرو بن تميم، وكان يجلس على سرير من خشب، فسمي ذا الأعواد، وأكثم بن صيفي بن رباح بن الحارث بن مخاشن، وعامر بن الظرب بن عمرو بن عياذ بن يشكر ابن عدوان بن عمرو بن قيس، وهرم بن قطبة بن سيار الفزاري، وغيلان بن سلمة بن معتب الثققي، وسنان بن أبي حارثة المري، والحارث بن عباد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة، وعامر بن الضحيان بن الضحاك بن النمر بن قاسط، والجعد بن صبرة الشيباني، ووكيع بن سلمة بن زهير الإيادي، وهو صاحب الصرح بالحزورة، وقس بن ساعدة الإيادي،وحنظلة بن نهد القضاعي، وعمرو بن حمحمة الدوسي. وكان في قريش حكام منهم: عبد المطلب، وحرب بن أمية، و الزبير بن عبد المطلب، و عبدالله بن جدعان والوليد بن المغيرة المخزومي". والذين ذكرهم "اليعقوبي" وغيره من أهل الأخبار من الحكام، هم من اشتهر وعرف بالقضاء وبالإفتاء في الجاهلية القريبة من الإسلام. وممن تمكنت ذاكرة أهل الأخبار من اصطيادهم. وهناك ولا شك حكام آخرون عاشوا في العربية الجنوبية وفي العربية الشرقية وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب، لم يصل خبرهم إلى علم أهل الاخبار، فصرنا نحن من ثم في جهل من أمرهم.

(1/3025)


--------------------------------------------------------------------------------

وبين الحكام الذين ذكرت أسماؤهم، حكام اشتهر ذكرهم، وذاع اسمهم بين قبائل عديدة.، لما عرف عنهم من شدة ذكاء وعلم ونباهة في الحكم، وفي كيفية الفصل في الخصومات، ولما اشتهروا به وعرفوا من النزاهة في القضاء ومن عدم التحيز في اعطاء الأحكام. ولهذا حكمتهم قبائل بعيدة عنهم. من هؤلاء: "عامر بن الظرب العدواني" الذي قيل عنه انه "كان من حكماء العرب، لاتعدل بفهمه فهما، ولا بحكمه حكما". ومثل "أكثم بن صيفي"، الذي قيل عنه "انه كان قاضى في العرب يومئذ. ومثل "الأفعى الجرهمي" الذي تخاصم اليه المتخاصمون من قبائل مختلفة ومن مواضع بعيدة عن نجران.
هؤلاء الحكام لم يكونوا يحكمون بقانون مدون، ولا بشريعة مكتوبة، ولا بموجب كتب سماوية، انما يرجعون إلى عرفهم وتجاربهم وفراستهم في الأمور، وما يستنبطه اجتهادهم من القياس على الأشياء برد الأمور إلى مشابهاتها. فكانت أحكامهم أحكام طبع وسليقة، أتت من غير تكلف ولا تعنت. ولهذا قبلت لموافقتها للطبع، وصارت سنة متبعة وعرفا من الأعراف. وبينها أحكام ثبتها الإسلام.
المحاكم

(1/3026)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي الأمثال العربية: "في بيته يؤتى الحكم". فبيت الحاكم هو محكمته، إذ ليست في مواطن القبيلة محكمة ثابتة يجلس فيها الحكام للنظر في الخصومات. ولا يمكن أن تنشأ في منازل الأعراب محاكم من هذا النوع. وكل منازلها بيوت من وبر، متناثرة هنا وهناك. وما يحدث بينها محل في الغالب بتوسط الجيران وأهل البيوت، إلا في الخصومات الكبيرة وهي قليلة في الغالب، وتعرض على عقلاء القوم، وسادات القبيله للنظر فيها. فإذا حدث حدث ما يأتي الخصوم أو "أهل الخير" و "الوساطة" إلى بيت "حكم" يطلبون منه التوسط لإصدار حكم في ذلك الخلاف. فبيته هو المحكمة، به يتحاكمون وبه يستمعون إلى الحكم. وتكون "نوادي" القبيلة أو القرى أو المدن، محاكم أيضا، يفد عليها من له خصومة، ليعرضها على ذوي الأمر والنهي والسادة، للبت في خصومتهم ولانصافهم. وقد يجلس السادة في بيوتهم أو في قباب لهم يضربونها تكون لهم مجالس يمضون فيها أمورهم الخاصة وأعمالهم، ويحكمون فيها أيضا بين الناس. روي أن "أبا أزيهر بن أنيس الدوسي" كان يقعد هو وأبو سفيان في أيامهما في قبة لهما، فيصلحان بين من حضر ذلك المكان الذي هما به.
تنفيذ الاحكام

(1/3027)


--------------------------------------------------------------------------------

وليس للحاكم قوة تنفيذية تنفذ ما يصدره من أحكام. إنه لا يملك شرطة تنفذ حكمه، ولا قوات أخرى تنفذ ما يصدره من أحكام محق المحكوم عليهم، وتأخذ الحق من المعتدي والظالم. والقوة التنفيذية الوحيدة التي يستند اليها الحكم في تنفيذ حكمه، هي العهود والمواثيق التي يأخذها من المتخاصمين بوجوب طاعة حكمه مهما كان، وتطبيقه، وعدم الخروج عليه. ولهذا لا يقبل الحكم النظر في قضية ومنازعة وخصومه، إلا بعد اتفاق المتخاصمين أولا على قبوله حكما"، وتعهدهم أمامه وأمام شهود يقبولهم لكل حكم يصدره مهما كان. فقوة الحكم إذن قوة معنوية، وكلمة شرف تصدر من المتخاصمين بإطاعة الأب، وكسر الكلمة معناه، خروج على الألوف، وتعريض بسمعة الناكث بالعهد، تلحق به الأذى وتعريض بالحكم، الذي لا يسكت بالطبع على إلحاق الإهانة به.
فالضامن في تطبيق العدل والعدالة بين الناس هو تعهد المتخاصمين بإطاعة أحكام الحكام،ثم شخصية الحاكم ومنزلته ومصلحة الطرفين في فض النزاع حتى لا يستفحل ويطول، إذ كان على المتخاصمين أنفسهم وجوب البحث عن حاكم عاقل كيس ليفض الخصام، فكان عليهم أنفسهم البحث عنه، ولهذا كان من اللازم تعهدهم بتنفيذ ما يصدره من حكم وما يبت فيه من رأي.
ومما ذكرته.خاص بحكام الأعراب وبمواضع البداوة، أما بالنسبة إلى العرب الجنوبيين، فلا أستطيع تعميم ما قلته عليهم، لاختلاف نظم الحكم عندهم عن، نظم الحكم عند الاعراب. ففي العربية الجنوبية حكومات وقوانين وتشربع. وفي محيط فيه تشريع، لا بد وأن يكون فيه حكم حكومي، وحكم حكام حكومين، وتنفيذ أحكام. أي ان تنفيذ الأحكام يكون إلزاميا وقسريا بقوة الحكومة وبقوة ما عندها من سلطة. فالحاكم في العربية الجنوبية حاكم معين، يستمد حكمه من حكم القانون. ويستند تنفيذ حكمه على هيبة الحكومة وعلى قوة القانون.

(1/3028)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظهر من نص معيني ناقص ويا للاسف، أن المعينيين كانوا يحاكمون الأشخاص في محاكم تسمى "معذر" "معنرن" "م ع ذ رن". وهي مجالس المدن أو القرى، فيحاكم من يراد محاكمته فيها وفقا للقوانين "سذ مرت" "س ذ م ر ت" فإذا أصدر "المعذر" قرارا بحق شخص فيه حكم أو فيه تبرئة، أعلن القرار على الناس. وتصدر القرارات وتعلن الأحكام باسم الالهة. وقد جرت العادة بأن ا يقدم الشخص ذبيحة يتقرب بها إلى الإله "ود" في مقابل النظر في أمره.
وفي محيط حضري، فيه شرائع وتقنين وأحكام، لا بد وأن تؤلف فيه محاكم للحكم بين الناس وللنظر في مخالفات المخالفين لاحكامها ولما تصدره من قوانين، ولبت في تهرب التجار أو الزراع من دقع ما عليهم من ضرائب وحقوق إلى الحكومة. ولا يستبعد أن يعثر المستقيل على نصوص قد تتحدث عن وجود محاكم وحكام وكتبة كانوا يدونون أحكام ما يصدره أولئك الحكام في أمور المتحاكمين.
ونظرا إلى ما نجده في أخبار أهل الأخبار من تحكيم المتحاكمين لسدنة المعابد وللكهان في خصوماتهم، ومن لجوئهم الى الأصنام للاستفسار منها عن السرقات وعن القتول، وعن الأشخاص الذين ارتكبوا الجنايات، فإن باستطاعتنا اعتبار المعابد محاكم مثل أي محاكم أخرى يكون من حقها الفصل في نزاع المتنازعين.
أصول المحاكمات وكيفية النظر في الدعاوي

(1/3029)


--------------------------------------------------------------------------------

ولما كان المتخاصمون هم الذبن يقررون الرجوع إلى التحاكم لفض الخصومات، بدلا من حلها عن طريق القوة، لعدم وجود شرطة معينة ودوائر تكره المتخاصمين على مراجعة القضاء الحكومي الالزامي، فإن شكليات التحكيم كانت بسيطة تتناسب مع بساطة الحياة. فللمتخاصمين أن يختاروا حكما يرضونه أو جملة محكمين مقبولين من الطرفبن، بأن يختار كل طرف محكما أو محكمين، على أن يوافق على اختيارهم الطرف الثاني أيضا. وإذا ما تم الاختيار برضاء الطرفين أخذ الحكام أو المحكمون عهدا من المتخاصمين جميعا بوجوب السمع والطاعة وعدم الاعتراض على قرارات الحكم، فإن وافقوا وأعطوا كلمتم بالموافقة، عين الحكام أو المحكمون وقت المحاكمة للاستماع إلى بينات كل طرف وما عنده من أدلة وشهود. وقد تأخذ المحاكمات زمانا طويلا، واذا ما انتهى الطرفان من عرض حججهما، أعمل الحاكم رأيه أو المحكمون آراءهم للنطق بقرار الحكم الذي يكون تنفيذه إلزاميا لا بقوة القانون، ولكن بقوة المسؤولية الأدبية والكلمة التي أعطاها الطرفان بوجوب السمع والطاعة لما يصدر مهن حكم.
وقد عرفت قاعدة "البينة على من ادعى واليمين على من أنكر" عند الحكام الجاهليين أو عند بعضهم،وهى قاعدة تفيد ان الأصل في الإنسان براءة الذمة. ويتفق مع قاعدة "الحجة على من ادعى لا على من أنكر" الواردة في القوانين الرومانية واليونانية.
ويكون أهل الأخبار إن "قيس بن ساعدة الإيدي" أحد الحطباء المشهورين والحكام المعروفين، هو الذي وضع قاعدة "البينة على من ادعى واليمين على من أنكر"، فصارت سنة منذ ذلك اليوم.

(1/3030)


--------------------------------------------------------------------------------

هذا، ولا بد لي من التنبيه إلى العهود والوصايا التي وضهت في صدر الإسلام في كيفية الحكم بين الناس, مثل وصايا الرسول إلى الصحابة في كيفية الحكم بين الناس، ومثل عهد "عمر" إلى "أبي موسى الأشعري" وعهد "علي" إلى قاضيه "شريح" وأمثال ذلك من أومامر، لما فيها من أصول في المحاكمات كانت سنة متبعة عند الحكم الجاهلية، وقد أقرها الإسلام، لأنها أصول من أصول المنطق والطبع في الحكم وفي النظر في أمور الناس.
القسم
فإذا ادعى مدع دعوى على شخص، ولم تكن لديه بينة، فليس له إلا أن يطلب من الناكر القسم، فإن أبى حكم عليه بالأداء. هذه سنة الجاهليين في الحكم. وقد حكم الرسول على المدعين بإظهلر بينتهم، فإن عجزوا طلب من المدعى عليهم القسم بأن خصمومهم مبطل وأنن الحق في جانبهم. وقد اشتكى بعص المدعين للرسول من أن حصومهم فجرة لا يبالون بما يحلفون ولا يتورعون من قسم كاذب، ولكن الرسول حكم بأنهم ما داموا قد عجزوا عن الاثبات ببينة، فليس لهم سمى تحليف خصمومهم مهما كانوا.
فعلى من يدعي وجود حق له على شخص اثبات ما يدعيه بلأدلة والبراهين، أما الطرف الثاني الذي ينكر ذلك الحق، فعليه أداء اليمين. فإذاعجز المدعي عن اثبات حقه، وطلب من المدعى عليه أداء اليمين، وجب عليه أداء اليمين، أي القسم. ويكون ذلك القسم بالآلهة أو بالآباء، والغالب أن يكون في موضع ذي حرمة وقدسية، كان يكون في معبد، وأمام صنم، أو عند قبر مثل قبر سيد قبيلة أو قبر والد من يقسم، وأمثال ذلك. وصورة هذا القسم مثل: وحق هذا البيت، أو وحق هبل، أو وحق أبي أو وتربة أبي.

(1/3031)


--------------------------------------------------------------------------------

ويعرف القسم باليمين أيضا، وذكر علماء اللغة أن العرب إنما سمت القسم يمينا، لأن من عادتها في القسم أنها كانت إذا تحالفت ضرب كل امرىء منهم يمينه على يمين صاحبه، أو انهم كانوا يتماسحون بايمانهم، فيتحالفون. ومن هنا أطلقوا على القسم اليمين. ولذلك قيل: "أعطاه صفقة يمينه على هذا الأمر.ثم سموا الحلف يمينا على هذا المعنى. وانثوا اليمين على تأنيث اليد، فقالوا: حلف يمينا برة ، ويمينا فاجرة.
وقد ورد ذكر "اليمين" في بيت لزهير بن أبي سلمى، هو: وإن الحق مقطعه ثلاث يمين أو نفار أو جلاء
وقد جمع هذا البيت طرق أخذ الحق و اثباته عند الجاهليبن. فإما يمين، وإما منافرة، وهي المحاكمة، وإما الجلاء.
ومن اليمين: اليمين الغموس.
فاليمين المعروفة، والنفار المنفرة إلى الحكام، وهي المحاكمة اليهم ليفصلوا بالحق، والجلاء: البينة التي تجلو الشك والشبهة فتغني عن اليمبن وعن التحاكم. وقد قالوا: "يمين جلواء" و "حلفة جلواء" و "بينة جلواء" أي يتجلى بها الحق وينكشف. وذكر ان "عمر" كان يعجب من حسن هذا التقسيم ويردد بيت "زهير" من التعجب. ورووا انه قال: "لو أدركته لوليته القضاء لمعرفته بما تثبت به الحقوق.
ونوع من اليمين عرف ب اليمين الأصر. وهو أن يخلف بطلاق أو عتاق أو نثر. وهو من أثقل الايمان وأضيقها مخرجا في الإسلام. يجب الوفاء به، ولا يعوض عنه بكفارة. وعن "ابن عمر": من حلف على يمين فيها أصر فلا كفارة بها.
وذكر "النابغة الذبياني" اليمين في شعر له. قال فيه: حلفت يمينا غير ذي مثنوية ولا علم إل احسن ظن بصاحب
والمثنوية: الاسثناء في اليمين.

(1/3032)


--------------------------------------------------------------------------------

واليمين الغموس اليمين الكاذبة الفاجرة. وهي اليمين الكاذبة التي تقطع بها الحقوق. وعدت اليمين الغموس من أعظم الكبائر في الإسلام. وهو ان يحلف الرجل، وهو يعلم انه كاذب ليقتطع بها مال غيره. وقيل اليمين الغموس، هي ان يحلف على أمر ماض انه كان ولم يكن. وذكر ان الرسول ذكر "الغموس" فقال: "الغموس تدع الديار بلاقع".
هذا وقد جمع "أبو اسحاق ابراهيم بن عبدالله النجيرمي الكاتب، أيمان أهل الجاهلية في كراسة دعاها "أيمان العرب في الجاهلية". وقد ذكر في مقدمته لها، ان العرب كانت في الجاهلية على مذاهب في أيمانها، وذلك على حسب عقيدتها ودينها. فكان معظمها ممن يدين الله لذلك كان قسمها بالله تعالى، والقسم به عندهم أعظم الأيمان، ولذلك قال "النابغة الذبياني": حلفت فلم اترك لنفسك ربية وليس وراء الله للمرء مذهب

(1/3033)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان من قسمهم به قولهم: "والله، فإنها تملأ الفم، وترقئ الدم، اي تبرىء الظنين بالدم من الدم فيرقأ سمه، اي يسكن محقونا في مسكه فلا يراق، وقولهم لا لا والذي يراني من فوق سبعة أرقعة، اي من فوق سبع سماوات. ويؤيد هذا القسم ما جاء في حديث الرسول انه قال لسعد بن معاذ لما حكم في بني قريظة: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من قوق سبعة أرقعة. وقولهم " لا والذي شق الرجال للخيل، والجبال للسيل. وقولهم لا لا والذي شقهن خمسا من واحدة "، يعني أصابع يده إذا حلف فرفع يده وفرق أصابعه. ومن ايمانهم ايضا قولهم " لا والذي وجهي زمم بيته "، وقولهم "لا والذي لا يواريني منه خمر" والخمر ما واراك من شجر، والمعنى: لا يواريني منه شيء. وقولهم: لا لا والذي لا يواريني منه غيب "، وقولهم "لا والذي لا يتقي بوجاح، أي لا يستتر منه وجاح فيتقي به. والوجاح كل ما حال بينك وبين شيء من ستر أو ثوب أو حائط أو غير ذلك. وقولهم: " لاوالذي لا اتقبه إلا بمقتله "، أي كيف رمت أن اتقيه فهناك المقتل. وقولهم: لا والذي أخرج العذق من الجريمة، والنار من الوثيمة.
ومن ايمان هذه الطبقة المؤلهة: "،لا والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة لا، وقولها " لا والني سمك السماك "، و لا والذي يراني من حيث ما نظر "، و لا و فالق الإصباح وباعث الأرواح، وقولها لا ومجري الرياح، و لا ومجرى الإلهة "، أي الشمس وقولها " لا يأتمر له جدولي والجدول الأعضاء، أي ان أعضائي كلها جند لله تعالى علي.

(1/3034)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن ايمانهم: لا ومقطع القطر و لا ومميت الرياح،و لا مجري البحر "، و لا ومنشىء السحاب، و لا والذي دحا الأرض و لا والذي سجد له النجم والشجر، و لا والذي حجت له العمائر، والعمارة الحي الكبير، و والذي ذابت له الشعور، و لا وفاطر الأشباح و لا والذي يرصدني أنى سلكت لا، ولا ورب الشمس والقمر،ولا ورب البيت والحجر، و لا والذي أخرح الماء من الحجر، والنار من الشجر" و لا ورازق الأنام، و لا ورب النور والظلام، و لا ورب الحل والحرام و لا ورب الحل و الإحرام. قال مهلهل: قتلوا كليبا ثم قالوا ألا اربعوا كذبوا ورب الحل والإحرام
ومن أيمانهم لا والذي أممنه من كل أوب، و لا والراقصات ببطن مر، و والذي رقصن ببطحائه، و لا والراقصات ببطن جمع، و لا والذي نادى الحجيج له، و لا وقائتي نفسي، اي الذي جعل نفسي قوتا لمدة حياتي. و لا لا وقائت نفسي القصر، يريد قصر العمر، و يمين الله لقد كان كذا و ايمن الله، و " ايم الله" و م الله لقد كان ذاك" و ايم الله، و " ايمن الله، وايمن الكعبة، و "رب الراقصات.ومن ذلك قولهم: عمرك الله على ذلك،و قعيدك الله،و لا قعيدك الله، و لا ورافعها بغير عمد،لا وسامكها، لا وباسطها،لا وماهدها وداحيها، و لا والذي أمد اليه بيد قصيرة و لا والذي كل الشعوب تدين له و لا والذي يراني ولا أراه، و حرام الله و "يمين الله لا و أقسم بالله و أقسم بالله قسما صادقا،وقسما بارا،.ومما يؤيد قسمهم هذه الطائفة بالله ما جاء في القرآن: )وأقسموا بالله جهد أيمانهم(.
من قسم عبدة الأوثان والأصنام قولهم لا و اللات والعزى،و لا ومناة وكذلك قسمهم ببقية الأصنام. وربما أقسموا بما يعتر لها.

(1/3035)


--------------------------------------------------------------------------------

وأقسموا بالماء والسماء والنجوم، وبظواهر طبيعية اخرى، كقولهم لا والسماء ولا والماء، لا والآيبات، لا والطارقات، لا والراكعات، لا والسابحات لا. والسابحات النجوم، و لا ونفنف اللوح، والماء المسفوح، والفضاء المندوح، والنور الموجوح، اي المحجوب. والنفنف ما بين السماء والأرض، وكل هواء بين رأس جبل واسفله، واللوح الهواء بين السماء والأرض، المسفوح المصبوب، وعنى به البحر، والفضاء يعني الأرض، والمندوح الموسع. وكأنهم عظموا هذه الأشياء لأن بها قوام العالم.
ومن ايمانهم: لا والذي اكتع له، أي احلف به. و "لا وجدك"، والجد الحظ، و "لعمرك"، أي القسم بالعمر، كما أقسموا يقولهم: "وعيشك". والعرب تقول في الفسم: لعمري ولعمرك، وورد في القرآن الكريم "لعمرك"، أي لحياتك. وجاء لعمر الله وعمر الله.
وقد أقسموا بالرأس، أي برأس الإنسان، وبالعيش وبالخبز والملح إلى غير ذلك من ايمان. يغلب على بعضها طابع السذاجة والبساطة، وبعضها مضحكة لا تصلح أن تكون مادة لقسم، لكنهم كانوا يقسمون بها كما يقسمون بالأمور المهمة في نظرنا.
وذكر "النجيرمي" أن قسم "كهان العرب" كان بالسماء والماء والأرض والهواء، والنور والضياء، والظلمة، وبغير ذلك. وقد أقسم "سواد بن قارب السوسي" بقوله: أقسم بالضياء والحلك، والشروق والدلك.
ومن ايمانهم: "بإصر وأصر ليكونن ذلك، و الإصر العهد، ومعنى اصر: ختم لازم. والال: العهد.
و "جير" في الإيجاب بمعنى نعم وأجل ويمين. وقالوا: "لا جير"، بمعنى "جير"، أي قسم. كما قالوا: لا أقسم. بمعنى: أقسم".

(1/3036)

admin
01-01-2011, 01:22 AM
وعوض من أسماء الدهر، وقد حلفوا به. و "الدم"، يمين كانوا يحلفون بها في الجاهلية. يعني دم ما يذبح على النصب. وفي حديث الوليد بن المغيرة: والدم ما هو بشاعر، يعني النبي. ولتوكيد اليمين وتلبيته، وايجاب الحالف على نفسه أمام الناس بالوفاء بما أقسم به وفاء تاما، لا مهاودة فيه، استعملوا بعض الصيغ مثل: " قسما لأفعلن ذاك، ويمينا وألية، ونحبا، وعهدا، ونذرا، وموثقا، وميثاقا، وحقا، ولحقا، ولبمينا، ولقسما وقال آخرون: لحق لأفعل.
ومن العبارات التي استعملها الجاهليون في توكيد ايمانهم قولهم: "عهد لا يزيده طلوع الشمس إلا شدا، وطول الليالي إلا مدا ". و لا ما بل بحر صوفة، و ما أقام رضوى.
واذا أوجب شخص على نفسه يمينا، قالوا: أوذم فلان يمينا و أبدع يمينا. وإذا ترك الشخص "اللام" التي هي آلة القسم، صار يمينه بمنزلة النفي للفعل كقوله: آلى فلان يفعل و آلى يفعل و آليت أفعل. فهو قسم على ترك الفعل: لأن اليمين بمنزله النفي للفعل حتى يأتي باللام التي هي أداة، القسم. كقولك لا آليت لأفعلن " وكذلك قولك: والله أفعل، وأقسمت افعل، وهذا مما يغالط به ويجوز على كثير من الناس.
وقالوا: "لا خير في يمين لا مخارم لها، أي لا مخارج لها. وإذا حلف الرجال قالوا: جلا ابو فلان وتحلل أبا فلان، اي استثن.
وكانت العرب تسمي الإستثناء في اليمين: "التحليل". وسمته "المثنوية" كذلك. وتؤدي جملة: "لا جرم" معنى قسم ويمين. وهي كلمة كانت في الأصل بمنزلة لا بد ولا محالة، فجرت على ذلك وكثر استعمالهم إياها، حنى صارت بمنزلة حقا لأفعلن. ومن العرب من يحصلها من أولها ب "ذا"،فيقول:لا ذا جرم. وكان اكثر حلف عرب الحجاز باللات و العزى، وربما جنحوا عن صورة القسم إلى ضرب من التعليق. مثل أن يقول: إن فعلت كذا فعلي كذا، أو فأنا كذا، أو فأكون مخالفا لكذا أو خارجا على كذا أو داخلا في كذا، وما أشبه ذلك.

(1/3037)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد كانت العرب تأتى في نظمها ونثرها عند حلفها بالتعليق بإضافة المكروه إلى مواقعة ما يحذرونه، من هلاك الأنفس والأموال وفساد الأحوال، وما يجري مجرى ذلك.
وقد ذكر ان الأعراب لا يحلفون أبدأ يمينا إلا على هذا النحو: لا أورد الله لك صافيا، ولا أصدر لك واردا، ولا حططت رحلك، ولا خلعت نعلك، يعني إن فعلت كذا.
ومن بعض أيمان شعراء الجاهلية، قول النابغة الذبياني: ما إن أتيت بشيء أنت تكرهه إذا فلا رفعت سوطي إلي يدي
وقول عدي بن زيد: فإن لم تهلكوا فثكلت عمرا وجانبت المروق والسماعا
و لا ملكت يداي عنان طرف ولا أبصرت من شمس شعاعا
ولا وضعت إلي على خلاء حصان يوم خلوتها قناعا
ومن أسماء "الأيمان" النوافل. ونفل: حلف، والتنفيل التحليف. يحكى أن "منقذ بن الطماح الأسدي" المعروف ب "الجميح" لقيه "يزيد بن الصعق" فقال له يزيد: هجوتني. فقال: لا والله. قال: فانفل. قال: لا انفل. فضربه يزيد. وأصل النفل النفي، وسميت اليمين في "القسامة" نفلا، لأن القصاص ينفى بها. وفي حديث القسامة: "قال لأولياء المقتول: أترضون بنفل خمسين من اليهود ما قتلوه ". ويقال نفلته فنفل، أي حلفته فحلف.
وقد ألف العلماء في "نوافل" العرب. وقد أورد "ابن النديم" أسماء جملة مؤلفات نسبها لابن الكلبي في نوافل القبائل. منها: "كتاب نوافل قريش" و" نوافل إياد" و "نوافل كنانة" و "نوافل أسد" و "نوافل تميم" و "نوافل قيس." و "نوافل ربيعة" و "نوافل قضاعة" و "نوافل اليمن" و "نوافل من نفل من عاد وثمود والعماليق وجرهم".

(1/3038)


--------------------------------------------------------------------------------

وكانت الجاهلية إذا تحالفت، تحالفت عند "الحطيم"، فكانت قريش ومن إليها تأتي إليه وتحلف عنده، وتعتقد أن الكاذب هالك. ويذكر أهل الأخبار انهم كانوا بعد طوافهم بالبيت يأتون للحلف، وبعد أن خلف به عند الركن، يأتون الى الحطيم، فيلقي الحالف فيه سوطه أو نعله أو قوسه، بعد أن يحلف،علامة لعقد حلقه، ويعتقدون أن الحالف الآثم سيهلك، وتتعجل له العقوبة بعد قسمه هذا. وقد ذكر أن الحطيم هو ما بين الحجر الأسود والمقام وزمزم.
وقد ذكر أهل الأخبار بيتا لزهير بن أبي سلمى، ذكروا أنه أقسم فيه بمكة، وهذا البيت هو: فتجمع أيمن منا ومنكم بمقسمة تمور بها الدماء
وقد ذكر علماء اللغة أن "أيمن" و "ايمان" جمع يمين. وأن "ايمن الله" و "ايم الله"، و "هيم الله"، و "أم الله"، و "من الله"، و"م الله"، و"ليم الله"، و"ليمن الله"، من أدوات القسم التي أقسم بها الجاهليون.
وذكروا أن "زهيرا" قصد بلفظة "مقسمة" مكة، حيث ينحر بها الجزور فتمور بها الدماء. وذكر أن "مقسمة" اليمين التي تؤخذ عند الدم للقسامة، فإذا كان القوم عشرة ردت اليمين عليهم حتى تكون خمسين قسامة.
وبعض هذه الأيمان أيمان غريبة غير مستعملة ولا مستساغة في عرف هذا اليوم، مثل: "ورب المخيسات" و "رب البدن". وهي أيمان أقسم بها "حسان ابن ثابت" في شعر قال في "آل جفة".
والخوف من العاقبة السيئة التي تحل بحالف اليمن الكاذبة، هي التي ردعت الجاهليين من الحلف كذبا. ولذلك امتنعوا من الحلف وتجتبوه جهد أمكانهم. م ويظهر أن الجاهليين كانوا يخافون جدا من القسم، أي اليمين، لاعتقادهم أن لم الحانث بالقسم هالك لا محالة، إن لم يكن عاجلا فآجلا. ولا زال الأعراب يخشون أداء اليمين، وهم يفضلون خسران قضيتهم على أداء اليمن.
عقد الأيمان

(1/3039)


--------------------------------------------------------------------------------

ونظرا إلى ما للأيمان من أهمية ومكانة، وقدسية في نظر الحالف والشاهد، صاروا إذا أرادوا القسم وأداء اليمين، أدوها في مراسيم مؤثرة وفي ظروف خاصة وفي مكان ذي قدسية في النفوس، وبحضور كهان أو أناس لهم منزلة ومكانة، حتى يكون للقسم روعة وهيبة، تتناسبان مع مكانته وقدسيته عندهم.
والغالب عند عقد الأيمان عقدها على النار، وذلك انهم يحضرون من يريد أداء القسم ومن سيكون شاهدا على صحة القسم، ومن يقوم بأخذ القسم وبإجراء طقوسه على يديه. ثم يوقدون نارا، يدنون منها حتى تمحشهم أو تكاد تحرقهم، وعددوا منافع النار ودعوا على ناقض تلك اليمين والناكث لذلك العهد بحرمان تلك المناقع، ويهولون بها على من يستخف بحقوقها، ويتوعدونه بحرمان مرافقها، وفي ذلك نكد العيش وحرمان الحياة. وكان الرجل القيم بأمر تلك النار ويسمى "الهول"، يطرح في النار ملحا، وأحيانا ملئا وكبريتا، يهول بها على الحالف وقد يطرح في النار البخور، أو يلقي فيها الأخشاب النفيسة ذوات الروائح الطيبة الزكية. فإذا استشاطت قال للحالف: "هذه النار تهدد تلك"، وأمثال هذه الكلمات، ليلقي الروع في نفس الحالف، فلا يحلف كذبا، ولا يتجرأ على الإثم بأداء اليمين باطلا.
فإن كان اليمن لتحليف شخص عن شيء ينكره مثل سرقة أو قتل أو ما شابه ذلك، هدد سادن النار بتلك النار، فإن كان الشخص مبطلا، كأن يكون قد قام بالسرقة، نكل وامتنع عن أداء القسم بنفي وقوع الفعل منه، وإن كان بريئا حلف، ولهذا سموها "نار المهول" أو "نار الهولة" أو "المهولة". وفي هذا المعنى جاء في قول الشاعر "أوس بن حجر": إذا استقبلته الشمس صد بوجهه كما صد عن نار المهول حالف
وقد أشار "الكميت" إلى هذه النار أيضا بقوله: كهولة ما أوقد الحالفون لدى الحالفين وما هولوا
عقد الأحلاف

(1/3040)


--------------------------------------------------------------------------------

وكانوا في الجاهلية اذا تحالفوا وتعاهدوا أوقدوا نارا، كل نحو ما ذكرت، وتحالفوا عندها، ويتصافحون ويقولون: "الدم الدم، واسم الهدم الهدم"، والمعنى دماؤنا دماؤكم وهدمنا هدمكم، أي فما هدم لكم من بناء أو شأن فقد هدم لنا وما أريق لكم من دم فقد أريق لنا، يلزمنا من نصرتكم ما يلزمنا من نصرة انفسنا. ولما كان الحلف بين الرسول والأنصار، قال لهم الرسول: "الدم الدم والهدم الهدم".
وكان من شأنهم إذا تحالفوا أن يغمسوا أيديهم في الدم. كالذي كان من أمر حلف "لعقة الدم"، حيث غز المتحالفون أصابعهم في جفنة مملوءة دما، ثم لعقوها، فسموا لعقة الدم. وكالذي ذكر من أمر "خثعم"، من أنهم إنما سموا خثعما لأنهم غمسوا أيديهم في دم جزور. أو الذي ذكروه من قصة قتلى "الهجرس" ل "جساس بن مرة بن ذهل بن شيبان". وقد عرف قوم من "بني عامر بن عبد مناة بن كنانة" ب "لعقة الدم".
وكانوا ربما تعاقدوا وتحالفوا وتعاهدوا على الملح. والملج عندهم شيئان: ملح الأدام الذي يتملح به، واللبن. وذلك أنه سواء عندهم أن يجتمعوا على طعام وملح أو على شرب لبن. هذا عندهم ممالحة. ولذلك سموا اللبن ملحا، فقالوا من البابين جميعا: "بيننا ملح".
وربما تعاقدوا وتعاهدوا وتحالفوا بغمز أصابعهم في جفنة مملوءة طيبا، ثم يمسحون أصابعهم عند الكعبة أو عند صنم من الأصنام،أو في موضع آخر مقدس، كالذي فعله قوم من "بني عبد مناف" تحالفوا وتعاهدوا بغمز أيديهم في جفنة مملوءة طيبا، ثم مسحوا الكعبة بأيديهم توكيدا على أنفسهم، فسموا "المطيبين" وعرف الحلف ب "حلف المطيبين". وكالذي ذكر من أمر "الرباب"، لأنهم أدخلوا أيديهم في رب وتعاقدوا وتحالفوا عليه.

(1/3041)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد بايعت نساء قريش الرسول بعد فتح مكة، على جفنة ماء، فذكر أهل الأخبار أن إناء فيه ماء وضع بين يدي الرسول، "فإذا أخذ عليهن وأعطينه غمس يده في الإناء ثم أخرجها، فغمس النساء أيديهن فيه. ثم كان بعد ذلك يأخذ عليهن، فإذا أعطينه ما شرط عليهن، قال:اذهبن فقد بايعتكن، لا يزيد على ذلك".
وقد يعقد الحلف في بيت أو في معبد، وقد يعقدونه على طعام يجتمعون عليه ثم يعمدون إلى عقد الحلف بمراسيم خاصة،كالذي كان من أمر "حلف الفضول"، لا فبعد ان أكل الحاضرون من أهل مكة في دار "عبد الله بن جدعان" الطعام، عمدوا إلى ماء من ماء زمزم، فجعلوه في جفنة، ثم غسلوا به أركان البيت، وجمعوا ماء الغسيل في تلك الجفنة ثم أتوا به فشربوه. وبذلك تم عقد الحلف، وصار واجبا على المتحالفين.
الاشتراط.
والاشتراط بين شخصين أو بين أكثر من ذلك عقد صحيح لذلك يجب تنفيذه. وذلك كأن تشترط المرأة على من يتقدم اليها ليكون بعلا، بأن يكون أمر الطلاق بيدها تطلقه متى شاءت، ومتى وافق الرجل على هذا الشرط، صار حق الطلاق من حقوق المرأة بموجب هذا الزواج. كذلك يقع الاشتراط في البيوع وفي العقود وعلى المتبايعين والمتعاقدين تنفيذ ما اتفق عليه من شروط. وقد نهى الإسلام عن بيع شيء واحد بشرطين. إذ اشترط أن يكون البيع بشرط واحد. مثال ذلك قولك: بعتك هذا الثوب نقدا بدينار ونسيئة بدينارين. وهو كالبيعتين في بيعة. وهو بيع من بيوع أهل الجاهلية.

(1/3042)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم يكن أهل الجاهلية يرون في الشروط التي يشترطها أحد المتعاقدين على الأخر، ما يعارض الحق والعدل، إذا كان فيها جورا أو غموضا أو لبسا أو عموما. لأنهم يرون ان الموافقة هي تسليم بالحق وبالصحة، وما دام الطرفان قد وافقا على الشروط واتفقا عليها، فلا ظلم في العقد ولا جور فيه. وان كل ما يتفق عليه ويسلم به، هو حق. إذ لا إكراه في ذلك ولا غبن. لأن الموافقة هي إيجاب وقبول،ومتى تمت صارت عقدا شرعا ملزما لا نكول فيه ولا رجعة.
الشهود
والشهود هم الأشخاص الذين يشهدون أمام الحاكم بما عندهم من شهادة والشهود والأشهاد هم الذين يؤدون الشهادة، أي يبينون علمهم عن الشيء الذي سيدلون رأمهم عنه. والشهادة خبر قاطع، يستعين به الحاكم في تكوين رأيه وابداء حكمه عند النظر في قضية يستدعي ابداء رأي فيها. وفي القرآن الكرم إشارات إلى الشهود والشهادة والى استعانة الجاهليين بالشهود عند التحاكم أمام الحكام. والشهادة المتقدمة هي الشهادة الشفوية التي تكون أمام الحاكم. غير ان هناك شهادات مكتوبة. ع كأن يكتب الإنسان شهادته كتابة، أو ان يشهد على صحة عقد وقوانين وأوامر وغير ذلك. فيكتب اسم الشاهد دلالة على انه يشهد على صحة ما هو مدون في الصحيفة، وانه حضر بنفسه ما كتب وشهد لذلك على صحة ما جاء فى المكتوب. ونجد في الأوامر الملكية عند العرب الجنوبيين شهادات كبار الموظفين وأعضاء المجالس وسادات القبائل على ما صدر من قانون وأمر، أي على صحة توقيع وأمر الملك، ومن انه أمر به بحضورهم. كما نجد في كتب الرسول إلى القبائل والوفود، جملة "وشهد فلان" أو "وشهد فلان بن فلان"، مما يظهر ان هذه الطريقة من الشهادة كانت طريقة من طرق التأييد على صحه الشيء والتوثيق لما هو مكتوب عند الجاهليين.

(1/3043)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا بد لقبول شهادة شاهد من شروط يجب أن تتوفر فيه. حذر الكذب في الشهادة فهناك أشخاص لا يمكن الأخذ بشهادتهم. ومن هؤلاء شهود الزور. أي الشهود البطل، الذين يشهدون شهادات باطلة لا أصل لها. فمثل هؤلاء موجودون عند كل الأمم وفي كل الأديان وفي كل الأزمان. ولكل شريعة شروط تضعها فيمن يمكن الاستمآع إلى شهادته وفيمن يجب رفض شهادته. فقد اشترطت الشريعة اليهودية في قبول شهادة الشهود، ألا يكون الشاهد مقامرا ولا من الاكلين للربا ولا من الذين يقامرون في سباق الخيل ولا من الذين يخالفون حرمة السبت وأحكام الشريعة، وأضاف اليهم بعض العلماء الرعاة لأنهم يسمحون لقطعان ماشيتهم بالرعي في أرض حرام لا تخصهم، ولا لجباة الضرائب والعشارون، لكذبهم وتعسفهم في جمع الضرائب، ولا ألفلاحين الذين يزرعون أرض غيرهم. ولا المرأة إلى غير ذلك من شروط اختلفت باختلاف أوجه نظر الفقهاء.
وعلى الشاهد ألا يغير في شهادته ولا يبدل فيها، وإلا طعن بشهادته. وعليه ألا يتراجع عنها بعد ان يؤديها والا يكذب فيها. ولهذا كان المتخاصمون يناقشون الشهود، ويطعنون في شهادتهم إن وجدوا فيهم مغمزا ومطعنا، وعليهم أن يؤدوا يمينا بأنهم صادقون في شهادتهم وسيقولون إلحق والصدق.
وإذا نكص شخص عن شهادة أراد أداءها أو يمين وجبت عليه، فيقال عنه إنه "نكل". وإذا نقض أحدهم عهده فهو ناكث له. والنكث نقض لما اتفق طرفان عليه. وهو خيانة يزدرى صاحبها عليها ويعاب.
تسجيل العقود

(1/3044)


--------------------------------------------------------------------------------

وكانوا يسجلون العقود والعهود والمواثيق والأحلاف والأمور المهمة التي يتفقون عليها ويلزمون أنفسهم بتنفيذها بصحائف خاصة يحفظونها عندهم للرجوع اليها عند الاختلاف وقد عرفت هذه الصحف بأسماء منها "المهارق"، و "الصحف"، و "الكتب". أما صحفهم التي كانوا يسجلون عليها حساباتهم وتجاراتهم وما كان لهم من ديون ورهون وأمثال ذلك من معاملات، فقد عرفت بي " صكوك" وكتب. وإذا اختلفوا على شيء رجعوا إلى ما هو مكتوب فحكموا به.
وتدون العقود التي قد تعقد بين السيد ومملوكه في كتب، ويعبر عن ذلك ب "مكاتبة الرقيق". واليها أشير في القرآن الكريم: "والذين يبتغون الكتاب مما ملكت ايمانكم فكاتبوهم".
القسامة
ومن لفظة "القسم"، وردت "القسامة"، ويراد بها حلف معين عند التهمة بالقتل على الاثبات أو النفي، وقد كانت مستعملة عند الجاهلين. فإذا قتل شخص ولم يعرف قاتله،ولم تظهر على معرفة القاتل بينة ظاهرة ثابتة عادلة كاملة، وأعتقد اهل القتيل والمطالبون بحق دمه أن فلانا قتله، لعلامة دلتهم على ذلك، أو لخبر سمعوه أو للطخ دم وجد في شخص كان قد مر بالقاتل أو اشتبه به، أو لعداوة سابقة، أو لوجود رجل مشكوك في أمره في دار القتيل وقت وقوع القتل، أو الرسالة حملها رجل تخبر باسم القاتل، وأمثال ذلك، فإن اهل القتيل والمطالبين بثأره ودمه، يستعملون عندئذ "القسامة". وذلك بأن يحلف خمسون من اولياء القتيل خمسين يمينا أن فلانا قتله، انفرد بقتله ما شركه في دمه احد.
فإذا حلفوا خمسين يمينأ، استحقوا دية قتيلهم، وان ابوا ان يحلفوا مع اللوث الذي أدلوا به، حلف المدعى عليه انه بريء، وإن نكل المدعى عليه عن اليمين خير ورثة القتيل تسليمه اليهم لقتله، أو اخذ الدية من مال المدعى عليه.

(1/3045)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن أمثلة ما ذكره أهل الأخبار عن القسامة والعقوبة المعجلة التي تلحق بصاحب اليمين الكاذبة، ما ذكروه عن استئجار رجل من قريش، اسمه خداش بن عبدالله ابن أبي قيس العامري في رواية، رجلا من بني هاشم، فانطلق الأجر معه في إبله إلى الشام فمر به رجل من بني هاشم قد انقطعت عروة جوالقه، فقال للاجير: أغثني بعقال أشد به عروة جوالقي، فأعطاه عقالا، فشد به جوالقه. فلما نزلوا، عقلت الإبل، إلا بعيرا واحدا. فقال الذي استأجره: ما شأن هذا البعير لم يعقل من بين الإبل. قال الأجير: ليس له عقال. قال المستأجر له:

(1/3046)


--------------------------------------------------------------------------------

فأين عقاله ? فحذفه بعصا،.كان فيها أجله. فمر رجل من أهل اليمن، فقال: أتشهد الموسم ? قال: ما أشهد، وربما شهدته. قال: هل أنت مبلغ عني رسالة مرة من الدهر ? قال: نعم. قال: فكنت إذا شهدت الموسم فناد: يا آل قريش. فإذا أجابوك، فناد يا آل بني هاشم، فإن أجابوك، فاسأل عن أبي طالب، فأخبره ان فلانا قتلني في عقال. ومات المستأجر. فلما قدم الذي استأجره، أتى أبو طالب، فقال له: ما فعل صاحبنا ? قال: مرض، فأحسنت القيام عليه، وتوفي فوليت دفنه. قال أبو طالب: قد كان أهل ذاك منك، فمكث حينا. ثم ان الرجل اليماني الذي أوصى اليه أن يبلغ عنه، وافى الموسم، فقال: يا آل قريش. قالوا له هذه قريش. قال: يا آل بني هاشم. قالوا: هذه بنو هاشم. قال: أين ابو طالب ? قالوا: هذا ابو طالب. قال له: أمرني فلان ان ابلغك رسالة: إن فلانا قتله في عقال. فأخبره بالقصة، وخداش يطوف بالبيت، لا يعلم بما كان. فقام رجال من بني هاشم إلى خداش فضربوه، وقالوا: قتلت صاحبنا، فحمد. وأتاه ابو طالب، فقال له: اختر منا إحدى ثلاث: ان شئت ان تؤدي مئة من الإبل، فإنك قتلت صاحبنا، وإن شئت حلف خمسون من قومك انك لم تقتله، فإن أبيت، قتلناك به. فأتى قومه، فقالوا نحلف، فأتته امرأة من بني هاشم كانت تحت رجل منهم، قد ولدت له، فقالت: يا أبا طالب، أحب ان تجيز ابني هذا من اليمين، وتعفو عنه برجل من الخمسين، ولا تصبر يمينه حيث تصبر الأيمان. ففعل. فأتاه رجل منهم، فقال: يا أبا طالب، أردت خمسين رجلا أن يحلفوا مكان مئة من الإبل، يصيب كل رجل بعيران. هذان بعيران، فاقبلهما عني، ولا تصبر يميني حيث تصبر الأيمان، فقبلهما. وجاء ثمانيه وآربعون فحلفوا. ويذكر رواة هذا الخبر انهم كذبوا في يمينهم، فما حال الحول ومن الثمانية والأربعين عين تطرف.
الفصل السابع والخمسون
الاحوال الشخصية

(1/3047)


--------------------------------------------------------------------------------

وأقصد بها الحقوق التي تتعلق بالشخص وبعلاقته بأسرته. مثل الزواج والطلاق والوفاة والميراث وحقوق الزوجة أو الزوج وحقوق الوالد على ولده وحقوق الولد، وأمثال ذلك مما يدخل في الفقه الإسلامي في "باب المناكحات"، وهو باب من أبواب قسم "المعاملات".
وبفضل إقرار الإسلام بعض أحكام الجاهليين في الزواج وفي الطلاق وفي الوفاة وفي الميراث وتحريم أحكام أخرى مع الاشارة اليها، جمع أهل التفسير والحديث والاخبار طائفة من أحكام الجاهليين القريبين للاسلام والمعاصرين له، خاصة أحكام أهل المدينتين: مكة ويثرب، ومن سكن في جوارهما من أهل المدر والوبر. وكل كل ما ذكرنا اعتمادنا. غير ان تلك المادة لا تزال خاما بكرا، وبها حاجة شديدة إلى الغربلة والنقد والتنسيق.
وما سنذكره في هذه الصفحات، لا يعني شمول هذا الوصف عموم الجاهليين في كل الأوقات وفي كل أنحاء الجزيرة، انما هو قول خاص بالجاهليين القريبين من الإسلام والمعاصرين له والساكنين في الحجاز،ولا سيما في المدينتين المذكورتين.
أما قدماء الجاهليين ممن عاشوا قبل الميلاد والجاهليين الذين عاشوا في جنوب جزيرة العرب أو في شرقيها، فلا نستطيع أن نقول إن ما نذكره هنا منتزع من صميم حياتهم، فهو يمثل ما كان عندهم كل التمثيل، لأن المواد التي أشرت اليها لا تصل إلى حدودهم، وليس لها قدرة الوصول اليهم، فليس من حقنا إذن تعميم ما سنقوله على جميع الجاهليين.
النكاح
ويعبر عن الزواج ب "النكاح" في الفقه الإسلامي. والنكاح هو العقد في الأصل، ثم استعير للجماع. وقد عبر في القرآن الكريم عن الزواج في المعنى الشائع عندنا من "الزوج" والزوجة. أما في حالة التزويج وعقد العقد لغرض الدخول على المرأة، فقد عبر عن ذلك ب "النكاح" وب "نكح" وبأمثال ذلك، ومن هنا أطلق الفقهاء في الفقه على الزواج "النكاح" وعلى الباب المختص بذلك "المناكحات"، وعبر عنه ب "العقد" وب "الوطء" كذلك.

(1/3048)


--------------------------------------------------------------------------------

أما إذا كان الاتصال بين الرجل والمرأة اتصالا" جنسيا بغير عقد ولا خطبة، فهو زنا، ويقال للمرأة عندئذ "زانية" و "بغي" و "فاجرة" و "عاهرة" و "معاهرة" و "مسا فحة"..
ولا بد للزواج من أن يكون برضى الطرفين وبموافقتهما، وبموافقة الوالدين أو المتولى للامر. واذا كان أحد الطرفين أو كلاهما قاصرا فلا بد من أخذ موافقة القيم على أمره، وإلا، تعر ض الرجل والمرأة أو أحدهما للمسؤولية. هذا هو الأصل في الزواج عند الجاهليين أيضا، غير ان الرجل قد ينهب المرأة باتفاق مع البنت أو غصبا فيأخذها، وهذا ما يسيء إلى أهل البنت ويلحق بهم الأذى، إلا ان الطرفين قد يتفقان فيما بعد على الزواج.

ولولي الأمر إجبار البنت على الزواج بمن يريد أو يوافق عليه لأن يكون بعلا لها، وليس لها مخالفته. وقد يسمح لها بإبداء رأيها في الزوج وفي الزواج، ويكون ذلك في الأسر المحترمة في الأكثر، وعند أولياء الأمور الذين ليس لهم من البنات غير واحدة أو اثنتين، وعند وجود دالة للبنت على ولي أمرها.
والرجال قوامون على النساء. أما المرأة، فهي للبيت، والرجل هو "رب البيت" وسيده والمسؤول عنه،وله الكلمة على شؤونه. وهو القيم الطبيعي المسؤول عن تربية أولاده. وهو المسؤول عن إعالة زوجه وأولاده. والزوج تبع لبعلها، وعليها إطاعة أوامره، ما دامت أوامره لا تنافي الخلق والمألوف، وبيتها هو "بيت الزوجية". ولسيادة الرجل على بيته وزوجه،قيل له في كثير من اللغات السامية، وفي جملتها اللغة العربية "بعل". فالرجل هو بعل المرأة.
ومن تلده الزوج يكون للبعل، فهو في ولايته، وله رعايته، وعليه تربيته حتى يبلغ أشده. وهو مسؤول أيضا عن رعاية أحفاده بعد ابنه. أما أولاد ابنته فإنهم في رعاية أبيهم الذي يكون وحده المسؤول عنهم، لأنه بعل زوجه، وهو رب بيته.

(1/3049)


--------------------------------------------------------------------------------

وللحق المتقدم لم تمانع شرائع الجاهليين في وأد البنات أو قتل الأولاد،ولم تعد من يئد البنت أو يقتل ابنه قاتلا، ولم تؤاخذه على فعله، حتى الأمهات لم يكن من حقهن منع الاباء من وأد بناتهن، أو قتل أولادهن، لأن الزوج هو وحده صاحب الحق والقول الفصل فيمن يولد له، وليس لامرأته حق الإعتراض عليه ومنعه.
ولهذا الحق لم يكن للولد الاعتراض على ما يفرضه أبوهم عليهم من حقوق، ولا مخالفة أوامره ونواهيه. فبوسع والدهم فرض ما يراه عليهم من عقوبات، فلا يمنعه منها إلا قوة الولد وتوسط الناس. فإذا اشتد عود الولد، وقوي ساعده صار الحق إلى جانبه، وصار في وسعه معارضة والده، ولن يكون في إمكان الوالد فعل شيء بعد بلوغ ابنه سوى خلعه والتنصل منه على رؤوس الأشهاد.
القاعدة للعامة في الازدواج
والقاعدة العامة في الازدواج مراعاة علاقة الأصل بالفرع، فلا يجوز نكاح الأب لابنته، ولا الجد لحفيدته، ولا يجوز للام أن تتزوج ابنها، ولا للجدة أن تتزوج حفيدها، ولا للأخ أن يتزوج أخته، مراعاة لعلاقة الأصل بالفرع، أي لعلاقة الدم. ومن يفعل ذلك يكون آثما مؤاخذا على فعله.
ويراعى هذا التحريم حتى في حالات التبني، لاكتساب التبني الصفة المقررة للابن الطبيعي، فلا يجوز للمتبني أن يتزوج ابنة المتبنى لأنه اتخذه ابنا له. ومحرم على الرجل أن يتزوج ابنة أخيه، أو ابنة أخته. أما ولد الأخوين أو ولد الأختين أو ولد الأخ والأخت، فالزواج بينهم مباح. ويحرم نكاح العمة كما يحرم نكاح الخالة، وذلك لأنهما في درجة الأصول. ويحرم بصورة عامة كل نكاح يقع بين المحارم.
ومن القبيح عندهم الجميع بين الأختين، وأن يخلف الرجل على امرأة أبيه، ويسمون هذا ألفعل من فعول "الضيزن". قد عرف هذا الزواج بنكاح المقت.

