الرئيسية التسجيل مكتبي  
للاقتراحات والملاحظات نرجو ارسال رساله واتس اب او رساله قصيره على الرقم 0509505020 الاعلانات الهامه للمنتدى

اعلانات المنتدي

   
.
.:: إعلانات الموقع ::.

قال الله تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } سورة ق الآية 18

   
 
العودة   ::منتديات بالحارث سيف نجران :: > المنتديات الأدبية > منتديات القصص والروايات
 
   
منتديات القصص والروايات قصص الانبياء, قصص واقعية, حكايات واقعيه, قصص قصيرة, قصص منوعة

إضافة رد
   
 
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
 
   
   
 
قديم 04-19-2011, 05:33 AM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
مشرف

الصورة الرمزية سيف ميسان

إحصائية العضو







 

سيف ميسان غير متواجد حالياً

 


المنتدى : منتديات القصص والروايات
افتراضي نجران تحت الصفر

الســـــــــلام عليكم ورحمه الله وبركاتـــــــــــــــه وبعـــــــــــد هذه روايه نجران تحت الصفر للكاتب يحي يخلف وزير الثقافه الفلسطيني سابقا طبعت سنه1977م
نجران الصفر

الجزء الأول


أقبل المطوعون وطلبة المعهد الديني وأعضاء جمعية الأمر بالمعروف وحرس الأمير والخويان وباعة المقلقل وسيارات الونيت وعدد من مرتزقة بو طالب وواحد من الزيود..
أقبل الغامدي شيخ مشايخ التجار وسمية عبدة السديري سابقا وبائعة الفجل حاليا..
أقبل أحمد شاهي الطبيب الباكستاني في سيارة الإسعاف وأطلت من الدريشة غالية إبنة السميري قائد قوات الإمام ومن مطعم الحصري خرج أبو شنان الذي أطلق سراحه حديثا لأنه أفطر عامدا متعمدافي رمضان, ورفع مدير مكتب الإشراف هاتفه واتصل بالمدرسة المتوسطة فانطلق الصبية عبر شارع الزيود إلى الساحة الواسعة التي تتحول أيام الإثنين إلى سوق من أسواق العصور الوسطى, وتقافز الصبية والطلبة فوق أكياس المستكة والبهار والحبهان والمحلب والمروحة والحناء..

ودفعة واحدة ... صمتت بيوت نجران ... تسلل السكون إلى أزقتها ومنعرجاتها وملأ فجوات الأبواب وشقوق النوافذ, أحاط الناس بالساحة الواسعة من جميع الجهات وصعد الذين ضاقت الساحة عن إستيعابهم إلى سطوح المنازل التي تبدوا كقلاع تنتمي إلى عصر ما ..
قال أبو شنان وهو يضع المسواك في فمه كالسيجار: (ياويلي .. اليوم سيذبحون اليامي).

كان أحد الزيود إلى جانبه يمضغ القات بلا مبالاة فيما تقدمت سمية السمراء وقالت:أنا فدى عيونك يا يامي أنا فداك
قال أحد المطوعين : صل ياولد صل
غصت الساحة بالناس أكثر فأكثر
غصت بالوجوم والترقب والتوقعات..
أخرج أبو شنان المسواك من فمه وتذكر الألم الذي مزق أحشاءه عندما شرب زجاجة الكولونيا بعد أن عزت الخمرة
وقال لنفسه أن المرارة التي تملأه في هذه اللحظة أشد ألما حتى من ضرب الخناجر المعقوفة ..
شدت سمية أحد المطوعين من كتفه وقالت بغضب :
إيش عمل اليامي .. هه .. إيش عمل؟
أزاح المطوع يدها وقال دون أن ينظر إليها :
اليامي مخرب يتصل بالجمهوريين!
مسح الغامدي لحيته بباطن كفه بشرود وقال كأنما يخاطب نفسه : يستاهل كل من يخرج على طاعة السلطان!
قام أحد المشايخ عن الكرسي وأجلس مكانه الطبيب أحمد شاهي الذي ظل عابسا وهو يحمل حقيبته بقرف مؤكدا أنه غريب الوجه واليد واللسان ..

ظل الزيدي يمضغ القات بشرود بينما أصابعه تفرك الريالات الذهبية في جيب ثوبه الفضفاض ويحلم بأصفهان .. إمرأة تلهث على صدره تسقيه من رضابها .. يشربها مثل زجاجة ويسكي مثلجة في أبو رشاش ..
قالت الخادمة رباب القادمة لتوها من صعدة بلدة السميري :
صكي الدريشة ياغالية .. ذلحين يجي السميري ويحصل مالا تحمد عقباه.
قال أبو شنان ذات يوم بعد أن تعتعه السكر (غالية بنت السميري لها عينان مثل عيني الغزالة التي أرضعت بن ذي يزن.
ثم إنه في اليوم التالي دفع عشرين ريالا لرباب لكي تبلغها ذلك فضحكت غالية وقالت -بتهافت- : هذا الولد خبل مايعرف الليل من النهار, صكي الدريشة ياغالية ذلحين .. وي .. وي .. المستر ينظر إليك بالمنظار .. صكي الدريشة يا ابنة الاشراف.

كان ستيفن هايدن أو المستر كما يسمونه في نجران يقف على ظهر سيارته الروفر ويلتقط صورا بالكاميرا المتحركة
أغلقت رباب النافذة وقالت بلا مبالاة :متى يذبحون اليامي وننتهي من شره.
إرتسم غضب هائل على وجه سمية فصرخت بصوت مبحوح :
ها .. أنت .. إيش تفعل ياذاك النصراني؟
رفع المطوع خيزرانته في وجهها مهددا بشكل جدي وقال :
أسكتي ياعبدة السوء هذا معه أمر بالتصوير من الأمير طال عمره.
نقل أبو شنان المسواك إلى زاوية فمه وقال باستفزاز :
إسمع يا مطوع .. الشيخ يقول إن التصوير حرام كيف يسمح الأمير كيف؟
تحول المطوع إلى أبو شنان ورفع عليه خيزرانته :
إيش تقول ياكافر .. والله لولا الحد الذي سيقام على اليامي لفرشتك على الأرض وجلدتك مائة جلدة.
قال الغامدي يخاطب نفسه :
متى ينتهي الأمر ويكون اليامي عبرة لمن اعتبر.
ظلت أصابع الزيدي تلعب بالريالات الذهبية في جيبه وظلت المرأة تتسرب إلى تلافيف دماغه مع خدر القات ودبيب النعاس الصعب.

قالت سمية تخاطب عددا من الناس حولها :أنا أعرفه ياجماعة لقد أرضعته من ثديي يوم ان لسعت العقرب أمه كان أهله يسكنون معنى في الأخدود اليامي مظلوم.
فجأة وقف الجالسون وتقافز الناس على أكتاف بعضهم البعض ، إشرأبت عنق الغامدي وفتحت غالية النافذة غير عابئة بكاميرا المستر وتملك الزيدي صحو مفاجئ وشعر أبو شنان بحاجة لجرعة واحدة من أردأ أنواع الخمور.
أما سمية فقد أخذ قلبها يغوص ..
توقفت سيارة البيك اب الحمراء فأحاط بها الجنود وتقدم رجلان وقفا عند بابها الخلفي .. إنحبست الأنفاس
وفجأة إنفتح باب السيارة الخلفي عن اليامي
وجه منحوت من الصخر وعينان ثابتتان
حول الرقبة قيد تتدلى منه سلاسل تتصل بقيود رسغيه وقدميه ..
كان الصمت هائلا ومثل حجر الطاحون ثقيلا.
ظل المستر يسلط عدسته على العينين ..
تقدم الرجلان وأمسكا بذراعي اليامي ، إنتتر فاصطدمت حلقات السلاسل ببعضها البعض ودفعة واحدة أنزلاه إلى الأرض فارتطمت قدماه بالتراب ذي الرائحة المحروقة ..
جحظت عينا سمية وبدا كما لو أنها فقدت النطق
وفي رأس الزيدي إختلط الحابل بالنابل والأبيض بالأسود والغبار بأوامر بو طالب وخنجر الإمام بحذاء الولد الشمري.
دفعه الرجلان فمشى اليامي في الساحة ببطء ينقل قدميه بصعوبة ترافقه خشخشة السلاسل.
وسط الساحة تنفس بعمق ثم استدار مواجها العيون الصامته المأخوذة.
فبكى أبو شنان وتذكر عنترة إذ السهم في خاصرته وهو يتوكأ على رمحه ولهيبته تتراجع الجيوش الغازية
وقال لنفسه :الولد اليامي يموت ولا المهانة.
جاء مندوب الأمير يرافقه الشيخ يرافقهما كاتب المحكمة ..
قال مندوب الأمير شيئا وقال الشيخ شيئا أو بعض الشئ ثم نشر كاتب المحكمة ورقة طويلة وأخذ يقرأ بصعوبة.
قالت غالية السميري لرباب :ذلحين يطقون راسه
أغلقت رباب النافذة وقالت :لا تنظري حتى لا يصيبك الخفقان
صمتت غالية السميري وألصقت أذنها بخشب النافذة ..
أسرعت رباب ووضعت إسطوانة طلال مداح على قرص البيك اب فانطلقت ياسارية خبريني عما جرى.
وقف الطبيب أحمد شاهي ونظر إلى اليامي دون أن يفتح حقيبته ثم هز رأسه لمندوب الأمير كما لو أنه يخبره بأن كل شئ على مايرام.
وعند ذلك إستبدل المستر الفيلم الذي انتهى بآخر جديد وأعاد تصويب كاميرته بينما حديد غطاء الروفر يطقطق تحت قدميه.
(والله يا أبو شنان إنك تدفع كل عمرك من أجل اليامي ولكن ما باليد حيلة وغدا لن تجد في الكأس سوى دمعة واحدة تظل تكبر حتى يمتلئ الكأس بالنشيج)
القات اختمر ومن جديد عز النعاس الصعب واختلط الحابل بالنابل والعويل بحجر المسن وصراخ بو طالب برضاب أصفهان وصحن المقلقل بالعصيدة المرة.
فجأة ظهر المارد ...
لا أحد يعرف من أين وكيف لكنه ظهر وسط الساحة يلبس سروالا خفيفا وصدره العاري يكشف عن عضلات بارزة. ظل قلبها يغوص وقالت سمية :هذا هو الجلاد وفاضت عيناها بغزارة.
إقترب أحد المطاوعة وعصب عيني اليامي الذي ظل يحتفظ بتماسكه وان كان لونه قد أخذ يشحب بينما قام رجل آخر بفك القيد الذي يحيط برقبته
أشار مندوب الأمير فتقدم رجل يحمل سيفا عريض النصل وشت إنحناءة الرجل بثقله
هجم المارد على السيف حمله بذراعيه ثم سحبه من قرابه فالتمع النصل إذ لامس أشعة الشمس وتوهج
قال الغامدي لنفسه : هذا السياف عندما يرى الدم سوف يصيبه الهيجان وربما يذهب ضحية ذلك الكثير من الخلق فلماذا البقاء؟
أمسك المارد بالسيف وبدأ يتفحص ثقله ثم رفعه وأخذ يطعن الهواء كما لو أنه ينازل عدوا حقيقيا.
إنحبست الأنفاس أكثر فأكثر وانكمش اليامي مثل عصفور تنغرز أظافره بأسلاك الهاتف.
إنتهت الإسطوانة فقالت غالية وهي تنظر إلى خشب النافذة المغلقة :عجبا .. ماهذا الصمت
إقتربت رباب وفتحت النافذة بقدر يسمح لعينيها بالنظر وقالت :
المارد يقف بانتظار إشارة الأمير وبعد لحظات ينفصل رأسه عن جسده
وأعادة إبنة السميري إسطوانة ياسارية من جديد ..
جحظت عينا أبو شنان كأنما ذهبت السكرة وجاءت تماما الفكرة
كان الناس حوله ينظرون برعب وخوف.
أشار مندوب الأمير بيده ، صار القات مرا كالعلقم ، أحس الزيدي ببراغيث عقله تتطاير ، إستمرت ياسارية خبريني تدور وتدور وانتقل المسواك بعصبية في فم أبو شنان ..
رفع المارد سيفه عاليا ، شهقت العيون ، إنكمش العصفور برعب كأنما هبت موجة عاتية لإقتلاعه فاستماتت أظافره في أسلاك الهاتف
هوى السيف فاختلط الحابل بالنابل والأسمر بالأحمر والبارد بالساخن
شخب الدم ولكن لم يتدحرج الرأس.
أغمض مندوب الأمير عينيه وارتسم فزع لا يطاق على وجه أحمد شاهي
لقد أصاب نصل السيف أعلى الكتف .. صرخ اليامي من أعماق جمجمته بصوت مثل صرير الأسنان وبدا مثل ديك ذبحوا منه الوريد فهاجت حلاوة روحه وانطلق يبحث عن عراء ..
قفز في الهواء فشدته القيود والسلاسل ، ارتمى على الأرض يرتعش مثل جناح الديك في آخر أنفاسه
هاج المارد مثل موجة عاتية
شدد الحراس من تماسكهم حول الحلقة ومنعوا الناس من التدافع ..
هتف أبو شنان بكل مافي أعماقه من قهر :
أنا فدى عيونك يا يامي .. أنا فداك.
إنتفخت عروق المارد وأوداجه وفتحتا أنفه وهو ينظر إلى الجثة ، ودفعة واحدة رفع السيف عاليا وأهوى به على الرقبة.
فاختلط الحابل بالنابل والمحسوس بالمجرد والأحمر بالتراب والزيدي بحذاء الإمام والمستر بطلال مداح وأبو شنان بغضب الرب ،،،








التوقيع

اناحارثـي وهـذي تواريـخ الازمــان**مـاحنا بقبيلــه تقدر تقول دولــه

عـندالملاقي خــذ صناديـد شجــعان **ابطال مــاترضي بغيـر البطولــه

والحارثي من يـنولد عالي الشــان **من المهد تبدا صفات الرجـولــه

صـغــيـرنــا لا ثــار بالـجـــو دخــان **الروح ترخص مايبي هالطفوله

مــاهــو قــصــور بالقبايل ونقـصان** كــل يشرف لابـته في فـــعولــه

بــقـول كـــلمه ماهي بــزلـة لسان **شاعر واقيم كــل حــرف اقولــه

لو الزمن مافيه بالحارث وشجعان **الله يعـظـم اجركـم بالـرجـــولـه

رد مع اقتباس
 
   
   
 
قديم 04-19-2011, 05:34 AM رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
مشرف

الصورة الرمزية سيف ميسان

إحصائية العضو







 

سيف ميسان غير متواجد حالياً

 


كاتب الموضوع : سيف ميسان المنتدى : منتديات القصص والروايات
افتراضي

الجزء الثاني

العسس يذرعون الشارع ويتبخترون أمام عربات الباعة ، محلات عديدة مغلقة وثمة عمال من البلدية يشعلون الفوانيس المعلقة عند المنعطفات.

أولاد الحصري أغلقوا مطعهم والمستر يشتري رز أبو بنادق من دكان الغامدي ، والمطاوعة الذين خرجوا من صلاة العشاء يقضمون أطراف المساويك بأسنانهم
ورأفت العدني بائع الفلافل أطفأ البريموس وجلس أمام دكانه مطرقا بلا حراك
وثمة رائحة لمحروقات فضلات معسكر الحرس الوطني تختلط برائحة دخان الشيشة في مقهى أبو رمش ..
زفر أبو شنان .. كان يشعر بثقل يجثم في صدرة ويتسرب مع جرعات الشاهي الأسود إلى عروقه ، إتكأ على المقعد الذي يشبه الأريكة وتناول مبسم الشيشة وأخذ يقرقر ..
يابو شنان لن يملأ رأسك سوى سطل .. سطل من عرق البصرة.
شهر كامل مر على ذبح اليامي وكل شئ يعود إلى طبيعته ..
يتبادل الناس أماكنهم في مقهى أبو رمش ويظل إبن عناق يحمل صواني الشاهي المنعنع والنراجيل إلى الزبائن
وتأكل نسمات منتصف الليل العيون وينام الرجال إلى جانب نسائهم والعسس لا ينامون
ومن المذياع بدأ أبو بكر سالم بالفقيه يشدو بأغنية يادوب مرت علي .. أربع وعشرين ساعة .. ضاع الهوى ياخسارة ضاع ..
هز أبو شنان رأسه وأزاح المبسم عن فمه
مرحب أبو شنان ..
دخل الزيدي يمضغ ولا يتوقف عن المضغ ، ودون أن ينتظر الجواب جلس على الأريكة وصفق بيديه ..
أقبل ابن عناق بوجهه الأصفر فنهره الزيدي ثم قال وهو يفرك الريالات الذهبية في جيبه :
هات لنا إبريق شاهي ياولد
إنحنى ابن عناق كما لو أنه سيقبل الأرض بين يديه ثم انصرف
رسم أبو شنان ابتسامة على شفتيه وقال :
إسمع يازيدي .. هذا الولد إنحنى للقروش التي تملأ جيوبك .. غدا إذا انتهت الحرب لن تجد من يقدم لك كوب ماء
بصق الزيدي مافي فمه ثم أخرج من جيبه مضغة جديدة دسها في فكه الأيمن وحك رأسه قليلا ثم قال وهو يتربع على الأريكة :
إذا لم يربح الإمام فإننا نجمهر مع الجمهورية
ضحك أبو شنان ثم تذكر شيئا فعبس وقال :
تجمهر .. فلماذا إذن دفع اليامي حياته لأنه جمهر؟
لم يجب الزيدي وجاء ابن عناق بصينية الشاي وانتهى ابو بكر سالم من يادوب مرت علي وقرقرت النرجيلة بكسل
وشعر أبو شنان بطعم الشيشة كالعلقم ..
وعبر نافذة المقهى يتبختر العسس وأحدهم يحمل على كتفه آلة تسجيل ويتلثم بالغترة والفوانيس شحيحة الضوء والزيدي بدأ يغيب وأبو شنان يتكلم ولا من مجيب ..
ويصب الزيدي الشاي في الإستكانة كما لو أنه منوم ثم ينتابه صحو مفاجئ وترتسم على ملامحه فرحة طفولية .. يحدق بدخان سيجارة ما .. ومن خلال الدخان تبدو اصفهان المرأة .. جسدها سمين ومكتنز .. تخلع ملابسها قطعة قطعة .. رضابها كمحتوى زجاجة الفارسي يشربها قطرة فقطرة ويتركها تسيل من بين شفتيه وعلى رقبته وتغيب في شعر صدره الكثيف ..
خرج أبو شنان وهو يشعل سيجارة أبو بس .. كان العسس قد أصابهم السأم والمحلات مغلقة وليس ثمة سوى بعض القطط والكلاب تجوس بلا مبالاة
وأضواء الفوانيس تكاد تضمحل وتشي بنفاد النفط منها ..
شاهدها فجأة .. إستيقظ أبو شنان إذ شاهدها
كانت سمية تقف وسط الساحة دون أن يتنبه إليها العسس
أقبل إليها بلهفة وإذ وصل تناول يدها وقبلها
ماذا تفعلين هنا يا أماه؟
كانت عيناها تفيضان بالدمع ..
ماذا تفعلين هنا في هذه الساعة المتأخرة؟
كان ذهنها منفيا ..
أماه ..
توكأت على كتفه وظل ينظر إلى وجهها الأسمر بإشفاق
يابو شنان جئت أبحث عنه بعد أن رأيته في منامي
قادها والحزن يعتصره ، كان يعرف أنها تتحدث عن اليامي
مشت خطوات ثم توقفت : رأيته في منامي .. كان يلبس ثوبا أبيض وكان في هيئة شيخ جليل ذي لحية بيضاء مسترسلة ..
قال بقلق : ذلحين يا أماه يرانا العسس وقد يحدث مالا تحمد عقباه
مشت إلى جانبه .. صمتت .. ظلت الكلاب الهزيلة تحوم حولهما بلا اكتراث
وكانت المباني العالية سوداء وبلا قلب
دخلا في زقاق فرعي ، ألقى أبو شنان بعقب سيجارته ..
لقد وعدني عندما رأيته أن يقابلني كل ليلة في الساحة .. في المكان نفسه الذي ..
خفت صوتها وبدأت تنتحب ، ثم تكتم نحيبها
ربت على كتفها ، كانا يمران أمام بيت السميري الذي يشع بالأنوار وكانت سيارة بو طالب تصطف عند الباب
بينما يقف إلى جانبها حارسان يحمل كل منهما (برتا) ذات سونكي..
إلتفت أبو شنان خلفه فانتهره أحد الحارسين ..
ظلت سمية تنتحب بصوت مكبوت وعندما ظهر الخلاء هبت نسمات رطبة
قالت سمية كأنها تحدث نفسها :
"لو أنه يفي بوعده ويجيئ ياويلي ياويلي"
كانا يخوضان في الظلمة ، ومن بعيد أطلت بيوت حارة ال**** ومن خلفها ذوائب غابة النخيل..
وصلا الكوخ المصنوع من سعف النخيل فقالت له :
أدخل يابو شنان .. أدخل ياولدي.
أطرق أبو شنان قليل ثم قال :سأعود يا أماه..
أشعلت السراج فظهرت الأخاديد في وجهها الأسمر :
أدخل ياولدي .. تتعشى ، وغدا أغسل ثيابك
دخل واستلقى على الخرقة المحشوة بالتبن ، ومن فجوة بالجدار كان يشاهد أناسا يتحلقون حول نار تشتعل بهدوء..
أصنع لك شاهي يابو شنان..
ما أبغي ..
وبعد لحظات من الصمت قال: يا أماه أرى أناسا يتحلقون حول النار
هزت رأسها وقالت: إنهم يحتفلون بعرس ابن أمينة..
أغمض عينيه .. يعرف أبو شنان أنهم يحتفلون بصمت حدادا على اليامي
أما في زمن الفرج فإن ضاربي الطبول يصبحون كالعفاريت ، والولد عبد المعطي يغني دان دان..
ويردد وراءه الجميع .. دان دان ...
ويقف أحد ال**** يرقص رقصة للفرح .. وثانية للنخيل .. وثالثة للحرب
فيكتسي وجهه بلون ناري ، وأما الرمح في يده فإنه يطعن به الفضاء بلا هوادة،،،













الجزء الثالث

كبير المطاوعة يمشي في الشارع منكس الرأس ، لحيته المطبوعة بالحناء لم يشذبها هذا الصباح كما أنه لم يكحل عينه كالمعتاد ينظر الناس إليه كما لو أنهم يشاهدونه لأول مرة
الغامدي حدق به وتغامز مع كاتب المحكمة ثم ضحكا
والزيدي حين رآه تثائبت أصفهان بكسل
وباعة المقلقل تركوا مابأيديهم وقاسته أعينهم من أسفل إلى أعلى ومن أعلى إلى أسفل.
شعر كبير المطاوعة بالعري ، أحس أن الناس تحدق بلحمه .. بعورته .. بققفاه
وحين هز الخيزرانة شعر بثقل في يده .. تراخى كل شئ فيه
وحين هتف : صل ياولد صل
خرجت الكلمات شاحبة كالفحيح ولذلك سار كبير المطاوعة وهو لايرى الفضاء وكان يتمنى لو أن الأرض تنشق وتبتلعه.
أقبل أبو شنان ضاحكا ودخل دكان رأفت العدني الذي كان يمسك القالب النحاسي المملوء بالحمص المجروش
بينما أقراص الفلافل تتحمر وسط وجاق الزيت.
تضحك على غير العادة يابو شنان
قال رأفت ، فأجابه أبو شنان :
ألم تشاهد كبير المطاوعة؟
هز رأفت رأسه: بلى .. شاهدته
ألم تسمع بما جرى لزوجته؟
نفى رأفت برأسه ..
كيف .. كل الناس يعرفون حتى باعة المقلقل
مسح رأفت يده بقطعة قماش وبدأ يصغي بانتباه
إستمر أبو شنان يقول :
قام بختانها فأصابها نزيف وقد شاهد الطبيب الباكستاني فرجها..
ثم قهقه أبو شنان .. وتابع :
وبسبب ذلك فإن الناس عرفوا أن كبير المطاوعة عنين مثل واحد من الخصيان لا يستطيع مضاجعة إمرأة..
وقف بالباب أحد المسلحين وهتف:
يابو شنان .. بو طالب يريدك
قال له أبو شنان: إيش يريد بو طالب؟

