وفد نجران (الحارث بن كعب) في مختصر ابن كثير
سورة آل عمران
الآية رقم (59 : 63)
{ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون . الحق من ربك فلا تكن من الممترين . فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين . إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم . فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين }
يقول جلّ وعلا: {إن مثل عيسى عند اللّه} في قدرة اللّه حيث خلقه من غير أب {كمثل آدم} حيث خلقه من غير أب ولا أم، بل {خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} فالذي خلق آدم من غير أب قادر على أن يخلق عيسى بطريق الأولى والأحرى، وإن جاز ادعاء البنوة في عيسى لكونه مخلوقاً من غير أب فجواز ذلك في آدم بالطريق الأولى، ومعلوم بالإتفاق أن ذلك باطل، فدعواهم في عيسى أشد بطلاناً وأظهر فساداً، ولكن الرب جلّ جلاله أراد أن يظهر قدرته لخلقه حين خلق آدم لا من ذكر ولا من أنثى، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، خلق عيسى من أنثى بلا ذكر، كما خلق بقية البرية من ذكر وأنثى، ولهذا قال تعالى في سورة مريم: {ولنجعله آية للناس}، وقال ههنا: {الحق من ربك فلا تكن من الممترين} أي هذا هو القول الحق في عيسى الذي لا محيد عنه ولا صحيح سواه، وماذا بعد الحق إلا الضلال! ثم قال تعالى آمراً رسوله صلى اللّه عليه وسلم أن يباهل من عاند الحق في أمر عيسى بعد ظهور البيان: {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم} أي نحضرهم في حال المباهلة {ثم نبتهل} أي نلتعن {فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين} أي منا ومنكم.
وكان سبب نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا في وفد نجران: أن النصارى لما قدموا فجعلوا يحاجون في عيسى ويزعمون فيه ما يزعمون من النبوَّة والإلهية، فأنزل اللّه صدر هذه السورة رداً عليهم. قال ابن إسحاق في سيرته: وقدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفد نصارى من نجران ستون راكباً، فيهم اربعة عشر رجلاً من اشرافهم يؤول امرهم اليهم فدخلوا عليه مسجده حين صلى العصر، عليهم ثياب الحبرات جبب واردية في جمال رجال بني الحارث بن كعب قال - يقول من راهم من اصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم ما راينا بعدهم وفداً مثلهم - وقد حانت صلاتهم فقاموا في مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (دعوهم)، فصلوا الى المشرق. قال: فكلّم رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم منهم ابو حارثة بن علقمة، والعاقب عبد المسيح، والايهم - وهم من النصرانية على دين الملك مع اختلاف امرهم - يقولون: هو اللّه، ويقولون: هو ولد اللّه، ويقولون: هو ثالث ثلاثة، تعالى اللّه عن قولهم علواً كبيراً، وكذلك النصرانية فهم يحتجون في قولهم هو اللّه بانه كان يحيي الموتى ويبرىء الاكمه والابرص والاسقام ويخبر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً، وذلك كله بامر اللّه. وليجعله اللّه اية للناس، ويحتجون في قولهم بانه ابن اللّه يقولون: لم يكن له اب يعلم، وقد تكلم في المهد بشيء لم يصنعه احد من بني ادم قبله، ويحتجون على قولهم بانه ثالث ثلاثة بقول اللّه تعالى: فعلنا، وامرنا وخلقنا، وقضينا، فيقولون لو كان واحداً ما قال الا فعلت وامرت وقضيت وخلقت، ولكنه هو عيسى ومريم - تعلى اللّه وتقدس وتنزه عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيرا - وفي كل ذلك من قولهم: قد نزل القران.