(1/3050)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد حرم هذا النكاح في الإسلام. فقد ورد أن "كبشة بنت معن بن عاصم" امرأة "أبي قيس بن الأسلت" انطلقت إلى الرسول فقالت.: "إن أبا قيس قد هلك، وإن ابنه من خيار الحي قد خطبنى. فسكت الرسول، ثم نزلت الأية "ولا تنكحوا ما نكح اباؤكم من النساء"، فهي أول امرأة حرمت على ابن زوجها.
وذكر "السهيلي" أن ذلك الزواج كان مباحا في الجاهلية بشرع متقدم، ولم يكن من الحرمات التي انتهكوها ولا من العظائم التي ابتدعوها، لأنه أمر كان في عمود نسب رسول الله، فكنانة تزوج امرأة أبيه خزيمة، وهي برة بنت مر. فولدت له النصر بن كنانة. وهاشم أيضا قد تزوج امرأة أبيه واقدة، وقد قال عليه السلام: "أنا من نكاح لا من سفاح". ولذلك قال سبحانه: )ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف(. أي إلا ما سلف من تحليل ذلك قبل الإسلام. وفائدة هذا الاستثناء ألا يعاب نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم،وليعلم أنه لم يكن في أجداده من كان لغية ولا من سفاح".
وذكر علماء التفسير، ان أهل الجاهلية كانوا يحرمون ما يحرم إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين. وأسلم "فيروز الديلمي"، وتحته اختان، فقال له النبي: اختر أيهما شئت، وجمع "أبو أحيحة" سعيد بن العاص بن أمية، بين صفية وهند بنتي المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم، وجمع "قسي"، وهو ثفيف ابن منبه، آمنة وزينب بنتي عامر بن الظرب في نكاح واحد. وجمع "هنام بن سلمة" العائشي، أخو بني تيم اللات بن ثعلبة بن عكابة بين اختين.
ويقدم "ابن العم" على غيره في زواج ابنة عمه، ولا يزال متقدما على غيره. وقد تجبر البنت على الزواج به في حالة عدم رغبتها من الزواج، وقد لآ يتركها تتزوج من غيره إلا بإرضائه، وقد يكون هذا ألإرضاء بدفع ترضية له.
الصداق

(1/3051)


--------------------------------------------------------------------------------

والزواج المألوف المتعارف عليه عند غالبية الجاهلين، هو نكاح الناس اليوم. وهو أن يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها، أي يعين صداقها ويسمى مقداره ثم يعقد عليها. وكانت قريش وكثير من قبائل العرب على هذا المذهب في النكاح. وما يدفع يسمى "الصداق""أو "المهر".
ويعد الصداق أي المهر فريضة لازمة عند الجاهلين لصحة عقد الزواج، إذ هو علامة من علاماته، ودلالة على شرعيته. وكانوا لا يقرون زواجا ولا يعترفون بشرعيته إلا إذا كان بمهر. فإذا لم يكن هناك مهر، عد بغيا وسفاحا وزنا، فالمهر هو أيضا علامة شرف، وكون المرأة حرة محصنة لها كامل الحقوق.
ولا يشترط دفع المهر إذا كانت المرأة قد وقعت في أسر آسر فتزوجها لأنها أسيرته، فهي ملكه، وله حق الدخول بها بغير مهر، ولو كانت في عصمةرجل آخر، لأن الأسر يبطل عصمة الزواج.
"وكانوا يخطبون المرأة إلى أبيها أو أخيها أو عمها، أو بعض بني عمها. وكان يخطب الكفي إلى الكفي. فإن كان أحدهما أشف من الآخر في الحسب، أرغب له في المهر. وإن كان هجينا خطب إلى هجين. فزوجه هجينة مثله. فيقول الخاطب إذا أتاهم: أنعموا صباحا. ثم يقول: نحن أكفاؤكم ونظراؤكم. فإن زوجتمونا فقد أصابنا رغبة وأصبتموها. وكنا لصهركم حامدين. وإن رددتمونا لعلة نعرفها، رجعنا عاذرين. وإن كان قريب القرابة منه أو من قومه، قال لها أبوها أو أخوها، إذا حملت اليه: أيسرت وأذكرت ولا آنثت ! جعل الله منك عددا وعزا وجلدا. أحسني خلقك وأكرمي زوجك. وليكن طيبك الماء. واذا تزوجت في غربة قال لها: لا أيسرت ولا أذكرت، فإنك تدنين البعداء، وتلدين الأعداء. أحسني خلقك وتحببي إلى أحمائك. فإن لهم عليك عينا ناظرة، واذنا سامعة. وليكن طيبك الماء".

(1/3052)


--------------------------------------------------------------------------------

والأصل في المهر عند الجاهليين دفعه للمرأة، غير أن ولي أمرها هو الذي يأخذه لينفق منه على ما يشتري لتأخذه المرأة معها إلى بيت الزوجية. وقد يأخذ ولي أمرها "المهر" لنفسه، ولا يعطي المرأة منه شيئا، لاعتقاده أن ذلك حق يعود اليه. ولذلك نهي عنه في الإسلام. وللمرأة حق استرداد مهرها إذا فسخ الزوج عقد الزواج، أو إذا طلقها، إلا إذا كان ذلك بسبب الزنا فيسقط.
وإذا كان المهر مؤجلا كلا أو بعضا، فيكون دينا في عنق الزوج، وإذا توفي وجب دفعه لامرأته من تركته.
وليس للمهر حد معلوم، لا حد أعلى ولا حد أدنى، بل يتوقف ذلك على الاتفاق. وتراعى في ذلك الحالة المالية للرجل في الغالب. ولما كانت النقود قليلة في ذلك العهد، كان المهر عينا في الأكثر، وتدخل فيه الأرض. وقد بلغ المهر مئة من الإبل أو خمسين ومئة بعض الأحيان. وقد كان بوزن من ذهب أو فضة في بعض الأحيان.
ويجوز للرجل استرداد مهره من تركة زوجه. إن ماتت في حياته. وله حق مطالبة أهلها برد مهرها اليه في حالة عدم وجود تركة لها.
وليس في زواج الشغار، مهر حقيقي. لأنه زواج مقايضة. وهو أن يزوج الرجل وليته في مقابل تزويجه ولية من سيتزوج وليته. فليس في هذا الزواج مهر بالمعنى المعروف.
وذكر ان أهل الجاهلية كانوا لا يعطون النساء من مهورهن شيئا، وان الرجل إذا زوج ابنته استجعل لنفسه جعلا يسمى "الحلوان"، وكانوا يسمون ذلك الشيء الذي يأخذه "النافجة" ويقولون للرجل: "بارك الله لك في النافجة". وروي ان العرب كانت تقول في الجاهلية "للرجل إذا ولدت له بنت: هنيئا لك النافجة، أي المعظمة لمالك،وذلك انه يزوجها فيأخذ مهرها من الإبل، فيضمها إلى إبله، فينفجها أي يرفعها ويكثرها".
والحلوان أن يزوج الرجل ابنته أو أخته أو امرأة ما بمهر مسمى، على أن يجعل له من المهر شيء مسمى، وكانت العرب تعير به. وقيل إن حلوان المراة: مهرها.

(1/3053)

admin
01-01-2011, 01:23 AM
والصداق المهر، و "الصدقة" مهر المرأة، وقد ورد النهي في الحديث عن الغلو في صدق النساء،مما يدل على ان من الجاهليين من كان يبالغ في الصداق. ويستخلص مما جاء في أخبار أهل الأخبار عن المهر، ان أهل الجاهلية لم يكونوا على عرف واحد بالنسبة إلى حق الانتفاع من المهر، فمنهم من كان يعطيه كله للمرأة، ومنهم من كان يعطيه كله ويزيد عليه إكرامأ لابنته أو من ولي أمرها، ومنهم من كان يأكله كله أو بعضا منه.
ويطهر من وثيقة معينة أن ملوك معين كانوا يصدرون أوامرهم بالموافقة على عقود الزواج على نحو ما تفعل الحكومات من اصدار وثائق عقود الزواج. ولكننا لا نملك وثيقة تثبت أن المرأة كانت تكره على الزواج من شخص لا تريد التزوج منه. بل ليظهر أن المرأة كانت مثل الرجل عند المعينين لها حق النظر في أمر اختيار الزوج.
أنواع الزواج
والزواج المألوف بين الجاهلين، هو زواج هذا اليوم. أي الزواج القائم على الخطبة والمهر، وعلى الايجاب والقبول. وهو ما يسمى بزواج البعولة، وهو زواج منظم، رتب الحياة العائلية وعين واجبات الوالدين والبنوة. وهو الذي أقره الإسلام. يكون الرجل بموجبه بعلا للمرأة فهي في حمايته وفي رعايته.وللزوج في هذا الزواج أن يتزوج من النساء ما أحب من غير حصر، وله أن يكتفي بزوج واحدة. وأمر عدد الأزواج راجع اليه والى حواه بالنساء.

(1/3054)


--------------------------------------------------------------------------------

وزواج البعولة هو الزواج الذي كان شائعا بين الجاهليين في كل أنحاء جزيرة العرب، خاصة عند ظهور الإسلام، وبين أهل الحضر وأهل الوير. ويرجع"روبرتسن سمث" W.R. Smith أسباب شيوع هذا الزواج وظهوره إلى الحروب والى وقوع النساء في الأسر،ويكون الأولاد بحسب هذا النوع من الزواج تابعين للاب، يلتحقون به، ويأخذون نسبه. وهو على نوعين: نوع يكتفي فيه الرجل بالتزوج بامرأة واحدة وهو ما يسمى ب Monogamy، ونوع آخر يتزوج بموجبه الرجل عددا غير محدود من النساء، أي أكثر من زوجة واحدة في آن واحد وهو ما يسمى بpolygamy ، أي زواج تعدد الزوجات.
ويحصل الرجل في هذا الزواج على زوجة بالتراضي مع أهلها، حيث يتم ذلك بخطبة ومهر، أو بالحرب حيث يحصل المنتصرون على أسرى فيختار الرجل له واحدة من بينهن متى ولدت له أولادا صارت زوجا له. وصار هو بعلا لها. ويلاحظ أن النصوص العربية الجنوبية دعت الزوج بعلا، أما الزوجة فدعتها "بعلت" "بعلة"، ومعناها ان المرأة في حيازة الزوج وملكه.
ولذلك عوملت الزوجة بعد وفاة زوجها معاملة "التركة" أي ما يتركه الإنسان بعد وفاته، لأنها كانت في ملك زوجها وفي يمينه. ومن هنا كان للأخ أن يأخذ زوجة أخيه إذا مات ولم يكن له ولد، لأن الأخ هو الوارث الشرعي لأخيه،فهو يرث لذلك زوجة أخيه التي هي في بعولته، ويرث ابن الأخ هذا الحق عن أبيه.
نكاح الضيزن

(1/3055)


--------------------------------------------------------------------------------

وهذه النظرة المتقدمة بالنسبة إلى الزوجة، دفعت إلى نكاح أطلق عليه المسلمون"نكاح المقت"، وعرف ب "نكاح الضيزن" كذلك. وهو نكاح معروف من أنكحة الجاهليين. "ذلك انهن في الجاهلية كانت إحداهن إذا مات زوجها كان ابنه أو قريبه أولى بها من غيره ومنها بنفسها، إن شاء نكحها، وإن شاء عضلها فمنعها من غيره ولم يزوجها حتى تموت". وظل هذا شأنهم إلى أن نزل الوحي بتحريم ذلك. وقد تناوب ثلاثة من "بني قيس بن ثعلبة" امرأة أبيهم، فعيرهم ذلك "أوس بن حجر التميمي"، إذ قال: والفارسية فيهم غير منكرة فكلهم لأبيه ضيزن سلف
وهذا الزواج على أنه كان معروفا وقد مارسه أناس معروفون كان ممقوتا من الأكثرية، ولذلك عرف ب "زواج المقت"، وأطلقوا على الرجل الذي يخلف امرأة أبيه إذا طلقها أو مات عنها وقبل من يزاحم أباه في امرأته "الضيزن". وقالوا لولد الذي يولد من هذا الزواج مقتي ومقيت.
وطريقة أهل "يثرب" في إعلان دخول زوجات المتوفى في ملك ألابن أو الأخ أو بقية الأقرباء من ذي الرحم إذا لم يكن للمتوفى أبناء أو اخوة، هو بإلقاء الوارث ثوبه على المرأة، فتكون عندئذ في ملكه، إن شاء تزوجها، وإن شاء عضلها، أي منعها من الزواج من غيره حتى تموت، فيرث ميراثها، إلا أن تفتدي نفسها منه بفدية ترضيه.

(1/3056)


--------------------------------------------------------------------------------

وقال "الطبري" في تفسير: "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها": "كانت الوراثة في أهل يثرب بالمدينة ههنا، فكان الرجل يموت فيرث ابنه امرأة أبيه كما يرث أمه لا يستطيع أن يمنع. فإن أحب أن يتخذها اتخذها كما كان أبوه يتخذها، وإن كره فارقها، وإن كان صغيرا حبست اليه حتى يكبر فإن شاء أصابها وإن شاء فارقها، فذلك قول الله تبارك وتعالى: )لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها(.وذكر أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى تموت أو ترد اليه صداقها"، وورد عن "السد ي" قوله: "إن الرجل في الجاهلية كان يموت أبوه أو أخوه أو ابنه، فإذا مات وترك امرأته، فإن سبق وارث الميت، فألقى عليها ثوبه، فهو أحق بها أن ينكحها بمهر صاحبه أو ينكحها فيأخذ مهرها، وإن سبقت فذهبت الى أهلها فهم أحق بنفسها ".
وقال "الضحاك": "كانوا بالمدينة إذا مات حميم الرجل وترك امرأة ألقى الرجل عليها ثوبه فورث نكاحها وكان أحق بها، وكان ذلك عندهم نكاحا، فإن شاء أمسكها حتى تفتدى منه. وكان هذا في الشرك "، وروي عن "ابن عباس" أنه قال: " كان الرجل إذا مات وترك جارية، ألقى عليها حميمه ثوبه فمنعها من الناس، فإن كانت جميلة تزوجها، وإن كانت قبيحة حبسها حتى تموت فيرثها". فلهذا الظلم الفادح الذي كان ينزل بالمرأة بسبب ضعفهاوبسبب عرف الجاهلية في الحق، منع ذلك في الإسلام.
قال "محمد بن حبيب": "وكان الرجل إذا مات، قام أكبر ولده فألقى ثوبه على امرأة أبيه، فورث نكاحها. فإن لم يكن له حاجة فيها، تزوجها بعض اخوته بمهر جديد". ولكن أهل الأخبار لا يذكرون إن الاخوة يدفعون لها مهرا جديدا، فقد يكون هذا المهر الجديد الذي أشار "محمد بن حبيب" اليه،هو ترضية للابن الأكبر بسبب تنازله عن حقه الشرعي في امرأة أبيه الى من له رغبة فيها من اخوته الباقين، على ألا يكون كل من أبنائها بالطبع، و انما هم من زوجات أخرى. وقد فر ق الإسلام بين رجال ونساء آبائهم، وهم كثير ".

(1/3057)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر أن آية: )يا ايها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها(، نزلت في "كبيشة بنت معن بن عاصم" من الأوس، توفي عنها "أبو قيس بن الأسلت"، فجنح عليها ابنه، فجاءت النبي، فقالت: يا نبي الله لا أنا ورثت زوجي، ولا أنا تركت فأنكح فنزلت هذه الآية في منع ذلك. وحر م هذا الزواج في الإسلام، ومن تزوج امرأة ابيه وهو مسلم قتل وأدخل ماله في بيت المال.
وقد كان العبرانيون يتزوجون زوجات آبائهم كذلك، استمروا على ذلك حتى بعد السبي. كذلك عرفت هذه العادة بين الرومان والسريان.
نكاح المتعة
وأشار أهل الأخبار إلى وجود انواع اخرى من الزواج، الغالب عليها سقوط الصداق والخطبة منها، وهي: نكاح المتعة، وهو نكاح إلى أجل،فإذا انقضى وقعت الفرقة. وقد كان هذا النوع من الزواج معروفا عند ظهور الإسلام. وقد أشير اليه في القرآن الكريم:)فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة،ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة، إن الله كان عليما حكيما(.
وللفقهاء آراء في المتعة، ولا تزال معروفة في بعض المذاهب. ومن دوافع حدوث هذا الزواج التنقل والأسفار والحروب، حيث يضطر المرء الى الاقتران بامرأة لأجل معين على صداق. فإذا انتهى الأجل، انفسخ العقد. وعلى المرأة أن تعتد كما في أنواع الزواج الأخرى قبل ان يسمح لها بالاقتران بزوج آخر. فهو كزواج البعولة، فيما سوى الاتفاق على أجل معين يحدد مدة الزواج.
وينسب أولاد المتعة إلى أمهاتهم في الغالب، وذلك بسبب اتصالهم المباشر بالأم ولارتحال الأب عن الأم في الغالب إلى أماكن أخرى قد تكون نائية، فتنقطع الصلات بين الأب والأم ولهذا يأخذ الأولاد نسب الأم ونسب عشيرتها.
نكاح البدل
ونكاح البدل: وهو أن يقول الرجل للرجل: "إنزل لي عن امرأتك،وأنزل لك عن امرأتي". فهو زواج بطريق المبادلة بغير مهر.
نكاح الشغار

(1/3058)


--------------------------------------------------------------------------------

ونكاح الشغار: وهو أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الاخر ابنته، ليس بينهما صداق. وذلك كأن يقول الرجل للرجل: زوجني ابنتك، وأزوجك ابنتي، أو زوجني أختك وأزوجك أختي. وعرفه بعض العلماء على هذا النحو: "الشغار، بكسر الشين: نكاح كان في الجاهلية، وهو أن تزوج الرجل امرأة.، كانت على أن يزوجك أخرى بغير مهرا. وخص بعضهم به القرائب،فقال: لا يكون الشغار إلا أن تنكحه وليتك على أن ينكحك وليته". فكان الرجل يقول للرجل:شاغرني،أي: زوجني أختك أو بنتك أو من تلي أمرها حتى أزوجك اختي أو بنتي أو من إلي أمرها ولا يكون بينهما مهر. وقد نهى عنه الإسلام. وورد "ان اناسا كانوا يعطى هذا الرجل أخته، ويأخذ اخت الرجل، ولا يأخذون كثير مهر". "وكان ذلك من أولياء النساء، بأن يعطي الرجل اخته الرجل على ان يعطيه الآخر اخته،على ان لا كثير مهر بينهما،فنهوا عن ذلك". والغالب انه مثل "البدل" بدون مهر. وهو معروف حتى اليوم مع ورود النهي عنه، ولا سيما بين الطبقات الفقيرة والأعراب. وللوضع الاقتصادي والاجتماعي دخل كبير في هذا الزواج، لعدم وجود المهر، إذ حل التقايض فيه محل المهر. ولهذا لم ينظر اليه نظرة استهجان لوجود هذا التقايض فيه الذي يقوم مقام المهر.
نكاح الاستبضاع
وأشار أهل الاخبار إلى نوع غريب من الزواج، سموه "نكاح الاستبضاع". وهو - على ما يزعمون - ان يقول رجل لامرأته إذا طهرت من طمثها: ارسلي إلى فلان فاستبضعي منه، لتحملي منه. ويعتزلها زوجها،ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا حملها أصابها زوجها إذا أحب، وانما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، لأنهم كانوا يطلبون ذلك من اكابرهم ورؤسائهم في الشجاعة أو الكرم أو غير ذلك فكان هذا النكاح الاستبضاع.

(1/3059)


--------------------------------------------------------------------------------

كذلك كان بعض اصحاب الجواري على ما يرويه اصحاب الأخبار ايضا، يكلفون جواريهم الاتصال برجل معين من اهل الشدة والقوة والنجابة، ليلدن ولدا منه يكون في يمينه وملكه. والغاية من هذا النوع من التكليف الحصول على اولاد اقوياء يقومون بخدمة الرجل المالك، إن شاء استخدمهم في بيته وفي ملكه، وإن شاء باعهم وربح منهم، فهي تجارة كان يمارسها المتاجرون بالرقيق للربح والكسب.
واما ما اشار اليه اهل الأخبار من وجود زواج دعوه زواج الرهط، وزواج آخر قالوا له "زواج صواحبات الرايات"، فلا يمكن عدهما زواجا بالمعنى المفهوم من الزواج لأنهما في الواقع نوع من انواع البغاء، وخاصة "زواج صواحبات الرايات". وقد عرفوا الزواج الأول بأنه زواج يجتمع فيه الرهط ما دون العشرة، فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها، وذلك برضاء منها وتواطؤ بينهم وبينها، فإذا حملت ووضعت، ارسلت اليهم فلم يستطيع رجل منهم ان يمتنع حتى يجتمعوا عندها، فتقول لهم: قد عرفتم الذي من أمركم،وقد ولدت،ثم تسمي احدهم وتقول له: فهو ابنك يا فلان، فيلحق به ولدها،ولا يستطيع ان يمتنع به الرجل. وقد قيل إن هذا يكون إن كان المولود ذكرا، وإلا فلا تفعل لما عرف من كراهتهم للبنت وخوفا من قتلهم للمولودة.
ويقال لهذا النوع من الزواج زواج "تعدد الأزواج" Polyandry، في الانكليزية، وذلك لوجود امرأة واحدة فيه وعدد من الرجال تختارهم المرأة، التي تكون زوجة مشتركة بينهم، وهي عكس زواج الPolygamy، أي زواج تعدد النساء للرجل الواحد، حيث يتزوج الرجل الواحد بموجبه عددا من النساء، بعلا لهن.

(1/3060)


--------------------------------------------------------------------------------

و عرفوا "زواج صواحبات الرايات" بأنه نكاح يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمنع من جاءها، وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما، فمن ارادهن دخل عليهن. فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها، جمعوا لها، ودعوا لهم "القافة"، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فاستلحقه به، ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك. وذكر ان تلك الرايات كانت رايات حمرا. فالنكاحين المتقدمين ليسا في الواقع زواجا بالعرف الشائع عند غالبية الجاهليين وإنما هو سفاح، وقد عد في القرآن الكريم "زنا"، ولو كان فيه استحقاق الولد بوالد. فليس في هذا الزواج صداق ولا خطبة على عادة العرب، ومن يفعله من الرجال، لم يكن يقصد به زواجا بمعنى الأزواج وبالدرجة الأولى، وإنما التسلية وتحقيق شهوة بثمن، ولهذا فهما من أبواب الزنا والسفاح.
وقد تعرض " السكري" لموضوع "صاحبات الرايات"، فقال: "ومن سنتهم أنهم كانوا يكسبون بفروج إمائهم. وكان لبعضهم راية منصوبة في اسواق العرب، فيأتيها الناس فيفجرون بها. فأذهب الإسلام ذلك وأسقطه فيما اسقط، ولهن اولاد ونسل كثير معروف".
وممن أشار إلى وجود إباحة تعدد الأزواج للزوج الواحدة في شرائع الجاهليين، "سترابو". ذكر ان الاخوة كانوا،يشتركون في كل في شيء، في المال وفي الزوج. فللاخوة جميعهم زوج واحدة تكون مشتركة بينهم. ولكن الرئاسة تكون للاخ الأكبر. وإذا اراد احد الاخوة الاتصال بالزوجة، وضع عصاه على باب الخيمة، لتكون علامة تفهم الآخرين ان احدهم في داخلها، فلا يدخلها،وهم جميعا يحملون العصي معهم. أما في الليل فتكون الزوجة من نصيب الولد الأكبر. وهم يعاشرون أمهاتهم معاشرة جنسية. وذكر انهم يعاقبون الزاني عقابا شديدا. يعاقبونه بالموت. والزاني في عرفهم هو الشخص الغريب، يعاشر امرأة من اصل غريب عنه.

(1/3061)


--------------------------------------------------------------------------------

وذهب بعض العلماء إلى ان اشتراك الأخوة في زوج واحدة، وهو ما يعبر عنه ب Fraternal polyandry عند علماء الاجتماع، على نحو ما أشار "سترابون" اليه، هو زواج يعد مرحلة وسطى بين تعدد الأزواج Polyandry البدائي الذي لم يكن مقيدا بقيود وبين الزواج المقيد المعروف، زواج البعولة، وهو اختصاص المرأة بزوج واحد، أي الزواج الذي اباحته الأديان السماوية. وكان شائعا بين غالبية الجاهليين القريبين من الإسلام وعند ظهور الإسلام. وليس بمستبعد ان يكون "سترابون" قد قصد ب "زواج الأخوة" الزواج المعروف ب Le virate Marriage عند علماء الاجتماع،. وهو زواج الأخ زوجة أخيه بعد وفاته، وهو زواج نشأ على رأي علماء الاجتماع من زواج ال Polyandry. وهو معروف عند العرب وعند العبرانيين والحبش وغيرهم.
وحينما يتوفى الزوج عند العبرانيين، تاركا له زوجا دون ولد، يأخذ الأخ ارملة اخيه، فإذا ولدت له ولدا عد المولود للاخ المتوفى. وللباحثين آراء عن اصل هذا الزواج وفي الأسباب التي أدت إلى وقوعه. وهو في رأي "جيمس فريزر" صفحة من صفحات اشتراك الأخوة في زوج واحدة، واشتراك الأخوة في تزوج الأخوات، وهو متمم لما سماه ب Sororate.
والجمع بين الأختين زوجين لرجل واحد، زواج معروف عند الجاهليين. وهذا الزواج هو صورة معكوسة لزواج الأخوة مشتركا في زوج واحدة، فلم يكن هناك رادع قانوني يمنع الرجل من التزوج من الأخوات في زمن واحد ومن الجمع بينهن في صعيد الزوجية، وفي بعولة رجل واحد. وهو في جملة أنواع الزواج الذي نهى عنه الإسلام.

(1/3062)


--------------------------------------------------------------------------------

وتعدد الأزواج للزوج الواحدة يسبب مشكلة خطيرة في قضية تعيين أبوة الأولاد إذ يكون من الصعب في اكثر الحالات إثبات ذلك، ولهذا نسبوا الى الأمهات في الغالب. وهذا ما بعرف بالأمومة. وزواج مثل هذا يكون داخليا، اي في أفراد العشيرة الواحدة، ويعاقب مرتكبه عقابا صارما إذا كان من عشيرة غريبة، إذ يعد ذلك نوعا من الزنا. ويكون هذا الزواج مؤقتا في الغالب، ينتهي أجله بارتحال اهل المرأة وانتقالهم من مكان إلى آخر.
وقد أشار "أميانوس مارسيلينوس" Ammianus Marcellinusإلى زواج قال انه موجود عند العرب، تزف العروس إلى زوجها ومعها حربة وخيمة، وقال انها تستطيع ان تعود إلى بيتها بعد مدة إذا رغبت في ذلك. وقد ذهب "جورج برتن" George Barton إلى ان هذا الزواج الذي يذكره هذا المؤرخ القديم هو من نوع الزواج المتقدم.
إن هذا الزواج يجعل المرأة تعيش مع أهلها وبين أبويها وإخوتها ومعها اولادها،ولهذا يكون نسب الأطفال هو نسب الأم،ولهذا صار الخال اقرب اليهم من العم. ومن هنا نرى ان للخال شأنا كبيرا بالقياس إلى الأطفال عند السامين.

(1/3063)


--------------------------------------------------------------------------------

ويظن بعض علماء الاجتماع المحدثين ان من الأسباب الني دعت إلى شيوع تعدد الازواج للزوج الواحدة، هو قلة عدد النساء بالقياس الى الرجال، وذلك بسبب الوأد، ولكن كيف نتمكن من إثبات انتشار عادة الوأد بين جميع العرب وفي كل العهود?ثم من الذي يثبت لنا انه كان من سعة الانتشار بحيث احدث مشكلة خطيرة في عدد النساء بالقياس إلى الرجال ?ثم إن هذا النوع من الزواج كان معروفا عند غير العرب من الأمم، ولا زال معروفا عند بعض القبائل الإفريقية، وهو في نظرهم نوع من انواع الزواج، وهم لا يمارسون مع ذلك الوأد ! وقد نص في الآية )حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن، فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم، وان تجمعوا بين الأختين، إلا ما قد سلف، إن الله كان غفورا رحيما(. ونص في الآية.)ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا(، وذلك بسبب النسب والصهر والرضاع. ونزول الوحي بتحريم الزواج بالمذكورات، يبعث على الظن أن من الجاهليين من كان يتصل اتصالا جنسيا بهن. غير أن من العلماء من يقول إن الجملة "انشائية، وليس المقصود منها الأخبار عن التحريم في الزمان الماضي "، بمعنى أنها ليست حكاية عن تجويز الجاهليين الاقتران بالنساء المذكورات، وتحريم الإسلام له، وإنما الآية تقرير وتوضيح للتحريم والمحرمات على سبيل العد والحصر، لا الحكاية والإبطال لأحكام سابقة لظهور الإسلام.

(1/3064)


--------------------------------------------------------------------------------

وللآيتين شأن خاص بالقياس إلى بحثا في زواج الجاهليين، ولهذا كان لشرح أسباب نزولهما والعوامل التي دعت إلى نزول الوحي بهما، والغاية من نزول الحكم بالتحريم، شأن كبير عند الباحث في هذا الموضوع، غير أن غالبية المفسرين لم تتعرض للبحث في هذه المسأله، ويا للاسف، وإنما تبسطت في أمور لغوية وفقهية لا تزيل الغموض عن الأسباب الني دعت إلى النص على التحريم، وعن آراء الجاهليين في الزواج بالمذكورات في الآية، إذ أن التحريم يعني وقوع الإباحة عند من حرم ذلك عليهم إلى حين نزول الوحي: ولا سيما أن المفسرين قد ذكروا أمثلة تشير إلى ان بعضهم قد تزوج ممن ورد ذكره في تلك الآية. ثم ان بعضه من النوع المعروف المألوف عند بعض الأمم، وما زال معروفا حتى الآن، وأن بعض ما حرم في الإسلام جائز في ديانات أخرى، ومنها اليهودية والنصرانية، فليس بغريب ولا بعيب إذا كان موجودا بعضه عند الجاهليين.
والاتصال الجنسي بين الأولاد والأمهات شيء قليل الوقوع عند البشر.
ولم تبحه ديانة من الديانات، وهو غير معروف في العرب، ولم يشر اليه أهل الأخبار. أما ما ذكره "سترابون"، فلعل المراد منه الزواج بزوجات الآباء بعد موتهم، أي أنه ذكر الأمهات على سبيل التجوز، وهو زواج المقت الذي كان معروفا في الجاهلية وعند غير الجاهليين، إلى ان نهى عنه الإسلام.
واما زواج الأخوة بالأخوات، فهو معروف وثابت وما زال معروفا حتى الآن في "سيام" وفي بورما وسيلان وأوغندا وأماكن اخرى. وقد كان عند الفرس والمصريين، وخاصة بين أفراد الأسر المالكة والاشراف. والظاهر ان ذلك لاعتقادهم ضرورة المحافظة على نقاوة الدم وخصائص الاسرة. خاصة وقد كانت عقيدة القدماء أن تلك الطبقات مقدسة مؤلهة، فلا يجوز إهراق دمها في دم أوطأ منه.

(1/3065)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذهب "موركن" " Morgan" وآخرون إلى ان زواج الأخ بأخته، هو الزواج المألوف العام الذي كان شائعا بين البشر،وانه المرحلة السابقة للزواج المألوف. أما زواج الآباء ببناتهم، فهو معروف ومذكور ولكنه قليل، وقد أشير إلى وجوده عند بعض، الشعوب ومنهم المجوس والمصريين،ذكر ذلك اليونان والرومان. وأشار الأخباريون إلى تزوج "حاجب بن زرارة" ابنته دختنوس" لمجوسيته،وذكروا انه أولدها، وأوردوا في ذلك شعرا وقصصا، ثم ذكروا انه ندم بعد ذلك على عمله، وانه فعل ذلك بتأثير المجوسية التي دان بها، وحاجب بن زرارة هو من تميم. فالمجوسية على زعم اهل الأخبار هي التي أباحت لحاجب الاقتران بابنته.
ودعوى الأخباريين هذه فيها نظر، والشعر المذكور والقصص الذي يورده أهل الأخبار يحتاج إلى اثبات. وقد رأينا كثيرا منه تعمله معامل الوضع، وقد ثبت وضعه، وليس بمستبعد أن يكون ما ذكره هؤلاء هو من هذا القبيل. وضعه خصوم تميم للطعن فيها، وإلحاق مثلبة بها، ثم روجه وأشاعه الطالبون لمثالب القبائل من العرب، وقد كانوا يبحثون عن أمثال هذه السقطات، وهم جماعة لهم رأي في الدين وفي السياسة معروف مشهور.
وفي بعض الاخبار أن "دختنوس" كانت ابنة "لقيط بن زرارة التميمي"، وأنها كانت تحت "عمرو بن عدس" سماها أبوها "دختنوس" باسم ابنة كسرى. وأن البيتين اللذين ينسبهما أهل الأخبار الى "حاجب"، ويزعمون أنه قالها حين نكح ابنته وهما: يا ليت شعري عنك دختنوس إذا أتاها الخبر المرموس
انسحب الذيلين، أم تميس ? لا بل تميس، إنها عروس
لم يكونا لحاجب، بل كانا من رجز "لقيط" وقد قالهما يوم شعب جبلة عند موته، وجعلت بنو عامر يضربونه، وهو ميت، وقد رووهما على هذه الصورة: يا ليت شعري اليوم دختنوس إذا أتاها الخبر المرموس
أتحلق القرون، أم تميس? لا بل تميس إنها عروس

(1/3066)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكروا أن "دختنوس" أخذت ترثي أباها بأبيات ذكروها. وليس في كل هذه القصة أية اشارة إلى تزوج لقيط بابنته، بل هي تنص على ان زوجها كان "عمرو بن عدس". وأن قصة زواج "حاجب" بابنته قصة مصنوعة.
وقد أشار أهل الأخبار إلى نوع آخر من الزواج قالوا له "نكاح الخدن".
وقد أشير اليه في القرآن الكريم )وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان(، ومعناها اتحاذ أخلاء في السر، وذلك باتخاذ الرجل صديقة له، أو اتحاذ المرأة صديقا لها. ويكون ذلك بالطبع بتراض واتفاق و "ذات الحدن" هي من اتخذت لها صديقا واحدا، وقد نهي عن اتخاذ الأخدان في جملة ما نهى عنه الإسلام. وكان الرجل في الجاهلية يتحذ حدنا لجواريه، ليحدث الجارية ويصاحبها ويؤنسها لكي لا تستوحش، وقد يتصل بها، وقد نهى عن هذا النوع من المحادنة أيضا الإسلام.
و"نكاح الخدن" لا يمكن عده نكاحا وإن أطلق الأحبار عليه صفة النكاح، لأنه أو يكن بعقد وخطبة، وانما كان صداقة، وآية ذلك ورود "ولا متخذات أخذان" بعد جملة "غير مسافحات" في القران الكريم، والنهي عن القتران بصاحبات الأخذان والمسافحات، لأنهن غير محصنات، فحكم صاحبة الحدن هة حكم المسافحة في الجاهلية على السواء.
وقد ذكر علماء التفسير إن "أهل الجاهلية يحرمون ما ظهر من الزنا ويستحلون ما خفى. ويقولون أما ما ظهر منه، فهو لؤم، وأما ما خفى، فلا بأس بذلك". فالزنا عند أهل الجاهلية، الزنا العلني، فهو عيب عندهم، أما اتحاذ الحدن فلا يعد عيبا، لان المرأة تصادق الرجل، والرجل يصادق المرأة، وقد وقع عن قبول ورضى، فهو عمل حلال، ولا بأس به.
نكاح الظعينة
وإذا سبى رجل امرأة، فله أن يتزوجها إن شاء، وليس لها أن تأبى علية ذلك، لأنها في سبائه، وهي في ملك سابيها. ويكون هذا الزواج بغير حطبة ولا مهر، لأنها مملوكة وليس لها خيار.
أمر الجاهلية في نكاح النساء

(1/3067)

admin
01-01-2011, 01:24 AM
وقد لخص "السكري" أمر النكاح في الجاهلية بقوله:" وكان أمر الجاهلية في نكاح النساء على أربع: امرأة تخطب فتزوج. وامرأة يكون لها خليل يختلف اليها، فإن ولدت قالت: هو لفلان، فيتزوجها بعد هذا. وامرأة ذات راية يختلف اليها، فإن جاء اثنان فوافياها في طهر واحد ألزمت الولد واحدا منهما، فهذه تدعي المقسمة. والرجل يقع على أمة قوم، فيبتاع ولدها فيرغب فيدعيه ويشتريها فيتخذها امرأة".
تعدد الزوجات
وقد أباح الجاهليون للرجل تعدد الزوجات، والجمع بين أي عدد شاء من الأزواج دون تحديد. أما الاكتفاء بامرأة واحدة أو باثنتين أو أكثر، فذلك أمر خاص يعود اليه.كما أباح التشريع الجاهلي للرجل امتلاك أي عدد يشاء من الإماء. وتكون الأمة ملكا للرجل، لأنه اشتراها بذات يمين، وهي ملكه ما دامت أمة في ملك سيدها، فليس لها حقوق الزوجة، ولا تعد الأمة زوجة، إلا إذا اعتقها مالك رقبتها وتزوجها. فعندئذ تكون له زوجة له بمحض قرار الرجل وإرادته.
وقد روى علماء التفسير"أن قريشا كان الرجل منهم يتزوج العشر من النساء والأكثر والأقل". ورووا أن "الرجل في الجاهلية يتزوج العشرة فما دون ذلك"، وأنهم " كانوا في الجاهلية ينكحون عشرا من النساء الأيامى"، وأنهم "كانوا في جاهليتهم لا يرزأون من مال اليتيم شيئا.وهم ينكحون عشرا من النساء، وينكحون نساء آبائهم"، ولم يكونوا يعدلون بين نسائهم، بل يفضلون بعضا على بعض، فجاء النهي عن ذلك في القرآن.

(1/3068)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان مما حدده الإسلام من مبدأ تعدد الزوجات، أن قيد العدد بأربع، وهو تبديل لسنة الجاهليين. فلما نزل الأمر بالتحديد، اضطر من كان قد تزوج بأكثر منه على تطليق الزائد والاكتفاء بالحد القانوني الذي أقره الإسلام وهو أربعة. روي أن "غيلان بن سلمة الثقفي" كان قد تزوج في الجاهلية بعشر نساء، فلما أسلم، أمره رسول الله بتطليق الزائد وبالتقيد بما جاء في حكم القرآن.وقد أمر الرسول "الحارث بن قيس"، أن يختار من نسائه أربعا، ويطلق بقيتهن، وكانت عنده ثماني نسوة. وكان "مسعود بن معتب" و "معتب بن عمرو ابن عمير"، و "عروة بن مسعود"، و "سفيان بن عبد الله"، و "أبو عقيل مسعود بن عامر بن معتب"، وكلهم من ثقيف، وقد تزوجوا عشر نسوة، فنزل غيلان وسفيان وأبو عقيل للاسلام عن ست ست، وأمسكوا أربعا أربعا.ومات عروة مسلما، ولم يكن أمر بالنزول عن نسائه.
الطلاق
وكما كان الزواج، كذلك كان الطلاق عند الجاهليين. ولا بد أن تكون له قواعد وعرف وأسباب.. وفد ذكر ان عادة أهل الجاهلية أن يقول الرجل لزوجته إذا طلقها: "حبلك على غاربك". أي خليت سبيلك، فاذهبي حيث شئت، ويقول: "أنت مخلى كهذا البعير"، و "الحقي بأهلك"، و "اذهبي فلا أنده سربك"، و "اخترت الضباء على البقر"، و "فارقتك"، أو "سرحتك"، أو الخلية، أو البرية، ومما شاكل ذلك من عبارات.
ومصطلحات الطلاق هذه مصطلحات نابعة من صميم محيط جزيرة العرب،آثار البداوة عليها واضحة جلية، والروح الأعرابية ظاهرة فيها بارزة، وما الأمثلة المتقدمة إلا نماذج من تلك المصطلحات.
وورد ان الجاهليين كانوا يقولون للمرأة: أنت خلية، كناية عن الطلاق،فكانت تطلق منه. وكانوا يقولون: أنت برية أنت خلية، فتطلق بها المرأة.

والطلاق من المصطلحات الجاهلية القديمة، وهو يعني عندهم تنازل الرجل من كل حقوقه الني كانت على زوجه ومفارقته لها.

(1/3069)


--------------------------------------------------------------------------------

والطلاق الشائع بين اهل مكة عند ظهور الإسلام، هو طلاق المرأة ثلاثا على التفرقة: وينسب أهل الأخبار سنه الى اسماعيل بن ابراهيم، فكان أحدهم يطلق زوجته واحدة، وهو أحق الناس بها، ثم يعود اليها إن شاء، ثم يطلقها ثانية: وله أن يعود اليها إن رغب، حتى إذا استوفى الثلاث انقطع السبيل عنها، فتصبح طالقة طلاقا بائنا ومعنى هذا عدم إمكان الرجوع الى الزوجة بعد وقوع الطلاق الثالث مهما أوجد المطلق له من أعذار. ويذكر أهل الأخبار قصة وقعت للاعشى حينما أتاه قوم زوجه وطلبوا منه تطليقها، ولم يقبلوا منه طلاقها إلا بعد ثلاث تطليقات، اعادها ثلاث مرات. فعد طلاقه لها طلاقا بائنا.
ويظهر ان الجاهليين كانوا قد أوجسوا حلا لهذا الطلاق الشاذ، فأباحو للزوج أن يرجع زوجه اليه بعد الطلاق الثالث،ولكن بشرط أن تتزوج بعد وقوع الطلاق الثالث من رجل غريب، على أن يطلقها بعد اقترانها به، وعندئذ يجوز للزوج الأول أن يعود اليها بزواج جديد. ولذلك عرف الطلاق البائن: أنه الذي لا يملك الزوج فيه استرجاع المرأة إلا بعقد جديد. وقد ذكر في كتب الحديث ويقال في الإسلام للرجل الذي يتزوج المطلقة بهذا الطلاق ليحلها لزوجها القديم "المحلل" ويقال لفاعله "التيس المستعار" و "المجحش". وهو جل مذموم عند الجاهليين ومحرم في الإسلام. لم يعمل به إلا بعض الجهلاء من الناس،ممن لبست لهم سيطرة على أنفسهم، بل يعملون أعمالا ثم يندمون على ما فعلوه.

(1/3070)


--------------------------------------------------------------------------------

وهناك نوع آخر من الطلاق يسميه أهل الأخبار ب "الظهار". ذكروا أنه إنما دعي ظهارا من تشبيه الرجل زوجته أو ما يعبر به عنها أو جزء شائع بمحرم عليه تأبيدا، كأن يقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر امي أو كبطنها، أو كفخذها أو كفرجها، أو كظهر أختي،أو عمتي، وما شابه ذلك، فيقع بذلك الظهار. وقد أشير اليه في القرآن الكريم: )والذين يظاهرون منكم من نسائهم، ما هن أمهاتهم إن امهاتهم إلا اللآئي ولدنهم، وانهم ليقولون منكرا من القول وزورا (. وهو طلاق يظهر أنه كان شائعا فاشيا بين الجاهليين، سبب انتشاره التسرع، والتهور، وعدم ضبط النفس، والانفعالات العاطفية.
وكان الظهار من أشد طلاق أهل الجاهلية، وكان في غاية التحريم عندهم. فكان الرجل إذا ظاهر امرأته، بأن قال لها: أنت علي كظهر أمي، حرمت عليه، وصارت طالقا، فلما كان الإسلام، ظاهر "أوس بن الصامت" أخو عبادة بن الصامت امرأته "خولة بنت ثعلبة بن مالك"، فنزل الأمر بجعل كفارة فيه، ولم يجعله طلاقا، كما كانوا يعتمدونه في جاهليتهم.
فإذا تخاصموا مع نسائهم أو مع أقربائها، اقسموا يمين الظهار. وقد كان هذا اليمين من أيمان أهل الجاهلية خاصة. ولهذا الطلاق باب في كتب الحديث والفقه في أحكام الطلاق، وقد نهى عنه الإسلام وأوجب الكفارة على من ظاهر من امرأته.
وأشار أهل الأخبار إلى نوع آخر من أنواع الطلاق ذكروا انه كان من طلاق أهل الجاهلية سموه "الإيلاء"، وهو القسم على ترك المرة مدة، مثل شهور أو سنة أو سنتين،أو أكثر، لا يقترب في خلالها منها، وقد أشير اليه في رواية تنسب إلى ابن عباس.
وفي كتب الحديث وكتب الفقه باب خاص في هذا الطلاق. وقد منع الإسلام الترابص مدة تزيد على أربعة أشهر. وقد جعله طلاقا مؤجلا".

(1/3071)


--------------------------------------------------------------------------------

والطلاق حق من حقوق الرجل، يستعمله متى شاء. أما الزوجة، فليس لها حق الطلاق، ولكنها تستطيع خلع نفسها من زوجها بالاتفاق معه على ترضية تقدمها اليه، كأن يتفاوض أهلها أو ولي أمرها أو من توسطه للتفاوض مع الزوج في تطليقها منه في مقابل مال أو جعل يقدم اليه. فإذا وافق عليه وطلقها، يقال عندئذ لهذا النوع من الطلاق "الخلع". وقد ذكر أهل الأخبار ان أول خلع كان، هو خلع عامر بن الظرب، وذلك انه زوج ابنته من ابن أخيه عامر بن الحارث بن الظرب، فلما دخلت عليه: نفرت منه.
فالخلع اذن، هو طلاق يقع بدفع مال، تدفعه المرأة أو أقرباؤها للرجل في مقابل تخلية سبيلها وافتداء نفسها به. ويسجل في هذا الباب ما تدفعه زوج الأب المتوفى إلى ابنه الذي يتزوجها بعد وفاة أبيه من مال مقابل فراقه لها، وتطليقه إياها.
وكان من الجاهليين من يطلق زوجته، ويفارقها، غير انه لم يكن يسمح لها بالتزوج من غيره حمية وغيرة، ويهددها ويهدد أهلها إن حاولت الزواج، أو يرضي أهلها وأولياءها بالمال. فلا يجيزوا لها الزواج وقد نهى عن ذلك الإسلام.
وقد يهمل الرجل زوجته، فلا يراجعها ولا يطلقها، ويظل مفارقا لها، الى أن ترضيه بدفع شيء له، فيسمح لها عندئذ- بالطلاق وبالزواج من غيره ويقال لذلك "العضل". و "كان العضل في قريش بمكة. ينكح الرجل المرأة الشريفة فلعلها لا توافقه فيفارقها، على أن لا تتزوج إلا بإذنه فيأتي بالشهود، فيكتب ذلك عليها، ويشهد، فإذا خطبها خاطب فإن أعطته وأرضته أذن لها، وإلا عضلها". وقد حرم العضل في جملة ما حرم من أحكام الجاهليين في الإسلام.
ومن العضل الذي هو منع المرأة من الزواج، أنهم كانوا في الجاهلية إذا مات زوج احداهن، كان ابنه أو قريبه أولى بها من غيره، ومنها بنفسه إن شاء نكحها وإن شاء عضلها. فمنعها من غيره ولم يزوجها حتى تموت.

(1/3072)


--------------------------------------------------------------------------------

و"الحميم" الذي كان يرث الرجل إذا كان في الجاهلية، هو الصديق والقريب، والقريب المشفق الذي يهتم لأمر حميمه. ولم يذكر العلماء كيف كان يرث الحميم حميمه، هل كان ذلك عن وصية، أو عن عدم وجود قريب نسب، أو انه حق من حقوق اهل الجاهلية فرضوها بالنسبة إلى الحميم ? وكان الرجل من أهل الجاهلية يطلق الثلاث والعشر:وأكثر ذلك،ثم يراجع ما كانت في العدة، لا حد في ذلك، فتكون امرأته. ذكر أن رجلا من الأنصار غضب " على امرأته، فقال لهإ لا أقربك ولا تحلين مني. قالت:كيف ? قال: أطلقك حتى إذا دنا أجلك راجعتك، ثم أطلقك، فإذا دنا راجعتك" وطلق رجل امرأته حتى إذا كادت أن تحل ارتجعها، ثم استأنف بها طلاقا بعد ذلك ليضارها بتركها حتى إذا كان قبل انقضاء عدتها راجعها، وصنع ذلك مرارا. فما علم الله ذلك منه، جعل الطلاق ثلاثا. مرتين، ثم بعد المرتين إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان ". وذكر "كان الطلآق قبل أن يجعل الله الطلاق ثلاثا، ليس له أمد. يطلق الرجل امرأته مائة، ثم إن أراد ان يراجعها قبل ان تحل كان ذلك له ". وقد حرم الإسلام هذا الضرر، في الآية: "ا الطلاق مرتين، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ".
والطلاق هو بأيدي الرجال، كما سبق أن ذكرت، بيدهم حله وعقده،.
أما النساء فلهن العدة، ولذلك كان بعض النسوة يشترطن على أزواجهن أن يكون أمرهن بإيديهن، إن شئن أقمن، وإن شئن تركن معاشرتهم وأوقعن الطلاق، وذلك لشرفهن وقدرهن. ومن هؤلأء النسوة: سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش الخزرجية، وفاطمة بنت الخرشب الأنمارية، وأم خارجة صاحبة المثل: أسرع من نكاح أم خارجة، ومارية بنت الجعيد، وعاتكة بنت مهرة، والسوا بنت الأعبس. وقد عرفن بكثرة ما أنجبن من ذرية في العرب،وقد تزوجن جملة رجال.

(1/3073)


--------------------------------------------------------------------------------

وطريقة طلاق المرأة للرجل في الجاهلية، طريقة طريفة لا كلام فيها ولا خطاب. "كان طلاقهن انهن إن كن في بيت من شعر حولن الخباء،إن كان بابه قبل المشرق حولنه قبل المغرب. وإن كان قبل اليمن حوانه قبل الشام، فإذا رأى ذلك الرجل علم انها قد طلقته، فلم يأتها". وهذه إلطريقة هي طريقة أهل الوبر في الطلاق. ومتى طلقت المرأة زوجها، تركت داره والحي الذي يسكنه، لتعود إلى بيتها والحي الذي تنتمي اليه.
ولما كان الطلاق بيد الرجل في الغالب، لذلك كان أهل الزوجة يكرهون زوجها أحيانا على تطليقها، إذا أرادوا تطليقها منه، بتخويفه أو بضربه أو بما شاكل ذلك من طرق حتى يرضخ لأمرهم، ويعد ذلك طلاقا مشروعا عندهم، وإن كان قد وقع كرها ومن غير رضى الزوج، وعد طلاق الغاضب والسكران والهازل طلاقا عند بعض الجاهليين لصدور صيغة الطلاق من الرجل وتفوهه به.
هذا وللظروف الاجتماعية والاقتصادية التي كانت سائدة في ذلك الوقت دخل كبير في الطلاق. فالطلاق كان سهلا على ما يظهر، وكان عقوبة أحيانا يوقعها الرجل بامرأته لمسائل بسيطة تافهة، انتقاما منها أو من ذوي قرابتها لأسباب لا علاقة لها بالزوجية وبالحياة العائلية في أكثر الأحيان، كما ان الفقر والجهل كانا عاملين مهمين في وقوع الطلاق. وإلا فما ذنب امرأة تطلق مثلا، لأنها منجبة للبنات، لآ تلد إلا البنات، أو لأنها تلد البنات أكثر من الأولاد. وطالما يكون الطلاق من عصبية وهياج ومن سلطان غضب، وحين يهدأ روع المرء يندم على ما فرط منه، و،لذلك شدد الإسلام فيه مع اباحته له لضرورته بأن جعله أبغض الحلال إلى الله.
الرجعة
وإذا طلق فلان فلانة طلاقا يملك فيه الرجعة، يقال: ارتجع المرأة وراجعها مراجعة ورجاعا: رجعها الى نفسه بعد الطلاق. والإسم الرجعة.
الحيض

(1/3074)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد كان لا أهل الجاهلية لا تساكنهم حائض في بيت ولا تؤاكلهم في إناء، "وكانوا في أيام حيضهن يجتنبون اتيانهن في مخرج الدم، ويأتونهن في أدبارهن". وكانوا يتجنبون أن تصبغ المرأة رأس زوجها، أو ان تؤاكله طعامه " أو ان تضاجعه في فراشه، ولا يسمح للحائضة بدخول الكعبة أو بالطواف بها أو بمس الأصنام، لأنها غير طاهرة. بل كان منهم من يعتزل زوجه في بيته، فلا يقترب أو يدنو منها. فهم في ذلك على أمر شديد. وذكر بعض علماء التفسير "أن العرب في المدينة وما والاها كانوا قد استنوا بسنة بني اسرائيل في تجنب الحائض ومساكنتها ". فما سألوا الرسول عن الحيض أنزل الله: )ويسألونك عن المحيض، قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله". فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه.
ونلاحط وجود بعض التناقض في روايات أهل الأخبار في موضوع الحيض واقتراب الرجل من المحيضة، فبيما هم يذكرون أن الرجل كان لا يؤاكل زوجته ولا يقترب منها، ولا يسمح لها أن تصبغ رأسه أو ان تضاجعه، نراهم يذكرون أنهم كانوا يجتنبون اتيانهن في مخرج الدم، ويأتونهن في أدبارهن، وهذا ما يتفق مع ذلك التشدد المنسوب اليهم، إلا أن يكونوا قد قصدوا به قوما آخرين غير أهل يثرب، كأهل مكة، فنقول عندئذ إنهم لم يكونوا على تشدد أهل المدينة في موضوع الحيض، وإنما امتنعوا فيه من اتيان أزواجهم من حيث امر الله: إلى اتيانهن في أدبارهن لعلة الدم. أما بالنسبة إلى بقية العرب، ولا سيما الأعراب، فنحن لا نستطيع أن نتحدث عن ذلك بشيء لعدم وجود موارد لدينا فيها أي شيء عنده.
العدة

(1/3075)


--------------------------------------------------------------------------------

وعلى المرأة في الإسلام اتخاذ "العدة" عند طلاقها وعند موت زوجها، والغاية من ذلك المحافظة على النسب، وعلى الدماء كراهة أن تختلط بالزواج إلعاجل بعد الطلاق أو الموت، فوضعوا لذلك مدة لا يسمح فيها للمرأة خلالها بالزواج تسمى "العدة". "وعدة المرأة ايام قروئها، وعدتها أيضا ايام احدادها على بعلها وإمساكها عن الزينة شهورا كان أو اقراء أو وضع حمل حملته من زوجها".
وقد ذكر في الحديث ان المطلقة لم تكن لها عدة، فأنزل الله تعالى العدة، للطلاق والمتوفى زوجها، اي ان عدة المطلقة لم تكن معروفة في الجاهلية، وانما فرضت في الإسلام. فكانت المرأة المطلقة تتزوج في الجاهلية دون مراعاة لعدة، واذا كاانت حاملا، عد حملها مولودا من زوجها الجديد. ويكون الزوج عندئذ والدا شرعيا لذلك المولود، وان كانت الأم تعرف ان حملها هو من بعلها الأول.
"وقد ولد منهن عدة على فرش أزواجهن من آزواجهن الأولين. فمن اولئك ان سعد ين زيد مناة بن تميم، تزوج الناقمية وهي حامل من معاوية بن بكر ابن هوازن، فولدت على فراش سعد، صعصعة. فلما مات سعد، منعه بنوه ميراثه فلحق بأصله". "ومنهم ربيعة بن عاصم بن جزء بن عبد الله بن عامر ابن عوف ابن عقيل. كانت أمه من جعفى، فكانت تحت "الفغار" الجعفى، وهو هبيرة بن النعمان. فطلقها وهي حامل بربيعة. فتزوجها عاصم. فولدت بعد ثلاثة أشهر على فراشه. فخاصمه فيه الفغار إلى عمر بن الخطاب، رحمه الله. فقضى بربيعة للفغار، بقول امه انه من جعفي. وقضى فيه على انه للعقيلي، لأنه ولد على فراشه". "ومنهم محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة، وكان عمير سبى أم محمد هذا في أول الإسلام، وهي حامل من مالك بن عوف النصري، فولدت محمدا على فراش عمير، فلحق به". وقد تعر ض "السكري" لهذا الموضوع، فقال: " وهذا في قريش والعرب كثير. ولو أردنا استقصاءه لكثر.