قال المسلح الذي لا ينتعل شيئا في قدميه :لا أدري
هز أبو شنان رأسه
حسنا .. سوف أراه
إنصرف المسلح فقال أبو شنان هامسا:
إنهم يريدون المزيد من الرجال ، يقولون أن بو طالب يعد حملة لمهاجمة صعدة والإستيلاء عليها.
فعض رأفت شفته السفلى محذرا وعاد إلى أقراص الفلافل وهو يقول كأنما يتحدث إلى نفسه :
أصمت .. الحيطان لها آذان.
في مقهى أبو رمش كان العسس يتثاءبون ويشربون الشاهي دون أن يتمكن ابن عناق من تحصيل الثمن
وكان الحر شديدا والعرق يتفصد من الوجوه ويسيل حتى الرقبة.
قال أبو شنان :متى يصبح عندك مروحة يابن عناق مثل مقاهي جدة؟
ضحك ابن عناق الذي يبدو كما لو أنه طفل كبير لا ينمو:
يابو شنان انتظر حتى يصبح في نجران كهرب ..
جفف أبو شنان العرق عن رقبته، وانتهره:
إيش تقول يارجال .. في المقاهي المحترمة هناك مولدات كهرب تعمل على الزيت
إلتفت ابن عناق حوله بحذر ثم اقترب وهمس:
يابو شنان مولدات الكهرباء لايشتريها إلا الأمير طال عمره وقائد الشرطة ومدير مكتب الإشراف
أما الفقراء من أمثالنا فعليهم أن يستعملوا المنشات
ضحك أبو شنان فيما انصرف ابن عناق يحمل أباريقه وهو يدندن بس قلي كلمتين ..
أخرج صندوق سجائره فوجده فارغا وتذكر في تلك اللحظة أن جيبه فارغا تماما وعاوده الإحساس بالضمأ.
وإذ ذاك دخل الزيدي بملابسه الزاهية وقد بدا منتشيا ومضغة القات تنتقل بين فكيه..
جلس على الأريكة ثم صفق بيديه وصاح بصوت عال :
هات لنا بيبسي ياولد
ثم التفت ورمق أبو شنان قائلا:
يابو شنان كنت في مكتب بو طالب إنه يبغي يشوفك.
كان عدد من النراجيل يقرقر وكان ثمة ذبابة كبيرة تئز عند إذن الزيدي دون أن يعيرها التفاتا ..
إيش يبغي بو طالب .. هه .. ماذا يريد؟
أحضر الولد ابن عناق زجاجة كولا تناولها الزيدي وملأ فمه منها ، فارتسم على ملامحه الإمتعاض ثم بصقها وشتم بصوت عال : هذه بيبسي أم بول حمير يابن الفاعلة؟

طأطأ ابن عناق رأسه وهمس لنفسه : اللقمة صارت معجونة بالزفت تفو على الحظ حقي
خذ .. هات لي شاهي وشيشة
إستدار منصرفا فقال أبو شنان :يازيدي حرام عليك هذا ولد غلبان
أغمض الزيدي عينيه وكان يبدو أنه يبذل جهدا ليستعيد حالة الإنبساط التي كان يتزمل بها
وكأنما شعر أبو شنان بقدرته على أن يساعده .. فهتف :
يازيدي قل لي ماذا فعلت في شيراز في حارة البغايا؟
فتح الزيدي عينيه ثم ابتسم بارتخاء وعاد ينقل المضغة من فك إلى آخر..
وتذكر أبو شنان إذ ذاك حلقه الناشف فهتف بتوسل :
يازيدي لم أشرب خمرة منذ أسبوع أبغي أسكر حتى الموت.
كان يبدو أن الزيدي بدأ يحلق وترق منه الأحاسيس ويغيب..يغيب..
يازيدي أبغي أسكر واموت ويحمل جنازتي عشرة من الرجال السكارى
غير أن الزيدي غاب .. أبحر .. تلاشى..
فدفن أبو شنان رأسه بين يديه وحين رفع رأسه شاهد المسلح ينزل عن الدباب ويقف بباب المقهى ثم يرفع يده صائحا:
يابو شنان بو طالب يريدك
ثم يقترب وكأنما يريد أن يبكي :يابو شنان يرحم أهلك إذا لم تأت فسوف يضربني بو طالب
أرجوك .. أرجوك،،،







التوقيع

اناحارثـي وهـذي تواريـخ الازمــان**مـاحنا بقبيلــه تقدر تقول دولــه

عـندالملاقي خــذ صناديـد شجــعان **ابطال مــاترضي بغيـر البطولــه

والحارثي من يـنولد عالي الشــان **من المهد تبدا صفات الرجـولــه

صـغــيـرنــا لا ثــار بالـجـــو دخــان **الروح ترخص مايبي هالطفوله

مــاهــو قــصــور بالقبايل ونقـصان** كــل يشرف لابـته في فـــعولــه

بــقـول كـــلمه ماهي بــزلـة لسان **شاعر واقيم كــل حــرف اقولــه

لو الزمن مافيه بالحارث وشجعان **الله يعـظـم اجركـم بالـرجـــولـه

رد مع اقتباس
 
   
   
 
قديم 04-19-2011, 05:35 AM رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
مشرف

الصورة الرمزية سيف ميسان

إحصائية العضو







 

سيف ميسان غير متواجد حالياً

 


كاتب الموضوع : سيف ميسان المنتدى : منتديات القصص والروايات
افتراضي

الجزء الرابع

أمام مكتب بو طالب يصطف عدد من المسلحين ينتظرون استلام رواتبهم ، وبعض الوجهاء الذين يتميزون عن سواهم من اليمانيين الموالين للإمام بنظارات البيرسول يدخلون البناء الذي يشبه القصر ويخرجون ، ويفسح المسلحون لهم الطريق
وعند الباب الخلفي المنزوي يتكوم عدد من ذوي العاهات دون أن يتلفت إليهم أحد..
وقف أبو شنان أمام باب المفوضية المتوكلية اليمانية .. ثم بصق ومسح فمه بطرف كمه ، فنهره الحارس:
إيش تبغى ياولد؟
تنحنح أبو شنان وشد قامته وقال باعتداد:
أنت ماتعرفني .. أنا أبو شنان
وقال الحارس الذي يلبس وزرة حول وسطه تكشف عن ساقيه الرفيعتين:
إيش يعني أبو شنان .. من تريد؟
عبس أبو شنان وقال وهو يمنع نفسه من الغضب:
بو طالب طال عمره أرسل في طلبي
هز الحارس رأسه وقال:أدخل ...
وسط الساحة كانت تتكوم صناديق الأسلحة والذخيرة ، وكان ثلاثة رجال ينظفون مدفع هاون ، بينما اقترب منه رجل تتدلى على كتفيه أمشاط الرصاص
وسأله وهو ينظر بشك:ماذا تريد؟
شد أبو شنان الجاكيتة فوق جلبابه وقال بصوت جاف:
أريد بو طالب .. أنا أبو شنان
هز الرجل رأسه وسار أمامه قائلا:
إتبعني..
مشى في الممر الطويل ثم انعطف حتى وصل قاعة واسعة فتوقف قائلا:
إنتظر..
دخل القاعة ثم خرج وأشار له بالدخول
دخل أبو شنان ..
قاعة واسعة .. مكتب كبير خلفه صورة مكبرة للإمام
على الأطراف تصطف مقاعد وثيرة..
جلس ، أحس بجسمه يغوص في المقعد المريح
مرت فترة طويلة قبل أن يدخل بو طالب
طويل وممتلئ .. يلبس بزة عسكرية وتغيب قدماه في حذاء ذي رقبة طويلة ، وحول وجهه السمين تنبت لحية كثيفة
وقف أبو شنان كالمأخوذ..
ظلت ملامح بو طالب تتسم بالقسوة وسأله دون أن يشير له بالجلوس:
أنت أبو شنان؟
أحس بالكلمات تخرج من فمه بصعوبة
نعم أنا أبو شنان..
إستدار بو طالب وجلس على مكتبه ثم حدق به وسأل فجأة:
أنت صديق اليامي؟
أحس أبو شنان كما لو أنه سيهوي من عل ، فتلعثمت الكلمات على شفتيه وهز رأسه بالإيجاب.
سحب بو طالب مسدس براشوت من درجه وقال وهو يمسحه:
أنت تسكر وتفعل السبع الموبقات!
شد أبو شنان ساقيه التي كادتا تخذلانه وقال متصنعا الجرأة:
أنا أسكر .. ولكن لا أفعل غير ذلك من الموبقات
رسم بو طالب ابتسامة ، وأشار له بالجلوس
جلس وبدأ يتسلل إليه شئ من الطمأنينة
حسنا يابو شنان عليك أن تظل شجاعا حتى في أحلك الظروف.
أعاد بو طالب المسدس إلى درجه وقال:
أنت تعرف الإنجليزية .. قيل لي أنك عملت في الدمام في الأرامكو
هز رأسه بالإيجاب فعاد بو طالب يسأله:
لماذا تركت عملك هناك؟
عبس ولم يجب فتابع بو طالب:
لا حاجة بك للكلام .. أعرف أنهم طردوك لأنك شاركت العمال في الإضراب
ظل أبو شنان صامتا .. وظل بو طالب يتكلم..
وبعدها عدت إلى نجران
وبدأت تشرب الويسكي المهربة من عدن
وأدمنت وخسرت كل ما ادخرته
وبعد ذلك أصبحت متسكعا مثل الكلاب الضالة ..
تشنجت كل عضلة في جسده وأحس بأنه يرتطم بالأرض ، وقف بو طالب واقترب منه
لا أحد يثق بك في نجران .. وحارة ال**** لن تطعمك إلا الجوع
شعر بالدموع تنبجس من عينيه وأحس بالإنكماش..

مرت لحظات طويلة من الصمت ثم ابتسم بو طالب وقال:
لدينا وظيفة شاغرة لك .. إنها فرصتك الأخيرة.
تساقط النشيج في داخله.. تساقط كالأمطار والغربة.
وعليك أن تعلم يابو شنان أن من يخرج عن طاعتنا أو يبوح بأسرارنا نذبحه ونجعله طعاما للضواري.
ظل أبو شنان يطأطئ رأسه.
تأتي غدا وتقابل المستر..
المستر سيشرح لك تفاصيل عملك..
والآن تستطيع أن تنصرف.
وقف أبو شنان .. وعندما تحرك كان يشعر كما لو أن أطنانا من الحديد مشدودة إلى قدميه...

حارة ال**** .. نسمات باردة وذوائب النخيل تلوح بأذرعها ، وهنا حبات الرمل تحفظ عن ظهر قلب خطوات اليامي
كان يتمدد في المساء على الرمل تحت النخلة يمسك حفنة من الرمل في قبضته
ويقول لك يابو شنان يجب أن نخرج من عصر الإنحطاط ، يجب أن نناضل من أجل ال**** والفقراء.
وكانت سمية تحضر لكما إبريق الشاهي وتجلس تفتح لكما البخت والطالع
وكان اليامي يبتسم وينحني على شعرها الأشيب فيقبله ، ويستمر بالحماس نفسه
يا أمنا سمية .. يجب أن يفيق ال**** من سباتهم.
وحارة ال**** منذ أن ذبح اليامي يلفها الصمت ويسكنها فزع لا يطاق..
الرمال حنونه .. ذوائب النخيل حنونه.. قلب سمية حنون.. عيناها حنونتان.. وجهها الأسمر ذو التجاعيد حنون للغاية .. الرمال.. الصمت .. الظلمة .. الحزن .. القهر.. الغضب ..
وأنت يابو شنان وحيد ، وأبو طالب يقهقه شامتا ، وحارة الزيود كريهة، والدنيا ملعونة سبع لعنات
ومن غيرك يا أماه يستطيع أن يترك لي في قلبه متسعا؟
طرق الباب .. فجاء صوتها:
أدخل يابو شنان .. أدخل يابني
وجهك أصفر يابو شنان
مريض يا أماه
مم تشكو يابو شنان؟
من جرح في الأعماق يا أماه
هل أصنع لك الشاهي؟
فمي مر يا أماه
هل أنت ثمل يابو شنان؟
ليتني أجد قطرة واحدة يا أماه
تمدد واسترح ..... ليتني أستطيع يا أماه،،،







التوقيع

اناحارثـي وهـذي تواريـخ الازمــان**مـاحنا بقبيلــه تقدر تقول دولــه

عـندالملاقي خــذ صناديـد شجــعان **ابطال مــاترضي بغيـر البطولــه

والحارثي من يـنولد عالي الشــان **من المهد تبدا صفات الرجـولــه

صـغــيـرنــا لا ثــار بالـجـــو دخــان **الروح ترخص مايبي هالطفوله

مــاهــو قــصــور بالقبايل ونقـصان** كــل يشرف لابـته في فـــعولــه

بــقـول كـــلمه ماهي بــزلـة لسان **شاعر واقيم كــل حــرف اقولــه

لو الزمن مافيه بالحارث وشجعان **الله يعـظـم اجركـم بالـرجـــولـه

رد مع اقتباس
 
   
   
 
قديم 04-19-2011, 05:37 AM رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
مشرف

الصورة الرمزية سيف ميسان

إحصائية العضو







 

سيف ميسان غير متواجد حالياً

 


كاتب الموضوع : سيف ميسان المنتدى : منتديات القصص والروايات
افتراضي

الجزء الخامس

توقفت سيارة الروفر قربه ومن وراء نظارته .. قال المستر:
إطلع ...
حك أبو شنان ذقنه غير الحليقة وفكر قليلا ثم صعد
إنطلقت السيارة عبر الشارع الرئيسي وتخطت معسكر الحرس الوطني ثم توقفت أمام بيت كبير منزو
إنزل ...
نزل أبو شنان ، أغلق المستر باب السيارة ومشى ، فمشى أبو شنان وراءه يتعثر بثوبه الفضفاض كأنه معصوب العينين
طرق المستر الباب .. فتح خادم يماني.. دخل .. دخل وراءه
وجد نفسه في صالة أرضها مكسوة بالسجاد وجدرانها بصورة نساء عرايا
تلفت المستر وقال:
إجلس ...
جلس على أريكة مغطاة بالمخمل الأحمر فقال له:
هل تشرب كأسا؟
أدهشته المشاهد وقبل أن يجيب نادى المستر على الخادم:
هات لنا زجاجة ويسكي يامنصور.
غاب الخادم قليلا ثم عاد وهو يحمل زجاجة تغيب في دورق مملوء بالثلج
صب المستر الويسكي في الكأس.. أحس أبو شنان بلعابه يسيل.. وسريعا امتدت يده إلى الكأس فأدارها في رأسه دفعة واحدة
إبتسم المستر ، ثم ضحك ، وقال وهو يقهقه:
إشرب ... إشرب ..
أدار الكأس الثانية في رأسه ، وتراقصت صور النساء العرايا على الجدران ، وبدأت الأشياء تزهو والغبش يروح ..
صب له كأسا ثالثة ، وبعد ذلك قال المستر:
جميل جميل .. هذا جميل جدا
لقد أخبرني بو طالب انك تشرب تمام.
بعد الكأس الرابعة نادى المستر على الخادم:
يا منصور ... شغل لنا السينما
نريد مشاهدة الفلم الذي وصلنا منذ يومين
أحنى الخادم رأسه ، وأسرع إلى الستائر فأسدلها وأصبحت الصالة معتمه
بعد الكأس الخامسة بدأ عرض الفيلم..
كان أبو شنان يشعر بنشوة ليس لها مثيل ، للوهلة الأولى حدق بالشاشة باهتمام
كانت هنالك إمرأة تتعرى .. تخلع ملابسها قطعة قطعة
تستلقي على السرير .. تفتح فخذيها.. يقترب كلب أسود .. يلهث.. يمد لسانه الطويل .. يشم ابطها .. يلحس جلدها .. و .. ترتجف .. تتشنج..
يضرب أبو شنان يده بالحائط يشعر بالمسام في جلده تتسع..
يشعر بالرغبة تكتسح السطح الراكد من جسده.
إصبر .. إصبر يابو شنان سترى أشياء أجمل..
شرب مافي الكأس وعاد يحدق بالشاشة
دخلت إمرأة أخرى فأبعدت الكلب وطردته خارج الغرفة واقتادت المرأة إلى الحمام وبدأت تدلك جسدها بالصابون
ثم جففت جسدها بمنشفة كبيرة وعادت بها إلى الغرفة
ألقت بها على السرير وبدأت تتعرى بدورها
وعندما أصبحت عارية تماما إستلقت إلى جانب صاحبتها وبدأت تعانقها
كان أبو شنان يشعر كأن في داخله ثورا هائجا وكان وجهه ممتقعا .. ممتقعا للغاية
وإذ ذاك ، إبتسم المستر ثم ضحك ثم قهقه وقال:
يابو شنان.. هل تريد إمرأة أم...؟
أحس أبو شنان كما لو أن الثور قد نفذ صبره فقال وهو لا يصدق:
أريد إمرأة..
فأجابه المستر:إتبعني..
مشى ، فمشى وراءه ، وتوقف المستر عند غرفة داخلية وطرق بابها ثم فتحه وقال:
تفضل ..
دخل أبو شنان فوقع بصره على إمرأة تتمدد على السرير
بهت أبو شنان ، فقال بالوجه الممتقع الضاري:
إنها المرأة التي شاهدناها في الفلم!
هز المستر رأسه وابتسم وهمس:
إنها قادمة من ألمانيا .. كن لطيفا معها.
أخيرا وبعد الشبع والإرتواء ، تمدد أبو شنان على الأريكة .. وكانت زجاجة تتدحرج على السجادة ، والمرأة الشقراء دخلت تستحم ، والمستر يلبس ثوبا عربيا ويشعل غليونه فتعبق الغرفة برائحة التبغ.
هل نتحدث بالعربية أم بالإنجليزية؟
سأل المستر ، وكان أبو شنان يغالب النعاس وثقل في جفونه..
بفتور : كما تشاء أنت
المستر وهو ينفث المزيد من التبغ:نتكلم بالعربي

تنحنح واستمر في الحديث: سيكون عملك في أبو رشاش .. تعرف أن هناك معسكرا للمقاتلين الأجانب..
أنت العربي الوحيد الذي سيدخله ، ستكون ضابط ارتباط ، وتقوم بالترجمة وترتيب بعض الأمور.
وأخذ المستر نفسا من الغليون ، وفي تلك اللحظة عادت المرأة الشقراء وهي تلف جسمها في منشفة بيضاء تسبقها رائحة عطر نفاذ
فقال المستر مشيرا إليها: ريتا ستكون معك .. ستقوم بطباعة التقارير والمراسلات.
تملك أبو شنان الصحو .. وبدأ الثور يستيقظ فيه ، ثم وقف المستر وذرع الصالة .. ثم تلفت وقال:
طبعا آن الأوان لكي تهجر هذه الملابس غير العملية ، سوف تنتقي لك ريتا بعض الملابس الإفرنجية من خزانتي..
وبعد ذلك صاح بالخادم:
يامنصور ... ويسكي،،،














الجزء السادس
شاع الخبر كاللطمة في حارة ال****.

كف الولد عبدالمعطي عن الدندنة، وبهت ابن أمينة الذي تزوج منذ أسبوع من فاطمة التي لم يعتق السديري أمها بعد وتوقف الرجال في حقول القضب عن العمل ، وحلف أحدهم وهو يشير بيده المتشققة إلى السماء أنه شاهد أبو شنان (بالبنتلون) والقميص في سيارة الروفر وبجانبه حرمة رأسها مكشوف ، وآخر ويعلم الله أنه من أخوال اليامي
همس لبعض الشبان أن رأفت العدني بائع الفلافل أسر له بأن لا يحكي شيئا أمام أبو شنان لأنه صار يعمل مع بو طالب، مثله مثل العسس .. وأكثر.

أزاحت الغطاء عن رأسها ، وحلت جدائلها ، ونشرت شعرها المطرز بالشيب ، وبدأت تنوح لم يقترب أحد من كوخها ، وعندما جاء المساء لم يشعل أحد سراجا.
وفي تلك الليلة لم يقطف أحد القضب والفجل والطماطم من الحقول
وظلت الخفافيش تتعربش في ذوائب أشجار النخيل ، وبنات آوى والضباع ، والهوام تدب على الرمال وتجوس حول الأكواخ المتطرفة.
وقد همس ابن أمينة إلى فاطمة في آخر الليل أن سمية ستميت نفسها ، وأن حزنها هذه الليلة صعب ، وأصعب من أي وقت مضى.

حدق عبد المعطي طويلا بالسقف الذي تعيث به الفئران فسادا ، ثم زفر بحرقة ، سعل أبوه الذي انتفخ بطنه منذ عام ولم يشف
وظل ينتفخ ببطء وظلت تخرج منه ريح قاتلة طيلة الليل
سعل سعالا حادا وقال بصوت متحشرج:
نواحها يذيب الحجر .. سمية الحنونة تبكي فتنفطر القلوب.
وقد اعتاد عبد المعطي أن يهمل مايقوله هذا الرجل المريض الذي لا يريد أن يموت
غير أنه تلفت إليه بإحساس لم يشعر به منذ فترة طويلة ، وتذكر أن هذا الرجل كان وسيما في يوم من الأيام ، وكان صوته حلوا كالسكر ، وفي حارة ال**** كان نجم العرضة النجدية ورقصة الطبول.
نواحها ينحدر من ليالي الجوع ووقع السياط المالحة
إمتلأت عينا عبد المعطي بالدموع ، وامتدت يده وتناولت كف الرجل المريض ولثمها.

سمية كانت صبية ومليحة ووسيمة ، لم يكن في شفتيها غلظة ولم يكن في وجهها وشم .. ويقولون بأنها أحبت شابا كان ينطح الصخر برأسه فينكسر الصخر
كان أبوه عبدا من **** السديري.
كان حبهما قويا ، وكان حكاية جميلة من حكايا حارة ال**** ، ولكنه كان حبا قصيرا وداميا ..
فذات يوم، وقع اختيار السديري على الشاب القوي ليقدمه هدية لأمير نجد ، وجاء أحد العطارين من جيزان ، وأمام جميع الناس في حارة ال**** تم خصي الشاب القوي الذي كان ينطح الصخر ، وبعد أن نام أسبوعا في الفراش لتشفى جراحه ، أرسل إلى نجد لينضم إلى قافلة الخصيان في قصر نساء الأمير
قال والد عبد المعطي ذلك ، وراح في نوم عميق.

طويلة هذه الليلة الملعونة .. طويلة وقاتمة
وانقلب ابن أمينة على جنبه الآخر ، وقال: لا أحد يغفو في حارة ال****
ومد يده إلى صدر فاطمة ، وعجن ثدييها بأصابعه دون أن يشعر باللذة ، ثم سحب يده وقال:
كيف يفعل أبو شنان ذلك .. كيف .. دم اليامي لم يجف بعد .. كيف؟
وبعد فترة طويلة إلتصقت به أكثر ، فتناول شفتيها واعتصرهما دون أن يشعر بأي لذة أيضا.
كانا بمثابة ولدين لها .. اليامي ذبحوه ، وأبو شنان .....
إلتصقت به أكثر فأكثر ، فلم يرتعش، إنغرزت حلمتها في صدره، فلم يرتعش.
طويلة هذه الليلة .. وقاتمة .. وسوداء .. وسوف تبقى ليالي حارتنا حالكة لفترة طويلة ، ولن يكون ثمة سوى الحزن واليأس.

الرياح تعبث بسعف النخيل ، تتسرب عبر الشقوق والأخاديد ، وتحمل ذرات التراب والرمال
وخيوط الفجر الأولى بدأت تظهر عند آخر نقطة في الصحراء
ونواح سمية بدأ يخفت ويتحول إلى أنين ، كأنه خارج من أقبية معتمة ، أو قبور مغلقة ، أو توابيت بداخلها قلوب تنبض،،،









الجزء السابع
وراءك تركت كل شئ..
حارة ال**** وشارع الزيود ومقهى أبو رمش ، وتنهب سيارة الروفر الأرض تاركة خلفها عاصفة من الغبار
ريتا ، المستر ، وأنت تتزمل في الثياب الإفرنجية ، تحدق في الصخور النارية المسننة وفي أشجار الأراك الجافة
تعاودك في لحظات أحلام الليلة الماضية
تقرأ ريتا ملامحك .. تلكزك بكوعها، يتلفت إليك المستر ويقطع الصمت قائلا: هنا سقطت طائرة بن لادن الخاصة.
كانت الشمس ساطعة وكانت ريتا تغمض عينيها نصف اغماضة.
الطائرة من نوع (كونفير) ذات محركين ، وقد فقدت توازنها عندما وقعت في مطب هوائي ، وحاول الطيار أن يهبط في الصحراء إلا أن أحد المحركين تعطل فجأة ، فسقطت فوق هذه الصخور المسننة.
فتحت ريتا عينيها ، وقالت للمستر باهتمام:
ماذا تقولان .. لماذا لا تتحدثان بالإنجليزية؟
أعاد لها المستر ما قاله فقالت بدهشة:
أوه .. بن لادن .. سمعت عنه .. أليس هو الرجل الذي لا يستطيع حصر عدد أولاده؟
هز المستر رأسه بالإيجاب ، وقلت لنفسك أن ريتا عالمة ببواطن الأمور ، ولعلها تعرف عن نجران أكثر مما يعرف السديري..