فلما كلمه الحبران قال لهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (اسلما) قال: قد اسلمنا. قال( انكما لم تسلما فاسلما) قال: بلى، قد اسلمنا قبلك، قال: (كذبتما يمنعكما من الاسلام ادعاؤكما للّه ولداً وعبادتكما الصليب واكلكما الخنزير)، قالا: فمن ابوه يا محمد؟ فصمت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عنهما فلم يجبهما، فانزل اللّه في ذلك من قولهم واختلاف امهم صدر سورة ال عمران الى بضع وثماني اية منها. ثم تكلم ابن اسحاق على تفسيرها الى ان قال: فلما اتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الخبر من اللّه والفصل من القضاء بينه وبينهم، وامر بما امر به من ملاعنتهم ان ردوا ذلك عليه دعاهم الى ذلك، فقالوا: يا ابا القاسم، دعنا ننظر في امرنا، ثم ناتيك بما نريد ان نفعل فيما دعوتنا اليه، ثم انصرفوا عنه، ثم خلوا بالعاقب، وكان ذا رايهم، فقالوا: يا عبد المسيح ماذا ترى؟ فقال: واللّه يا معشر النصارى لقد عرفتم ان محمداً لنبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم انه ما لاعن قوم نبياً قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم، وانه للاستئصال منكم ان فعلتم، فان كنتم ابيتم الا الف؟؟ دينكم والاقامة على ما انتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا الى بلدكم. فاتوا النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقالوا: يا ابا القاسم قد راينا ان لا نلاعنك، ونتركك على دينك ونرجع على ديننا، ولكن ابعث معنا رجلاً من اصحابك ترضاه لنا يحكم بيننا في اشياء اختلفانا فيها في اموالنا فانكم عندنا رضا، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (ائتوني العشية ابعث معكم القوي الامين) فكان عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه يقول: ما احببت الامارة قط حبي اياها يومئذ، رجاء ان اكون صاحبها، فرحت الى الظهر مهجِّراً، فلما صلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الظهر سلم، ثم نظر عن يمينه وشماله فجعلت اتطاول له ليراني، فلم يزل يلتمس ببصره حتى راى ابا عبــ يدة بن الجراح فدعاه، فقال: (اخرج معهم فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه)، قال عمر فذهب بها ابو ****ة رضي اللّه عنه.
وقال البخاري، عن حذيفة رضي اللّه عنه قال: جاء العاقب والسيد صاحبا نجران الى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يريدان ان يلاعناه، قال: فقال احدهما لصاحبه: لا تفعل فواللّه لئن كان نبياً فلاعنَّاه لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، قالا: انا نعطيك ما سالتنا وابعث معنا رجلاً اميناً ولا تبعث معنا الا اميناً، فقال: (لابعثن معكم رجلاً اميناً، حق امين)، فاستشرف لها اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: (قم يا ابا عبـ يدة بن الجراح) فلما قام قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (هذا امين هذه الامة) وفي الحديث عن ابن عباس قال، قال ابو جهل قبّحه اللّه: ان رايت محمداً يصلي عند الكعبة لاتينه حتى اطا على رقبته. قال، فقال: (لو فعل لاخذته الملائكة عياناً، ولو ان اليهود تمنوا الموت لماتوا ولراوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لرجعوا لا يجدون مالاً ولا اهلاً) "رواه أحمد والترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حسن صحيح"
والغرض أن وفودهم كان في سنة تسع لأن الزهري قال: كان أهل نجران أول من أدى الجزية إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وآية الجزية إنما أنزلت بعد الفتح، وهي قوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر} الآية. وقال أبو بكر بن مردويه عن جابر: قدم على النبي صلى اللّه عليه وسلم العاقب والطيب فدعاهما إلى الملاعنة، فواعداه على أن يلاعناه الغداة، قال: فغدا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيباً وأقرا له بالخراج، قال، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (والذي بعثني بالحق لو قالا: لا لأمطر عليهم الوادي ناراً) قال جابر: وفيهم نزلت: {ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم} "رواه ابن مردويه والحاكم في المستدرك ورواه الطيالسي عن الشعبي مرسلاً، قال ابن كثير: وهذا أصح.
ثم قال تعالى: {إن هذا لهو القصص الحق} أي هذا الذي قصصناه عليك يا محمد في شأن عيسى هو الحق الذي لا معدل عنه ولا محيد، {وما من إله إلا اللّه، وإن اللّه لهو العزيز الحكيم* فإن تولوا} أي عن هذا إلى غيره، {فإن اللّه عليم بالمفسدين} أي من عدل عن الحق إلى الباطل فهو المفسد، واللّه عليم به وسيجزيه على ذلك شر الجزاء، وهو القادر الذي لا يفوته شيء سبحانه وبحمده ونعوذ به من حلول نقمته