(1/3076)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما "عدة" المتوفى عنها زوجها عند الجاهليين، فهي مدة حدادها حولا" كاملا". وقد أبطلها الإسلام. إذ جعل العدة للطلاق والوفاة، كما نص عليها في كتب الفقه. وقد ذكر ان المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشا ولبست شر ثيابها ولم تمس طيبا حتى تمر بها سنة، ثم تؤتى بدابة حمار أو طائر فتفتض به، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمى بها ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره.
وذكر أن المعتدة كانت لا تمس ماء ولا تقلم ظفرا ولا تزيل شعرا، ولا تستعمل طيبا، ولا كحلا، ثم تخرج بعد الحول بأقبح منظر. وكانت إذا رمدت، أو اشتكت عين لها، فلا يجوز لها أن تكتحل او ان تعالجها. وفي ذلك يقول لبيد: وهم ربيع للمجاور فيهم والمرملات إذا تطاول عامها
وإذا طلقت المرأة وهي عالقة من زوجها، وتزوجها زوج آخر، فولدت له مولودا في وقت لا يمكن أن يعد المولود فيه من زوجها الثاني، عد المولود ولدا للزوج الجديد. أما الإسلام " فقد اعتبره ولدا للزوج المطلق.
النفقة
ويظهر من كتب الحديث أن الجاهليين لم يكونوا يؤدون نفقة للمطلقة، ولم يكونوا يجعلون شيئا لها للسكن ولا للنفقة في الطلاق البائن.
النسب
وينسب الولد في العرف الجاهلي إلى الأب. وعرفهم في ذلك "الولد للفراش". وهو يرث والده. ولهذا ألحق أولاد الزنا بابائهم فنسبوا اليهم. أما إذا كثر أزواج المرأة، فيلحق المولود بالوالد، حسب قول المرأة أو حسب الشبه إن وقع خلاف في ذلك.

(1/3077)


--------------------------------------------------------------------------------

والاستلحاق معروف في الجاهلية. وهو ان يعترف رجل بأبوته الحقيقية لولد، ويدعيه ابنا له، فيلحق هذا الابن به. ورد في الحديث: "ان النبي صلى الله عليه وسلم قضى ان كل مستحق استلحق بعد أبيه الذي يدعى له، فقد لحق بمن استلحقه"، "وذلك انه كان لأهل الجاهلية إما بغايا، وكان سادتهن يلمون بهن فإذا جاءت احداهن بولد ربما ادعاه السيد والزاني، فألحقه النبي، صلى الله عليه وسلم بالسيد، لأن الأمة فراش كالحرة،فإن مات السيد ولم يستلحقه ثم استلحقه ورثته بعده، لحق بأبيه، وفي ميراثه خلاف.
واذا استلحق الرجل ولد أمته به، صار ولده. لأن سادات الإماء كانوا يتصلون بإمائهم في الجاهلية من غير عقد زواج، باعتبار ان الأمة ملك مالكها وسيدها، فله حق إلحاق أبنائها به إن شاء.
التبني
وقد اعترفت شريعة الجاهليين ب "التبني"، فيجوز لأي شخص كان أن يتبنى، ويكون للمتبني الحقوق الطبيعية الموروثة المعترف بها للابناء. و يكون بهذا التبني فردا في العائلة التي تبنته، له حق الانتماء والانتساب اليها. وهو يتم بالاتفاق والتراضي مع والد الطفل أو ولي أمره أو صاحبه: مالكه، وذلك بالنزول عن كل حق له فيه، ومتى تم ذلك وحصل التراضي، يعلن المتبني عن تبنيه للطفل وإلحاقه به، فيكون عندئذ في منزلة ولده الصحيح في كل الحقوق. والعادة إشهاد جماعة من الناس على التبني حتى لا يحدث نزاع على المتبنى فيما بعد. ولم يرد في روايات أهل الأخبار ذكر عدد الشهود الواجب إشهادهم على صحة التبني. فقد كانوا يعلنون عنه في الأماكن العامة وفي المناسبات وفي بيوتهم الخاصة كما ذكرت. والتبني معروف عند جميع الأمم. وقد وضعت شرائعهم له قواعد وقوانين كي تحفظ حقوق اصحاب المولود وحقوق المتبني وحقوق المتبنى، قلا يضيع حق من حقوق هؤلاء.
ويقع التبني جمع وجود أولاد للمتنبي، وليست له حدود من جهة العمر.
الزنا

(1/3078)


--------------------------------------------------------------------------------

والخيانة الزوجية تستوجب عقوبة صارمة، لأنها زنا، وعقوبتها الموت عند العرب، كما اشار إلى ذلك "س ترابون" في اثناء كلامه على ا لعرب. والزاني هو من يتصل بامرأة محصنة غريبة عنه. وقد كان العبرانيون يعاقبون الزاني والزانية بالرجم بالحجارة حتى الموت وهما يعاقبان هذه العقوبة في الإسلام، ولا أستبعد ان تكون هذه العقوبة عقوبة جاهلية أقرها الإسلام في جملة ما أقر من احكام كان يسير عليها الجاهليون.
وقد كان الزنا معروفا في الجاهلية يفعله الرجال علنا، إذ لم يكن هذا النوع من الزنا محرما عندهم. واذا ولد مولود من الزنا وألحقه الزاني بنفسه، عد ابنا شرعيا له، له الحقوق التي تكون للابناء من الزواج المعقود بعقد. ولا يعد الزنا نقصا بالنسبة للرجل ولا يعاب عليه، لأن الرجل رجل، ومن حق الرجال الاتصال بالنساء. وقد كانوا يفتخرون به.
وذكر ان أول من حكم ان الولد للفراش في الجاهلية أكثم بن صيفي حكيم العرب، ثم جاء الإسلام بتقريره. فقد ورد في الحديث: "الولد للفراش وللعاهر الحجر.
ويذكر أهل الأخبار أن الرجم لم يكن معروفا بين الجاهليين، وان اول من رجم "ربيع بن حدان" ثم جاء الإسلام بتقريره في المحصن.
ولا يوجد لدينا رأي واضح عن قذف الرجل زوجته واتهامه إياها بالزنا. أما في الإسلام فقد شرع "الملاعنة". والإمام يلاعن بينهما. ويبدأ بالرجل، ثم يثني بالمرأة. فإذا تم التلاعن بانت منه ولم تحل له أبدأ، وإن كانت حاملا فجاءت بولد فهو ولدها ولا يلحق بالزوج.
والزنا الذي يعاقب عليه الجاهليون، هو زنا المرأة المحصنة من رجل غريب بغير علم زوجها. وهو خيانة وغدر. أما زنا الإماء، فلا يعد عيبا إذا كان بعلم مالكهن وبأمره. وقد مر الكلام عليه في مواضع من هذا الفصل، كما مر الكلام على بنوة المولود من الزنا. لذلك عيرت المرأة الحرة المحصنة، ان زنت ومست به.

(1/3079)


--------------------------------------------------------------------------------

وورد في كتب الحديث والسير، أن " طفيل بن عمرو بن طريف" الدوسي: لما جاء الى رسول الله وأسلم، سال: " ان دوسا غلب عليها الزنا والربا، فادع الله عليهم. فقال اللهم اهد دوسا".
أما الرجل، فلا يلحقه أذى إن زنى بامرأة. بل كان كما قلت يفتخر باتصاله بالنساء، ويعد ذلك من الرجولة. وليس لامرأته ملاحقته شرعا على زناه.
وقد يلحقه أذى من ذوي امرأة محصنة إن زنى بها، انتقاما منه،لهدره شرفهم وإلحاقه الضرر بهم.
كسب الزانية
يعود كسب الزانية إلى مولاها ومن يملك رقبتها، لأنها مملوك، والمملوك وما يملك ملك سيده. وكانوا يكرهون إمائهم - كما ذكرت - على البغاء، فأنزل الله تعالى )ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا، لتبتغوا عرض الحياة الدنيا( والعرض هو كسب البغي. فحرم ذلك في الإسلام. وكان المالك يفرض على الأمة ضريبة تؤديها بالزنا. وقيل لا تكون المساعاة إلا في الإماء. وقد أبطل الإسلام ذلك، ولم يلحق النسب بها، وعفا عما كان منها في الجاهلية ممن ألحق بها. ومن ساعى في الجاهلية، فقد لحق بعصبته.
وأتى في نساء أو إماء ساعين في الجاهلية فأمر بأولادهن " أن يقومواعلى آبائهم ولا يسترقوا، أي أن تكون قيمتهم على الزانين لموالي الإماء،ويكونوا أحرارا لاحقي الأنساب بابائهم الزناة.
الوصية
والوصية: ما أوصيت به، وسميت وصية لاتصالها بأمر الميت، وذلك بأن يكتب الرجل ما يراه بشأن ما يتركه بعد وفاته. ويكون من يعهد اليه أمر تنفيذ ما جاء في الوصية وصيا ولم يكن صاحب الوصية مقيدا بقيود بالنسبة لكيفية توزيع ثروته، لأن المال ملك صاحبه وله أن يتصرف به كيف يشاء. ويجوز للموصي إن شاء حرمان من يشاء من الورثة الشرعيين من إرثهم، وإشراك من يشاء في الإرث. وله أن يوصي بإعطاء كل إرثه إلى شخص واحد، وأن يحرم من الإرث كل المستحقين الشرعيين.

(1/3080)


--------------------------------------------------------------------------------

ويكون الابن الأكبر هو المقدم على سائر أولاد المتوفى، والمشرف على تقسيم الميراث وادارة التركة و حمل اسم الميت وتمثيله، ولذلك تنتقل الإمارة أو الرئاسة، أو الزعامة الى الابن الأكبر في العادة إن كان المتوفى أميرا أو رئيسا. وتقديم الابن الأكبر على سائر الأبناء، عادة سامية قديمة حتى انها تمنحه زيادة في الميراث عن بقية اخوته.
الإرث
وأسباب الميراث: النسب والتبني والموالاة.
ويراعى في الوراثة من النسب، درجة القرابة،أي صلة الرحم حسب درجاتها ومقدار التحامها بالشخص المتوفى. فتأتي البنوة أولا، فالأبوة، فالأخوة، ثم العمومة. وقد قدمت الاخوة أولا لأنها الصق القرابات بالمتوفى، لذلك تقدم على كل قرابة أخرى.
والقاعدة العامة في الميراث عند الجاهليين هو أن يكون الإرث خاصا بالذكور الكبار دون الاناث، على أن يكونوا ممن يركب الفرس ويحمل السيف، أي المحارب. "كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري ولا الصغار من الغلمان. لا يرث الرجل من ولده إلا من أطاق القتال. "لأن أهل الجاهلية، كانوا لا يقسمون من ميراث الميت لأحد من ورثته بعده، ممن. كان لا يلاقي العدو ولا يقاتل في الحروب من صغار ولا النساء منهم، و كانوا يخصون بذلك المقاتلة دون الذرية.
وقد جاء في الأخبار ما يجعل المرأة في ضمن تركة المتوفى وذلك إذا لم تكن أم ولد. ويكون من حق الابن البكر التزوج بها، وإذا لم تكن له نفس بها، انتقل حقه فيها إلى الولد الثاني. وإذا لم يرغب فيها انتقل حقه الى بقية الورثة بحسب قربهم من الميت وحقهم في الميراث. ومن حق الولد البك أيضا منع المرأة من التزوج إلا بعد ارضائه، وكذلك من حق بقية الورثة المطالبة بهذا الحق إذا لم صارت زوج المتوفى المذكور من حقهم، لأنها من تركة ميتهم، والتركة هي تركتهم وملكهم، ولا يجوز لأحد مجادلتهم في هذا الحق.

(1/3081)


--------------------------------------------------------------------------------

والأخبار متضاربة في موضوع إرث المرأة والزوجة في الجاهلية، وأكثرها أنها لا ترث أصلا. غير أن هناك روايات يفهم منها ان من الجاهليات من ورثن أزواجهم.
وذوي قرباهن، وأن عادة حرمان النساء الإرث لم تكن سنة عامة عند جميع القبائل. ولكن كانت عند قبائل دون قبائل. وما ورد في الأخبار تخص على الأكثر أهل الحجاز.
العصبة
ويرث العصبة وهم أقرباء الميت من الرجال، وهم مقدمون على الاخوات في الإرث. فإذا توفي الرجل، ولم يكن له من الذكور من يرثه ولا أب، يصرف إرثه إلى اخوته أو عصبته،ان لم يكن له إخوة، ولا يدفع الى الأخوات. فلما جاء الإسلام، جعل للبنات والنساء حقا في الميراث، ويسمى هذا الإرث أ "إرث الكلالة".
وقيل: العصبة: هم الذين يرثون الرجل عن كلالة من غير والد ولا ولد." وهم الأقارب من جهة الأب، وعصبة الرجل: أولياؤه الذكور من ورثته.
فالأب طرف والابن طرف، والعم جانب والأخ جانب. والجمع العصبات. وقد قال "ابن الاثير" في تعريف "الكلالة": الأب والابن طرفان للرجل إذا مات ولم يخلفهما، فقد مات عن ذهاب طرفيه، فسمي ذهاب الطرفين: كلالة. وقيل ما لم يكن من النسب لحا فهو "كلالة". والعرب تقول: لم يرثه كلالة، أي لم يرثه عن عرض بل عن قرب واستحقاق. وهم يفتخرون بوراثة قرب، لأنها إنما جاءت عن نسب قريب وعن اب، وفي ذلك يقول عامر بن الطفيل: وما سودتني عامر عن كلالة أبى الله أن أسمو بأم ولا أب
وكانوا إذا قالوا: "هو ابن عم كلالة"، قصدوا بعيد النسب.وان أرادوا القرب قالوا: هو ابن عم دنية. فالكلالة معروفة في الجاهلية فهذبها الإسلام ونزل النص عليها وفي تعيينها في القران.
وقد ذهب بعض العلماء إلى ان "الكلالة" كل من لا ولد له ولا والد. وقيل ما لم يكن من النسب لحا فهو كلالة. وقالوا: هو ابن عم الكلالة وابن عم كلالة.

(1/3082)

admin
01-01-2011, 01:26 AM

admin
01-01-2011, 01:29 AM
وقال بعضهم إذا لم يكن ابن العم لحا، وكان رجلا من العشيرة قالوا هو ابن عمي الكلالة، وابن عم كلالة. وهذا يدل على ان العصبة وان بعدوا كلالة.
أو الكلالة من تكلل نسبه بنسبك كإبن العم وشبهه. يقال هو مصدر من تكله النسب، أي تطرفه كأنه أخذ أحد طرفيه من جهة الولد والوالد، وليس له منهما أحد، فسمي بالمصدر. أو هي الأخوة للأم. تقول لم يرثه كلالة أي لم يرثه عن عرض بل عن قرب.
وقد ذكرت الكلالة في موضعين من القرآن الكريم: " وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة و له أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس ". و " يستفتونك.قل: الله يفتيكم في الكلالة. إن امرؤ هلك، ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك ". فجعل الكلالة هنا الأخت للأب والأم والاجرة للاب والأم. وجعل للاخت الواحدة نصف ما ترك الميت وللاختين الشين وللاخوة والأخوات جميع المال بينهم للذكر مثل حظ الانثيين. وجعل للاخ والأخت من الأم في الآية الأولى الثلث لكل واحد منهما. السدس فبين بسياق الايتين أن الكلالة تشتمل على الأخوة للام مرة، ومرة على الأخوة والأخوات للام والأب. ودل قول الشاعر أن الأب ليس بكلالة، وأن سائر الأولياء من العصبة بعد الولد كلالة: وهو قوله: فإن أبا المرء أحمى له ومولى الكلالة لا يخضب
أراد أن أبا المرء أغضب له إذا ظلم. وموالي الكلالة وهم الاخوة والأعمام وبنو الأعمام وسائر القرابات لا يغضبون للمرء غضب الأب. او الكلالة بنو العم الأباعد، أو الكلالة من القرابة ما خلا الوالد والولد. أو هي من العصبة من ورث منه الاخوة للام. وقد لخص بعضهم اراء العلماء في الكلالة في أقوال سبعة.
إرث النساء
وهناك رواية تذكر أن أول من جعل للبنات نصيبا في الإرث من الجاهليين هو "ذو المجاسد" عامر بن جشم بن غنم بن حبيب بن كعب بن يشكر، ورث ماله لولده في الجاهلية، فجعل للذكر مثل حظ الانثيين فوافق حكمه حكم الإسلام.

(1/3083)


--------------------------------------------------------------------------------

ويذكر علماء الأخبار أن رجلا من الأنصار مات قبل نزول آية المواريث، وترك أربع بنات، فأخذ بنو عمه ماله كله. فجاءت امرأته النبي تشتكي مما فعله بنو عم المتوفى ومن سوء حالها وعدم تمكنها من إعالة بناتها، فنزل الوحي )للرجال نصيب مما ترك الوالدان و الأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان و الأقربون". ثم نزلت آية الميراث: لا يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين(. وبذلك انتفت سنة الجاهليين في عدم توريث البنات.

(1/3084)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد نزلت الآيتان من أجل ان أهل الجاهلية كانوا يورثون الذكور دون الاناث. فكان "النساء لا يرثن في الجاهلية من الآباء، وكان الكبر يرث ولا يرث الصغر، وإن كان ذكرا". وقد ذكر بعض العلماء ان آية: "للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون"، "نزلت في أم كحة وابنة كحة وثعلبة وأوس ابن سويد، وهم من الأنصار. كان أحدهم زوجها والآخر عم ولدها. فقالت: يا رسول الله توفي زوجي وتركتي وابنته، فلم نورث فقال عم ولدها: يا رسول الله لا تركب فرسا، ولا نحمل كلا. ولا تنكأ عدوا يكب عليها، ولا تكتسب. فنزلت للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون. وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون، مما قل منه أو كثر، نصيبا مفروضا". وذكروا ان نزول الآية "يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين"، انما كان "لأن أهل الجاهلية كانوا لا يقسمون من ميراث الميت لأحد من ورثته بعده ممن كان لا يلاقي العدو ولا يقاتل في الحروب من صغار ولده ولا للنساء منهم. و كانون يخصون بذلك المقاتلة دون الذرية، فأخبر الله جل ثناؤه ان ما خلفه الميت بين من سمي وفرض له ميراثا في هذه الآية.وفي اخر هذه السورة فقال: في صغار ولد الميت و كبارهم واناثهم لهم ميراث أبيهم، إذا لم يكن له وارث غيرهم للذكر مثل حظ الانثيين". وذكر انه "لما نزلت الفرائض التي فرض الله فيها مما فرض للولد الذكر والأنثى والأبوين كرهها الناس أو بعضهم، وقالوا: تعطى المرأة الربع والثمن، وتعطى الابنة النصف، ويعطى الغلام الصغير وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم ولا يحوز الغنيمة، اسكتوا عن هذا الحديث لعل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ينساه أو نقول له فيغيره،فقال بعضهم: يا رسول الله أ نعطي الجارية نصف ما ترك أبوها، وليست تركب الفرس ولا تقاتل القوم ? ونعطي الصبي الميراث، وليس يغني شيئا، وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية لا يعطون الميراث إلا من قاتل، ويعطونه الأكبر فالأكبر". وعجز

(1/3085)


--------------------------------------------------------------------------------

اليتامى عن الدفاع، وعن تحصيل حقهم في الميراث، جعل الورثة الكبار يأكلون اموالهم وحقوقهم، ولا يؤدون لهم نصيبا في الإرث. ولهذا وبخ القرآن الكريم أهل الجاهلية على اكلهم أموال اليتامى، وحرم ذلك عليهم، وحافظ على نصيبهم فيه، وحمى اليتيم ودافع عنه كثيرا، وقد كان الرسول نقسه يتيما، لاقى من قومه ما يلاقيه كل يتيم.
ويرث في شريعة أهل الجاهلية المتبنون. فإذا مات المتبنى وترك إرثا ورثه من تبناه، وان مات المتبني، أي الشخص الذي تبنى المتبنى، ورثه ايضا تماما كما لو كانت البنوة بنوة طبيعية.حتى إنهم كانوا يراعون ذلك في أحكام الزواج. والحلف كالموالاة من أسباب الإرث في نظر الجاهليين لأن القاعدة أن حليف القوم منهم. وابن اخت القوم منهم، ولا بد لعقد الحلف من اشهاد شهود عليه. ليقف الناس عليه. وفي مكة كان الناس يعقدونه في الكعبة، ومن أنواع الحلف، أو الموالاة كما يعبر عن ذلك أيضا، "مولى العقد أو مولى الموالاة. وذلك تمييزا له عن مولى الولادة أو مولى الرحم، وعن مولى العتق أو مولى العتاقة.
واذا مات الرقيق وترك إرثا، صار إرثه لمالكه. وإذا مات المعتق ورثه معتقه.
ميراث السائبة
والسائبة العبد الذي يقول له سيده: لا ولاء لأحد عليك، أو أنت سائبة. يريد بذلك عتقه وأن لا ولاء لأحد عليه. وقد يقول له: أعتقتك سائبة أو أنت حر سائبة، فإذا مات فترك مالا، ولم يدع وارثا، فإن أهل الجاهلية كانوا يسيبون، وان أهل الإسلام لا يسيبون.
وحرم الهجين من حق الإرث في الغالب. كذلك السائبة، وهم الرقيق الذي اعتق بغير ولاء.
الفصل الثامن والخمسون
الملك والإعتداء عليه
الملكية

(1/3086)


--------------------------------------------------------------------------------

والملكية حق محترم عند الجاهليين، ولصاحب الملكية حق المحافظة على ما يملك والدفاع عنه.وتدخل في ملكية الإنسان كل ما ملكه أو استولى عليه ولم ينتزعه منه أحد، مثل الغنائم والسلب والأسر وما شابه ذلك. وعلى المالك الدفاع عن حقه في ملكه واثباته. ومن أنواع الملكية: تملك العقار، وبقية الأشياء الثابتة، والأموال المنقولة.
ويعبر عن تملك الإنسان لشيء ما، وعن اقتنائه لملك بلفظة "اقنى" "أقنى"، أي أملاك وممتلكات. وعن لفظة "اقنيس"، بمعنى ممتلكاته وأملاكه وذلك في اللهجة المعينية. ويعبر عنها بلفظة "اقنيم" في اللهجة السبئية. وأما لفظة "ذقنى" فتعني ما امتلكه وما يمتلكه. فذي بمعنى الذي، وما هي ما الموصولة في عربيتنا. و "قني" بمعنى مقتنيات.
والملكية نوعان: ملكية ثابتة وملكية متنقلة. ومن النوع الأول العقار،مثل الدور والأرض. ومن النوع الثاني المال، وهو الإبل عند الجاهليين بصورة خاصة والمواشي بالنسبة للمزارعين. والرعاة وأهل المدن، واثاث البيت، سواء كان البيت مستقرا مثل بيوت أهل المدر أو متنقلا مثل بيوت أهل الوبر. وأغلب ملك الأعراب هو ملك متنقل. وذلك لأن الحياة التي يحيونها هي حياة تنقل، أما الملك الثابت، أي الأرض، فإنه ملك لهم ما داموا فيه، فإذا ارتحلوا عنه، انتقلت ملكيتهم إلى الأرض الجديدة الني ينزلون بها فيمتلكونها طوعا، أي من غير مقاومة، أو بحق السيف.

(1/3087)


--------------------------------------------------------------------------------

ويدخل في باب الملك كل شيء وضع ليستفاد منه أو ليدل على حماية ملك،أو يفهم من وضعه انه ذو فائدة وان له صاحبا، كجدران الأملاك وحيطان البساتين أو سور القرى أو الرجمات، وهي أحجار القبور. وقد عثر المنقبون على رجام في مواضع مختلفة من جزيرة العرب، كتب عليها: ان لعنة الالهة على من يرفع هذا الحجر عن موضعه وعلى من يغيره أو يأخذه أو يتصرف به. كما سألوا الآلهة بأن تنزل الأمراض ومنها العمى والبرص وأنواع الأذى، والشر بكل من يتطاول على هذه الرجام، أو على معالم القبور أو القبور وذلك لأنها ملك. ولا يجوز لأحد التصرف بملك غيره بأي وجه من الوجوه.
الشفعة
وقد أخذ الجاهليون بحق الشفعة في شراء الملك، كالدور والأرض. وقد أقرها الإسلام أيضا.
ا لرق.
الأصل في الإنسان أن يولد حرا، إلا أن يكون من رقيق، يولد عندئذ رقيقا، ويكون ملكا لمالك والديه. والانسان الحر، هو حر في تصرفاته وفي أمواله، وفي كل شيء. أما الرقيق، أي العبد، فإنه يكون ملكا لمالكه، ليس له حق التصرف بنفسه إلا بإذن مالكه، لأنه ملك سيده، فإذا تصرف بنفسه، أضر بحق سيده في تملكه له. وفي ذلك تجاوز على حقوق الملكية، وإن كان الرقيق انسانا مثل سيده له حس وشعور، إلا انه فقد حريته بسقوطه في الرق، وصار ملكا لمالكه، وحكمه حكم الأشياء المملكة، وليس له أن يتصرف بأي شيء يعود اليه ولا أن يتصرف بنفسه، أي بجسمه إلا بموافقة سيده وإقراره لأنه سيده ومالك رقبته.

(1/3088)


--------------------------------------------------------------------------------

ولما كان الرقيق ملكا ومن حق المالك أن يتصرف بملكه كيف يشاء، صار من حق المالك بيع رقيقه أو اهدائه، أي اعطاءه هبة الى من يشاء دون حاجة الى أخذ ذلك الرقيق، كما كان من حقه عتق رقبته. كما كان له حق الاستمتاع بالإماء واكراههن على البغاء للاتيان بالمال أو لإنجاب الأولاد. ولم يكن للرقيق أن يملك شيئا، لأن الرقيق وما يملكه ملك للمالك. ولم يكن للرقيق حق التوريث لا إذ لا مال له، لأنه وما يملكه ملك مالكه. فإرثه لسيده وحده.
وقد حرم الإسلام على مالك الرقيق دفع إمائه على البغاء. وقد نزلت الحرمة في القرآن: )ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا (. وكان سبب نزول هذه الآية أنهم "كانوا في الجاهلية يكرهون اماءهم على الزنا، يأخذون أجورهن. فقال الله لا تكرهوهن على الزنا من أجل المنالة في الدنيا". "وذكرأن هذه الآية أنزلت في عبد الله بن أبي بن سلول حين أكره امته مسيكة على الزنا "، وكانت تكره ذلك وحلفت أن لا تفعله فأكرهها لتأتيه بمزيد من المال. فنزلت الآية في تحريم ذلك.
ومن معاني "الرق"، "العبودية" Slavery، و تقابلها لفظة "عبوداه" Abodah في العبرانية. والمفرد "عبد" Abed في العبرانية ايضا. والذكر "مملوك". أما الأنثى، فإنها "أمة". والرق ملك ال**** والرقيق المملوك منهم وجمعه أرقاء. والمملوك، هو الرقيق، فيقال عبد مملوك، و "الملكة" تختص بملك ال****. ويعبر عن العبد بلفظة "المدين" أيضا. أما "الأمة" فيقال لها: "المدينة".
ويعبر عن المملوك بلفظة "ادم" في العربيات الجنوبية، إذا كان المملوك ذكرا وب "أمت" إذا كان أنثى. وتقابل لفظة "ادم" لفظة "أو ادم " و "أوادمنا"، في لهجة أهل العراق، التي تعني " الخدم" و "خدمنا". وأما لفظة "أمت"، فإنها "أمة" في عربيتنا أيضا، وهي المملوكة.
ويعبر عن الرقيق بلفظة "عبد" في اللحيانية " أي بالتعبير المستعمل في عربيتنا وترد اللفظة في لغة بني إرم وفي لغة النبط كذلك.

(1/3089)


--------------------------------------------------------------------------------

واستعملت اللحيانية لفظه "هغلم" "ها - غلام" "ها - غلم"، أي "الغلام" تعبيرا عن "مملوك"، أي انسان غير حر. وقد قدم أحد اللحيانيين ثلاثة غلمان ليكونوا في خدمة ألإلهه "ذو غابت" "ذو غابة". وليس لصاحب هؤلاء الغلمان أية حاجة لأن يأخذ رأيهم في تقرير مصيرهم، وفي تحويل رقبتهم من ملكه إلى ملك معبد ذلك الإله، لأنه مالكهم وللمالك أن يفعل بملكه ما يشاء.
ولمالك الأسير، حق التصرف بأسره، كما يشاء، يجوز له بيعه لقبض ثمنه في أي مكان وفي أي زمان يشاء ويختار، ليس لرقيقه حق الاعتراض على مالكه، لأنه "ملك يمين"، ويجوز له ابقاؤه عنده وفي ملكه ليعهد اليه القيام بأي عمل يكلفه إياه، مهما كان شانه، سواء أكان عملا" محترما أم عملا وضيعا، لأنه مملوك، وليس لمملوك حق الاعتراض على مالكه. ويجوز أن يتفضل عليه بمنحه الحرية، فيكون انسانا حرا. ويجوز له أن يقاضي أهل الأسير ثمن أسيرهم، ومتى قبض ثمنه أعاده إلى أهله، وصار حرا. ويقال لأخذ عوض عن الأسير لفك أسره "الفداء".

(1/3090)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا يشترط في الأسر أن يكون في حالة الحرب فقط،فقد يقع في سلم أيضا، فإذا أدرك انسان انسانا اخر من قبيلة معادية وتمكن منه صار أسيره. كما ان ما يقع في أيدي المغيرين في الغارات والغزوات من أشخاص يكونون في حكم المأسورين. أما "السبي"، فإنه ما يسبى بعد الحرب، وحكمه حكم الأسر. والغالب عند الجاهليين هو فداء أسراهم، أي دفع فدية عن الأسرى أو مقايضتهم أسيرا بأسير، أو بحسب الاتفاق إن كان هناك أسرى عند الطرفين. ولا يقع الرق في الغالب إلا في حالات الأشخاص الضعاف الذين لا أهل لهم، أو الذين هم من عشائر مستضعفة أو بعيدة، أو في حالات الذين وقعوا أسرى في غارات مفاجئة من أناس يقيمون في أماكن بعيدة أو نهبوا وهم صغار، فلم يكن بالمستطاع ملاحقتهم، فيكونون بذلك رقيقا، وهو في القليل،كالذي حدث ل "زيد بن حارثة الكلبي"، الذي تبناه الرسول. وقد كان مولى لخديجة زوج الرسول.
وليست في الأفدية قواعد معينة في فداء النفس، وانما سارت على التعامل وعلى التشدد والتساهل وفق منزلة الشخص الأسير. ويكون ما للأسير مما عند ملكا لآسره، وقد وقع "قيس بن عيزارة" أسيرا في أيدي "فهم" فأخذ سلاحه "تأبط شرا".
ووقع "ثابت بن المنذر" والد "حسان بن ثابت" شاعر الرسول في أسر "مزينة"، فعرض عليهم الفداء، "فقالوا:.لا نفاديك إلا بتيس، ومزينة تسب بالتيوس، فأبى وأبوا. فلما طال مكثه، أرسل إلى قومه أن اعطوهم أخاهم، وخذوا أخاكم". وقصده بذلك التعريض بمزينة.
وقد بقي السباء معروفا حتى أيام "عمر" فمنعه بقوله: "لا سباء على عربي".
ويذكر أن "أبا وجزة يزيد بن ****" من "سليم"، وقع أبوه في سباء في الجاهلية،في سوق ذي المجاز. فلما كبر، استعدى عمر، فأصدر أمره المذكور.

(1/3091)


--------------------------------------------------------------------------------

والمنبع الأول للرقيق الحروب والغزوات. فبعد الحرب والغزوات يؤخذ من يقع في أيدي المحاربين من الرجال والنساء والأطفال "أسرى"، و يكونون غنائم لآسريهم. أما العدد الضخم منهم الذي يقع في أيدي الجيش ولا يكون في استطاعة المحارب أن يفرض ملكيته عليه، وذلك بوضعه تحت حيازته، فيكون ملكا للحكومة أو للقبيلة، تتصرف به على وفق قوانينها وقواعد أحكامها ورأيها.
والمنبع الثاني من منابع الرقيق، أسواق النخاسة، ومنها أسواق تقع في بلاد العرب نفسها، يؤتى بالرقيق اليها لبيعه فيها، واسواق تقع في خارج بلاد العرب، يذهب اليها النخاسون لشراء ما فيها من هذه البضاعة البشرية. ولما كان الرقيق المشترى هو من أماكن بعيدة ومن غير العرب، كان مضطرا إلى استرضاء سيده وخدمته على النحو الذي يرضيه ابقاء على حياته. وحكم هذا الرقيق هو حكم أي شيء يشتريه إنسان بماله اي انه ملك صاحبه، ولصاحبه حق التصرف به كيف يشاء، إن شاء باعه وإن شاء جعله في خدمته،وليس للرقيق أي حق في الاعتراض، وإن كان بشرا ذلك لأنه رقيق. وقوانين الرق في ذلك الزمن وفي سائر أنحاء العالم تعد الرقيق ملكا لا يختلف في طبيعته عن أي نوع من أنواع الملكية.
ونوع آخر من أنواع الرقيق، تكون من بيع الآباء لأبنائهم عن حاجة، كان تكون الأسرة في عسر وضيق،فلا يكون أمامها غير بيع أبنائها لسد حاجتهم ولضمان معيشة الأبناء، ولا يكون ذلك بالطبع إلا عند الطبقات الضعيفة.
ومنبع آخر من منابع تكو ن الرقيق في الجاهلية هو الدين. فقد كان من حق الدائن بيع مدينه إن لم يتمكن من الابقاء بدينه، فيكون رقيقا.

(1/3092)

admin
01-01-2011, 01:30 AM
والولادة من المنابع الني مونت الجاهليين بالرقيق كذلك. فما ينسله الرقيق يصير رقيقا ايضا، وملكا لمالك الرقيق. إذ لا يقتصر الرق على رقبة الرقيق الأصل، بل يشمل كل ما ينجبه وما ينجبه أحفاده وأحفاد أحفادهم وهكذا فالرق عبودية أبدية، ما لم يمن مالك الرقيق على رقيقه بالعتق، فتنقطع العبودية عندئذ عنه وعن نسله. واذا استولد المالك أمته فولدت له مولودا، أعجبه واعترف به ولدا عد ابنا شرعيا له، فيكون هذا الاعتراف عتقا لرقبة ابنه،واستلحاقا للولد بنسب المالك.
زوال الرق
تفك رقبة الرقيق عند فك أسره عنوة، كأن تغزو قبيلة المأسور قبيلة الآسر، فتأخذ أسراها عنوة، فيتخلص الأسير بذلك من الأسر، أي من الرق ويصير حرا، وتسقط عنه كل ما كان لسيده من حقوق عليه. وكان أهل الأسير يتحايلون بمختلف الطرق لتخليص أسيرهم من أسره، فإن نجحوا في تخليصه، صارأسيرهم حرا، وإن فر الأسير من آسره، ولم يتمكن آسره من القبض عليه، صار فراره حرية له. وتفك الرقبة بدفع فدية ترضي الآسر،إذا قبضها، صار الأسير حرا.
الاباق
الاباق: هرب العبد من سيده. ويراد بالعبد المملوك من غير أسر ولا سبي. ويعد اباقه هذا خروجا على القانون والحق، ولصاحبه حق القبض عليه وإنزال ما يراه به من عقوبة. وفي جملتها حق قتله. واذا اشتراه شخص آخر، أو وقع في أسره، فلمالكه الأول حق استرداده، لأنه عبد ابق، وهو في ملكه، وحيازته من غير اذن منه سرقة.
الكتابة
والكتابة والمكاتبة أن يكاتب الرجل عبده أو أمته على مال ينجمه عليه،ويكتب عليه أنه إذا ادى نجومه، في كل نجم كذا وكذا، فهو حر، فإذا أدى جميع ما كاتبه عليه، فقد عتق. وولاؤه لمولاه الذي كاتبه.
العتق
العتق خلاف الرق، وهو الحرية. وهو أن يمن السيد المالك على مملوكه بفك رقبته. فإذا عتق ارتبط بسيده برابط الولاء، ويقال عندئذ "مولى عتاقة" و "مولى عتيق" و "مولاة عتيقة"، و "موال عتقاء" و "نساء عتائق".

(1/3093)


--------------------------------------------------------------------------------

ويبقى العتيق منسوبا إلى معتقه، الذي يعقل عنه ويرثه. أما إذا أعتقه من دون وضع حد للولاء عليه، فيسقط عنه شرط الولاء، فلا يعقل مولاه عنه،وتسقط كل حقوق الولاء عن العتيق وعن معتقه.
الأموال الثابتة
وفي ضمنها البيوت،وهي تباع وتشترى وتؤجر أو ترهن بحسب رغبة صاحبها. ولأجل إثبات حق تملك الأفراد للبيوت، كانوا يثبتون أحجارا مكتوبة على واجهة البيت في بعض الأحيان، يدون عليها اسم مالك البيت ، والمعمار الذي بنى البيت والزمان الذي بني فيه، أو الزمان الذي أجريت فيه ترميمات عليه والحجر عندهم في مقام سند التملك في أيامنا هذه.
وتوضع على حدود الملك. ولا سيما حدود الحقول والبساتين علامات، يقال لها "أرف" في اللحيانية، وذلك منعا لكل تجاوز قد يقع على الملك أو فضول قد يقع من الغرباء.
والأرفة في لغتنا الحد بين الأرضين وفصل ما بين الدور والضياع. وكان أهل الحجاز لا يرون الشفعة للجار. و "الأرفي"، الماسح الذي يمسح الأرض ويعلمها بحدود.
وتعد المقابر ملكا خاصا بصاحب القبر، وبأهله، لذلك لا يجوز دفن غريب فيها، إلا بإذن من أهل الميت وذوي قرابته ومن أصحاب المقبرة. وكثيرأ ما تقرأ في الكتابات جملا، مثل: "بني هكفر، له ول ورثه"، ومعناها "بني هذا القبر، أو هذه المقبرة له، ولورثته". ومثل "اخذو هقبر ذه هم وأخوهم"، ومعناها "أخذوا هذا القبر لهم ولأخيهم". وكثيرا ما في الكتابات تلعن من يتجاوز على ملكية القبر وعلى حق المقبور فيه،وتتوعده بالويلات والثبور، وترجو من الآلهة أن تنزل بمن "يعور" يزيل أحجار القبور عن أماكنها عذابها وغضبها عليهم. وتعد شواخص القبور شهادة لقبر المتوفي وسند تملك للقبر أو للمقبرة، فلا يجوز الاعتداء على القبر، لأنه ملك خاص.

(1/3094)


--------------------------------------------------------------------------------

العقوبات: والأصل في العقوبات، هو "القصاص" Retaliation أي العقوبة بالمثل، وهو أصل نجده عند سائر الشعوب السامية، ونجده مدونا في "شريعة حمورابي"، بل نجده في قوانين الرومان كذلك. وفي أشير اليه في القرآن الكريم: )ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب، لعلكم تتقون( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن، والجروح قصاص " وفي الآية: )وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به(. فالجزاء يجب أن يكون من جنس العمل.
ويعمل بالقصاص في الجروح كذلك، وقد أشير الى ذلك في الآية المتقدمة كما ترى.
وتكون العقوبات في يد الملك أو المعبد أو الكبراء ورؤساء العشائر، فهؤلاء هم الذين يفرضون العقوبات على المخالفين ويصدرون أوامرهم بعقاب المستحقين، فلم تكن هناك اذن سلطة مركزية واحدة تقوم بتنفيذ الأحكام والحكم بين الناس. ويمكن أن نقول إن كل سلطة من السلطات كانت تقوم بتطبيق ما تراه بحق المخالفين لقوانينها وأنظمتها وأوامرها، فللمعبد ويمثله رجال الدين بالطبع حق الحكم بين الناس في المخالفات التي لها صلة بأمور الدين وبالمعبد وبالعقود الي تعقد مع المستأجرين والمتعاقدين، ويتوقف تنفيذ ذلك بالطبع على مركز رجال الدين ومدى نفوذهم في ذلك العهد،ويقوم رئيس القبيلة بالحكم بين أفراد قبيلته بموجب الأنظمة والقوانين العرفية والعشائرية، وبجمع الضرائب من قبيلته، ويتوقف سلطانه على شخصيته ومركزه وعلى مراكز الحكومة وما لها من هيبة في نفوس الناس والقبائل.

(1/3095)


--------------------------------------------------------------------------------

ولضمان تنفيذ القوانين والأوامر والعقود، حتمت السلطات الدينية والسلطات الحكومية على المؤمنين والمواطنين الالتزام والوفاء بالعهود وإطاعة قوانين الدولة. وهددت السلطات الدينية بإنزال العقوبات الإلهية على المخالفين.وتكون هذه العقوبات عقوبات دنيوية تنزلها السلطات الدينية الممثلة والمتكلمة باسم الآلهة على سطح الأرض. وهي متنوعة متعددة قد تكون جسيمة، وقد تكون مادية، وقد تكون معنوية، وذلك بحرمان المخالف من زيارة المعابد،،وبامتناع رجال الدين من إقامة الشعائر الدينية له ومقاطعته وإيصاء المجتمع المؤمن بمقاطعته كذلك، وبذلك تهبط منزلته الاجتماعية،ويصبح مزدرى في نظر المجموع. وفي هذا الازدراء عقوبة كافية بالطبع.
يضاف إلى ذلك العقوبات الني تنزلها الآلهة عليه، وقد تكون أهم في نظره وأخطر من تلك العقوبات المذكورة، مثل إنزال أمراض أو مهالك به وبأمواله وما يملكه، وهو ما يخشاه الإنسان ويبتعد عنه طبعا، ولهذا نجده يحاول جهد إمكانه ترضية آلهته والتقرب اليها بمختلف الوسائل لإرضائها ولكسب عطفها ورضائها عنه.
وأما العقوبات الحكومية، فهي متنوعة كذلك تتنوع بحسب درجة المخالفة ومقدار الضرر الذي يتولد منها.
وتقابل لفظة "عقوبة" لفظة "تنكرم" "تنكر" في بعض لهجات العرب الجنوبية، ويراد بها إنزال ما يستحق من عقوبة بشخص ارتكب عملا مخالفا.
أما الغرامات، أي العقوبات المالية التي تفرض على شخص من الأشخاص، فيقال لها "ظلعم" "ظلع"،في بعض تلك اللهجات. ووردت لفظة أخرى، هي "من"، ولفظة ثانية هي "ذمنت" "ذ م ن ت"، يرى علماء العربيات الجنوبية انهما في معنى "عقوبة" و "جزاء".
و يعبر عن الجزاء الذي يحكم الحاكم بأدائه إلى من حكم له بلفظة "خطا" و "خطات" "خطئة" "خطيئة".ويراد بها ما يجب على المحكوم عليه دفعه من غرامات وتعويض. وقد وردت هذه اللفظة في نصوص المسند.

(1/3096)


--------------------------------------------------------------------------------

والقصاص عند الجاهليين عقوبة قلما طبقت، للاعراف القبلية التي كانت تعتبر تسليم القاتل الحر إلى أهل القتيل لقتله مثلبة، وتسليم مرتكب عمل ما إلى من وقع الفعل عليه، نقيصة وضعفا وسبة، تلحق آل مرتكب الفعل. لذلك، كان الثأر، هو الرادع لارتكاب الجرائم عند الجاهليين.
وإذا قتل حر عبدا، أو جرحه أو آذاه، فليس لأهل العبد طلب القصاص، وليس لمالكه أن يطلب قتل القاتل به، لأنه عبد والقاتل حر. و قد كان من الصعب عليهم، تصور مقاضاة عبد لحر على أساس القصاص، وإنما ينصف على أساس الدية والتعويض عن الخسارة بدفع مال، لقد استصعبوا ذلك حتى في الإسلام. فلما لطمت ابنة النضر أخت الربيع جارية، فكسرت سنها، فأمر الرسول بالقصاص. قالت أم الربيع: يا رسول الله أيقتص من فلانة?? ??? لا والله لا يقتص منها. فقال النبي سبحان الله يا أم الربيع، كتاب الله القصاص.
فقالت لا والله، لا يقتص منها أبدا. فعفا القوم وقبلوا الدية.
??????الجرائم
وقد????????? وضعت كل المجتمعات على اختلاف درجاتها، بدائية كانت أو منقسمة عقوبات لردع المجرمين وزجرهم وتأديبهم لكيلا يجرموا بحق أنفسهم وبحق مجتمعهم. وهي تتلاءم بالطبع مع واقع المجتمع والظروف الملمة به. كما ان الجرائم تكون منبثقة من واقع المحيط الذي يعيش المجرم فيه.
ويمكن حصر هذه الجرائم في الجرائم التي ترتكب ضد الدين، أي دين القوم وعقيدتهم، وفي الجرائم الني ترتكب ضد المجتمع، أي ضد العرف والعادات،في مثل الزواج والطلاق والاحوال الشخصية وفي القضايا التي تخص الآداب وفي الجرائم الني تخص الاعتداء على الجسد كالقتل والجروح والضرب. وفي الجرائم المتعلقة بالاعتداء على حقوق الغير مثل الخيانة والغدر وعدم الوفاء بالأمانات والسلب والنهب والسرقات ونشل الناس، وفي الجرائم المتعلقة بالملك.

(1/3097)


--------------------------------------------------------------------------------

وتعاقب شريعة الجاهليين كما تعاقب أية شريعة مدنية ودينية المخالف بعقوبات رادعة تكون متناسبة مع جرمه وعمله، وتكون العقوبات بالطبع متناسبة مع مستوى المجتمع وتفكير رجاله. والظاهر ان المعاقبين كانوا أحيانا يقسون على المخالفين في فرض عقوباتهم، فيظلمونهم، ويعذبونهم عذابا لا يتناسب مع ما قاموا به من جرم، بدليل ورود آيات في القرآن الكريم تحث من بيدهم الأمر على ألا يعاقبوا عقابا يتجاوز حدود المخالفة: )وان عاقبتم، فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به(، )ومن عاقب بمثل ما عوقب به(. وقد ذكر علماء التفسير ان الآية الأولى تأمر"ان من ظلم بظلامة،فلا يحل له أن ينال ممن ظلمه أكثر مما نال الظالم منة".
وان الله يقول للمؤمنين"وإن عاقبتم أيها المؤمنون من ظلمكم واعتدى عليم، فعاقبوه بمثل الذي نالكم به ظلمكم من العقوبة". وقد نزلت بعد أحد حيث قتل حمزة ومثل به، فلما "رأى المسلمون ما فعل المشركون بقتلاهم يوم أحد من بقر البطون وقطع المذاكير والمثلة السيئة " قالوا: لئن أظفرنا الله بهم لنفعلن و لنفعلن. فأنزل الله فيهم ولئن صبرتم لهو خير للصابرين. واصبر وما صبرك إلا بالله". ونزلت الآية الأخرى في "قوم من المشركين لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم، وكان المسلمون يكرهون القتال يومئذ في الأشهر الحرم،فسأل المسلمون المشركين أن يعفوا عن قتالهم من أجل حرمة الشهر،فأبى المشركون ذلك وقاتلوهم، فبغوا عليهم وثبت المسلمون لهم، فنصروا عليهم، فأنزل الله هذه الآية".

(1/3098)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن العقوبات التي جاءت بها الشريعة الجاهلية عقوبة: إقامة الحدود على الجناة،وذلك بالتعزير، وهو الجلد، جلد المخالف الذي لا تكون مخالفته جناية، بل مخالفة بسيطة في مثل مخالفة أوامر الوالدين أو الولي الشرعي وفي الاعتداء على الغير بالشتم و السباب والتحرش بالناس وماشاكل ذلك من أمور. وعقوبة دفع الغرامات وتعويض الضرر، وعقوبة السجن على الجنايات المهمة، وعقوبة الطرد من البيت أو من المدينة أو من أرض القبيلة والخلع والتبري من الشخص، والحبس في البيت، وعقوبات القصاص. والقصاص هو القود. و القود قتل النفس بالنفس. وقد عبر الفقهاء عن القصاص في القتل ب " قصاص في النفس "، وعبروا عن القصاص فيما هو دون القتل ب " قصاص فيما دون النفس ".
?القتل
القتل نوعان: القتل المتعمد، والقتل الخطأ. وقد فرق الجاهليون بين النوعين.
فالقتل الخط أ لا يمكن أن يكون في درجة القتل العمد. وقد قسم الفقهاء في الإسلام القتل إلى خمسة أقسام: قتل العمد، وقتل شبيه العمد، وقتل الخطأ، وقتل قائم مقام الخطأ، وقتل بسبب.
وقد نص على القصاص، أي على وجوب قتل القائل ومعاقبة الجاني بنوع جنايته، بمعاقبته بنفس الفعل الذي فعله بالمجنى عليه في بعض الكتابات الجاهلية، ومن هذا القبيل وجوب قتل القاتل، لأنه أزهق نفسا بشرية، وعقوبة من يزهق الناس، ويقضي على حياة إنسان إزهاق روحه، أي قتله قصاصا لما جنته يده بحق إنسان.
والقتل العمد، يقاص بالقتل، وهو أن يطلب أهل القتيل من أهل القائل تسليمه اليهم لقتله: ويقال لذلك "القود" وبذلك يغسل دم القتيل. والقاعدة القانونية عند الجاهليين أن "الدم لا يغسل إلا بالدم". فهو تطبيق قاعدة القصاص.

(1/3099)


--------------------------------------------------------------------------------

وإذا كان القاتل من بيت دون بيت القتيل، فإن أهل القتيل لا يكتفون في كثير من الأحايين بالقود، أي بقتل القائل، ولكن يطلبون قتل شخص آخر مع القاتل، أي قتل شخصين في مكان القتيل وقد لا يقبلون بهذا الحل أيضا لاعتقادهم بأن الرجلين مع ذلك دون القتيل في المنزلة وفي الكفاءة، فيعمدون هم أنفسهم إلى الاخذ بثار القتيل، وذلك باستعراضهم فيما بينهم رجال قبيلة القاتل، لاختيار رجل يقتلونه يرون أنه في م منزلة القتيل، فإن اختاروه ووجدوه، والغالب أنهم يختارون جملة رجال، أرسلوا من يغتال ذلك الشخص المسكين الذي وقع اختيارهم عليه لقتله فيغتالونه ليكون كبش الفداء عن القتيل.
ويقال للقتيل "هرج" "هرك" في اللهجة القتبانية، وقد وردت في القوانين القتبانه بصورة تعبر عن "القتل" عامة دون تعيين نوعه، كما في اللغة العبرانية، حيث تؤدي لفظة "هرك" "هرج" فيها هذا المعنى. والظاهر أن المشرع وضع تقدير "القتل" إذا كان قتلا عمدا أو قتلا خطأ إلى اجتهاد "الملك" الذي هو "الحاكم" الأعلى والى من وكل إليهم أمر القضاء بين الناس.
ولكن هذا لا يعني أن القتبانيين أو غيرهم من العرب الجنوبيين، لم يكونوا يفرقون بين القتل العمد والقتل الخطأ، أي القتل الذي يقع دون عمد ولا تحضير سابق ولا تفكير فيه. فقد كانوا يفرقون بين أنواع القتل ويحاسبون القاتل على هذا الأساس. وقد كانت كل القوانين في ذلك العهد تفرق ايضا في أنواع القتلى،فتجعل القتل الخطأ دون القتل العمد في الدرجة وفي الحكم المترتب عليه.
ويعبر عن القتل في اللحيانية بلفظه "خلس" "خليس" أيضا. وقد ورد في بعض الكتابات اللحيانية ان فلانأ قتل فلان،وقد حددت بعض الكتابات الوقت الذي تم فيه القتل. ويعبر عن القتل بلفظة "قتل" كذلك، وعن المقتول بلفظة "همقتل"، أي القتيل.

(1/3100)


--------------------------------------------------------------------------------

وعثر على نص قتباني هو قانون في تحديد عقوبة القتل والقاتل جاء فيه: أي شخص يقتل شخصا وكان من شعب قتبان أو من قبائل تابعة أو محالفة لها يعاقب بعقوبة القتل، إلا إذا قرر الملك عقوبة اخرى مستمدة من شريعة "تمنع،وعلان،و صيرم". ويقصد بشريعة "تمنع، وعلان، و صيرم"، العرف المتبع عند أهل "تمنع" أي العاصمة وعند جماعة "وعلان" وعند أهل "صيرم". فللملك أن يعاقب بالعقوبات المقررة عند هؤلاء، إذا لم يقرر الأخذ بمبدأ القصاص.
وقد استثنى القانون المذكور قتلة القتلة الفارين من تطبيق عقوبة القتل أو العقوبات التبعية الأخرى عليهم، إذا كان قتلهم في أثناء فرارهم وعصيانهم حكم الملك، أو حكم من خوله "الملك" تطبيق "العدالة" بين الناس. فإذا فر قاتل، وأبى تطبيق ما صدر من حكم عليه، وقتل وهو في هذه الحالة،لم يحاسب القاتل على قتله له، ولا يعاقب بأية عقوبة من أجل ما قام به من قتله انسانا آخر. والظاهر ان المشرع القتباني قد أخذ بالظروف المحلية التي كانت سائدة إذ ذاك، من سهولة هرب القتلة وتهديدهم الأمن والنظام، فلم يعاقب قتلتهم بأية عقوبة،وذلك ليقضي على القتلة العصاة وليخيفهم. وليخيف الطائشين من الاقدام على جرائم القتل. ولعله نظر إلى القاتل نظرته إلى انسان مجرم لا قيمة له في الحياة، لأنه شرير مؤذ، لذلك لم يفكر في مؤاخذة قاتل شخص على هذا النحو على عقوبته هذه.
وجاء في القانون المذكور أن كل من يرتكب جرما أو يعمل عملا مخلا بالأمن، أو يعرقل تنفيذ أوامر الملك لتعطيلها وإيقافها، سواء كانت معلنة أو غير معلنة، ثم فر وقتل فلا يؤاخذ قاتله على قتله، ولا تؤخذ دية دمه منه.