أبو رشاش من بعيد ..
واحة نخيل وشلال ماء ينحدر من أعلى الجبل ، وثمة خيام ملونة..
وقفت السيارة عند الحاجز ودون أن يقف الحارس الأشقر الذي يمدد البندقية على ركبتيه ، أشار لكم بالمرور
عبرت السيارة الحاجز ، وقطعت طريقا وسط الأشجار الشوكية الجافة ، ثم انعطفت ودخلت المعسكر
ثمة رجل يقف عاريا تحت دوش ماء، جسده أشقر ، ويخلو من الشعر كأجساد النساء ، وعلى اليمين صف من الكبائن، أمامها برك للسباحة ، وكانت امرأة تلبس المايوه تتهيأ للقفز في الماء.
يبدو أن معظمهم يتناول الطعام في المطعم
قال المستر ذلك وأشار إلى بناء على اليسار ثم فتح الباب وترجل..
نزلت ريتا .. أنت الآن في أبو رشاش ، الماء والنساء ، والمرتزقة الذين يعبثون بالدولارات..
هنا عالم آخر لا يمت إلى نجران ، عليك أن تغمض عينيك وتنام مثل القطط
وكلما استيقظ اليامي في دمك فستكون ريتا جاهزة ، وكؤوس الويسكي ستكون جاهزة .. ويسكي مثلجة لا علاقة لها بكولونيا الحلاقة.
سار المستر وريتا .. سرت وراءهما.. دخلا واحدة من الكبائن
كان شاب يجلس وراء الطاولة بلحية خفيفة وسيجارة بين أصابعه، فيما تدور مروحة سريعة إلى جانبه
قال المستر: الأمير علي السميري مندوب الإمام في أبو رشاش
والتفت إليك وربت على كتفك وقال:
أبو شنان .. ضابط الإدارة الجديد
ولم يقم بتقديم ريتا ووشت نظرات الأمير إليها أنه يعرفها أكثر من معرفة عابرة..
جلسوا ، وعند ذلك ضغط الأمير على زر المروحة فتحركت موزعة الهواء البارد في أنحاء الغرفة
وقام بتقديم السجائر ، فقال لك المستر:
ستقوم بعملية الترجمة ما بين حضرة الأمير والرجال الأجانب الذين يجاهدون مع صاحب الجلالة الإمام
هز الأمير رأسه موافقا ، وبدا واضحا أن للمستر سلطة في هذا المكان تفوق سلطة الأمير ، وفي الوقت نفسه تذكرت كم أن الشبه عظيم بين الأمير وبين غالية السميري!!
ظلت المروحة تدور ، وعندما كانت ريتا ترفع يدها لتدخن ، كان يظهر الشعر تحت ابطيها
وعبر النافذة ، هناك صور لميكي ماوس على جدار مقابل
أشعل المستر غليونه ومد رجليه على الطاولة الصغيرة وسط الغرفة بلا حرج
وأغمضت ريتا عينيها تاركة ساقيها مكشوفتين.

قال المستر بعد الغداء الفاخر: تستطيع يابو شنان أن تسبح في أي من هذه البرك ، وتستطيع أن تنتقل في جميع أنحاء المعسكر، ولكن بشروط..
وأشار المستر إلى قمة التلة الصخرية التي ينحدر منها الماء، وتابع يقول:
محظور عليك الصعود إلى تلك التلة..
ثم أخذ نفسا من غليونه وأضاف:
وكذلك محضور عليك التحدث مع عناصر المعسكر إلا من خلال الأمير أو ريتا .. طبعا يمكنك أن ترد عليهم تحية الصباح والمساء عندما تلتقي بهم في المطعم.
.. كانت ريتا قد استأذنت لترتاح في خيمتها
وأخذت الشمس تغيب بوقت مبكر وراء التلة..
مشى المستر وقال دون أن يتلفت:
سوف تشعر في البداية بالقلق الذي يشعر به الإنسان عندما تتغير حياته اليومية لكنك ستعتاد على الحياة هنا خلال أيام
ثم قبل أن يتلقى المستر جوابا، أشار بيده مجددا إلى بضعة قبور من الإسمنت فوقها إشارة الصليبب... وقال:
إنهم من الرجال الذين قتلوا في المعارك .. لقد كانوا شجعانا.
والتفت المستر ونظر إلى مجموعة من الرجال أنصاف عراة يمرون في الساحة ، وتكلم كما لو أنه تذكر شيئا:
يوجد في المعسكر عدد من النساء للترفيه عن هؤلاء الرجال القادمين من أوروبا والذين لا يستطيعون العيش بدون صديقات وبدون بيرة مثلجة.
ثم مد المستر يده:
إلى اللقاء .. سأعود إلى نجران.. أرجو أن أسمع عنك أخبارا طيبة.

تغمض عينيك .. تهجم عليك صورهم ، ومن جديد ذهبت السكرة ، واليامي مثل نبضات العصفور في الكف يرتجف سخونة وحنينا
وسمية ينفرط لذكراها القلب كحبات المسبحة ، وتهب نسمة ، تشم فيها رائحة حارة ال**** ، ويكتسح الحنين مشاعرك كالعواصف ، تتقلب على السرير.. تجتاحك رغبة في الهروب ..

ينفتح باب الخيمة ، يأتي صوتها ذو المذاق الحار ، تنتصب وسط الخيمة بمنامتها الشفافة
ريتا .. ريتا .. إلدغيني مثل العقارب.. أطعميني الجوع كله .. كبهار كراتشي يشتعل طعمك في خاصرتي ..
ريتا .. ريتا .. إدفني ما خفي مني وما ظهر،،،
















الجزء الثامن
هذا اليوم حملت سمية سلة الفجل وحزمة من القضب ، وذهبت إلى السوق
وأمام كوخها اجتمع عدد من النساء المسنات يستمعن إلى تمثيلية (أم حديجان) من المذياع ، وكن يضحكن بأفواه خالية من الأسنان أو تكاد
وثمة عنزة هزيلة إلى جانبهن تلوك الأوراق ، وديك يطارد دجاجة فيدركها ويقفز فوقها ..
إنتهت التمثيلية وأخذ محمد عبده يغني (لا تناظر لي بعين ..)
وعند ذلك عادت النساء المسنات يتحدثن
قالت واحدة:أمسكوا إمرأة كبير المطاوعة في فراش جارها مفتش الصحة في البلدية .. ويقولون بأنهم سيرجمونها.
ردت ثانية:صبية ومظلومة زوجوها إلى بغل..
قالت ثالثة:يا أختي لا يجوز .. كيف تنام في فراش رجل آخر؟
قالت الأولى بحدة:كيف يا أختي ، إذن يحق لهم أن يخصوا الرجال ويختنوا النساء..كيف؟
الرغبة خلقها الله .. كيف يقتلون ما خلقه الله؟
تركت العنزة الأوراق التي لم تستطع أن تلوكها ، وبدأت تشم الأرض وهي تلهث ، فيما نفش الديك ريشه كأنما يعلن أنه ملتذ.
أعلن المذيع أن الشيخ الحصري سيقرأ ما تيسر من سورة مريم ، فصمتت النسوة تأدبا وخشوعا ، ورفعن أعينهن إلى الفضاء
كانت بعض الغيوم تعبر السماء مسرعة ..

الولد عبد المعطي وأصحابه يلعبون (الطرنيب) ..
والده المريض المنتفخ البطن ، يتمدد على الأرض ، يحدق بسعف النخيل الذي بدأ يهتز بترنح ، ويشم رائحة مطر قادم.
الشباب يمسكون الأوراق ، ويحدقون ببعضهم البعض ، يقرأ الرجل المسن في وجوههم نذير المطر ..
المطر يهطل مرة واحدة في العام، يأتي ملاك الرعد ويضرب بسوطه الغيوم ، فيسقط المطر فوق الهضاب والسفوح وعبر شقوق الصخور والأجران ، وتلتقي المياه المتدفقة في وادي نجران ، وتأخذ في طريقها الأكواخ ، وألواح القصدير وسعف النخيل والماعز والأرانب والدجاج.
يشرب عبد المعطي الشاهي ويلعب الورق ، يحك الشباب رؤوسهم ، ويعدلون من وضع الطواقي فوق رؤوسهم ، ويشعر الوالد بدبيب الخوف يتسلل إلى قلبه..
ربما .. ربما .. من يدري ، لعلني أعيش عاما آخر ، فيجد عبد المعطي عملا ويشتغل ، ونزوجه من عليا ذات الثلاثة عشر ربيعا .. من يدري .. ربما .. ربما.

قال ابن أمينة لزوجته: لم أجد عملا .. لم يعد أحد يزرع خوفا من الفيضان .. السماء ستمطر ، والأراضي ستظل جرداء حتى ينتهي المطر ..
عبرت سحابة من الهم والغم ملامح فاطمة ، العروس ذات الثديين الصغيرين ، وقالت:
لن يكون أمامنا ما نأكله .. هل نموت جوعا؟
تناول ابن أمينة ابريق الماء فشرب ومسح فمه بطرف ثوبه وقال:
سأظل أبحث عن عمل
رفعت إليه عينين طفوليتين وقالت:
أبو شنان أصبح يحكم ويرسم .. إذهب إلى أبو شنان لعله يجد لك عملا
نهرها ابن أمينة بغضب ، ولكنها استمرت تقول بإلحاح:
ليس في حارة ال**** سوى الجوع والمرض .. الفقر والمهانة .. ليس في حارة ال**** سوى الرجال الذين يطلبون الجوع والراحة كالكلاب
رفع ابن أمينة يده عاليا وأهوى بها على وجهها ، فجثت فاطمة على الأرض تبكي وتنشج.
مشى ابن أمينة .. مشى .. ومشى .. ترك حارة ال**** وراءه ، وأخذ يخوض في الرمال الناعمة.
نجران قاسية وبلا قلب ، نجران زوجة أب ضالمة .. تفو .. تفو .. تفو .. حكام وتجار وحملة سلاح .. تفو .. تفو .. تفو،،،


















الجزء التاسع
وصل ابن أمينة السوق ، وصل وهو يلهث وقد زاغت عيناه وبدا أثر الجوع على جلده الأصفر ، لم يكن ثمة من أحد ، الشوارع فارغة والحوانيت مقفلة والمدينة صامتة.
ظل يلهث وظل بطنه الضامر يرتفع وينخفض وظل يحدق بالشارع بذهن معطل.
من بعيد جاء (السقا) يحمل على كتفه عصا يتدلى من طرفيها سطلا ماء ، جلس ابن أمينة مقرفصا على الرصيف ، وخطر له أن الناس في الصلاة وربما يكون المطاوعة قد أغلقوا الحوانيت نظرا لقدوم الأمير إلى المسجد مثلا ، وقال لنفسه:ان السقا لا في العير ولا في النفير وهو أهبل يدخل كل البيوت ، ولا تتحجب عنه النساء ، فماذا أنتظر منه؟
وصل السقا وهو يترنح تحت ثقل السطلين اللذين يمتلئان بالماء ، وإذ أبصر ابن أمينة توقف وقال وهو يمسح عرقه بظاهر كفه:إيش تفعل هنا يابن أمينة؟
تجاهل ابن أمينة السؤال وقال بحلق ناشف:
عطني شربة مويا أنا فداك
إقترب منه بأحد السطلين فغب بلهفة ، وترك الماء يسيل حتى ذقنه ثم رفع رأسه وقد بدا عليه الإنتعاش .. وإذ ذاك تساءل:أين الناس يا سقا . المدينة مغلقة أين البشر؟
رفع السقا حاجبيه وقال كما لو أنه غاضب:
ألم تسمع؟
نفى ابن أمينة أن يكون قد سمع ، فقال السقا:
البشر يتجمهرون في ساحة القصاص
مط ابن أمينة شفته السفلى ثم استوضح:
وهل يطقون رأس أحد الناس؟
أجاب السقا وقد ظهر على وجهه حزن مفاجئ:
إنهم يرجمون امرأة كبير المطاوعة.
ثم أنزل العصا الغليظة عن كتفه وقرفص ، ثم جلس على الإسفلت الحارق وقال:
لقد زنت مع شاب مثل القمر ، زوجها شيخ لا يستطيع أن يروي ظمأها ، وهي شابة جميلة .. دوما تكحل عينيها ، وتلبس ملابس حجازية مزركشة.
وقف ابن أمينة ومشى فيما ظل السقا يحدث نفسه ، وقال ابن أمينة لنفسه:
أنا جائع .. فما فائدة الماء ؟
وتذكر فاطمة التي تنتظره بوجه مثل قشرة الليمون ، فازداد الغبش في عينيه.
صاح السقا الأهبل بصوت عال:
هل تذهب إلى ساحة القصاص لتتفرج على الرجم؟
لم يكترث ابن أمينة ، وقال بصوت خفيض:
ابوك وابو الرجم أريد أن أملأ بطني
وظل يسير في الشوارع كالتائه...

هذا سوق اللحم
ذبائح كاملة تتدلى من الكلاليب
وثمة من يحمل الساطور ويشق احدى الذبائح إلى نصفين ، وآخر يقطع اللحم إلى شرائح .. شرائح حمراء..
وعدد من الباعة يقرفصون أمام محلاتهم يمسوكون أسنانهم بانتظار مجئ الزبائن.
يابن أمينة اللحم لذيذ ، وفي فمك مذاق الأحذية ..
آه على رطل لحم .. رطل تأكله نيئا لوحدك .. لا .. ليس لوحدك
تطعم منه فاطمة شيئا كثيرا ، تشوي لها قطعة وراء قطعة ، تشبع .. تتمطى .. تتثائب .. تقفز العافية إلى خديها ، تتمدد إلى جانبك على الفراش ، تغني لها دان دان ..
تغني لك ، ونعيش عيشة هنية وسط زهور البرية .. تمص فمها ، وتدس رأسها تحت ذقنك ..
إيش تبي يا ولد؟
إبتلع ريقه ، وعرف أن ثمة من ينتهره .. فمشى ..
في آخر السوق كان الزبال عباجة الذي يلف وسطه بحبل من الليف ، وتدمع عيناه باستمرار يجمع الفضلات التي يجرها بغل تبرز جميع عظامه لشدة الهزال ..
مرحبا يا عباجه
مسح عباجه عينيه الدامعتين ، واقترب برأسه أكثر ليعرف المتحدث ثم هز رأسه وقال:كيف حالك .. كيف حال الربع؟
عبس ابن أمينة ولم يجب ، وعند ذلك قال عباجة: إصعد معي إلى العربة نتحدث وأوصلك إلى الحارة
قال ذلك وصعد إلى مقدمة العربة، فمشى البغل بلا حماس..
صعد ابن أمينة إلى جانبه وأخذ عجلا العربة يهتزان ويحدثان صريرا فيما كانت رائحة الفضلات والجلود تتصاعد.
جائع ياعباجة .. لم أذق الطعام منذ أمس
عاد يمسح عينيه الدامعتين وكان وجهه متسخا ، فقال عباجة دون أن تظهر عليه الدهشة:
ذلحين نأخذ فضلات معسكر الحرس الوطني وسنجد بينها الخبز وعلب السردين.
الجوع .. السراب .. الصرير .. العينان الدامعتان .. فاطمة .. فاطمة .. قليلا من الإنتظار والصبر.

كومة من العلب الفارغة ، وقطعة صفيح كبيرة ، وأوراق ، وقشور البيض ، ولا شئ غير ذلك ..
جزء من المزبلة يحترق ببطء ، والدخان يتصاعد بلا اكتراث ، وليس ثمة كسرة من الخبز
والصمت .. الجوع .. الوجع .. الغبش.. القهر ..
إزدادت الدموع في العينين واحتقن الوجه المتسخ
أغمض ابن أمينة ، ثم فجأة .. استدار .. مشى .. ركض .. لهث .
دارت به الدنيا .. سقط .. وقف .. مشى .. ركض .. ومن جديد .. سوق اللحم .. الذبائح .. اللحم الأحمر ..
وقف يلهث أمام اللحم الذي يتدلى من الكلاليب ..
ظل يلهث .. وينهنه .. ويبكي .. ترتجف ركبتاه من الخور ..
ودفعة واحدة ، وبشكل فجائي هجم على اللحم طوقه بذراعيه وشده إلى فمه وأخذ ينهش ، فيما انهالت عليه القبضات واللكمات من كل جانب ..
وعلى الفور أقبل عدد من العسس واقتادوه والدم يسيل من أنفه،،،



























الجزء العاشر
قالت ريتا :لقد وصل المستر ومعه بعض الناس..
من أطراف المعسكر تفوح رائحة الطعام الذي يعده الطباخون لوجبة العشاء ، فيما يظل الماء يتساقط من أعلى الجبل بشكل متواصل.
ظل يرقب القبور ذات الصلبان بشرود وبوجه واجم..
فعادت تقول: ومن بين الحضور بو طالب وقائد الشرطة وبعض المسؤولين في ديوان الأمير
تحولت نظراته إليها ، فاحتكت به قائلة:
نظراتك هذه الليلة تخيفني .. لماذا لم تحلق ذقنك يابو شنان؟
كسر غصن الدفلى بيديه وقال بعصبية:
زهقت من الحصول على الأشياء بسهولة .. بدأت أحن إلى التسكع والظمأ ..
رفعت حاجبيها دهشة وقالت:
حسنا .. أنت تعيش لحظة سأم .. سوف يتهمني المستر بالتقصير .. هل أستطيع أن أعمل شيئا من أجلك؟
عاد إلى صمته .. جلس .. وضع رأسه بين كفيه .. إستغرق بالصمت الطويل ..
جلست إلى جانبه .. وضعت رأسها بين كفيها .. إستغرقت في الصمت..
هبت موجة هواء حاملة معها رائحة الشواء ، وبدأ أحدهم يغني بالفرنسية بصوت حزين ، رفعت رأسها وقالت بصوت خفيض: هل تعرفه .. إنه جان الفرنسي .. إنه يغني لأمه
هل سمعت لقيطا يغني لأمه؟
ظل صامتا وان كان قد رفع رأسه إليها
فعادت تقول: هل تذكر أمك يابو شنان؟
حك ذقنه .. وهز رأسه بالنفي
هل ماتت وأنت صغير؟
هز رأسه بالإيجاب
ألا تذكرها؟
خرج عن صمته ، وقال بصوت طفولي:
لا أذكرها ماتت وأنا صغير لكنني أذكر أمي الثانية .. تلك المرأة التي احتضنتني بعد موت أمي .. إسمها سمية ، لونها أسمر ، قلبها أبيض .. من كفيها تفيض البركة.
أهي زنجية؟
عبس .. فاستدركت سريعا
أعني هل هي من اللواتي أعتقهن الأمير؟
عاد إلى صمته ثم قال بعد حين:
الأمر لم يتغير .. لقد صدر قانون عتق ال**** لكنهم ظلوا فقراء ومواطنين من الدرجة العاشرة.
إرتفع صوت المغني الفرنسي بنبرة كلها أسى ، وعندما انتهى صفق له مجموعة من رفاقه ..
فقالت ريتا: هذه الليلة لن أكون معك ..
تمدد على الأرض تاركا رأسه تحت كتفيه .. وسألها:
لماذا ..؟
قالت بصعوبة: لأنني يجب أن أذهب إلى ذلك المكان ..
إعتدل متكئا على ذراعه ، وسألها مجددا: أهو المكان المحظور علي دخوله؟
هزت رأسها .. فاستمر يتكلم باهتمام: هل هناك ليلة حمراء لضيوف المستر؟
أجابت بالصعوبة نفسها: أجل
وهل تذهبين؟
أذهب أنا وجميع النساء في المعسكر..
صمت لحظات ... رسم باصبعه على التراب بارتباك ثم عاد فسألها وقد ارتسم على وجهه القلق:
ألا تستطيعين الإعتذار؟
إبتلعت ريقها ، وقالت:
لا أستطيع .. إنها أوامر المستر
ثم أمسكت يده ، وضغطتها:
هل أنت قلق علي يابو شنان؟
نظر في عينيها ولم يجب ..
يابو شنان إني أكره الذهاب .. إنهم شاذون .. إنهم يتعاملون معي بشكل مرعب ..
طأطأ أبو شنان رأسه .. وفي الوقت نفسه سمع إسمه في الميكرفون ، فوقف ..
لا بد أن المستر يريد محادثتي ..

قال المستر وهو يتبختر في ثوب عربي ، ويمسح نظارته بقطعة قماش: يابو شنان إذهب إلى نجران .. أنت مجاز لمدة ثلاثة أيام.
هز أبو شنان رأسه ، ومشى دون أن ينتظر المزيد ..
صعد إلى سيارة الروفر ، أدارها .. ودفعة واحدة تركها تنطلق بالسرعة القصوى ..
يابو شنان .. عيناك تدمعان ، ومثل سمكة تسبح في العروق تغلي المهانة الشرسة .. لا أمر ولا خمر .. لا أنت حاضر ولا أنت غائب .. ومثل الإسفنجة التي يمسح بها ابن عناق طاولته القذرة يمتص صدرك الحقارة والنذالة .. كأنك لم تكن ذات يوم زينة الرجال ...
كانت سيارة الروفر تعلو وتهبط فوق الحجارة والصرار ، وحتى المقود بين يديه كان يتحرك كما لو أن أحدا لا يسيطر عليه ..
يابو شنان .. يجب على الفقراء ألا يسكروا إلا بعد الإنتصار .. هكذا يقول مشعان
مشعان .. مشعان .. حين نغرق بالقذارة نتذكر الطهر ، ولذلك أذكرك الآن ، أما اليامي فسوف أجثو على رمال الصحراء وأنتحب من أجله حتى الموت ..
وسمية .. ستبتسم لي ذات يوم ، وعند ذلك .. مالذي سيحدث لو أنها ابتسمت لي مرة واحدة.
سأعود لكم .. سأعود لكم وأشرب الكولونيا والسبيرتو ..
سأبكي اليوم وغدا وبعد الغد واليوم الذي يليه ..
بدأت السيارة تتأرجح بين الحجارة الكبيرة ، وتعلو وتهبط .. وكانت الصخور تقترب .. والظلمة تشتد .. وكل الأشياء التي بلا قلب تزداد قسوة..

























الجزء الحادي عشر
تهتز العربة .. تميل عجلاتها ذات اليمين وذات الشمال ، ويصدر عنها صرير والبغل دامع العينين يمشي بتثاقل يلوك اللجام الصدئ ، وتبدو عظام حوضه نافرة كما لو أنها ستثقب بعد حين الجلد ..
وعباجة فوق كومة الفضلات يعصب رأسه بغترة وسخة ، ويمسح بين الحين والآخر عينيه الدامعتين باستمرار وكالعادة لا يعرف الأمس من اليوم ولا الجمعة من الخميس,,,.
لا يعرف أين ينام .. أو متى اغتسل آخر مرة .. أو هل تعطيه البلدية أجره أم لا ..
لا أحد يتلفت إليه .. أو يحس به .. يجمع الفضلات بشرود دون أن يتنبه بدوره إلى أحد .. ويتمتم أحيانا أشياء غير مفهومة ربما يغني لنفسه ، ولكن بالتأكيد فإن أحدا لن يعترف بأن هذه التمتمة شئ يشبه الغناء..
وهذا الصباح كان يتمتم وكانت أذنا البغل تنتصبان.
مرق على سوق الصاغة ، وعلى الشارع الرئيسي وشارع الزيود وسوق اللحم ، حمل كل الفضلات في عربته .. وها هو يقترب من سجن (صعيد نجران) ليحمل الفضلات ..
طرق الباب كالعادة خرج له الحارس عبده الذي لا يتكلم وإنما تتكلم ملامحه الصارمة ..
وكان عباجه لا يزال يتمتم لنفسه ما لم يتوقف عن التمتمة به منذ الصباح ..
أحضر أحد السجناء كيس الفضلات على ظهره وبعد أن أنزله نظر إلى السماء وتنفس بعمق وزاغت نظراته عبر الصحراء الممتدة .. وإذ تباطأ فقد نهره عبده الحارس ، فعاد يجرجر رجليه المقيدتين ، ثم ابتلعته البوابة ذات الرتاج والقفل النحاسي الكبير ..
إستأنف عباجة السير وظل يمسح عينيه الدامعتين ، وظل البغل يسير بلا مبالاة وبين الحين والآخر كان يمر باعة القضب والفجل في طريقهم إلى المدينة .. وكانت بعض الفضلات تتساقط من العربة الطافحة بلا اكتراث فتلتقطها طيور القطا السابحة في الهواء فاتحة مناقيرها بلهفة .. وتأتي زوبعة دائرية تحمل في دورانها الحصى والأوراق ، يلف عباجة الغترة حول أنفه ويزداد تساقط الدموع من عينيه ..
ومن بعيد تقبل المزبلة .. يتصاعد منها الدخان ورائحة احتراق التنك والقصدير والعلب الفارغة ..
ثمة أطفال من حارة ال**** ينبشون الفضلات ويتصايحون .. تحلقوا حول العربة وأحدهم تسلق مؤخرتها فانتهرهم عباجة ولكنهم لم يخافوا ولم يكن أحد منهم يتوقع منه الأذى ..
وقف الأطفال ينتظرون افراغ محتويات الكيس الذي يحوي في أغلب الأحيان بالإضافة إلى القشور والأوساخ بعض قطع الخبز وحبات التمر ..
هبط " عباجة " وأزاحهم بيديه وقال لهم وهو موقن بأنهم لن ينصاعوا:
يا أولاد .. إنتظروا .. ذا الحين نفرغ الكيس.
إستدار إلى العربة ، وجذب الكيس بيديه فسقط على الأرض ، وأفرغ محتوياته.
هجم الصبية وتزاحموا على نبش الفضلات فيما استمر عباجة في تفريغ بقية حمولة العربة.
إنتهى من ذلك سريعا فمسح عينيه وهم بصعود العربة لكن أحد الأطفال صرخ برعب ثم صرخ آخرون وبعضهم ولى الأدبار.
إقترب عباجة وقد توقف عن التمتمة ، فشاهد يدا مقطوعة من الرسغ .. يدا بخمسة أصابع قصيرة.. ركع عباجة على ركبتيه أمسك الكف بيديه ، كان اللحم طريا والأظافر تحتقن بالدم الجامد، وكان يستطيع أن يرى الشعر الخفيف الذي ينبت فوق الأصابع كما كان يستطيع أن يرى العروق الزرقاء المتشنجة فيها ...
يا أولاد .. إذهبوا .. أبعدوا عن هذا المكان
وكان صوته مجروحا وكان فيه نذير البكاء.
حمل الكف ووضعها في عبه ، ثم صعد العربة وانتهر البغل بعصبية ثم تناول الكرباج (حبل من سلك تلفون وجده في فضلات معسكر الحرس الوطني) وألهب ظهر البغل الذي اضطر أن يقاوم في البداية ويضرب بقائمتيه الخلفيتين الهواء ، ثم انطلق يعدو على غير عادة في الأرض الرملية الحارقة ..
وصل بوابة سجن (صعيد نجران) وكان بعض الزوار القادمين من (الموفجة) ينتظرون.
وقف بينهم وقد احتقن وجهه وبقي صدره يعلو ويهبط .. وعندما انفتح الباب وأطل وجه الحارس عبده اقترب منه فبادره عبده قائلا: إيش تبغي يا عباجة؟
إبتلع عباجة ريقة ومسح المزيد من الدموع في عينيه ، وقد خرج في بداية الأمر ما يشبه الفحيح من فمه، ثم أخرج صوتا لا يمت إليه: أبغي أشوف ابن أمينة!
دون أن تفارق الملامح الصارمة وجهه أجابه عبده:
إيش تبغي تشوف في ذاك اللص؟
ثم كأنما فطن إلى شئ فاستدرك:
آه .. لعلك ياعباجة وجدت يده في كيس الزبالة ..
إنصرف .. إنصرف قبل أن أطلق على رأسك بالبندق ..
إستدار عباجة بانكسار ، صعد العربة .. فمشى البغل ببطئ وهو يشمشم الأرض بصعوبة .. مشى .. ومشى ، وعندما ابتعد أخرج عباجة الكف من عبه ، نظر إليها بامعان ، ثم انكب عليها يقبلها وهو يتمتم،،،















الجزء الثاني عشر
توقف بسيارة الروفر أمام مقهى أبو رمش .. فتح الباب وهبط ، وكان الغبار يغطي شعر رأسه وذقنه ورموشه ، ورغم أنه لاحظ أن بعض الناس ينظرون إليه ، إلا أنه لم يلتفت .
هرع من الداخل ابن عناق وعلى وجهه فرحة طفولية: مرحبا .. مرحبا يابو شنان .. نورت المقهى حقنا ..
دخل دون أن يتفوه بكلمة وتبعه ابن عناق وهو ينفض عن قميصه المبتل بالعرق ذرات الغبار ...
توقف رجلان كانا يتحدثان بهمس وانسل أحدهما خارجا فيما حدق بعض الجلوس باهتمام ...
هل أحضر لك شاهي بالنعناع؟
وافق بهزة من رأسه وقال ابن عناق في نفسه: أبو شنان أصبح مثل السادة الذين يتكلمون من رؤوس أنوفهم .. الله الله يا دنيا...
مسح بنظراته المكان .. المقاعد الخالية والطاولات القذرة التي يحط على دبقها الذباب ، لا شئ يتغير في المكان ، لكن أشياء كثيرة تتغير في أعماقك .. يتغير في داخلك كل شئ حتى الأمعاء والكبد والغدة الصفراء .
مسح جبينه بكفه الوسخة ، وأغمض عينيه .. تغفو .. تغفو .. تنتابك رغبة في النوم ، في غيبوبة طويلة .
أحضر ابن عناق ابريق شاهي ساخن يتصاعد من فوهته بخار كسول وقال:
شاهي على طلبك ..
دعك عينيه . كالفلفل الحار إذ يلامس اللسان يسكن فيهما اللهب.. وكانت العروق الحمراء تنتفخ وتأكلها الحرارة والغبار ..
يجب أن تغتسل شعرك كله غبار ..
الغبار .. الغبار ..
الغبار في عيني ، في حلقي .. الغبار يغلفني .. جسدي معجون بالغبار والدبق .
أصبحت مشهورا يابو شنان .. الناس تتحدث عنك أكثر مما تتحدث عن بو طالب ..
الويسكي ، المستر، ريتا ، والشهرة الجوفاء ... العار المجوف .. والصمت .. وسمية وحارة ال**** .. والغضب الذي يسبح في العروق كأسماك القرش..
نظر إلى ابن عناق ذي الوجه الطفولي الذي لا ينمو وقال له: إجلس ..
جلس ابن عناق وهو يكاد لا يصدق ثم أخذ يصب الشاي في الإستكانة فيما أشعل أبو شنان سيجارة وبعد أن رفع رأسه سأله أبو شنان على الفور:
أين الزيدي؟
ضحك ابن عناق وأجاب: لقد ذهب إلى الجبهة .. هناك على جبال صعدة .. حك أنفه ، ثم عاد يسأله:
وما هي أخبار سمية؟
إكتست ملامح ابن عناق بالجد وهو يجيب:
تبيع الفجل كل صباح في السوق ولكنها لم تعد كما كانت سابقا .

ثم توقف قليلا وأضاف: لكن حدثت فاجعة في حارة ال****..
إستيقظ أبو شنان تماما وازدادت ملامحه عبوسا ..
إبن أمينة كاد يهلك من الجوع فهجم في سوق اللحم على ذبيحة معلقة وأكل منها فسجنوه بتهمة السرقة وقطعوا يده من الرسغ .
أطفأ بو شنان سيجارته بكأس الشاي بعصبية ، ووقف ..

توقف هذه المرة أمام دكان رأفة العدني الذي كان يتهيأ لإغلاق المحل ..
ترجل من سيارة الروفر فاستقبله رأفت بتحفظ ، وكانت نظرات رأفت مخيفة ..
أبغي قرص من الفلافل الزاكية .
قال رأفت بالتحفظ لنفسه:
غلقنا .. لم يبق فلافل ..
ظل واقفا دون أن يقول شيئا وظل رأفت واقفا بلا حماس .. حدث نفسه:
نظراته تدينك وتزدريك .. فكيف اذن ستجرؤ على أن تضع عينيك بعيني سمية؟
مرة أخرى تطوف بك سيارة الروفر في الشوارع الخاوية .. الغامدي يغلق دكانه .. وباعة العربات يهرولون إلى بيوتهم وعمال البلدية يعلقون الفوانيس في الشوارع .
وعند الزوايا والمنعطفات يقف العسس والشرطة والكلاب الضالة والقطط ، وأنت مثل ذبابة مقلوبة على ظهرها .. فأين الملاذ؟

عاد إلى المقهى ..
كان ابن عناق يكنس الأرض وقد صف الطاولات فوق بعضها البعض وعندما رآه ترك المكنسة وغسل يديه وأقبل مرحبا .
تمدد أبو شنان على الكرسي الطويل الذي يشبه الإريكة وقد بدا وجهه مكدودا ..
يابن عناق أبغي أسكر . أبغي أشرب حتى الصبح ..
بدت عليه الحيرة ، فقال ابن عناق كما لو أنه يود أن يبكي:
يابن أمي أنا فداك ليس عندي سوى الشاهي والقهوة .
يابن عناق .. هات لي شاهي أسود .. أسود مثل القطران .
هز ابن عناق رأسه بأسى ثم هرول إلى البريموس فأشعله من جديد وصنع ابريق شاي ، وعاد مهرولا .
كان أبو شنان يغط في النوم ..
هزه ابن عناق ، ففتح عينيه:
إنهض يابن امي .. يجب الا تنام وانت مغموم ..
إعتدل أبو شنان وفرك عينيه ثم تناول الشاي ، وأخذ يرشف دون أن يتكلم ..

فجأة ظهر عند بوابة المقهى شبح يتمايل ويصدر تمتمات تشبه الفحيح.. وعندما أصبح في دائرة الضوء هتف ابن عناق: إنه الزبال عباجة ..
دخل دون أن يطرح السلام وكانت تفوح منه رائحة خمر رديئة .. جلس على الأرض أمامهما وظل يتكلم مع نفسه ويتمتم والزبد يخرج من شدقيه ..

قال ابن عناق باشفاق :أحيانا يسكر فيأتي لينام هنا .. من النادر أن يفعل ذلك .. إن ذلك لا يتكرر كثيرا ..
سعل أبو شنان وارتشف المزيد من الشاهي وكان يراقب الرجل باهتمام ..
أجهش عباجة فجأة بالبكاء . فانحنى ابن عناق وأخذ يهدهده:
في مثل هذه الحالات لا يفصح مثل طفل رضيع ، يبكي ولا يدري أحد من أين يأتيه الألم ..
قال ابن عناق ذلك وهو يربت على كتف عباجة ويمسح جبينه وشعرة..
توقف عباجة عن البكاء . كف فجأة وامتدت يده إلى عبه وأخرج الكف ذات الأصابع المتشنجة وألقاها على الأرض وهو يتمتم ويقول أشياءه غير المفهومة .
فتصلبت نظرات أبو شنان .. أحس بشعر رأسه يقف وتنتابه هزة تعتصر الفؤاد وتكتم الأنفاس،،،













الجزء الثالث عشر

إمتلأت الشوارع بالنفايات وأخذت تفوح روائحها الكريهة إلى البيوت ، وعششت الفئران في أكوام الزبالة فيما تحلقت حولها القطط والكلاب ذات الأحجام الكبيرة .
أما الذباب ، فقد كان يحط جماعات فوق العفن ثم يطير عندما تقترب الكلاب وتحط من جديد فوق الوجوه وعلى البضائع والجدران .
لم يعد أحد يرى الزبال عباجة كما أن أحد لم يعد يرى عربته وبغله ذا العظام البارزة ...
قال رجال يأكلون في مطعم رأفت أن عباجة الذي وجد يد ابن أمينة في كومة الزبالة قد أصابه الخبل، وأنه تاه في البراري والوديان .. وقد يعود ذات يوم وقد لا يعود ..
قال لهم رأفت بعد أن انتهوا من سيرة عباجة : يا شباب .. أريد أن أذهب إلى البريد لأرسل برقية إلى عمي في جدة .. أرجوكم أن "تبقوا حتى أعود" . ثم أنه ركب الدباب وذهب ..

ولما عاد وجد أن الشباب يستأنفون الحديث في سيرة عباجة فجلس يستمع إلى حديثهم..
وعندما انتصف النهار توقفت بضع سيارات عسكرية أمام مطعم رأفت ونزل منها جنود يحملون البنادق فاقتحموا المطعم ، وقبضوا على رأفت وقلبوا الأشياء وفتشوا المطعم تفتيشا دقيقا .. ثم وضعوا الأصفاد في يدي رأفت وفي قدميه .. وأخذوه معهم ..

في باحة السجن ، ودون أن يسأله أحد أي سؤال ، ألقوه أرضا ، ورفعوا قدميه عاليا وضربوه فلقة بالعصي الغليظة ، فصرخ رأفت وبكى وتوسل إليهم ، وطلب من كل الأنبياء أن يتدخلوا ، فانتفخت قدماه وجف حلقه ودمعت عيناه دما ..
وعندما توقفوا عن ضربه كان ينبح تارة وتارة أخرى يبكي بحرقة .
وجاء أحد الحرس ، فألقى عليه سطلا من الماء فقبع رأفت في أحد الزوايا وهو يرتجف .
ظل حتى جفت ملابسه ، وإذ ذاك جاء الحارس عبده وشده من شعر رأسه وانتهره لكي يقف .. ثم دفعه بقسوة إلى الأمام وظل يتحرج إلى أن وجد نفسه في غرفة مضاءة ولم يكن يستطيع أن يرى من خلال الغبش شيئا ..
وبعد برهة إستطاع أن يميز الشخص الذي يجلس وراء الطاولة ويضع على عينيه نضاره ، فأحس بالرعب ..
قال له المستر: قضيتك من اختصاصنا
إبتلع رأفت ريقه بصعوبة ، فسأله المستر على الفور :إسمك؟

-بعد أن إزدرد ريقه-!! رأفت
إسم أبيك؟
عبد المعطي
إسم أمك؟
.. غزالة
متى دخلت إلى السعودية؟
منذ عام ..
هل لديك إقامة من دائرة تسجيل الأجانب؟
هز رأفت رأسه بالإيجاب . فصمت المستر قليلا وأخذ يقلب بعض الأوراق أمامه ..
ثم سأله: المدعو خالد محمود .. أهو عمك؟
نعم ..
ماذا يعمل؟
صاحب مطعم في جدة ..
هل أرسلت له برقية هذا الصباح؟
نعم ..
ماذا كتبت فيها؟
يا سيدي كنت قد طلبت منه مع أحد المسافرين أن يرسل لي قوالب فلافل فتأخر ، ولذلك أرسلت له برقية قلت فيها أرجو أن ترسل لي القوالب ..
دق المستر بقبضته الطاولة ، وصرخ:
أنت تكذب ..
فارتجف رأفت أكثر من أي وقت آخر ، وتساءل بضعف:
ولماذا ياسيدي؟
فأبرز المستر له صورة عن البرقية وقال:
أنظر .. لقد أرسلت تقول له أرجو أن ترسل لي القنابل .
.. القنابل؟
وهجم خوف شرس وتكلم بصوت مذعور:
يا سيدي .. أنا بائع فلافل .. أصنع أقراص الفلافل بقوالب نحاسية مستديرة ، وهي غير موجودة في نجران ، ولذلك فقد أوصيت عمي أن يرسل لي بعضا منها .. إنني لا أعرف القنابل ، ولا أدري كيف يستعملونها .
جلس المستر على كرسيه ، أشعل غليونه وظل صامتا .. ملأت حلقات الدخان جو الغرفة ، وإذ ذاك قال المستر بهدوء: أنت تعد لصفقة أسلحة .. أغلب الظن أنك إتفقت مع بعضهم لتهريبها إلى صنعاء .. أليس كذلك؟

ثم أخذ نفسا من غليونه واستمر يقول: سوف تنكر في البداية ، ولكننا سنعرف كيف ننتزع منك التفاصيل .. ولا تنسى أنك إذا تطوعت وعملت على تسهيل مهمتنا ، فإن ذلك سيكون لصالحك .
يا سيدي ..
قاطعه المستر بغلظة: لا أريد منك جوابا الآن .. سنلتقي في وقت آخر .
ومرة أخرى دخل الحارس عبده وشد رأفت من شعره ، ودفعه إلى إحدى غرف السجن .

غرفة معتمة حتى لو أن أحدا مد إصبعه أمام وجهه فإنه لن يستطيع أحد أن يراها ، تعثرت قدماه ببعض الأشياء ، وكان ثمة رائحة بول وعفن .. والتفت ينظر إلى تلال الظلام ، وأحس أن العتمة ثور هائل بعد هنيهة سيقلب الدنيا رأسا على عقب ، وأحس في الوقت نفسه بالوجع .. ودبيب الألم يخز بقوة كوخز الدبابيس .
جلس .. شعر برطوبة الأرض الصلعاء ، أسند ظهره إلى الجدار ، وازداد الوجع وأصبح مثل الجرح إذ يسقط عليه الملح .. أسند رأسه أيضا إلى الجدار .. ما الذي يحدث وكيف تسير الأشياء .. ولماذا يلفقون لي هذه التهمه؟
الوجع في رأسه يكاد يشقه إلى نصفين ، وحلم في لحظات طويلة من النوم ولكن عينيه بدأتا تعتادان الظلام .

قال رجل قريب منه بصوت خافت: من أنت أيها القادم الجديد؟
جاء صوت آخر أقل خفوتا: إخفض صوتك سوف يسمعك الحارس .
عاد الصوت الأول يسأل بإلحاح:
من أنت أيها الرجل؟
حدق في الظلام باتجاه الأصوات ، وكان موقنا بأن الغرفة تعج بالسجناء وعندما تكلم خرج صوته في غاية الخفوت لأنه لا يقوى على أن يرفع صوته أكثر من ذلك .
أنا رأفت العدني ..
وجاءه أكثر من صوت وفي وقت واحد:
أنت بائع الفلافل؟
هز رأسه كما لو أنهم يشاهدونه .. وانتابه شعور أنيس ، ورغم الألم الشديد أحس ببعض الألفة ..
وما هي التهمة التي سجنوك بها؟
فرك عينيه وكان يخيل إليه أنهما ممتلئان بالرمال ، وأجاب بعد ذلك:
لفقوا لي تهمة بيع الأسلحة .
وفجأة جاءه من الخارج صوت صراخ حاد وأصوات كرابيج متتابعة ، فانتفض رأفت وانهمر الرعب والخوف ودقات القلب ، إزداد الصراخ الذي تحول بعد حين إلى لهاث أجش ثم إلى صمت مطبق .. وظل الرعب يرفرف في أجواء الغرفة ..
فقال أحدهم: لقد ألقوا به في بئر الدم .
ولم يزد أحد شيئا . وظلل المكان صمت دامس ..

ومرت فترة طويلة قبل أن يقترب منه أحدهم ويهمس: كيف الأشياء في الخارج؟
.....
ما لون السماء وما طعم الماء والهواء؟
.....
كيف حارة ال**** وما أخبار المطر؟
.....
أنا ابن أمينة قل ولا تخشى شيئا ..
.....
هل حدثك أحد عن فاطمة؟
.....
هل عرفوا أنهم قطعوا يدي من الرسغ؟
.....
لماذا لا تتكلم ... لماذا لا تتكلم؟
.....
قل إن فاطمة بخير ، وأن حارة ال**** في أحسن حال وأنهم سيزورونني ذات يوم ..
.....
لو قلت ذلك فإنني سأعرف أنك تكذب ولكن هذا سيفرحني .
.....
أنت تبكي .. تبكي .. تبكي ..















الجزء الرابع عشر

إمتلأت السماء بالطائرات ، وتوالت الإنفجارات وألسنة اللهب .. صعد الناس في حارة ال**** إلى أسطحة الأكواخ وبعضهم إعتلى أشجار النخيل ، وعلى مدى البصر كانت كتل سوداء من الدخان تتصاعد ..
وكان الصقيع يتسلل من تحت الأبواب ومن ثغرات الأكواخ .
دخل الولد عبدالمعطي يمسح أنفه المحمر بفعل الرشح ويبصق كتل البلغم ويحدق بالصواريخ المتساقطة من بعيد ...
إنها المعركة ..
بو طالب ورجاله يركبون الوعر كالأغنام والطائرات المصرية يادين الله ..
أما سمية فقد أشعلت كومة من الحطب وجلست أمام النار تفرك كفيها وهي تقرأ تعاويذها .
وقال والد عبدالمعطي وهو يتحسس بطنه المنتفخ:
ليتني أعيش حتى تنتهي الحرب .
وأما أوراق الشدة فقد تناثرت على الأرض وحملها الهواء كيفما اتفق .. وتحلقت العجائز حول المذياع يستمعن إلى نشرة الأخبار من إذاعة الرياض بينما فاطمة زوجة ابن أمينة ترتجف خوفا أو بردا ولا تجد زيتا تشعل به السراج ..
وهبط الولد عبدالمعطي عن سطح الصفيح وتوجه إلى كوخ سمية فطرح عليها السلام ، وقرفص أمام النار ..
كانت تطرق وهي صامته فيما يطقطق الخشب المحترق ويتطاير منه الشرر ..
يا أماه سمية ..
رفعت رأسها فانعكس اللهب وأضاء ملامحها السمراء .
يا أماه .. ألا تسمعين أصوات القصف .. إنها معركة كبيرة في جبال صعدة .
ظلت ألسنة اللهب المتراقصة تعكس ظلالها على وجهها ..
يا أماه .. هل تستمعين إلي قليلا؟
رفعت عينيها إليه .. عينين يسكنهما التعب والأسى ..
يا أماه أمس جاء إلى الحارة سائق ونيت يعمل على خط جدة وسألني عن أبو شنان .
تنهدت ولم تقل شيئا : يا أماه .. قال أنه يريده لأمر هام ، فقلت له لماذا؟
فقال: هناك موضوع يخصه ولا أستطيع أن أطلع أحدا سواه ..
فقلت له: أنه مسافر وسوف يعود ..
فغادرني الرجل على أن يعود في فترة أخرى .
لا أدري يا أماه لماذا قلت له أنه مسافر .. لم أقو على أن أقول له شيئا غير ذلك.
ظلت ظلال ألسنة اللهب تتراقص على محياه الذي تنبت فيه عينان صامتتان كالخرز . وظلت أصوات القصف تتعالى.
جاء الرجل هذا الصباح مرة أخرى.. وسألني إن كان قد عاد من سفرته فأجبته بالنفي وإذ ذاك يا أماه ، إرتسمت على وجهه الحيرة .. وكان الرجل حزينا في تلك اللحظات .. حزينا وحائرا لا يدري ماذا يقول ...
دعوته لشرب الشاهي غير أنه ودعني بسرعة وركب سيارته وانطلق بعيدا كما لو أنه يهرب .
هزت رأسها .. لعلها تستعيد صورا كثيرة .. وظلت تهز رأسها كما لو أنها تتحسر .
إنه رجل حجازي يا أماه .. إن له نظرات تشبه نظرات اليامي .. هل ثمة ما يمكن عمله؟

فجأة صاح عبدالمعطي ، وهو يشبك أصابعه فوق رأسه:
القنابل تتساقط علينا .
ظلت سمية تحتفظ بهدوئها وقالت وهي تمسح جبينه:
لا تخف ، إنها ليست قنابل ، إن الدنيا ترعد وتبرق وقد جاء أوان المطر.
وسرعان ما بدأ الرذاذ يتساقط ثم تحول الرذاذ إلى المطر .. ظل صوت المطر ينقر أسطحة الصفيح، ويتسلل عبر أغصان الأشجار وجريد النخل ، وأصبح للدفئ مذاق خاص .
وأمسكت سمية الملقط وحركت الجمر المتراكم في الموقد .. ثم رفعت نظرها إلى السقف وهزت رأسها:
إنه المطر ..
سقطت نقطة أخرى على نفس المكان ، فمسحها بيده ، وظل هدوؤها الغريب يقلقه .
سقطت نقطة على الجمر الأحمر في الموقد وسرعان ما اضمحلت وذابت في التوهج ..
وعاد يمسح رأسه من جديد ثم يراقب النقطة التي تسقط على الجمر فتحدث لثوان قليلة بقعة سوداء وسط الجمر المتوهج .
وتظل سمية تحتفظ بهدوء ، لعله شرود ، لعلها تتذكر .. وكانت المسبحة تتدلى من بين أصابعها ..
مطر ..
مطر ..
مطر ..