(1/3101)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد افتتح النص ونشر باسم الملك الذي أصدره، وهو الملك "يدع أب ذبيان بن شهر" ملك قتبان، وباسم "مزود" قتبان، أي ملأ قتبان، أصحاب الرأي والمشورة، وباسم "فقضت" و "بتل" قتبان وباسم "ردمان" و "أملك" "أملوك" "الأملوك"، و "مضحيم" "مضحي" و "يحر" و "بكلم" "بكيل"، وباسم القبائل الأخرى الخاضعة لحكم الملك. واختتم بجملة: "وتعلماي وشهد وتعلماي أيدي...". وهي جملة تعني: ووقع الملك على الوثيقة بيده وأمر بإعلانها، وشهد على ذلك ووقع عليها المذكورون من الملأ أعضاء المزود، ومن السادات أصحاب المشورة والرأي وقد ذكرت أسماؤهم بعد اسم الملك، لأنهم وافقوا عليها وصادقوا على تشريعها، وبتصديق الملك وأشراف مملكته وأعضاء "المزود" على القوانين تكتسب صفة قانونية، ويجب تطبيقها عندئذ.
وتدخل جريمة الانتفاضة على السلطان، أي الثورة في جملة الجرائم التي يعاقب القائم بها بعقوبة القتل. إلا إذا عفا السلطان عن فاعلها. وقد جاء في نص سبئي أن احد سادات القبائل ثار على الملك، ثم عفا الملك عنه. فذهب الى المعبد وتوسل الى إله "سبأ" أن يغفر له ذنبه. فأمر عندئذ بتقديم جاريه إلى معبد "المقه" إله سبأ،تكفيرا مما قام به من ذنب تجاه سيده، وأن يتوب عما فعل من إثم. وهناك أمثلة أخرى من هذا القبيل.
قتل القائل
ويكون قتل القاتل عند الجاهليين بحد السيف. أما طرق القتل الأخرى في مثل الشنق أو الصلب على خشبة،فإنها من العقوبات التي لم تكن مألوفة بين العرب. والصلب على الخشبة، أي الصليب من طرق القتل المألوفة عند الرومان.
وأما "الرجم"، أي إماتة الشخص برجمه بالحجارة، فإنه من العقوبات المعروفة عند العبرانيين، وقد نص على العقوبات التي يعاقب الإنسان عليها في الرجم في التوراة.

(1/3102)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ورد أن من الجاهليين من عاقب بالصلب. فقد قتل المشركون "خبيب ابن عدي" الأنصاري بصلبه على خشبة، وبطعنه بالرماح حتى مات. وصلب "هلال بن عقة"، وصلب غيرهما، ويكون الصلب بتعليق الشخص وربطه على خشبة، وطعنه بالحربة حتى يموت مصلوبا.
وورد أن رسول الله قتل "عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس"، بعرق الظبية منصرفة من بدر. فأمر بصلبه. فهو أول مصلوب في الإسلام. وقد عرف الصلب في الإسلام. وهو كناية عن تعليق الإنسان بعد قتله على خشبه،أو شجرة أو محل مرتفع ليراه الناس. وقد صلب خالد بن الوليد "عقة بن جشم بن هلال النمري" بعين التمر.
وورد أن الصلب كان في الجاهلية عقوبة قاطع الطريق.
وقد ورد في القرآن الكريم ما يفيد وجود "الصلب" وتقطيع الأيدي والأرجل: عند الجاهلين. فقد ورد في سورة المائدة: )إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله، ويسعون في الأرض فسادا، أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض (. وقد ذكر علماء التفسير أن هذه الآية نزلت في "العرنيين"، أو قوم من "عكل" قدموا على رسول الله، فاجتووا المدينة،فأمر لهم رسول الله بلقاح وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها، فانطلقوا، فلما صحوا، قتلوا راعي رسول الله واستاقوا النعم، وكفروا بعد اسلامهم فبلغ النبي خبرهم، فأرسل في آثارهم، فأتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون. وكانوا قطعوا يدي الراعي ورجليه، وغرزوا الشوك في عينيه حتى مات وأدخل المدينة ميتا. وكان هذا الفعل سنة ست من الهجرة.

(1/3103)


--------------------------------------------------------------------------------

كذلك كان القتل بإزهاق الروح بالرجم من العقوبات المعروفة عند الجاهليين، فقد قتل المشركون "عبد الله بن طارق"، رجما بالحجارة، أوثقوا أطرافه، فلما نزع يده من رباطه، قتلوه رجما بالحجارة. ولكن هذه العقوبة من العقوبات القليلة التي لجأ اليها أهل الجاهلية، فلا نستطيع اعتبارها من نوع القتل المألوف عند العرب.
والخنق معروف عند الجاهليين، لكنه قليل الاستعمال في العقوبات. وقد ذكر ان "النعمان بن المنذر"، أمر بخنق عدي بن زيد العبادي حتى مات. ويكون بخنق الشخص بحبل يضيق على رقبته ويشد حتى يموت أو بقماش أو بجلد أو باليد وبأمور أخرى عديدة. وقد خنقت بعض النساء رجالا انتقاما منهم. ويستعمل عند وجود فرصة سانحة كأن يكون الشخص نائما أو عند عثور شخص لا سلاح عنده على عدو له، فوجد ان الفرصة الوحيدة المواتية له للقضاء عليه هي باخناقه، وقد يستعمل في حالة الدفاع عن النفس.
وقد عرفت "المثلة" عند الجاهليين. يقال مثل بفلان، نكل به تنكيلا، بقطع أطرافه والتشويه به. ومثل بالقتيل جدع أنفه وأذنه أو مذاكيره أو شيئا من أطرافه. وقد مثل ب "حمزة" عم النبي، لما قتله "وحشي". وقد نهى الإسلام عن المثلة بالانسان وبالحيوان.
القتل الخطأ
ومن أنواع القتل الخطأ: القتل الذي يقع نتيجة وقوع اضطراب وثورات أو هجوم بحيث يصعب تشخيص القاتل، وكذلك القتل بسبب هجوم حيوان على شخص. فيكون صاحبه مسؤولا عن القتل، لأنه مالكه. أو بسبب ضرب شخص شخصا بحجر أو بشيء آخر، ولم يكن متعمدا قتله أو رميه به أو بذلك الشيء، وإنما أصابه خطأ فقتله. وقد عينت القوانين حدود هذه الأنواع من القتل، وتركت تقدير مقدار العقوبة والتعويض إلى "الملك" وذلك في العربية الجنوبية، ويقوم الحكام مقام الملك في النظر في هذه الأمور. أما أمره عند العرب الشماليين فإلى العرف والعادة والحكام.
السجن.

(1/3104)


--------------------------------------------------------------------------------

ولما كان من الصعب بل من غير الممكن للقبائل الحكم بالسجن على المجرمين. لعدم توفر السجون عندها لجأت إلى عقوبة الطرد، أي طرد المجرم إلى مكان ما يقرر لمدة معينة بحيث لا يسمح للمجرم بالمجيء الى منازل القبيلة خلال مدة الطرد. وهي عقوبة معروفة عند العبرانيين وعند غيرهم من الساميين وغير الساميين مثل الرومان، ولا تزال عقوبة الإبعاد والإجلاء معروفة ومستعملة عند القبائل.وتسمى اليوم ب "الجلوة" "الجلو" "الجلي" عند بعض عشائر العراق.
وأما في المدن، فإن الأخبار تتحدث عن وجود السجون فيها. فإذا حكم على أحد بالسجن أودع فيه. وقد عرف السجانون بالحدادين كذلك، وذلك لأنهم كانوا يمنعون الناس من حرياتهم، وكانوا يضعون القيود في أيديهم وأرجلهم،والقيود هي من صنع الحدادين.
وقد أشير الى السجن، أي "المحبس" و "الحبس" في القرآن الكريم، مما يدل على وجود السجن في مكة وعلى وجود السجون في الحجاز.
وتوضع السلاسل في أيدي اللصوص والأشرار والمساجين وفي أرجلهم لمنعهم من الهرب. وقد تربط السلسلة برجل السجين من جهة وبجدار السجن أو الباب من جهة أخرى كي لا يتمكن من الهروب. وتتصل نهاية السلسلة بطوق، تطوق به يدا السجين او رجلاه. واستعملت أطواق النحاس كذلك. ويعبر عن وضع السلسة في يدي السجين أو رجله بكلمة "كبل". وهو تعبير مستعمل في الارمية و في العبرانية كذلك..
وقد عاقب سادات الأسر المخالفين والخارجين على الطاعة بحبسهم في بيوتهم. وذلك بربط المحبوس بالسلاسل فلا يخرج ولا يغادر مكانه. وقد كان أهل مكة يحبسون من يستحق الحبس في بيوتهم، بربطه بسلسلة.حتى لا يتمكن من مغادرة محبسه وقد حبسوا بعض من أسلم من الشبان، عقوبة لهم. ونظرا إلى صعوبة تطبيق الحبس في البادية لا أستطيع أن أتحدث عقوبة الحبس عند الاعراب.
وفي السبئية لفظة "خصق"،وتعني السجان و محافظ السجن.و معنى هذا وجود السجون عند العرب الجنوبيين.

(1/3105)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد كانت لملوك الحيرة سجون يسجنون بها من يغضبون عليهم من الناس. وقد تحدثت عن ذلك في أثناء كلامي عن "الدولة"و في مناسبة الكلام على سجن "عدي بن زيد العبادي" ب "الصنين". ولا استبعد ان يكون للغساسنة سجون ايضا،يرمون بها المخالفين لهم.
وقد كانت السجون العربية الجنوبية في قلاع الملوك والأقيال والأذواء وفي المباني العامة المحصنة، حيث يودع السجين في أماكن منيعة حتى لا يتمكن من الهروب منها، يحرسها سجانون.وبين من يسجن عدد من المعارضين للحكام والثوار والمشاغبين على السلطة القائمة، أي مجرمين سياسيين، يبقون في سجونهم ما دام الحكام غير راضين عنهم. وقد يموت بعض منهم وهم في سجونهم.
وورد في الأخبار أن السجن لم يكن في زمن الرسول بيثرب، و لا في أزمان أبي بكر وعمر وعثمان، وكان يحبس في المسجد او في الدهليز. حيث أمكن. فلما كان زمن "علي بن أبي طالب"، أحدث السجن في الكوفة. وكان أول من احدثه في الإسلام، وسماه "نافعا"، ولم يكن حصينا،فنقبه اللصوص،وانفلتوا. وبنى آخر وسماه "مخيسا" من التخييس وهو التذليل. وقد ورد في أخبار أخرى، أن "نافع بن عبد الحارث الخزاعي" من عمال "عمر"، اشترى دارا من "صفوان بن أمية "" للسجن بمكة. ومعنى هذا أن السجن كان معروفا قبل أيام "عثمان" و "علي".
وقد ورد في بعض الأخبار أن "عمر" أول من حبس في السجون. " وقال أحبسه حتى أعلم منه التوبة، ولا أنفيه من بلد إلى بلد فيؤذيهم ". وذلك لأن العرب كانت تستعمل " التغريب "، أي النفي في موضع السجن، لسهولة النفي، و صعوبة السجن.
الجلد

(1/3106)


--------------------------------------------------------------------------------

وعرفت عقوبة الجلد عند الجاهليين، ولا سيما عند الحضر، فقد عاقبوا بالجلد. وقد أشير اليها في الكتابات العربية الجنوبية، إذ ورد في اتفاقية من الاتفاقيات المتعلقة ب "الوقف" أن الطرف الثاني، وهو الشخص المتعاقد مع الحكومة أو المعبد، إذا تماهل أو امتنع عن دفع ما عليه من حقوق نص عليها، عوقب بغرامة مقدارها "خمسة رضى"، أو بجلده خمسين جلدة بالعصا.
"وذ يخذلن فلن غل ينكرون خمس رضيم فاو خمس سبطم لاحد انسم"،ومعناها "والذي يتخاذل أو يقصر في العمل يعاقب بخمس رضى، أو بخمسين جلدة عصا لكل انسان".
وقد كان من حق الوالد جلد ولده عقابا لهم لما يفعلونه من مخالفات. ويستعمل السوط في الجلد في الغالب، كما عاقب سادات القبائل أتباعهم بجلدهم. والسوط هو المقرعة أيضا.
الخلع والطرد
وإذا أسرف الإنسان في ارتكاب الجرائم وبقي مستهترا بارتكاب الموبقات لا يبالي ولا يحاسب نفسه على أفعاله وأعماله، ولا يتبع نصائح أهله وعشيرته وأوامرهم، فقد يؤدي ذلك به إلى خلعه وطرده من أهله، معاقبة له وتخلصا من جرائره ومن المسؤولية التي قد تتولد لأهله من أعماله هذه. ويكون ذلك بإعلانه للناس في المحلات العامة وفي المواسم وبإشهاد شهود على ذلك حتى يعرف الناس، فتسقط المسؤولية عن أهل الطريد.
ويعبر أهل العربية الجنوبية عن ذلك بلفظة "طردن" أي الطريد، كما يعبرون عنه أحيانا بلفظة "ثبرن"، أي "المثبر"، وهو الذي يثبر الناس ويقوم بأعمال مثبرة فيزعجهم ويتعدى عليهم بذلك. وهم يطردون مثل هؤلاء الأشخاص ويثبرون منهم. ويعلنون عن الطرد، ليقف الناس على اسم الطريد، فيتجنبونه أو ينزلون به ما يستحق من عقاب، إذا ارتكب عملا مؤذيا لهم.
وقد نفى أهل الحجاز خلعاءهم إلى "حضوضى"، وهو جبل عرف بنفي الخلعاء اليه. وربما كانت هنالك امكنة أخرى في جزيرة العرب اتخذت منفى ينفى اليه الخلعاء عقابا لهم.

(1/3107)


--------------------------------------------------------------------------------

والطرد أو الخلع أو اللعن، معناه رفع كل أنواع المسؤولية القانونية المترتبة على آل الخليع والطريد والملعون وكذلك عن قبيلته إن خلعته أيضا. فإذا ارتكب جناية صار وحده المسؤول عنها، فلا يحميه أو يدفع عنه أحد. إذ اسقط أهله عنهم كل ما كان عليهم من حقوق "العصبية" تجاهه. فإذا قتل أو اعتدى عليه فلا أحد يسأل عن أهله، أو يأخذ عندئذ بحقه، لسقوط العصبية عنه. ويكون عندئذ معرضا للقتل في أية لحظة،مطاردا من الناس لفرط جرائره، فهو كالمجرم الفار من العدالة، الذي أسقطت عنه الجنسية، لايجد أحدا يؤويه، ولا مكانا يقبله، خشية إلحاق الأذى به.
ويكون الخلع والطرد علنا وبإشهاد شهود. والأغلب أن يعلن عنه في المواسم بأن يقف الأب الذي يريد خلع ابنه وسط الناس، ثم يقول: "خلعت ابني.. فإن جر لم أضمن، وان جر عليه لم أطلبه".
ويعرف الخلعاء بأسماء أخرى تدل على الصعلكة والازدراء. مثل الصعاليك. وذكر أن "صعاليك العرب" ذؤبانها ويقال الذؤبان والضليلين.
التغريب
والتغريب: النفي عن البلد أو الأرض، وكانوا يستعملون هذه العقوبة في حق من يستهتر بعرف القبيلة ويقوم بأعمال منكرة ولا يصلح نفسه فكانوا يحكمون عليه بالجلاء عن أرض القبيلة والابتعاد عنها مدة تحدد وتعين. وقد لا تحدد. فهو نفي وإجلاء. وقد بقيت هذه العقوبة في الإسلام فأمر الرسول بالتغريب وأمر الخلفاء به كذلك.
وقد عرف التغريب الجماعي عند الجاهليين وفي الإسلام. وهو إجلاء جماعة من موضع سكنهم. فقد كان الفرس يجلون القبائل المعادية لهم عن مواضعها ويرسلونهم إلى أماكن أخرى. وفعل الروم ذلك بالعرب أيضا، كما فعلت حكومات اليمن ذلك بالقبائل الثائرة. وفد أجلى "عمر" أهل الذمة عن جزيرة العرب، فسموا "جالية". وعرفوا ب "الجالية"، ولزمهم هذا الامر أينما حلوا، ثم لزم كل من لزمته الجزية من أهل الكتاب بكل بلد وان لم يجلوا عن أوطانهم.
الدية

(1/3108)

admin
01-01-2011, 01:30 AM
وأخذ الفقه الجاهلي بأصل تعويض الضرر وازالته عمن وقع الضرر عليه، وذلك بدفع تعويض عادل يرضى عنه، أو ترضى عنه ورثته في حالة وفاة من وقع الاعتداء عليه، ويقال لذلك "الدية".
أما في اللحيانية، يختال لها "ودي"، وعن أداء الدية لأهل القتيل "ودي"، و "وديو" بصيغة الفعل الماضي. وتعني لفطة "ودي"، دفع الدية وأعطاها في عربيتنا.
والأصل في الدية أخذها من القاتل إن كان قادرا، فإن لم يكن قادرأ على حملها، وقع حملها على ذوي "العصبة"، أي على أقربائه وذوي رحمه حسب رابطة ألدم. لذلك تكون "العصبة" في الديات، كما تكون في الإرث.
ونختلف الدية باختلاف درجات القبائل ومنازل الناس، فقد تكون عشرة من الإبل، وقد تبلغ ألفا. فإذا كان القتيل من سواد الناس ومن القبائل الصغيرة الضعيفة كانت ديته قليلة. أما إذا كان من أشراف القبيلة زادت ديته عن ذاك تبعا لمنزلة القتيل ولمكانته. وإذا كان القتيل ملكا، كانت ديته ألفا من الإبل، وتسمى هذه الدية "دية الملوك".
وتكون دية "الصريح" دية كاملة، وهي عشرة من الإبل كما ذكرت إذا كان القتيل من سواد الناس. أما إذا كان القتيل "حليفا"، فتكون ديته عندئذ نصف دية الصريح أي خمسا من الإبل. وأما إذا كان القتيل "هجينا"، فتكون، ديته نصف دية الصريح. وتكون دية المرأة نصف دية الرجل.
وكانت بعض القبائل قد حددت هي دية قتلاها، وفرضتها فرضا، فكانت تأخذ عن دية قتيلها ديتين أو أكثر أحيانا، وتدفع دية واحدة لغيرها، وذلك بسبب قوتها وبطشها. روي أن "الغطاريف"، وهم قوم "الحارث بن عبد الله ابن بكر بن يشكر" كانوا يأخذون للمقتول منهم ديتين، ويعطون غيرهم دية واحدة إذا وجبت عليهم. وكان لبني "عامر بن بكر بن يشكر" وهم من "الغطاريف" أيضا، وقد عرف "عامر" المذكور ب "الغطريف" ديتان، ولسائر قومه دية.

(1/3109)


--------------------------------------------------------------------------------

وورد أن "بني الأسود بن رزن" كانوا يؤدون في الجاهلية ديتين ديتين، ويؤدي غيرهم من "بني الدليل" دية دية، وذلك لفضلهم. ف "بنو الأسود" هم الذين حددوا ذلك المقدار وثبتوه، ولم يكن هذا التحديد عن ضعف، وإنما هو رغبة منهم في الافضال على ذوي القتيل الذين يكونون من غيرهم تلطفا لهم، وترفعا منهم عن المساومة في دماء القتلى.
وذكر أن بعض حكام العرب كانوا يحكمون في الديات بمئة من الإبل. وقد نسب بعضهم هذا الحكم إلى "أبي سيارة العدواني"، الذي كان يفيض بالناس من المزدلفة، قيل إنه أول من جعل الدية مائة من الإبل. ونسب بعض آخر هذا إلحكم الى "عبد المطلب" فقالوا إنه أول من سن الدية مئة من الإبل، فأخذت به قريش والعرب، وأقره رسول الله في الإسلام.
وكانت "قريظة" و "النضر" في الجاهلية إذا قتل الرجل من بني النضير قتلته بنو قريظة، قتلوا به منهم، فإذا قتل الرجل من بني قريظة قتلته النضر أعطوا ديته ستين وسقا من تمر. وذلك بسبب الفرق في المنزلة والمكانة.
وقد ورد في بعض الكتابات اللحيانية ان القتلة دفعوا دية القتلى لأهلهم الشرعيين الذين لهم حق المطالبة باسم، وقسموا قرابين و "خرجا" خراجا أي مبلغا إجباريا من مواد عينية إلى الآلهة عن ذلك الدم، وقدموا قرابين وضعوها على قبر القتيل. وبهذه الطريقة حسموا دم القتيل.
ويلاحظ ان اللحيانيين استعملوا مصطلح "خرج" أي "الخراج" للتعبير عن الجزاء الذي يجب أن يفرض على القاتل ليقدمه جزاء قتله انسانا.
وقد عرفت "الدية" عند العرب الجنوبيين كذلك، ولم تحدد في القوانين، وإنما ترك أمر مقدارها إلى "الملك" أو إلى الحكام المفوضين، وبضمنهم سادات القبائل والأقيال والأذواء، يأخذونها بحسب العرف المقرر عند القبائل التي يعنيها الأمر وتعطى لأصحاب القتيل الشرعيين.

(1/3110)


--------------------------------------------------------------------------------

وورد في نص سبئي قديم يعود عهده الى أيام "المكربين"، حكم بدفع دية مقدارها "200" إلى المعبد، تعويضا عن دم شخص فقير، لم يعرف قاتله، يدقعها آلى القتيل في عشر سنوات. ولم يحدد النص نوع الدية، مع انه عين مقدارها.
ويعبر عن الدية بلفظة أخرى هي "الملة"وب "العقل"، يقال:"عقل القتيل يعقله عقلا: وداه، وعقل عنه: أدى جنايته، وذلك إذا لزمته دية فأعطاها عنه". سميت الدية عقلا "لأن الدية كانت عند العرب في الجاهلية إبلا لأنها كانت أموالهم، فسميت الدية عقلا لأن القاتل كان يكلف أن يسوق الدية إلى فناء ورثة المقتول فيعقلها بالعقل ويسلمها إلى أوليائه"، ويقال للذين يتعاقلون على دفع الدية: "العاقلة". وكان مما جاء في كتب الرسول إلى القبائل: هم على معاقلهم الأولى، أي الديات التي كانت في الجاهلية يؤدونها كما كانوا، يؤدونها في الجاهلية على مراتب آبائهم. وفي الحديث: كتب بين قريش والأنصار كتابا فيه المهاجرون من قريش على رباعيتهم يتعاقلون بينهم معاقلهم الأولى. أي يكونون على ما كانوا عليه من أخذ الديات وإعطائها.
العاقلة
والعاقلة، هم العصبة، وهم القرابة من قبل الأب الذين يحملون الديات. وقيل: القبيلة، إلا انهم حما يحملون بقدر ما يطيقون.
ولا يعقل حاضر على باد. وورد أن "عمر" قال: " إنا لا نتعاقل المضغ بيننا، معناه، ان أهل القرى لا يعقلون عن أهل البادية، ولا أهل البادية عن أهل القرى ". ويظهر أن هذا كان حكم الجاهليين أيضا، أو حكم بعض منهم في أصول دفع الديات.
وليس في اسقاط اش الجنين دية عند بعض الجاهليين. ورد ان امرأتين من هذيل اقتتلتا فركلت إحداهما الأخرى بحجر فأصاب بطنها، وهي حامل، فقتلت ولدها الذي في بطنها، فاختصموا إلى الرسول، فقضى أن دية ما في بطنها غرة عبد أو أمة. فقال ولي المرأة التي غرمت: " كيف أغرم يا رسول الله من لاشرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل فمثل ذلك يطل ".

(1/3111)


--------------------------------------------------------------------------------

وورد في الحديث: " من لا أكل ولا شرب ولا استهل، ومثل ذلك يطل والطل: هدر الدم، وقيل هوأن لا يثأر به أو تقبل ديته. وفي الحديث أيضا، أن رجلا عض يد لم جل فانتزع يده من فيه فسقطت ثناياه فطلها رسول الله، أي أهدرها وأبطلها..
وإذا تنوزل عن الجراحة والدم بدفع الدية، قيل لذلك أرش الجراحة، أي ديتها. ومتى تم الاتفاق وحصل التراضي بدفع الدية، انتهى الدم، ويعبر عن ذلك ب "الفصل" وما زال هذا التعبير مستعملا بين عشائر العراق.
فالأرش اذن دية ما دون النفس، أي القتل كدية الجروح. فهو تعويض عن الضرر الذي يلحق بالعضو المصاب. ويختلف الأرش عند الجاهليين باختلاف التلف الذي أصاب عضو الإنسان، وباختلاف منازل الناس والقبائل. وهو على العموم دون الدية، لأن الدية تعويض عن قتل، أي هلاك أصاب جسم الإنسان كله، بينما الأرش تعويض عن جزء من جسم.
وفي الحديث: في أرش الجراحات الحكومة. ومعنى الحكومة في أرش الجراحات التي ليس فيها دية معلومة: أن يجرح الإنسان في موضع في بدنه مما يبقى شينه ولا يبطل العضو، فيقتاس الحاكم أرشه بأن يقول:"هذا المجروح لو كان عبدا غير مشين هذا الشين بهذه الجراحة كانت قيمته ألف درهم، وهو مع هذا الشين قيمته تسعمائة درهم، فقد نقصه الشين عشر قيمته،فيجب على الجارح عشر ديته في الحر، لأن المجروح حر، وهذا وما أشبهه بمعنى الحكومة"، التي تستعمل في أرش الجراحات، وتؤدي لفظة "ارش" في اللحيانية معنى "عوض،"، ودفع بدلا. وهي من المصطلحات القانونية الواردة في الكتابات. فإذا بدل انسان شيئا بشيء عبر عن ذلك بلفظة "أرش". ولا أستبعد أن يكون اللحيانيون قد استعملوها في التعبير عن التنازل عن الجراحة والدم بعد دفع الدية.

(1/3112)


--------------------------------------------------------------------------------

ويعوض عن الضرر الذي يلحقه إنسان بإنسان آخر مثل قطع عضو من أعضاء جسمه أو إلحاق جز به أو جراحة مؤذية بدفع "دية" عن الضرر. أما الجراحة التي لا تكون مؤذية، ولا تلحق ضررا، فلا يدفع عنها دية، ويعبر عن ذلك ب "الخماشة"، و "الخماشة" ما ليس له ارش معلوم من الجراحات، أو هو دون الدية، كقطع يد أو اذن أو نحوه. أي جرح أو ضرب أو نهب، أو نحو ذلك من أنواع الأذى. والخماشات: الجراحات والجنايات. وهي كل ما كان دون القتل وإلدية.

ويقال لما يدفع عن الجراحات "نذرا". وذكر أن النذر لا يكون إلا في، الجراح صغارها وكبارها وهي معاقل تلك الجراح.
وقد نص في القوانين العربية الجنوبية على تعويض الجروح والأضرار التي تلحق بالجسم كذلك، فورد فيها: "ثوب بقبتن"، أي "ثياب بمقتنيات"، ويراد بذلك أن يعوض بمال. ويقدر ما يدفع من المال إلى من نزل به الضرر بحسب شأن الجرح ومقدار الضرر، يقدره الحكام وعراف القبيلة، وقد سادت شريعة الجاهليين في معاقبة المجرمين في الجرائم الأخرى التي ليست قتلا على أسس التعويض وإصلاح الضرر والسجن والخلع والنفي ومعاقبة الفاعل عقابا يناسب عمله وما صدر فه.
واذا عجزت عصبة القائل عن دفع دية القتيل، وقد حملها على أقرباء العصبة، فإن نأوا بها وجب على القبيلة تحملها. ويدخل فيها سيد القبيلة. فالقبيلة وحدة اجتماعية قائمة بذاتها وعليها لذلك تحمل مسؤوليات أفرادها. ولهذا توزع الديات على أفرادها إن ثبت عدم تمكن أقرباء القاتل من دفعها.
وتدفع الدية الى "ولي القتيل" أو إلى أوليائه الشمرعيين، أي الذين لهم حق المطالبة بدم القتيل. وهم وحدهم لهم حق الفصل في موضوع الدم.
ولا تقع جناية العبد على مولاه، وانما تقع جنايته في رقبته. فلا يعقل سيده عنه، ولا تتحمل عصبة سيده عنه أي شيء في حالة عدم تمكن سيده من أداء "العقل"، أي الدية، إن قتل العبد شخصا. وللفقهاء في الإسلام في استيفائها منه خلاف.

(1/3113)


--------------------------------------------------------------------------------

وعند اعتصام القاتل وامتناع أهله أو عشيرته عن تسليمه إلى أهل القتيل للاقتصاص منه بقتله، وعدم رضاء أهل القتيل بأخذ "الدية" منه أو من أهله غسلا للدم، يلجأ أهل القتيل افلى "إلأخذ بالثأر"، وهو مبدأ معروف عند الشعوب السامية، وذلك بأن يتربص أهل القتيل بالقاتل حتى يجدوه فيقتلوه، أو يتربصوا بأقرب الناس اليه إن لم يجدوا القاتل فيقتلونه ويؤدي هذا الثأر إلى وقوع عدد من القتلى في الغالب من الجانبين، وقد يؤدي إلى وقوع قتال بين العشائر والقبائل. ويدفع أهل القتيل على اصرأرهم على الأخذ بالثأر عقيدة قديمة متوارثة، هي أن الروح منفصلة عن الجسم، فإذا قتل القتيل، خرجت روحه وصارت هامة، تحوم حول قبره، تقول ج أسقوني، ولن تستقر حتى يؤخذ بثأره، وإلا بقيت تحوم حوله، ويلحق الأذى عندئذ بأهل القتيل. فخوف أهل القتيل من هذه العاقبة السيئة، يدفعهم على الإصرار على الأخذ بالثأر.
وقد روى أهل الأخبار قصصا عن الأخذ بالثأر. وكيف كان الجاهليون لا يرتاحون ولا يهجعون الا بعد أخذهم في "الثأر المنيم". وقد ذكروا أن العرب ضربت المثل برجل اسمه "بيهس" في الأخذ بالثأر.
للذحل
والذحل اثأر أو طلب مكافأة بجناية جنيت عليك أو عداوة أتيت اليك، أو العداوة والحقد.
الشدخ
وقد يبطل الحاكم الدماء ويقال لذلك: "الشدخ". وأصل الشدخ الكسر والفضح. وقد عرف "يغمر بن عوف" ب "الشداخ"، سمي بذلك لما شدخ من دماء خزاعة حين حكموه..

(1/3114)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن الأحكام الطريقة المتعلقة بجرائم القتل، حكم المسؤولية التي تقع على الجماعة أي جماعة أرض يقع فيها قتل، يختفي فيها أثر القاتل، وينكل أهلها عن تسليمه في خلال مدة حددها القانون بأربعة أيام. فإذا مضت المدة ولم يعثر فيها على القاتل أو لم يسلم إلى الحكومة، صودرت غلات الجماعة وأخذ حصادهم، حتى يبت الملك، أو الجهات المسؤولة، أي الحكام في الأمر، وفي تعيين نوع العقوبة والدية التي ستفرض على الجماعة. وتودع الأموال الصادرة في مخازن الدولة أو مخازن المعبد، أو تباع إن لم لكن في الامكان حفظها، ويحفظ ثمنها، إلى أن يبت الملك أو الحكام في الأمر.
ويظهر ان الغاية الني توخاها المشرع من إصداره هذا القانون، هو قطع دابر احتماء القتلة، بعشائرهم أو بمن يلجأون اليهم، وفرارهم من تنفيذ عقوبة القانون عليهم. ثم لاكراه الجماعات على مساعدة السلطة في البحث عن المجرمين.
التعقية

(1/3115)


--------------------------------------------------------------------------------

الأصل في القتل القصاص، وذلك كما ذكرت. أما الدية، فلا يقبلها إلا الضعفاء، وكانوا يعيرون من يأخذها بأنهم باعوا دم قتيلهم بمال. ولهذا كان يأبى أولياء المقتول من قبول الدية إذا كانوا أقوياء. أما الضعفاء، فقد وجدوا لهم حيلة شرعية ومخرجا من المخارج في دفع ذم الناس لهم بقبولهم الديات، وذلك بلجوئهم إلى ما يقال له: التعقية في تبرير أخذهم دية قتيلهم. "والتعقية هي أن يقول آل القتيل لال القاتل: بيننا وبينكم علامة،فيقول الآخرون: ما علامتكم ? فيقولون أن نأخذ سهما فنرمي به نحو السماء، فإن رجع الينا مضرجا بالدم، فقد نهينا عن أخذ الدية، وإن رجع كما صعد، فقد أمرنا بأخذها. وحينئذ يقبلون الدية. وهم يعلمون أن السهم سيرجع كما صعد من غير دم. ولكنهم يريدون عذرا في قبول الدية: يعتذرون به أمام الناس من تعييرهم لهم، وكانت علامة قبولهم بأخذ الدية، مسح اللحية، فإن مسح اللحية علامة الصلح. قال ابن الأعرابي: ما رجع ذلك السهم قط إلا نقيا، ولكنهم يعتذرون به عند الجهال".
قال المتنخل الهذلي: عقوا بسهم فلم يشعر به احد ثم استفاؤوا وقالوا:حبذا الوضح
يقول: "رموا بسهم نحو الهواء إشعارا انهم قد قبلوا الدية ورضوا بها عوضا عن الدم، والوضح اللبن، أي قالوا حبذا الإبل التي نأخذها بدلا من دم قتيلنا فنشرب ألبانها".
الاشناق
وقد يحمل أحد الأجواد دفع الدية عن اهل القاتل، وقد يطلب المساعدة من قبيلته كي يكملوا عدة الدية أو الغرم. ويقال لهذا الفعل: الأشناق. ويعد دفع الأشناق من مكرمات الرجال، وكانوا يفتخرون بذلك على سائر الناس. وقد كانت قريش قد اختارت قوما عهدت اليهم "الأشناق". يجمعون من أهل مكة المال، ليدفع في مساعدة من لا يتمكن من دفع الدية.
الحمالة

(1/3116)


--------------------------------------------------------------------------------

ويقال لمن يحمل الدية أو الغرامة عن قوم ليصلح بينهم "الحمالة". "ومنه الحديث: لا تحل المسألة إلا لثلاثة. ورجل تحمل حمالة بين قوم. وهو أن تقع حرب بين قوم وتسفك دماء فيتحمل رجل الديات ليصلح بينهم". والحميل الكفيل الضامن دفع الديات. وعليه دفعها، لأن الحمالة التزام، ولا يمكن التخلص من عقد بغير وفاء.
السعاة
وكانت العرب تسمي أصحاب الحمالات لحقن الدماء وإطفاء النائرة سعاة، لسعيهم في صلاح ذات البين، ومنه قول زهير: سعى ساعيا غيظ بن مرة، بعدما تبزل ما بين العشيرة بالدم
والعرب تسمي مآثر أهل الشرف والفضل مساعي.
القسامة
لا حكم بغير بينة تثبت بالدليل القاطع أن القاتل قتل القتيل. و لا يطالب بالقود ان لم يثبت أن القاتل قد قتل القتيل وأنه مسؤول عن دمه.
أما إذا قتل رجل في موضع أو بين قوم ولم يعرف قاتله،ويرى أولياء المقتول أن دم صاحبهم في اصحاب هذا الموضع أو القوم وأن القاتل بينهم، ولا تشهد على قتل القاتل إياه بينة عادلة كاملة، فيجيء أولياء المقتول فيدعون قبل رجل أنه قتله ويدلون بلوث من البينة غير كاملة، وذلك أن يوجد المدعى عليه متلطخا بدم القتيل في الحال التي وجد فيها ولم يشهد رجل عدل أو امرأة ثقة أن فلانا قتله، أو يوجد القتيل في دار القاتل وقد كان بينهما عداوة ظاهرة قبل ذلك، فإذا قامت دلالة من هذه الدلالات سبق إلى قلب من سمعه أن دعوى الأولياء صحيحة، فيستحلف أولياء القتيل خمسين يمينا، أن فلانا الذي ادعوا قتله انفرد بقتل صاحبهم ما شركه في دمه أحد،فإذا حلفوا خمسين يمينا استحقوا دية قتيلهم، فإن أبوا ان يحلفوا مع اللوث الذي أدلوا به حلف المدعى عليه وبريء. وإن نكل المدعى عليه عن اليمن خير ورثة القتيل بين قتله أو أخذ الدية من مال المدعى عليه.

(1/3117)


--------------------------------------------------------------------------------

وورد أن القسامة: "أن يقسم من أولياء الدم خمسون نفرا على استحقاقهم دم صاحبهم إذا وجدوه قتيلا بين قوم ولم يعرف قاتله، فإن لم يكونوا خمسين أقسم الموجودون خمسين يمينا، ولا يكون فيهم صبي ولا امرأة ولا مجنون ولا عبد، أو يقسم بها المتهمون على نفي القتل عنهم، فان حلف المدعون استحقوا الدية، وان حلف المتهمون لم تلزمهم الدية".
وورد: في "حديث عمر، رضي الله عنه: القسامة توجب العقل، أي توجب الدية لا القود. وفي حديث الحسن: القسامة جاهلية، أي كان أهل الجاهلية يدينون بها. وقد قررها الإسلام. وفي رواية: القتل بالقسامة جاهلية، أي أن أهل الجاهلية كانوا يقتلون بها أو أن القتل بها من أعمال الجاهلية ". وورد أن رسول الله "أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية ".
وقد يحلف بعض الناس يمينا، أي يمين القسامة، ويدفع البعض الاخر ما يصيبه من الدية بدلا من القسم، بأن يؤدي الدية عوضا عن اليمن.لاعتقادهم أن من يحلف كاذبا أصابه مكروه وشر.

(1/3118)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن أمثلة ما ذكره أهل الأخبار عن القسامة والعقوبة المعجلة التي تلحق بصاحب اليمين الكاذبة، ما ذكروه عن استئجار رجل من قريش، اسمه خداش بن عبد الله ابن أبي قيس العامري في رواية، رجلا من بني هاشم، فانطلق الأجير معه في إبله إلى الشام، فمر رجل به من بني هاشم قد انقطعت عروة جوالقه، فقال للاجير: أغثني بعقال أشد به عروة جوالقي، فأعطاه عقالا، فشد به جوالقه. فلما نزلوا، عقلت الإبل، إلا بعيرا واحدا. فقال الذي استأجره: ما شأن هذا البعير لم يعقل من بين الإبل ? قال الأجير:ليس له عقال.قال المستأجر له: فأين عقاله ? فحذفه بعصا، كان فيها أجله. فمر به رجل من أهل اليمن فقال: أتشهد الموسم ? قال: ما أشهد، وربما شهدته. قال. هل أنت مبلغ عني رسالة مرة من الدهر ? قال: نعم. قال: فكنت إذا شهدت الموسم فناد: يا آل قريش ? فإذا أجابوك، فناد: يا آل بني هاشم ? فإن أجابوك، فاسأل عن أبي طالب، فأخبره ان فلانا قتلني في عقال. ومات المستأجر.. فلما قدم الذي استأجره، أتاه أبو طالب، فقال له: ما فعل صاحبنا ? قال: مرض، فأحسنت القيام عليه، وتوفي، فوليت دفنه. قال أبو طالب: قد كان أهل ذاك منك، فمكث حينا. ثم ان الرجل اليماني الذي أوصى اليه أن يبلغ عنه، وافى الموسم، فقال: يا آل قريش ? قالوا له: هذه قريش. قال: يا آل بني هاشم ? قالوا: هذه بنو هاشم. قال: أين أبو طالب ? قالوا: هذا أبو طالب. قال له. أمرني فلان أن أبلغك رسالة: ان فلانا قتله في عقال. فأخبره بالقصة، و خداش يطوف بالبيت، لا يعلم بما كان. فقام رجال من بني هاشم الى خداش، فضربوه، وقالوا: قتلت صاحبنا، فجمد. وأتاه أبو طالب، فقال له: اختر منا إحدى ثلاث: إن شئت أن تؤدي مئة من الإبل، فإنك قتلت صاحبنا، وان شئت حلف خمسون من قومك أنك لم تقتله، فإن أبيت، قتلناك به. فأتى قومه، فقالوا: نحلف، فأتته امرأة من بني هاشم كانت تحت رجل منهم، قد ولدت له، فقالت: يا أبا طالب، أحب

(1/3119)


--------------------------------------------------------------------------------

أن تجيز ابني هذا من اليمين وتعفو عنه برجل من الخمسين، ولا تصبر يمينه حيث تصبر الايمان. ففعل. فأتاه رجل منهم، فقال: يا أبا طالب، أردت خمسين رجلا" أن يحلفوا مكان مئة من الإبل يصيب كل رجل بعيران. هذان بعيران، فاقبلهما عني ولا تصبر يميني حيث تصبر الايمان، فقبلهما. وجاء ثمانية وأربعون فحلفوا. ويذكر رواة هذا الخبر انهم كذبوا في يمينهم، فما حال الحول ومن الثمانية والأربعين عين تطرف.
وقد ذكر "السكري" القصة المذكورة، لكنه نسب القسامة فيها إلى "الوليد ابن المغيرة". فذكر أنه لما أقبل أولئك الحي الذين كان "عامر" عهد اليهم بما عهد، وأخبروا "بني عبد مناف" خبر عامر. عمدوا إلى "خداش" فضربوه، وصاح الناس: الله الله يا بني عبد مناف. ثم تناهوا وتناصفوا، و صاروا في أمره الى "ا لوليد بن المغيرة"، وهو يومئذ أسن قريش. فحكم بالقسامة. وذكر في ذلك أبيات شعر نسبها إلى "أبي طالب". وذكر أن بعض أهل الأخبار قال إنهم رضوا بحكم "أبي سفيان"، وروى في ذلك بيت أبي طالب: هلم إلى حكم ابن حرب فإنه سيحكم فيما بيننا ثم يفعل
الحيوان المؤذي
لا يقتل صاحب حيوان إذا قتل حيوانه انسانا آخر، إذ لا دخل لصاحبه في فعله، فتسقط عنه مسؤولية العقوبة المثلية، وعليه دفع تعويض عن فعل حيوانه، وترضية أصحاب القتيل إذا كان صاحبه معه، كأن يكون راكبا له أو مصطحبا له، إذ كان من الواجب عليه الانتباه إلى حيوانه ووجوب سيطرته عليه حتى لا يحدث أذى بالناس.
وقد أقر الإسلام هذا المبدأ. فجاء في الحديث: "العجماء جرحها جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس". أي جرح البهيمة واتلافها شيئا هدر، لا ضمان على صاحبها إذا لم يوجد منه تفريط، أما إذا وجد كما في صورة كونه راكبا عليها أو قائدا لها أو سائقا ففيه ضمان.
السرقة

(1/3120)


--------------------------------------------------------------------------------

عرف علماء اللغة السرقة larceny بأنها أخذ انسان ما ليس له أخذه في خفاء. وعرفت "مدونة جوستنيان" السارق بأنه "من انتزع بالقوة مالا" مملوكا للغير". وقد عاقبت شرائع الشرق الأدنى السارق بعقوبات صارمة في الغالب. وقد فرضت الشريعة الموسوية على السارق ان يرد خمسة أضعاف من البقر وأربعة من الغنم عوضا عن كل رأس مسروق. واذا لم يكن لدى السارق ما يكفيه لاعطاء هذا الجزاء، يباع فترد القيمة من ثمنه. وكان على السارق أن يدفع أحيانا سبعة أضعاف ما سرق. وقد أمرت برد الأشياء المأخوذة عن طريق الخيانة والغش أو اللقطة أو المغتصبة مع زيادة الخمس على قيمتها.
ويدخل في باب السرقة في الشريعة الموسوية السطو ليلا على البيوت، وإزالة علامات الحدود لاغتصاب ملك مجاور لزيادة ملك المغتصب، والتلاعب في الكيل وفي الميزان والأبعاد أي القياسات والدخول عنوة في ملك شخص لا يملك حق دخول ملكه وإحراق ملك الغير، وقد قررت الشريعة المذكورة معاقبة المعتدي في هذه الحالات بإصلاح الضرر وبدفع تعويض مناسب.
والسارق عند العرب من جاء مستترا إلى حرز فأخذ منه ما ليس له، فإن أخذ من ظاهر فهو مختلس ومستلب ومنتهب ومحترس، فإن منع مما في يديه فهو غاصب. والسرقة عيب عند الجاهليين، أما الاستيلاء على مال الغير عنوة، أي باستعمال القوة، فلا يعد سرقة، بل هو اغتصاب وانتهاب إذا كان في داخل القبيلة، أما إذا كان اغتصاب مال شخص من قبيلة أخرى ليس لها حلف ولا جوار ولا عقد مع قبيلة المغتصب، فيعد مغنما ومالا حلالا. ولا يرى المغتصب فيه أي دناءة، بل قد يعد ذلك شجاعة وفخرا، لأنه أخذه عن قوة وجدارة، وعلى صاحب الحق أخذ حقه بنفسه، أو بمساعدة اهله أو أبناء عشيرته.

(1/3121)


--------------------------------------------------------------------------------

أما بالنسبة الى شريعة الجاهليين في معاقبة السارق، فليست لدينا فكرة واضحة عنها وبالنسبة إلى عقوبته عند جميع الجاهلين. أما اهل مكة، وهم من قريش، فقد كانوا يعاقبون السارق بقطع يده. ويظهر من روايات الأخباريين أن هذه العقوبة سنت في وقت لم يكن بعيد عهد عن الإسلام، إذ يذكرون أن أول من سنها هو "عبد المطلب". ومنهم من يرجع سنها إلى "الوليد بن المغيرة"، فيقولون إنه أول من قطع يد السارق، فصار عمله هذا سنة في معاقبة السرقة، وقطع رسول الله في الإسلام. وروي أن اول سارق قطعه رسول الله في الإسلام، من الرجال: "الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف"، ومن النساء "مرة بنت سفيان بن عبد الأسد" من "بني مخزوم".
وذكر "محمد بن حبيب"، ان العرب "كانوا يقطعون يد السارق اليمنى"، "وقطعت قريش رجالا في الجاهلية في السرق". منهم "وابصة بن خالد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم"، و "عوف بن **** بن عمر بن مخزوم"، و "مرار"، ثم سرق فرجم حتى مات، و "الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف"، و**** الله بن عثمان بن عمرو بن كعب،قطع في سرقة إبل، ومدرك بن عوف بن **** بن عمر بن محروم، ومليح بن شريح بن الحارث ابن أسد، ومقيس بن قيس بن عدي السهمي، وكانا سرقا حلي الكعبة في الجاهلية، فقطعا.
ويلاحظ أن ثلاثة من السراق المذكورين كانوا من عائلة واحدة هي عائلة "عمر بن مخزوم". وأن سارقين من هؤلاء السراق الثلاثة كانا أبا وابنا. فالأب هو "عوف بن **** بن عمر بن مخزوم"، والابن هو "مدرك بن عوف بن **** بن عمر بن مخزوم".
وذكر أهل الأخبار أن أشهر سارق عرف عند الجاهليين، هو سارق اسمه "شظاظ". فقالوا: شظاظ أسرق رجل عند العرب.
ونحن لا نستطيع أن نتحدث عن موقف بقية العرب من عقوبة قطع يد السارق، لأننا لا نملك موارد تتحدث عن ذلك.

(1/3122)


--------------------------------------------------------------------------------

ويعاقب العبرانيون السارق بدفع خمسة أمثال المسروق إذا كان ثورا ،ويدفع أربعة أمثاله إذا كان المسروق خروفا أو نعجة، وذلك إذا كان السارق قد باع الحيوان أو قتله. أما إذا كان ذلك الحيوان لا يزال في أيدي السارق، فيعاقب عندئذ بدفع مثلي المسروق.
وفكرة معاقبة السارق بدفع مثلى المسروق أو جملة أمثاله فكرة موجودة عند الجاهليين أيضا، ولا تزال معروفة في العرف القبلي. فيدفع السارق أربعة أمثال المسروق عند أكثر العشائر العراقية في الزمن الحاضر، ويسمون ذلك "المربعة". وهي في الواقع من بقايا العرف الجاهلي في السرقة. وقد جعل القانون الروماني عقوبة السرقة المكشوفة، أي السرقة التي يمسك فيها صاحبها وهو في حال السرقة أربعة أمثال المسروق، رقيقا كان السارق أو حرا، أما السرقة المستورة، وهي السرقة التي يعثر عليها عند السارق، فجزاؤها المثلان.
وإذا أنكر السارق السرقة وأصر على إنكاره، ولم يتمكن المسروق من إثبات وقوع السرقة منه، ولكنه يرى مع ذلك انه هو السارق، فعلى المسروق أن يطالب السارق بأداء يمين يقسم فيه انه لم يسرقه وانه لا يعرف بها، فإذا أنكر ولم يرض بالقسم، فعليه دفع المسروق أو قيمته على وفق العرف. والعرب يخشون من اليمين كثيرا، حتى انهم إذا جوبهوا به، فإنهم يفضلون الاعتراف بالسرقة وإلاقرار بها على أداء اليمين.
ويعبر عن السارق بلفظة أخرى، هي "اللص" والمصدر اللصوصية. وزعم بعض علماء اللغة ان كلمة "لص" هي بلغة طيء وبعض الأنصار، ويرى بعض المستشرقين انها من الألفاظ المعربة عن اليونانية،من أصل Liatis، أي "لص" في لغة الإغريق. وقد أخذها الجاهليون عن طريق اتصالهم بالروم في بلاد الشام، حيث كانوا يقبضون على من كان يغير على الحدود وعلى القوافل بقصد السرقة والسلب، فيسمونهم Liatis، ويعاقبونهم عقوبة صارمة، فأخذ الجاهليون هذا المصطلح منهم.