قال لها : يا أماه لقد تحول الدلف إلى مزراب..
كان الماء ينقط من السقف برتابة ولم يعد ثمة من مكان لا تتساقط عليه نقاط المطر .
إنطفأ الجمر ، وانعجن الرماد بالماء..
ومن الخارج جاءت أصوات شئ ..
ثم سمع صوت المنادي .. وأصوات الصريخ والإستغاثة ، فوقف عبدالمعطي ، وانحنى يطل من باب الكوخ فرشقته خيوط المطر . وعبر الإنهمار كانت أشباح تتراكض وهي تصرخ ..
وقفت سمية فجأة ، وقالت :
يا لطيف .. يا لطيف .. يا لطيف .. إنه الفيضان .
إستدار إليها وقال بهلع :
الفيضان ...
وردد بارتباك : الفيضان .. الفيضان .. كيف .. كيف ..
أعادت سمية المسبحة إلى جيبها بعجلة وقالت :
علينا أن نبتعد عن هذا المكان ..
دفعته أمامها فانغرزت خيوط المطر في وجهيهما وصفعتهما ريح السموم .. وقالت تخاطبه بصوت عال كما لو كان بعيدا للغاية : إصرخ بصوت عال .. إصرخ .. إصرخ.. إلى الأخدود .. الأخدود .
ثم حدث هرج ومرج .. وزعيق .. وصراخ .. وبكاء أطفال ..
وحملت النساء الصرر على رؤوسهن والأطفال بأيديهن ، وبأسنانهن كن يحملن أطراف أثوابهن .
وهجم عبدالمعطي على الكوخ ، فوجد والده يرتجف وقد التصقت ثيابه بجسمه .
وعندما رآه الشيخ ، بكى كالأطفال وقال كأنما يحدث نفسه :
ربما أعيش عاما آخر و .....
وعند ذلك إنحنى عبدالمعطي وحمل الشيخ على ظهره ، ومضى يركض فوق الأرض الرملية الرخوة،،،






الجزء الخامس عشر
يهطل المطر من السماء يفترش أسطحة البيوت يسيل بغزارة من المزاريب وينحدر من أعالي الجبال، يتدفق في الشارع ويفيض فوق الأرصفة ويدفع الأبواب ويملأ البيوت المنخفضة في شارع الزيود ..
ويرفع الرجال سراويلهم ويخوضون في الماء بسيقانهم الرفيعة ويحفرون أقنية جانبية لجر الماء بعيدا فيما تغرف النساء الماء بالطناجر من الباحات .
ولبس ابن عناق كيسا من الخيش على رأسه وأخذ يحفر ليبعد سيل الماء المتدفق .. وفي الداخل كانت الطاولات فوق بعضها البعض وتسقط عليها قطرات الدلف بشكل رتيب .
وفي الزاوية يتمدد أبو شنان على السرير بكامل ملابسه . عيناه حمراوان وتفوح منه رائحة خمر رديئة . ذقنه طويلة وشعره منفوش وليس في تقاطيعه شئ على ما يرام .
بعد قليل جاء ابن عناق مبتلا ، ينقط الماء من رموش عينيه . خلع الكيس عن رأسه ، وارتمى متهالكا على أحد المقاعد وقال بعصبية .. إنه غضب الله .. ثم وهو يمسح الماء عن وجهه بيديه كلتاهما : هذا شتاء لم تشهده نجران من عشرين عاما ..
ثم وهو يقف : إن كأسا من الشاي الساخن الآن يا بو شنان يساوي الدنيا ..
ظل أبو شنان يضع رجلا فوق أخرى ويحدق بالسقف في شرود وظل زخ المطر ينهمر في خياله بلا توقف ..
وفجأة هتف ابن عناق : يا بو شنان .. رجل بالباب يسأل عنك .
وقف رجل مسلح حافي القدمين بالباب وقال :
يا بو شنان .. المستر يريد أن يراك في مكتب بو طالب .
إعتدل أبو شنان فبصق وسعل وقال :
قل له سيأتي أبو شنان عندما يتوقف المطر ..
قال المسلح ذو الشعر الكثيف المنفوش كأشواك البلان :
يريد المستر أن تأتي سريعا .
حسنا إنصرف أنت ..
خرج المسلح فقام أبو شنان .. تبول .. ثم اغتسل ومشط شعره وشرب نصف ابريق الشاهي وركب في سيارة الروفر وألقى لإبن عناق بورقة ذات عشرة ريالات ..

دخل المفوضية المتوكلية فانحنى الحارس ، وعرفت قدماه طريقهما إلى مكتب بو طالب . القاعة نفسها...لم يتغير شئ .. على الحائط صورة الإمام ، وعلى الجانبين صف من المقاعد الوثيرة ..
ودخل المستر من الباب نفسه الذي دخل منه بو طالب ذات مرة وكما فعل بو طالب ، جلس المستر وراء الطاولة المثقلة بالأقلام والرياش وأعلام المملكة .
خلع نظارته ثم بهدوء وهو يمسحها قال : تجاوزت الموعد المحدد لك في الإجازة .
لم يجب أبو شنان ، فقال المستر بالهدوء نفسه : بسبب المطر .. أليس كذلك؟
ودون أن ينتظر جوابا إستمر يقول : تذهب إلى المعسكر فورا . لقد رفعنا الإستنفار إلى الدرجة القصوى.
وأعاد نظارته إلى عينيه واستطرد : الوضع حرج في جبال صعدة .. الأمطار تعرقل حركة الإمداد والتموين .. وسوف يتحرك الأمير علي السميري هذه الليلة لتعزيز قوات بو طالب .
هز أبو شنان رأسه فاستأنف المستر حديثه :
يجب أن تعود حالا .. والآن تستطيع التحرك.
أطرق أبو شنان ، ثم رفع رأسه ببطء:
يا مستر .. أبغي أطلب منك طلبا .. هل تحققه لي؟
حشى المستر غليونه بالتبغ وأجاب:
إذا كان ذلك ضمن إمكانياتي ..
يا مستر أرجوك التدخل للإفراج عن ابن أمينة .
عبس المستر وقال : لا تفكر كثيرا في هذه المسائل ..
وازداد تجهما وقال كأنما يبصق :
إذهب حالا .
وقف أبو شنان . حدق بعيني المستر بثبات وقال بهدوء : حسنا يا مستر ..
ثم استدار وخرج ..

عجلات السيارة تكاد تغيب في الماء المتجمع الذي تطفو على سطحه قطع الخشب والطيور الميته والأوراق .. وعلى مدى البصر تبدو البيوت ساكنة والسماء الداكنة توحي بالعبوس والكآبة ..
والمساحة تصارع المطر بتواصل ويأس ، والناس يشمرون ثيابهم ويخوضون في الماء ، والأطفال يتعلقون بأكتاف الآباء ، والعسس يحملون المظلات ، وباعة المقلقل والفول يلبسون في رؤوسهم أكياس الخيش ..
وعطس أبو شنان واندفع بالسيارة التي أخذت ترشق الماء على الجانبين ، والآن .. إلى حارة ال**** ..
غطست السيارة حتى منتصفها ولم يعد من الممكن السيطرة على المقود ورغم ذلك فإن المحرك لم يتوقف .
ظلت السيارة تشق طريقها بصعوبة .. ومن بعيد كانت الأمواج تملأ الوادي وتطفح على الجانبين .. ولم يكن يبدو من حارة ال**** شئ، ولا حتى ذوائب أشجار النخيل .
أما ألواح الصفيح فقد قذفتها الأمواج على الأرض الرملية .. توقفت السيارة وتحولت عينا أبو شنان إلى حلقتين من صمت ورصاص .. وظلت طيور سوداء كثيرة تحلق فوق الماء وتكاد أجنحتها تمس السطح المتموج،،،







الجزء السادس عشر
يوم آخر .. وطائرات تروح وتجيئ في السماء ، وضوء شاحب تسلل من طاقة في أعلى الجدار . ومن بين القضبان ألقى السجان ببعض الأرغفة وحفنة من حبات التمر .
توقف الضرب والتحقيق وبدأ الدم فوق الجروح يتجمد .
إقترب ابن أمينة منه يمسك حفنة من التمر في يد ويضع رغيفا تحت إبطه الآخر ...
كل يا أخي يجب أن نعيش .
أمسك رأفت بحبة تمر وضعها تحت أسنانه ، ودفعة واحدة هجمت عليه صورة أمه ، تنتظر ساعي البريد الذي يهز لها رأسه معتذرا فتسوي من وضع غطاء رأسها الأبيض وتغمض جفنيها على دمعتين ..
السجن في بلاد الغربة مذلة .. أليس كذلك يا رأفت؟
أسند رأسه للجدار وكان بعض المحكومين بالمؤبد يتكومون بهياكلهم على الأرض بلا مبالاة ويد ابن أمينة عند الرسغ تبدو ملساء وتبرز منها نتؤات وزوائد لحمية ..
السجن هو السجن ..
رائحة البول والرطوبة والفضلات والقمل والوسخ الذي يتراكم فوق المسامات .. والإنتظار .. آه .. الإنتظار .. فمتى ينتهي الأمر .
.. يبدو أن المطر قد توقف ..
.. وما فائدة ذلك .. طالما أن أحدا لن يزورنا .
.. والحرب في الجبال لا تتوقف .
.. والشمس .. آه .. كيف مذاق الشمس؟
.. صه .. خطوات الحارس تقترب ..

وقع الإنفجار فزلزلت الأرض زلزالها ..
وامتلأ الجو بهدير الطائرات النفاثة ..
وحدث انفجار ثان ، فالتصق السجناء برعب .
وتوالت الإنفجارات ، فصاح ابن أمينة من أعماقه :إنهم يقصفون معسكر الحرس الوطني .
وفجأة شعر ابن أمينة كما لو أن انفجارا وقع في رأسه وتناثرت جمجمته إلى شظايا .. وعندما رفع رأسه كانت الأتربة ورائحة البارود تملأ الغرفة ، حدق بوجه رأفت الذي وضع كفيه فوق رأسه وزاغت عيناه هلعا ، وتنبه بعد لحظات إلى أن القذيفة قد أحدثت نافذة في الجدار وأن حزمة من الشمس تسقط من خلال الدخان .
وقف ابن أمينة وصاح بفرح وجنون: لنخرج من هذا القبر .
وشد رأفت من قميصه وصاح : هيا ...
وانطلق ابن أمينة يعدو مغمض العينين ووراءه انطلق رأفت يركض حافيا على الأرض الرملية الحنونة ...

وقفا يلهثان .
ثم جثى ابن أمينة على ركبتيه واستلقى رأفت على ظهره وأسند رأسه بكفيه المتشابكتين ومن ورائهما يندلع اللهب والدخان ، وتنزلق الطائرات في الفضاء ، تبرز من وراء التلال ، تغوص في الأرض ثم تصعد ثانية وتتفجر الأرض بالحمم والدخان الأسود ..
.. علينا أن نواصل السير ..
.. عطشان ..
أعرف طريقا في منطقة (جربا) ، وهناك سنجد الماء والطعام ..
.. إنهم يقصفون تحشدات قوات الإمام ..
.. إنهم يفتحون لنا الطريق ..
تمتد الأرض الرملية التي سرعان ما تماسكت بعدما انحسر الماء ، تمتد إلى مدى لا يدركه البصر وتبدو كما لو كانت تفتح فاها بشكل موحش ...
ولم يعد للطائرات صوت وثمة عقبان كثيرة تنعق في الجو وترفرف بأجنحتها السوداء وتهبط على فرائسها هبوطا شراعيا .. وعبر أشجار الأراك الجافة تنتقل بحركات سريعة السحالي والهوام .. والشمس في وجهيهما تماما ، صفراء كقرص كامل الإستدارة ، تتهيأ للمغيب وتلقي على الأشياء ظلالا باهتة ...
وبارتخاء تنتقل أقدامهما المتورمة ..
ولا أحد يتكلم .. يظللهما صمت وانهاك ..
غاص القرص الأصفر وبدأ الظلام يتسلل ..
وعندما أصبحت العتمة شديدة السواد قال رأفت : لنتوقف ونستريح .
ولم يقل ابن أمينة شيئا لكنه ظل يسير ..
وعاد رأفت فمسح شفتيه المتشققتين وقال بصوت مالح : إبن أمينة .. ما الذي حدث؟
توقف ابن أمينة هذه المرة وفكر قليلا ثم قال : حقا .. ما الذي حدث؟
ثم جلس ... تمدد على الأرض . قطع غصنا من الأراك وأخذ يقضمه بأسنانه فقرفص رأفت وعند ذلك قال:
يبدو أن الطائرات جاءت لتقصف معسكر الحرس الوطني ولا بد أن القذائف التي سقطت علينا سقطت بطريق الخطأ.
ولم يبد الآخر أية ملاحظة إلا أنهما وقفا معا في لحظة واحدة واستأنفا سيرهما ..
..إنها صعدة ..
.. غير معقول .
.. أقسم بشرفي إنها صعدة ..
مثل حلم لذيذ ذات ليلة دافئة تسرب الفرح والرهب
وانهمرا يركضان في المنحدر ، كحبات المطر التي تتدحرج في ذرات التراب،،،
















الجزء السابع عشر
المعسكر ......
إستنفار ، وانتشار ، على التلال بين الصخور ، داخل الكهوف .. ولا من أحد في الغرف سوى عمال اللاسلكي .
ثمة طائرة استطلاع تحلق على ارتفاع شاهق ، وتبدو كرأس دبوس ، وتترك وراءها خيطا رفيعا من الدخان الأبيض ..
وأبو شنان يستلقي تحت ظل شجرة ، فيما تعالج ريتا علبة بلابيف وقد بدا على وجهها الإرهاق والشحوب .
أما النساء الأخريات ، فقد تم نقلهن إلى قاعدة (خميس امشيط) بناء على أوامر المستر ..
قالت ريتا لأول مرة منذ أكثر من ساعة :
أخبرني المستر أن الأمير السميري وقع في الأسر .
أجابها أبو شنان ، دون أن تعقد الدهشة لسانه :
كنت أتوقع ذلك .
أفرغت محتويات العلبة في صحن ، واقتربت منه أكثر :
يابو شنان هل تعتقد أنهم سيقصفون (أبو ارشاش) ؟
حدق بالرجل الأشقر الذي يقف قريبا منه وراء مدفع للطائرات ، ويموه رأسه بأغصان الشجر وقال: من يدري ؟
.. الرجال أصبحوا عصبيين .. يعيشون حالة توتر وانتظار .. وقلق ..
..هل تشاركني الأكل ؟

بعد الظهر وقع عراك بين اثنين من المرتزقة فقالت ريتا :
ألم أقل لك أن الأعصاب متوترة ؟
وجاء إذ ذاك عامل اللاسلكي وهمس في إذن ريتا ، فقالت باندهاش :
أوه .. غير معقول .. إنهم يطلبون من طبيب المعسكر التوجه إلى نجران للمشاركة في الإسعاف ..
رفع أبو شنان رأسه وقال بصوت عال :
ريتا .. ريتا .. إستمعي إلي جيدا . إنني أكره نفسي ..
نظرت إليه باهتمام :
لماذا ؟
لأنني أشترك معكم في لعبة قذرة.
أمسكت بصحن فارغ أمامها وقذفته بعصبية وقالت بانفعال :
إنك تهينني دائما ..
إستلقى أبو شنان من جديد وأسند رأسه على الأرض التي تنبت عليها أعشاب خفيفة ، أما هي فقد نهضت ومشت بخطوات سريعة ..


المساء .. نقيق ضفادع ، وليلة بلا قمر .. وأزيز طائرات يأتي من بعيد كلما نشطت الريح . يحدق أبو شنان في القمة ، وشبح الرجل ومدفعه المضاد ينتصبان أمامه ..
ومن وراء إحدى الصخور يصفر أحدهم بفمه لحنا ما ..
وتصطدم علبة فارغة بالأرض ويدخن رجل آخر سيجارة ، ويحاول أن يخفيها في كفه الأخرى .
وتستمر الضفادع في النقيق ..
أبو شنان .. هل أنت مستيقظ ؟
جاء صوتها من خلال العتمة ثم وجهت مصباحها اليدوي إلى وجهه، فرفع رأسه واستند بمرفقيه ..
أطفأت المصباح وجلست إلى جواره وقالت :
أنت تبالغ في القسوة أحيانا ..
ثم أضافت : المستر أوصاني أن أبذل جهدي من أجل إرضائك .
سألها : لماذا يهتم بي المستر ؟
إنه يعلق عليك آمالا كبيرة ..
وعبرت مسامعها زخة من الرصاص فانتفضت ريتا والتصقت به أكثر :
صوت رصاص .. ماذا يحدث؟
لعل أحدهم أطلق النار على أفعى أو ضبع ..
أبعدها عنه ومسح شفتيه بباطن كفه ، وقال :
أشعر بالضمأ .
وتوقف لحظات ، وأضاف : ولكن لماذا يهتم بي المستر كل هذا الإهتمام؟
صمتت . لعلها اغتاظت ، ولم يستطع من خلال العتمة أن يقرأ ما يجول بخاطرها ، لكن صوتها ارتطم بإذنه :
إسمع يا أبو شنان ، يجب أن تعرف حجمك الحقيقي ، إنك تعطي لنفسك أهمية أكثر مما يجب .
كان صوتها صارما ، يخلو من الود .. ثم ماذا قال في نفسه ، فاستمرت بالصوت نفسه : رغم ذلك سأقول لك ، أن المستر سوف يرسلك في دورة تدريبية إلى أوروبا ، إنك لمحظوظ إذا أتيحت لك هذه الفرصة ..هل تعرف معنى ذلك ؟

إبتسم فجأة ، وقال بصوت هادئ :إسمعي يا ريتا ، لا داعي للنرفزة . سأقول لك باختصار .. أنني أرفض ذلك .. أرفض أن أستمر ..
قالت بمزيد من الغضب :لماذا ؟
أجاب بالصوت الهادئ :سأقول لك لماذا .. لقد شاهدت عندما كنت أعمل في الدمام فيلما أمريكيا يذهب بطله إلى أفريقيا ويصطاد وحيد القرن ..
.. ولكن ما علاقة ذلك بموضوعنا؟
أرجوك يا ريتا استمعي لي حتى النهاية .. إن مشكلة الصياد الأمريكي تبدأ من اللحظة التي يوقع بها وحيد القرن بالشرك .. فوحيد القرن لا يستسلم بسهولة .
إنه يندفع بكل الإتجاهات للتخلص من الشباك ، إنه ينطح الهواء ، ويرفس الحبال ، ويملأ الفضاء بغضبه وهياجه ..
ويتمكن الصياد بمعاونة رجاله وسياراته من تقييد وحيد القرن وشحنه في الباخرة إلى الولايات المتحدة .
.. وأخيرا ...
أخيرا يبيع الصياد وحيد القرن إلى حديقة حيوانات وهناك يعمل المروضون على ترويضه وتدريبه واستئناسه وبعد شهور طويلة يصبح وحيد القرن داخل القفص المخصص له وديعا .. أنيسا .. صامتا .. يتجمهر حوله الناس ، ويلقون إليه بالفتات .
.. إنك تحكي أشياء طريفة ..
وقد لاحظ الحارس ذات مرة ، نوبات حادة تصيب وحيد القرن بين حين وآخر ، فيندفع بقوة ينطح الحديد ، ويرفس الهواء ويملأ الفضاء هياجا ثم يهمد فجأة ، يستلقي على الأرض وعضلاته ترتجف ، ويختلط القذى بالدموع حول حدقتيه ..
صمت أبو شنان لحظات كأنه كان يفكر بالنشيج ، وفجأة ضرب الأرض بقبضته ، وصاح :
أتدرين لماذا كانت تأتيه النوبة؟
لأن وحيد القرن المدجن النائم في أعماقه يستيقظ بين الحين والآخر .. إنه يشتاق إلى أفريقيا .. إلى المستنقعات والشلالات وأشجار الجوز والأمسيات الإستوائية ..
ومرقت موجة من الهواء البارد ، وتحركت أغصان الأشجار القريبة ، فمسح وجهه بكفه ، واستمر يقول كأنما يحدث نفسه :
إنه يشتاق إلى البحيرات .. وطبول القرى .. والخلاء ..
وقفت فجأة بنزق وعصبية ، أضاءت المصباح ومشت تاركة خلفها المزيد من الصمت،،،














الجزء الثامن عشر
عن واحد من سكان الأخدود عن أولاد الحصري ، عن مدير المدرسة المتوسطة ، عن ابن عناق ، عن رباب ، عن مدير مكتب بو طالب ، عن الحارس عبده الذي أصيب بجراح طفيفة ، أنه قال : هرب ابن أمينة ومعه رأفت العدني، وأنهما توجها إلى الجمهورية ، وتكلما من إذاعة صنعاء ..
"رواه الولد عبدالمعطي إلى سمية .. همسا"

حدثت اضطرابات أخرى وجاء المزيد من الجثث إلى مستشفى نجران ، وانفجرت قنابل موقوتة في المفوضية المتوكلية ، وعاد بو طالب مثخنا بالجراح بعد أن فشلت الحملة ..
وظلت الطائرات تنزلق في الأفق بلا توقف .. وغادر الغامدي نجران إلى بلاد بني غامد ، وغالية السميري وخادمتها رباب إلى قصر الكندرا في جدة ، ونساء الأمير إلى القصر الصيفي بالطائف ، ورئيس جمعية الأمر بالمعروف إلى مزرعته بالقصيم في نجد .

ثمة حمار يمرغ نفسه بالتراب ، وكلاب تنهش جيفة تنبعث لها رائحة كريهة وجرذان تخرج من جحورها في الساحة الخالية من الناس والحبوب والمساويك وخيزرانات المطاوعة .. سطعت شمس حارة، وانبعثت رائحة النفايات والماء الآسن واكتست النوافذ بطبقة من الغبار وختم دكان رأفت بالشمع الأحمر ..
وقبع قاضي القضاة الذي لا يزور ولا يزار في بيته ، وسلم أمره إلى الله ، وظل ابن عناق يحدث نفسه حينا ويحدث الطاولات أحيانا أخرى .

جاء من أقصى المدينة الولد عبدالمعطي يهرول ، ويقبض على طرف ثوبه بأسنانه وقد تدلت دكة سرواله الفضفاض .
مرق على مطعم الحصري وسأل (الشيبة) الذي يجلس وراء طاولة الدفع :
هل جاء عندكم أبو شنان؟
فرفع الشيبة حدقتيه وأجاب : تغيرت الأحوال ..
قبض على ثوبه من جديد ، واستأنف الهرولة ...
وأخيرا توقف أمام المفوضية المتوكلية ..
عند الباب كانت سيارة اسعاف ، وبعض الرجال يحملون الجرحى والحارس يفشل في دفع الناس المتحلقين وابعادهم
إقترب من رجل يحمل في يده حفنة تمر ولا يتوقف عن الأكل ..
أبغي أشوف أبو شنان .
بصق الرجل النواة من فمه وقال: موجود في الداخل عند المستر ..
إقترب من الحارس الذي كف عن دفع الناس وسأله : أبغي أشوف أبو شنان طال عمرك .
أطلقت سيارة الإسعاف أبواقها العالية ، فابتعد الناس ، وثارت زوبعة من الغبار وانطلقت السيارة بأقصى سرعتها ..

دعك الولد عبدالمعطي عينيه وقال من جديد : أبغي أشوف أبو شنان ..
سأله الحارس بغلظة : ماذا تريد من أبو .....
وتوقف عن الحديث فجأة ، إذ جاء هدير طائرات قادمة من مكان ما ..
وتنبه الناس المحتشدون إلى أصوات الطائرات فانطلقوا يهربون في شتى الإتجاهات . وصاح الحارس به في عصبية :
إذهب من هنا أيها الأحمق ...
إستدار الولد عبدالمعطي ومشى بخطوات سريعة واقتربت الطائرات أكثر فأكثر فهرول ثم وجد نفسه يركض بين عدد من الناس ... سقطت القذائف في مكان ما حول المدينة وأحس بالأرض ترتج تحت قدميه ، وسمع صراخا حادا من حارة قريبة ، وخلا الشارع من الناس ولم يبق سوى جحش صغير يرمح ويرفس الهواء ...
واختفت أصوات الطائرات فجأة وظلل الكون صمت مطبق ، ولم يطل أحد ما من نافذة من النوافذ التي تفغر أفواهها ... ومشى الولد عبدالمعطي حافي القدمين وهو يحس بالتعب والجوع والظمأ ، فوقع بصره على مقهى ابن عناق ...
على الرصيف تصطف سيارة روفر عسكرية مكسوة بطبقة من الغبار، أحس بالإنتعاش إذ حدس على الفور أنه وجد ضالته أخيرا ...
وهناك كان يجلس أبو شنان على الأريكة يقرقر في النرجيلة بصمت، فيما يجلس ابن عناق على الأرض وقدا بدا وجهه شاحبا وشديد اليأس .
صاح الولد عبدالمعطي بصوت عال:
يا أبو شنان .. أين أنت؟
هب أبو شنان واقفا .. وعانق الولد عبدالمعطي وأجلسه على الأريكة ونهر ابن عناق وشتمة لخوفه وجبنه وطلب منه أن يصنع الشاهي .
أين أنتم .. كيف الناس .. كيف حبوبتي سمية؟
صمت الولد عبدالمعطي وتجمعت على وجهه دفقة بكاء ولكنه لم يفعل .
قيل لي أنكم تقيمون الآن في الأخدود .
هز الولد عبدالمعطي رأسه وقال :هذا صحيح ولكني لا أريد أن أخوض معك في كيف الحال وكيف الصحة .هناك موضوع هام جئت من أجله .
إقترب برأسه أكثر وتساءل : ما هو؟
تلفت الولد عبدالمعطي حواليه . ثم قال بصوت منخفض :
جاء سائق سيارة شحن من جدة وسأل عنك مرات عديدة .
سأل على الفور وباهتمام :
وماذا يريد؟
عاد الولد عبدالمعطي يقول بالصوت المنخفض نفسه :
في المرات الأولى سأل عنك ولم يقل شيئا ولكن في المرة الأخيرة كان نوع من الصداقة قد نما بيننا فوثق بي وأخبرني عما يريد ..

تلفت الولد عبدالمعطي حواليه مرة أخرى وهمس : إنه قادم من طرف مشعان .
... مشعان ؟
مشعان .. مشعان . الخبر .. الدمام .. الشرقية .. النقابة والنضال ، والمنشورات السرية .. السجن والمنفى والقمع .. والسنوات الطويلة التي أمطر وأمطر عليها النسيان ..
وعاد الولد عبدالمعطي يهمس : يقول لك أنه خرج من السجن حديثا ويريد أن تقابله في جدة .
أشعل أبو شنان سيجارة وشرد قليلا .. الدمام .. نقابة العمال .. الصدام بين العمال والمدير الأمريكي ، وأكعاب البنادق التي تفلق الرؤوس ..
والإعتقال والفصل ، ومشعان الذي يتوهج حتى من وراء القضبان .
مشعان ... مشعان .. أيها العزيز الذي لا ينسى .
ماذا تقول يا أبو شنان ؟
أسند رأسه بين كفيه وجاء ابن عناق يحمل صينية الشاهي وهو لا يكف عن الإرتعاد،،،









الجزء التاسع عشر
ملأت الشائعات المدينة ...
وقصفت الطائرات قصر الأمير في صعيد المطار ، وتناثر مشوهوا الحرب في الشوارع يتعاطون التسول وبيع الأجندة والرصاص الفارغ وأحذية المطاط .
وحدثت عمليات سطو ونهب في وضح النهار ، ولم يعد للمطاوعة من وجود في الشوارع في الليل .
وذات ليلة وجدوا بعض الجثث ملقات على الأرصفة وتكومت النفايات والقاذورات في كل مكان، وأصبح منزل السميري مكانا للتبول ومطارحة الغرام مع الغلمان .
وشاعت أخبار عن دخول مجموعات من قوات الجمهورية للإستطلاع والهجوم
وكبرت الشائعات حتى أن ابن عناق أصبح يرتعد من خياله ، وقاضي القضاة الذي لا يزور ولا يزار ، ركب عربة تجرها الخيول وانطلق مع الخيوط الأولى للفجر باتجاه (أبها)

ويقولون في مقهى أبو رمش ، أن الزبال عباجة الذي هام على وجهه في البراري وسكن الكهوف في الجبال ، إقترب ذات ليلة من معسكر أبو ارشاش ، فانتهره الحارس الأجنبي ، ولما لم يقف أطلق عليه النار بغزارة ، فسقط يتخبط بدمه
ويقولون بأن جثة عباجة وضعت في إحدى الكهوف القريبة ، فانتفخت ، وأخذت تنبعث لها رائحة نتنة ، وأخذ ينغل فيها الدود ، ويقولون بأن المستر أرسل عددا من رجاله يحملون أجهزة طبية ، فنزعوا بقايا اللحم عن العظم ، وأحضروا الهيكل العظمي الذي احتفظ به المستر في منزله .

وفي مقهى أبو رمش يجلس الزيدي على الأرض مادا ساقه الوحيدة بعد أن بترت ساقه الأخرى وكان يحك ذقنه الكثة وقد احمرت عيناه كجمرتين . وقال له الولد ابن عناق : وماذا حصل بعد ذلك؟
حدق بالعيون التي تتعلق به وهز رأسه وقال : بعد أن صعدنا قمة الجبل ، صعد بو طالب إلى قمة صخرة ، وخلع حذاءه ورفعه عاليا وقال : هذا الحذاء بذقن كل من يهرب من المعركة .
ثم أشهر مسدسه وبدأ القتال ، فانهمرت القذائف كأمشاط الرصاص ، ثم لاحت الطائرات في الأفق وبدأت تقصف .. وأخذ اللحم يلتصق بالصخور ، وقبل أن تخترق الشظايا ساقي شاهدت بو طالب يولي الأدبار حافيا ..
ثم دفن الزيدي وجهه بين كفيه وأجهش بالبكاء .
ولم يعد العسس يقفون عند نواصي الشوارع ، فقد أشيع أن أشباحا قادمة من الجنوب تجز رؤوس العسس ، وتسلخ فراوي رؤوسهم ، وقد أصبح الصباح ذات يوم وإذا بثلاثة رؤوس معلقة على أعمدة الهاتف على طريق نجران - الموفجة .

وقيل أن جرذا بحجم القط هجم ذات ليلة على عائلة بأكملها ، فعضها في أماكن مختلفة فأصيبت بالطاعون وأحرقت جثثها سرا في أحد أقبية المستشفى .
ولم يعد المستر يظهر في المدينة إلا في النهار ، وبصحبة أربعة من الحرس ..
أما أبو شنان ، فلم يرجع إلى المعسكر ، وعاد مرة أخرى إلى التسكع وشرب الشاهي في مقهى ابن عناق .
وأما في الليل ، عندما يتمدد على المقعد الطويل ، فأن صورة مشعان كانت تساهره وتلح عليه بالسفر،،،

















الجزء العشرون
ضوء شحيح وسط عتمة صحراوية، جمرات قليلة فوقها كبسة رز تنضج على مهل وأحدهم من مكان ما يغني بصوت حزين ، ويظلل الجلوس صمت جليل ..
أشعل أبو شنان سيجارة وأسند ظهره إلى عجل السيارة الكبيرة وأخذ السائق يملأ المطرة من الخزان ، بينما كان الولد عبدالمعطي يقرفص مسندا ركبتيه إلى ذقنه .
وفي الأعالي كان قمر وليد ، ونجوم مغرقه في بعدها .. ورائحة الأراك تأتي عبر نسمات تنشط بين حين وآخر ، وعبر العتمة التي توغل في العمق يأتي عواء ذئب .. ويبعد أبو شنان بيده الحشرات المضيئة التي تحط على ثيابه ، ويدخن بلا توقف وتتوه نظراته في التيه الأسود البعيد ... وفجأة يتلفت إلى السائق ويقطع الصمت قائلا :
سوف أذهب معك .
يرفع الولد عبدالمعطي رأسه ، ويحافظ السائق على صمته ويرفع غطاء الطنجرة ، ويحرك الطعام ، فيعاود أبو شنان القول : سوف أسافر معك .
ويتساءل الولد عبدالمعطي : والمستر وبو طالب وتلك المرأة النصرانية؟
لا يجاوب ، ويغطي السائق الطنجرة ثم يرفعها عن الحجر ويقول :
نضج الطعام .. هيا ..
تمتد الأيدي إلى الطعام .. يملأ أبو شنان قبضته بكبسة الرز ، يضغطها، ويرفعها إلى فمه يأكلها بشهية .
ويتساءل الولد عبدالمعطي الذي خطر له أن يقوم فيرقص رقصة الطبول ويغني دان .. دان حتى الصباح :
ويفرح الناس في الحارة ..
ثم يقف ويقفز في الهواء .
وتفرح أمنا سمية .
يجذبه السائق ، ويقول وهو يمضغ :
كل .. وحذار أن يسمعنا أحد .
يمد أبو شنان يده بقطعة لحم كبيرة ، يشد السائق طرفها فتنقسم إلى نصفين . يقول عبدالمعطي وهو يمضغ اللحم بشرود : مسكين ابن أمينة .
ثم كأنما يغص : لقد قضم قطعة صغيرة من اللحم النيئ .. قطعة صغيرة ليس غير .
فيقول السائق وهو يلحس الرز عن أصابعه :
إنه الآن هناك ..
يشرب أبو شنان من المطرة حتى الإرتواء ثم يتحدث كأنما يخاطب نفسه :
لا أريد أن أفكر في شئ .. فقط أريد أن أرحل .

ويقف الولد عبدالمعطي : والآن ، أستأذنكم في العودة إلى البيت .
أبو شنان ، بشرود : والعسس؟
الولد عبدالمعطي : في مثل هذه الساعة يلوذون بالفرار .
يقف أبو شنان : حسنا .. سآتي معك لوداع سمية .
السائق يتثاءب : نغادر غدا بعد صلاة العصر ..
يهز أبو شنان رأسه ويمضي ..
***
بدأت خيوط الفجر تتسلل ..
ودلف شبحاهما عبر تلة تشرف على الأخدود ..
بيوت التنك نائمة ، والأقدام تتعثر بالفشك الفارغ ، والشظايا المتناثرة ..
قال أبو شنان : أشعر بخوف .
الولد عبدالمعطي : لماذا؟
أبو شنان بقلق : هل تمد لي جدائلها لتنتشلني؟
الولد عبدالمعطي : إنها الآن راضية عنك . لقد أبلغتها عن لقائنا الأول بالسائق ..
بدت طيور القطا مثقلة الأجنحة بالندى وأخذت تخرج من بين الأشواك ، وتركض على الأرض باختيال لدى سماعها دقات الأقدام ..
وأقبلت قافلة من باعة القضب مع بهائمها وملأ روث البهائم رائحة الطريق التي تترك عليها سيارة مرقت في وقت ما آثارا على الجانبين ..
***
من بعيد ظهرت الأم سمية تخبز الرقاق على الصاج وقد تصاعد من حولها الدخان وتكوم إلى جانبها بيدر من القش .
توقف أبو شنان .. شعر بالحنين ، وبرشق المطر ، وصليل السيوف لدى ارتطامها بعظم الرقبة .
لماذا وقفت؟
الدمعة ، السيف ، الرغيف ، الشهوة، الظمأ ، الذبول ، والعيون الفاترة ..
لماذا وقفت؟
الرمال تركب الريح عبر الربع الخالي ، وريح السموم تخرج من عب السديري ، والمستر كالحواة يخرج من فمه أمشاط الرصاص ، والحزن ثقيل لا يطاق ..
لماذا وقفت؟
أغمض عينيه نصف إغماضة ، يغمر الأخدود بحر من السراب ، فمتى من شدة الألم والقهر تنبجس الأرض وتزلزل زلزالها ؟
أنظر أمنا سمية ..
سمية أمنا القاسية ، ليس لديها سوى الحنان والدموع .. أيها الولد عبدالمعطي قبل مئات السنين وفوق تلك الحجارة أحرق ذو نواس آلاف الناس الذين رفضوا اعتناق اليهودية وكانت أمنا سمية هناك .. وكانت تفعل الشئ نفسه ، تحزن ، وتبكي ، وتتمنى ألا يحدث ذلك ..
أبو شنان .. ما أظن أنك ثمل .. ماذا تريد من أمنا سمية أن تفعل ؟
إحمرت عيناه حتى تحولتا إلى جمرتين وعبست ملامحه كما لم يعبس من قبل وشد قبضته بقسوة إلى درجة التشنج ، وقال كأنه يتقيأ السلاسل والجنازير والصدأ : كان عليها أن تنتزع بقبضتيها خصيتي ذلك الأمير الذي انتزع خصيتي حبيبها،،،















الجزء الواحد والعشرون
إطمأن السائق إلى أن كل شئ على ما يرام وصعد أمام المقود ، صعد أبو شنان إلى جانبه وبدأت المحركات تعمل ...
الآن حدث نفسه ... إنه السفر ..
لوح الولد عبدالمعطي بيديه كلتيهما .. مشت السيارة .. لوح أبو شنان بيده . مرقت عبر النافذة الأشجار وأسراب العصافير وعدد من العمال يحملون السلال على أكتافهم .
أين طريقنا ..؟
إلى الصعيد مباشرة ، ثم نأخذ السيارة إلى أبها .
أرجوك .. نعود قليلا إلى نجران .
.. لا أستطيع .. مشعان طلب ألا يراك أحد لدى المغادرة .
أسلاك أعمدة التلفون ، وطيور القطا ، والسماء فقط ..
ومحركات السيارة تهدر والسائق يلف الغترة الحمراء حول رأسه .. ونجران تبتعد ، وتطل الجبال الجرداء ..
الصخور المسننة .
هنا سقطت طائرة بن لادن ، هنا كان لحم ريتا يلتصق بلحمك . والمستر يضع على عينيه نظارة سوداء والكابوس يجثم فوق الصدر بكل ثقله .. وأبو ارشاش يفور بالرغوة والويسكي .

قال له السائق :ثمة طائرة تحلق فوق الصخور .. إستدارت السيارة فسقطت حزمة من الشمس عبر الزجاج .
أغمض أبو شنان عينيه وأسند رأسه إلى ظهر المقعد ..
ومن جديد حدث نفسه .. إنه السفر .. السفر .. السفر .. متى تتصلب قشرة الأرض ، ويصبح بإمكان القدمين أن تقفا بثبات .. وأحس بدوار وبرغبة في كأس واحدة ..
واهتزت السيارة ، ففتح عينيه وأطلت عليه عبر الزجاج الصخور المسننة نفسها ، وطائرة الإستطلاع التي تبدو بحجم رأس الدبوس .
فأغمض عينيه مرة أخرى ... ولعله أغفى ..
وإذ ذاك ، حلم بأن المستر يؤنب ريتا ، وبو طالب يصدر أوامره إلى العسس لإحضاره حيا أو ميتا ، ويقول الناس في البيوت : أبو شنان إختفى ... فأين ذهب ؟
وأشجار النخيل في حارة ال**** تجود بالبلح ويعود الفرح إلى بيوت التنك بغزارة ...
وأخرج أبو شان رأسه من نافذة السيارة وأطل إلى الخلف .. كانت نجران تبتعد .. تبتعد،،،




الجزء الثاني والعشرون
مشى الولد عبدالمعطي وثوبه الفضفاض يهفهف وأصابعه تعد الثلاثة ريالات في جيبه . وفي الساحة التي خف ازدحامها بعد القصف كان عدد من الناس يتحلقون حول المطاوعة الذين يجلدون بالخيزران شابا يتمدد على بطنه .
وعلى أسطح البنايات القريبة كان عدد من النساء يطل من وراء الأغطية السوداء .
قال الولد عبدالمعطي للحصري :ماذا فعل ؟
أجاب الحصري وهو يمسوك أسنانه :وجدوا بحوزته زجاجة كونياك .
قال بائع متجول ترك الجدري آثاره على وجهه : وقد إشتراها من خادم سرقها من قصر الأمير .
جلس على الرصيف في الظل أمام دكان الغامدي وظل يرقب ما يدور أمامه من بعيد ..
مرق من أمامه بعض المسلحين ونظروا إليه شزرا ، كما مرق واحد من العسس يتلثم بالغترة ويطل المسدس من تحت إبطه .. ونظر إلى ساعته فوجدها العاشرة بالتوقيت الزوالي فشرد لحظة .. ولعله فكر قليلا في المكان الذي وصله الآن أبو شنان .
ومرقت سيارة ونيت يفتح سائقها الباب وينادي الركاب المسافرين إلى (حبونة) . وعند ذلك لمعت في ذهنه فكرة السفر .
نظر الولد عبدالمعطي إلى الجبال العالية التي تسد الأفق وتذكر عندما كان في طفولته يرقب الطيور التي تصفق بأجنحتها في الفضاء ويظل بصره متعلقا بها حتى تغيب عن ناظريه وراء الجبال السوداء ..
فقال مرة لأبيه أريد أن أطير ، فمسح (الشيبة) على رأسه برفق وقال له :
"ما تزال صغيرا على الطيران يا بني" .
تحسس من جديد الريالات الثلاثة في ثوبه ووقف . مشى في شارع الزيود الذي يكاد يخلو من المارة .
إلتقى بواحدة من بائعات القضب سألته ماذا يفعل ، فقال لها أنه يتسكع بلا هدف ، توقف على الرصيف وأكل صحنا من الفول الممزوج بالسمن وشرب إبريقا كاملا من الماء .
ومرقت سيارة ونيت أخرى ، يبرز سائقها رأسه من النافذة وينادي على المسافرين إلى (الموفجة) .
ومن جديد رفرفت في أعماقه الطيور المسافرة ..
وتذكر يوم أن تعلق بسيارة مسافرة إلى بيت الله الحرام في موسم الحج الفائت إلا أن المطوف عاجله بصفعة ، جعلته يسقط على الأرض ، وتصاب ساقه ببعض الرضوض .
.. يا ولد يا عبدالمعطي ..
نظر حواليه فوقع بصره على الزيدي يقترب بعكازين وساق مبتورة : هل رأيت أبو شنان ؟
لحيته كثة ووجهه مكدود وعلى ملامحه آثار الحرب .
.. لا .. لم أره .
هز الزيدي رأسه وأسند إبطيه وغرز العكازين بالأرض وأخذ يجذف .. ويجذف .. شيعه بنظراته إلى أن طواه الشارع .. ثم نظر إلى ساعته مرة أخرى . كانت قد أصبحت الثانية عشرة بالتوقيت الزوالي ، فخطر له إذ ذاك أن أبو شنان قد أصبح على أبواب جدة .
وإذ ذاك قرر العودة إلى الأخدود ..

وجدهم يتكومون حول كوخ سمية، وكانوا يتحدثون جميعا في وقت واحد ، فتختلط الأصوات ببعضها البعض ويزداد الأمر تعقيدا وغموضا .
شق طريقه وسط الحلقة ، وأصاخ السمع ، قالت له سمية :
إنهم يريدون أن يرفعوا إلتماسا إلى أمير الأخدود لكي يبقيهم في أراضيه .
ثم رفعت صوتها الذي يتشابك مع أصوات أخرى :
.. كيف نرفع لهم إلتماسا .. سنظل في هذا المكان غصبا عن السديري ، لقد أغرقت السيول أراضينا وبيوتنا .. فبأي حق يطردوننا من هذا المكان ؟
وبدأ أحدهم يأخذ بصمات الحاضرين فصاحت سمية :
أنا لا أبصم ..
ووقفت ، وشقت طريقها خارج الحلقة ، فلحقها عبدالمعطي :
إلى أين يا أماه ؟
قالت بعصبية :
أريد أن أجلس مع نفسي في الخلاء .
مشى إلى جانبها ، وعندما إبتعدا ، قال لها :
إنه الآن على مشارف جدة يا أماه .
تغيرت ملامحها فجأة ، ولمعت على وجهها إشراقة .
كأنما انطلق عصفور من بين الأغصان ، فهزت رأسها وبدأت تتمتم ، فقال :
آه .. كم أشتاق للسفر ورؤية العالم .
قرأت بصوت عال : فسبح بحمد ربك إنه كان توابا .
عرف أنها تقرأ الآيات من أجل أن يحفظ الله أبو شنان ، فصمت ، وعندما انتهت ، عاد يقول :
أريد أن أسافر يا أماه ..
توقفت ونظرت إليه بلهفة : السفر ... السفر .. كلكم تسافرون ، فمن يبقى هنا ؟
حك رأسه وعدل من وضع طاقيته ، وأجاب :
أريد أن أسافر وأبحث عن عمل .. أريد أن أرى الأشياء التي وراء تلك الجبال يا أماه .. أريد أن أعرف المدن وأركب الطائرة وأشاهد أنوار الكهرباء ، وأتفرج على البحر والسفن . ظلت تنظر إليه بلهفة ، ثم قالت بنبرة حزينة :
إنها نفس الكلمات التي كان يقولها اليامي .. ولكنه كان يغيب ويغيب ثم يعود .. أنتم أبنائي تختلفون ..
ثم بعد صمت قليل :
أنتم أيها الأبناء لا تبصمون بالإبهام، ولا تلتمسون من الأمير البقاء ..
أنتم تحبون هذه الأرض المسروقة وأنا مثلكم أحبها ، ومثلكم أحب السفر ، فلماذا لا أدعكم تسافرون،،،؟















الجزء الثالث والعشرون
عرق وتراب ، ولزوجة في الجفون والزجاج يشبه الغبش ، والغترة على رأس السائق إكتست بالغبار والرمال الناعمة
العرق والتراب ودوار في الرأس ورغبة في التقيؤ ، وطوال الطريق مثل حبة في غربال .. حدث نفسه أبو شنان وقدم إليه السائق سيجارة ، فلم يأخذها .
وأطلت من بعيد من وراء السراب والغبش ، المدينة ، كأنها تغوص في الماء . فضحك السائق :
إنها جدة ... ها قد وصلنا .
وناوله السائق مطرة الماء وهتف به : إغسل وجهك .
ثم أدار المذياع فجاء صوت طلال مداح (طال الجفا .. جفا .. جفا والهجر طال) .
أقبلت رائحة البحر والرطوبة .
وأقبلت رائحة الغربة والسفر وأشياء صغيرة .
... ما أبعد جدة .. كأن السيارة ترجع بنا إلى الخلف !!
حل الظلام وانتشر ضوء السيارة على الإسفلت الذي يسوخ لشدة الحرارة ، وعلى طول الطريق المعاكس ظلت تطل أضواء السيارات من بعيد ثم ما تلبث أن تمرق كلمح البصر .
فرك أبو شنان عينيه ، واقتربت أضواء المدينة أكثر فأكثر ، وأخذ الشارع يتسع ، كما أخذت تبدو على الجانبين السيارات الفارهة .
... إنها جدة ..
الأضواء تتوهج ويقترب البحر والفيلات الخاصة والعمارات والناس وإشارات المرور . توقف السائق قرب الشاطئ وقال مشيرا إلى بناء قريب : هناك فندق النهضة ، تنام ليلة واحدة وغدا يأتيك مشعان .. هل تحمل نقودا ؟
هز رأسه بالإيجاب فودعه السائق بحرارة وصعد إلى سيارته ، وغاب ..
***
من نافذة الفندق ، تطل على البحر ..
رائحة الزنخ والأملاح تنفذ بشدة ، والرطوبة تجعل ثوبك يلتصق بجلدك . وصفارات السفن الراسية، ومراكب الصيادين التي تتهادى على الماء بلا اكتراث ، وارتطام الأمواج بحاجز الإسمنت ..
تختلط الأشياء جميعا ، ورغم الدوار فإن الدمام تعود إلى الذاكرة بشكل طازج . يخلع الخليج عباءته وعقاله المقصب ، ويتناسل سمك القرش في البحر الأحمر ، وتهجم الوساوس والرعب الخفي . ويطفو الزيت والغاز والنار الدائمة، والحلقة التي تتسع في الماء الراكد تتكاثر وتتلاشى ..
ومن غيرك يامشعان يستطيع أن يشعل الأفكار ؟
تطلق سفينة ما صفارات الرحيل ..
وأنت مثل بحار يبتعد عن اليابسة وفي غربته ليس ثمة سوى البحر وطيور النورس والأنواء .. والليل الطويل .
وفي الغرفة تدور المروحة في السقف بلا مبالاة وتعجز عن طرد الرطوبة والحر الشديد . تخلع ثيابك، تعود إلى السرير ، تتمدد عليه ..
تحاول أن تغفو تحلم بأنك تتحول إلى شظايا كالزجاج ، تلملم نفسك سريعا وتصحو .
ينقسم الرجل المتزمل في ثيابك إلى أقسام أربعة .
تأتي ريتا من الشمال ويأتي المستر من الجنوب . ويرفع السياف حديده الصقيل ، وتهجم أشجار النخيل على المدينة ، وينبجس الأخدود بالعظام المتوهجة ، ويقبل الفقراء من أطراف مكة ، ويفتك ابن جلوي بالأسوار والنساء . ويفتح ال**** صدورهم للرصاص ، ويهدي أمير تبوك إلى أمير القنفذة كلابا للصيد، وتشتري الأميرات العطور من باريس .
وتعبس الدمام ، ويجري الغضب في عروقها ، ويشتعل فيها التوهج والحريق والضوء الخافت .
وعلى امتداد الخليج ، تزدحم ناقلات النفط،،،















الجزء الرابع والعشرون
هذه جدة .
الشوارع ، السيارات ، الواجهات ، والمطاعم الفخمة .
والأبواق لا تتوقف .
وتعبر نساء أوروبيات الشارع ، يرفع شرطي المرور يده فتنطلق السيارات عبر إشارة المرور كأنها تتسابق .
العرق يتصبب من الوجوه ، والشمس ساطعة . والمآذن عالية، وورائها بيوت من نمط قديم .
ولا يبدو للمطاوعة من أثر ..
شعر بالجوع ، فأكل صحنا من الفول ، ثم تمشى في سوق الأقمشة . وتلصص على النساء اللواتي يغطين وجوههن بأغطية شفافة للغاية ، ويتلفعن بالعباءات السوداء ، وحدق بالباعة الذين تنتمي وجوههم إلى بخارى وأندونيسيا .. شعر بالتعب والإرتخاء . جلس في مقهى على مقربة من حي شعبي . قرقر النرجيلة .. تذكر ابن عناق والزيدي ووجوه أخرى . أحضر له الخادم إبريق الشاهي ، فناوله نصف ريال . ظل يقرقر بالنرجيلة ، وازداد العرق الذي يتصبب من الوجه والرقبة والإبطين .
وتمرق سيارة فارهة تتهادى في خيلاء في الشارع الضيق ، ويمرق عدد من الشرطة ، وباعة الأمشاط، والمرطبات .
يزداد إلتصاق الثياب باللحم .
وقف ..
تسكع في الشوارع التي يجهل أسماءها .
تفرج في الواجهات على الخواتم، الألماس ، زجاجات العطور ، الحقائب الجلدية الفاخرة ، الملابس الإفرنجية ، أقلام الباركر، السجاجيد العجمية ، الرياش الملونة ، لوحات الكنفاه ، علب الحلوى ، الساعات السويسرية ودراجات الهوندا .
واشتدت الرطوبة ، وجفاف الحلق، وسيلان العرق .
وقع بصره على مكاتب الخطوط السعودية ، فوقف ينظر عبر الزجاج إلى السكرتيرات والموظفين الذين يرتدون القمصان البيضاء ذات نصف الكم .
وكان يملأ القاعة عدد من المسافرين .
فتح الباب ، ودخل ، فأفعم صدره بردا وسلاما ..
واستنشق بحيوية الهواء المكيف وفي أعماقه تساقط الرذاذ والندى والفجر الهادئ .
جلس على مقعد إسفنجي ، وغاص به ، واستند بظهره ، وأخذت عيناه تحدق من جديد بالسكرتيرات والموظفين والمسافرين ، وصورة الملك والديكور الشرقي ، وألوان الحائط، والأعلام ، ونماذج الطائرات ، والروزنامات الأوروبية، والساعة الكبيرة التي تنبئ عن الوقت بالتوقيت الغربي .
وعندما عطش تناول إبريق الماء المثلج وشرب ، فهطل المزيد من الرذاذ والإنتعاش ، واستدار العقرب دورة كاملة

خرج ، فهاجمة التوهج والحر ودبق الرطوبة . مشى إلى الفندق ، سأل الموظف إن كان أحد قد سأل عنه، فنفى . دخل غرفته التي تشبه الاتون ، وضغط على زر المروحة فاستدارت ببطء في البداية ، ثم ما لبثت أن دارت مسرعة طاردة الذباب والدبابير .
خلع ملابسه وجلس على حافة السرير ومن النافذة أطل البحر والسفن الراسية والطيور التي تحوم في السماء ، ورائحة الزنخ والقاذورات التي تطفو على سطح الماء . تمدد على السرير ، وأغمض عينيه . هجمت الدمام والخبر ووجوه العمال السمراء ، والنقابة السرية ، ومشعان يخرج من بين الآلات ، يلبس خوذة واقية على رأسه ، ووجهه يغيب في الشحم والزيت وشعر الذقن الغزير . ويهجم الحرس الوطني بالبنادق وقضبان الحديد ، والأمريكان يكتبون في مكاتبهم المكيفة ، والأرض الرملية تلقم ثدييها للأنابيب ..
وعلى الرصيف يجد الرفاق أنفسهم ، ومشعان يطويه السجن، ويختلط الحابل بالنابل ... ويختلط الحابل بالنابل ويختلط .. ويختلط .