(1/3123)


--------------------------------------------------------------------------------

ويعبر عن أخذ المال المسروق والحصول عليه وديعة أو شراء مع علم المستلم له أنه مسروق ب "دشش " في لغة المسند.
وأما النهب، فأخذ مال الغير، وذلك بالغارات، أو باعتراض الناس في السبل والطرق. وأما السلب، فهو ما يستلبه الإنسان من إنسان آخر، في مثل الحرب أو القتل. ولهما أحكام تختلف باختلاف الظروف التي يقع فيها السلب والنهب. ففي أثناء الحروب، يكون النهب والسلب من الأعمال المألوفة التي تبيحها القوانين، وقد يبيح القادة ذلك لجنودهم، وقد يعينون مدة يبيحون فيها سلب العدو ونهب ما في مكانه. ومن حق القاتل في الحرب سلب ما على القتيل من سلاح ولباس،، وما يحمله من كل شيء.
قاطع الطريق
ذكر "محمد بن حبيب" ان العرب يصلبون قاطع الطريق، وقد صلب "النعمان بن المنذر" رجلا من "بني عبد مناف بن دارم"، من تميم كان يقطع الطريق.
الصلح
ويحاول الحكام جهدهم تسوية الخلافات بالتي هي أحسن، وذلك بفطنتهم وبذكائهم بالتوفيق بين المتخاصمين وبعقد الصلح بينهم، لدفن ما وقع بين الطرفين من خلاف. وقد ورد:"الصلح سيد الأحكام ". وبهذه الطريقة المسالمة ينهى الخلاف وتدفن الأحقاد.
ومن طرقهم في ذلك: الدفن. "وطريقتهم فيه أن تجتمع أكابر قبيلة الذي يدفن بحضور رجال يثق بهم المدفون له، ويقوم منهم رجل، فيقول للمجني عليه: نريد منك الدفن لفلان، وهو مقر بما أهاجك عليه، ويعدد ذنوبه التي أخذ بها ولا يبقى منها بقية، ويقر الذي يدفن ذلك القائل على أن هذا جملة ما نقمه على المدفون له، ثم يحفر بيده حفيرة في الأرض، ويقول: قد ألقيت في هذه الحفرة ذنوب فلان التي نقمتها عليه، ودفنتها له دفني لهذه الحفرة،ثم يرد تراب الحفيرة اليها حتى يدفنها بيده. وهو كثيرا متداول بين العرب،ولا يطمئن خاطر المذنب منهم إلا به، إلا أنه لم تجر للعرب فيه عادة بكتابة بل يكتفي بذلك الفعل بمحضر كبار الفريقين، ثم لو كانت دماء أو قتلى عفيت وعفت بها آثار الطلائب ".
المال

(1/3124)


--------------------------------------------------------------------------------

مال أهل البادية: النعم. والمال في الأصل ما يملك من الذهب والفضة ثم أطلق على كل ما يقتنى ويملك من الأعيان، وأكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل، لأنها كانت اكثر أموالهم. وبها قدرت الديات والفديات والمهر،وبعددها قدرت ثروة الأغنياء، أما النقود،من ذهب وفضة: فقد كانت معروفة عند الجاهليين، ولا سيما فيما بعد الميلاد، إلا انها لم تكن كثيرة في الأسواق،ولهذا كانت طريقة المقايضة هي الطريقة الغالبة في معاملات البيع والشراء.
التمليك
التمليك بعوض، والتمليك بغير عوض. وكلا النوعين معروفان عند أهل الجاهلية. فالتمليك بعوض، كأن يعوض عن حق الملك بثمن نقدا، أو عوضا، أي بمال اخر مقايضة عن الملك وهو في الغالب. فيتنازل صاحب الملك عن ملكه إلى من عوضه. وأما التمليك بغير عوض، فيكون بتنازل الملك عن ملكه لغيره أي لمن يشاء طوعا واختيارا بغير ثمن لا عوض، ويسلم إلى من تنوزل له عن حق التملك فيكون ملكا صحيحا له.
ا لعمري
العمري ما يجعل لك طول عمرك أو عمره، كأن يدفع الرجل إلى أخيه دارا فيقول له هذه لك عمرك أو عمري أينا مات دفعت الدار إلى أهله. وكان ذلك فعلهم في الجاهلية. فأبطل ذلك النبي، وأعلمهم ان من أعمر شيئا أو رقبة في حياته، فهو لورثته من بعده. وللفقهاء كلام في هذا الموضوع.
حرمة الأماكن المقدسة
وللاماكن المقدسة كبيوت العبادة والقبور حرمة عند أهل الجاهلية، ويعتبر المستهتر بها مخالفا للعرف والسنة، فيؤدب. ومن سننهم ان الرجل في الجاهلية إذا أحدث حدثا فلجأ إلى الحرم لم يحج. وكان إذا لقيه ولي الدم في الحرم قيل: هو صرورة فلا تهجه. واذا اعتدى عليه، يكون المعتدي قد ارتكب جرما.
الحبوس

(1/3125)


--------------------------------------------------------------------------------

والحبس كل شيء وقفه صاحبه وقفا محرما لا يباع ولا يورث من نخل أو كرم أو أرض أو مستغل أو حيوان، يحبس أصله وتصرف غلته وما يأتيه من نماء ومال على ما حبس عليه. وقد كان أهل الجاهلية يحبسون السوائم و البحائر والحوامي وغيرها على الأصنام وعلى بيوت عبادتهم. فلما جاء الإسلام، قيد الحبس بما يكون في سبيل الله وانتفاع المسلمين، وحرم عبوس الجاهلية.
وقد حبس الجاهليون أرضين لمعابدهم وأصنامهم جعلوها "حمى" لآلهتهم،لا يجوز لأحد ارتيادها للرعي فيها ولاستثمارها لأنها حبس على الصنم أو على المعبد. ترعى فيها السائمة التي حبست على الصنم أو المعبد. فلما جاء الإسلام حرم هذا الحبس، لأنه لغير الله. وأحل محله "الوقف" الذي هو لله.
وحبسوا النخل للمحتاج ولأبناء السبيل، يلتقط تمره بغير اذن، ولا يجوز منع أحد منه. كذلك حبسوا الماء لمن يحتاج اليه، يأخذ منه دون بدل، لشدة حاجة الناس اليه، فالحبوس بمنزلة الأوقاف في الإسلام.
اللقطة
اللقطة الذي تجده ملقى فتأخذه. وتكون اللقطة لواجدها ما لم يأت شخص ببينة واضحة على انها له. فعلى لاقطها إعادتها إلى صاحبها أي مالكها. وقد يقع نزاع على لقطة كأن يدعي شخص بأن اللقطة هي حلاله وملكه، وقد التقطها شخص وادعى انها له، أو انه وجدها لقطة فهي له. أو ان يتنازع متنازعون على اللقطة بأن يدعي كل واحد انها له، لأنه هو الذي وجدها. فتكون البينة حجة في هذه الخصومات، حتى يفض محكم ذلك النزاع.
الركاز
وللجاهلين رأي في الركاز، وهو دفين أهل الجاهلية، فمن وجده صار من حقه. ولهم رأي في المعادن. وسأتحدث عنهما في اثناء حديثي عن الحياة الاقتصادية قبل الإسلام.
الفصل التاسع و الخمسون
العقود و الالتزامات

(1/3126)


--------------------------------------------------------------------------------

يجب على الإنسان الوفاء بالعقود وبالالتزامات، مهما كانت، ما دامت قد تمت برضاء الطرفين وباختيارهما. ومن هذه العقود عقود الزواج والديون والشركات والمزارعة وغير ذلك. وقد تعقد العقود بغير كتاب، أي باتفاق لساني، وقد تتم بكتاب يدون عليه ما اتفق عليه، وقد يشهد على العقد شهود.
ويكتب العقد، أي الاتفاق إذا أريد أن يكون كتابة، على كتاب قد يكون صحيفة. يدون فيه كل ما اتفق عليه.ويعبر عن صحيفة العقود بلفظة "ص ل ت" "صلت" و "ص ل و ت" في بعض اللهجات العربية الجنوبية. ومن معانيها "سمع"، وتؤدي معنى أن موقعي العقد قد سموا شروط العقد وعرفوها، فهم على علم بها وشهادة.
وإذا تم التكاتب ودونت كل الشروط التي اتفق عليها،ختم عليها المتعاقدون. وقد فعلوا ذلك في المعاهدات وفي الاتفاقيات وفي عقود التجارة والمعاملات الأخرى. وقد يكتب العقد كاتب قد يذكر اسمه دلالة على أنه شاهد عدل على صحة العقد. ويقوم الخاتم مقام الإمضاء المستعمل في هذا اليوم. وقد يكتب اسم الرجل، ثم توضع صورة الخاتم تخته.
وربما لا يكون الخاتم مكتوبا، بل يكون محفورا، حفرت عليه صور. فقد ورد أن في خاتم أنس بن مالك نقش ذئب أو "ثعلب"، وكان خاتم عمران ابن الحصن نقشه تمثال رجل متقلد سيفا. ويختم به على الطين. وقد ورد: أن عمر بن الخطاب نهى أن يكتب في الخواتيم شيء من العربية.
وفي العربيات الجنوبية لفظة "جزم"، وترد في كتب العقود والالتزامات، وتعني القطع، وقطع انسان عهدا على نفسه وامضاء له، كما نقول "جزم اليمين:أمضاه" وأما لفظة "تجزم" فمعناها عقد عقدا، أو أمضى يمينا واتفاقا.
وتختم نصوص الاتفاقيات والعهود في بعض كتابات العربية الجنوبية بلفظة "صدق" أحيانا، دلالة على اكتسابها الصفة الشرعية وموافقة المتعاقدين التامة. وهي في معنى "صودق" التي تدون في نهاية المعاهدات والاتفاقيات في بعض الأحيان.

(1/3127)

admin
01-01-2011, 01:31 AM
وتحفظ صكوك العقود عند الطرفين، وقد تودع في الأماكن المقدسة ودور العبادة، وذلك في الأمور المهمة، مثل الأحلاف وما يتعلق بالمجموع. وقد أودعت قريش الوثيقة الني كتبتها بمقاطعة "بني هاشم" في جوف الكعبة كما ورد ذلك في كتب السير. وقد عير "الحارث بن حلزة اليشكري"، قوما غدروا ونقضوا العهد بقوله: حذر الجور والتعدي وهل ينق ض ما في المهارق الأهواء
أي: إن كانت أهواؤكم زينت لكم الغدر بعد ما تحالفنا وتوافقنا، فكيف تصنعون بما في الصحف مكتوبا عليكم.
وأشار شاعر آخر، هو "قيس بن الخطيم" إلى كتب دون فيها حلف.
البيوع
ولدينا نص مهم من ايام الملك "شمريهرعش" موجه إلى أهل سبأ والى أهل مأرب وما والاها في تنظيم البيوع. وهو قانون مهم جدا، حددت فيه واجبات البائع والمشتري وحكم البضاعة في اثناء التعامل، أي قبل اتمام صفقة البيع. وقد حدد القانون المدة التي يعد فيها البيع تاما ناجزا، بمدة شهر واحد، لا يجوز بعدها التراجع عن البيع أبدا، وبين القانون حكم الحيوان الهالك في اثناء المدة التي يحق للمشتري فيها ارجاع ما اشتراه إلى البائع فحددها بمدة سبعة ايام،فإن مضت هذه الأيام وهلك الحيوان في حوزة المشتري فعليه دفع الثمن كاملا إلى البائع، ولا يحق له الاعتراض عليه والاحتجاج بأن الحيوان قد هلك في أثناء مدة أجاز له القانون فسخ عقد الشراء فيها. ويطبق حكم هذا القانون على الإنسان أيضا،فإذا اشترى شخص عبدا أو عبدة، روعي في بيعهما وفي شرائهما احكام هذه المواد.
وتعرض القانون لحالة إرجاع المشتري ما اشتراه إلى بائعه، ورده عليه في خلال المدة الني سمح بها القانون وهي الشهر فما دون، مثل عشرين يوما أو عشرة ايام، فجوز ذلك، بشرط أن يقوم المشتري بدفع تعويض للبائع يعادل قيمة اجازة الحيوان أو الرقيق في خلال تلك المدة التي بقي فيها في حوزة المشتري.

(1/3128)


--------------------------------------------------------------------------------

فالقانون السبئي اذن قد أخذ بقاعدة "الخيار" في البيع،في بيع الأجسام الحية: الإنسان، والإبل، والغنم، والبقر. وحدد مدة "الخيار" هذه بشهر واحد، إذا تم الشهر، ولم يرجع المشتري ما اشتراه إلى البائع، عد البيع تاما ناجزا،وفي مدة الخيار هذه يكون المبيع ملكا للبائع، وعلى المشتري دفع تعويض مناسب للبائع في حالة إرجاع المبيع إلى صاحبه تعويضا يقدر بقدر العرف المتبع في حالة ايجار ذلك الرقيق أو الحيوان، كما ان على المشتري ان يدقع بدل العبد أو الحيوان المتوفى إذا كانت الوفاة قد وقعت في أثناء وجود العبد أو الحيوان في حيازة المشتري.
وغاية المشرع من هذا الخيار هو التأكد من أن المبيع خال من العيب سالم من كل مرض أو نقص، ونجد هذا الخيار في نصوص أخرى.
وباب "بيع الخيار" من الأبواب المهمة في كتب الفقه وفي القوانين لما يترتب عليه من مسؤوليات ونتائج بالنسبة للبائعين وللمشترين.
ونجد في القوانين التي أصدرها الملك "شمر يهرعش" في حوالي السنة 300 للميلاد، مواد وضعت لتشجيع التجارة وتنشيط البيع، وقد منعت بعضها التعامل في الأسواق اثناء الليل، وذلك حتى يتسنى لموظفي الحكومة المسؤولين عن البيوع استيفاء حق الحكومة في العشر، عن كل بيع. وقد تعرضت بعض مواد القوانين لأجور النقل التي ينفقها التاجر على تجارته لايصالها إلى السوق، والمصاريف التي تنفق على الحيوان وعلى المرافق له من مكان البيع حتى موضع الإيصال، أو من موضع التاجر الى السوق، حيث تضاف على سعر كلفة البيع. وتعرضت أيضا إلى تعيين الطرق التي تنال بها الحكومة حقوقها من أرباح التجار.
وقد وصلت الينا عقود بيوع حددت فيها محتويات المبيع وحدوده، وأكثر ما تستعمل هذه العقود في بيوع العقارات. ويقال لعقد الشراء "شامتن علم"، أي "اعلام الشراء". وتحدد الأرض المبيعة بحدود، تعلم ب "أوثان"، والمفرد "وثنن" أي "الوثن"، وهي أنصاب قد تكتب لتدل على حد الأرض.

(1/3129)


--------------------------------------------------------------------------------

وتحدد شروط الشراء وأوصافها بعقود، وخاصة في أمور شراء البيوع المهمة الثمينة مثل شراء بيوت أو ارض أو مزارع أو آبار، وتدون الشروط في "عقود الشراء"، وتسمى "شمتن علم" "شامتن علم"، أي "إعلام الشراء" في العربيات الجنوبية. وتدون في هذه العقود أوصاف الشيء المشترى وحدوده ومقداره وما يتعلق به من فروع لها علاقة بتعيين صفة الشيء المشترى. فإذا كان ذلك الشيء مزرعة مثلا، تذكر حدودها وأوصافها ومساحتها والماء الذي تروى به: سيحا أو بواسطة مثل بئر أو مسايل ماء ونحو ذلك. ليكون ذلك معلوما عند المشتري والبائع، فإذا وقع خلاف يرجع إلى نص إعلام الشراء "شامتن علم"، ويحكم الحاكم بين المتخاصمين بموجب مادون فيه.
ولدينا نص من نصوص إعلام الشراء، حدد فيه "بنو رشين" "بنو رشيان" الشروط التي وضعوها عند شرائهم أرضا مغروسة بالنخيل "نخلن". حددوا فيه كل شيء بدقة وعناية. حددوا موضع الأرضين التي اشتروها. وهي بستان "نخلن" "نخل" اسمها "مبحرن" "المبحر" وتقع على "معبر" قناة "ظلم"، وبستان أخرى اسمها "سطرن"، تتصل بالبستان الأولى. وحددوا السواقي التي تسقي البستانين المشتراتين، من المنابع التي تأخذ منها الماء إلى مجراها في الملكين المشترين.:وحددوا حقوقهم في الأشجار المغروزة على جانبي مسايل الماء، وحق الانتفاع بالماء، وحق عائدية الأثمار من الاشجار المغروزة على جانبي المسايل إلى غير ذلك من أمور تتعلق بحقهم في الماء وفي المساقي المؤدية إلى البساتين وفي تملكهم للبساتين.

(1/3130)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي جملة تحديد الحدود ورسمها على الأرض، وضع أعلام على الحدود، تقد، من حجر في الغالب، يقال لها "وثن" في العربيات الجنوبية. تذكر وتحدد مواقعها في عقود الشراء. وقد يكتب عليها تأريخ الشراء، لتكون بمثابة "صكوك تملك". ولا يجوز التطاول عليها بنزعها من مكانها أو بتغيير مواضعها أو التلاعب في أماكنها، لأنها حق. وقد أمرت الآلهة بقدسية الحق وبقدسية التملك، لذلك فهي تغضب وتلعن وتصيب بالأذى أي شخص يحرف الأعلام ويغيرها من أماكنها الشرعية التي نصبت بها وثبتت عليها. ومن هنا نجد انها وضعت في حماية الالهة وفي رعايتها، وفي مقابل ذلك يتقرب المالك إلى الآلهة بقربان يضحيه اليها. وقد ورد أن رجلا قدم قربانا ضحاه إلى الإله "المقه"، لأنه حفظ له "وثن" ملكه.
ويقال للاعلام التي توضع بين الشيئين من الحدود "المنار". وتوضع لتحديد معالم الطرق أيضا، حتى يتعرف عليها المسافرون ورجال القوافل. وقد كان بعض الناس يتجاوزون على ملك غيرهم، بالتجاوز على أرض جارهم بتحويل الأعلام "وثنن" من أماكنها، وتثبيتها في مواضع أخرى، لذلك جاء في الحديث: لعن الله من غير منار الأرض، أي أعلامها. والمنار ال "وثن" في العربية الجنوبية.
الهبة

(1/3131)


--------------------------------------------------------------------------------

والقاعدة العامة في الهبة، أنها عطية خالية من الأعواض والأغراض، ولهذا فانها لا تسترجع ولا يؤمل الحصول على مقابل لها. ويقال للمكثر منها وهابا. وقد كان الجاهليون مثل أي أمة أخرى يتواهبون فيما بينهم. ولا تكون الهبة عن إكراه وقد كان البعض يهبون هبات على أمل الحصول على تعويض أو زيادة، وأكثر هؤلاء من الأعراب. ولذلك جاء في الحديث: " لقد هممت أن لا أتهب إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي، أي لا أقبل هبة إلا من هؤلاء، لأنهم اصحاب مدن وقرى، وهم أعرف بمكارم الأخلاق ". فقد "رأى النبي صلى الله عليه وسلم، جفاء في أخلاق البادية، و ذهابا عن المروءة، وطلبا للزيادة على ما وهبوا فخص أهل القرى العربية خاصة بقبول الهدية منهم، دون أهل البادية لغلبة الجفاء على أخلاقهم، وبعدهم من ذوي النهي والعقول".
والقاعدة العامة في الهبات، أنها عطاء إذا تصرف به، فلا يصح لمن وهبه أن يطلب ارجاعه. لأنه وهبه عن طيب خاطر وليس عن جبر وإكراه. أما إذا أجبر شخص على اعطاء شخص آخر شي على أنه هدية، فلا يعد ما أعطى هدية، وإنما يكون غصبا. ومن حق صاحب ذلك الشيء المطالبة بإعادته اليه، إن أثبت بالبينة أن ما يطالب به قد اغتصب منه. لأن الغصب ظلم والظلم يجب أن يزال.
الدين

(1/3132)


--------------------------------------------------------------------------------

والدين، وهو كل شيء غير حاضر ويجمع على ديون. ودنت الرجل بمعنى اقرضته. وذكر ان الدين ما له أجل، وما لا أجل له فقرض. والمعرض من يستدين من أمكنه. ولم يبال أن لا يؤديه ولا ما يكون من التبعة. والقرض ما يتجازى به الناس بينهم ويجمع على قروض. والقراض المضاربة حجازية. والغرم الدين. والغريم الغارم والجمع غرماء. وعسرت الغريم أعسر. و أعسرته واستعسرته طلبت معسوره ولم أرفق به إلى ميسوره. والتبعة و التباعة والمتابعة، الشيء لك فيه بغية شبه ظلامة ونحوها. وتابعته بمال طالبته.والتلية بقية الدين. وتسلم الدين من قبضه وكذلك أسلفت الدين وسلفته. وقضيت الغريم دينه، أديته اليه. وتقاضيته الدين قبضته. و الضمار من الدين ما كان بلا أجل معلوم. وتمككت على الغريم ألححت. وبرئت من الدين براءة.
وقد يقع الدين ويتم بالاتفاق الشفوي، فلا يدون في كتاب،وذلك لثقة الدائن بالمدين، وقد يدون على صحيفة، ويشهد على صحته شهود. وعلى المدين وفاء الدين بأجله، ويجوز تأخيره بالطبع باتفاق الطرفين.
وقد حكمت بعض الشعوب ببيع المدين إذا لم يتمكن من تسديد ديونه،في فيصير بذلك رقيقا. أما الجاهليون، فقد كان منهم من يبيع المدين استيفاء لدينه الذي في ذمته. وقد منع ذلك في الإسلام.
وقد أعطت شرائع الجاهليين شأنا كبيرا لوفاء الدين، فحتمت الالهة بلزوم وفائه وعد عدم الوفاء مخالفة لأوامر من الالهة. ولذلك نجد المدين يذكر في كتابات تسديد الديون أنه وفى بدينه كما أمرته الآلهة بذلك. وتقوم المعابد نفسها بتقديم الديون لمن يحتاجها، وتعين مدة للسداد، وقد كانت المعابد بمثابة "البنوك" في ذلك العهد، تقرض الناس الأموال في مقابل ربح، وتسجل الدين باسم إله المعبد الذي تم فيه عقد الدين. وقد كانت ذات أموال طائلة تنميها بالإقراض وبالمعاملات المالية الأخرى التي تقوم بها بنوك هذا اليوم.

(1/3133)


--------------------------------------------------------------------------------

وإذا لم يتمكن المدين من تسديد ما عليه من دين، صودر كل ما يملكه المدين في وقت الدين من مال وملك وكل ما سيملكه في المستقبل حتى يستوفي دينه. وتكون زوجه مسؤولة أيضا عن هذا الدين، فإذا كان لديها مال أو ملك يستولي عليه ليدفع تعويضا عن ديون زوجها، ويكون الأولاد مسؤولين أيضا عن ديون والدهم، فيصادر كل ما يملكون من مال وملك وفاء لديون والدهم.
ويحدث في الغالب ان يأخذ الدائن ما عند المدين من رقيق لتشغيله والاستفادة منه ما دام المدين مدينا له، بل قد يأخذ زوج المدين لتشغيلها عنده حتى يوفي زوجها دينه للدائن. وتبلغ أسرة المدين وعشيرته بعدم تمكن المدين الذي هو منهم من تسديد ديونه، لتقوم هي بمعاونته في دفع ديونه، أو تتحمل هي مسؤولية دفع تلك الديون.
ويقال للدين "لوت" "لوأت" في المعينية. و "لواه دينه" مطله، في عربيتنا، أي في معنى قريب من هذا المعنى.
وعلى من يستعير شيئا اعادة ما استعاره إلى صاحبه. ويعبر عن الاستعارة ب "المعاورة" و ب "العارية". و ب "عر" في بعض اللهجات العربية الجنوبية. واذا نكل شخص عن اعادة ما استعاره، فيكون حكمه حكم المستدين،أي يكون ناكثا بما اتفق عليه جاحدا فضل انسان قدمه اليه.
وتأتي لفظة "قرض" في اللحيانية كذلك، بالمعنى المفهوم من الكلمة في عربيتنا.
ويعبر عما يقدمه المدين إلى الدائن من أموال أو من رقيق أو ما شابه ذلك، ليكون وديعة وضمانا لدى الدائن في مقابل سداد الدين ووفائه ب "لون" و"لوتن" أو مساناة، ومنه تنجيم المكاتب. وكانت العرب إذا رأت الهلال، قالت: لا مرحبا بمحل الدين ومقرب الآجال، لاضطرارهم إلى دفع ديونهم عند رؤية الأهلة.
الكفيل والكفالة

(1/3134)


--------------------------------------------------------------------------------

والكافل والكفيل الضامن والجمع كفل و كفلاء. و أكفلت فلانا المال ضمنته. إياه و الضمين الكفيل والجمع ضمناء، والأذين الكفيل. و فلان قنعان لي أي رضى يقنع به ان اخذ بكفالة أو دم أو شهادة و حكم. والغرير الكفيل.لا وأنا لك رهن بكذا، أي كفيل. ويقال للكفيل "القبيل" كذلك، وهو الضامن. و "القبيل" العريف أيضا.
وعلى الكفيل دفع ما بذمة المدين من دين كفله وتعهد للدائن بأدائه اليه في حالة عجز المدين أو نكوله أو امتناعه عن دفعه. فإن الكفالة عقد وعلى المتعاقدين لا الوفاء بالعقود. ولهذا كان الكفيل في الجاهلية كالمدين الأصيل في وجوب وفائه يدين المدين. وقد يكون الكفيل جملة اشخاص، اي جملة كفلاء تعهدوا جميعا بالوفاء عن المدين كون المدين حالة كون المدين شركاء أو عائلة واحدة أو ما شابه ذلك، فتكون المسؤولية عامة، ويجوز قيام واحد منهم بالوفاء عن الجميع في حالة موافقة جميع المتعاقدين.
القبالة
وكل من تقبل بشيء مقاطعة وكتب عليه بذلك الكتاب، فعمله "القبالة"، والكتاب المكتوب عليه هو القبالة. وقد كانوا يتقبلون القبالات رجاء الحصول على ربح ومغنم. وقد نهي عن ذلك في الإسلام. ورد في حديث "ابن عباس": إياكم والقبالات فإنها صغار وفضلها ربا. وهو أن يتقبل بخراج أو جباية أكثر مما أعطى، فذلك الفضل ربا. فإن تقبل وزرع فلا بأس.
والرهان أو الرهن معروف و شائع بين الجاهليين، وهو ما يوضع وثيقة للدين. وقد أشر اليه في القران الكريم، وأقر في الإسلام. ويعبر عنه ب "فقدون" "فقدى" عند العبرانيين. ولا يتم الرهن إلا بالقبض، أي بتسليم المرهون إلى الدائن. وفي جملة ما يرهن السلاح والذهب والفضة والأرض والزرع والأشخاص مثل النساء والأولاد والرقيق. ويقال عند تخليص الرهن فككت الرهن وفديت الرهن، بمعنى فصلته وتخلصت منه، بدفع فديته وبدله وعوضه.

(1/3135)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد كان الرهن معروفا شائعا بين أهل يثرب ومكة، فكانوا يبيعون الطعام في مقابل رهن يوضع عند البائع حتى يؤدي المشتري الثمن، أي حتى الوفاء. وللوضع الاقتصادي إذ ذاك دخل كبير ولا شك في شيوع الرهن عند الجاهليين، وفي استماله في معاملات البيع والشراء.
وقد كان من حق المرتهن الاستيلاء على الرهن، إذا مضى أجل الرهن ولم يدفع الراهن ما عليه.كما يجوز له بيع الرهن ومطالبة الراهن بالفرق إن لم يستكمل الرهن المبلغ الذي رهن الرهن عليه.
وقد استعمل رهن الاشخاص في الأمور السياسية في الغالب، إذ كان المقهورون من الملوك والأشراف وسادات القبائل يضعون أبنائهم أو أقرب الناس اليهم رهائن لدى الغالبين تكون وديعة عندهم وضمانا نحسن سلوكهم وبعدم خروجهم على طاعة الغالبين. كما استعمل في مقابل الضمان والكفالة بدفع ثمن الدم، أي الدية، وثمن فك الرقبة،أي الفدية إلى ان يؤدى المال المتفق عليه. فقد رهن "أبو أحيحة ابن العاصي" "أبانا" ابنه بني عامر بن لؤي في دم أبي ذئب. وقد رهنت قريش كما يقول أهل الأخبار " الحرث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف" عند "أبي يكسوم" الحبش، وعرف لذلك ب "الرهينة".
وأما "المراهنة" والرهان فالمخاطرة والرهان في الخيل أكثر وقد نهي عنهما في الإسلام. لما كانا يؤديان اليه من وقوع خصومات بين المراهنين، ولما كان يقع من تحايل وتلاعب في الرهان وفي الخيل المتسابقة. حيث يتواطأ مع راكبي الخيل على تقديم الخيول المتسابقة أو تأخيرها إلى غير ذلك من حيل أضرت بحقوق المتراهنين. وقد كانوا يخاطرون على المال بجعله خطرا بين المتراهنين. فيقع تلاعب فيه.

(1/3136)


--------------------------------------------------------------------------------

ويقال لها "المناحبة" كذلك، وكانت شائعة فاشية بين الجاهليين. وقد ناحب "أبو بكر" "أبى بن خلف" على عشر قلائص ثم زاد العدد حتى جعله مئة إن انتصر الروم على الفرس، وكان "أبي" قد راهنه بانتصار الفرس على الروم: بدوام نصرهم هذا، فتراهنا على أن يدفع الخاسر العدد الذي اتفق عليه. ويقال لتلك المقامرة. يقال: "قمرت الرجل إذا لاعبته فغلبته. وقد كانت المراهنة من الأمور المباحة في الجاهلية، وعلى المقامر الوفاء بما ألزم نفسه به من شروط المقامرة، لأنه ألزم نفسه بها،، ويجب على الإنسان الوفاء بما عاهد غيره به. فلما جاء الإسلام، حرمت المقامرة، لما فيها من ضرر.
الودائع
والوديعة ما يستودع من مال وغيره، والوديع العهد،والودائع والعهود والمواثيق. وقد أشير اليها في نصوص المسند. ويظهر منها أنهم كانوا يشهدون الآلهة على حسن الأداء وعلى الوفاء بشروط الوديعة، واعادتها تامة كاملة عند الوفاء، إن اتفق على ذلك في شروط الايداع. ويعبرون عن اشهاد الآلهة على الوديعة وعلى شروط الوفاء بلفظه "ستوثق"، أي الوثوق و الاستيثاق.
ويقال للوديعة "دعت" و "ديعت" قي العربيات الجنوبية، ويجب على من أودعت الوديعة اليه المحافظة عليها وتسليمها إلى صاحبها على هيأتها يوم أخذها. وقد أشير إلى حكم "الوديعة" في نص دونه "شمر يهرعش"، إلا أن تلفا أصاب أكثر ما يتعلق بالموضوع، بحيث لم يبق منه غير كلمات، حرمنا الوقوف على حكمها في أيام ذلك الملك.
لقوانين التجارية
وتعد التجارة من أشرف الأعمال عند العرب، نجد سادتهم يحترفونها ويساهمون في تكوين الشركات للاتجار،ويسافرون بين جزيرة العرب وخارجها للبيع والشراء. ومع ذلك فإننا لا نملك ويا للاسف قوانين مدونة في تنظيم التجارة وفي أصول وقواعد الاتجار، وفي كيفية تنظيم التجارة وفي تعاملهم بعضهم مع بعض وفي العقود التي كانوا يعقدونها في تنظيمها إلى غير ذلك من أمور تتعلق بالتجارة و الاتجار.

(1/3137)


--------------------------------------------------------------------------------

وكل ما لدينا في الوقت الحاضر، قانون أصدره الملك "شهر هلل" "شهر هلال" في تنظيم التجارة وفي واجبات التاجر والضرائب التي يجب أن يدفعها إلى الحكومة. أمر بإعلانه وتدوينه ليقف عليه تجار عاصمته مدينة "تمنع"، وهي "كحلان" في الوقت الحاضر، وليقف عليه التجار الذين يقصدون عاصمته أيضا يقصد الاتجار وقد دونه على حجر يبلغ طوله مترين، ونصبه في الحي التجاري من العاصمة، وهو الحي المعروف ب "شكر".
وقد جاء فيه ان على من يريد الاشتغال بالتجارة في منطقة "شمر" أن يقدم "عربا" "عرب"، أي "عربونا" وضمانا، وان يقيم في هذه المنطقة ويتعامل بالتجارة بها وحدها، وبالأسعار السائدة فيها. وللقتبانيين العاملين في التجارة في هذه المنطقة حق الشراء من الخارج أيضا.
وتطرق النص إلى الفروق التي قد تحدث في الأسعار، والى الخسائر التي قد تلحق بالحزينة من جراء انخفاض الضرائب التي ستنشأ من الفروق بين الأسعار ومن المضاربات، فأوجب على سيد شمر، أي على القائم بأمر هذه المنظمة التجارية بأن يدفع تعويضا عن ذلك. كما تحدث عن "العربون" اي الضمان الذي يقدمه التاجر في مقابل حق اشتغاله بالتجارة ولضمان عدم تلاعبه أو تحايله في البيع والشراء.
وتحدث عن العقوبات ومن جملتها حق مصادرة الأموال وبيوت التجار، وفي حالة ما إذا كان ضمانهم غير كاف أو أقل من المطلوب، وعن الظروف الي قد تتجاوز فيها العقوبات التي قد تفرض على التاجر مقدار الضمان المقدم.
كما تحدث عن التاجر الذي يضع "عربونا" في تمنع، ثم يقوم بالاتجار مع
تجار غرباء غير قتبانين أو مع الناس الساكنين في المناطق الأخرى، فإن للقتبانيين المتضاربين بهذا الاتجار ولسلطات "شمر" أي المنطقة المخصصة بالتجارة من مدينة "تمنع" حق مقاضاة هؤلاء التجار وفقا للقانون.

(1/3138)


--------------------------------------------------------------------------------

ثم تطرق القانون إلى وجوب العناية بهذه المنطقة التجاريه من "تمنع" ووجوب مراقبة تجارتها، والى منع الاتجار بها في أثناء الليل، وإيقاف كل بيع وشراء ازاء الليل. ووجوب مغادرتها ليلا. لأن حق الاتجار محصور بالملك، وهو الذي يحدد التجارة وأوقاتها.
وغاية المشرع من تشريع القانون المتقدم، ضبط الأسعار وحماية السوق من التلاعب، وتنظيم الجباية وحماية مصالح الحكومة فيها. ونجد في بعض الكتابات السبئية قوانين وضعت في تنظيم نقل الماشية من المناطق المعينية إلى "مأرب" عاصمة سبأ. فتطرقت إلى كيفية نقل الماشية والى حقوق أصحاب الأرض التي تمر الماشية بها، والى وجوب تأمين الماء والأكل ولمن يحرسها لايصالها إلى عاصمة سبأ. ثم الى الضرائب التي تؤخذ عنها، لدفعها إلى الحكومة والى المعبد.
الربا
والربا شائع معروف عند الجاهلين،وذلك لفقر معظم الناس مما آل إلى استدانتهم من ذوي المال بفائض مرتفع جدا. ولما كان أكثر المدينين ضعفاء الحال، ولا يكون في إمكانهم دفع المال في أجله المحدد، اشتط الدائنون المرابون في ابتزاز الأرباح، فصاروا يتقاضون ربا فاحشا عن المبلغ وأرباحه، دون شفقة ولا رحمة لعدم وجود أحكام وقوانين تحدد مبالغ الأرباح. فليست للفائدة التي تؤخذ عن الربا حدود، فالحد الأعلى غير معروف، بل هو يتوقف على حاجة المدين وعلى استغلال الدائن لتلك الحاجة، فيزيد المرابي في الربا قدر إمكانه وبحسب رأيه في حالة المدين وفي حاجته إلى الدين. أما الحكومات والهيئات التشريعية فليس لها رأي في هذا الحد، ولم نعثر على قانون أو خبر في تحديد الربح المستحصل من الربا.
ويعد الربح المفروض على الدين، الذي هو رباه، جزء من الدين، إذا امتنع المدين من أدائه للمرابي، يكون ناكلا بموجبه للعهد، وعليه دفعه، دفعه للدين، وإذا كان المرابي قاسيا قويا استحصله من المدين اليه بالقوة، وقد يؤجله عليه على أن يدفع ربا عن هذا التأجيل.

(1/3139)


--------------------------------------------------------------------------------

وعرف "الربا" ب "اللياط"، لأنه ملتصق بالبيع وليس ببيع، ولأنه لاصقا بصاحبه لا يقضيه ولا يوضع عنه. وكان "أبو لهب" قد لاط للعاصي بن هشام ابن المغيرة بأربعة آلاف درهم كانت له عليه أفلس بها فاستأجره بها على أن يجزي عنه بعثه فخرج عنه وتخلف أبو لهب من الذهاب إلى بدر.
ومن أمثلة الريا في الجاهلية، ما ذكر في بعض كتب الحديث: كان الربا في الجاهلية أن يكون للرجل على الرجل الحق إلى أجل، فإذا جل الأجل، قال: أتقضي أم تربي فإن قضى أخذ، وإلا زاده في حقه،وأخر عنه في الأجل.
وقد حرم الإسلام "الربا" وأبطل اباحة الجاهلين له. فنزل الأمر بتحريمه في القرآن، وأبطل رسول الله كل ربا كان في الجاهلية في خطبة الوداع. وقد قسم العلماء الربا إلى ثلاثة أنواع: ربا الفضل، وهو البيع مع زيادة أحد العوضين على الاخر، وربا اليد، وهو البيع مع تأخير قبضهما أو قبض. أحدهما، وربا النسأ، وهو البيع لأجل. وقد حرم الإسلام كل هذه الأنواع. وللربا حديث اخر، سيكون في اثناء كلامي على الحياة الاقتصادية عند الجاهليين.
الاجارة
والإجارة ما أعطيت من أجر في عمل. والأجرة: الكراء. وهو اتفاق يتم مقابل مبادلة منفعة، أو عمل بمال. كأن يشغل رجل رجلا لأداء عمل ما في مقابل أجر يتفق عليه. يدفع للاجير اما عينا، أي من العمل الذي قام به، كأن يعطي كيلا يتفق عليه من قمح يقوم بطحنه، أو أرغفة خبز مما يخبزه أو شيئا من ذبيحة يكلف بذبحها، أو ان يدفع له نقدا، أي بالنقود أو بعين، كأن يدفع له تمرا أو قماشا أو ما شابه ذلك في مقابل أجر العمل الذي كلف به، لقلة النقود في ذلك الوقت. كأن يدفع لعامل البناء أو النجار تمرا أو شعيرا أو لبنا أو ما شابه ذلك في مقابل أجر عمله.
السعاه
والسعاة ولاة الصدقة ؛ ويقال لعامل الصدقات ساع، وسعى المصدق يسعى سعاية، إذا عمل على الصدقات وأخذها من أغنيائها وردها في فقرائها، قال عمرو بن العداء الكلبي:

(1/3140)


--------------------------------------------------------------------------------

سعى عقالا فلم يترك لنا سبدا فكيف لو قد سعى عمرو عقالين?
وفي حديث وائل بن حجر: إن وائلا يستسعى ويترفل على الأقوال، أي يستعمل على الصدقات ويتولى استخراجها من أربابها، وبه سمي عامل الزكاة الساعي.
احكام البيع والشركة
وللجاهليين أحكام في البيوع والشراء والشركات، وفي العمل، وفسخ البيع، وفي الافلاس، وفي الخسارة، وغير ذلك مما يتعلق بالتجارة. سأتحدث عنها عند بحثي عن الحالة الاقتصادية عند العرب قبل الإسلام.
أما بالنسبة إلى المكاييل والأوزان والأبعاد، فقد كانت مختلفة. لكل مدينة أو قرية موازينها ومكاييلها ومقاييس أبعادها. كما سأتحدث عن ذلك في القسم الخاص بالناحية الاقتصادية.
قوانين القبائل والعلاقات الخارجية
والقبائل كالدول لها قوانين وضعتها للتعامل فيما بينها. وتشبه قوانيهنا هذه القوانين الدولية والعرف الذي تسير عليه الدول في كيفية التعامل فيما بينها في مثل عقد محالفات أو اتفافيات حق المرور: مرور الأشخاص ومرور السابلة وقوافل التجار. فلا تسمح القبيلة بمرور شخص غريب في أرضها، أو بمرور قافلة في الأرض الخاضعة لها إلا إذا كان المار من قبيلة لها حلف مع هذه القبيلة أو لها عقود واتفاقيات معها، أو كان للمار جوار مع أحد أبناء ألقبيلة. ثم ان على القوافل أن تؤدي للقبيلة حق المرور في مقابل السماح لها بالمرور في أرضها بأمن و سلام.
وتعتمد القوافل في اجتيازها أرض القبائل على العهود التي تأخذها من سادات القبائل بأن يسمح لها بالمرور في أرض سيد القبيلة بسلام وأمان. فتكون القافلة امنة في تلك الأرض إلى المدى الذي يصل اليه نفوذ سيد القبيلة، فإذا اجتازتها دخلت في عهد سيد قبيلة آخر، وهكذا حتى تصل مكانها المقصود. وهي عهود تعقد يتفق فيها على مقدار ما يدفع لكل قبيلة في مقابل حق تأمين ألأمن للقافلة.

(1/3141)


--------------------------------------------------------------------------------

فقد كان تجار مكة يعقدون عقودا ويعهدون عهودا مع سادات القبائل في مقابل حق مرور قوافلهم بحرية وأمان في أرض القبيلة. فإذا وقع اعتداء على القافلة قام سيد القبيلة برد الاعتداء ورفع الظلم عنها وإعادة ما أخذ منها اليها. ويعبر عن ذلك "الحبال" وب "حبل الجوار". والحبال: العهود والمواثيق.
وكان للاكاسرة ولملوك الحيرة تجارات مع اليمن ومع أماكن أخرى ذات أسواق، كانوا يرسلون تجارتهم بقوافل تولى حراستها رجال عرفوا بالشجاعة وبالبطش والشدة ليحذرهم من يريد التحرش بالقافلة، وكان هؤلاء حبال جوار مع سادات القبائل، م لما كان للاكاسرة ولملوك الحيرة عهود مع القبائل التي تمر قوافلهم بها، لحماية قوافلهم من التعرض لها بسوء. فهذه الحبال: حبال الجوار، هي عهود ومواثيق يجب على الطرفن المتعاقدين احترامها وتقديسها، وهي في كالاتفاقيات والمعاهدات التي تعقد فيما بين الدول في تنظيم العلافات الودية، وتنظيم التجارات ودفع حق المرور "الترانزيت".
وهناك اتفاقيات تجارية عقدت بين أهل مكة وبين حكام اليمن في تنظيم التجارة وتسهيل الاتجار لتجار الطرفين المتعاقدين وتنظيم ما يجبى من التجار في مقابل حق الآتجار وعن أرباح البيع والشراء، باتباع قاعدة الأفضلية في المعاملة والتعامل على أساس المقابلة بالمثل وحماية الجار من كل اعتداء قد يقع عليهم. ويظهر انه قد كان لأهل مكة عقود وعهود تجارية مع ملوك الحيرة أيضا.
أما مع أسواق بلاد الروم، فقد حدد الروم لهم أسواقا معينة سمحوا لهم بالمجيء اليها والاتجار بها في مقابل دفع ضريبة العشر.
معاملة الرسل

(1/3142)


--------------------------------------------------------------------------------

ويقوم الرسل والسفراء بالاتصالات بين القبائل وبين القبائل والحكومات، وعلى من يرسل اليهم الرسل والسفراء حق حمايتهم وحق عدم التعرض لهم بأي سوء، حتى في حالة الغضب وفشل الرسالة. ويعبر عن المبعوث السياسي ب "تنبلت" و ب "محشكت" وب "رسل" في العربية الجنوبية. ولهم حصانة "دبلوماسية" حسب العرف السياسي بالنسبة،لذلك الوقت كذلك. والاعتداء على رسول أو سفير يعد غدرا وعملا قبيحا.
الامان
ومن طرق تأمين الخائف والمحافظة على النفس والأموال عقود الأمان التي يعطيها الملوك أو سادات القبائل أو الأفراد، لتكون أمانا لمن يحملها وصكوكا بالمحافظة على أموالهم وأنفسهم، بجاه وباسم صاحب صك الأمان. ولهذا كان لا يسافر من لا وجه له إلا بكتاب أمان يحمله معه ليراه من سيمر بأرضه. وقد لا يكون كتاب الأمان كتابا مدونا بل علامة أو شعارا معروفا من الشخص الذي أعطى ذلك الأمان، أو كلمة سر أو اعلانا شفويا يسمعه الناس. فيلزم هذا الأمان معطيه المحافظة على عهد الأمان والدفاع عن حقوقه إذا ما تعرض إلى مكروه.
وعليه مقاضاة من تجاسر على الأمن أو ألحق به ضررا أو إهانة لأنه رجل آمن، ما يصيبه يكون كأنه قد أصاب صاحب الأمان.
قوانين الغزو والحروب
لم تصل الينا كتابات جاهلية عن سن العرب في الغزو والحروب، وعن كيفية وجوب تعامل المتحاربين في أثناء القتال وبعده. وما ندونه هو حاصل دراستنا لبعض ما ورد في النصوص عن الحروب التى وقعت في العربية الجنوبية، ولما جاء في روايات أهل الأخبار عن أيام العرب في الجاهلية.

(1/3143)

admin
01-01-2011, 01:32 AM
لا تمنع قواننن الغزو في أيام الجاهلية المحارب من حرق المستوطنات: مستوطنات خيام أو قرى أو مدن. ولا من حرق المزارع والحيوانات، لإلقاء الرعب في النفوس ولإكراه الخصم على ترك القتال والاستسلام. ولا من نقل الناس نقلا جماعيا وإجلائهم عن أماكانهم إلى أماكن أخرى بعيدة. ونجد في الآثار الآشورية صور اشوريين وقد أشعلوا النيران في خيام الأعراب. ونقرأ قي كتابات ملوك العرب الجنوبيين انهم كانوا يأمرون بإحراق القرى والمدن ودكها دكا، لأنهم قاوموهم ودافعوا عن أنفسهم دفاعا شديدا، وقد أحرق ودمر "عمر يهرعش" "شمر يرعش"، قرى ومدنا كثيرة، فزالت بذلك من عالم الوجود، ولم تدب اليها الحياة مرة أخرى، وقد أدت حروب الملوك الكثيرة، وثورات القبائل وأهل المدر على الحكومات الى تدهور الاستقرار في اليمن،والى إضعاف حكوماتها، مما ساعد على تدخل الأجانب في شؤونها، والى توسع رقعة البداوة، وتراجع الحضارة منها، والى خراب القرى والمدن.
ومن حق المنتصر في عرف تلك الأيام ان يفعل في المغلوب ما يشاء. لا يمنعه عن ذلك مانع لانه غالب وخصمه مغلوب، والحق في يد الغالب. فكان في جملة ما يفعله المنتصر، إباحة القرى والمدن، مدة بعينها: يوما أو يومين أو ثلاثة، أو مدة لا تحدد. يكون كل ما يقع في خلالها في أيدي الجنود المنتصرين ملكا لهم من مال وانسان وحيوان، لهم أن يأخذوا ولهم أن يقتلوا، ولهم ان ا يؤسروا. كما كان من حق القائد ان يأمر جيشه بقتل أولئك المغلوبين، لا يرى في ذلك بأسا ولا عملا" ينافي الانسانية، لأن الحرب حرب ماحقة،"لا تفرق بين بشر وحيوان أو جماد. والغالب يفعل بالمغلوب ما يشاء، ولو كان المغلوب هو المنتصر فعل بخصمه أيضا ما يفعله المنتصر به.
الأسر والسبي

(1/3144)


--------------------------------------------------------------------------------

إذا وقع شخص في أسر أو في سباء، صار المأسور أو المسبى في ملك اسره أو سابيه. إلا إذا وافق الآسر أو السابي على أن يمن على المسبي أو الأسير بفك رقبته، أو بقبول مال يدفع عنه لفك رقبته يقال له : فدية. أو بمفاداته بشخص آخر وقع فى أسر أو فى سباء أهل الأسير أو من وقع السباء عليه،فيفادى المأسور أو المسبي عندئذ بالمأسور أو المسبى الآخر. ويوثق الأسرى وثاقا شديدا، حتى لا يهربوا، ثم ينقلون إلى بيوت آسريهم لينظروا في أمرهم، أما إذا كان الأسرى جماعة فيؤخذوا بعد انتهاء الحرب إلى مقرات الجيوش والعوام للنظر في أمرهم.ومنهم من قد يمن عليهم بفك أسرهم ومنهم من يعطون هبة للقادة وللمحاربين، أو يبادلون بأسرى حرب كانوا في أيدى المغلوبين، أو بفدون بمال أو بوسائل أخرى.
وليست للفدية حدود معلومة، ولا قواعد ثابتة بل تتوقف على مبدأ المساومة. وتتوقف هذه المساومة على منزلة الأسير أو المسبى وعلى مكانته الاجتماعية: وعلى مقدار استعداد أهله لدفع مال الفدية عنه. وقد تصل إلى جملة مئات من الإبل، وقد تزيد على الألف. وتتوقف كذلك على مقدار صلابة الآسر أو الجيش المنتصر. وقد يفادى رجل بمال كثير إذا كان ملكا أو سيد قبيلة، وقد يفادى بعدد من الأسرى هم في أيدي جماعة الملك الأسير، يكون أسره إذ ذاك سببا في فك رقبة عدد من الأسرى.
وروي أن بعض السادات كانوا يفكون أسر الأسرى بفداء يقدمونه عنهم. ومن هؤلاء "حاجب بن زرارة"، وهو من تميم. فقد ذكر أنه كان أكثر العرب فداء". ويقال "فلان قيد مائة" و "عقال مائة" إذا كان فداؤه إذا أسر مائة من الإبل. قال يزيد بن الصعق.
أساور بيض الدارعين وابتغى عقال المئين في الصياع وفي الدهر
وإذا قيل: "عقال المئين"، قصدوا الشريف الذي إذا أسر فدي بمئين من الابل.
وقد نهى عمر عن سباء العرب، وذلك حينما استعداه أبو وجزة يزيد بن ****، ليأخذ بحقه ممن استرقه، فأنجده، وأصدر حكمه: "لا سباء على عربي".

(1/3145)


--------------------------------------------------------------------------------

وطالما نقرأ في الكتب مثل هذه العبارة: " أصابني سباء في الجاهلية كما يصيب العرب بعضها من بعض".
الرهائن
وقد يحتفظ الاسر بأسره، فلا يوافق على أخذ فدية عنه، بل يحتفظ به. عنده ليكون له "رهينة". وقد تجبره قبيلته على ابقائه لديه ليكون رهينة، حتى تستفيد منه في الظروف المناسبة. بأن تهدد أهل الرهينة أو قبيلته بقتله إن لم تستجب لمطالبها ولا توفي بما تريده القبيلة منها.
وهناك نوع آخر من الرهائن، فرضته الظروف السياسية والاجتماعية والعسكرية على أهل جزيرة العرب،ويكون ذلك بتقديم سادات الناس من حضر ومن أعراب، أبنائهم إلى الملوك والحكام ليكونوا رهائن لديهم على الخضوع والطاعة لهم. وهو عرف قانوني بقي معروفا في الإسلام. وقد احتفظ ملوك الحيرة والغساسنة برهائن عندهم، ليكونوا ضمانا لديهم بإطاعة آبائهم وأقريائهم سادات القبائل لهم، فلا يثوروا عليهم ولا يعتدوا على عربهم أو على حدود مملكتهم. وقد يكون الرهائن أطفالا، وذكر أن "الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار ابن قصي"، كان رهينة قريشي عند "أبي يكسوم الحبشي"، وقد عرف لذلك ب "الرهين".
الودائع
الوديعة: العهد. والودائع: العهود. ومنه كتاب النبي: لكم يا بني نهد، ودائع الشرك ووضائع المال. أي العهود والمواثيق ويقال نوادع الفريقان: إذا تعاهدوا على ترك القتال. ويجب عدم الاخلال بالودائع، لأنها عقود وعهود. والنكث بالعهود من سجايا الأنذال.
وللجاهلين احكام في البيوع وفي الاتجار وفي حق الأرض وغير ذلك، سيأتي الكلام عليها في مواضعه من الحياة الاقتصادية، لذلك فلا داعي للتحدث عنها هنا، ما دمت سأتكلم عنها في ذلك المكان، لصلتها الوثيقة به.
الفصل الستون
حكام العرب

(1/3146)


--------------------------------------------------------------------------------

الحاكم منفذ الحكم بين الناس، والذي يمنع الظالم من الظلم. وهو في معنى "القاضي"، الذي هو القاطع للامور المحكم لها. وحكام العرب، هم الذين حكموا بينهم فيما حدث من خلاف، وما وقع لهم من خصومات. وقد كان لكل قبيلة حكام، عرفوا برجاحة عقولهم وبسعة مداركهم وبوقوفهم على أعراف قومهم، وبعدلهم وانصافهم، وبترفعهم عن الظلم والدنايا، فتحاكموا اليهم.
ومنهم من طار اسمه إلى خارج مواطن قبيلته، فتحاكم اليه أبناء القبائل الأخرى، لما وجدوا فيه من صفات الحكم العادل والنزاهة والسلامة والصدق في اعطاء الحكم.
ولم يكن الحكم بن الناس والقضاء بينهم، عملا رسميا من أعمال الحكومة، بمعنى ان الحاكم موظف من موظفي الدولة، كما هو في الوقت الحاضر، وكما وقع في الإسلام، وانما كان القضاء أمرا يعود إلى الناس، إن شاءوا رجعوا إلى عقلاء الحي لفض ما قد يقع بين أهل الحي من خلاف، وإن شاءوا اختاروا حكما يرتضونه لكي يقضي بينهم في الخصومة، فيقضي فيما بينهم برأيه وبرجاحته عقله، ثم ينتهي واجبه، وهم لا يختارون حكما، إلا لوجود خلال حميدة فيه تؤهله للحكم، مثل العدل والفهم والحنكة، والفطنة،وسرعة إدراك أسباب الحق.
ولهذا صار الرجل الذي تتوفر فيه الصفات التي يجب أن تكون في الحاكم، مرجعا لأصحاب الخصومات، يرجعون اليه لعمق تفكيره ولرجاحة عقله في استنباط الحكم الذي يرضي ويقنع الطرفين، ولم يكن هذا الحاكم من رؤساء القبيلة بالضرورة وانما قد يكون من الذين برزوا في مجتمعهم وأظهروا مقدرة في فهم طبائع قومهم وأعرافهم وأنساجهم وامتازوا عن غيرهم بسعة الفهم والادراك.
وحكام العرب إما حكام منحوا مواهب ومزايا، جعلت الناس يركنون اليهم في حل المشكلات، وإما كهان، لجأ الناس اليهم يستفتونهم في الحكم فيما يقع بينهم من شجار، لاعتقادهم بصحة أحكامهم، وأما "عراف"، وإما فقهاء ومفتون، أي رجال دين، كالقلامسة، يقتون في أمور الدين.

(1/3147)


--------------------------------------------------------------------------------

ويلاحظ أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون على الذي ينظر في الخصومات "الحكم" و "الحاكم". أما في الإسلام فقد تغلبت لفظة "القاضي" عليه. وصار القاضي هو الذي يقضي بين الناس في جميع الأمور القضائية من مدنية وجزائية، ثم عاد الناس في هذه الأيام فخصصوا "الحاكم" بمن يحكم في القوانين الجزائية والمدنية، و "القاضي" بمن يقضي في الأمور المتعلقة بالأحوال الشخصية التي لها علاقة بأمور الدفن كالزواج والطلاق والإرث.
وذكر علماء اللغة أن "الفتاحة"، الحكومة والقضاء قال الأشعر الجعفي: ألا من مبلغ عمرا رسولا=فإني عن فتاحتكم غني وأن الفتح، الحكم بين الخصمين في لغة حمير. يقال فتح الحاكم بينهم إذا حكم. وإذا تجاوز الحاكم العدل وتباعد عن الحق، يقال: شط عليه في حكمه. و "الشطط" مجاوزة القدر في بيع أو طلب أو احتكام. و "الجور" الظلم والتعدي على الغير، وإذا شط الحاكم على شخص، يكون قد جار عليه وظلمه، وما أنصفه في حكمه.
ويجب على الحاكم أن يحكم بين الناس بالقسط، حكم "الميزان"، فلا يجوز في العدالة: أن يرجح كفة على أخرى. ولهذا قيل: الميزان العدل، وجعل رمزا للعدالة. قال تعالى )وزنوا بالقسطاس المستقيم (. والقسطاس الميزان، وقيل هو أقوم الموازين وأعدلها.
وكانت العادة ان يلجأ اليتيم والضعيف إلى ذوي رحمه، أو إلى أبناء حيه، للحصول على ظلامته. فيتدخل أهل المروءة والانصاف في الأمر، لإكراه الظالم على إنصاف المظلوم. ورد أنه "كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم، ويجعل مكانها الشاة المهزولة. ويقول شاة بشاة، ويأخذ الدرهم الجيد ويطرح "مكانه المزيف، ويقول درهم بدرهم ". ومنهم من كان يأكل مال اليتيم والضعيف، ويجبر اليتيمة على الزواج به، للحصول على مالها، وقد منع ذلك في الإسلام.

(1/3148)


--------------------------------------------------------------------------------

وحكام العرب في الجاهلية: أكثم بن صيفي بن رباح، وحاجب بن زرارة ابن عدس، والأقرع بن حابس، أبي عيينة، وربيعة بن مخاشن، وضمرة ابن ضمرة "ضمرة بن أبي ضمرة" التميمي، هؤلاء كانوا حكام تميم.
و "الأفعى بن الحصين بن غنم بن رهم بن الحارث الجرهمي"، و "عينية بن حصن بن حذيفة"، و "حرملة بن الأشعر المري"، وهرم بن قطبة بن سنان بن عمرو الفزاري، وبشر بن عبد الله بن حبان، وأبي سفيان بن حرب ابن أمية، وأبي جهل بن هشام، وأنس بن مدرك، و "عامر بن الظرب" العدواني، و غيلان بن سلمة بن معتب الثقفي وهما حكمان لقيس، وهاشم ابن عبد مناف، وعبد المطلب، وأبو طالب، والعاص بن وائل القرشي، "العاصي"، والعلاء بن حارثة بن نضلة بن عبد العزى القرشي، هؤلاء كانوا حكاما لقريش. وربيعة بن حذار الأسدي، ويعمر بن الشداح "يعمر الشداخ" الكناني، هؤلاء كانوا حكاما لكانة. وكان من حكامهم أيضا: صفوان بن أمية، وسلمة بن نوفل الكناني، ومالك بن جبير العامري، وعمرو ابن حممة الدوسي، والحارث بن عباد الربيعي، والقلمس الكناني،وذي الاصبع العدواني.