أفاق في المساء ، إستحم ، ولبس بنطلوقا وقميصا .
ومن جديد ، تسكع في الشوارع يحدق بالواجهات والسيارات الفارهة ، والأميرات اللاتي يتلفعن بالعباءات المقصبة ولا يبدو منهن سوى العيون السوداء المكحولة وأصابع الأيدي ، مطلية الأظافر . وبين الحين والآخر يتركن أطراف العباءة تنحسر عن ثياب قصيرة .. والعطور في الواجهات تغفو في قوارير ذات أحجام وأشكال . والمطاعم ذات اللافتات والأضواء الملونة تستقبل الناس بلا انقطاع .
أحس بالجوع .. أحس بالجوع والوحدة .
وحلم بكأس ، واستيقظ الثور في أعماقه مرات عديدة . وفجأة ، توقفت حركة السير في الشارع ، ومنع المارة من العبور . وبعد أن مر موكب رسمي ، عادت حركة السير إلى طبيعتها ، فاشترى سندويشة وتوجه إلى مكاتب الخطوط السعودية .
غاص في المقعد الإسفنجي المريح ، وأسند ظهره . أتى على السندويشة وشرب الماء المثلج . إستدار عقرب الساعة دورتين ، فأغفى .. تنبه إلى أحدهم يهزه من كتفه : إيش تبي ؟
فتح عينيه فوجد الصالة خالية من الناس .
نهره الفراش بغلظة :
إذهب من هنا وإياك أن تعود .
خرج وكان الطقس قد أخذ يصفو ويرق . عاد إلى الفندق فأخبره الموظف أن ثمة من ينتظره على الكورنيش المقابل .
قطع الشارع إلى الرصيف المقابل، ومن جوف العتمة سمع صوته :أهلا ... أبو شنان .
مشعان .. مشعان .. أيها العزيز الذي يأتي من الغيب .
إقترب إلى دائرة الضوء ، فبدا وجهه المعهود ، العينان السوداوان، والبشرة السمراء ، والشارب الطويل فوق الشفة السفلى الغليظة .

سارا جنبا إلى جنب .. يبدو أكبر سنا، وثمة آثار جرح كبير في رقبته وقميصه نصف الكم يبتل بالعرق تحت الإبطين ، يتكلم بحيوية ، ويبتسم ، ويمسح أنفه الطويل ، ويتحدث . يذكر بعض الأصدقاء الذين ماتوا وهو في السجن ، ويحكي عن الحديد السائل الذي يغلي في الأفران ، والدماء تسري في العروق ، والنظرات الحارقة التي تنصب من حدقات العيون ..
إلى أين ؟
إلى حارة السبيل .
هل تسكن هناك يا مشعان ؟
يسكن هناك العمال والأجراء والفقراء ومن ليس لديهم مأوى .
ماذا تعمل ؟
أعيد ترتيب الأمور .
أما أنا فقد ...
صه .. أعرف كل شئ ، في غياب النقابة يمكن أن يحدث كل ذلك .. المهم أن نبدأ صفحة جديدة .
كان القمر قد بدأ يطل ، ويملأ الصمت والسكينة ، والأمواج القريبة تتقاذف الأوراق وبقع الزيت ونفايات السفن الراسية .
أطلقت باخرة صفاراتها مرات عديدة .
هتف مشعان :
تبدأ الآن رحلة جديدة .
وبعيدا .. عند آخر نقطة يدركها البصر ، كانت الأمواج تبدو شديدة الزرقة ،،،،،

انتهت الرواية








خاتمة الرواية
"شخصية ومؤلف"
بقلم يحي يخلف

كمال الغزاوي .. إنه يغفو هناك. في تلك الأرض المنسية. إنه مازال ينام قريبا من أخدود نجران. هل أستطيع أن أنساه؟
إنه يغفو. ويخفق حبا. وينبض حنينا ويحلم بالحرية للإنسان.
هناك. حيث الزمن العربي ينتمي إلى القرون الوسطى، وحيث بيوت التنك وسعف النخيل تشبه بيوت التنك في الكرنتينا. وحيث قسمات الإنسان العربي هي القسمات نفسها للإنسان في صبرا وشاتيلا ومخيم اليرموك هناك إذن ينام وحيدا. يرفرف طائر الشباب فوق الأرض الرملية التي ينام في جفونها؟
أورقت أشجار الأراك والخابور ثم ذبلت، ومر شتاء، وجاء ربيع، ثم أورقت ..ثم ذبلت.. وطائر الشباب مازال يرفرف، نشطت نسائم نيسان، ثم هبت رياح السموم، وغضب أمراء نجران، وخرجت الجرذان والتيفوئيد والإنيميا إلى العراء، وانتاب المعلقات العشر الرعب الخفي وظل طائر الشباب يحلق في الأعالي، ويهبط من السماء الزرقاء هبوطا شراعيا.
كمال الغزاوي.. نجمة مجروحة، وطير من طيور البجع مذبوح من الوريد إلى الوريد.
كمال الغزاوي هو طرفة بن العبد الفلسطيني المقتول في أراضي نجران. هل أستطيع أن أنساه؟
سنوات طويلة مرت، سنوات عجاف، واحدة أكلت لحم الجزيرة العربية، والثانية أكلت الشحم، والثالثة أكلت العظم، والرابعة شربت الدمع، والخامسة أتت على الإبتسامة، والسادسة سرقت الفرح، والسابعة، والثامنة.. والزيت ينبجس من سورة آل عمران وآل سعود.. ووحده طائر الشباب يحمل أشواق كمال الغزاوي وعذاباته.
‏ ‏ * * *
كان من المفروض أن يكون واحدا من أبطال روايتي
(نجران تحت الصفر) ولكن، عندما، بدأت في الكتابة، كان يهرب من بين السطور مثلما العصافير، كان مهرا جامحا لا يمكن ترويضه لم أستطع حشره بين عشرات الشخصيات، فقد كان ذا كبرياء ونزق.
وبعد أن أكملت الرواية، ونشرتها ، ظللت أشعر بغياب هذه الشخصية التي أفلتت من بين يدي. كان غيابه يشبه غياب النقاط عن الحروف. كان عنيدا مثل طرفة بن العبد..
حمل رسالته، ومضى في سبيله.

مدينة ( جده ) في أواسط الصيف).
الحرارة والدبق والرطوبة التي تلتصق بالجفون.
كان الفندق الذي أنزل به يشبه الطابون الذي يخبزون به الأرغفة في بلادنا. ورغم ذلك، فأجرته ثلاثة عشر ريالا لليلة الواحدة. وأنا أعد الأيام، وأعد النقود القليلة التي تتسرب ولا تستطيع أن تغطي إقامتي في هذه المدينة الكبيرة إلى أن يحين موعد سفري بالطائرة إلى نجران.
في عمان، وبعد أن خرجت من مقر بعثة المعارف السعودية موقعا العقد، سألني معلم قديم جاء ليجدد عقده ويأخذ تأشيرة السفر:
-‏ أين تم تعيينك؟
قلت له:- في نجران.
فارتسم على وجهه الأسى، وقال بحزن:
-‏ إذن ستذهب إلى آخر الدنيا.
وقال آخر: إذا كان للأرض قاع، فقاع الأرض نجران. لكن. لم يكن أمامي أكثر من خيار، فأنا بحاجة للعمل لإعالة أسرتي. كان الشاب الصغير اليافع المتزمل في ثيابي يغذ السير في طريقه إلى تحمل المسؤوليه، ويحلم بمذاق العرق المالح الذي ينز من جبينه.
حين حملتني الطائره من مطار عمان ( كانت تلك هي المره الأولى التي أركب بها طائره ) ، لم يكن في جيبي سوى ستة دنانير أردنيه، إستدانتها أمي من جارتها.
وعندما حطت بنا الطائره في مطار جده، تخيلت أنني سأنزل من طائره إلى طائره أخرى، وأواصل السفر إلى نجران.
قال مدير الحجز في المطار: لا مكان لك إلا بعد عشرة أيام وقال صاحب الفندق الذي ذهبت إليه لأقضي الأيام العشره وهو ينظف أسنانه بالمسواك: تدفع كل ليله ثلاثة عشر ريالا، تدفع مقدما. دفعت الريالات المطلوبه، وصعدت إلى غرفتي، غرفه صغيره ضيقه. سريره علاه الصدأ وفوقه أغطيه بيضاء قديمه، وثمة دبور يطير من حائط الغرفه إلى سقفها. ومن النافذه يطل البحر الأحمر والميناء والسفن الراسيه ورائحة الزنخ والنفايات..
دفعه واحده، أحسست بالوحده والغربه.. وبالرغبه في البكاء.
‏ ‏
يتركون بصماتهم على الجدران. يصبح الجدار صدرا يتسع لآلام مئات الأشخاص الذين يتركون الوطن ويعبرون برزخ الوهم.
لكن الجدار يظل جدارا، ووحدها سيقان الأشجار تبقى المكان الذي نتفيأ في ظلاله الذكريات.
على جدران غرفتي بالفندق، قرأت كلمات عشرات المعذبين الذين مروا من هنا. كتبوا على الجدران شكاواهم وآلامهم بالحبر وقلم الرصاص.
لم يمح أحد هذه الكلمات، ولا حتى صاحب الفندق، فتذكرت زنازين سجن المحطه بعمان.
ظللت مستيقظا طوال الليل.
وظلت الجدران تنغل بالكلمات.
‏ ‏
في الصباح.. إلتقينا بالمطعم كان يجلس على طاوله في الزاويه يحدق في صحن فارغ. عندما رفع رأسه لمحني، وكنت لحظتها أبحث عن مكان. أشار لي بيده. جلست إلى طاولته، وسرعان ماتعارفنا. كمال الغزاوي.. خريج كلية الزراعه من جامعة القاهره، تعاقد مع بعثة المعارف السعوديه في عمان، وتم تعيينه في منطقة نجران أيضا.
إذن.. هاهو صديق جديد. ينتظر مثلي السفر إلى نجران خلال عشرة أيام.
بعد الإفطار. خرجنا.. تسكعنا في شوارع جده. ضعنا في الشوارع الكبيره وبين المتاجر والمحلات والواجهات الزجاجيه. عطور، أميرات يتلفعن بالعباءات، ويتركن العباءه تنزلق بين الحين والآخر وتكشف الفساتين القصيره أو الأصابع المطليه الأظافر. والرجال بالدشاديش. والمسابح. والمساويك، ثم المآذن العاليه، القديمه والجديده، والسور القديم، وحارة السبيل، والشاطئ، وفقراء المدينه، وطريق مكه، والمطاعم ورائحة الشواء. ثم أخيرا.. في المقهى. نشرب ( الشاهي ) وندخن النرجيله. والآن.. جاء دور مراجعة نقودنا. بعد عملية حساب بسيطه، إكتشفنا أن المبلغ الذي بحوزتنا لايمكننا من المبيت في الفندق أكثر من ثلاثة أيام، فقال كمال: قال لي أحدهم أن المقاهي في جده تتحول في الليل إلى فنادق. وإنهم يؤجرون المقعد الطويل بريالين فقط، لم يكن هناك مجال للتردد، وسرعان مانادينا على صاحب المقهى، وإتفقنا على المبيت في مقهاه.
‏ ‏
دفعنا الحساب لصاحب الفندق، وأبلغناه أننا نريد تأمين حقائبنا عنده. كان لايزال يفرشي أسنانه بالمسواك. نظر إلينا كما لو أنه فهم كل شي وفتح غرفه صغيره بها بعض الحقائب وطلب منا أن ندخل حقائبنا. ثم قال:
-‏ أنظروا إلى تلك الحقيبه الصفراء.. لقد وضعها صاحبها هنا منذ سنه ونصف ولم يعد حتى الآن.. إنه فلسطيني مثلكم، فآمل أن تعودان. قال ذلك، ثم أغلق الباب على الحقائب. كان وجهه عابسا وباردا كما لو أنه يغلق غرفة الأموات في المستشفى.

اليوم الأول.. تسكع .. تسكع.. تسكع إلى مالا نهايه. أصابنا التعب والإرهاق والدوار. أكلنا صحن فول في الصباح. وبعد الظهر إشترينا ساندويشات. مساء، في المقهى بإنتظار ذهاب الزبائن حتى تنام.
الليله الأولى نمنا مثلما ينام الأموات جاء صبي المقهى منذ الفجر، وطلب منا أن نغسل وجوهنا ونخرج.
-‏ إلى أين؟
النهار طويل.. طويل، والحر شديد، والرطوبه خانقه.
قال صبي المقهى:
-‏ إذهبا إلى المسجد. هناك ماء وظل ومصاحف وكتب دينيه.
حين خرجنا، كان الفجر حلوا، وصوت المؤذن يملأ هذه السكينه بالوقار.
فمشينا إلى شاطئ البحر.. وعلى طول الكورنيش كان عشرات من العمال ( وجوههم تنتمي إلى شتى الجنسيات ) ينتظرون الأوتوبيس وسيارات الميكرو باص. شعرنا بينهم لأول مره، بالألفه. كنت أتذكر فيهم أولئك العمال الذين يصطفون في الصباح أمام الباصات في ساحة المسجد الكبير في عمان.
تناقشنا في أوضاع هؤلاء العمال، كان كمال يحكي عن حركه عماليه. وعن فائض القيمه. مما أوحى بهويته السياسيه التقدميه.
ويومها حكينا عن فلسطين، وعبدالناصر، وحرب اليمن.
‏ ‏
كنا نترنح من التعب، بعد العصر، نجرجر أرجلنا على رصيف أحد الأسواق القديمه، عندما عبرت إلى الرصيف المقابل إمرأه أوروبيه شقراء ومكشوفه الرأس. إنها المره الأولى التي نشاهد بها إمرأه مثل النساء التي يراها المرء في شوارع عمان أو بيروت. فجميع النساء هنا يلبسن العباءات السوداء ويمشين في الشوارع كأنهن خيام سوداء متحركه. توقعت أن يستيقظ كمال، وتدب فيه الحيويه، ويحكي شيئا ويكف عن الصمت.
وفاجأني بقوله:
-‏ إنني أفكر بصاحب الحقيبو الذي تركها منذ سنه ونصف ولم يعد.
ثم تساءل:
-‏ ترى.. ماذا حدث له.. هل غرق في البحر، أم داسته سياره؟
وبعد حين قال كأنما يخاطب نفسه.
-‏ لعله مات من القهر.
في الليل. كان يعاني، ظل ساهرا، يدخن سجائر الكرافن أو سجاير ( بوبس ) كما يسمونه هنا. أو يقوم ويذرع أرض المقهى.
في الصباح، كانت تعابير وجهه سحابه من القلق والإجهاد.
ومره أخرى مشينا على كورنيش البحر، نمشي بين طوابير العمال. ونحدق في السماء الزرقاء الصامته.
قمنا بعمليه حسابيه، وإكتشفنا بأن علينا أن نقتصد في الصرف. عندما مررنا ببائع الزلابيه، أشاح كمال بوجهه ولعابه يسيل. وذكرني بأيام الدراسه في دار المعلمين برام الله، عندما كنا نمر أمام منتزه نعوم، نشم رائحة ( المسخن ) ولا نستطيع أن نشتري.
عند العصر. قال لي:- تعبت كثيرا. لا أستطيع، أريد أن أعود إلى بلدي.
ذكرته بالكلمات التي قرأناها على جدران الفندق، لشباب مثلنا، عبروا هذه المناطق، ثم تعودوا على الغربه. زاغت عيناه. فرفعت يدي وتحسست جبينه كانت درجة حرارته مرتفعه. سرنا على مهل، كان يعاني. لعلها ضربة شمس أو ضربة جوع.. لا أدري.
في الليل ظل يهلوس، وإرتفعت حرارته أكثر فأكثر. وكنت أسهر إلى جانبه أنتظر الصباح.
‏ ‏
رق صاحب المقهى لحالنا. سمح لنا أن نبقى في الساحه الداخليه للمقهى حيث يتم إعداد الأراجيل. وأقبل علينا عمال المقهى، وغمرونا بالشاي والطعام كان ثلاثة منهم من نجد، ورابع من صعده في اليمن الشمالي. كانوا عراة إلا من ( الوزره ) التي يلفونها على خصورهم النحيله ويخفون بها عوراتهم، ولا يتوقفون عن العمل وصنع الشاي وتعمير الأراجيل. في المساء أصروا جميعا أن يستضيفونا، ذهبنا معهم إلى حي السبيل، ركبنا في الميكروباص. ثم مشينا مسافه طويله إلى أن كلت أقدامنا، وظل كمال يتحامل على نفسه.
وصلنا بيوت الصفيح والتنك في ضواحي جده بيوت تستند على بعضها البعض، كأنما تتعانق أحاسيسها الدافئه. تكتظ بالشغيله والأطفال وحبال الغسيل المثقله بالملابس والملاقط. ولم يكن الأمر يخلو من رائحة المجاري. كان رفاقنا يسكنون في بيت من التنك يتكون من غرفه واحده واسعه، مفروشه ببساط يماني مشغول باليد.
أشعل أحدهم ( الأتريك ) بدلا من السراج الذي كانت ذبالته في غاية اليأس، فأضاءت الغرفه وسطعت أكلنا وشربنا وإبتسم كمال كأنما إسترد كامل عافيته.
ثم أخذ أحدهم يغني تلك الأغاني العربيه العذبه التي تتشوق إلى الصحراء والنخيل والحرب وقام الثاني فرقص رقصة للسيوف، وثانيه للخناجر، وثالثه للوفاء والكرم.
وعبر النافذه، كانت تأتي أصوات الطبول والدفوف. إنهم يغنون ويرقصون أنهم يطردون التعب والقهر والإضطهاد من أبدانهم لكي يتسنى لهم نومه تغمض فيها الجفون.
آخر الليل.. وقبل أن ننام جاء رجل هام. هكذا شعرنا، فلدى دخوله وقف العمال الأربعه وأقبلوا عليه بلهفه. لاأدري لماذا شعرت بالإرتياح لمرآه. كانت ملامحه عربيه.. عربيه للغايه. وفي عينيه كانت أسرار الربع الخالي. ملامحه كانت كلمة السر لوجه نبي.
لن أطيل عليكم. لقد كان هذا الرجل.. هو مشعان.
رأينا مشعان مره ثانيه قبل أن نغادر جده إلى نجران. قابلناه بالصدفه في مكتب الخطوط الجويه السعوديه. جئنا نسأل موظف الحجز إن كان بمفرده أن يقدم موعد سفرنا، وجاء مشعان ليحجز مقعدا على الطائره المسافره إلى الدمام.
كان عمال المقهى قد حكوا عنه كقائد نقابي، قاد إنتفاضه عماليه ضد الأمريكان والحكومه في المنطقه الشرقيه، وألقي عليه القبض، وسجن لمدة سبع سنوات، منها سنه كامله في سرداب تحت الأرض.
عندما لمحنا، حيانا بنظره من عينيه، ثم أدار وجهه إلى ناحيه أخرى فعرفنا أنه مراقب من ( العسس ). أبلغنا موظف الحجز أن علينا أن ننتظر، فلربما إستطاع مساعدتنا في نهاية الدوام.
المكتب مكيف، والمثلج متوفر، فإبتسم كمال، وقال: وماذا وراءنا.. ننتظر ونتمتع بالهواء البارد. وفي نهاية الدوام، قال لنا الموظف: إنه لايستطيع تقديم موعد سفرنا.
خرجنا إلى الحراره والدبق.
قلت لكمال فجأه: هناك صديق لي يعمل في نجران، مارأيك لو أرسلنا له برقيه ليستقبلنا في المطار ففكر قليلا، وبعد أن عد الريالات التي بحوزتنا، وافق، على أن نأكل وجبتين فقط في كل يوم من الأيام الخمسه الباقيه.
‏ ‏ * * *
حكى لنا عامل المقهى اليمني عن الحرب الشرسه في الجنوب، وعن رجال الكوماندوس الجمهوريين الذين قبض عليهم في الرياض، وفصلت رقابهم بالسيف عن أجسادهم.
حكى وهو يرتجف.. كان الرعب الخفي يسكن عينيه. تحدث معه كمال، وأعاد له الطمأنينه. كمال يتحدث بطلاقه، ويتمتع بثقافه سياسيه عاليه. ثم مازحه، وإنتقل به من حديث إلى حديث، وإنضم بقية العمال في إستراحه الظهيره، وحكوا قصصا لاتحصى عن الأميرات.
وحكى اليمني قصته عن أميره أحبت أحد المدرسين، وإستدرجته إلى قصرها، وسجنته في واحده من غرف القصر، وجعلت عليه عشره من الخصيان يحرسون غرفته. وفي كل ليله كانت تتمتع بجسده. وظلت تمتص رحيق الجسد والشهوه إلى أن أدركها السأم. وعندها، أسقته مخدرا، وأمرت خصيانها فضرب رأسه بالسيف، وألقى بجثته في أعماق بئر مظلم.
ثم شربنا الشاي الغامق، وأكلنا العصيده المصنوعه من السمن والطحين. وظل رفاقنا يتحدثون عن الأميرات...
كانت ليله طويله، فيها مايشبه الأساطير.
‏ ‏

قبل السفر بيوم واحد، قال لنا موظف الخطوط الجويه بأنه يتعين علينا أن نحصل على تصريح دخول نجران من منصور الشعيبي. وعندما إستفسر كمال عمن يكون منصور الشعيبي هذا، أجاب الموظف بأنه قائد منطقة جده. على الرصيف، وقفنا نسأل عن منطقة جده. فقالوا بأن علينا أن نمشي. مسافة سبعة كيلو مترات. لم نكن نملك أجرة سياره، فقررنا أن نمشي. كانت الشمس تسطع، وجده تشتعل من جميع أطرافها، والرطوبه الخانقه تتسلل إلى البدن، وتلتصق بالملابس، والعمارات العاليه، تظهر من خلال الحدقات الذابله كالغبش، وتعبر، الدراجات، وسيارات الكاديلاك، وواجهات الملابس والعطور، وواجهات الخواتم والأحجار الكريمه، والسجاجيد العجميه، والعقل المقصبه، ومخلوقات كليله ودمنه، وكمال مثل مالك الحزين يمشي ويخوض في الزمن المر.