(1/3149)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد تعرض "اليعقوبي" لموضوع حكام العرب، فقال: "وكان للعرب حكام ترجع اليها في أمورها وتتحاكم في منافراتها ومواريثها ومياهها ودمائها، لأنه لم يكن دين يرجع إلى شرائعه، فكانوا يحكمون أهل الشرف والصدق والأمانة والرئاسة والسن والمجد والتجربة. وكان أول من استقضى فحكم: الأفعى بن الأفعى الجرهمي، وهو الذي حكم بين بني نزار في ميراثهم. ثم سليمان بن نوفل ثم معاوية بن عروة، ثم صخر بن يعمر بن نفاثة بن عدي بن الدئل، ثم الشداخ،وهو يعمر بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة ابن كنانة، وسويد بن ربيعة بن حذار بن مرة بن الحارث بن سعد، ومخاشن ابن معاوية بن شريف بن جروة بن أسيد بن عمرو بن تميم، وكان يجلس على سرير من خشب فسمي ذا الأعواد، وأكثم بن صيفي بن رياح بن الحارث بن مخاشن، وعامر بن الظرب بن عمرو بن عياذ بن يشكر بن عدوان بن عمرو بن قيس، وهرم بن قطبة بن سيار الفزاري، وغيلان بن سلمة بن معتب الثقفي، وسنان بن أبي حارثة المري، والحارث بن عباد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة،وعامر بن الضحيان بن الضحاك بن النمر بن قاسط، والجعد بن صبرة الشيباني: ووكيع بن سلمة بن زهير الايادي، وهو صاحب الصرح بالحزورة، وقس بن ساعدة الايادي، وحنظلة بن نهد القضاعي، وعمرو بن حممة الدوسي. وكان في قريش حكام، منهم: عبد المطلب، وحرب بن أمية، والزبير بن عبد المطلب، وعبد ألله بن جدعان، والوليد بن المغيرة المخزومي.
وكان في نساء العرب أيام الجاهلية حاكمات اشتهرن بإصابة الحكم وفصل ألخصومات وحسن الرأي في الحكومة. منهن: صحر بنت لقمان، وابنة الخس، وجمعة بنت حابس الايادي، وخصيلة بنت عامر بن الظرب العدواني، وحذام بنت الريان.

(1/3150)


--------------------------------------------------------------------------------

ويذكر اهل الاخبار ان "ابنة الخس"، هي "هند بنت الخس الايادية" وهي جاهلية قديمة، وقد ادركت "القلمس" الكناني، ونسبوا لها اسجاعا كثيرة، وقالوا انها كانت تحاجي الرجال. ورووا لها شعرا قليلا. و"الخس"، والد هذه الحكيمة، هو الخس بن خابس بن قريط الايادي. وذكر بعضهم لنه من العماليق. وقد اختلف في تسميتها فقيل: هند وقيل جمعة، وقد جاء عنها الامثال. وكانت معروفة بالفصاحة.
وقد نسبوا لها حديثا في وصف المرأة وفي وصف الرجل، كما ذكروا لها كلاما مع والدها، حين سألها عن اسئلة.
وذكر بعض اهل الاخبار ان "جمعة بنت حابس الايادي" هي اخت "ابنة الخس" والدها "حابس" رجل من اياد، او هو "الخس بن حابس" وذكر بعض اخر، ان "جمعة" ليست اخت "هند" وانما هناك حاكمة اخرى وزعموا ان "صحر بنت لقمان" كانت عاقلة اشتهرت بالعقل والكمال والفصاحة وكانت العرب تتحاكم عندها فيما يقع بينهم من خلاف في الأنساب وغيرها. وكان والدها "لقمان". وبعضهم يقول غير ذلك. وأخوها "القيم". ويذكر بعضهم أن لقمان قتلها.
أما "الأفعى الجرهمي"، فقد جعله بعض أهل الأخبار من أول الحكام، وهو الذي حكم بين "بني نزار بن معد" في ميراثهم على حد زعم أهل الأخبار، وهم مضر وربيعة وإياد وانمار. وكان منزله نجران من اليمن. ومن ولده السيد والعاقب أسقفا نجران في ايام الرسول. وجعله "اليعقوبي" من أقدم من حكم عند العرب في خلاف، إذ قال عنه: "وكان أول من استقضى اليه فحكم: الأفعى بن الأفعى الجرهمي. وهو الذي حكم بين بني نزار في ميراثهم". وجعله "المسعودي" ملكا من ملوك نجران.

(1/3151)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان أكثم بن صيفي من حكام تميم، ذكر انه أدرك الإسلام، ولما سمع بأمر النبي، وكان إذ ذاك شيخا، بعث ابنه "حبيشا" إلى النبي ليأتي في بخبره، فلما جاء به، جمع قومه وخطب فيهم، ودعاهم إلى الإسلام. ونسبوا له أمثلة،منها: مقتل الرجل بني فكيه.، وجمعوا له تسعة وعشرين مثلا أو أكثر من ذلك. ونسبوا له كلاما مع "كسرى". ونسب له "الجاحظ" بيتا في الزهد، هو: نربي ويهلك آباؤنا وبينا نربي بنينا فنينا
وزعم أهل الأخبار انه عاش تسعين و مئة سنة، ومنهم من استقل هذا العمر واستصغره، فجعله ثلثمائة وثلاثين سنة.
ولأكثم صلات وعلاقات بالنعمان بن المنذر ملك الحيرة. وكان الملك قد اختاره في جملة من اختارهم لمحادثة "كسرى" في أمر العرب على ما يذكره أهل الأخبار.
ونسب أهل الأخبار اليه حكما زعموا أنه قالها للملك "النعمان" في أصول الحكم وفي كيفية إدارة شؤون الرعية في حقوق الراعي. وزعم أن "الحارث بن أبي شمر الغساني"، طلبه ليكون في الألسنة الموهوبة التي تكلم "هرقل" عظيم الروم عند زيارته له. وذكر أنه كان يحث على التآلف والوحدة وجمع الشمل، ونبذ التخالف والتنافر. ونسبوا له أقوالا في ذلك. وفي أصول الحروب والقيادة وأمثال ذلك، مما يحتاج اليه المجتمع في ذلك العهد.
وذكر أن سادة نجران كانوا يتصلون به، وكذلك ملك "هجر". وأن سادات جهينة ومزينة وأسلم و خزاعة، كانوا يسألونه الرأي والاستشارة.

(1/3152)


--------------------------------------------------------------------------------

وحاجب بن زرارة بن عدس من حكام تميم، ومن البلغاء الفصحاء في زمانه وممن وفد على "كسرى" من سادات تميم، وكان له كلام معه. وكان في جملة من توسط عنده ليسمح لقومه أن يدخلوا الريف. فسمح لهم بذلك. وقد هلك. قبل الإسلام. فصار ابنه "عطارد" سيد تميم. وقد أدرك عطارد الإسلام،وذهب الى الرسول، فأسلم. وكان حاجب بن زرارة يقال له ذو القوس،وذلك أن تميما أقحطوا، فارتحل حاجب إلى كسرى، فسأله أن يأذن له، أن ينزل حول بلاده. فقال: إنكم أهل غدر ! فقال: أنا ضامن. فقال: ومن لي بأن تفي? قال أرهنك قوسي، فأذن لهم دخول الريف. فلما مات حاجب، رحل عطارد بن حاجب إلى كسرى، يطلب قوس أبيه، فردها عليه وكساه حلة. فلما وفد إلى النبي عطارد، وأسلم على يديه أهداها للنبي، فلم يقبلها،فباعها. وقال عمر: يا رسول الله لو اشتريتها فلبستها لوفود العرب وللعيد،فقال: إنما يلبس الحرير في الدنيا من لاخلاق له في الآخرة. وقد ارتد عطارد مع من ارتد من بني تميم بعد النبي وتبع سجاح، ثم عاد إلى الإسلام.
وكان "الأقرع بن حابس بن عقال بن محرر بن سفيان" التميمي المجاشعي الدارمي من حكام تميم، أسمه "فراس"، وانما قيل له الاقرع لقرع كان برأسه. وكان شريفا في الجاهلية والإسلام. وفد على النبي، وهو من المؤلفة قلوبهم وقد حسن إسلامه. وقد نادى النبي، من وراء الحجرات يا محمد، فلم يجبه. فقال: والله يا محمد إن حمدي لزين، وإن ذمي لشين. فقال رسول الله: ذلكم الله. وفي هذا الحادث نزلت الآية : )إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون(. وذكر انه كان مجوسيا قبل ان يسلم. وان "عيينة" والأقرع استقطعا أبا بكر أرضا، فقال لهما عمر: انما كان النبي، صلى الله عليه وسلم " يتألفكما على الإسلام. فأما الآن فاجهدا جهدكما، وقطع الكتاب.وقد عاش إلى زمن عثمان.
واليه تحاكم "الفرافصة" الكلبي، وجرير بن عبد الله، وقد نفر "الأقرع" جرير على الفرافصة بن الأحوص الكلبي.

(1/3153)


--------------------------------------------------------------------------------

وكان ربيعة بن مخاشن من حكام تميم البارزين في أنساب قومه، كما كان من خطبائهم وفصحائهم. وهو من "بني أسيد بن عمرو بن تميم"، وكان يجلس على سرير من خشب في قبة من خشب، فسمي ذا الأعواد. واليه أشار الأسود ابن يعفر بقوله: ولقد علمت سوى الذين نبأتني ان السبيل سبيل ذا الأعواد
وذكر انه كان مرجع قومه، وعالمهم بالأنساب، وزعم قومه انه أول من قرعت له العصا. وكان أبوه "مخاشن" حكما أيضا.
وكان ضمرة بن ضمرة بن جابر بن قطن ين نهشل بن دارم التميمي من حكام تميم المعروفين. وكان قومه يلجأون اليه فيمن كانوا يلجأون اليهم عند أخذ الرأي. ذكر أنه حكم فأخذ رشوة فغدر. وأنه كان من رجال بني تميم لسانا وبيانا. وكان اسمه شق بن ضمرة، فسماه بعض ملوك الحيرة ضمرة. والرشوة ما يعطيه الشخص الحاكم أو غيره ليحكم له، أو يحمله على ما يريد. وقد عرف ب "شقة".
ومن حكام "تميم" "الأحنف بن قيس السعدي التميمي".واسمه "الضحاك ابن قيس" وقيل "صخر بن قيس"، ويكنى "أبا بحر" وهو ممن أدرك النبي. وكان من الحلماء الدهاة الحكماء العقلاء. وقد ضرب بحلمه المثل. "قال رجل للاحنف بن قيس: بم سدت قومك وأنت أحنف أعور ? قال: بتركي ما لا يعنيني، كما عناك من أمري ما لا يعنيك". وذكر أنه هو القائل:" لا تزال العرب بخير ما لبست العمائم، وتقلدت السيوف وركبت الخيل،ولم تأخذها حمية الأوغاد. قيل: وما حمية الأوغاد ? قال: أن يروا الحلم ذلا،والتواهب ضيما".
وكان عامر بن الظرب العدواني من حكام قيس. وذكر انه كان أول من قرعت له العصا. ونسبوا له حكما وأمثالا منها: رب أكلة تمنع أكلات. ورب زارع لنفسه حاصد سواه، ومن طلب شيء وجده... إلى أمثلة أخرى من أمثلة في الحكم والمواعظ وفي كيفية السر في هذه الحياة. وذكر انه هو الذي جعل الدية مائة من الإبل، وجعله "محمد بن حبيب" في طليعة "أئمة العرب".

(1/3154)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر انه التقى ب "حممة بن رافع الدوسي" عند ملك من ملوك حمير "فقال: تساءلا حتى أسمع ما تقولان"، فجرى بينهما كلام في الحكم وفي أمور الحياة.
وقد اختلف أهل الأخبار في أول من قرعت له العصا. فقال بعض منهم هو "عامر بن الظرب العدواني"، وقال بعض اخر، هو "قيس بن خالد بن ذي الجدين". وهو قول ربيعة، أو "عمرو بن حممة" الدوسي، وهو قول تميم، أو "عمرو بن مالك". وذكر ان قيسا كانوا لا يعدلون بفهم عامر بن الظرب فهما ولا بحكمه حكما. فلما طعن في السن، أو بلغ ثلثمائة سنة، أنكر من عقله شيئا، فقال لبنيه: انه كبرت سني وعرض لي سهو، فاذا رأيتموني خرجت من كلامي لي أخذت في غيره، فأقرعوا لي المجن بالعصا. وقيل كانت له ابنة يقال لها خصيلة، فقال لها إذا أنا خولطت، فاقرعي لي العصا. فأتى عامر بخنثى ليحكم فيه، فلم يدر ما الحكم، فجعل ينحر لهم ويطعمهم و يدافعهم بالقضاء " فقالت خصيلة ما شأنك قد أتلفت مالك? فخبرها انه لا يدري ما حكم الأنثى، فقالت اتبعه مباله. وذكر "محمد بن حبيب"، انه حكم في الخنثى حكما جرى الإسلام به. وذكر بعض اخر ان "العرب لا يكون بينها نائرة ولا عضلة في قضاء.، إلا أسندوا ذلك اليه، ثم رضوا بما قضى فيه. فاختصم اليه في بعض ما كانوا يختلفون فيه في رجل خنثى له ما للرجل، وله ما للمرأة. فقالوا: انجعله رجلا أو امرأة، ولم يأتوه بأمر كان أعضل منه. فقال: حتى انظر في أمركم، فوالله ما نزل بي مثل هذه منكم يا معشر العرب، فاستأخروا عنه، فبات ليلته ساهرا يقلب أمره وينظر في شأنه، لا يتوجه له منه وجه.
وكانت له جارية يقال لها سخيلة ترعى عليه غنمه"، فلما رأت سهره وقلقه وقلة قراره على فراشه، سألته عن حاله، فقال: ويحك اختصم إلي في ميراث خنثى أجعله رجلا أو امرأة. فقالت: سبحان الله ! لا أبالك اتبع القضاء المبال. اقعده، فإن بال من حيث يبول الرجل، فهو رجل، وإن بال من حيث تبول المرأة، فهي امرأة. فسر بهذا الجواب.

(1/3155)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن حكام قيس: "هرم بن قطبة بن سيار بن عمرو". وهو العشراء ابن جابر بن عقيل. واليه تنافر "عامر بن الطفيل"، وعلقمة بن علاثة. وسنان بن أبي حارثة بن مرة.
ويذكر أهل الأخبار أيضا أن "ذرب بن حوط بن عبد الله بن أبي حارثة الطائي"، كان حاكما شهيرا في الجاهلية، وقد حكم "عامر بن الظرب" في الخنثى.وذكروا أن الشاعر "أدهم بن أبي الزهراء" الطائي، وهو من الشعراء في الإسلام، ذكره في شعر له، حيث قال: منا الذي حكم الحكوم فوافقت في الجاهلية سنة الإسلام
وقد أدخل "ذرب" واسمه "سويد بن مسعود بن جعفر بن عبد الله بن طريف ابن حيي" الشاعر، في جملة من حكم في الجاهلية بحكم، فوافق حكمه السنة.
ومن حكام العرب المعروفين وأحد المعمرين "عمرو ين حممة بن رافع الدوسي" من الأزد. ذكروا أنه عمر طويلا، وانه ذو الحلم الذي ضرب به العرب المثل، وانه هو الذي قرعت له العصا. وذكر "ابن دريد" أنه وفد إلى النبي. ولم يذكر أحد غيره أنه وفد عليه. بل الذي عليه الآخرون أنه مات في الجاهلية بعد عمر طويل، إذ ذكروا أنه كان احد المعمرين، حتى أوصل بعضهم عمره إلى حوالي الأربعمائة سنة، فذكر أنه عاش ثلاثمائة وتسعين سنة. وذكروا انه عرف ب "ذي الحلم" وأنه هو الذي ضربت به العرب المثل في قرع العصا،لأنه بعد أن كبر صار يذهل فاتخذوا له من يوقظه بقرع العصا، فيرجع اليه فهمه. وأنه هو الذي أشار اليه "الحارث بن وعلة" بقوله: وزعمتم أن لا حلوم لنا إن العصا قرعت لذي الحلم
ويذكر اهل الأخبار ان الذين يزعمون ان "عمرو بن حممة" هو الذي كان يقال له: "ذو الحلم"، وانه هو اول من قرعت له العصا، انما هم أهل اليمن، وذلك تعصبا منهم اليه. ويظهر من ذلك ان العصبية القبلية قد لعبت دورا في هذه القصة: قصة اول من قرعت له العصا، فزعم القيسيون ان اول من قرعت له العصا، هو "عامر بن الظرب العدواني": وزعم اهل اليمن، انه "عمرو بن حممة".

(1/3156)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد كان له قبر معروف، تزوره المارة، ذكر ان "الهدم بن امرئ القيس ابن الحارث بن زيد، أبو كلثوم بن الهدم" الذي نزل عليه النبي، و "عتيك ابن قيس بن هيشة بن أمية بن معاوية"، و "حاطب بن قيس ين هيشة" الذي كانت بسببه حرب حاطب، مروا بقبره قادمين من الشام،فعقروا رواحلهم على قبره، وقال كل واحد منهم شعرا في رثائه.
ونعرف حكما آخر من حكام "عدوان"، عرف ب "ذي الاصبع العدواني" وهو "حرثان بن محرث"، أو "حرثان بن عمرو"،أو "حرثان بن الحارث"، أو "حرثان بن السموأل بن محرث بن شبابة"، إلى غير ذلك من أقوال.
وقد عده أهل الأخبار من الشعراء المعمرين، وأعطاه "ابو حاتم السجستاني" عمرا،جعله ثلثمائة سنة بالتمام والكمال.
وغيلان بن سلمة الثقفي، أحد حكام قيس في الجاهلية، وهو شريف شاعر. قالوا إنه كانت له ثلاثة ايام: يوم يحكم بين الناس، ويوم ينشد فيه شعره،ويوم ينظر فيه إلى جماله، وجاء الإسلام وعنده عشر نسوة فخيره النبي فاختار أربعا، وكان ممن أسلم. وذكر انه وفد على كسرى، فكان بينه وبين غيلان كلام أعجبه، فأكرمه وقدمه وسهل تجارته وتجارة من كان معه. وكان فيهم أبو سفيان في بعض الروايات، وأرسل معه من بنى له أطما بالطائف. وكان غنيا صاحب تجارة. وقيل انه أحلب من نزل فيه: " على رجل من القريتين عظيم ".
وذكر عنه أن "بني عامر" أغاروا على ثقيف بالطائف، فاستنجدت ثقيف ببني نصر بن معاوية، وكانوا حلفاءهم، فلم ينجدوهم، فخرجت ثقيف إلى بني عامر وعليها "غيلان"، فقاتلت "بني عامر"، وانتصرت عليهم وخلد "غيلان" هذا القتال في شعر رووه له.

(1/3157)

admin
01-01-2011, 01:33 AM
واشير إلى اسم قاض آخر عرف واشتهر في الجاهلية، اسمه "حذار"، وهو "ربيعة بن حذار" الأسدي من "بني أسد بن خزيمة". وقد نعت ب "قاضي العرب". وكان حكما من حكام "بني أسد"، واليه مرجعهم في امورهم ومشورتهم. واليه نافر "خالد بن مالك بن تميم النهشلي" "القعقاع بن معبد التميمي"، فنفر القعقاع، و له ولد اسمه: "سويد بن ربيعة بن حذار" كان حاكما كذلك.
ومن حكام "طيء" "ابن صعترة الطائي". وكان من الحكام الكهان.
وممن اشتهر بالقضاء بين الناس من "إياد": "وكيع بن سلمة بن زهر بن إياد"، وهو صاحب الصرح بحزورة مكة وقد أكثروا فيه فقالوا كان كاهنا، وقالوا كان صديقا من الصديقين. وذكروا له أقوالا ووصية لقومه من إياد، جاء فيها: "اسمعوا وصيتي: الكلام كلمتان. والأمر بعد البيان. من رشد فاتبعوه ومن غوى فارفضوه، وكل شاة معلقة برجلها"، فكان اول من قال هذه الكلمة فذهبت مثلا.
وقد ذكر عنه، أنه كان ولي أمر البيت بعد جرهم، فبنى صرحا بأسفل مكة وجعل فيه أمة يقال لها "حزورة" وبها سميت حزورة مكة وجعل في الصرح سلما، فكان يرقاه، ويزعم أنه يناجي ربه، ونسبوا له أمورا كثيرة. ومن كلامه على ما يزعمه أهل الأخبار "مرضعة وفاطمة، ووادعة وقاصمة، والقطيعة والفجيعة، وصلة الرحم وحسن الكلم" " وقوله: "زعم ربكم ليجزين بالخير ثوابا، وبالشر عقابا، إن كل من في الأرض **** لمن في السماء. هلكت جرهم وربلت إياد،وكذلك الصلاح والفساد ". وذكر انه لما مات، نعي على الجبال.
ومن حكام اياد: قيس بن ساعدة ألايادي الشهير. وذكر أنه أول من قال: "أما بعد"، وسأتكلم عنه في أثناء كلامي على الخطباء البلغاء.
ومن حكام "كنانة" "صفوان بن امية"، و "سلمى بن نوفل الكناني"، وكان من المعاصرين ل "عامر بن الظرب العدواني". وجعل "صفوان بن امية بن محرث الكناني" في عداد من حرم الخمر في الجاهلية تكرما وصيانة لأنفسهم. ونسبوا له شعرا في سبب تركه لها.

(1/3158)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن حكام "كنانة": "يعمر بن عوف الشداخ الكناني"، وكان خبيرا بالأنساب و بالأحساب والأخبار وحكما من حكام كنانة. وهو الذي شدخ دماء خزاعة. وكانت قريش قاتلت خزاعة وأرادت اخراج خزاعة من مكة، فتراضى الفريقان بيعمر. فحكم بينهم بشدخ الدماء بين قريش وخزاعة، وعلى ألا يخرج خزاعة من مكة. وورد في رواية اخرى، انه حكم ان كل دم اصاب قريش من خزاعة موضوع، وكل ما اصاب خزاعة من قريش ففيه الدية، وان قصيا أولى بالكعبة وأمر ممكة من خزاعة.
ومن حكام "كنانة" "القلمس الكناني". وكان من نسأة الشهور، كان يقف عند "جمرة العقبة"، ثم يعلن حكمه بنسىء الشهور، كأن يحل أحد الصفرين ويحرم صفر المؤخرة، وكذلك في الرجبين، يعني رجبا وشعبان.فهو من الحكام ومن النسأة. قال "محمد بن حبيب": " نسأة الشهور من كنانة وهم القلامسة، واحدهم قلمس، وكانوا فقهاء العرب والمفتتن لهم في دينهم له".
وكان عبد المطلب من حكام قريش " وكان يقال له "الفياض" لجوده، و "مطعم طير السماء"، لأنه كان يرفع من مائدته للطير والوحوش في رؤوس الجبال، وكان ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية. وكان يأمر بترك الظلم والبغي، ويحث قومه على مكارم الأخلاق، وينهاهم عن دنيئات الأمور. وتؤثر عنه سنن جاء القرآن بأكثرها وجاءت السنة به، منها الوفاء بالنذر، والمنع من نكاح المحارم، وقطع يد السارق، والنهي عن قتل الموؤودة، وتحريم الخمر والزنا وأن لا يطوف بالبيت عريان.

(1/3159)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد روت كتب الأدب والأخبار بعض الأحكام التي حكم بها حكام العرب،فصارت سنة للناس نهجوا عليها، منها: قطع يد السارق،وقد زعموا ان أول من سن ذلك هو "الوليد بن المغيرة" أو "عبد المطلب"، فقطع رسول الله في الإسلام. والقسامة وقد حكم بها "الوليد بن المغيرة" كذلك و "تحريم الخمر" وقد حكم بهذا التحريم جملة حكام، منهم "الوليد بن المغيرة" وعبد المطلب،و "المنع من نكاح المحارم"، و "النهي عن قتل الموؤودة" وتحريم الزنا،وأن لا يطوف إنسان بالبيت عريان، وتنسب هذه الأحكام إلى عبد المطلب،.
ولا بد ان يكون الوليد بن المغيرة من الرجال المبجلين المشهورين في ايامه بسداد الرأي، ولهذا اكتسب إجلال الجميع له ونال تقدير الناس، حتى قيل: ان الناس كانوا يقولون في الجاهلية: لا وثوبي الوليد الخلق منهما والجديد. واليه تحاكم "بنو عبد مناف" في مقتل "عمرو بن علقمة بن عبد المطلب"، حيث اتهموا "خداش بن عبد الله بن أبي قيس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل" ثم بقتله. وكان "عمرو بن علقمة" أجيرا لخداش بن عبد الله، خرج معه إلى الشام، ففقد خداش حبلا، فضرب عمرا بعصا، فقضى عليه. فتحاكم" بنو عبد مناف" فيه إلى الوليد ين المغيرة، فقضى ان يحلف خمسون رجلا من بني عامر بن لؤي عند البيت: ما قتله خداش، فحلفوا، إلا حويطب بن عبد العزى. فإن أمه افتدت يمينه، فيقال إن من حلف هلك، قبل ان يحول عليه الحول. وقد تحدثت عن هذه القصة في أثناء كلامي على "القسامة". وذكر انه، عرف بين قومه ب "العدل".
وذكر ان "عامر الضحيان بن سعد بن الخزرج بن النمر بن قاسط"، كان يجلس للناس في الضحى، فيقضي بين المتخاصمين، فسمى الضحيان. وكان سيد قومه في الجاهلية وصاحب مرباعهم. وكانت ربيعة تغزو المغازي وهو في منزله، فتبعث له نصيبه مما تصيبه ولنسائه حصة، إعظاما له.

(1/3160)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن حكم "مالك بن جبير العامري" قوله: "على الخبير سقطت.وهو مثل اشتهر وعرف بين العرب، ولازال الناس يتمثلون به. وكان "نفيل بن عبد العزيز" من حكام قريش. واليه تنافر "عبد المطلب" و"حرب بن امية"،فنفرعبدالمطلب على حرب.وأمه حبشية.
وقد ذكر "أبو حنيفة الدينوري" اسم رجل من أهل الجاهلية، قال عنه إنه كان فقيه العرب في الجاهلية، وإنه كان من عدوان أو من إياد. قدم في قوم معتمرا أو حاجا، فلما كان على مرحلتين من مكة قال لقومه وهم في نحر الظهيرة من أتى إلى مكة غدا في مثل هذا الوقت كان له أجر عمرتين فصكوا الإبل صكة شديدة حتى أتوا مكة من الغد في ذلك الوقت..
فالرجل المذكور ان صحت رواية "الدينوري" عنه فقيه من الفقهاء وحاكم كان بين الناس. ومعنى هذا وجود الفقه عند الجاهليين بالمعنى المفهوم من الكلمة في الإسلام..
وأكثر من ذكرت، هم ممن أدركوا الإسلام، وسمعوا بخبر الرسول. وقد زعم أن بعضهم عمر عدة مئات من السنين. ويظهر ان ذاكرة اهل الأخبار لم تع من اخبار الاحكام الذين عاشوا قبل الإسلام بزمن طويل، فاقتصر علمها على هؤلاء وأمثالهم ممن عاش في الفترة الملاصقة للاسلام.
وقد نسب أهل الأخبار إلى الحكام المذكورين علم بأنساب الناس وأحسابهم. كما نسبوا لهم الفصاحة والبلاغة والبيان. وكلها من مستلزمات ومن ضروريات الحاكم في ذلك الوقت. كان من واجبه العلم بأنساب الناس وأحسابهم، لأن المنافرات والمفاخرات، هي من اهم المحاكمات في ذلك الوقت. ولكي يكون حكم الحاكم فيها صحيحا دقيقا كان لا بد له من الوقوف على احوال الناس وعلى مئاثرهم ومفاخرهم في ذلك الوقت. وكان عليه أن يكون فصيحا بليغا، لأن الناس كانوا يقيمون وزنا للكلام آنذاك، ومن يحسن الاختيار في الكلام، ويحسن صياغة الكلم، يكون ذا أثر فعال في نفوس المستمعين وفي اصدار الأحكام.

(1/3161)


--------------------------------------------------------------------------------

ويتبين من دراسة ما ينسب إلى اولئك الحكام من أحكام "قريش"أي "مكة"، وكذلك حكام أهل المدن. كانوا حكاما بالمعنى المفهوم من "الحاكم"، فأحكامهم هي أحكام قانونية، مقتبسة من منطق العدالة والحق. وهي تشريع مدني ينسجم مع التشريع المدني للامم المتحضرة. وسبب ذلك على ما يظهر هو ان البيئة التي عاش فيها هؤلاء الحكام، هي بيئة حضرية، وقد كانوا انفسهم من الحضر، ولكثير منهم وقوف على أحوال الأمم الأخرى، ولهم علم بالكتب وببعض اللغات الأعجمية وبالديانات وبالاراء، وفي جملتها القوانين، فتأثروا أو تأثر بعضهم بتلك المؤثرات.
وقد روت كتب الأدب والأخبار بعض الأحكام التي حكم بها حكام العرب، فصارت سنة للناس نهجوا عليها، منها. قطع يد السارق، وقد زعموا ان اول من سن ذلك هو "الوليد بن المغيرة" أو "عبدالمطلب،، فقطع رسول الله في الإسلام. والقسامة وقد حكم بها "الوليد بن المغيرة" كذلك، و "تحريم الخمر" وقد حكم بهذا التحريم جملة حكام، منهم "الوليد بن المغيرة" و"عبد المطلب"، و "المنع من نكاح المحارم"،و"النهي عن قتل الموؤودة"،وتحريم الزنا، وان لا يطوف انسان بالبيت عريان،وتنسب هذه الأحكام الى عبد المطلب.
وذكر اهل الأخبار ان أولى من ورث البنات في الجاهلية، فأعطى البنت سهما والابن سهمين "ذو المجاسد اليشكري".

(1/3162)


--------------------------------------------------------------------------------

وأنا إذ أذكر الأحكام التي حكمها حكام الجاهلية، فاتبعت عندهم،لا أقصد انها صارت احكاما عامة، مشت بين جميع العرب، فكلام مثل هذا،هو كلام مغلوط، لا يمكن ان يقال، على الرغم من التعميم الذي يذكره اهل الأخبار، مثل قولهم "وكانوا يقطعون يد السارق اليمنى ويصلبون قاطع الطريق". وقولهم "وكانوا يغتسلون من الجنابة"، وأمثال ذلك. فقد عودنا اهل الأخبار على هذا التعميم، الذي أخذوه من أفواه الرواة دون نقد ولا تمحيص. واية ذلك انهم يعودون فيناقضون أنفسهم وما قالوه في مواضع اخرى، مما يدل على انهم نسوا ما قالوه سابقا ولم يفطنوا إلى هذا التناقض، ولم يحاولوا نقد الروايات.
ولهذا فحكمنا في هذه الأمور، هو ان الأحكام المذكورة هي رأي واجتهاد، قد يتبعه بعض وقد يخالفه بعض آخر، يكون اتباعه في الموضع الذي عاش فيه الحاكم فأحكامهم لهذا أحكام محلية، قد تصير عرفا، إذا انتزعت من صميم الواقع ومن عقلية المحيط.
القضاء بعكاظ

(1/3163)


--------------------------------------------------------------------------------

وكانت سوق عكاظ مجتمعا للتقاضي في الأمور المهمة عند الجاهليين. حتى الشعر كانوا يتقاضون فيه، يعرض شاعر شعره على الحاكم، ويعرض شاعر آخر منافس له شعره عليه ثم يسمعان رأي الحكم في ايهما اشعر. وذكر ان القضاء بعكاظ كان لبني تميم. وقد جمعت تميم الموسم إلى ذلك. وكان ذلك يكون في أفخاذها كلها. ويكون الرجلان يليان هذا من الأمرين جميعا، عكاظ على حدة والموسم على حدة. فكان من اجتمع له الموسم والقضاء "سعد بن زيد مناة بن تميم"، تم تولى ذلك "حنظلة بن زيد بن مناة"، ثم تولإه "ذؤيب بن كعب بن عمرو بن تميم"، ثم "مازن بن مالك بن عمرو بن تميم"، ثم "ثعلبة بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة"، ثم "معاوية شريف ابن جروة بن أسيد بن عمرو بن تميم"، ثم "الأظبط بن قريع بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة"، ثم "صلصل بن أوس بن مخاشن بن معاوية بن شريف بن جروة بن اسيد"، ثم "سفيان بن مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة". فكان سفيان آخر تميمي إجتمع له الموسم والقضاء بعكاظ. فمات سفيان، فافترق الأمر، فلم يجتمع الموسم والقضاء لأحد منهم حتى جاء الإسلام. فكان "محمد ابن سفيان بن مجاشع" يقضي بعكاظ. فصار ميراثا لهم. فكان آخر من قضى بينهم الذي وصل إلى الإسلام "الأقرع بن حابس بن عقال بن محمد بن سفيان". وأجاز بالموسم بعد "صلصل بن أوس"، "العلاق، بن شهاب بن لأي"من بني "عوافة بن سعد بن زيد مناة". فكان آخر من أفاض بهم "كرب ابن صفوان بن جناب بن شجنة بن عطارد بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة". وله يقول أوس بن مغراء القريعي: ولا يريمون في التعريف موقفهم حتى يقال: أجيزوا آل صفوانا

(1/3164)


--------------------------------------------------------------------------------

ويتبين مما تقدم، ان القضاء بعكاظ كان حقا من حقوق "تميم" لا ينازعهم. في ذلك منازع. إذا هلك قاض اخذ مكانه ابنه أو رجل آخر من الأسرة التي اختصت بالقضاء بين الناس، والتي كان لها امر "الحكومة"، فنحن هنا إذن امام اناس تخصصوا بأمور القضاء بين الوافدين إلى عكاط، ممن كان عندهم امر معضل، ثم يريدون حله وفضه. ولا يد لمثل هذا الحاكم من ان يكون محترم الجانب، مهاب المكانة، واقفا على الأحساب والأنساب واحوال الناس وعلى الأعراف حتى يحترم قراره ويطاع.
ولا بد وان يكون لتميم نفوذ في هذه الأرضين،اكسبها حق الحكومة بعكاظ، ولا بد ان يكون نفوذ بمكة وعند قريش، جعل لها الموسم. فرئاسة الموسم،من الرئاسات الكبيرة ذات الشأن عند قريش ومن هم في جوارهم، ولا يعقل تسليمها لتميم لو لم يكن لها نفوذ سابق بمكة وصلات شديدة بقريش. صلات تتجلى بالتصاهر الموجود بين قريش وتميم. ومن يدري فلعل تميما كانوا بمكة،ثم ارتحلوا عنها إلى مواضع اخرى ? ولا استبعد احتمال جلوس الحكام في الأسواق الأخرى للحكم بين الناس فيما يقع بينهم من خلاف، في امور السوق من بيع وشراء واختلاف على سلع، أو من تنافر أو من تخاصم وتنازع. فهذه الأسواق هي مواسم يلتقي فيها كل من يتعامل بها من الناس فيجدون فيها فرصة لحل ما بينهم من خلاف، فيلجأون الى من يكون في السوق من ألحكام، للحكم بينهم. وقد يتولى الفصل في الخصومات الناشئة عن التعامل والتبايع حكام السوق،وهم الذين يتحكمون في السوق ويشرفون عليها ويتقولون جبايتها والمحافظة على أرواح من يحضرها من الناس.

(1/3165)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد تقع مظالم في هذه الأسواق وفي غيرها، فعلى الحكام اخذها من الظالم وإرجاع الظلامة إلى من وقعت عليه. والظلامة ما تطلبه عند الظالم. ويطالب المظلوم بظلامته مطالبة اهل الثأر بثأرهم، ويعدون الظلم نقصا يلحق من وقع الظلم عليه. وإذا لم ينصف لجأ إلى اهله وابناء عشيرته لنصره ومعاونته على اخذ حقه من المظالم. فكانت الأسواق من المجتمعات المناسبة للنظر في المظالم.
الفصل الحادي و الستون
أديان العرب
وللعرب قبل الإسلام مثل سائرالشعوب الأخرى تعبدوا الالهة، وفكروا في وجود قوى عليا لها عليهم حكم وسلطان، فحاولوا كما حاول غيرهم التقرب منها ولسترضاءها بمختلف الوسائل والطرق، ووضعوا لها اسماء وصفات.، وخاطبوها بألسنتهم وبقلوبهم، سلكوا في ذلك جملة مسالك، هي ما نسميها في لغاتنا بالأديان.
وتقابل كلمة "دين" العربية لفظة religion في الانكليزية من أصل لاتيني هو religere أو religare وآراء العلماء المعنيين بتاريخ الأديان وفلسفتها على اختلاف كبير جدا في وضع حد علمي مقبول بين الجميع لموضوع الدين، وربما لا يوجد موضوع في العالم أختلفت في تحديده الآراء كهذا الموضوع: موضوع ماهية الدين وتعريفه، حتى صار من المستحيل وضع إطار يتفق عليه لصورة يحمع على أنها تمثل الدين. والشيء الوحيد الذي يمكن أن يفعله كاتب، هو أن يكتب رأيه بوضوح فيما يعنيه من "الدين"، فلذا فعل ذلك، صار من المعروف ما قصد صاحبه منه.

(1/3166)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد عرف بعض العلماء الدين أنه إيمان بكائنات روحية تكون فوق الطبيعة والبشر،يكون لها أثر في حياة هذا الكون. وعرفه آخرون أنه أستمآلة وأسترضاء لقوى هي فوق البشر، يؤمن أنها تدير وتدبر سير الطبيعة وسير حياة الإنسان. وهو عند بعض آخر شعور وتفكير عند فرد أو جماعة بوجود كائن أو كائنات إلهية، والصلة التي تكون بين هذا الفرد أو تلك الجماعة وبين الكائن أو الكائنات الإلهية. وهو يطاق بهذا الآعتبار على الإسلام كما يطلق على اليهودية والنصرانية وعلى المجوسية وعلى غيرها من أديان سواء أكانت سماوية أم غير سماوية كما يصطلح على ذلك بعض العلماء.
وهناك تعريفات وحدود كثيرة أخرى للدين نشأت من اختلاف أنظار الباحثين بالقياس إلى مفهوم الدين. فهناك مسائل كثيرة مختلف فيها: هل تدخل في نطاق حدود الدين أو لا كما ان مفهومه قد تغير عند الغربيين باختلاف العصور. وليس من السهل وضع حدود معينة لمعنى الدين، فإن وجهات نظر الأديان نفسها تختلف في هذا الباب. وللدين في نظر الشعوب البدائية مفهوم يختلف كل الاختلاف عن مفهوم الدين عند غيرهم، ومفهومه في نظر الأقوام المتقدمة يختلف باختلاف دينها وباختلاف وجهة نظرها إلى الحياة. وهناك أمور تدخل في حدود الدين عند بعض أهل الأديان، على حين انها من الأمور الأخلاقية أو من أمور الدولة في نظر بعض آخر، ومن هنا تظهر الصعوبات في تعيين المسائل التي تعد من صلب الدين في نظر الجميع.
وللدين مهما قيل في تعريفه، شعائر تظهر على أهله، فتميزهم عن أتباع الديانات الأخرى،كما في العبادات والمأكولات والمعابد واللغات وما شاكل ذلك، ولهذه الأمور أثر بالطبع في النواحي الاجتماعية والثقافية، إذ تطبع أتباع الدين بطابع مميز خاص.

(1/3167)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد زعم بعض المستشرقبن ان لفظة "الدين" من أصل أعجمي، وأنها من الألفاظ المعربة، أصلها فارسي هو "دينا" Daena. وقد دخلت في العربية قبل الإسلام بمدة طويلة. وترد لفظة "دين" بمعنى الحشر في الإرمية والعبرانية كذلك. وهي "دينو" في الإرمية. وتقابل لفظةDaino الإرمية لفظة الديان في العربية. وهي بمعنى القاضي في هذه اللغة. وتعني لفظة "دين" القضاء في اللغة البابلية. و "ديان" "ديونو" Dayono، الحاكم والمجازي والقاضي في لغة بني ارم. وهي بهذا المعنى في العربيه أيضا.
والدين في تعريف علماء اللغة: العادة و الشأن. تقول العرب: ما زال ذلك ديني وديدني، أي عادتي. والدين بمعنى الطاعة والتعبد.. قد ورد قي الحديث: "كان على دين قومه"، أي كان على ما بقي فيهم من إرث ابراهيم، من الحج والنكاح والميراث، وغير ذلك من أحكام الايمان. وجاء: "كانت قريش ومن دان بدينهم،أي اتبعهم في دينهم ووافقهم عليه،واتخذ دينهم له دينا وعبادة". ومن "دبن" الديان، بمعنى الحكم القاضي والقهار. ومن ذلك مخاطبة "الأعشى الحرمازي" الرسول بقوله: يا سيد الناس وديان العرب.
والديان: الله، ومن أسماء الله.
وقد وردت هذه اللفظة في المعنى المفهوم منها في الإسلام في بيت شعر ينسب الى أمية بن أبي الصلت.هو: كل دين يوم القيامة عند الل ه إلا دين إلحنيفة زور.
غير أننا لا نستطيع أن نحكم بورودها في شعر أمية ما لم نثبت أن ذلك للشعر هو من شعره حقا، وأنه ليس بشعر إسلامي صنع ووضع على لسانه، فقد وضعت أشعار وقصائد على لسانه وعلى لسان غيره من للشعراء.

(1/3168)


--------------------------------------------------------------------------------

ووردت بهذا المعنى أيضا في النصوص الثمودية. وردت في نص سجله رجل من قوم ثمود، توسل فيه إلى الاله "ود"، أن يحفظ له دينه، "ال ه دي ن ي ق.ي د"، ووردت في نص آخر جاء فيه: "بدين ود امت"، أي "بدين ود أموت"، أو "على دين ود أموت" فاللفظة إذن من الألفاظ اللعربية الواردة في النصوص الثمودية، وقد يعثر عليها في نصوص جاهلية مدونة يلهجات عريية أخرى.
ويصنف بعض العلماء،الأديان، إلى صنفين:أديان بدائية Primitive Religions، وأديان عليا The Higher Religions، غير لن هذا التقسيم لا يستند إلى التسلسل الزماني، وإنما يقوم على أساس دراسة أحكلم الدين وعقائده وعمق أفكاره. فالأديان التي تقوم على افكار بدائية وعلىاللسحر Magic وعلى المبالغة في التقديس وتقديم القرابين Sacred،والتي تنحصر عبادتها بأفراد قرية أو قبيلة واحدة، وأمثاله ذلك مما يشرحه علماء تأريخ الأديان وعلماء فلسفة الأديان، هي من أديان الصنف الأول. فإذا توسع مجال الدين وشمل قبائل عديدة، وتعمق في احكامه وفي تشريعه وفلسفته، وصار الإله أو الآلهة الها ذا سلطان واسع أو آلهة ذات سلطان ولسع عد" الدين من الأديان العليا.
وأما تقسيم الأديان إلى أديان قبيلية Tribal Religions و"أديان قومية" National Religions "وأديان مطلقة عامة" "Absolute Religions" "Universal Religions" فانه، وأن كان تقسيما واضحا ظاهرا بالقياس الى الطرق الاخرى لتقسيم الأديان، يرد عليه أنه تقسيم بني على أسس وحدود ليست لها أرض صلبة فى جوهر الدين وأركانه، فهو بعيد عن المبادىء الأساسية التي تجب مراعاتها في تقسيم كل علم أو موضوع. كذلك تجابه للتقسيم الثلاثي للأديان إلى أديان "الطبيعة" Nature Religion. و "ديانة الشريعة" Geztzes Religion، و "ديانة الخلاص" Erlosungs Religion عند بعض العلماء الألمان صعوبات كبيرة تجعل السير على أساسه في درلسة تطور الدين أمرأ عسيرا شاقا.

(1/3169)


--------------------------------------------------------------------------------

وتستند دراسات علماء تاريخ الأديان لتطور الأديان والأدوار التي مرت بها إلى درلسة أمور كثيرة تاريخية ونفسية واجتماعية واقتصادية،ولهم في ذلك جملة طرق، منها طربقة الدرلسات آلمقارنة The comparative Method، وهي تعتمد كما يتين من أسمها على المقارنات بين الأديان، فتتناول جميع النواحي بالبحث، لتجد ما بينها من مطابقات ومفارقات. ومنها طرق البحث التأريخي والاجتماعي Historical and Sociological Methods وتستند إلى الدراسات للتأريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والجغرافية وللعوامل الأخرى، للناس وللمنطقة للتي عاشوا فيها، وأثر كل هذه العوامل في نمو الافكار الدينية وظهورها، وطرق عديدة أخرى تذكر في كتب تواريخ الأديان.
وقد تقدمت دراسة تأريخ الأديان تقدما كبيرا، ولا سيما بعد اتساع أساليب الطرق التجريبيه والبحوث المقارنة والتحليل النفسي في هذه الدراسة. وظهر بحث جديد شائق طريف، هو "فلسفه الدين" The Philosophy of Religion أفاد كثيرا في معرفة دراسة تطور الأديان ومبادئها الأساسية، كما ظهرت فروع أخرى كهذا الفرع لها صلة بدراسة الدين وتقدمه، كالفرع النفسي الذي يعتمد على الدرلسات النفسية للدين، وهو فرع نستطيع أن نسميه ب "علم النفس الديني" The Psychology of Religion في الانكليزية و Religionspsycologic في الألمانية. وكالفرع الذي يعتمد على أساليب بحث الاجتمآع وطرقه لدراسة الدين باعتبار أن الدين نفسه ظاهرة من ظواهر الحياه الاجتماعية.

(1/3170)


--------------------------------------------------------------------------------

وهناك عوامل عديدة لها أثرها في تطور الأديان، وفي "تكييفها"، منها أثر العوامل "الطبغرافية" Topographic Factors و أثر "المحيط" Climatic Factor وأثر الحالات النفسية في تكييف الدين، وفي تصور الناس لآالهتهم. ولهذا تصور اليونان مثلا آلهتهم على شاكلتهم،. تصوروها ذات أخلاق وصفات تشبه أخلاق البشر وصفاتهم، تتخاصم وتتصادق وتتباغض ويحسد بعضها بعضا، تشرب الخمر وتحزن وتفرح، وتسرق أيضا. ونجد في ال "ايدا" Edda نفسية الشعوب الشمالية الأوروبية ممثلة في الأساطير التي تتحدث عن الآلهة والأبطال.
ويظهر أثر العوامل المذكورة في الديانة الهندية القديمة، وهي من الديانات الآرية، وفي الديانة المجوسية، وهي من أهل السهول وديانات أهل الجبال، وبين ديانات الساميين الشماليين وديانات الساميين الجنويين، يظهر في الأساطبر "Mythology" وفي تصور آلالهة وتقديمها وتاخيرها وما شابه ذلك من أمور.
ولشكل المجتمع أثره كذلك في تطوير الدين وفي أحكامه. فمجتع يقوم على الزراعة يختلف في تفكيره عن مجتمع يعيش على الصناعة أو على الرعي في بواد واسعة، كذلك للسياسة ولأشكال المجتمعات السياسية دخل في تطور الأديان. وقد كان التعاون وثيقا جدا في الأيام الماضية خاصة بين السلطات الزمنية وبين السلطات الدينية حتى كان الحكام الزمنيون كهانا في كثير من الأوقات، كما حدث أن وقع اختلاف بين اللسلطتين أدى إلى حدوث تغيبر في عقيدة الحكومة أو أكثرية الشعب.

(1/3171)


--------------------------------------------------------------------------------

وطالما أدى قهر مدينة أو قبيلة أو شعب إلى قهر آلهتها معها وموتها، والى عبادة آلهة القاهرين المتغلبين باعتبار أنها أقوى وأعظم شأنا من آلهة المغلوبن التي لم تتمكن من حمايتهم من تعديات الغالبين. وقد تبقى تلك الآلهة فتندمج في آلهة المغيرين، فيزداد بذلك العدد، وتتعدد الالهة، وتختلط الأساطير بعضها ببعض وتتداخل. ولهذه الناحية أهمية كبيرة في تحليل عناصر هذه الأساطير، ورجعها إلى منابعها الأولى. كذلك يكون للجوار وللصلات التأريخية والروابط الثقافية أئر في ديانات الشعوب وفي "تكييفها" ويكون للثقافة خاصة آثر بارز في هذا التوجيه. غير أن للاديان كذلك أثرها في توجيه الأفراد والقبائل والشعوب، وفيما ينتج عن عمل الإنسان من مجتمعات وسياسة وثقافة واقتصاد. فهذه نواح يجب أن تلاحظ كلها في دراستنا لتأريخ الأديان. هذا ويجب ألا نتصور أن أديان العرب قبل الإسلام لم تتأثر بمؤثرات خارجية. فلم تأخذ من الأمم والشعوب التي اتصلت بها شيئا، جريا على نظرية القائلين بعزلة العرب وبعدم اتصالهم بالخارج، وبانهم بدو، لا علم لهم ولا رأي ولا دين. وهي نظرية نشأت عن عدم وقوف القائلين بها بأحوال العرب قبل الإسلام. وإذا وافق أولئك على أن اليهودية والنصرانية كانتا في جزيرة العرب قبل الإسلام كما نص على ذلك القرآن الكريم، وأن من العرب من نهان على دين يهود، وأن منهم من كان على دين النصارى، فلن يستطيعوا إنكار ورود اليهودية والنصرانية إلى العرب من الخارج بعمل الهجرة والتبشير والاتصال بفلسطين والعراق. وسيوافقون أيضا على أن الوثنيين قد تأثروا كذلك بوثنية غيرهم،كما نص على ذلك الاخباريون وانهم أثروا في غيرهم أيضا.

(1/3172)


--------------------------------------------------------------------------------

إن معارفنا عن أديان العرب قبل الإسلام مستمدة في الدرجة الأولى من النصوص الجاهلية بلهجاتها المتعددة من معينية وسبئية وحضرمية وأوسانية وقتبانية وثمودية ولحيانية وصفوية، وهي نصوص ليس من بينها نص واحد ويا للاسف في أمور دينية مباشرة، مثل نصوص صلوات أوأدعية دينية أو بحوث في العقائد وما شابه ذلك. غير أن هذه النصوص المذكورة،ومعظمها كما قلت سابقا في أمور شخصية، حوت مع ذلك أسماء آلهة ذكرت بالمناسبة، وبفضلها عرفنا أسماء آلهة لم يصل خبرها إلى علم الأخباريين ؛ لأن ذكرها كان قد انطمس وزال قبل الإسلام.
ومن هذه النصوص استطعنا أن نستخرج آلهة القبائل العربية القديمة، وأن نرجعها إلى المواضع التي كانت تتعبد بها لها، وأن نعين العصور التي كان الناس فيها يتعبدون لها على وجه التقريب.
كذلك تعد الكتابات والنقوش المدونة ببعض اللغات الأعجمية كالآشورية والعبرانية واليونانية واللاتينية ولغة بني إرم، موردا مفيدا لمعرفة أديان العرب قبل الإسلام بعد النصوص العربية. فقد وعت أسماء أصنام ةديمة نصت عليها، وبذلك ساعدتنا في الوقوف على عبادتها وعلى من تعبد لها من قبائل.
وأما أديان العرب قببل الإسلام وعند ظهوره، فالقرآن الكريم هو مرجعنا في هذا الباب. فنيه ذكر لما كان عليه الناس ولا سيما أهل مكة ويثرب والحجازمن عبادات وآراء، وفيه أسماء بعض الأصنام الكبرى التي كانت تتعبد لها القبائل.
وفي تفسير القرآن الكريم تفصيل وشرح لما جاء موجزا في الآيات البينات، ويضاف إلى ذلك ما ورد عن هذا الباب في الحديث.
وفي الشعر المنسوب إلى الشعراء الجاهليين اشارات إلى بعض عقائد الجاهليين، والى بعض الأصنام، تعرض لها شراح الدواوين بالمناسبات، وترد هذه الإشارات في القصص المروى عن أخبار الجاهليه وعن أنساب قبائلها وأيامها وامثال ذلك وفي كتب الأدب و اللغة والمعجمات، وهي تعيننا بالطبع على زيادة مادتنا في هذا الوضوع.

(1/3173)


--------------------------------------------------------------------------------

ويضاف إلى ذلك ما ورد في كتب السير والمغازي وفي كتب التواريخ من كتب خاصة مثل تأريخ مكة، ومن كتب عامة عن عبادات القوم قبل الوحي وفي أثناء الوحي وعن أمر الرسول بتحطيم الأصنام والأوثان. وقد ورد بهذه المناسبة أوصاف يعضها، وذكرت بعض المواضع التي كانت قائمة فيها، والقبائل التي كانت تتعبد لها، وما أدير حول بعضها من قصص، أو ما قيل عنها في الجاهلية وفي تحطيمها من أقوال.
ومما يجب علينا ملاحظته، لن الشعر الجاهلي الذي أمدنا بفيض من معارف قيمة عن الجاهلية القريبة من الإسلام، لم بمدنا بشيء مهم عن الحياة الدينية عند الجاهلين، فكأنه أراد مجاراة من دخل في الإسلام في التنصل من أيام الجاهلية ومن للتبرؤ منها، ومن غض النظر عن ذكر أصنام حرمها الإسلام. وقد ذهب بعض المستشرقين إلى ان رواة الشعر في الإسلام، قد أغفلوا أمرالشعر الجاهلي الذي مجد الأصنام والوثنية، وأهملوه، فلم يرووه، فمات، وان بعضا منهم قد هذب ذلك للشعر وشذبه، فحذف منه كل ما له علاقة بالأصنام والوثتية، ورفع منه لسماء الأصنام، وأحل محلها اسم الله، حيث يرد اسم الصنم. فما فيه اسم الله في الشعر الجاهلي،.كلن اسم صنم في الأصل.
وقد الف بعض العلماء مؤلفات خاصة في الأصنام، وصل إلينا منها كتاب "الأصنام" لابن الكلبي. أما المؤلفات الأخرى، فلم يصل للينا منها إلا الاسم.
وممن ألف في هذا الموضوع ابو الحسن علي بن الحسين بن فضيل ين مروان، والجاحظ. وقد استفاد ياقوت الحموي في كتابه "معجم البلدان" من كتاب "الأصنام" لابن الكلبي، وأورد ما أخذه منه في الكتاب، أما النسخة التي اعتمد الحموي عليها، فكانت في عالم مشهور وبروايته هو الجوالقي.
وقد تعرض ابن الكلي لذكر الوثنية والأصنام فى مؤلفاته الأخرى عرضا، وأشار "ياقوت الحموي" في بعض المواضع إلى روايات أخرى لابن الكلبي عن الأصنلم، ذاكرا انها ليست من كتاب "الأصنام". كما استقى من منيع آخر، هو محمد بن حبيب.

(1/3174)

admin
01-01-2011, 01:34 AM
وقد ألف أبو عبد الله الحسين بن محمد بن جعفر الخالع كتابا في أديان العرب وأرائهم، اسمه "آراء للعرب وأديانها"، وقف عليه ابن أبي الحديد، وأشار إلى بعض هفوات رآها فيه. وللجاحظ مؤلف اسمه "أديان العرب" استفاد منه أيو الفتح محمد بن عبد للكريم الشهرستاني. وبالرغم من فضل من تقدم ممن ذكرت وممن لم أذكر، على دارس التاريخ الديني للجاهليين فإنهم عفا الله عنهم، لم يتعمقوا تعمقا كافيا في بحوثهم عن الوثنية، ولم يتحرشوا بها في الغالب، إلا بسبب اتصالها بالإسلام، ثم إن في كثير مما ذكروه عن الوثنية طابع السذاجة وأسلوب الصنعة. وهو في أحوال الوثنية في الحجاز وعند القبائل التي ورد لها ذكر في حوادث الإسلام في أيام الرسول، في مثل قدوم وفود سادات القبائل على النبي، وأمر الرسول بتحطيم الأصنام. ولهذا لا نجد للوثنية في بقية مواضع جزيرة العرب، مكانا فيما كتبه أولئك العلماء عن الأصنام والأوثان أو الزندقة. ثم إن في الذي ذكروه وكتبوه تناقض محير، وتنافر عجيب، يجعلك تشعر، ان رواة تلك الأخبار، لم يكونوا يملكون يومئذ أدوات النقد لصقل ما سمعوه من أفواه الرواة، وما نقلوه عمن أدرك الجاهلية من أقول، أو انهم كانوا يعمدون إلى الوضع أحيانا: لصنع أجوبة عن أسئلة وجهت اليهم في أمور لم يأتهم علم بها من قبل.
خذ ما ذكره "الطبري" في تفسيره عن اللات والعزى ومناة، تجده يروي أقوالا ذكر سندها تتناقض فيما بينها بشان هذه الأصنام، وبشأن بيوتها ومواضعها، مما يدل على أن رواة تلك الأخبار لم يكونوا على علم بأخبارها ولا وقوف على حقيقتها، بدليل أن كل واحد منهم ناقض غيره فيما قاله، وأن أحدهم يذكر خبرا ثم يعود فيذكر ما يناقضه. حدث كل ذلك في أمور كانت باقية إلى ما بعد فتح مكة، فكيف حالهم اذن في الأمور البعيدة نوعا ما عن الإسلام.

(1/3175)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا تتناول الموارد الإسلامية بعد، إلا الوثنية القريبة من الإسلام والوثنية التي كانت متفشية بين قبائل الحجاز في الغالب، وبين القبائل التي اعتمد عليها رواة الأخبار في جمع اللغةوالأخباز لذلك لا نجد فيها ذكرا للوثنية البعيدة عن الإسلام، فلم يرد فيها مثلا أي شيء عن "المقه" إله سبأ الأكبر ولا عن بقية الآلهة العربية الجنوبية الكبيرة مثل "عثتر"، وعن دين العرب الجنوبيين وشعائرهم، ولاعن معبودات قبائل العربية الشرقية: أو قبائل العراق أو بلاد الشام في الأزمنة البعيدة أو القريبة من الإسلام.
وأما أخبارها عن اليهودية والنصرانية، فقليلة جدا، قصتها وروتها لما لها من تماس وصلة بما جاء في القرآن الكريم، أو لما لها من علاقة بأيام الرسول. ولهذا صارت خرساء صامتة بالنسبة إلى أحوال أهل الكتاب في بقية أنحاء جزيرة العرب أو في العراق وفي بلاد الشام. فلم تتحرش بهم إلا بقدر. وبسبب ذلك صارت معارفنا عنهم قليلة جدا. وقد كان في إمكان أهل الأخبار جمع معلومات واسعة عن النصرانية في العراق قبل الإسلام، برجوعهم إلى رجال الدين النصارى الذين كانوا في الحيرة وفي مواضع أخرى من العراق، وهم رجال لهم علم واسع بهذه الأمور، لكن اختلافهم عنهم في الدين على ما يظهر، وانصرافهم إذ ذاك عن رواية كل ما يتعلق بالأمور الجاهلية خلا ما يتعلق يالنواحي القبلية وبالنواحي الأدبية واللغوية، كانا من العوامل التي أدت إلى غض نظرهم عن البحث في هذه الأمور.

(1/3176)


--------------------------------------------------------------------------------

وبفضل إقرار الإسلام لبعض أحكام وشعائر الجاهلين، استطعنا الوقوف كل جانب من أحكامهم و شرائعهم. فعرفنا بذلك بعض شعائر الحج من حج مكة، وبعض أحكامهم وآرائهم في الدين ووجهة نظرهم إلى الحلال والحرام، والتقرب إلى بيوت الأرباب وفي ذلك. وما كان في وسعنا الوقوف عليها لولا تعرض الإسلام لها بالإقرار والتثبيت. أو بالتحريم والنهي،فأشير إلى كل ذلك في القرآن الكريم وفي كتب التفسير وأسباب النزول والحديث.
وقد عني المستشرقون بهذا الموضوع، فكتبوا بحثوا فيه ومن هؤلاء "ولهوزن" J.Wellhausen صاحب كتاب "بقابا الوثنية العربية" Arabischen Heidentumes و "دتلف نيلسن" Ditlef Nielsion و " لودولف كويل " Ludolf Krehi وغيرهم.
وقد اعتمد "ولهوزن" على ما نقله "ياقوت الحموي" من كتاب الأصنام ومن غيره، ذلك لأن كتاب الأصنام لم يكن مطبوعا ولا معروفا ايام الف "ولهوزن" كتابه عن الوثنية العربية.
ويعد كتاب "ولهوزن" أوسع مؤلف في موضوعه كتبه المستشرقون عن الوثنية العربية. وقد كتب المستشرقون حديثا جملة بحوث عن الأصنام العربية التي عثر عليها في الكتابات فات ذكرها في كتاب "ولهوزن"، لأن أكثر النصوص الجاهلية لم تكن قد نشرت يومئذ، ولأن كثيرا منها قد نشر حديثا، فلم يكن في استطاعة "ولهوزن" بالطبع أن يبحث في شيء من التفصيل في الوثنية ببلاد العرب الجنوبية. لذلك كان أكثر ما جاء في كتاب "ولهوزن" مستمدا من روايات الأخباريين. فمن الضروري إضافة هذه البحوث الجديدة إلى ما كتبه هو وأمثاله، لنحصل على صورة شاملة عن أديان العرب قبل الإسلام.

(1/3177)


--------------------------------------------------------------------------------

وتفيد الأعلام الجاهلية المركبةTheophorus Names المدونة في للنصوص الجاهلية وفي الموارد الإسلامية فائدة كبيرة في معرفة الأصنام، وفي تكوين فكرة عنها. ففيها أسماء آلهة، وفيها بعض الصفات الإلهية التي كان يطلقها الناس على آلهتهم. وفي هذه الأسماء المركبة عند بقية للشعوب السامية كذلك. ومن مقارنة هذه الأسماء بعضا ببعض، استخرج العلماء آلهة اشترك في عبادتها جميع الساميين. ونعني ب Theophorus Names الاعلام المركية من أسماء آلهة ومن كلمات اخرى مثل "عبد" و "عطية" و "امرئ" و "أوس" و "عائذ" و "جار" و "عوذ" و "وهب". ترد قبل اسم الإله أو بعده، فيتألف منها ومن أسماء الآلهة أسماء أعلام، مثل عبد الأسد،وعبد الله، وعبد سعد، وعبد العزى، وعبد محرق، وعبد ذي الشرى، وعبد يغوث، وعبد ود، وعبد قيس، وعبد شمس، وامرىء القيس، وأمثال ذلك من أعلام.
ومعظم هذه الأعلام المدونة في مؤلفات الإسلاميين، لسماء أشخاص عاشوا في الجاهلية القريبة من الإسلام، حفظتها ووعتها ذاكرة الرواة، ومنهم تناقلها أهل الأخبار. والغالب عليها الابتداء بكلمة "عبد" للرجال و "أمت" أي أمة للنساء، ترد قبل اسم الصنم. أما الأسماء المبتدأة بكلمات أخرى غير "عبد"، فمثل "أحمس الله" و "امرئ مناة"، و "امرئ القيس"، و "أنس الله" و "أوس الله"، و "تيم اللات"، و "خيليل"، و "زيد اللات" ؛ و "زيد مناة"، و " سعد لللات"، و "سعد مناة"، و "سعد ود " و "سعد العشيرة"، و "سكن اللات"، و "سلم اللات"، و "شراحيل" و "شرحيل"، و "شرحبيل"، و "شكم اللات"، و "شهميل"، و "شيع للقوم"، و "عائذ الله"، و "عمرو لللات"، و "عوذ مناة" و "عينيل"، و "قسميل"، و "مطرويل"، و "وهب لللات". وهي قليلة من حيث الاستعمال بالقياس إلى الأعلام المبتدأة ب "عبد.

(1/3178)


--------------------------------------------------------------------------------

ويلاحظ على بعض الأعلام المركبة، مثل عمرو اللات، وعوف إيل، وجد اللات، وسعد مناة، وود ايل، ان الكلمات الأولى من هذه الأسماء تتأخر في أعلام أخرى ؛ فتسبق بكلمة توضع قبلها فيتكون منها علم مركب جديد كما في الأسماء آلاتية: عبد عمرو، وعبد عوف، وعبد جد، وعبد سعد، وعبد ود، وقد كانت متقدمة في الأعلام الأولى. أما في هذه الأعلام فصارت في المنزلة الثانية.
وهذه الأسماء التي حفظتها ذاكرة أهل الأخبار، تخالف أكثر الأعلام العربية والسامية القديمة المدونة في النصوص وفي مؤلفات اليونان والرومان والسريان وغيرهم من حيث الصيغ والتراكيب. فقد ابتدأت هذه الأعلام كما رأينا بكلمات تلتها أسماء الآلهة. أما الأعلام القديمة، فقد كانت على العكس تبدأ باسم الصنم،وبعده الألفاظ الأخرى، مثل: "الشرح" "ايل شرح" و "إليفع" "ايل يفع" و "الذرح" "ايل ذرح" و "الكرب" "ايل كرب" و "السمع" "ايل سمع" و "اليثع "ايل يثع" وأمثال ذلك. أو تبدأ.كلمات ثم تليها أسماء الأصنام، إلا أنها ليست في حالة الإضافة، بل على صورة الإخبار والفاعلية، مثل "يذكر ايل" و "يثع ايل" و "يدع ايل" و "يشرح ايل" و"يسمع ايل"، و "ايل" "ال" هنا هو اسم الإله " ال" "ايلو" المعروف عند جميع الساميين.
وقد يوضع حرف الجر، وهو "اللام" "لامد" في الاسم، ليدل على تعلق الاسم بالإله، مثل "لحي عثت" في النصوص العربية الجنوبية، وقد عثر على طائفة من هذه الأعلام في الكتابات الفينيقية والعبرانية.

(1/3179)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد تهمل الكلمة الثانية من الاسم المركب، ويقتصر على اللفظة الأولى، كما في: أوس، وزيد، ووهب، وتيم،، وسعد، ونصر، وعائذ، وعبد، وأمثال ذلك من أعلام. فإنها اختصار ل "أوس الله"، و " زيد اللات"، و "زيد مناة"، و "وهب اللات"، و "تيم اللات"، و "سعد مناة" و "سعد ود "، و "سعد اللات"، و "نصر اللات"، و "عاثذ الله" و "عبد ود"، وغير ذلك. وقد يحدث العكس، فتسقط الكلمة الأولى، وتبقى الكلمة الثانية التي هي اسم الإله، ويصير هذا الاسم اسما لشخص أو لأسرة أو لقبيلة، مثل: مناف، وغنم، وشمس، وإسا ف، ونائلة، وزهرة، وقيس، وعطارد، وهبل، وجد، وأمثال ذلك. فإن هذه هي أسماء آلهة في الأصل، سبقت بكلمات مثل "عبد"، ثم أهملت هذه الكلمات الأولى، وبقيت أسماء الآلهة حية، ولكنها صارت أسماء لأشخاص وأسر وقبائل، تسبقها لفظة "بنو" في بعض الأحيان، لتدل على الانتماء إلى ذلك الاسم. ولهذا الانتماء أهمية كبيرة في نظر الباحثين في فلسفة الأديان وتأريخها.
ويلاحظ أن بعض الأعلام المركبة المبتدأة ب "عبد " مثلا، لا تتكون كلمتها الثانية من اسم إله، إنما تكون اسم موضع أو اسم شخص أو اسم جماد، مثل: عبد حارثة، وعبد المطلب، وعبد أمية، وعبد الدار، وعبد الحارث، وعبد ألحجر، وما شاكل ذلك. ولبعض العلماء تفاسير وتعليلات في العوامل التي أدت الى هذه التسميات: منها أن بعض هذه الأسماء هو لآلهة قديمة، نسيت فظن أنها أسماء أشخاص: وأن بعض آخر منها هو أسماء أشخاص كانت لهم قدسية أو منزلة خاصة، فتبرك الناس بتسمية أولادهم ****ا لهم، وهو شيء يحدث حتى الآن، إذ نقول عبد المسيح، وعبد الرسول وعبد علي، وعبد الأمير، وعبد الزهرة. وعبد محمد، وان بعضا اخر هو مسميات لمجتمعات، مثل عبد اهله، و عبد العشيرة، و سعد العشيرة، أو أنه نسبة الى طوطم أو جماد مقدس في نظر الناس.

(1/3180)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد قضى الإسلام على الأسماء الوثنية، كما قضى كثير من معالم الجاهلية، فأستبدل من أسلم اسمه الجاهلي الذي له صلة بصنم أو بشرك ياسم إسلامي، وبذلك زالت تلك اتسميات. كما زالت أكثر التسميات اليهودية والنصرانية بدخول أصحابها في الإسلام. وهذا شيء مألوف في تاريخ الإنسان. فقد قضت اليهودية على الأسماء الوثنية القديمة، وعوضت عنها بأسماء يهودية ذات صلة بالتوراة " وقضت النصرانية على الأعلام الوثنية أو طورتها لتكون ملائمة مع النصرانية، وهكذا.
حدث في الأديان الأخرى، بل وهذا ما يحدث اليوم في كثير من أنحاء العالم القلقة عند وقوع انقلابات سياسية، جث تتناول الأسماء أيضا بالتغيير والتبديل، لتناسب الوضع الجديد.
وقد ذكر أهل الأخبار أسماء عدد من الصحابة، كانت أسماؤهم ذات صلة بالأصنام، فلما أسلموا أبدلها الرسول بأسماء اسلاميه. فقد كان أسم كاتب النبي "عبد الله بن الأرقم بن أبي الأرقم" "عبد يغوث" فلما أسلم دعي "عبد الله". وكان اسم "عبد الله بن أصرم بن عمرو بن شعيثة" الهلالي "عبد عوف بن أصرم"، فلما قدم على النبي، فقال، من أنت ? قال عبد عوف. قال النبي: أنت عبد الله، فأسلم. ونجد غيرهما وقد أبدل الرسول أسماءهم، حتى صار من يسلم يبدل اسمه إن كان له صلة بصنم، حتى ماتت الأسماء الجاهلية التي هي من هذا القبيل.
والأساطير Myth=Mythos، ونعني بها هنا الخرافات والأقاصيص، المتعلقة بالآلهة Legand. هي مصدر مهم لمعرفة تطور الأديان وتطور فكرة الالوهية عند الشعوب. وهي قد تكون شعرا، وقد تكون نثرا، وفي كلتا الحالتين تكون مادة خصبة للباحثين.

(1/3181)


--------------------------------------------------------------------------------

ومعارفنا عن الأساطير العربية الدينية قليلة جدا. وهذا مما حمل بعض المستشرقين على القول بأن العرب لم تكن لهم أساطير دينية عن آلهتهم، كما كان عند غيرهم من الأمم كاليونان والرومان والفرس وعند بقية الآريين، بل حتى عند بعض الشعوب السامية الأخرى مثل البابليين. وفي رأيي أننا لا نستطيع أن نجزم في مثل هذه الأمور، لأن أحكامنا عن اليونان والرومان والبابليين إنما استنبطناها من نصوص ومؤلفات وصلت إلينا. أما العرب الجاهليون، فلم يصل إلينا منهم حتى الآن نص ما في هذا الموضوع، يمكننا من الحكم بعدم وجود الأساطير الدينية عند العرب الوثنيين.
ومشكلتنا أننا لا نملك كما قلت نصوصا دينية جاهلية، ولا كتبا كتبها يونان أو لاتين أو سريان أو غيرهم عن أساطير العرب في الجاهلية نستطيع استخراج حكم منها عن أساطير العرب. ولكن هذآ الوضع لا يخولنا نفي وجود الأساطير عند العرب، بحجة بداوتهم وضيق أفقهم وبساطة تفكيرهم، كما أنه لا يخولنا أيضا الحكم بوجود أساطير عندهم من طراز عال كما نجده عند اليونان مثلا. ويتبين من بعض روايات الأخباريين، وهي قليلة، أن العرب كانت لهم أساطير كالذي رووه من أن "العيوق" عاق "الدبران" لما ساق إلى الثريا مهرا، وهي نجوم صغار نحو عشرين نجما، فهو يتبعها ابدا خاطبا لها، ولذلك سموا هذه النجوم القلاص وكالذي رووه عن "العبور" و "الغميصاء" و"سهيل". وقد كانت هذه النجوم مجتمعة، فانحدر سهيل فصار يمانيأ، وتبعته العبور فعبرت المجرة، وأقامت الغميصاء فبكت لفقد سهيل حتى غمصت.وكالذي رووه من أن "الز هرة" كانت امرأة جسناء، فصعدت إلى السماء ومسخت نجما، وأمثال ذلك من قصص يظهر أنه من يقايا قصص أطول قديم.
وإذ. لم تصل إلينا نصوص دينية جاهلية، صعب علينا تكوبن فكرة صحيحة عن مفهوم الدين عند العرب، وعن كيفية عبادتهم لآلهتهم، وعن كيفية تصورهم للآلهة، خاصة عند العرب الذين عاشوا قبل الميلاد.

(1/3182)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد تعنينا أسماء الآلهة والأعلام المركبة في تكوين وجهة نظر عن صفات آلهة الجاهليين. فكلمات مثل "ود" و "شرح" و "سعد" و "سمع"، أو تعابير شل "ذت حمم" "ذات حميم" و " ذت صنتم" "ذات صنتم " و "ذت رحبن" "ذات رحبن" و "ذت بعدن" "ذات بعدن" "وذ قبضم" "ذو قبضم" وما شابه ذلك، لا بد أن تكون لها معان خاصة تشير إلى صفات الآلهة التي قيلت لها، فتفيدنا في فهم عبادة الجاهليين وتفكيرهم في تلك الآلهة. وإذا كانت بعض أسماء الآلهة أو صفاتها واضحة مفهومة تمكن الاستفادة منها في تكوين فكرة عن الآلهة، فإن هناك بعضا آخر يحيط بمعناه الغموض، فلا نستطيع شرح معناه أو ترجمته إلى اللغات الأخرى. وليس من المعقول بالطبع عدم وجود مدلول أو مراد لأسماء هذه الآلهة عند من وضعها لها، ونسبها اليها، وانما المعقول هو ان هذه المسميات نسيت بتقادم الزمن وبزوال دولتها وعظمتها من الوجود، وضاعت معالمها، فلم يبق منها إلا الأسماء المجردة. ولعل معانيها كانت غامضة حتى على من كان يتعبد لها، لاختفائها منذ زمن طويل، وعدم ورود نصوص مدونة إلى المتعبدين لها في هذه المعاني،وهذا شيء مألوف معروف. وتختلف نظرة الإنسان إلى الخالق والخلق باختلاف تطوره ونمو عقله، ولهذا نجد فكرة "الله" "الإله" التي تقابل كلمة Deus في اللاتينية وكلمة Theos في اليونانية وكلمة God في الانكليزية، تختلف باختلاف مفاهيم الشعوب ودرجات تقدمها. فهي عند الشعوب البدائية القديمة والحديثة في شكل يختلف عن مفهومها عند الشعوب المتحضرة. كذلك اختلفت عند سكنة البوادي عن سكنة الجبال والهضاب،ويختلف مفهوم فكرة الله عند الشعوب السامية عنها عند للشعوب الآرية، لأسباب عديدة يذكرها علماء تاريخ الأديان. بل يختلف هذا المفهوم في داخل الشعب الواحد، يختلف فيه باختلاف ثقافة الإنسان وتقدم مداركه العقلية، فتصور كل انسان خالقه على قدر عقله ودوجة ثقافته، صوره وكأنه مرآة صافية لنفسه ولدرجة نمو

(1/3183)


--------------------------------------------------------------------------------

عقله. ومن هنا قيل: ان الإنسان يصنع إلهه بنفسه، أي يصوره على نحو صورته ومبلغ تفكيره.
يقول " أكسينوفان" Xenophanes: "تصور الأحباش آلههتهم فطس الأنوف، سودا. وتصور أهل "تراقية" Thracians آلهتهم ذوي عيون زرق وشعر أحمر. وزعم اليونان أن تصورهم للالهة هو التصور للصحيح، أما تصور الزنوج وأهل تراقية عن آلهتهم، فهو تصور فاسد باطل ! ولو كان للماشية والخيل والسباع أيد تتمكن من الرسم والنحت، لرسمت الخيل آلهتها على صورة خيل،ولنحتت تماثيلها على صورتها، ولرسمت الماشية ونحتت آلهتها على صورتها وهيئتها، تماما كما يصور الإنسان وينحت آلهته على صورته وقدر إدراكه. كل صنف يتصور ويرى آلهته على صورته". وقد نسب اليونان إلى آلهتهم كل الصفات والأعمال الانسانية المعروفة بين اليونانيين، فتصوروهم على هيئة بشر، لهم الفضائل، ولهم الرذائل، يتزوجون وينسلون ويحبون ويعشقون ويسرقون ويكرهون ويتخاصمون بينهم ويتحاسدون ويقومون بأقبح الأعمال كما يفعل الإنسان.
وهناك أشكال عديدة للعبادة، تمثل تعدد وجهة نظر الإنسان بالقياس إلى مفهوم الألوهية لديه. فهناك عبادة تسمى عبادة آباء القبائل، حيث أسبغ على أجداد القبائل ما يسبغ عادة على الآلهة من نعوت وصفات. وتجد هذه العبادة عند القبائل البدائية. وقد يكون هؤلاء الأجداد أجدادا حقيقيين، وقد يكونون أشخاصا خلقتهم الأساطير. ومهما يكن من شيء، فقد أعطي هؤلاء صفات الربوبية ونعوتها، و نظر إليهم نظرة من فيه قوى خارقة ذات هيمنة على العالم والخلق. وقد اصطلح على تسمية هذه العبادة ب All Fathers في الانكليزية وب Verehrung des Stammesvaters و ب Urvaters في الالمانية، لأنها تقوم على أساس عبادة الأجداد.

(1/3184)


--------------------------------------------------------------------------------

وأله بعض الناس الظواهر الطبيعية، لتوهمهم أن فيها قوى Spirit روحية كامنة مؤثرة في العالم وفي حياة الإنسان،مثل الشمس والقمر وبعض النجوم الظاهرة. وقد كانت الشمس والقمر أول الأجرام السماوية التي لفتت أنظار البشر اليها، لما في الشمس من أثر بارز في الزرع والأرض وفي حياة الإنسان بصورة مطلقة. كذلك للقمر أثره في نفس الإنسان بما يبعثه من نور يهدي الناس في الليل، ومن أثر كبير يؤثر في حس البشر. فكانا في مقدمة الأجرام السماوية التي ألهها الإنسان. عبدهما مجردين في بادىء الأمر، أي دون أن يتصور فيهما ما يتصور من صفات ومن أمور غير محسوسة هي من وراء الطبيعة. فلما تقدم وزادت مداركه في أمور ما وراء الطبيعة، تصور لهما قوى غير مدركة، وروحا، وقدرة، وصفات من الصفات التي تطلق على الآلهة. فخرجتا من صفتهما المادية البحتة ومن طبيعتهما المفهومة، وصارتا مظهرا لقوى روحية لا يمكن إدراكها، إنما تدرك من أفعالهما ومن أثرهما في هذا الكون.
وإذا كانت هذه العبادة قد اقتصرت على الظواهر الطبيعية البارزة المؤثرة، فإن هناك توسعا في هذه العبادة تراه عند بعض الأقوام البدائية، يصل إلى حد تقديس الأحجار والأشجار والآبار والمياه وأمثال ذلك، إذ تصوروا وجود قوى روحية كامنة فيها، فعبدوها على أن لها أثرا خطيرا في حياتهم. ونجد في أساطير الشعوب البدائية أن الإنسان من نسل الحيوان ومن الأشجار أيضا، كذلك تجد أمثلة عديدة من هذا القبيل في أساطير اليونان والرومان والساميين.

(1/3185)


--------------------------------------------------------------------------------

وهناك الشرك، وهو عبادة آلهة عديدة، كما ان هناك عقيدة التوحيد التي تدين بوجود إله واحد خالق لهذا الكون. وليس للشرك با الطبع عدد معين من الالهة، فقد يكون بضعة آلهة، وقد يكون عشرات. والشرك هو الدين المعاكس لدين التوحيد، ويعرف بإسم: Polytheism في الانكليزبة من كلمة Polys اليونانية ومعناها"كثير" و "تعدد"، ومن كلمة يونانية ثانية هي Theos وتعني "الإله" "الآلهة". ويختلف الشرك عن عقيدة ال Polydaemonism القائلة بوجود ألأرواح والجن من حيث الطبيعة Nature، كما يختلف عن أد.يان التوحيد Monotheism من حيث القول بتعدد الآلهة، وعن القائلين بمبدأ "الحلول" "Panatheism " من حيث حلول الإله في الخلق والخلق في الإله.
وتطلق في العربية كلمة "إله" على الإله الواحد، وكلمة "آلهة" في حالة الجمع، أي في حالة القول بوجود آلهة عديدة. وتقابل كلمة "إله" كلمة "اياوه" Eloh=Eloah في العبرانية الواردة في سفر "أيوب". ومنها كلمة"إيلوهيم" Elohim في حالة الجمع، أي آلهة المستعملة في العهد القديم بالقياس إلى آلهة الوثنيين. وكلمة "إله" لا تعني على كل حال إلها معينا على نحو ما تعنيه لفظة "الله" في العربية التي يراد بها الله الواحد الأحد ليس غير.
أما "الله"، وهي كلمة الجلالة، فهي "اسم علم" خاص به على رأي، وهي "علم مرتجل" في رأي آخر.. وقد ذهب ألرازي إلى انه من أصل سرياني أو عبراني. أما أهل الكرفة فرأوا انه من "ال إله"، أي من أداة التعريف "ال" ومن كلمة "إله". وهناك آ راء لغوية أخرى في أصل هذه اللفظة.

(1/3186)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم يعثر على لفظة "الله" في نصوص المسند، وإنما عثر في النصو ص الصفوية على هذه الجملة: "ف ه ل ه"، وتعني "فالله" أو "فيا الله" و "الهاء" الأولى هي أداة التعريف في اللهجة الصفوية. وقد وردت الجملة على صورة أخرى في بعض الكتابات الصفوية. وردت على هذا الشكل.: "ف ه" ل ت"، أي "فالات" فيا الآت" أي في حالة التأنيث. وتقابل "اللات"، وهي صم مؤنث معروف ذكر كذلك في القرآن الكريم.
ويظن بعض المستشرقين أن "الله" هو اسم صنم كان بمكة، أو أنه "إله" أهل مكة، بدليل ما يفهم من القرآن الكريم في مخاطبته ومجادلته أهل مكة من اقرارهم بأن الله هو خالق الكون.
وترد في العربية كلمة أخرى من الكلمات المختصة بالخالق، هي "رب "وجمعها "أرباب". وهي من الكلمات العربية الجاهلية المذكورة بكثرة في القرآن الكريم، ولها معنى خاص في اللاهوت وفي الأدب العربي للنصرانى. وتقابل كلمة Lord في الانكليزية. وكلمة "بعل"، و "ادون" في اللغات السامية الأخرى. ويذكر علماء اللغة أن "الرب" هو الله، هو رب كل شيء، أي مالكه. وله الربوبية على جميع الخلق، لا شريك له، وهو رب الأرباب، ومالك الملوك والأملاك، ولا يقال الرب " في غير الله، إلا بالإضافة.
وقد قال الجاهليون: "الرب" للملك. قال الحارث بن حلزة: وهو الرب، والشهيد على يو م الحيارين، والبلاء بلاء
ويظهر ان لفظة "الرب" و "رب" كانت بمعنى "سيد" ومالك عند الجاهليين، ولم تكن تعني العلمية عندهم. أي ألوهية خاصة بالله، وهي تؤدي معنى "بعل" عندهم ايضا. فكانوا يطلقونها على الإله والالهة وعلى الإنسان باعتباره سيدا ومالكا. أما هذا التخصص الذي يذكره علماء اللغة، فقد حدث في الإسلام من الاستعمال الوارد في القرآن الكريم.

(1/3187)


--------------------------------------------------------------------------------

و "رب " البيت"، الله، وكذلك: "رب هذا البيت. و "رب الدار"، أي مالكها، وكل من ملك شيئا، فهو ربه. وبهذا المعنى "هو رب الأرباب" أما "الربة"، فعنوا بها الصخرة التي كانت تعبدها ثقيف بالطائف. وكان لهم بيت يسمونه "الربة." و "بيت الرية"، يضاهي "بيت الله" بمكة. فلما أسلموا هدمه "المغيرة". و "الربة": كعبة كانت بنجران، لمذحح وبني الحارث ين كعب يعظمها الناس.
وأما "بعل"، فمعناها مالك وصاحب ورب في اللهجات السامية. فترد بعل الموضع الفلاني، أي صاحب: ذلك الموضع وربه. ومؤنث الكلمة هو "بعلت". وترد كلمة "بعل" بمعنى زوج في العربية، وقد وردت بهذا المعنى في مواضع من القرآن الكريم، وأما الزوجة، فهي "بعلت" "بعلة" أي في حالة التأنيث.
ولما كانت لفظة بعل تعني الرب والصاحب، صار اسم الموضع يرد بعد "بعل"، فيقال: "بعل صور"، و "بعل لبنان"، و "بعل غمدان"، أي رب المواضع المذكورة وصاحبها وسيدها. أما اذا وردت اللفظة مستقلة دون ذكر اسم الموضع المنسوب اليها بعدها، فتعني عندئذ رب وإله، اي رب الجماعة المتعبدة المؤمنة به.
وقد ورد في القرآن الكريم في صدد الكلام عن الياس Elijah )وان إلباس لمن المرسلين. إذ قال لقومه: ألا تتقون ? أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين(، وقد ذهب الطبري في تفسير "بعل" في هذه الآية إلى أن بعلا تعني ربا في لغة أهل اليمن، أو ان المراد ببعل صنم.

(1/3188)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن رأي "روبرتسن سمث"، Robertson Smith أن العرب اقتبسوا المعنى الديني لبعل من الأقوام السامية المجاورة لهم مثل سكان "طور سيناء" أو موضع آخر، أخذوه من تلك الأقوام التي عرفت باشتغالها بالزراعة، ولا سيما زراعة النخيل، وان هذا المعنى دخل اليهم بدخول زراعة النخيل إلى بلاد العرب. وأنه استعمل عند العرب المزارعين. أما البدو والرعاة، فإنهم لم يستخدموا تلك اللفظة بالمعنى المذكور. وهو رأي يخالف رأي بعض المستشرقين من أمثال "نولدكه" Noldeke و "ولهوزن" Wellhousen الذين يرون أن عبادة "بعل" هي عبادة سامية قديمة كانت معروفة عند قدماء العرب منذ أقدم العهود.
ويرى بعض المستشرقين ان لفظة "بعل" أطلقت خاصة على الأرض التي لا تعتمد في زراعها على الأمطار أو على وسائل الري الفنية، بل على المياه الجوفية وعلى الرطوبة في التربة، فينبت فيها خير أنواع النخيل والأثمار، فهي تمثل الخصب والنماء. والظاهر ان الساميين كانوا يخصصون أرضهم بالالهة، لتمن عليهم بالبركة واليمن، فتكون في حمى ذلك الإله "بعل الموضع الفلاني". ومن هنا صارت جملة "بعل سميم" "بعل سمن" "بعل سمين" تعني "رب السماء"، ويعنى بذلك المطر الذي هو أهم واسطة من وسائط الإسقاء والخصب والنماء في جزيرة العرب وفي البلاد التي يسكنها الساميون. ورأى مستشرقون آخرون ان جملة "أرض بعل" تعني الأرض التي تسقى بالأمطار.

(1/3189)


--------------------------------------------------------------------------------

وذكر العلماء أن لفظة "الال" بمعنى الربوبية، و اسم الله تعالى. وأن كل اسم آخره "ال" أو "ايل" فمضاف إلى الله تعالى، ومنه "جبرائيل" و "ميكائيل". وذكر أن "أبا بكر" لما سمع سجع "مسيلمة"، قال: هذا كلام لم يخرج من ال ولا بر، أي لم يصدر عن ربوبية. وقد ذهب بعض علماء اللغة إلى أن اللفظة "ايل" من المعربات. عربت عن العبرانية، وهي فيها اسم الله. وهي من الألفاط العامة التي ترد في اللغات السامية، ولا يعرف معناها على وجه مضبوط، ويظن أنها بمعنى "القادر" و "العزيز" والقهار، والقوي، والحاكم. وترد في الشعر وفي أسماء الأعلام في الغالب. وقلما نجدها ترد في النثر.
وقد وردت في نصوص المستد وفي نصوص أخرى ألفاظ كثيرة مثل "ود" و "سمع" أ ي "سميع" و "حكم" أ ي "حكيم"، و "حلم" أي حليم" و "علم" أي "عالم" و "عليم"، و "رحم" أي "رحيم"، و "رحمنن" أي "الرحمن"، وأمثال ذلك. ذكرت على صورة أسماء آلهة. لكنها في الواقع صفاتها لا أسماؤها. ذكرت في مقام ذكر أسماء الالهة، كما يقول المسلم في دعائه ربه يا سميع ويا حكيم ويا رحيم. وهي صفات وردت في القرآن الكريم.
وعلى من يريد الوقوف على رأي الجاهليين في "طبائع آلهتهم وفي تعيين صفاتها، حصر هذه الصفات وضبطها، وتعيين مدلولها، وهي صفات تدل على معان خلقية مجردة. وسنتمكن بذلك من الوقوف على نظرة الجاهليين إلى آلهتهم، ومن تعيين وتثبيت عددها إذ سيظهر لنا من هذه الدراسة ان أكثر تلك الأسماء ليست أسماء آلهة، وانما هي صفات لها، وان الكلمات التي لا بشك في كونها أسماء صحيحة قليلة جدا، ربما لا يتجاوز عددها الثلاثة، هي الثالوث. ومن يدري ? فقد تكون في النتيجه اسمأ لإله واحد، وعندئذ يمكن أن نتوصل إلى نتيجة علمية بالقياس إلى عقيدة الشرك أو التوحيد عند العرب الجاهليين.

(1/3190)


--------------------------------------------------------------------------------

وبحد الإنسان اليوم سذاجة مضحكة في بعض العقاثد الدينية التي كانت عند الشعو ب القديمة، ويستصعب تصور اعتقاد الناس بها، وهو ينسى أن هذه العقائد أو بعضها على الأقل، لا تزال معروفة بين بعض قباثل افريقية وأستراليا،وأماكن أخرى من العالم، وان العقل الانساني في تطور مستمر، وان هناك بشرا يؤمنون بعقائد ورثوها عن آبائهم لا تقل غرابة عن غرابة بعض المعتقدات التي نؤاخذ بها قدماء البشر، مع أنهم من الشعوب المتقدمة في الحضارة وفي المدنية، ومن القرن الذي نفتخر بتسميته بقرن العقوق على الأم، والهروب منها إلى بيوت أخرى، تكون بعيدة عنها، سابحة في هذا الفضاء.
وقد يصعب على الإنسان اليوم تصور وجود فاثدة أو ضرر من اشياء جامدة لا يمكن قطعا أن تضر أو تنفع، ولكن القدماء تصوروه مع ذلك واعتقدوه. فقدسوا الأحجار والأشجار والحيوانات، وقد"سوا الأرواح والأموات من الآباء والأجداد والقديسين، وتعبندوا لها. ولهذه العبادات أسماء علمية خاصة اصطلح على تسميتها العلماء.
والدين هو إيمان وعمل: إيمان بوجود قوى هي فوق طاقة البشر، لها تأثير في حياته وفي مقدراته ؛ وعمل في أداء طقوس معينة تعين شكلها الأديان للتقرب إلى الآلهة ولاسترضائها. والإيمان هو قبل العمل بالطبع، فلا بد للقيام بالشعائر، أو باداء العمل، من وجود إيمان عند الشخص أو الأشخاص بوجود إله أو آلهة. حتى يقوم بعمل ديني. فالعمل تابع للأيمان، ونتيجة من نتائجه، وهو شعاره ومظهره. وهو أبرز عند الأقوام البدائية من الأيمان لدرجة عقليتها ومجال تفكيرها الضيق. ومن العمل: الرقص، والأفراح الدينية و السحر، والقرابين، والحج، والصلوات.

(1/3191)

admin
01-01-2011, 01:34 AM
وقد أقر الإسلام أشياء من أمور الدين كان يمارسها الجاهليون في جاهليتهم، لأنها لا تتعارض مع مبادئ الإسلام. ودراسة أمثال هذه الأشياء توضح لنا نواحي خافية علينا في الزمن الحاضر من الحياة الدينية عند الجاهليين، لذلك أرى من الضروري تتبع هذه الأشياء لتدوين تاريخ صحيح للدين عند الجاهليين.وأرى من الضروري كذلك تتبع الأساطير والعادات الموروثة التي لها صلة وعلاقة بالدين الجاهلي بين الأعراب والحضر في كل أصقاع جزيرة العرب، ولا سيما القزى العربية النائية عن العمران المنعزلة عن الأعاجم، فإن معظم هذه الأساطير والتقاليد هي من بقايا الوثنية العربية القديمة، بقيت جذورها ثابتة راسخة في الآفئدة حتى اليوم.
ولا بد أيضا لدراسة الدين عند الجاهليين دراسة صحيحة من الرجوع إلى أصول الأشياء، وأعني بأصول الأشياء هنا ديانة الساميين الأولى بشكلها البدائي القديم. فمن تلك الشجرة تفرعت أديان الشعوب إلسامية، وفي ذلك الدين نجد الأصول والأسس التي بنيت عليها الديانات الفروع.
أما كيف نتمكن من الرجوع إلى الأصل ومن معرفة ديانة الساميين القديمة، فموضوع ليس بالسهل اليسير، ونحن، وان كنا نملك بعض المؤلفات والبحوث عن أديان الساميين، لا نستطيع أن نجرؤ فنقول ان البحث قد نضج فيه، وان القوم قد استوفوه من أطرافه وأكملوه، بل ان كثيرا مما تطرق اليه العلماء هو موضع جدل واختلاف، ولن يمكن التوصل إلى نتائج مقبولة معقولة إلا اذا تمكن الباحثون من الحصول على وثائق جديدة تكشف النقاب عن أديان قدماء الساميين.

(1/3192)


--------------------------------------------------------------------------------

وللتوصل إلى تكوين رأي عن أديان الساميين القديمة لا بد من دراسة النصوص الدينية السامية كلها. ودراسة كل ما له صلة بالدين عند الساميين، ومقارنة الأديان السامية بعضها ببعض ومراجعة الأصول اللغوية للمصطلحات الدينية عند جميع الشعوب السامية للتوصل منها إلى الأسس العميقة المدفونة التي أقيم عليها بنيان ديانة الساميين. ثم لا بد أيضا من دراسة المؤثرات الخارجية التي أثرت في الساميين من عوامل طبيعية ومن عوامل أخرى غير طبيعية ومن الأثر الثقافي الذي كان "لغير الساميين في الساميين.
ويتبين من دراسة الأساطير السامية وجود شكل من أشكال التوحيد Henoteism عند القبائل السامية البدائية يمثل في اعتقاد القبيلة بوجود إله لها واحد أعلى، غير ان هذا لا يعني نفي اعتقآدها بتعدد الالهة. فإننا نرى ان تلك القبائل كانت تعتقد، في الوقت نفسه، بالأرواح كأنها كائنات حيه ذات أثر وسلطان في مصير هذا الكون. وفي ضمنه الإنسان، وبآلهة مساعدة للاله الكبير.
والديانات السامية، وإن كانت في الأصل من ديانة قديمة،قد تطورت وتغيرت بعوامل عديدة من العوامل التي تؤثر في كل المجتمعات البشرية فتحدث فيها انقلابا في التفكير وفي طراز الحياة. ومن هذه العوامل المؤثرات الخارجية والمحيط الجديد. وسنجد ان ديانة العرب الجنوبيين، وإن كانت في الأصل من تلك الديانة السامية.
العقول النيرة التي هزأت بالأوثان وبديانات قومهم. وان رجالا منهم كانوا على الحنيفية، يريدون بها ديانة التوحيد، وان آخرين بشروا بالوثنية، وأشاعوها بين العرب، لما كان لهم من مكانة ونفوذ. وان رجالا من الجاهليين كانوا على ملة اليهودية ودين المسيح. وان قوما من أهل الجاهلية كانوا على عبادة "الله" و "الرحمان"، وكل المذكورين كانوا ممن مهد الجادة اذن لظهور ا لاسلام.

(1/3193)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد أدى ظهور الإسلام إلى ظهور مصطلحات جديدة وموت مصطلحات قدبمة، وصارت هذه المصطلحات من علائم الوثنية. ولا بد لنا للوقوف على صورة أوضح للحياة الدينية عند الجاهليين من وجوب دراسة الألفاظ الجاهلية ذات المعاني الدينية بجمعها وتبويبها وتثبيت معانيها، فبهذه الدراسة نستطيع الوقوف على مبلغ تغلغل الحياة الدينية في نفوس الجاهليين، ومعرفة مدى تعمقهم في الدين وفهمهم له.
ومن الدراسات التي يجب أن تنال منا الرعاية والعناية لمعرفة الحياة الدينية وتطورها عند الجاهليين معرفة صحيحة، دراسة المصطلحات الدينية بحسب اللهجات العربية، وأماكن تلك اللهجات، وأسماء الأصنام أو الأوثان، ومعتقدات سكان تلك الأرضين في هذه الأيام، فإن دراسة مثل هذه تفيدنا فائدة كبيرة في معرفة أسس الحياة الدينية عند الجاهليين، وفي معرفة اختلاف العرب أو اتفاقهم في العقائد وفي الأمور الدينية، ومعرفة العوامل والأسباب النبي أدت الى ذلك، ثم معرفة المؤثرات الخارجية في الحياة الدينية للجاهليين. وبتثبيت هذه وأمثالها وبمقارنتها بأسماء أصنام الأقوام المجاورة وآلهتهم ومصطلحاتهم، نستطيع فهم كثير من الأمور الغامضة من الحياة الدينية عند ألعرب وعند تلك الأقوام، وفهم الاحتكاك العقلي والصلات الروحية التي كانت بين تلك الشعوب قبل الإسلام.

(1/3194)


--------------------------------------------------------------------------------

إن الأخباريين عفا الله عنهم، لم يعنوا بتنسيق هذا الذي توصلوا اليه ورووه لنا من آراء الجاهليين في الدين. فرووا روايات مختلفة متناقضة أو مقتضبة اقتضابا مخلا وجاءوا بأمور تثبت ان أولئك الأخباريين لم يكونوا على مستوى عال من اللنقد والتعمق في دزاسة الأخبار، وانهم كانوا يروون أخبارهم بالمعنى المفهوم من الأخبار. يأخذون ما يقال لهم فيروونه على نحو ما سمعوه وإن كان فيما يروونه ما يخاللف المنطق والفهق السليم. والاستسلام للروايات داء يذهب بالفائدة. منها، ويعود على المؤرخ بأفدح الأضرار. ولهذا نجد أنقسنا في موضوع أديان العرب قبل الإسلام في زوبعة عاتية وعاصفة مليئة بالرمال نتخبط فيها للحصول على مخرج نخرج منه، وليس لنا إلا الأمل. بالخروج من هذه العاصفة العاتية المتعبة في وقت ما.

(1/3195)


--------------------------------------------------------------------------------

وهذا الذي أورده أهل الأخبار عن أهل الجاهلية على ما فيه من تناقض، وتضارب واقتضاب، هو كما رأينا مادتنا الوحيدة عن الحياة الدينية عند عرب الجاهلية قبيل الإسلام وعند ظهوره، ولا سيما بالنسبة إلى عرب الحجاز وعرب الشام والعراق. وهناك روايات لم نستفد منها حتى الآن، لصعوبة التوصل اليها، لا لكونها في بطون المخطوطات، ولهذا بصعب الحصول عليها. فإن الكثير منها قد طبع، وهو في متناول الأيدي، إنما صعوبتها في كونها في كتب مطبوعة طبعا على الطريقة القديمة بلا نظام ولا ترتيب ولا تبويب فني ولا فهرست لما في الكتاب المطبوع من مواد ومن أسماء أشخاص أو أصنام أو أوثان أو ما شابه ذلك. وليس أمام المؤرخ في هذه الحالة إلا أن يقرأ تلك الكتب من بسملتها حتى منتهاها، ليحصل منها في النهاية على كلمة أو كلمتين أو خبر أو أخبار، ولكن كيف يتمكن المؤرخ من قراءة كتب ضخمة كتفسير الطبري وكتب التفاسير الأخرى وشروح الحديث وكتب التواريخ والطبقات وبقية الكتب إذا كان الكتاب يتألف من أكثر من عشرة أجزاء، وهي كلها بلا فهرست للاعلام ولا لما في الكتاب من فوائد ومواد. لا يتمكن المؤرخ بالطبع من قراءة كل هذه الموارد المذكورة مع تساوي عمره بسائر أعمار الناس، ولو مد الله في عمره وصيره إنسانا آخر ذا عمر طويل من أعمار الناس الذين أرخهم "السجستاني" في كتاب المعمرين، لتمكن من الإحاطة ببعض تلك الموارد على الأقل. غير أن عمر المؤرخ ويا للاسف مثل أعمار سائر الناس، قصير محدود، فليس في إمكانه الإحاطة بما ورد في هذه الكتب الواسعة المجهولة، على ظهورها في عالم الوجود ووجودها في خزانة كتب المؤرخ وفي يد أي شخص يريد الحصول عليها، لأن الموضوع ليس موضوع وجود كتاب مطبوع أو مخطوط، إنما هو اكتشاف ما في المطبوع أو المخطوط من آراء وأخبار وأعلام.

(1/3196)


--------------------------------------------------------------------------------

ما دام الوضع على هذا الحال وما دامت أكثر كتبنا غير مفهرسة ولا منسقة، فليس في استطاعة المؤرخ أن يأتي بشيء كثير يشفي غليل من يريد المزيد من المعرفة عن الحالة الدينية عند العرب قبل الإسلام. وهذا امر بؤسف له بالطبع كثيرا. وسيأتي بعدنا من يضيفون إلى هذا العلم البسيط الذي توصلنا اليه علما كثيرا، ثم يتوصل من بعدهم إلى أكثر من ذلك ولا شك. ومن يدري ? فلعلهم يتوصلون إلى كتابات جاهلية تغنيهم عن كل هذا الذي اخذناه من موارد إسلامية كتبت بعد الجاهلية بعشرات السنين. وليس لنا، وسنكون بالطبع من الماضين، إلا أن ندعو لمن ياتي بعدنا بالتوفيق والنجاح التام.
الفصل الثاني والستون
التوحيد والشرك
كانت العرب في الجاهلية على أديان ومذاهب: كان منهم من آمن بالله، وآمن بالتوحيد، وكان منهم من آمن بالله، وتعبد للاصنام، اذ زعموا أنها تقربهم اليه. وكان منهم من تعبد للاصنام، زاعمين أنها تنفع وتضر، وأنها هي الضارة النافعة. وكان منهم من دان باليهودية والنصرانية، ومنهم من دان بالمجوسية، ومنهم من توقف، فلم يعتقد بشيء، ومنهم من تزندق، ومنهم من آمن بتحكم الألهة في الإنسان في هذه الحياة، وببطلان كل شيء بعد الموت.، فلا حساب ولا نشر ولا كتاب، ولا كل شيء مما جاء في الإسلام عن يوم ا لدين.
ومذهب أهل الأخبار، أن العرب كانوا على دين واحد، هو دين ابراهيم، دين الحنيفية ودين التوحيد. الدين الذي بعث بامر الله من جديد، فتجسد وتمثل في الإسلام. وكان العرب مثل غيرهم، قد ضلوا الطريق، وعموا عن الحق، وغووا بعبادتهم الأصنام. حببها لهم الشيطان، ومن اتبع هواه من العرب، وعلى رأسهم ناشر عبادة الأصنام في جزيرة العرب: "عمرو بن لحي".
وذهب "رينان" Renan إلى ان العرب هم مثل سائر الساميين الآخرين موحدون بطبعهم، وان ديانتهم هي من ديانات التوحيد. وهو رأي بخالفه فيه نفر من المستشرقين.

(1/3197)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد أقام "رينان" نظريته هذه في ظهور عقيدة التوحيد عند الساميين من دراسته للالهة التي تعبد لها الساميون، ومن وجود.أصل كلمة "ال" "ايل" في لهجاتهم، فادعى ان الشعوب السامية كانت تتعبد لإله واحد هو "ال" "ايل" الذي تحرف اسمه بين هذه اللهجات، فدعي بأسماء أبعدته عن الأصل، غير ان أصلها كلها هو إله واحد، هو الإله "ال" "ايل".
و "التوحيد" الايمان بإله واحد أحد لا شريك له، منفرد بذاته في عدم المثل والنظير. لا يتجزأ ولا يثنى ولا يقبل الانقسام. ويقال للديانة التي تدين بالتوحيد: Monotheism في اللغات ألأوروبية، من أصل يوناني هو Monos، بمعنى "واحد"، و Theos بمعنى "إله"، لأنها تقول بوجود إله واحد. ويتمثل القول في التوحيد في اليهودية وفي الإسلام.
والشرك في تفسير العلماء الإسلاميين، ان يجعل لله شريكأ في ربوبيته "، غير الله مع عبادته، والايمان بالله وبغيره، فصاروا بذلك مشركين. ومن الشرك ان تعدل بالله غيره، فتجعله شريكا له. ومن عدل به شيئا من خلقه فهو مشرك، لأن الله وحده لا شريك له ولا ند له ولا نديد. ويقال له Polytheism=Polytheisums في اللغات الأوروبية. من أصل يوناني هو "Polys، ومعناه كثرة وتعداد، و Theos بمعنى "إله". فيكون المعنى،: القول بتعدد الالهة، أي الشرك. نقيض القول بالتوحيد Montheismus. فالشرك هو الدين المعاكس لدين التوحيد. ويختلف عن عقيدة ال Polydoemonism القائلة بوجود الأرواح والجن من حيث الطبيعة Nature، وبوجود أثر لها في حياة الإنسان، كما يختلف عن القائلين بمبدأ "الحلول" Pantheism من حيث حلول الإله في الخلق والخلق في الإله.

(1/3198)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذهب أهل الأخبار إلى أن العرب الأولى كانت على ملة ابراهيم، من الايمان بإله واحد أحد، اعتقدت به، وحجت إلى بيته، وعظمت حرمه، وحرمة الأشهر الحرم، بقيت على ذلك، ثم سلخ بهم إلى أن عبدوا ما استحبوا ونسوا ما كانوا عليه، واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره، فعبدوا الأوثان، وابتعدوا عن دين آبائهم وأجدادهم، حتى أعادهم الإسلام اليه.
ونظرية أن العرب جميعا كانوا في الأصل موحدين، تم حادوا بعد ذلك عن التوحيد فعبدوا الأوثان وأشركوا، نظرية يقول بها اليوم بعض العلماء مثل "ويليم شميد" Wilhelm Schmidt الذي درس أحوال القبائل البدائية وأنواع معتقداتها، فرأى ان عقائد هذه القبائل البدائية الوثنية ترجع بعد تحليلها وتشريحها ودرسها إلى عقيدة أساسية قائمة على الاعتقاد بوجود "القديم الكل " أو "الأب الأكبر". الذي هو في نظرها العلة والأساس. فهو إله واحد. وتوصل إلى أن هذه العقيدة هي عقيدة سبقت التوحيد، ثم ظهر من بعدها الشرك. وقد أطلق عليها في الألمانية مصطلح Urmonotheismus أي التوحيد القديم.
ويأخذ بهذه النظرية علماء اللاهوت وبعض الفلاسفة، وفي الكتب السماوبة تأييد لها أيضا. فالشرك وعبادة الأصنام بحسب هذه النظرية، نكوص عن التوحيد، ساق اليه الانحطاط الذي طرأ على عقائد الإنسان فأبعده عن عبادة الله.