ليلة السفر لم ننم. حلقنا ، وغسلنا ملابسنا، وإحتفل بنا رفاقنا العمال فطبخوا ( كبسة رز ) بالصلصه والبهار الحار. وإستعار أحدهم دراجه ناريه ( يطلقون عليها إسم دباب ) وذهب معي إلى الفندق لإحضار الحقائب.
إستقبلني صاحب الفندق الذي يبدو كما لو أنه خلق هنا، فلا يغادر مكانه. وسألني إن كنت قد قضيت الأيام في أحد المقاهي، وضحك ضحكه خبيثه. توحي بأنه يعرف أنني مفلس وليس بحوزتي نقود تكفي للإقامه في فندقه.
لم أرد عليه بكلمه واحده، فإستدار إلى غرفة الأمانات، وفتح بابها. كانت مظلمه كغرفة الأموات. تعبق بالرطوبه ورائحة الجلد أو رائحة الأحذيه.
سحب حقائبنا.
لمحت تلك الحقيبه الصفراء التي ذهب صاحبها ذات يوم، ولم يعد. كانت تختنق بالصمت والخواء. وعندما عدنا، كان كمال لايزال مستيقظا. وكان الآخرون يغطون في النوم. أما ( الإتريك ) فقد كان يشع ويتوهج.
أدخلنا الحقائب، ولعل كمال أراد أن يسألني عن تلك الحقيبه الصفراء. إلا أنه لم يفعل. وهربت من نظراته إلى التحديق بسقف التنك المطلي بالجير الأبيض.
ومن النافذه. كانت السماء مضاءه، ومن بعيد يأتي صفير السفن الراسيه تعلن عن الوصول أو الإقلاع.
والآن.. دفعنا آخر مانملك، وأصبحنا داخل مطار جده الدولي، عبرنا قاعة الرحلات الداخليه. أخذوا منا تصريح منصور الشعيبي، وثمن الطوابع وبعض الرسوم الأخرى، وأصبحنا في قاعة المغادره. ننظر إلى العصير الذي يتدفق من وراء الزجاج كالنافوره في الكافتيريا، دون أن نستطيع الشراء لكي نبل ريقنا.
جلسنا على الكراسي الأنيقه نحدق بالوجوه الشرسه وبالخيام المتحركه التي تقبع تحتها أجساد النساء. أعلن الميكروفون بأن علينا أن نتوجه من باب الخروج إلى سلم الطائره.
بين الطائرات الضخمه، كانت طائرتنا تجثم كأنها تعبه من لعب الأطفال. إنها طائره صغيره، من نوع ( كونفير ) لا تتسع لأكثر من عشرين راكبا.
دخلنا، ودخل الرجال الذين يحملون على كروشهم الجنابي اليمانيه الحاده ونظارات ( البيرسول ) التي تميزهم عن الرعاع! ! أما الحريم، ففي المقاعد الخلفيه..
قال المضيف الذي يلبس قميصا أبيض بنصف كم ويبدو وسيما رغم كل شي، بأن علينا أن نربط الأحزمه. وبعد قليل، مشت الطائره على المدرج.. ثم شالت بنا، وأخذت تعلو.. ثم أوغلت فوق الجبال الجنوبيه الجرداء. وأصبحت مثل ريشة الطائره تتقاذفها الرياح، وتهزها بعنف المطبات الهوائيه. قال رجل يجلس قربنا، ويحمل بين يديه صندوقا مثل ذلك الذي تحفظ به المجوهرات في فيلم لص بغداد:
-‏ هناك سقطت طائرة بن لادن. ( بن لادن )، هو متعهد خرافي إذا ما قيس بعثمان أحمد عثمان، ويقال بأنه تزوج عددا لايحصى من النساء، وأنه لم يكن يستطيع حصر أولاده!!
فأغمض كمال عينيه، ونفر الشحوب في وجهه.
قلت أمازحه:
-‏ هنيئا لك يامن تقف على الأرض.
فحدق كمال ، عبر نافذة الطائره إلى رؤوس الجبال السوداء المسننه، وإلى التضاريس العابسه. وقال كما لو أنه يخاطب نفسه:
-‏ لا أحب أن أموت هنا.
كان يحكي عن الموت وكأنه واقع لا محاله. حاولت أن أذكره بالأيام الجميله التي لم تأت بعد، إلا أنه عاد يقول: جميل أن يموت المرء بينما أهله وأحب الناس إليه يلقون عليه النظره الأخيره.
وبعد حين، بدأ يتقيأ، ولفت ذلك نظر ركاب لديه بعض الدواء، فنفى.
وعند، أسند رأسه إلى المقعد، وأعمض جفنيه.
‏ ‏
إرتطمت العجلات بأرضية المدرج، ومن وراء زجاج النافذه كانت الصحراء، والنباتات الشوكيه، والفضاء المدهش. والطائره تمشي تحت شمس ساطعه، وتنكمش تحتها الأشياء والأكواخ والكائنات الزاحفه.
هنا نجران. قال المضيف. أهلا بكم في نجران. قال ضابط المخابرات. هل تحملون أشياء ممنوعه؟ سأل موظف الجمرك. أنتما مدرسان.. أليس كذلك؟ قال ضابط المخابرات. ونظر إلى جواز السفر. ثم أردف: هذه المدينه تشهد حربا طاحنه. هذه المدينه مخيفه وذات أسنان حاده. من أراد أن يأكل خبزا عليه أن لايرى ولايسمع ولايتكلم. كان الإعياء يتفجر في العروق. كان كمال مثل ورقة الكربون التي طبعوا عليها عشرات النسخ.
كنت مثل قطعة الإسفنج، إمتص العرق والسأم والإمتعاض. ومن وراء السياج لم نجد أحدا بإنتظارنا.
قال كمال: أين قريبك الذي أرسلنا له البرقيه.. إنه لاينتظرنا.
السراب المعتق مازال يطفو فوق هذه الأرض العربيه، وفي باطنها يفور الزيت ويغلي، وينتظر لحظة الإنبجاس!! لم يكن ثمة من ينتظرنا.
ركبنا واحده من سيارات الأجره، ودفع كمال خاتمه الذهبي ( دبلة الخطوبه ) الذي كان يحمله في إصبعه. وعندما إستطعنا أخيرا أن نصل إلى مكتب التعليم، ونقابل قريبي، عرفنا أن البرقيه التي أرسلناها من جده لم تصل. ولكنها وصلت بعد ذلك بثلاثة أسابيع!!.
‏ ‏
عملنا في المدرسه المتوسطه ( الإعداديه )، التي تقع في شارع الزيود والقريبه من مكتب ( المفوضيه المتوكليه اليمنيه ).
هنا عالم خرافي لايمت إلى جده وعماراتها العاليه وسياراتها وأميراتها. هنا عالم ينتمي إلى القرون الوسطى. التجار والسماسره، وقوات الإمام، والمرتزقه، والمطاوعه، والغلمان، والنساء المضطهدات، وحارة ال****.
في الساحه الواسعه التي تتحول إلى سوق مره في الأسبوع، يجري إعدام المحكومين، وجلد الذين يشربون الكحول، ورجم النساء الزانيات.
وعلى إمتداد شارع الزيود تزدهر تجارة الأسلحه، المسدسات والرشاشات والقنابل اليدويه، والمعارك اليوميه لاتتوقف بين قوات الإمام والقوات الجمهوريه.
والمرتزقه يمشون وسط الشوارع بالسراويل القصيره وسيارات الجيب.وسكان حارة ال**** لايجدون الرغيف، وتكسد بضائعهم المكونه من الفجل والقصب وبعض البقول البريه. والعسس ( المخابرات ) يأخذون الناس بالشبهه. والرعب الخفي يملأ فجوات الأبواب وشقوق النوافذ. والطائرات تذرع الفضاء المرعب. وجمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لها سلطه محاكم التفتيش. والزبال ( عباجه ) يحمل فضلات المدينه في عربته ويلقيها في الخلاء، فيهجم عليها الأطفال والدبابير والجرذان والطيور الجارحه. وجنود الإمام يمضغون القات ويشربون الويسكي دون أن يعاقبهم أحد. ومشوهو الحرب ينغلون في شوارع المدينه كالديدان، وفي المدرسه، كنا نعلم الأولاد كيف يكتبون بالحرف العربي على لوح العصر... لوح القرن العشرين.
‏ ‏
أجل هذه نجران. بيوت وأزقه، وشوارع ترابيه، ورمال وراء الأفق، وأعداد لاتحصى من الرجال العسس. ساحه واسعه يجلد فيها المذنبون أو تفصل رؤوسهم عن أجسادهم، وأيام الجمعه من كل أسبوع تصبح سوقا من أسواق القرون الوسطى.
الوجوه كأنها منحوته من الصخر، ومثل النار الكامنه في الحجر تكمن في القلوب أشواق العبور من القرون الوسطى إلى القرن العشرين. مطاوعه من جمعية ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) يذرعون الشوارع التي تعج بالمسلحين والزيود والعسس وباعة المقلقل والفول والوجهاء من الزيود، والنساء اللاتي يتلفعن بالعباءات السوداء.
التجار والأمراء يتزوجون من أربع، وأحلامهم في إقتناص الغلمان ليس لها حدود. والمساويك لها رائحة الأراك، ومكتب ( بو طالب ) في المفوضيه المتوكليه اليمانيه يتسع للزيود وللمرتزقه ولذوي العاهات.
تشرق الشمس على أصوات القصف، والمعارك في الجبال تعطي الرعب والجثث والجرحى والمشوهين. هنا ساحه من ساحات التي تدور مابين الملكيين والجمهوريين.
من هذا الجانب تتحرك الثوره المضاده، ولاتتوقف سيارات المرتزقه والمدافع المحموله عن المرور من أمام المدرسه التي نعمل بها.
يقول كمال وهو يبصق: إنها معركه الرجعيه ضد التقدم. وأحيانا من على سطح بيتنا المبني من الطين، ينظر كمال إلى جبال ( صعده ) في أعالي الأفق، تطير من عينيه عصافير الأشواق. ويقول:
-‏ ذات يوم سوف أتسلل عبر الحدود، وأصل إلى تلك المرتفعات وأقاتل مع الجمهوريين.. يجب أن تنتصر الثوره.
ذات يوم جاء شخص غامض وإجتمع بالهيئه التدريسيه قدمه المدير لنا على إنه ( المستر ). كان رجلا يناهز الأربعين، يلبس ثوبا عربيا، ويلف رأسه بحطه بيضاء، ويضع على عينيه نظاره سوداء. وكان يبدو بلحيته الشقراء مثل لورانس أو غيره من الجواسيس البريطانيين. وقال لنا ( المستر ) إنه مكلف من الأمير بشرح الأحداث الجاريه في المنطقه والإجابه عن إستفساراتنا.
كان المستر يرحب بلغه عربيه فصيحه. أنه واحد من رجال الأمن الأمريكيين الذين كنا نسمع بهم ولانراهم.
نظرت إلى كمال كان يدور في ذهنه الخواطر نفسها التي دارت في ذهني.
-‏ لانريد أن نسمع.
‏ ‏
في وقت لاحق، إستلمنا إنذارا من مدير التعليم وحظينا بدعوه من مدير العسس في نجران!!
‏ ‏
عشنا الظروف الصعبه. شربنا الماء الممزوج بالرمل والميكروبات. وأكلنا اللحم المعلب، وإنتظرنا عبثا وصول الرسائل من ذوينا.
شاهدنا الطائرات الحربيه التي تتقاتل في الجو، وتساقطت حول المدينه القذائف من عيار ألف باوند. وفي الساحه الواسعه تم إعدام ( اليامي ) بالسيف، وأصاب نصل السيف لحم الرقبه.
وظل الزيود يمضغون القات في شارع الزيود ويلعبون بالريالات الذهبيه ويتاجرون بالأسلحه.
‏ ‏
الشوارع تخلو باكرا من الماره، ونقضي معظم سهراتنا مع بعض المدرسين في مطعم رأفت، ذاك الشاب الفلسطيني الذي فقد إحدى عينيه أثناء العدوان الثلاثي عام 56 عندما كان صبيا يقطن مخيم الشاطئ في غزه.
نأكل الفلافل ( هو الوحيد الذي يتقن صنع الفلافل في نجران ) ونتحدث في أخبار الحرب أو نستمع إلى إذاعة صنعاء بعد تخفيض الصوت.
أذكر تلك الأمسيه، عندما جاء ثلاثه من العسس وإقتادوا رأفت إلى السجن، وسط دهشتنا. لقد كان رأفت يصمت طوال الوقت، وقلما كان يتكلم. ولم يكن يعنى مباشره بالقضايا السياسيه. وفيما بعد عرفنا سبب إعتقاله.
كان قد أوصى أحد أقاربه في جده لكي يشتري له بعض القوالب التي يصنع بها الفلافل، ولما تأخر، أرسل له برقيه يقول فيها ( أرجو أن ترسل القوالب ) ولسوء حظه، فإن عامل اللاسلكي في البريد الذي كان يمضغ القات بلا توقف، أرسل نص البرقيه كالتالي: ( أرجوا أن ترسل لي القنابل ). وشتان مابين القوالب، والقنابل. لقد أخذوا رأفت في ذلك اليوم ولم يعد. إعتقلوه وحققوا معه، ثم أصدروا أمرا بطرده وتسفيره.
‏ ‏
قال لي كمال: في هذه المدينه يريدون منا إما أن نصبح كلابا وإما أن تنهار أعصابنا.
وقال أيضا: سنقاومهم. إن التخلف في نجران واحد من أسباب الهزيمه في فلسطين، والطريق إلى فلسطين يجب أن تكنس التخلف في نجران.
وأضاف كذلك: سوف أتكلم بشجاعه للتلاميذ وأحكي لهم عن كل شي. سأصحح لهم المعلومات التي يقنعهم بها (المستر).
‏ ‏
كمال لم يصمت. لم يغمض عينيه، ويصم أذنيه كما أرادوا... كمال حكى. وتكلم. وشاهد طوابير الفقراء في زمن النفط. كمال شاهد الأرض العربيه مكبله بأنابيب النفط الأمريكيه، بينما حدقات الأطفال مكبله بالدهشه والجزع والجوع. كمال شاهد الحرب القذره التي يخوضها الإمام المخلوع بينما هناك في الجانب الآخر، في الجمهوريه تتفتح في تربة الثوره مليون زهره.
كمال، قال للتلاميذ: لكي نخرج من عصر الإنحطاط يجب أن تنتصر الثوره في اليمن.
جاء العسس، وإقتادوا كمال إلى السجن. حققوا معه. جاءوا وفتشوا حقائبه وأوراقه. وبعد أسبوع، أفرجوا عنه. وأصدروا قرارا تأديبيا بنقله من نجران إلى قريه على الحدود.. قريبا من ساحة الحرب.
‏ ‏
لقد إستدعي كمال ذات يوم للتحقيق معه. قابل عدة ضباط، وإنتظر ساعات طويله. عبأ إستماره، وإلتقطت له عدة صور. وأخيرا قابل المحقق الذي وجه إليه عشرات الأسئله، وجعله يكتب قصة حياته.
وفي آخر النهار، شتموه، وأطلقوا سراحه. جاء كمال غاضبا ومبلولا بالعرق.
كان غاضبا ومقهورا وتكمن في قلبه النيران الكامنه في حجارة الصوان. دخن سيجاره قبل أن يتكلم، وعندما حكى لم يستطع أن يتم كلامه.
وبدلا أن يبكي، عمد إلى الحقيبه، فأنزلها من على الخزانه، وأخذ يطوي ثيابه.
-‏ هل ترحل؟
قلت له. فأجاب:سأغادر غدا. سأقدم إستقالتي وأعود. وفي اليوم التالي، رفض مدير التعليم إستقالته. وفضلا عن ذلك، فقد أصدر قرار بنقله إلى قريه نائيه. كانت الحقيبه الكبيره.. الحقيبه الصفراء جاهزه. ولم أدر لم خطر لنا، وبوقت واحد. أن وجه شبه يجمع مابين هذه الحقيبه. وتلك التي تركها فلسطيني ذات يوم فو غرفة الأمانات بالفندق، ثم لم يعد. جاء الأصدقاء من المدرسين العرب، وسهروا حتى الصباح. وظل كمال يحتفظ بتقطيبه لم تستطع أن تمحوها كل دعابات الأصدقاء.
في الصباح. جاءت سياره، وحملته وحملت حقيبته، وكانت تلك هي المره الأخيره التي رأيته فيها. إذ إزدادت المعارك عنفا، وأصبحت المنطقه تتعرض لعمليات قصف مدفعي، وغارات جويه. وبعد سفره بأسبوع واحد جاء خبر وفاته. وفيما بعد، سمعت روايات عده عن طريق موته.. لكن الروايات كلها إجتمعت على إنه مات بطريق الخطأ.
لقد جاءت الطائرات الجمهوريه، وقصفت قواعد المرتزقه على الحدود، وأثناء ذلك كان كمال في مدرسة القريه الحدوديه النائيه القريبه من مواقع القصف، فأغلق المدرسه، وطلب من التلاميذ العوده إلى بيوتهم.
وعندما كان يسير متوجها إلى بيته، برزت إحدى الطائرات فحسبته أحد المرتزقه( أهالي المنطقه يلبسون الثوب العربي وكمال يلبس قميصا وبنطالا).
إستدارت الطائره دوره كامله في الجو، يقول شهود العيان، فخلع كمال قميصه الأبيض ( لابد أنه توقع مايجول بخاطر قائد الطائره )، ولوح بالقميص ليعلن للطيار أنه صديق. لكن الطائره غاصت عليه دفعه واحده، وأطلقت صاروخا شطر جسد كمال إلى شطرين.
لقد قتل برصاص صديق ولكن بطريق الخطأ!!
كمال إستشهد بطريق الخطأ. لقد إنقضى الزمن الذي كان فيه الفلسطيني يقتل بطريق الخطأ.
في أحلك اللحظات التي واجهتها فيما بعد أثناء عملي بالمقاومه ظللت أتذكر كمال، وأحزن. وأحيانا، كنت أحسده.
لقد مات بطريق الخطأ.
وفيما بعد، صار القتل عمدا.. وإصرارا، وإستشهد عشرات الرفاق فوق ساحات المدن العربيه.







التوقيع

اناحارثـي وهـذي تواريـخ الازمــان**مـاحنا بقبيلــه تقدر تقول دولــه

عـندالملاقي خــذ صناديـد شجــعان **ابطال مــاترضي بغيـر البطولــه

والحارثي من يـنولد عالي الشــان **من المهد تبدا صفات الرجـولــه

صـغــيـرنــا لا ثــار بالـجـــو دخــان **الروح ترخص مايبي هالطفوله

مــاهــو قــصــور بالقبايل ونقـصان** كــل يشرف لابـته في فـــعولــه

بــقـول كـــلمه ماهي بــزلـة لسان **شاعر واقيم كــل حــرف اقولــه

لو الزمن مافيه بالحارث وشجعان **الله يعـظـم اجركـم بالـرجـــولـه

رد مع اقتباس
 
   
   
 
قديم 04-19-2011, 05:49 AM رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
مشرف

الصورة الرمزية سيف ميسان

إحصائية العضو







 

سيف ميسان غير متواجد حالياً

 


كاتب الموضوع : سيف ميسان المنتدى : منتديات القصص والروايات
افتراضي

لتحميل الرواية


اضغط هنا







التوقيع

اناحارثـي وهـذي تواريـخ الازمــان**مـاحنا بقبيلــه تقدر تقول دولــه

عـندالملاقي خــذ صناديـد شجــعان **ابطال مــاترضي بغيـر البطولــه

والحارثي من يـنولد عالي الشــان **من المهد تبدا صفات الرجـولــه

صـغــيـرنــا لا ثــار بالـجـــو دخــان **الروح ترخص مايبي هالطفوله

مــاهــو قــصــور بالقبايل ونقـصان** كــل يشرف لابـته في فـــعولــه

بــقـول كـــلمه ماهي بــزلـة لسان **شاعر واقيم كــل حــرف اقولــه

لو الزمن مافيه بالحارث وشجعان **الله يعـظـم اجركـم بالـرجـــولـه

رد مع اقتباس
 
   
   
 
قديم 04-19-2011, 09:31 PM رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
شاعر ومشرف شعراء بالحارث وشعراء المستقبل

الصورة الرمزية ابن ميسان

إحصائية العضو







 

ابن ميسان غير متواجد حالياً

 


كاتب الموضوع : سيف ميسان المنتدى : منتديات القصص والروايات
افتراضي

اتنمنى ان اجد الوقت لقراءة ماطرحت

ولايسعني مع ضيق الوقت الا ان اقول دائما تبحث لانتقاء الافضل0






التوقيع

رد مع اقتباس
 
   
   
 
قديم 04-20-2011, 05:27 AM رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
كاتب نشيط

الصورة الرمزية القوة العاشرة

إحصائية العضو






 

القوة العاشرة غير متواجد حالياً

 


كاتب الموضوع : سيف ميسان المنتدى : منتديات القصص والروايات
افتراضي

بصراحة يبيله وقت بس اوعدك راح اتفضى له وقت لاحق
مجهود رائع وتشكر علية بشدة






رد مع اقتباس
 
   
   
 
قديم 04-21-2011, 09:57 PM رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
وسام التميز

إحصائية العضو






 

عبدالله غير متواجد حالياً

 


كاتب الموضوع : سيف ميسان المنتدى : منتديات القصص والروايات
افتراضي

أخي سيف ميسان طيب الله وقتك والجميع بكل خير ,,,

أشكرك من كل قلبي على نقل الرواية العالمية لمنتدانا الغالي ,,,

صنفت الرواية على أنها من أفضل 100 رواية عربية, وقد قام الكاتب يحيى يخلف بإسقاط الحالة العربية على منطقة نجران في ذلك الوقت أي وقت الثورة اليمنية عام 1962 م .
في الحقيقة تأثرت جدا عندما قرأت الرواية, فلقد حاول الكاتب تحليل أختلاجات الخير والشر لدى شخصيات الرواية بأسلوب سردي بسيط , يجعلك تعيش الحدث مع تلك الشخصيات , ويجعل من الرواية أحد شهود تلك الفترة .
وأخيرا أقول حفظ الله نجران وبلاد المسلمين من كل شر ومكروه .







رد مع اقتباس
 
   
   
 
قديم 04-21-2011, 10:37 PM رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
مشرف عام

الصورة الرمزية الوااافي

إحصائية العضو







 

الوااافي غير متواجد حالياً

 


كاتب الموضوع : سيف ميسان المنتدى : منتديات القصص والروايات
افتراضي

رواية يبدو انها جميله حيث انني لم أقرأها بأكملها

ولكن سأكملها في وقت لا حق

لا هنت سيف ميسان على الإنتقاء والتميز في الطرح







رد مع اقتباس
 
   
   
 
قديم 08-04-2011, 08:03 AM رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
مشرف

الصورة الرمزية سيف ميسان

إحصائية العضو







 

سيف ميسان غير متواجد حالياً

 


كاتب الموضوع : سيف ميسان المنتدى : منتديات القصص والروايات
افتراضي

مشكور على المرور







التوقيع

اناحارثـي وهـذي تواريـخ الازمــان**مـاحنا بقبيلــه تقدر تقول دولــه

عـندالملاقي خــذ صناديـد شجــعان **ابطال مــاترضي بغيـر البطولــه

والحارثي من يـنولد عالي الشــان **من المهد تبدا صفات الرجـولــه

صـغــيـرنــا لا ثــار بالـجـــو دخــان **الروح ترخص مايبي هالطفوله

مــاهــو قــصــور بالقبايل ونقـصان** كــل يشرف لابـته في فـــعولــه

بــقـول كـــلمه ماهي بــزلـة لسان **شاعر واقيم كــل حــرف اقولــه

لو الزمن مافيه بالحارث وشجعان **الله يعـظـم اجركـم بالـرجـــولـه

رد مع اقتباس
 
   
إضافة رد

   
 
مواقع النشر (المفضلة)
 
   

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
كورس تعلم اللغه الفرنسيه من الصفر الى الاحتراف تيتووالنجم المنتدى العام 2 11-15-2010 01:55 AM
تعليم الهاكر والشبكات واختراق الشبكات من الصفر الـمـسـمـآر منتدى الكمبيوتر والإنترنت 1 08-13-2009 01:04 AM


   
 
 
 
   

أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

كود [IMG]متاحة
كود HTML معطلة



مواقع صديقه


الساعة الآن 02:07 AM


Powered by vBulletin™ Version 3.8.7
Copyright © 2024 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved. منتديات
حقوق الطبع محفوظه لمنتديات بالحارث سيف نجران