(1/3199)


--------------------------------------------------------------------------------

اننا لا نستطيع ان نتحدث عن عقيدة التوحيد عند العرب قبل الإسلام استنادا إلى ما لدينا من كتابات جاهلية، لعدم ورود شيء عن ذلك. فالنصوص التي وصلت إلينا، هي نصوص فيها أسماء أصنام، وليس فيها مايفهم منه شيء عن التوحيد عند العرب قبل الميلاد وبعده، إلا ما ورد في النصوص العربية الجنوبية المتاخرة من عبادة الإله "ذ سموى" "ذو سموى"، أي صاحب السماء، بمعنى إله السماء. وهي عبادة ظهرت متأخرة في اليمن بتأثير اليهودية والنصرانية اللتين دخلتا اليمن ووجدتا لهما أتباعا هناك، بل حتى هذه العبا دة لا نستطيع أن نتحدث عنها حديثا يقينيا، فنقول انها عبادة توحيد خالص تعتقد بوجود إله واحد على فهو ما يفهمه أهل القول بالتوحيد.
وقد ذكرت جملة "ذ سموى" في نص مع الإله "تالب ربمم" تالب ريام"، رب قبيلة "همدان". ويدل ذكر اسم هذا الإله مع اسم إله آخر على ان عقيدة التوحيد لم تكن قد تركزت بعد، وانها كانت في بدء تكوينها، فلما اختمرت في رؤوس القوم، ذكرت وحدها في النصوص المتأخرة، دون ذكر أسماء الأصنام الأخرى، مما يشير إلى حدوث هذا التطور في العقائد، والى ظهور عقيدة التوحيد والايمان بإله السماء عند جماعة من العرب الجنوبين. وقد أكملت هذه العقيدة بأن صار إله السماء رب السماء والأرض.
ولم يكن "ذ سموى"، "ذ سمى اله"، "ذو السماء إله" أي "صاحب السماء"، أو "إله السماء"، أو "رب السماء"، إله جماعه معينة أو إله قبيلة مخصوصة، بل هو إله ولدته عقيدة جديدة ظهرت في اليمن بعد الميلاد على ما يظن تدعو إلى عبادة إله واحد هو "رب السماء"، فهو إله واحد مقره السماء. ويرى بعض المستشرقين أن هذه العقيدة هي نتيجة اتصال أهل اليمن باليهودية والنصرانية على اثر دخولهما العربية الجنوبية، فظهرت جماعة تأثرت بالديانتين تدعو إلى عبادة إله واحد هو "رب السماء".

(1/3200)


--------------------------------------------------------------------------------

وأما عبادة "الرحمن" "رحمنن"، فهي عبادة توحيد، ظهرت من جزيرة العرب فيما بعد الميلاد. وقد وردت كلمة "رحمنن"، أي "الرحمن"، في نص يهودي كذلك وفي كتابات "ابرهة"، وردت في نصوص عربية جنوبية أخرى وفي نصوص عثر عليها في أعالي الحجاز. وقد كان أهل مكة على علم بالرحمن، ولا شك، باتصالهم باليمن وباليهود. ولعلهم استخدموا الكلمة في معنى الله. وإن ذكر علماء اللغة أو علماء التفسر أن اللفظة لم تكن معروفة عند أهل مكة في الجاهلية.
وقد جاء في النص اليهودي المذكور: "الرحمن الذي في السماء واسرائيل وإله اسرائيل رب يهود". وقد حمل هذا النص بعض الباحثين على القول بأن العرب الجنوبيين قد أخذوا هذه الكلمة وفكرتهم عن الله من اليهودية، وان فكرة التوحيد هذه إنما ظهرت بتأثر اليهودية التي دخلت إلى اليمن. غير ان من الباحثين من رأى خلاف هذا الرأي. رأى ان افتتاح النص بذكر الرحمن، ثم اشارته بعد ذلك إلى إله يهود، وورود كلمة "الرحمن" في نص آخر يعود إلى سنة "468" للميلاد. كتبه صاحبه شكرا للرحمن الذي ساعده في بناء بيته: كل هذه وأسباب أخرى، تناقض رأي القائلين بأن عقيدة الرحمن عقيدة اقتبست من اليهود.
وقد ذكر بعض علماء اللغة ان "الرحمن" اسم من أسماء الله مذكور في الكتب الأول، وأن اللفظة عبرانية الأصل، وأما "الرحيم" فعربية. وذكروا ان "الرحمن" اسم مخصص بالله، لا يجوز أن يسمى به غيره. وقد أنشدوا للشنفرى أو لبعض الجاهلية الجهلاء: ألا ضربت تلك الفتاة هجينها ألا قضب الرحمن ربي يمينها
فيظهر من هذا البيت أن الشاعر كان يدين بعبادة الرحمن. ونجد مثل هذه العقيدة في قول سلامة بن جندل الطهوي: عجلتم علينا عجلتينا عليكم ومايشأ الرحمن يعقدويطلق.

(1/3201)


--------------------------------------------------------------------------------

فإن ذلك يعني أن قوما من الجاهليين كانوا يدينون بعبادة "الرحمن". ومما يؤيد هذا الرأي ما ورد من أن بعض أهل الجاهلية سموا أبناءهم عبد الرحمن، وذكروا أن "عامر بن عتوارة" سمى ابنه "عبد الرحمن".
وقد وردت لفظة "الرحمن" في شعر ينسب إلى "حاتم الطائي" هو: كلوا اليوم من رزق الإله وأيسروا وإن على الرحمان رزقكم غدا
وحاتم من المتألهة، ويعده اليعض من النصارى و "الرحمن" نعت من نعوت الله في النصرانية، من أصل "رحمونو"، Rahmono، فهل عبر شاعرنا بهذه اللفظة عن هذا المعنى النصراني ?
"وقد زعم بعضهم أن العرب لا تعرف الرحمن حتى رد الله عليهم ذلك بقوله: قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى. ولهذا قال كفار قريش يوم الحديبية لما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لعلي: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. فقالوا: لا نعرف الرحمن ولا الرحيم. رواه البخاري. وفي بعض الروايات: لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة".
وذكر أن المشركين سمعوا النبي يدعو ربه، يا رينا الله ويا ربنا الرحمن، فظنوا أنه يدعو إلهين، فقالوا: هذا يزعم أنه يدعو واحدا، وهو يدعو مثنى مثنى. وأن أحدهم سمع الرسول يقول في سجوده: يا رحمن يا رحيم فقال لأصحابه: انظروا ما قال ابن أبي كبشة دعا الرحمن الذي باليمامة. وكان باليمامة رجل يقال له الرحمان.

(1/3202)


--------------------------------------------------------------------------------

ولم يذكر أهل الأخبار شيئا عن ذلك الشخص الذي زعموا انه كان يعرف ب "رحملن اليمامة". لكنهم ذكروا ان "مسيلمة الكذاب"، كان يقال له رحمان اليمامة. فهل عنوا ب "رحمان اليمامة" مسيلمة نفسه، أم شخصا آخر كان يدعو لعبادة "الرحمان" قبله ? وورد ان قريشا قالوا للرسول: "انا قد بلغنا انك إنما يعلمك رجل باليمامة، يقال له الرحمن ولن نؤمن به أبدا". فنزل فيهم قوله: "كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا اليك، وهم يكفرون بالرحمن، قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت واليه متاب". وذكر بعض أهل الأخبار: كلن مسيلمة بن حبيب الحنفي، قد تسمى بالرحمن في الجاهلية، وكان من المعمرين، وذلك قبل أن يولد عبد الله أبو رسول الله.
وورد في بعض أقوال علماء التفسير ان اليهود قالوا: "ما لنا لا نسمع في القرآن اسما هو في التوراة كثير. يعنون الرحمان، فنزلت الاية".
ويرى المستشرقون ان عبادة "الرحمن" "رحمنن"، إنما ظهرت بين الجاهليين بتأثير دخول اليهودية والنصرانية بينهم.
وقد ذكر "اليعقوبي" أن تلبية "قيسى عيلان"، كانت على هذا النحو: "لبيك اللهم لبيك، لبيك أنت الرحمان، أتتك قيس عيلان، راجلها والركبان"وأن تلبية عك والأشعرين، كانت: نحج للرحمان بيتاعجبا مستترا مغببا محجبا
وفي التلبيتين المذكورتين دلالة على اعتقاد القوم بإله واحد، هو الرحمان. ولم ترد لفظة "الرحمان" إلا مفردة، فليس لها جمع، لأنها تعبير عن توحيد، وليس في التوحيد تعدد، فالتعدد شرك. على عكس لفظة "رب"، التي تؤدي معنى إله"، وهي تعبير عن اعتقاد، لا اسم علم لإله، ولذلك وردت لفظة "أرباب" بمعنى آلهة تعبيرا عن تعدد الآلهة، وهو الشرك. وقد كان الجاهليون يقولون: ربي وربك وربنا وأربابنا، كما يقولون إلهي وإلاهلك وآلهتنا.

(1/3203)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد تكون كلمة "ه رحم" "هارحيم"، أي الرحيم" الواردة في النصوص الصفوية وفي النصوص السبئية اسم إله، وقد تكون صفة من صفات الآلهة على نحو ما تؤديه كلمة "الرحيم" من معنى في الإسلام.
وللعلماء آراء في ظهور عبادة الشرك. ورأي رجال الدين منهم، ان الناس كانوا أمة واحدة في الدين، كانوا على التوحيد جميعا، ثم ضلوا فعبدوا جملة آلهة وصاروا مشركين. أما غيرهم من العلماء الذين يستندون إلى الملاحظات ودراسة أحوال القبائل البدائية وعلى فروع العلوم الأخرى المساعدة مثل علم النفس وعلم الاجتماع، فيرون ان عقيدة التوحيد ظهرت متأخرة بالنسبة إلى ظهور الوثنية والشرك. ظهرت بعد أن توسعت مدارك الإنسان، فشعر أن ما كان يتصوره من وجود قوى روحانية عليا في الأشياء التي عبدها لم يكن سوى وهم وخداع، وصار يقتصد في الشرك، إلى أن اهتدى إلى عبادة إله واحد.
ظهور الشرك
هناك عدة عوامل دعت إلى ظهور الشرك، أي تعدد الآلهة، وأثرت في تعدد الآلهة. هناك عوامل طبيعية وعوامل رسية Characteristics، وعوامل سياسية وعوامل تاريخية واجتماعية واقتصادية وعو امل اخرى، كل هذه أثرت في شكل الشرك وفي تعدد الآلهة وفي كيفية تصور الناس لآلهتهم. ولا يعني هذا انها اثرت كلها مجتمعة وفي آن واحد، إنما يعنى ان ظهور الشرك وشكله هو نتيجة غوامل متعددة واسباب مختلفة أثرت في ظهوره وفي تكوين صورة الآلهة في نظر المؤمنين بها المتعبدين لها.

(1/3204)


--------------------------------------------------------------------------------

وإنا لنجد وجهة نظر الشعوب عن الآلهة أو الإله تختلف باختلاف ثقافتها ومستواها الاجتماعي، وللوضع السياسي دخل كبير في الشرك وفي عدد الالهة وفي شكل الدين. لقد كان لكل قبيلة إله خاص بتلك القبيلة يحميها من الأعداء ومن المكاره، ويدافع عنها في الحروب والملمات، ويعطيها النصر. كما كان للقرى والمدن آلهتها الخاصة بها. فإذا تحالفت القبائل أو القرى أو المدن تحالفت آلهتها معها، وكو نت حلفنا وصداقة متينة بينها. أما إذا تحاربت هذه القبائل أو القرى او المدن، فيكون لهذه الحرب أثر كببر في مستقبل الآلهة وفي عددها. فقد ينصرف المغلوبون عن آلهتهم إلى عبادة آلهة أخرى، لأنها أصبحت ضعيفة لا قدرة لها على الدفاع عن عبدتها. وقد يتأثر الغالبون بعبادة المغلوبين الذين خضعوا لهم، فيضيفون آلهة المغلوبين إلى آلهتهم، فيزيد بذلك عدد الآلهة، ولا سيما إذا كان المغلوبون أصحاب ئقافة عالية، وكان لهم ادب وفن.
والعادة أن آلهة القبائل أو المدن الرئيسية تكون هي الآلهة الرئيسية للحلف أو في المملكة. ويكون إله القبيلة ذات النفوذ أو العاصمة عندئذ، هو إله الحكومة الكبير. أما الالهة الأخرى، فتكون دونه في المنزلة، ولهذا يرد اسمها في الغالب بعد اسم الإله الكبير.
كذلك يجب ألاننسى عامل الجوار والاتصال الثقافي في ظهور الشرك، فكثيرا ما يؤدي هذا الاتصال إلى اقتباس آلهة المجاورين واضافتها إلى مجموعة الآلهة عند ذلك الشعب، فيزيد بذلك عدد الالهة أو ينقص. فقد تطغى الألهة الجديدة المقتبسة على الآلهة القديمة، ويقل شأن بعضها فيهمل، ثم يموت اسمها. وقد يحدث ذلك بطريق الحرب أيضا، كما ذكرت، فيتغير العدد بذلك.

(1/3205)


--------------------------------------------------------------------------------

ولرجال الدين ولسادات القبائل ع وللأمراء وللملوك أثر في ظهور الشرك. كان في إمكانهم اقرار مستقبل الألهة بإضافة آلهة جديدة على الآلهة القديمة، أو بابعاد إله " أو آلهة عن عبادة قومهم، فيزيد أو ينقص بذلك عدد ألآلهة. وقد كان سادات القبائل والوجوه يغيرون عبادة أتباعهم بإدخال عبادة إله جديد، يأخذونه من زيارتهم لبلد غريب، كأن يكون أحدهم قد أصيب بمرض وهو في ذلك البلد، فيشار عليه بالتعبد وبالتقرب لإله ذلك البلد أو لأحد آلهته، فيصادف أن يشفى، فيظن أنه شفى ببركة ذلك الإله وبقدرته وقوته، فيتقرب له ويتعبد له، فإذا أعاد حمل عبادته إلى أتباعه، فيعبد عندهم. ويضاف على آلهتهم، ويصير أحدهم وقد يطغى اسمه عليها، وذلك حسب درجة تعلق سيد القبيلة به، وحسب درجة ومكانة" سيد القبيلة بين الناس. وتأريخ الجاهلية مليء بحوادث تبديل آلهة بسبب تبديل سادات القبائل ووجوه الناس لعقائدهم ولآلهتهم، فتدخل القبيلة كلها في العبادة الجديدة. وقد كان اسلام قبائل برمتها، بسبب دخول سيدها في الإسلام، فالناس تبع لساداتهم ولقادتهم، و " الناس على دين ملوكهم " كما هو معروف ومشهور في أقوال العرب.
ومعظم أسماء الآلهة صفات للآلهة لا اسم علم لها، فود ورضى والمقه وذات حميم وأمثالها، هي صفات في الأصل، مضى عليها الزمن، فاستعملت استعمال الأسماء الأعلام. وظن أنها آلهة قائمة بذاتها. فلما جاء الباحثون وجمعوها حسبوها أسماء آلهة، فزاد بذلك عدد الآلهة، واعتبرت الأسماء الكثيره من سيماء الإفرإط في الشرك. بينما هي صفات لإله، أو آلهة لا يزيد عددها على ثلاثة، هي الثالوث الكواكبي المقدس الذي تعبدوا له.

(1/3206)


--------------------------------------------------------------------------------

ولا بد لنا من الإشارة إلى اصطلاح أطلقه "ماكس مولر" Max Muler على مرحلة من العبادة هي بين بين، لا هي توحيد Monotheism ولا هي شرك Polytheism، بل هي مرحلة تعبد فيها الإنسان على رأى هذا الباحث إلى إله واحد هو إله القبيلة، مع الاعتقاد بوجود آلهة أخرى. وهذا الاصطلاح هو Henotheismus. وقد رأى "فلا يدلر" Pfleidler أن الساميين لم يكونوا-موحدين بطبعهم كما ذهب "رينان" إلى ذلك، بل كانوا يدينون بإله قومي، ومن هذه العقيدة ظهر التوحيد الخالص كما حدث عند الاسرائيليين.
وفي القرآن الكريم إشارات إلى أنواع من الشرك كان عليه الجاهليون، وفيه تعريف لمعنى الشرك، فالشرك في قوله تعالى: )أيشركون ما لايخلق شيئاوهم يخلقون، ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون( عبادة الأصنام المصنوعة من الحجارة أو الخشب أو المعادن، أي مما لا روح له وقابل للكسر. وفي بعض الآيات أن من أنواع الشرك القول بأن الجن هم شركاء لله. ومن أنواعه أيضا القول بأن الملائكة هم شركاء لله وبناته. وفي آيات أخرى.ان من الشرك اتخاذ آلهة أخرى مع الله. والالهة هنا شيء عام. فيه تاليه الكواكب وعبادة الأشياء غير المنظورة، أي غير المادية وعبادة الأصنام.
وفي القرآن الكريم جواب عن فلسفة القوم وتعليلهم لعبادة الأصنام واتخاذهم "أولياء" من دون الله، إذ يقولون جوابا عن الاعتراض الموجه اليهم في عبادة غر الله: )والذين اتخذوا من دونه أولياء. ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى. ان الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون"(. ويتبين من هذه الاية ومن آيات أخرى ان فريقا من العرب كانوا يعتقدون بوجود الله، وانه هو الذي خلق الخلق، وأن له السيطرة على تصرفات عباده وحركاتهم، ولكنهم عبدوا الأصنام وغيرها، واتخذوا الأولياء والشفعاء لتقربهم إلى الله زلفى.

(1/3207)


--------------------------------------------------------------------------------

وفي كتاب الله مصطلحات لها علاقة بعبادة الشرك، منها "شركاء" جمع "شريك"، وهو من اتخذه المشركون شريكا مع الله. و "أنداد" "ومن الناس من يتخذ من دون الله اندادا يحبونهم كحب الله" " وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله. قل: تمتعوا، فإن مصيركم ا إلى النار". و "أولياء" و "ولي" و "وليا" و "شفعاء" و "شهداء". فهذه الكلما ت وأمثالها تعبر عن عقائد الجاهليين قبيل الإسلام. وعن اعتقادهم في عبادة أشياء اخرى مع الله كانوا يرون انها تستحق العبادة، وانها في مقابل الله في العرف الإسلامي، أو انها شركاء في ادارة الكون أو انها مساعدة لله.
والشرك في تفسير العلماء المسلمين، أن تعدل بالله غيره، فتجعله شريكا له. فهو يشمل أشياء عديدة. منها عبادة الكواكب، أي عبادة القوى الطبيعية، وعبادة الجن والملائكة والأمور الخفية، ويمعنى آخر عبادة القوى الخفية، أو القوى الروحية، وعبادة الأمور المادية كالأصنام والأحجار، باعتبار انها تشفع للانسان عند الالهة، وعبادة الإنسان والحيوان، إلى غير ذلك من عبادات.
ومن العبادات التي يجب أن يشار اليها عبادات اصطلح علماء الأديان على تسميتها بمسميات حديثة، تمثل عقائد قديمة، ولبعضها أتباع أحياء يرزقون. ولبعض منها آثار ومظاهر، دخلت في الأديان الباقية، وصبغت بصبغتها، وهي من بقايا العقاثد الدينية البدائية التي رسخت في النفوس وفي القلوب حتى صار من الصعب على الإنسان أن يتخلص منها، فبقيت راسخة تحت مسميات جديدة. ومن تلك العقائد: ال Shamanism و Tatemism،و Fetishism، و Ancestor-worshipو Animism، وغيرها من مسميات سيرد الحديث عنها في هذا الكتاب.

(1/3208)


--------------------------------------------------------------------------------

أما اد "شمانية"، فقد أخذت من كلمة "شمن" Saman ومعناها كاهن أو طبيب "شمان"، أو من كلمة Shemen التي معناها صنم أو معبد، أو من أصل آخر. ويراد بها اليوم ديانة تعبد بالشرك، أي تعدد الآلهةPolythesim، أو بعبادة الأرواح Polydomonism مع عبادة الطبيعة Nature - worship لاعتقادها بوجود أرواح كامنة فيها. ويعتقد في هذا الدين أيضا بوجود إله أعلى هو فوق جميع هذه الأرواح والقوى المؤلهة، وبتأثير السحر.
ويستعين ال "شمن"، وهو الكاهن أي رجل الدين، بالقوى الخارقة التي لديه والتي لا يملكها الرجل الاعتيادي في اعتقاد أبناء هذه العقيدة في الاتصال با الأرواح وبما وراء الطبيعة للتأثير فيها. ولدى هذا الكاهن أرواح مأمورة بين يديه للقيام بما يطلب منها القيام به. وهو يمارس أعمالا سحرية للتأثير في الأرواح. فالسحر في هذا الدين أهمية ومقام. ويقوم ال "شمن" عند أكثر المتدينين بهذا الدين بأعمال اطبيب.
وأما "الطوطمية"، فقد تحدثت عنها في الجزء الأول من هذا الكتاب..وقد بينت عقيدتها في "الطوطم"، ورأي ألعلماء في كيفية ظهور المجتمع "الطوطمي"، وهو مجتمع يقوم على أساس الجماعة أو القبيلة، يرتبط أفراده برباط ديني مقدس، هو رباط "الطوطم"، رمز الجماعة.
وأما ال Fetishism من أصل Factitus، بمعنى السحر، اي القوة المؤثرة الخفية،Magic، فالباحثين في تاريخ الأديان آراء متعددة في تعريفها وفي تثبيت حدودها. والرأي الغالب الشائع بينهم انها عبادة أو تقديس للأشياء المادية الجامدة التي لا حياة فيها لاعتقاد أصحابها بوجود قوة سحرية فيها ؛ وقوى غير منظورة في تلك الأشياء تلازمها ملازمة مؤقتة أو دائمة. ويحمل Fetish "البد" لجلب السعد إلى صاحبه. وهو في نظر "تيلور" Dr. Tylor بمثابة "إله البيت" وقوة فاعلة خفية تطرد الخبائث. عن صاحبه، وتجلب الخير له. ولحدوث الأحلام ونشوئها في نظر الأقوام البدائية دخل كبير في رأي العلماء في ظهور هذه العقيدة.

(1/3209)


--------------------------------------------------------------------------------

وأصحاب هذه العقيدة لا ينظرون الى تلك الأشياء المادية على انها نفسها ذات قوة فعالة خفية، وانها الرمز أو الصورة للاله المنسوب ذلك الشىء اليه، بل هم يرون ان تلك الأشياء لسمت سوى منازل أو مواضع لاستقرار تلك القوى المؤثرة التي يكون لها دخل في إسعاد الإنسان. وهو يقدس الأشياء المادية كالحجارة مهما كانت صغيرة أو كبيرة، مهندمة ومصقولة صقلتها يد الإنسان، ومستها أو لم تمسها يد، بل كانت على نحو ما وجدها في شكلها الطبيعي لأنه حينما يتقرب إلى تلك الحجارة، لا يتقرب اليها نفسها، بل يتقرب إلى الروح التي تحل فيها.
فالروح هي المعبودة، لا الحجر الذي تحل الروح فيه، وليس الحجر أو المواد الأخرى إلا بيتا أو فندقا تنزل الروح فيه.
أما عبادة الأسلافAncestor worship، فهي فرع من أهم فروع، الدين في نظر بعض العلماء، بل هي الأساس الذي قام عليه الدين،في نظر آخرين،ولا سيما عند "سبنسر" H. Spencer. وأما الأسباب التي دعت البشر إلى هذه العبادة، فهي الحب والتقدير للابطال والرؤساء والأمل في استمرار دفاعهم عنهم وحمايتهم للجماعة التي تنتمي اليها كما كانت تفعل في حياتها ورد أذى الاعداء الأموات منهم والأحياء. فتمجيد الأبطال والخوف منهم، هو الذي حمل البشر على عبادة الأسلاف، على رأي. وهناك من رأى إن تمجيد الأبطال والاشادة بذكرهم، هو الذي أوجد هذه العبادة، ومنهم من نسبها إلى الخوف منهم حسب.
وسواء أكان منشأ هذه العبادة الحب والتقدير أو الخوف أو كلاهما،فأن. أساس هذه العقيدة هو إلايمان ببقاء الروح، روح إلميت، وان بإمكان هذه الروح نفع الأحياء أو إلحاق الأذى بهم. ورؤية الأحياء وسماع توسلاتهم ودعواتهم لها.

(1/3210)

admin
01-01-2011, 01:35 AM
فالميت وإن كان قد دفن،في قبره وغيب بين التراب، إلآ انه يسمع ويعي، فروحه حية وبإمكانه النفع والضر. وهذه العقيدة هي التي حملت بعض الشعوب على مخاطبة الأرواح من فجوات مخصوصة في الأرض ومن مواضع أخرى لاستشارتها في بعض الأمور التي تهمها، وللتحدث معها ?في مسائل خطيرة كتقديم مشورة أو أخذ رأي أو استفسارعن اسم قاتل أو سارق. ولهذه الغاية اتخذت مواضع مقدسة Oracle يتقرب فيها إلى الأرواح وللاستفسار منها. فكان في اليونان مثلا موضع شهير عرف بإسمThesprotia، وموضع آخر عرف بأسمPhigalia في "أركاديا" Arcadia. وكان في ايطاليا موضع للتنبؤ يقع على بحيرة "أفبرنوس"Avernus وكانت العامة في هذا الموضع أن يتقرب الراغبون في استشارة الأرواح إلى الموضع المقدس بتقديم ضحية، وعندئذ ينام الساثل في الموضع المقدس، فتظهر له الروح في المنامء، فتحدثه بما يحتاج اليه.
ولعبادة السلف علاقة بعبادة الأصنامIdolatry. ويلاحظ ان عبادة السلف تقود أتباعها في بعض الأحيان إلى الاعتقاد بأن قبيلتهم تنتمي إلى صلب جد واحد، أصله حيوان في رأي الأكثرين، أو من النجوم في بعض الأحيان. وهذا مايجعل هذه العقيدة قريبة من "الطوطمية".
ولهذه العبادة أثر كبير في نظام أصحابها الاجتماعي، إذ هي تربط الأجيال الحاضرة بالأجيال الماضية بروابط متينة، وتؤلف من أصحاب هذا المذهب وحدة قوية، كما ان لها أثرا مهما في الأسرة، فهي في الواقع عبادة تخص الأسرة قبل كل شيء.
ومعارفنا عن عبادة السلف عند الجاهليين قليلة، ويمكن أن نستنتج من أمر النبي بتسوية القبور ونهيه عن اتخاذها مساجد ومواضع للصلاة ان الجاهليين كانوا يعبدون أرواح أصحاب هذه القبور ويتقربون اليها. ولعل في عبارة "قبر ونفس" أو "نفس وقبر" الواردة في بعض النصوص الجاهلية ما يؤيد هذا الرأي، فإن النفس هي الروح.

(1/3211)


--------------------------------------------------------------------------------

ومن اثار عبادة السلف عند العلماء حلق الرأس وإحداث جروح فئ الجسد واحتفالات دفن الموتى ولبس المسوح والعناية بالقبور والصلاة عليها أو إقامة شعائر دينية فوقها أو علإمات خاصة بالميت أو الموتى للتقديس. ونحن اذا استعرضنا روايات الأخباريين. نجد آثار هذه العبادة معروفة بين الجاهليين.
وقد أشار أهل الاخبار إلى قبور اتخذت مزارات،كانت لرجال دين ولسادات قبائل يقسم الناس بها، ويلوذون بصاحب القبر ويحتمون به، كالذي كان من أمر ضريح "تميم بن مر "، جد "تميم"، وكالذي ذكروه من أمر "لللات" من أنه كان رجلا في الأصل، اتخذ قبره معبدا ثم تحول الرجل إلى صنم. ونجد في كتب الحديث نهيا عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها. وقد أشارت إلى اتخاذ اليهود والنصارى قبور سادتهم وأوليائهم مساجد، تقربوا اليها، لذلك نهي أهل الإسلام من التشبه بهم في تعظيم القبور، كما نهى عن تكليل القبور وتجصيصها، والتكليل رفع القبر وجعله كالكلة، وهي الصوامع والقباب التي تبنى على القبور.
وأما Animism، فهو اعتقاد بوجود أرواح مؤثرة في الطبيعة كلها Nature، ولذلك يؤله كثيرا من المظاهر الطبيعية المرئية وغير المرئية منها، لاعتقاده بوجود قوى هي فوق الطبيعية، منها ما يكون في جسم، وهو "النفس" Saul منها ما لا يكون في الأجسام وهو "الروح" Spirit.
ويمكن تقسيم هذه للعبادة إلى ثلائة أصناف: عبادة النفس، نفس الإنسان أو الحيوان وخاصة منها عبادة الأموات Necrology، وعبادة الأرواح Spiritism، وعبادة الأرواح التي تحل في المظاهر الطبيعية، إما بصورة مؤقتة وإما بصورة دائمة Naturism.

(1/3212)


--------------------------------------------------------------------------------

والاراء في هذه المعتقدات لا تزال في مراحلها الأولى، وهي موضع جدل بين العلماء، لأنها قائمة على أساس الملاحظات والتجارب التي حصلوا عليها من دراساتهم لأحوال المجتمعات البدائية لهنود امريكا ولقباثل افريقية واسترالية، ولا يمكن بالطبع حدوث اتفاق في الدراسات الاستقصائية المبنية على المشاهدات والملاحظات. وإذ كانت هذه الدراسات غير مستقرة وغير نهائية حتى الآن، فقد صعب بالطبع تطبيقها على معتقدات العرب قبل الإسلام، وزاد في هذه الصعوبة قلة معلوماتنا في هذه الأمور. وليس من الممكن في نظري أن نتوصل إلى نتائج علمية غير قابلة للاخذ والرد في هذه الموضوعات في الزمن الحاضر، بل ولا في المستقبل القريب، ما لم يحدث ما ليس في الحسبان، من ألعثور على نصوص دينية تكشف لنا عن عقائد الجاهليين.
ونستطيع ان نقول إجمالا ان من الجإهليين من كان يدين بعبادة الأرواح على اختلاف طرقها، وبؤمن بأثرها. وللعلماء من مفسرين ولغويين وغيرهم تفاسير عديدة للروح، تفيدنا كثيرا في معرفة آراء الجاهليين عنها، كما ان للاخبارين قصصا عنها وعن استقلالها وانفصالها عن الجسد بعد الموت واتصالها بالقبر وغير ذلك، يمكن أن تكون موضوع دراسة قيمة لمن يربد التبسط في دراسة هذه ا لأمور.
عبادة الكواكب
وقد رأى بعض العلماء ان عبادة أهل الجاهلية هي عبادة كواكب في الأصل. وأن أسماء الأصنام والالهة، وإن تعددت وكثرت، إللا انها ترجع كلها إلى ثالوث سماوي، هو: الشمس والقمر والزهرة. وهو رمز لعائلة صغيرة، تتألف من أب هو القمر، ومن أم هي الشمس، ومن ابن هو الزهرة. وذهبوا إلى أن أكثر أسماء الالهة، هي في الواقع نعوت لها، وهي من قبيل ما يقال له الأسماء الحسنى لله في الإسلام.

(1/3213)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد لفت الجرمان السماويان: الشمس والقمر، نظر الإنسان اليهما بصورة خاصة، لما أدرك فيهما من أثر في الإنسان وفي طباعه وسحنه وعمله، وفي الجو الذي يعيش فيه، وفي حياة زرعه وحيوانه، وفي تكوين ليله ونهاره والفصول التي تمر عليه. فتوصل بعقله يوم ذاك إلى انه نفسه، وكل ما يحيط به، من فعل هذين الجرمين ومن أثر أجرام أخرى أقل شأنا منهما عليه. فنسب اليها نموه وتكوينه وبرءه وسقمه، وحياة زرعه وماشيته، ورسخ في عقله انه إن تقرب وتعبد لهما، ولبقية الأجرام، فإنه سيرضيها، وستغدق عليه بالنعم والسعادة والمال والبركة في البنين، فصار من ثم عابد كوكب.
ونجد في حكاية كيفية اهتداء "ابراهيم" إلى عبادة إله واحد، الواردة في سورة الأنعام، تفسيرا لسبب تعبد الإنسان للأجرام إلسماوية. )وإذ قال ابراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما الهة ? إني أراك وقومك في ضلال مبين. وكذلك نري ابراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين. فلما جن عليه الليل، رأى كوكبا، قال: هذا ربي، فلما أفل، قال: لا أحب الآفلين. فلما رأى القمر بازغا، قال: هذا ربي، فلما أفل، قال: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين. فلما رأى الشمس بازغة، قال: هذا ربي، هذا أكبر، فلما أفلت، قال: يا قوم إني بريء مما تشركون. إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين (. فقد لفت ذلك الكوكب نظر ابراهيم، وبهره بحسن منظره وبلونه الزاهي الخالب، فتعبد له، واتخذه ربا، فلما أفل، ورأى كوكبا آخر أكبر حجما وأجمل منظرا منه، تركه، وتعبد للكوكب الاخر، وهو القمر. فلما أفل، ورأى الشمس بازغة، وهي أكبر حجما وأظهر أثرا وأبين عملا في حياة الإنسان وفي حياة زرعه وحيوانه وجوه ومحيطه، ترك القمر وتعبد للثسس، فيكون قد تعبد لثلاثة كواكب، قبل أن يهتدي إلى التوحيد، هي القمر والشمس، والمشتري أو الزهرة على ما جاء في أقوال المفسرين.

(1/3214)


--------------------------------------------------------------------------------

ويشير القرآن الكريم في موضع آخر إلى عبادة الجاهليين للاجرام السماوية، ولا سيما الشمس والقمر، ففيه: ) ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر، لا تسجدوا للشمس ولا للقمر، واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون ) وهذه الأجرام السماوية الثلاثة هي الأجرام البارزة الظاهرة التي بهرت نظر الإنسان، ولا سيما الشمس والقمر. والزهرة، وإن كانت غير بارزة بروز الشمس والقمر، غير أنها ظاهرة واضحة مؤثرة بالقياس إلى بقية الأجرام ذات مظهر جذاب، ولون باهر خلاب، وقد يكون هذا المظهر الجميل الأخاذ هو الذي جعلها ابنا للشمس والقمر في أساطير العرب الجنوبيين واعتبر الجاهليون القمر أبا في هذا إلثالوث، وصار هو الإله المقدم فيه، وكبير الألهة. وصارت له منزلة خاصة في ديانة العرب الجنوبيين. وهذا ما حدا ببعض المستشرقين إلى إطلاق ديانة القمر على ديانة العرب الجنوبيين على سبيل التغليب، وعلى الذهاب إلى لن هذا المركز الذي يحتله القمر في ديانة العربية الجنوبية لا نجدة في أديان الساميين الشماليين، مما يصح أن تجعله من الفروق المهمة التي تميز الساميين الجنوبيين عن الساميين الشماليين.

(1/3215)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرجع أولئك المستشرقون هذا التباين الظاهر ين عبادة الساميين الجنوبيين وعبادة الساميين الشماليين وتقدم القمر على الشمس عند العرب الجنوبيين إلى الاختلاف في طبيعة الأقاليم والى التبآين في الثقافة، ففي العربية الجنويية يكون القمر هاديا للناس ومهدئا للاعصاب، وسميرا لرجال القوافل من التجار وأصحاب الأعمال في الليالي اللطيفة المقمرة، بعد حر شديد تبعثه أشعة الشمس المحرقة، فتشل الحركة في النهار، وتجعال من الصعب على الناس الاشتغال فيه، وتميت من يتعرض لأشعتها الوهاجة في عز الصيف القايظ. إنها ذات حميم حقا، فلا عجب إذا ما دعيت ب "ذت حمم"، "ذات حميم"، "ذات الحميم" عنداللعرب الجنوبيين. ولذلك، لا يستغرب إذا قدمه العرب الجنوبيون في عبادتهم على الشمس، وفضلوه عليها. واذا كانت الشمس مصدرا لنمو النباتات نموا سريعا في شمال جزيرة العرب، فإن أشعة الشمس الوهاجة المحرقة تقف نمو أكثر المزروعات في صيف العربية الجنوبية، وتسبب جفافها واختفاء الورد والزهر في هذا الموسم، فلا بد أن يكون لهذه الظاهرة أثر في العقلية التي كونت تلك الأساطير.
ويرى "هومل" أن ديانات جميع الساميين الغربين والعرب الجنوببين هي ديانة عبادة القمر أي أن القمر فيها مقدم على الشمس، وهو عكس ما نجده في ديانة البابليين. ويعلل ذلك ببقاء الساميين الغربيين بدوا مدة طوبلة بالقياس الى البابليين. ويلاحظ أيضا أن الشمس هي أنثى، وأما القمر فهو ذكر عند الساميين الغربيين، وهو بعكس ما نريده عند البابليين.

(1/3216)


--------------------------------------------------------------------------------

ونجد في حكاية كيفية اهتداء "ابراهيم" إلى عبادة إله واحد، الواردة في سورة الأنعام، تفسيرا لسبب تعبد الإنسان للأجرام إلسماوية. )وإذ قال ابراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما الهة ? إني أراك وقومك في ضلال مبين. وكذلك نري ابراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين. فلما جن عليه الليل، رأى كوكبا، قال: هذا ربي، فلما أفل، قال: لا أحب الآفلين. فلما رأى القمر بازغا، قال: هذا ربي، فلما أفل، قال: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين. فلما رأى الشمس بازغة، قال: هذا ربي، هذا أكبر، فلما أفلت، قال: يا قوم إني بريء مما تشركون. إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين (. فقد لفت ذلك الكوكب نظر ابراهيم، وبهره بحسن منظره وبلونه الزاهي الخالب، فتعبد له، واتخذه ربا، فلما أفل، ورأى كوكبا آخر أكبر حجما وأجمل منظرا منه، تركه، وتعبد للكوكب الاخر، وهو القمر. فلما أفل، ورأى الشمس بازغة، وهي أكبر حجما وأظهر أثرا وأبين عملا في حياة الإنسان وفي حياة زرعه وحيوانه وجوه ومحيطه، ترك القمر وتعبد للثسس، فيكون قد تعبد لثلاثة كواكب، قبل أن يهتدي إلى التوحيد، هي القمر والشمس، والمشتري أو الزهرة على ما جاء في أقوال المفسرين.

(1/3217)


--------------------------------------------------------------------------------

ويشير القرآن الكريم في موضع آخر إلى عبادة الجاهليين للاجرام السماوية، ولا سيما الشمس والقمر، ففيه: ) ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر، لا تسجدوا للشمس ولا للقمر، واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون ) وهذه الأجرام السماوية الثلاثة هي الأجرام البارزة الظاهرة التي بهرت نظر الإنسان، ولا سيما الشمس والقمر. والزهرة، وإن كانت غير بارزة بروز الشمس والقمر، غير أنها ظاهرة واضحة مؤثرة بالقياس إلى بقية الأجرام ذات مظهر جذاب، ولون باهر خلاب، وقد يكون هذا المظهر الجميل الأخاذ هو الذي جعلها ابنا للشمس والقمر في أساطير العرب الجنوبيين واعتبر الجاهليون القمر أبا في هذا إلثالوث، وصار هو الإله المقدم فيه، وكبير الألهة. وصارت له منزلة خاصة في ديانة العرب الجنوبيين. وهذا ما حدا ببعض المستشرقين إلى إطلاق ديانة القمر على ديانة العرب الجنوبيين على سبيل التغليب، وعلى الذهاب إلى لن هذا المركز الذي يحتله القمر في ديانة العربية الجنوبية لا نجدة في أديان الساميين الشماليين، مما يصح أن تجعله من الفروق المهمة التي تميز الساميين الجنوبيين عن الساميين الشماليين.

(1/3218)


--------------------------------------------------------------------------------

ويرجع أولئك المستشرقون هذا التباين الظاهر ين عبادة الساميين الجنوبيين وعبادة الساميين الشماليين وتقدم القمر على الشمس عند العرب الجنوبيين إلى الاختلاف في طبيعة الأقاليم والى التبآين في الثقافة، ففي العربية الجنويية يكون القمر هاديا للناس ومهدئا للاعصاب، وسميرا لرجال القوافل من التجار وأصحاب الأعمال في الليالي اللطيفة المقمرة، بعد حر شديد تبعثه أشعة الشمس المحرقة، فتشل الحركة في النهار، وتجعال من الصعب على الناس الاشتغال فيه، وتميت من يتعرض لأشعتها الوهاجة في عز الصيف القايظ. إنها ذات حميم حقا، فلا عجب إذا ما دعيت ب "ذت حمم"، "ذات حميم"، "ذات الحميم" عنداللعرب الجنوبيين. ولذلك، لا يستغرب إذا قدمه العرب الجنوبيون في عبادتهم على الشمس، وفضلوه عليها. واذا كانت الشمس مصدرا لنمو النباتات نموا سريعا في شمال جزيرة العرب، فإن أشعة الشمس الوهاجة المحرقة تقف نمو أكثر المزروعات في صيف العربية الجنوبية، وتسبب جفافها واختفاء الورد والزهر في هذا الموسم، فلا بد أن يكون لهذه الظاهرة أثر في العقلية التي كونت تلك الأساطير.
ويرى "هومل" أن ديانات جميع الساميين الغربين والعرب الجنوببين هي ديانة عبادة القمر أي أن القمر فيها مقدم على الشمس، وهو عكس ما نجده في ديانة البابليين. ويعلل ذلك ببقاء الساميين الغربيين بدوا مدة طوبلة بالقياس الى البابليين. ويلاحظ أيضا أن الشمس هي أنثى، وأما القمر فهو ذكر عند الساميين الغربيين، وهو بعكس ما نريده عند البابليين.

(1/3219)


--------------------------------------------------------------------------------

والشمس، هي من أول الأجرام السماوية التي لفتت اليها أنظار البشر بتأثيرها في الإنسان وفي الزرع والنماء. وهذا التاثير البارز جعل البشر يتصور في الشمس قدرة خارقة وقوة غير منظوره كامنة فيها، فعبدها وألهها، وشاد لها المعابد، وقدم لها القرابين. وهي عبادة فيها تطور كبير ورقي في التفكير إذا قيست بالعبادات البدائية التي كان يؤديها الإنسان للاحجار والنباتات والأرواح.
وقد تعبد العرب للشمس في مواضع مختلفة في جزيرة العرب. وترجع عبادتها إلى ما قبل الميلاد، في زمن لا نستطيع تحديده، لعدم وجود نصوص لدينا يمكن أن تكشف لنا عن وقت ظهور عبادة الشمس عند العرب. وعبدها أقوام آخرون من غير العرب من الساميين، مثل البابليين والكنعانيين والعبرانيين. وقد أشير في مواضع عديدة من العهد القديم الى عبادة الشمس بين العبرانيين، وجعل الموت عقوبة لمن يعبد الشمس. ومع ذلك، عبدت في مدن يهوذا. وقد اتخذت جملة مواضع لعبادة الشمس فيها عرفت ب "بيت شمس" Beth Shemesh.
والشمس أنثى في العربية، فهي إلهة، أما في كتابات تدمر فهي مذكر، ولذلك فهي إله ذكر عند التدمريين. ويرى " ولهوزن" Wellhousen أن ذلك حدث بمؤثرات خارجية. وكانت عبادة الشمس شائعة بين التدمريين. وورد في الكتابات التي عثر عليها في "حوران" أسماء أشخاص مركبة من شمس وكلمة أخرى، ويدل على ذلك شيوع عبادتها عند أهل تلك المنطقة. وذكر "سترابو"أن Helios أي الشمس، هي الإله الأكبر عند النبط.. ولكن الكتابات النبطية لا تؤيد هذا الرأي. والإله الأكبر فيها هو "اللات". فلعل "سترابو" قصد ب Helios اللات. وإذا كان هذا صحيحا، فتكون اللات هي الشمس.
والشمس من الأصنام التي تسمى بها عدد من الأشخاص، فعرفوا ب "عبد شمس".

(1/3220)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذكر إلأخباريون أن أول من تسمى به سبأ الأكبر، لأنه أول من عبد الشمس، فدعي ب" عبد شمس". وقد ذكر ان بني تميم تعبدت له. وكان له بيت، وكانت تعبده بنو أد كلها: ضبة، وتميم، وعدي، وعطل: وثور، وكان سدنته من بني أوس بن مخاشن ين معاوية ين شريف بن حروة ابن أسيد بن عمرو بن تميم، فكسره هند بن أبي أهالة وصفوان بن أسيد بن الحلاحل بن أوس بن مخاشن.
وذكر أن "عبد شمس"، اسم أضيف إلى شمس السماء، لأنهم كانوا يعبدونها. والنسبة "عبشمي." وكانت العرب تسمي الشمس "الإلهة" تعظيما لها، كما يظهر ذلك من هذا الشعر: تروحنا من اللعباء قسرا فاعجلنا الإلاهة أن تؤوبا
على مثل ابن مية فانعياه تشق نواعم البشر الجيوبا
ويقال لها "لاهة" بغير ألف ولام.
وعرفت الشمس ب " ذكاء" عند الجاهليين. وقد تصور أهل الجاهلية الصبح ابنا للشمس تارة، وتصوروه تارة حاجبا لها. فقيل حاجب الشمس. وقيل يقال للصبح ابن ذكاء لأنه من ضوئها.
وكانوا يستقبلون الشمس ضحى. ذكر " الأسقع " الليثي، انه خرج إلى والده، فوجده جالسا مستقبل الشمس ضحى، وإذا تذكرنا ما أورده اهل الأخبلر عن صلاة الضحى، وهي صلاة كانت تعرفها قريش، ولم تنكرها، أمكننا الربط بين استقبال الشمس ضحى وبين هذه الصلاة.
وقد لاحظ بعض السياح ان آثار عبادة الشمس والقمر لاتزال كامنة في نفوس بعض الناس والقبائل،حيث تتجلى في تقدير هذين الكوكبين وفي تأنيب من يتطاول عليهما بالشتم أو بكلام مسيء وفي تعظيمها من بين سائر الكواكب تعظيما يشيرإلى انه من بقايا الوثنية القديمة على الرغم من إسلام أولئك المعظمين.

(1/3221)


--------------------------------------------------------------------------------

ويلي الشمس والقمر "الزهرة"، وهي ذكر في النصوص العربية الجنوبية، ويسمى "عثتر". وهو بمثابة "الابن" للشمس والقمر. وهذا الثالوث الكوكبي يدل، في رأي الباحثين في أديان العرب الجنوبيين، على أن عبادة العربية الجنوبية هي عبادة نجوم. وهو يمثل في نظرهم عائلة إلهية مكونة من ثلاثة أرباب، هي: الأب وهو القمر، والأبن وهو الزهرة، والأم وهي الشمس.
والشمس، هي من أول الأجرام السماوية التي لفتت اليها أنظار البشر بتأثيرها في الإنسان وفي الزرع والنماء. وهذا التاثير البارز جعل البشر يتصور في الشمس قدرة خارقة وقوة غير منظوره كامنة فيها، فعبدها وألهها، وشاد لها المعابد، وقدم لها القرابين. وهي عبادة فيها تطور كبير ورقي في التفكير إذا قيست بالعبادات البدائية التي كان يؤديها الإنسان للاحجار والنباتات والأرواح.
وقد تعبد العرب للشمس في مواضع مختلفة في جزيرة العرب. وترجع عبادتها إلى ما قبل الميلاد، في زمن لا نستطيع تحديده، لعدم وجود نصوص لدينا يمكن أن تكشف لنا عن وقت ظهور عبادة الشمس عند العرب. وعبدها أقوام آخرون من غير العرب من الساميين، مثل البابليين والكنعانيين والعبرانيين. وقد أشير في مواضع عديدة من العهد القديم الى عبادة الشمس بين العبرانيين، وجعل الموت عقوبة لمن يعبد الشمس. ومع ذلك، عبدت في مدن يهوذا. وقد اتخذت جملة مواضع لعبادة الشمس فيها عرفت ب "بيت شمس" Beth Shemesh.

(1/3222)


--------------------------------------------------------------------------------

والشمس أنثى في العربية، فهي إلهة، أما في كتابات تدمر فهي مذكر، ولذلك فهي إله ذكر عند التدمريين. ويرى " ولهوزن" Wellhousen أن ذلك حدث بمؤثرات خارجية. وكانت عبادة الشمس شائعة بين التدمريين. وورد في الكتابات التي عثر عليها في "حوران" أسماء أشخاص مركبة من شمس وكلمة أخرى، ويدل على ذلك شيوع عبادتها عند أهل تلك المنطقة. وذكر "سترابو"أن Helios أي الشمس، هي الإله الأكبر عند النبط.. ولكن الكتابات النبطية لا تؤيد هذا الرأي. والإله الأكبر فيها هو "اللات". فلعل "سترابو" قصد ب Helios اللات. وإذا كان هذا صحيحا، فتكون اللات هي الشمس.
والشمس من الأصنام التي تسمى بها عدد من الأشخاص، فعرفوا ب "عبد شمس".
وقد ذكر إلأخباريون أن أول من تسمى به سبأ الأكبر، لأنه أول من عبد الشمس، فدعي ب" عبد شمس". وقد ذكر ان بني تميم تعبدت له. وكان له بيت، وكانت تعبده بنو أد كلها: ضبة، وتميم، وعدي، وعطل: وثور، وكان سدنته من بني أوس بن مخاشن ين معاوية ين شريف بن حروة ابن أسيد بن عمرو بن تميم، فكسره هند بن أبي أهالة وصفوان بن أسيد بن الحلاحل بن أوس بن مخاشن.
وذكر أن "عبد شمس"، اسم أضيف إلى شمس السماء، لأنهم كانوا يعبدونها. والنسبة "عبشمي." وكانت العرب تسمي الشمس "الإلهة" تعظيما لها، كما يظهر ذلك من هذا الشعر: تروحنا من اللعباء قسرا فاعجلنا الإلاهة أن تؤوبا
على مثل ابن مية فانعياه تشق نواعم البشر الجيوبا
ويقال لها "لاهة" بغير ألف ولام.
وعرفت الشمس ب " ذكاء" عند الجاهليين. وقد تصور أهل الجاهلية الصبح ابنا للشمس تارة، وتصوروه تارة حاجبا لها. فقيل حاجب الشمس. وقيل يقال للصبح ابن ذكاء لأنه من ضوئها.

(1/3223)


--------------------------------------------------------------------------------

وكانوا يستقبلون الشمس ضحى. ذكر " الأسقع " الليثي، انه خرج إلى والده، فوجده جالسا مستقبل الشمس ضحى، وإذا تذكرنا ما أورده اهل الأخبلر عن صلاة الضحى، وهي صلاة كانت تعرفها قريش، ولم تنكرها، أمكننا الربط بين استقبال الشمس ضحى وبين هذه الصلاة.
وقد لاحظ بعض السياح ان آثار عبادة الشمس والقمر لاتزال كامنة في نفوس بعض الناس والقبائل،حيث تتجلى في تقدير هذين الكوكبين وفي تأنيب من يتطاول عليهما بالشتم أو بكلام مسيء وفي تعظيمها من بين سائر الكواكب تعظيما يشيرإلى انه من بقايا الوثنية القديمة على الرغم من إسلام أولئك المعظمين.
ويلي الشمس والقمر "الزهرة"، وهي ذكر في النصوص العربية الجنوبية، ويسمى "عثتر". وهو بمثابة "الابن" للشمس والقمر. وهذا الثالوث الكوكبي يدل، في رأي الباحثين في أديان العرب الجنوبيين، على أن عبادة العربية الجنوبية هي عبادة نجوم. وهو يمثل في نظرهم عائلة إلهية مكونة من ثلاثة أرباب، هي: الأب وهو القمر، والأبن وهو الزهرة، والأم وهي الشمس.
ويذكرون أن بعض طيء عبدوا " الثربا "،وبعض قبائل ربيعة عبدوا "المرزم"، وأن "كنانة" عبدت القمر. ويتبين من بعض الأعلام المركبة، مثل: عبد الثريا، وعبد نجم، أن الثريا ونجما، كانا صنمين معبودين في الجاهلية. وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن " النجم " المذكور في سورة " النجم ": )والنجم اذا هوى( : الثريا "والعرب تسمي الثريا نجما". وقال بعض آخر: "إن النجم ههنا الزهرة، لأن قوما من العرب كانوا يعبدونها".
وعبد بعض الجاهليين " المريخ "، واتخذوه إلها، كما عبد غيرهم "سهيلا "Canapus و "عطارد" Merkur و "الأسد" Lion و "زحل".

(1/3224)


--------------------------------------------------------------------------------

وقد ذكر أهل الأخبار، ان أهل الجاهلية يجعلون فعلا للكواكب حادثا عنه. فكانوا يقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، وكأنوا يجعلون لها أثرا في الزرع وفي الإنسان، فابطل ذلك الإسلام، وجعله من أمور الجاهلية. جاء في الحديث: " ثلاث من أمور الجاهلية: الطعن في الأنساب، والنباحة، والاستسقاء بالأنواء".
ومن مظاهر الشرك المتجلي في التعبد للأمور الطبيعية الملموسه، عبادة الشجر، وهي عبادة شائعة معروفة عند الساميين. وقد أشار "ابن الكلبي" إلى نخلة " نجران"، وهي نخلة عظيمة كان أهل البلد يتعبدون لها، " لها عيد في كل سنة. فإذا كان ذلك العيد علقوا عليها كل ثوب حسن وجدوه وحلي للنساء، فخرجوا اليها يوما وعكفوا عليها يوما ". ومنها العزى وذات أنواط. يحدثنا أهل الأخبار عن ذات أنواط، فيقولون: " ذالت أنواط: شجرة خضراء عظيمة، كانت الجاهلية تأتيها كل سنة تعظيما لها، فتعلق عليها أسلحتها وتذبح عندها، وكانت قريبة من مكة. وذكر انهم كانوا إذا حجوا، يعبقون أرديتهم عليها، ويدخلون الحرم بغير أردية، تعظيما للبيت،ولذلك سميت ذات انواط.
وقد روي ان بعض الناس قال يا رسول الله، اجل لنا ذات انواط كما لهم ذات أنواط. ونستطيع أن نقول إن آثار عبادة الشجر لا تزال باقية عند الناس. تظهر في امتناع بعضهم وفي تهيبهم من قطع بعض الشجر، لاعتقادهم أنهم إن فعلوا ذلك أصيبوا بنازلة تنزل بهم ويمكروه سيحيق بهم. ولذلك تركوا يعض الشجر كالسدر فلم يتعرضوا له بسوء.

(1/3225)